Translate

الجمعة، 11 مارس 2022

مجموعة مقالات من



مجموعة مقالات من صيد الخاطر
1.
في الحديث : {إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها}
د. خالد حمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحديث : {إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها} كان شيوخنا يعلموننا هذا الحديث ليربونا على أن نعمل الصالحات ونستكمل صنائع المعروف حتى آخر الأنفاس، فليس بعد قيام الساعة إلا الموت..
لكنني فهمت اليوم من الحديث معنى آخر :
فهمت أن لا تنشغل عن العمل لدينك مهما كان الصخب حولك!! فقيام الساعة يستدعي معه كل صور الاضطراب..
طلوع الشمس من مغربها، النفخة الأولى في الصور.... إلخ تخيل : في مثل هذه الأجواء يقال لك: اغرس فسيلتك!!
يا رب..
وما تصنع فسيلتي؟ ومن سيأكل منها ؟ ومن أين لي بطاقة نفسية تعينني على الغرس والسقيا والعالم ينتهي من حولي؟!
أنت مطالب بعمل الخير وبذل المعروف حتى ولو كنت قريب الأجل، وحتى ولو كان العالم من حولك شديد الاضطراب، ولو كان اضطراب يوم القيامة!!
لأن الله عز وجل لا يريد للمصلحين أن يتوقفوا... ولأن المصلح لا تخلو يدُه من فسيلة خير إلا إذا مات... ما عدا ذلك فحتى القيامة لا تبرر ترك الفسيلة!! أقول هذا الكلام وأنا أرى الكثير من الأصحاب يتركون فسائلهم لأن الناس ساءت أخلاقهم، ولأن العالم صار موحشا، ولأنه لم يعد لديه طاقة وسط هذا الاضطراب والصخب الحياتي المرهق؟!
ومن يغرس فسائل الخير إذن؟!
وأين اضطراب اليوم من اضطراب يوم القيامة؟ لا عذر لمقصر، ولا حجة لتارك الفسيلة!!
بل المعروف أنه كلما صعب غرس الفسيلة عظُم الأجر..
كم امتلأت كتبُنا بقصص الإمام فلان الذي ظل يعلم طلابه الحديث حتى خرجت روحه وهو يحدث..
وقصة أبي أيوب الأنصاري الذي خرج مع جيش القسطنطينية وهو في الثمانين من عمره لا يثبت على الفرس!! وقصة أنس بن النضر الذي صرخ في أصحابه الذين أقعدهم نبأ موت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: فيمَ مقامكم بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه!!
العجيب أن تاركي الفسائل من المصلحين اليوم يتركونها وأصحاب الفسائل الضارة، وناشرو الفجور، وأصحاب الأفكار الهدامة يزرعون شجر الغرقد، ويبنون مساجد الضرار في كل بلد وشارع، بلا كلل ولا ملل..
حتى ملؤوا الأرض إلحادا وشذوذا وفجورا وفواحش... بينما الكثير منا ينظر إليهم بنفس مهزومة وعقول موهومة...
أيها الصحب...
استكملوا غرس فسائلكم فلا يصح أبدا أن يزهق ويملّ الحق ويستكمل الباطل!!
أكملوا الغرس فلا عذر لكم إن كانت القيامة تقوم فكيف بما دونها؟!
أكملوا الغرس ولا تُشمتوا فيكم ابن سَلول وأبا عامر الفاسق، فمساجد الضرار أعمارها قصيرة وإن ظننا غير ذلك!!
أكملوا الغرس في صغار أبناء الأمّة وكبارها، استنقذوا مَن استطعتم من الناس من النار، جابهوا سلاح الفجور ولو بالصدور...
أكملوا الغرس في تثبيت بعضكم، والعضّ معاً على جراحكم.. فاللهُ الذي تعبّدكم بالغرس ولو مع قيام القيامة لا يريد منكم إلا أن تظلوا رافعي اللواء ولو حاصركم الأعداء، وتستكملوا العمل ولو أطفئت مشاعلُ الأمل..
*فالعبرة ببقاء المصلحين ولو مع قدوم يوم الدين!!*
===========2==========
وقفات مع قول العرب: " الحَقُّ أَبْلَجُ والبَاطِلُ لَجْلَجٌ "
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولًا - الحق والباطل في نظر الحكماء:
حظيت المقارنة بين الحق والباطل باهتمام الحكماء والأدباء قديما وحديثا، ومن أقوالهم : دولة الباطل ساعة ودولة الحقّ إلى قيام السَّاعة، للباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل ، العاقل لا يبطل حقاً ولا يحق باطلاً ، الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، حقّ يضرُّ خيرٌ من باطل يسرُّ . من طلب عِزًّا بباطل، أورثه الله ذُلًّا بحقٍّ.
ومن أقوال العرب الجامعة : " الحَقُّ أَبْلَجُ والبَاطِلُ لَجْلَجٌ " ، جآء في معاجم اللغة : (الْبَلَجُ) وُضُوحُ الشَّيْءِ وَإِشْرَاقُهُ ، وَمِنْهُ انْبِلَاجُ الصُّبْحِ.
وفِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَبْلَجُ الْوَجْهِ» أَيْ مَشْرِقُهُ. ويقال إِذا فَرِحَ بالشيء: قَدْ أَبْلَجَني وأَثْلَجَني.
ومِنْهُ قَوْلُهُم:
أَلحَقُّ أَبْلَجُ، لَا تَخْفَى مَعالِمُهُ، ... كالشَّمْسِ تَظْهَرُ فِي نورٍ وإِبْلاجِ.
ومن أقوال الشعراء:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحَقَّ تَلْقَاهُ أَبْلَجَا ... وَأَنَّكَ تَلْقَى بَاطِلَ الْقَوْمِ لَجْلَجًا
ومعنى :( الْبَاطِلُ لَجْلَجٌ) أي ملتبس أو يُردَّد من غير أن ينفُذ، واللَّجْلَجُ: المخْتَلِطُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، وضده (الأَبْلَجُ) أي: المُضِيءُ المُستقيمُ.
وفِي كِتَابِ عُمَرُ إِلى أَبي مُوسَى الأشعري: الفَهْمَ الفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّة، أَي تَرَدَّدَ فِي صَدْرِك وَلَمْ يَسْتَقِرَّ؛ وَمِنْهُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الكَلِمةُ مِنَ الحِكْمَةِ تَكُونُ فِي صَدْرِ المُنافِقِ، فَتَلَجْلَجُ حَتَّى تَخْرُجَ إِلى صَاحِبِهَا، أَي تَتَحَرَّكُ فِي صَدْرِهِ وتَقْلَقُ حَتَّى يَسْمَعَها المؤْمن فيأْخذَها ويَعِيَها ([1]).
ثانيًا - تعريف الحق والباطل :
الحق هو الصحيح الثابت الذي لا يسع عاقل إنكاره بل يلزمه إثباته والاعتراف به.
ومن صفاته أنه واضح لمن أراد أن يسلكه، مَنْ تَعَدَّاه ظلم ومن قصر عنه ندم، ومَنْ صارعه صرعه. وأتباعه هم خيار الخلق، عقولهم رزينة ، وأخلاقهم فاضلة، إذا عَرَفُوا الحقّ انقادوا له، وإذا رأوا الباطل أنكروه وتزحزحوا عنه.
أمَّا الباطل فهو ما لا ثبات له ، وما لا يستحق البقاء بل يستوجب الترك والقلع والإزالة.
وأتباعه من أسافل الناس وأراذلهم وسَقَطهم، يُعْرَفُون بتكبرهم عن الحق، وجهلهم بالحقائق، بل إِنْ شئت فقل سُلِبُوا نعمة العقل، فالجهل لهم إماما، والسّفهاء لهم قادة وأعلاما. فَمَا إِنْ يتكلم أحدهم حتى يُعْرَفُ فساد ما عنده، يصور الباطل في صورة الحقّ، ويستر العيوب بزخرف القول، يتلون كالحرباء، فلا يثبت على مبدأ ، ولكن إذا شاء طفا، وإذا شاء رسب، فيصدق فيه المثل القائل : يُطَيِّنُ عَيْنَ الشَّمْسِ . وهو مَثَل يُضْرَب لمن يُنْكر الحقَّ الجلىَّ الواضحَ بحجج سخيفة، وإذا كان الساكت عن الحقّ شيطان أخرس ، فالمتكلّم بالباطل شيطان ناطق.
ثالثا-التدافع سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الله:
والتدافع بين الحق والباطل أمرٌ حتمي و سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الله في كونه ، وقديما قال ورقة بن نوفل للرسول صلّى الله عليه وسلّم في بداية نزول الوحي : « يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ ، إِنَّه لم يأت أحد قطّ بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإن يُدْرِكْني يومُك حَياً أنْصُرْك نصراً مُؤَزَّراً »([2]). ومعنى مُؤَزَّراً أي قويًّا بالغًا.
والسبب في ذلك أن الحق والباطل ضِّدِّان والضِّدِّان لا يجتمعان ، بل لم يزل أحدهما ينفر من الآخر ويدافعه حتى يزيله ويطرده ، أو على الأقل يضعفه ويمنعه من أَنْ يكون له تأثير في واقع الحياة ، لذا فمَنْ حاول الجَمَعَ بين الحق والباطل لم يجتمعا له، وكان الباطلُ أولى به!!
رابعا- مَكْر أهل الباطل قوي وضعيف !!
والعجيب أنَّ أهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم ، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله وإزالتهم وصَدّ الناس عنهم بكل ما أوتوا من قوة ، ويحْتَالُون في إِضْلَالِهم بكل حِيلَةٍ وإمالتهم إِليهم بكل وسيلة، وقد صَوَّرَ القران طَرَفًا من ذلك، قال سبحانه : ) وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) )سورة إبراهيم: آية 46) وفي الآية وجهان.
الوجه الأول: أن مكرهم كان معدا لأن تزول منه الْجِبَالُ الراسيات، وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه فالْجِبَالُ لَا تَزُولُ، بل المقصود التعظيم والتهويل وهو كقوله: تكاد السماوات يتفطرن منه [مريم: 90] .
الوجه الثاني: أن " إِنْ" بِمَعْنَى" مَا" أَيْ مَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ لِضَعْفِهِ وَوَهَنِهِ، والجبال هاهنا مَثَلٌ لِأَمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أَنَّ ثُبُوتَهَا كثبوت الجبال الراسية، لأن الله تعالى وَعَدَ نَبِيَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ على كُلِّ الْأَدْيَانِ. ويَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية: فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله [إبراهيم: 47] أي قد وَعَدَكَ الظُّهُورَ عليهم والغلبة لهم. والمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد صلى الله عليه وسلم، ودلائل شريعته([3]).
ولعلك تلاحظ أخي القاريء أن كل وجه من الوجهين أبلغ من الآخر، وفي كل منهما بشارة لأهل الحق والخير، فالله عز وجل بقدرته وقوته يَرُدُّ كيد الماكرين في نحورهم ، كما قال سبحانه ): وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي: يفسد ويبطل، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فأمرهم لا يروج ويستمر إلا على غبي أو متغابي. ويدخل في هذا كل من مكر لينصر باطلا أو يبطل حقًا على مر التاريخ.
خامسًا -من سنن الله الكونية أن الباطل إلى زوال:
الثابت بيقين أَنَّ الباطل- مهما ملك من القوة والعتاد- فأمره الى زوال، وأَنَّ الغلبة في النهاية للحق، وتلك سنة لا تتخلف أبداً ، نجد هذا في قوله سبحانه: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون} (الأعراف:118)، وقوله عز وجل: {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} (الأنفال:8)، وقوله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء:81)، وقوله عز من قائل: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} (الأنبياء:18)، وقوله سبحانه: {قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} (سبأ:49)، أي قل: جاء الدين الحق وهو الإسلام والقرآن والتوحيد، وهو الذي سيعلو على سائر الأديان، ويمحق الله الباطل ، فلا يبقي له أي أثر أو قوة ولا يعود إلى نفوذه.
و قوله تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته} (الشورى:24) ، قال العلامة السعدي (ت: 1376هـ): من حكمة الله ورحمته، وسنته الجارية، أنه يمحو الباطل ويزيله، وإن كان له صولة في بعض الأوقات، فإن عاقبته الاضمحلال.
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ الكونية، التي لا تتغير ولا تتبدل، ووعده الصادق، وكلماته الدينية التي تحقق ما شرعه من الحق، وتثبته في القلوب، وتبصر أولي الألباب، حتى إن من جملة إحقاقه تعالى الحق، أن يُقَيِّضَ له الباطل ليقاومه، فإذا قاومه، صال عليه الحق ببراهينه وبيناته، فظهر من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع، ويتبين بطلانه لكل أحد، ويظهر الحق كل الظهور لكل أحد([4]).
وإذا كانت الأمثال تقرب المعقول من المحسوس، وتعطي صورة ذهنية تعين على فهم المراد، فإن الله عز وجل ضرب الله الأمثال للناس؛ ليتضح الحق من الباطل،
كما يشير إلى ذلك قول تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } [الرعد: 17].
والزَبَد : ما يعلو الماءَ وغيره من الرَّغوة عند غليانه أو سرعة حركته، ووجه الشبه هنا أَنَّ الحق في استقراره ونفعه كالماء المستقرّ النافع، وكالمعدن النّقي الصّافي. والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السّيل على جوانبه، وكشوائب المعدن التي يطرحها ويتخلّص منها عند انصهاره، فيبقى الحقّ ويثبت، ويزول الباطل ويتبدّد.
وأخيرا:
مما يجب أنْ يُعرف أنَّه إِذا كان النصر أمر لا شك فيه فإِنَّه لا يأتي دون جهد عظيم يُبْذَلُ وتضحيات تُقَدَّمُ ، كما أنَّه قد يتأخر لأنَّ الله تعالى يريد لأهله النصر الأكبر والأكمل والأعظم والأدوم والأكثر تأثيراً في واقع الحياة وفي عموم الناس ، يدل على ذلك أنَّ نصر الرسول الكريم ومن معه من المؤمنين لم يحصل في يوم وليلة ولا سنة واحدة ، وإنَّما تأخر مدة ، ثم جآءهم النصر الذي دخل بسببه الناس في دين الله أفواجاً.
اللهم ارزقنا حسن الثقة بك ، واجعلنا ممن يعلمون الحق ويعملون له ويوقنون بانتصاره كأنما يرونه رَأْيَ الْعَيْنِ. اللهم آمين
-----------------------------------------
([1]) مقاييس اللغة (1/ 296) لسان العرب (2/ 215) مختار الصحاح (ص: 39).
([2]) حديث صحيح. رواه البخاري رقم (3) ومسلم رقم (160).
([3]) تفسير الرازي (19/ 111) ، تفسير القرطبي (9/ 381).
([4]) تفسير السعدي (ص: 758).
 
=========3====
3.
غُرَف الجَنَّةِ : وَصْفُهَا والطَّرِيق المُوَصِّلِ إِلَيْها
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمدُ لله الذي يُجازي بالكثير على القليل، والصَّلاة والسَّلام على نبينا مُحمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
" فإنَّ صاحب الهِمَّةِ العالية والنفس الشريفة التواقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية، وإنما هِمَّتُهُ المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية التي لا تفنى، ولا يرجع عن مطلوبه ولو تَلفَتْ نفسه في طلبه، ومن كان في الله تَلَفه كان على الله خَلَفه.
فأما خسيس الهِمَّة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على مجرد العفو، فيفوته- إنْ حصل له العفو- منازل السابقين المقربين، قال بعض السلف: هَبْ أنَّ المسيء عُفِي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين!!([1]).
والجنَّة محلُّ خواص الله وأوليائه، فيها فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، وقد خَّصَّصَ علماء الحديث أبوابا في كتبهم لوصف الجنة ونعيمها، كما خَصَّها العلماء بالتأليف منذ زمن بعيد كابن أبي الدنيا(ت: 281هـ)، و أبي نعيم الأصبهاني(ت: 430هـ)، وضياء الدين المقدسي(ت: 643هـ)، وابن قيم الجوزية (ت: 751هـ) في كتابه : حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
وها أنا أذكر في هذا المقام -بعون الله وتوفيقه- بعضَ ما جاء في غُرَف الجنَّة والطرق المُوَصِّلة إِلَيْها، جعلنا الله من أهلها.
أولًا - وَصْفُ غُرَف الجنة:
كلمة (غُرْفة) مفرد، جمعها غُرُفات وغُرْفات وغُرَف.
وغُرَف الجنة: منازل عالية ودرجة رفيعة، وهي- مِنْ حسنها وبهائها وصفائها- يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، فهي شفافة لا يحتجب من فيها، ولا يخفى عنها من خارجها. كما أنها عالية، ومن علوها وارتفاعها، أنها تُرَى كما يُرَى الكوكب الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وقد ورد ذكر الغُرَف في القران الكريم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}، وقوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ}، وقوله سبحانه: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا}، وقوله تعالى: { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ}.
قال ابن القيم(ت: 751هـ) تعليقا على هذه الآية الكريمة : أخبر تعالى أنها غرف فوق غرف، وأنها مبنية بناء حقيقة ، لئلا تتوهم النفوس أن ذلك تمثيل، وأنه ليس هناك بناء، بل تتصور النفوس غرفا مبنية كالعلالي ، بعضها فوق بعض ، حتى كأنها يُنْظر إليها عيانا، ومبنية صفة للغرف الأولى والثانية، أي لهم منازل مرتفعة، وفوقها منازل أرفع منها([2]).
ثانيًا- الطَّرِيق المُوَصِّلِ إِلى غُرَف الجنة :
الْأَسْبَاب الموصلة إِلى غُرَف الجنة كثيرة، أكتفي بما ورد في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ في الجنة غُرَفاً تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا ، فقام أعرابيٌّ فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لِمَنْ أطابَ الكلامَ، وأطعمَ الطعامَ، وصلى بالليل والناسُ نيام»([3]).
وقد أشار الإمام المناوي إلى أنَّ العَطف بِالوَاو في هذا الحديث يقتضي اشْتِرَاط اجتماع الأمور المذكورة ([4]).
أولا: إطعام الطعام:
اهتم أصحاب الكتب الصحاح والمسانيد بهذه المسألة ووضعوا لها بابا في كتبهم، حيث بوب الإمام البخاري "باب إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلاَمِ"، وذكر تحته حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ(أي أعمال الإسلام أكثر نفعا) ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»([5]).
* وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9].
قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ في تفسير (على حُبِّهِ): أي على قِلَّتِهِ وَحُبِّهِمْ إِيَّاهُ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ. وقيل: على حُبِّ اللَّهِ. وقيل: على حُبِّ إِطْعَامِ الطَّعَامِ. وكان الرَّبِيعُ بن خُثَيْم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ قال: أَطْعِمُوهُ سُكَّرًا فَإِنَّ الرَّبِيعَ يُحِبُّ السُّكَّرَ([6]).
وروي عَنِ الحَسَنِ البصري: أَنَّ يَتِيمًا كان يَحْضُرُ طَعَامَ ابْنَ عُمَرَ، فَدَعَا ذَاتَ يَوْمٍ بِطَعَامِهِ، وطَلَبَ الْيَتِيمَ فَلَمْ يَجِدْهُ، وجاءه بعد ما فَرَغَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ طَعَامِهِ فَلَمْ يَجِدِ الطَّعَامَ، فَدَعَا لَهُ بِسَوِيقٍ وَعَسَلٍ، فَقَالَ: دُونَكَ هَذَا، فَوَاللَّهِ مَا غُبِنْتَ"([7]).
يعني لم تفتك فرصة الأكل معي، فلك عندي ما هو خير منه.
والسَوِيقٍ : طعام يصنع من دقيق الحنطة أو الشَّعير، سُمِّي بذلك لانسياقه في الحلْق.
* ويتأكد إطعام الطعام للجائع والمضطر وللجيران خصوصاً، وأفضل أنواعه : الإيثار مع الحاجة كما وصفه الله تعالى بذلك الأنصار رضي الله عنهم فقال: (ويُؤثِرونَ على أَنْفُسِهم ولو كانَ بهمْ خَصَاصَةٌ) ، وكان بعض السلف لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، ومنهم من كان لا يأكل إلا مع ضيف له، ومنهم من كان يعمل الأطعمة الفاخرة ثم يطعمها إخوانه الفقراء، واشتهى أحدهم حلواء، فلما صُنِعَتْ له دعا بالفقراء فأكلوا، فقال له أهله: أتعبتنا ولم تأكل!. فقال: ومن أكله غيري!. وقال آخر منهم -وجرى له نحو من ذلك-: إذا أكلته كان في الحُشِّ (بيت الخلاء) ، وإذا أطعمته كان عند الله مذخوراً.
"وقد جمع فيه بعض العلماء المحدثين أربعين حديثا في شأن فضله، وفيه مع الأجر: شرف الذكر في الدنيا، ومحبة العباد له، فإن القلوب جبلت على من أحسن إليها وعلى الثناء عليه ، ولذلك صار ذكر حاتم الطائي في كل مكان، وضربت بجوده الأمثال كل لسان، فمطعم الطعام فائز بالأجر في الدنيا والآخرة، مع تعويض له فيما ينفقه، ومغفرة الله له"([8]).
وقد يظن ظان أنَّ هناك تعارضا بين ما ورد في فضل إطعام الطعام، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَاحِبْ إلا مُؤْمِناً، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إلا تَقيٌّ"([9]).
قال الإمام الخطابي (ت: 388هـ): هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وذلك أن الله سبحانه قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، ومعلوم أن أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء.
وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإن المُطاعمة توقعُ الألفةَ والمودةَ في القلوب. يقول: لا تُؤالف مَن ليَس مِن أهل التقوى والورع، ولا تتخذه جليساً تُطاعمه وتُنادمه"([10]).
وقيل: هذا حث على الأولى والأرجح ، وإنْ جاز خلافه ، فليس المراد من هذا الحديث حرمان غير التقي من الإحسان، فإطْعَام الطَّعَام لكل أحد من برّ وَفَاجِر وصديق وعدّو مطلوب، لأنه بِرٌ للنفس يطفئ حرارة الحقد والحسد وينفي مكامن الغل، والنبي أطعم المشركين وأعطى المؤلفة قلوبهم.
ثانيا: الكلام الطيب:
المقصود بأطاب (الكلام) أي تكلم بكلام طيب، ويدخل فيه : مخاطبة الناس باللين، وملاطفتهم، وطلاقة الوجه معهم، وتجنب الغلظة والفظاظة ونحو ذلك.
وفي رواية: " إفشاء السلام "، وهو داخل في لين الكلام، وقد وردت نصوص كثيرة في فضل طيب الكلام ، منها : قوله تعالى: (ادفعْ بالتي هيَ أحسنُ) ، وقوله: (ويدرَؤُن بالحسنةِ السيئةَ) ، وقوله : (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ) ، وقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسنُ) ، وقوله سبحانه: (وقُولوا للناس حُسناً) [البقرة: 83].
قال الإمام القرطبي (ت: 671هـ) : وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ، ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. والقول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه، فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه و كلامه. والنصوص المذكورة دخل فيها اليهود والنصارى فكيف بالمسلم! ([11]).
وربما كان معاملة الناس بالقول الحسن أحب إليهم من الإحسان بإعطاء المال، كما قال لقمان لابنه: يا بُنيّ! لتكن كلمتك طيبة، ووجهك منبسطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يُعطيهم الذهب والفضة. وروي عن ابن عمر أنه كان ينشد:
بُنَيَّ! إنّ البرَّ شيءٌ هيِّنٌ ... :وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ.
ثالثا: الصلاة بالليل والناس نيام:
أي التهجد في جوف الليل حال غفلة الناس واستغراقهم في لذة النوم، وذلك هو وقت الصفاء وتنزل الرحمات.
وقد مدح الله تعالى المتهجدين بالليل ، فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17] ، وقال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، وقال سبحانه: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذريات: 17، 18]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64]، وقال جل شأنه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} [الانسان:26]
وقالت عائشة رضي الله عنها لرجل: «لا تدَعْ قيام الليل، فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- كان لا يَدَعُهُ، وكان إِذا مَرِض أو كَسِلَ صلى قاعداً»([12]).
وفي قيام الليل من الفوائد أنه: يَحُطُّ الذنوب كما يَحُطُّ الريح العاصف الورق الجاف من الشجرة، وينور القبر، ويحسن الوجه، ويذهب الكسل، وينشط البدن، وترى الملائكة موضعه من السماء كما يتراءى الكوكب الدري لنا من السماء([13]).
* وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها:
- أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.
- ولأن صلاة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار فتركُ النوم مع ميل النفس إليه مجاهدةٌ عظيمة قال بعضهم: أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس.
- ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر فإنه تنقطع الشواغل بالليل ويحضر القلب ويتواطأ هو واللسان على الفَهم كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] إن ساعات الليل هي أشد موافقة للقلب مع القراءة وأصوب قولًا.
- ولأن وقت التهجد هو وقت فتح أبواب السماء واستجابة الدعاء واستعراض حوائج السائلين.
نسأل الله – بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ - أن يرزقنا الدرجات العلى من الجنة ، والنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم آمين.
------------------------------------
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 244).
([2]) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 142).
([3]) أخرجه أحمد (22905)، والترمذي (1984).
([4]) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 325).
([5]) أخرجه البخاري (12) ومسلم (39).
([6]) تفسير القرطبي (19/ 128).
([7]) تفسير القرطبي (19/ 129).
([8]) التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 538).
([9]) أخرجه أبو داود (4832) والترمذي (2395) وهو حديث حسن.
([10]) معالم السنن(4/ 115).
([11]) تفسير القرطبي (2/ 16) ، (11/ 200).
([12]) أبو داود رقم (1307).
([13]) فيض القدير (4/ 351).
======
4.
========
5-
أسباب الفلاح كما بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّة
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
من الأمور المشتركة بين بني الإنسان أن كل واحد منهم يبحث عن السعادة، والمُصيب منهم حقاً مَنْ التمسها في نصوص الوحي واستوحاها منه، فهو منبع الخير ومَطلعُ الهداية، ولأن الله عز وجل هو خالق الناس جميعاً فَمَن خَلَقَ الخَلْق وأتقنه وأحسنه لا بد أن يعلم ما يُصْلِحه ويُسْعده {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}، ولأن اهتمام الوحي بالأساس مُنْصَبٌّ على تهذيب الإنسان والرقي بالنفس البشرية إلى مدارج الكمال، ومن هداية الوحي حديثه عن المفلحين وبيان أهم صفاتهم التي تؤهلهم للفوز والفلاح والطمأنينة والراحة النفسية.
معنى الفَلاَح :
فلَح الشَّخصُ ، يَفلَح، فَلاحًا، فهو فالِح: فاز، ظفِر بما يريد.
وعَرَّفَه الإمام المناوي بأنه: الفوز بالبُغْية في الدارين. كما عَرَّفَه الشيخ السعدي بأنه : اسم جامع لحصول كل مطلوب محبوب، والسلامة من كل مخوف مرهوب.
وقسّمه العلماء الى نوعين: دنيوىّ، وأُخروىّ.
فالدّنيوى: نيل الأَسباب الَّتى بها تطِيب الحياة. وهى البقاءُ (الصحة والعافية)، والغِنى، والعِزَّ.
والأُخروىّ: أَربعة أَشياءَ: بقاءٌ بلا فناءٍ، وغنى بى فقرٍ، وعزّ بلا ذُلٍّ وعلم بلا جهل. لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللهمّ لا عيش إِلا عيش الآخرة" ([1]).
أسُسُ الفلاح كما بَيَّنَهَا النبي الكريم:
أوصاف المفلحين مبثوثة في سور القرآن وآياته، كما اهتمت السنة النبوية ببيان طرف من دعائم الفلاح، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «قد أفْلَحَ مَنْ أسلم، ورُزِقَ كفافاً، وقَنَّعه الله بما آتاه».
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة، وقد أورده الإمام النووي في كتابه النافع رياض الصالحين، في بابين متتابعين، الأول : باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات.
والثاني: باب القناعة والعَفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة.
ورواه أيضا الإمام الترمذي في كتاب الزهد من سننه، باب ما جاء في الكفاف، بلفظ: «طُوبى لِمنْ هدِيَ للإسلام، وكان عَيْشُه كَفَافاً وَقنِعَ» .
ولفظ طُوبَى (مفرد): مؤنَّث أطيبُ. ومعناها غبطة وسعادة، وخيرٌ دائم وهي من الطِّيب، وفي القرآن الكريم: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}: والمعنى : لهم كل مستطاب في الجنة من بقاء وعِزّ وغنى، ويقال: طُوبَى لك و طوباك: لك الحظّ والعَيْش الطَّيِّب، وطُوبَى لكم: كونوا سُعداءَ جدًّا.
وطُوبَى أيضا اسم عَلَم للجنّة أو لشجرة فيها.
وفيما يلي محاولة متواضعة لتوضيح معالم ودعائم طريق السعادة والفلاح كما بينها هذا الحديث النبوي الشريف.
الأساس الأول : الهداية للإسلام.
لا شك أن الإسلام تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة، فعلى قدر إسلام الوجه والقلب والجوارح واللسان لله -تبارك وتعالى- على قدر ما يحصل للعبد من الفلاح؛ لأن النبي علقه بذلك في قوله (قد أفلح من أسلم)، والحُكْم المُعَلَّق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
ووجه كون الإسلام سبباً في الفلاح:
- أنه سبب لنجاة العبد من النار ودخوله الجنة، قال تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} (آل عمران: 185) ، ولن يقبل الله من أحدٍ ديناً غير الإسلام.
- أن الإسلام أكمل الشرائع وأفضلها، وأعلاها وأجلها، فهو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل لجميع البشر منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وهو دين الأنبياء والمرسلين جميعًا.
- أنه دين الفطرة ، كما أنه حرر الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد.
- أن من مقاصده الأساسية حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ولا يمكن لإنسان أن يهنأ بعيش أو راحة في ظل انتقاص أو غياب واحد من هذه المقاصد. فماذا سيكون حال الانسان لو غاب او انتقص جُلُّ هذه المقاصد.
- أن ما شرعه من أحكام وعبادات وأخلاق هدفها تنظيم حياة الإنسان، وبث الراحة والطمأنينة والسعادة في نفسه، ولتجعل منه مخلوقاً مكرماً يعيش لهدف، ليس كل هَمَّه أن يأكل ويشرب ويتمتع كما تفعل الأنعام.
وبشكلٍ عام يمكن القول أنَّ الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، وقد استفاض الإمام ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) في بيان ذلك عند تفسيره لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ...} [الأنفال: 24]، فقال ما ملخصه :
فتضمنت هذه الآية أمورا أحدها:
أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإنَّ كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة:
النوع الأول: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره.
النوع الثاني: حياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغَيّ والرشاد، والهوى والضلال.
فكما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه، فيصير حيًا بذلك النفخ، وإن كان قبل ذلك من جملة الأموات، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول البشري من الروح الذي أُلْقى إليه، كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] ؛ فجعل وحيه روحًا ونورًا، فمن لم يُحيه بهذا الروح فهو ميت...([2]).
الأساس الثاني : الكفاية من الرزق
قد يهدي الله العبد للإسلام، ولكنّه يُبْتَلى: إمّا بفقرٍ يُنسِي، أو غِنَىً يطغي، وكل مِنهُمَا ملهاة تُورث الهمّ والغمّ وَالْقَسْوَة أو المذلة، فمن أراد به الله الخير والفلاح كان رزقه كفافاً، لأنه سلم من تَبِعَةِ الغنى وذُلّ سؤال الخلق.
وحَدُّ الكفاف : أن يجد الإنسان ما يدفع ضروراته وحاجاته ويَكُفَّ قلبه ولسانه عن سؤال الناس والتطلع إلى ما في أيديهم.
وغني عن التنبيه أن المراد بالرزق الحلال؛ لأنه لا فلاح مع رزق حرام .
وفي فضل الكفاية يروي لنا أبو الدّرداء- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: « مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى ،...([3]).
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يكون رزق آل محمد ما يقوتهم ويكفيهم فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ ارزق آل محمّد قوتا»([4]). وفي رواية عند مسلم: "كفافاً"
والقوت : هو ما يقوت ويكفي من العيش ويَكُفُّ عن الحاجة، سُمِّيَ قوتا لحصول القوة منه، وهو بمعنى الكفاف. والمعنى: اكفهم من القوت ما لا يرهقهم إلى ذُلِّ المسألة، ولا يكون فيه فضول يبعث على الترف والتبسط في الدنيا.
قال العلامة المناوي (المتوفى: 1031هـ):
وقد احتج بهذا مَنْ فَضَّل الفقر على الغنى، وقد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، والكفاف حالة متوسطة بين الفقر والغنى، وخير الأمور أواسطها، ولذلك سأله المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)، ومعلوم أنه لا يسأل إلا أفضل الأحوال، والكفاف حالة سليمة من آفات الغنى المطغي، وآفات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ منهما، فهي أفضل منهما([5]).
الأساس الثالث : القناعة التامة بما قسم الله له.
قد يهدي الله الإنسان إلى الإسلام ويكون عيشه كفافاً، ولكنه لا يقنع بما آتاه الله، بل يكون في قلق دائم وتسخط، فلا يزال يشكو ربه ليل نهار، وقلبه مشغول وجوارحه مشغولة في طلب الزيادة، فمثل هذا فقير القلب والنفس، من هنا جاء الأساس الثالث ليكتمل بذلك مثلث الفلاح (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ).
تعريف القناعة :
قنَعَ، يَقْنَع، قَناعةً، فهو قانِع وقَنوع وقَنِع، وقنِع الشَّخْصُ بالشَّيء: رَضِيَ بما أُعْطِي وقَبِلَه، عَكْس (حَرَص)، والقانع: الرّاضي بما قسم الله.
قال ابن عَلَّان الشافعي (المتوفى: 1057هـ):
(وَقَنَّعَهُ) أي صَيّره قانعاً، ولعل التضعيف (أي: تشديد النون في قوله: وَقَنَّعَهُ) إيماء إلى بُعْد هذا الوصف عن طبع الإنسان، فمن حاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة في ذلك، لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من الدنيا والحرص عليها إلَّا مَنْ عَصَم الله، وقليل ما هُم، وكأن المعنى: وجعله الله بِخَفِيِّ ألطافه قانعاً بما أعطاه من الكفاف. قال القرطبي: معنى الحديث: أن من حصل له ذلك فقد حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين([6]).
ووجه كون القناعة سببًا للفلاح؛ أنها تمنع صاحبها من الوقوع في الظلم، والتطاول على الأموال المحرمة، وبسبب ذلك يَهْلَكُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كما مشاهد في الواقع المُعَاش.
وجه ثان: أنَّ الطامع – وهو عكس القانع- كلما حصل على شيء من أمور الدنيا طلب غيره، وهَلُمَّ جَرَّا، فنَفْسَهُ فقيرة أبدا حتى يقبض ملك الموت روحه وهو على تلك الحالة الخبيثة، مِنْ غير استعداد للموت ولا تأهب له، وفي ذلك خسران مبين.
وهناك وجه آخر : وهو أن الحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة القلب، وسكونه وطمأنينته. والقناعة أحد الأسباب لتحقيق ذلك، فبسببها يكون المسلم راضياً برزقه، منشرح الصدر والبال، لذلك كان من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: « اللَّهُمَ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ»([7]).
ومن أقوال الحكماء: أطول النّاس غمّا الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع، القناعة كنزٌ لا يَفْنَى، العبدُ حُرٌّ إذا قنَع، والحرُّ عبدٌ إذا طمِع، خير الغنى القنوع وشرُّ الفقر الخضوع، من لزم القناعةَ نال عِزًّا، من لم يقنع باليسير لم يكتفِ بالكثير.
ومن عيون الشعر العربي:
والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وفي الختام أود الاشارة الى أمرين هامين:
الأمر الاول: ليس معنى القناعة والكفاف أن يلازم الإنسان بيته ويقعد عن طلب الرزق، ويقول: إنني راضٍ بحالي، بل عليه أن يسعى بِجِدٍّ واجتهاد في طلب الرزق، استجابة لقوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وكان أحد السلف إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ على بَابِ الْمَسْجِدِ، فقال: اللَّهُمَّ إِنِّي أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ([8]).
وكذلك استجابة لقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، وخوفاً من الإثم المشار إليه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)([9]).
الأمر الثاني: لا يُفهَم من الحديث ذم الغنى أو مدح الفقر ، وقد أشار الإمام المناوي (المتوفى: 1031هـ) إلى أن صاحب الحالة- التي أشار اليها الحديث الشريف- معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقراء إلَّا السلامة من قهر الرجال وذُلِّ المسألة([10]).
نسأل الله أن ييسر لنا طريق الفلاح، وأن يجعلنا من الفالحين المفلحين، اللهم آمين، وصلى اللهم على النبي الأمي وعلى آله وصحبه اجمعين.
--------------------------------------------
([1]) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (2/ 180).
([2]) الفوائد لابن القيم (ص: 88).
([3]) أخرجه احمد في المسند (21721) وقال المحقق: إسناده حسن.
([4]) البخاري (6460) ومسلم (1055) .
([5]) فيض القدير (5/ 479).
([6]) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 468).
([7]) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 356) ، وابن خزيمة (4/ 218)، وابن أبي شيبة(4/ 109)، والبيهقي في شعب الإيمان،(4/ 454).
([8]) تفسير ابن كثير (8/ 122).
([9]) أخرجه أحمد (6495)، وأبو داود (1692)، وابن حبان (4240).
([10]) فيض القدير (4/ 508).
=====
6-
عِلْم أصول الفقه: تعريفه وأهميته ونشأته
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولًا: تعريف علم أصول الفقه:
علم أصول الفقه علم مستقل، وضعه علماء الأصول وبنوه على أصول لغوية وشرعية وعقلية، وعرفوه بأنه: مجموعة القواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
ويهتم هذا العلم بدراسة الأدلة الشرعية ومراتبها، الحكم الشرعي وأقسامه ، دلالات الألفاظ وطرق الاستنباط، الناسخ والمنسوخ، التعارض والترجيح ، مقاصد التشريع ، شروط الاجتهاد....الخ
وقد سُمِّيَ بهذا الاسم لأنه يتضمن القواعد والأسس التي يُبْنى عليها علم الفقه، وفي المقابل سُمِّيَ علم الفقه بعلم الفروع لأنه يتفرع عن علم الأصول. وقد أحسن جمال الدين الإسنوي الشافعيّ (ت: 772هـ) حين بدأ خطبة كتابه ( نهاية السول شرح منهاج الوصول) بقوله : وبعد؛ فإنَّ أصول الفقه عِلْم عظيم قَدْره، وبَيِّنٌ شَرَفه وفَخْره، إذ هو قاعدة الأحكام الشرعية، وأساس الفتاوى الفرعية، التي بها صلاح المكلفين معاشًا ومعادًا.
ثانيًا: الفقه والأصول وجهان لعملة واحدة:
تجدر الإشارة إلى أنَّ الفقه وأصول الفقه وجهان لعملة واحدة، فلا فقه على الحقيقة بغير أصول. فذكر الأول متضمن للثاني ضرورة ، ولا يفترقان إلا في غرض الدراسة والتعليم.
وإذا كان علم النحو- بالنسبة للنطق العربي والكتابة- ميزانًا يضبط القلم واللسان ويمنعهما من الخطأ؛ فإنَّ علم الاصول يضبط خط سير الفقيه ويمنعه من الانحراف في الاستنباط او التنزيل.
ورغم أنَّ الناظر في كتاب المُحَلَّى للإمام أبو محمد ابن حزم الظاهري (ت: 456هـ) لا يرى سوى نصوص من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين- وهذه كلها من مفردات الفقه والاجتهاد ومكوناته الأساسية- إلا أنَّ عدم أخذه بأصول الاستدلال المتفق عليها جعلته يخرج علينا بأقوال شاذة، ومِنْ ثم هَجَرَه علماء عَصْره ؛ بل وحَرَّقَ بعضهم كُتُبَه!
هذا يعني أنَّ علم أصول الفقه من العلوم الضرورية والأساسية التي لا يمكن لطالب العلوم الشرعية الاستغناء عنها أبدًا؛ لأنَّ عليه مدار الشرع، وبه تُعْرف مقاصده، ويُهتدى إلى أحكامه، وبدونه لا يمكن السير على منهاج قويم في استنباط الأحكام.
ثالثًا: تأكيد العلماء على أهميته:
لا يجوز لأحد أن يتعرض لفقه النَّص وتنزيله، إلا إذا كان على دراية بهذا العلم نظريًا وعمليًا؛ ولا تكفي فيه الثقافة العامة أو القراءة المتعجلة، بل لابد من تمكن ورسوخ وتضلع؛ وقد أكد الأئمة قديمًا وحديثًا على أهمية علم اصول الفقه ، والنقول عنهم في ذلك-مختصرة ومطولة- كثيرة ، فمن النقول المختصرة، قولهم : "من حُرِمَ الأصول حُرِمَ الوصول"، وقولهم : "أَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الدنيا: نِصْفٌ مُتَكَلِّمٌ، ونصف مُتَفَقِّهٌ ونِصْفٌ مُتَطَبِّبٌ ونِصْفٌ نَحْوِيٌّ. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان"([1]).
ومن التقريرات المطولة قول الإمام شهاب الدين القَرَافِيّ (ت: 684 هـ): "ذهب قوم من الفقهاء الجُهَّال على ذمّه، والتقليل من شأنه، وتحقيره في نفوس الطلبة، بسبب جهلهم به، ويقولون: إنما يُتَعَلَّم للرياء، والسُّمعة، والتغالب، والجدال، لا لقصد صحيح، بل للمضاربة والمغالبة، وما علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير... أو ما علموا أنه أول مراتب المجتهدين، فلو عَدِمَه مجتهد لم يكن مجتهدًا قطعًا. غاية ما في الباب أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه الاصطلاحات، أما المعاني فكانت عندهم قطعًا. ومن مناقب الشافعي - رضي الله عنه - أنه أول من صنف في أصول الفقه... وإنما يُذَمُّ القصد الصارف له إلى الباطل، فما من شيء في العالم إلا هو كذلك، قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} [الأنبياء: 35]، فجعل الجميع فتنة إشارة لما ذكرته، وأصول الفقه وأصول الدين من الفروض المتعين إقامتها وضبطها، لوجوب الحُجَّة لله تعالى على خلقه، وإيضاح أحكام شريعته"([2]).
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): "لابد أن يكون مع الإنسان أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ تُرَدُّ إليها الجزئيات؛ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ، ثُمَّ يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ. وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الْكُلِّيَّاتِ، فَيَتَوَلَّدُ فساد عظيم"([3]).
رابعًا : أصول الفقه من حيث النشأة والتدوين :
يمكن إجمال المراحل التي مر بها تدوين أصول الفقه في النقاط التالية:
مرحلة النشأة:
يُعَد الإمام الشافعي أول مَن صنَّف في هذا العِلم ، حيث ألف كتابه "الرسالة"، وهو وإن لم يستوف كل أبواب الأصول وقواعده، لكنه أرسى مبادءها الأساسية، وتميزت كتاباته بالمنهجية وبالتجرد والموضوعية بعيدًا عن الهوى والنزعات الشخصية والمطالب الدنيوية. وتوالى التأليف بعد ذلك.
مرحلة الازدهار والنضج:
وتبدأ من أواخر القرن الثالث إلى القرن السابع، حيث تبلور عِلم أصول الفقه ونضجت مباحثه وتقسيماته وتوسَّعتِ البحوث فيه، ومن أبرز مؤلفات هذه المرحلة: كتاب الأحكام في أصول الأحكام لأبي محمـد بن حزم الأندلسي الظاهري (ت: 456هـ)، وأصول السرخسي (ت: 483هـ)، والبرهان للإمام الجويني الملقب بإمام الحرمين (ت: 478هـ)، وقواطع الأدلة في أصول الفقه لأبي المظفر السمعاني (المتوفى: 489هـ)، والمستصفى لأبي حامد الغزالي (ت 505هـ) ، والمحصول لفخر الدين الرازي (ت: 606هـ)، وروضة الناظر لابن قدامة المقدسي (ت: 620هـ)، الأحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي (ت: 631هـ).
مرحلة التقليد والفتور:
وقد امتدت من القرن السابع وحتى القرن الثالث عشر الهجري؛ حيث كانت المصنفات تكرارًا لجهود السابقين شرحًا وتلخيصًا مع إضافات يسيرة، بالإضافة إلى كثرة الاختصارات والشروح والحواشي، حتى غدا بعض ألفاظها على شكل ألغاز وأحاجي، لا تفيد قارئا ولا سامعًا.
ولأنَّ الأرض لا تخلو مِنْ قائم لله بِحُجَجِهِ، فقد كان - وما زال - يبرز بين الفَيْنة والأخرى علماء في مختلف الأمصار، تحرَّروا مِنْ قيود التَّقليد، وبلغوا رُتْبة الاجتهاد، واستكملوا أدواته وحملوا رايته، فلم تخْلُ هذه الفترة من بعض الكتابات المبتكرة والجادة كمؤلفات ابن تيمية وابن القيم والشاطبي.
فقد نهج هؤلاء الأعلام نهجًا متميِّزًا في عِلم الأصول، يقوم على العناية بأسرار التشريع ومقاصده العامَّة ومصالحه الكُليَّة.
ومن المراجع التي أجادت في بيان الأصول وآراء الأصوليين، كتاب البحر المحيط في أصول الفقه للإمام الزركشي (المتوفى: 794هـ)، إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول، للقاضي الشوكاني (المتوفى: 1250هـ).
مرحلة النهضة الحديثة:
أدخل المتأخرون في علم أصول الفقه من الكلاميات والجدليات ما جعله عسيرا على كثير من طلاب العلم ، وقد أدرك الفقهاء المعاصرون ذلك ، فحاولوا تبسيط هذا العلم وتقديمه بعبارات واضحة وسهلة، تجمع بين التراث والمعاصرة وتراعي قضايا العصر، ومشكلاته وروحه، مع الاستعانة بالأمثلة والشواهد من الواقع المعاش ، وفي النقطة التالية إشارة لبعض هذه المؤلَّفات.
خامسًا: مؤلفات مُقْترحة :
هناك عدة مؤلفات مُقْترحة ، ينصح بمدارستها دراسة منهجية– مؤلف واحد على الأقل في كل مستوى - ، يُدْرس على شيخ متقن ليتجنب مزالق سوء الفهم وهفوات اللحن، والتحريف، والتصحيف، فإذا أتقنه انتقل إلى المستوى الأعلى، وهكذا، منها:
للطلبة المبتدئين: الواضح في أصول الفقه ، لمحمـد سليمان الأشقر، تيسيرُ علم أصول الفقه، لعبدالله بن يوسف الجديع، الوجيز في أصول الفقه لعبدالكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه لوهبة الزحيلي.
وللطلبة المتوسطين: أصول الفقه لعبدالوهاب خلاف، وأصول الفقه للشيخ أبو زهرة، أصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي، إرشاد الفحول للشوكاني.
وللمتقدمين: البحر المحيط للزركشي، المستصفى في أصول الفقه للغزالي، إحكام الأحكام للآمدي، الأحكام في أصول الأحكام للإمام أبو محمـد بن حزم، الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ لعبد الكريم النملة.
هذا بالاضافة إلى موسوعتين لا غنى للمتفقه عنهما : إعلام الموقعين لابن القيم، والموافقات للشاطبي.
وبالنسبة لكتاب التراث- كالمحلى والموافقات وغيرهما- فمن المستحسن أن يقرأ عنها قبل القراءة فيها؛ حتى يقف على مناهج مؤلفيها ومصطلحاتهم. والله تعالى أعلى وأعلم.
-----------------------------------
([1]) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 119(.
([2]) نفائس الأصول في شرح المحصول (1/ 100).
([3]) مجموع الفتاوى (19/ 203).
===
7-
حديث "خَيْرُ أَجْنَادِ الأرْضِ"... رواية ودراية
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
مصادر التشريع الإسلامي - بحمد الله - معروفة محفوظة، والسُنَّة المُطَهَّرَة هي ثانية هذه المصادر، بَيْدَ أَنَّها تعرضت في القديم لهجمات بعض المغرضين والجاهلين الذين اندفعوا وراء ميول نفسية وشبهات فكرية، واستجابوا لهَوًى كامن في نفوسهم، فصدق فيهم قول القائل :
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْباً خَالِياً فَتَمَكَّنَا
إلا أنَّ الله عز وجل خَيَّبَ سعيهم، فَقَيَّضَ للسنة جهابذة نُّقَّادا عملوا على تمييز صحيحها من سقيمها، و بذلوا في ذلك جهدا تتفاخر به الأجيال، وسلكوا طُرُقًا هي أقوم الطرق العلمية للنقد والتمحيص، حتى ليستطيع الباحث المنصف أَنْ يجزم بأنهم أول من وضعوا قواعد النقد العلمي الدقيق للأخبار والمرويات بين أمم الأرض كلها، يقول الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) في حقهم:
" وليس لأهل الكتاب من الحُفَّاظ المتقنين الذين ينفون عن شريعتهم تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء من الجهابذة النُّقَّادِ ، والحُفَّاظ الْجِيَادِ ، الذين دَوَّنوا الحديث وحَرَّرُوه ، وبيَّنوا صحيحه من حسنه، من ضعيفه، مِنْ مُنْكَرِهِ وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعَرَفُوا الوضَّاعِين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتم الرسل، وسيد البشر، أَنْ يُنْسَب إِلَيْهِ كذبٌ أَوْ يُحَدَّثَ عَنْهُ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ ، فَرَضِيَ اللَّهُ عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم"([1]).
- ومن الخطوات التي ساروها في سبيل النقد حتى أنقذوا السُنَّةَ مِمَّا لحق بها : الاهتمام بإسناد الحديث، وبيان حال رواته، ووضع قواعد عامة لتقسيم الحديث وتمييزه، وتأليف الكتب التي تُسَهّل التعرف على درجة الحديث، وقد انتشرت هذه الكتب بين القاصي والداني بحيث أصبح ﻣﻦ السهل ﻋﻠﻰ كل طالب علم وواعظ وخطيب وباحث أَنْ يرجع اليها إذا أراد أَنْ ينسب حديثا إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم، و يُخْشَى على من أهمل ذلك أو قصر فيه أَنْ يكون له حظ وافر من الوعيد الثابت في تحريم الكذب على الله ورسوله.
يقول شيخ الْإِسْلَامِ ابن تيمية (ت: 728هـ) «وكذلك مِمَّا حَرَّمَهُ الله تعالى أن يقول الرجل على الله ما لا يَعْلَمُ ؛ مثل: أن يَرْوِيَ عن الله ورسوله أحاديث يَجْزِمُ بها وهو لا يَعْلَمُ صِحَّتَهَا»([2]).
ويرى العَلَّامَةُ ابن القَيِّم (ت: 751هـ) أَنَّ هذا الْمَسْلَكَ فيه من الخطورة مافيه ، فيقول:« وهكذا لا يَسُوغُ أَنْ يقول: قال رسول الله، لما لا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ ولا ثِقَةَ رُوَاتِهِ ، بل إذا رأي أي حديث كان في أي كتاب؛ يقول: « لقوله صلى الله عليه وسلم »، أو: «لنا قوله صلى الله عليه وسلم»، وهذا خطر عظيم، وشهادة على الرسول بما لا يعلم الشاهد»([3]).
وكثيرا ما يَطْرُقُ أسماعنا استشهاد بعضهم بحديث :( إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جُنْدًا كَثِيفًا، فذلك الجند خَيْرُ أَجْنَادِ الأرْضِ. فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : لأنهم في رباط إلى يوم القيامة ) ، لذا كان من الضروري أن نقف مع هذا الحديث -رواية ودراية- في النقاط التالية:
أَوَّلًا: لَمْ يَرِدْ في كُتُب السُّنَّة :
هذا النص جزء من خطبة طويلة يقال أن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- خطبها في أهل مصر ، فكان مما قال لهم: حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ثم ذكره.
وهذا الحديث لا يوجد في شيء من كتب الحديث التسعة المشهورة لدى علماء السنة النبوية الشريفة، والتي تعتبر أهم المراجع وأوفاها وأشملها للحديث وهي: الصحيحان (البخاري ومسلم)
والسنن الأربعة ( سنن الترمذي والنسائي وأبي داوود وابن ماجه) ومسند أحمد وموطأ مالك وسنن الدارمي.
و إِنَّمَا جاء في بعض كتب التاريخ ، ومنها: كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم (المتوفى: 257هـ) ، و تاريخ دمشق لابن عساكر (المتوفى: 571هـ)، وقد ورد بِإِسْنَادَيْنِ تالفين، يَعْلم من له أدنى صلة بعلم الجرح والتعديل أَنَّ رجالهما مابين ضعيف ومجهول، و مِنْ ثَمَّ لم يصححه مُعْتَبَرٌ من أهل الصَّنْعَةِ، بل حَكَمَ عليه بعضهم بالضعف الشديد، ومنهم من حَكَمَ عليه بالوضع.
ثَانِيًا : هل عدم صحته تمنع الاحتجاج به؟
على فرض أَنَّ هذا الأثر ضعيف فقط وليس بموضوع، فهل يصح الاحتجاج به- على رأي من يرى أنَّ الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الاعمال-؟
والجواب : لا ، لأنَّه فاقد للشروط التي اشترطها من يأخذ بهذا الرأي من العلماء ، وهذه الشروط هي:
- أن يكون الضعف غير شديد.
- أن يكون مندرجاً تحت أصل عام.
- أَلَّا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي ما لم يقله.
- و أضاف بعضهم: أَلَّا يتضمن تقديراً وتحديداً؛ مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة؛ فإذا تضمن شيئا من ذلك لم يجز العمل بها.
وبتدقيق النظر في هذه الشروط نجد أَنَّهَا كلها- أو معظمها- لا ينطبق على النَّصِّ المذكور، هذا إذا افترضنا أنه يندرج أصلًا تحت " فضائل الاعمال"!
ثَالِثًا : حديث صحيح في فضائل مصر:
ثبت في فضائل مصر حديث رواه مسلم في صحيحه ، كتاب الفضائل ، بَابُ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مِصْرَ وفيه: «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا) ، والقيراط معيار فِي الْوَزْن وَفِي المقياس اخْتلفت مقاديره باخْتلَاف الْأَزْمِنَة، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به ، والمقصود بقوله (فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً) أي :حرمة وأمانا من جهة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ أُمَّه مارية منهم ، ومن العلماء من قال بأنَّه أراد بالذمة :العهد الذي دخلوا به في الإسلام زمن عمر فَإِنَّ مصر فتحت صُلْحًا ، وأَمَّا قوله (وَرَحِمًا) ، أي قرابة لأنَّ هاجر أُمَّ إسماعيل منهم ، والحديث - كما ترى أخي الكريم- ليس فيه إِشَارَةٌ من قريب أو بعيد لجيش مصر او جندها.
رَابِعًا: أفضلية مقيدة :
الحديث -كما أَشَرْتُ قبل قليل - لم يصححه أحد ممن يُعْتَدُّ بقوله من علماء الحديث ، لكن لو سلمنا جدلا بإِنَّه صالح للاحتجاج به ، تكون الأفضلية ثابتة حال قيام هؤلاء الجند بأمر الله على نور من الله رَجَاءً لثوابه، لا لأنهم فقط جنود المكان الفلاني، بمعنى أنَّ الأفضلية هنا مقيدة و ليست مطلقة، إِذْ لَيْسَ بين الله عز وجل وبين أحد من خلقه نَسَب، فمن بذل جهده لتكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر، و ائْتَمَنَهُ المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأعراضهم - لا لغير ذلك من أغراض النفس وحظوظها- فحقيق به أن يكون من خير أجناد الأرض أَيًّا كان موطنه أو نَسَبُهُ، وقد وردت نصوص كثيرة تفيد هذا المعنى وتحذر كل عاقل مِنَ الاتكال على شرف نَسَبه وفضيلة آبائه، أكتفي منها بما يأتي:
- قوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} «سورة البقرة: 134، 141».
والمعنى: إِنَّ السَّلَفَ الْمَاضِينَ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ الأنبياء والصالحين لا يَنْفَعُكُمُ انْتِسَابُكُمْ إِلَيْهِمْ إِذَا لَمْ تَفْعَلُوا خيرًا يعود نفعهُ عليكم، فَإِنَّ لهم أَعْمَالَهُمُ التي عَمِلُوهَا ولكم أعمالكم، فاشتغالكم بهم وادعاؤكم أنكم على ملتهم، والرضا بمجرد القول، أمر فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم، أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها، هل تصلح للنجاة أم لا؟
وهذه الآية -أخي القاريء - وردت مرتين متقاربتين في سورة البقرة: برقم (134) و برقم ( 141)، وفي تعليل هذا التكرار يقول الإِمَامُ القرطبي (ت: 671هـ) : كَرَّرَهَا لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ، أَيْ إِذا كان أُولَئِكَ الأنبياء على إِمَامَتِهِمْ وفَضْلِهِمْ يُجَازَوْنَ بِكَسْبِهِمْ فَأَنْتُمْ أَحْرَى، فوجب التأكيد، فلذلك كَرَّرَهَا([4]).
ويرى الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت: 1376هـ) أنَّها كُرِّرَتْ لقطع التعلق بالمخلوقين، وأنَّ الْمُعَوَّل عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال([5]).
- ومن صحيح السنة أذكر قوله صلى الله عليه وسلم: « يَا مَعْشَرَ قرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ([6])، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا ( وقال مثل ذلك لنسوته، وقرابته،. ثم قال :) يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَلِيني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا»([7]).
و قوله: «مَنْ أَبْطَأَ به عَملُهُ لم يُسْرِعْ بِهِ نَسبُهُ »([8]).
فهذه النصوص ومافي معناها تجتمع على إفادة معنى واحد وهو: أنَّ مَنْ أَخَّرَه عمله السَّيِّئُ ، أو تفريطه في العمل الصالح، لم ينفعه في الآخرة شرف النَّسَبِ.
وختاما : في الصحيح غُنْيَةٌ وكفاية عَنْ كُلِّ ما عَدَاهُ ، فعلى المسلم ﺃﻥ ﻳﺘﺜﺒّﺖ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻨﻘﻠﻪ عن الشرع ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻨﺴﺐ ﺇليه ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻣﻨﻪ.
نسأل الله أن يرزقنا الْإِخْلَاص في القول والعمل و الصِّدْقَ في السِّرِّ و الْعَلَنِ ، آمين
-------------------------
([1]) تفسير ابن كثير(5/ 169) عنده تفسيره للآية (50) من سورة الكهف.
([2]) «مجموع الفتاوى» (3/425).
([3]) «أحكام أهل الذمة» (1/115).
([4]) «تفسير القرطبي» (2/147).
([5]) «تفسير السعدي» ص (70).
([6]) أي باعتبار تخليصها من العذاب ليكون ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة.
([7]) رواه البخاري (4771) ، ومسلم (351).
([8]) رواه مسلم رقم (2699).
========
8-
آيات وأحاديث الأحكام ، عددها والمؤلفات فيها
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولاً: المقصود بنصوص الأحكام:
قسَّم العلماء محتوى الدين الإسلامي إلى ثلاثة أقسام، تمثل كل منها جانبًا من جوانب الشمول والتكامل في هذا الدين العظيم:
أ - العقيدة الإسلامية: وأصل التسمية مأخوذ من عَقَد الحبل إذا ربطه، ثم استعمل في عقيدة القلب وتصميمه الجازم، وموضوعها أركان الإيمان الستة، وما ألحق بها من مسائل، ولهذا العلم الشريف أسماء أخرى، منها: الإيمان والتوحيد وأصول الدين.
ب - الأحكام الأخلاقية: وهي الأحكام الوجدانية التي تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل، وما يجب أن يتخلى عنه من الرذائل. وتدرس هذه الأحكام في علم الأخلاق.
جـ - الأحكام العملية (الفقهية): وتتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال، وتشمل أحكام العبادات التي تنظم علاقة الإنسان بربه، كالفروض الخمسة، وأحكام المعاملات التي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات. وأحكام الأسرة والمعاملات المالية والجرائم والعقوبات... إلخ.
ويلاحظ أن هذا التقسيم تقسيم اصطلاحي تعارف عليه العلماء، للتوضيح، والتبيين. ولا يعني أن كل قسم مبتوت الصلة عن الآخر بل هي مترابطة ومتداخلة؛ فالمسائل الاعتقادية لابد أن ينبني عليها عمل وسلوك، وهذا السلوك هو الأخلاق بمعناها الشامل، كما أن المسائل العملية الفقهية، لابد أن تصدر عن اعتقاد، ونيّة.
وعلى هذا يكون المراد بنصوص الأحكام عند الإطلاق: كل نصٍّ يمكن أن يستفاد منه حُكْم فقهي، بطريقٍ مباشرةٍ أو بطريق الاستنباط.
ثانيًا: عدد آيات الأحكام:
القرآن الكريم شامل لأحكام الدين؛ إما تفصيلاً وإما تأصيلاً. ويوضح ذلك قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [النحل: 89]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]. "أَيْ لِيُبَيِّنَ لكم أَمْرَ دِينِكُمْ ومَصَالِحَ أَمْرِكُمْ، وما يَحِلُّ لكم وما يَحْرُمُ عليكم. وذلك يَدُلُّ على امْتِنَاعِ خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تعالى"([1]).
وقد اختلف أهل العلم في عدد آيات الأحكام على قولين:
القول الأول: "أنَّها محصورة بعدد معيَّن، ثم اختلف هؤلاء في عددها، فقيل: هي خمسمائة آية. وقيل: بل مائتا آية فقط. وقيل: هي مائة وخمسون آية فقط"([2]).
وقيل: إن سبب هذا الحصر هو التيسير على طالب العلم، والمجتهد؛ حتى لا يكون طريق الطلب والاجتهاد عسيرًا، فينقطع سالكه عن الاستمرار أو تحصيل المراد.
القول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين؛ أنَّ آيات الأحكام غير محصورة في عددٍ، فكلُّ آية في القرآن قد يُستنبَط منها حُكْمٌ معينٌ، وَمَرَدُّ ذلك إلى ما يَفتحه الله على العَالِمِ مِنْ معاني القرآن ودلالاته، وما يَتميَّز به مِنْ صفاء الروح، وقُوَّة الاستنباط، وجَوْدة الذِّهْن وسَيَلانه، فأحكام الشرع كما تُستنبط مِن الأوامر والنواهي؛ كذلك تُستنبط مِن القصص والمواعظ والأمثال ونحوها، على نحو ما نجده عند الإمام القرطبي في تفسيره؛ فلا يكاد يَمرُّ على آية مِن آي القرآن إلا ويتعرَّض لِمَا فيها مِن أحكام.
ويبدو لي أنَّ هذا القول هو الرَّاجح وذلك لأسباب، منها:
السبب الأول: أنَّ دلالة النَّصوص على الأحكام على قسمين:
أ- ما هو صريح في الأحكام؛ كتلك الواردة في سورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام وغير ذلك.
ب- ما يؤخذ بطريق الاستنباط، وهذا على قسمين:
1- ما يُستنبط مِن الآية نفسها من غير أن يضم إليها آية أخرى؛ كاستنباط الشافعي صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى: {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9]، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] ونحوه.
2- ما يُستنبط من الآية بعد أن يضم إليها آية أخرى ، كاستنباط عليّ وابن عباس رضي الله عنهما أنَّ أقل مدة الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14].
ومثله استنباط الأصوليين أنَّ تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] مع قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23]([3]).
السبب الثاني: أنَّ دعوى الحصر تُفضي إلى مآلات غير محمودة، منها:
أ- تعطيل الغالب الأعم من النَّصوص، وجَعْلُها غير ملزمة، وإنما هي فقط للتلاوة والتبرُّك.
ب- الفصل بين عمل القلب وعمل الجوارح؛ لاستبعادها النَّصوص المتعلقة بالاعتقاد والأخلاق والآداب، مع أنَّها مِن صميم الحكم الشرعي ومرتكزاته.
ثالثًا: المؤلفات في آيات الأحكام:
تناول عدد من العلماء آيات الأحكام بالشرح والتحليل، ومن أشهر مؤلفاتهم: أحكام القرآن للجصاص الحنفي (ت: 370هـ)، أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي (ت: 543هـ)، تفسير القرطبي(ت: 671هـ)، المُسَمَّى الجامع لأحكام القرآن، نيل المرام من تفسير آيات الأحكام لصِدِّيق حسن خان (ت: 1307هـ).
ومن المؤلفات المعاصرة التي تميزت بسهولة العرض وحسن الترتيب مع الاهتمام بالدراسة الفقهية المقارنة: كتاب تفسير آيات الأحكام للشيخ محمـد علي السايس (ت: 1396هـ)، تفسير آيات الأحكام للشيخ مناع بن خليل القطان (ت: 1420هـ)، روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ محمـد علي الصابوني.
وهناك مؤلفات معاصرة اقتصر أصحابها على جمع آيات الأحكام في القرآن، وترتيبها على حسب الموضوعات والأبواب الفقهية دون التعرض للشرح والتحليل، ومِن الكتب التي عُنيت بهذا الجانب:
فتح العلام في ترتيب آيات الأحكام، لصباح عبدالكريم العنزي، نيل المرام من أدلة الأحكام، لطارق الخويطر. بلوغ المرام من آيات الأحكام، لعبدالرحمن بن علي الحطاب.
رابعًا: عدد أحاديث الأحكام:
لم تسلم أحاديث الأحكام هي الأخرى من الاختلاف من حيث العدد: "فقد سُئِلَ الشافعي رحمه الله: كم أصول الأحكام؟ فقال: خمسمائة حديث. قيل له: فكم أصول السُّنن؟ قال: خمسمائة"([4]).
أي إن أحاديث الأحكام بفرائضها وسننها التي هي حجة وأصل لا تتجاوز بنظر الشافعي ألف حديث.
وإذا نظرنا إلى أشهر المؤلَّفات فيها نجد هذا الاختلاف واضحًا للعيان:
فبينما يقتصر الحافظ عبدالغني المقدسي (ت: 600هـ) في كتابه عُمْدَةُ الأحكام من كلامِ خيرِ الأَنامِ على ما يقارب الـ(430) حديثًا، نجدها عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ) في كتابه المشهور بُلوغِ المَرَامِ من أدلة الأحكام (1570) حديثًا ([5]).
ومما تجدر الإشارة إليه في الفروق بين الكتابين أن أحاديث عُمْدَة الأحكام كلها مأخوذة من الصحيحين البخاري ومسلم، وقليل منها ما هو في أحدهما دون الآخر.
أما أحاديث بلوغ المَرَام فمأخوذة من الصحيحين وغيرهما، فليست كلها صحيحة، بل فيها بعض الضعيف، وهو كتاب مشهور ومتداول، وعناية أهل العلم به فائقة.
خامسًا: المؤلفات في أحاديث الأحكام:
للكتابين المشار إليهما شروح كثيرة، فمن شروح العُمْدَة: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد (ت: 702هـ)، ومن شروح البلوغ: سُبُل السلام، لمحمـد بن إسماعيل الصنعاني (ت: 1182هـ)، ومن الشروح المعاصرة على الكتابين والمشهورة والمتداولة بكثرة، والنافعة جدًا لا سيما للمبتدئين والمتوسطين: تيسير العلام شرح عُمْدَة الأحكام (في مجلد واحد كبير، أو مجلدين)، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام (سبعة مجلدات) كلاهما للشيخ عبدالله البَسَّام ( ت: 1423هـ). وقد طبعا عدة طبعات، ويتميز الشارح بالاهتمام بذكر الأمثلة العصرية وما يحتاجه الناس، والبعد عن المسائل المهجورة والتي لم يعد لها وجود في الواقع المعاصر.
"نسأل الله أن يجعَلَ صُدُورَنَا أَوْعِيَةَ كِتَابِهِ، وآذَانَنَا مَوَارِدَ سُنَنِ نَبِيِّهِ، وهِمَمَنَا مَصْرُوفَةً إِلى تَعَلُّمِهِمَا والبَحْثِ عَنْ معانيهما وغَرَائِبِهِمَا، طالِبِينَ بذلك رضا رَبِّ العالمين، ومُتَدَرِّجِينَ به إِلى عِلْمِ المِلَّةِ والدِّينِ"([6]). اللهم آمين.
---------------------------------------
([1]) ينظر: تفسير القرطبي (5/ 147).
([2]) ينظر: المستصفى (4/6)، المحصول، للرازي (6/ 23).
([3]) ينظر: البرهان في علوم القرآن، للزَّرْكَشي (2/ 3).
([4]) مناقب الشافعي، للبيهقي (1/ 519).
([5]) قد يزيد العدد أو يقل على حسب الطبعة.
([6]) اقتباس من مقدمة تفسير القرطبي (1/ 2).
==============
9-
الناسُ سواسيةٌ في دينِ الإسلام
د. عبدالله بن معيوف الجعيد
@abdullahaljuaid
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد جاءت رسالة الإسلام منذ ألفٍ وأربعمئة سنة حاملةً كل معاني الخير للبشرية جمعاء ولقد عبر القرآن عن هذا المعنى بدقة ففي خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) سورة الأنبياء 107، فدعوة الإسلام جاءت مستهدفة الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم وأعراقهم وألوانهم وغيرها من المعايير التي يصنف على أساسها البشر، وتقر لهم كافة الحقوق على حد سواء فلا يتم التعامل مع أي من الناس باعتبار شكله أو لونه أو عرقه أو حسبه ونسبه، بل إن معيار التفاضل الوحيد الذي أقره الإسلام بين الناس هو التقوى، فكل الناس في الإسلام سواسية فالإنسان هو الإنسان كان غني أم فقير قوي أم ضعيف حاكم أم محكوم، ويمكننا أن نلمس وجود مبدأ المساواة بين الناس في الإسلام في كثير من المواضع في القرآن الكريم والكثير من المواقف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد جاء في القرآن الكريم بيان أن الناس جميعاً يرجع نسبهم إلى أب واحد وأم واحدة فهم بذلك أخوة لا يجب أن يتم التفريق في المعاملة بينهم بأي شكل من الأشكال فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات 13، كما أنه لا يمكننا أن نغض الطرف عن ما احتوت عليه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من أحداث ومواقف تأصل وتأكد على مبدأ المساواة الذي يتم على أساسه التعامل مع كل الناس في الإسلام، فها هو صلى الله عليه وسلم يؤكد أنه لا يمكن لأحد مهما كانت مكانته أن يكون فوق القانون وأن يتم معاملته بأسلوب مخالف لما يُعامَل به عامة الناس فيقر عقوبة السارق ولو كان واحدا أهل بيته، فيقول في ضرر عدم المساواة في معاقبة المجرمين والتمييز بينهم بناءً على مكانتهم وأنسابهم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه، وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)، ولقد كانت حياة الصحابة في المدينة المنورة خير مثالٍ للتعايش والمساواة بين مختلف الأعراق والأجناس فلا نرى بين الصحابة تمييزاً بين أبي بكر العربي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، جمعهم الإسلام جميعاً تحت عباءته إخواننا متحابين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس سواسية كأسنان المشط الواحد. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).
ولا ينكر الإسلام وجود التفاوت بين الناس في أنسابهم وأعمالهم وأرزاقهم، بل يؤكد وجود ذلك إلا أنه لا يتم التعامل على أساس هذا التفاوت مع الناس بل إن هذا التفاوت موجود لضمان استمرارية الحياة البشرية وتكامل البشر في تقديم الخدمات المختلفة لبعضهم البعض، فقد قال تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) سورة الزخرف 32.
والناظر إلى حضارة المسلمين في مختلف مراحلها يلمس حقيقة المساواة بينهم وأن الحق في المساواة حقٌ أصيل وليست وجهة نظر ولا يقوم على أهواء الناس، فها هم يصطفون في الصلاة جنباً إلى جنب الحاكم والمحكوم والغني والفقير والقوي والضعيف والكبير والصغير خلف رجل واحد مستقبلين قبلةً واحدة متذللين منكسرين لإله واحد.
ولعلنا نرى حقيقة المساواة واضحةً جليةً في قصة الصحابي الجليل بلال الحبشي رضي الله عنه فها هو يتحول من عبدٍ مملوك في الجاهلية إلى مؤذن النبي الصادح بأهم نداءٍ في الإسلام، وعندما عيره أبو ذر الغفاري بلونه اشتاط النبي غضباً لما تحمله معايرة أبي ذر من دعوى الجاهلية التي تتصف بالعنصرية في التعامل مع الناس والتمييز بينهم على أساس أعراقهم واجناسهم وأحسابهم وأنسابهم وما يملكونه من متاع الدنيا فقال النبي لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، أي أن ما صدر عنك من سلوك عنصري يتنافى مع أخلاقيات الإسلام السمحة وإقرار المساواة بين الناس في الحقوق والاحترام.
ولقد تعدى مبدأ المساواة في الإسلام التعامل بين المسلمين إلى تعامل المسلم مع غيره من الناس، فلقد جاء في تشريع التعامل مع غير المسلمين في القرآن الكريم: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) سورة الممتحنة 8، فقد أمرنا الله بالبر والقسط في التعامل معهم وهما من أرقى مبادئ التعامل الإنساني، فحتى لو لم يكونوا مسلمين إلا أن لهم الحق في احترام حقوقهم وحمايتها وعدم الاعتداء عليها، كما أننا نلمس الرقي في التعامل الإنساني في وصية أبي بكر لجيش المسلمين حين أمرهم بحفظ حقوق الناس في الحياة والدين وغيرها وعدم التعدي عليها.
ونرى بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام كان سباقاً في إقرار الحقوق المختلفة للناس والدعوة إلى احترامها والحفاظ عليها وتحريم الاعتداء عليها وسلبها من الناس ومن بينها الحق في المساواة، والشواهد التشريعية والعملية كثيرة في باب المساواة، أما اليوم فيرى العالم أجمع الكثير من الحملات العنصرية التي تهدف إلى التمييز والتفضيل بين الناس على أساس أعراقهم وأجناسهم وألوانهم في الكثير من دول العالم التي تُظهر للناس التزامها ودفاعها عن حقوق الإنسان، فنرى الاعتداءات على الطوائف والأقليات والأعراق في الكثير الدول حول العالم، ولقد شاهدنا في الأيام الأخيرة الكثير من الأحداث المؤسفة التي تعرض لها أصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة الأمريكية، وليست هذه الأحداث الأولى من نوعها فغالباً ما يتم التعامل مع أصحاب البشرة السوداء بالقوة وبشكل عنيف، ويرجع ذلك إلى عدم اتخاذ الحكومات للإجراءات الجزائية المناسبة لمعاقبة مرتكبي الانتهاكات من أفراد الشرطة والأمن التي أدت إلى مقتل مواطن وخلفت الكثير من أعمال العنف انتقاماً لما يتعرضون له من عدم مساواة مع غيرهم وانتهاك لحقوقهم والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم.
==========
10-
الإسلام وأثره في بناء الشخصية المستقلة للمسلم
د / أنس الغنام
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
من أهم ما حرص عليه الإسلام في تعاليمه وتشريعاته هو بناء الشخصية المستقلة للمسلم ، وهذه الاستقلالية تمكن المسلم من عدم ذوبان شخصيته في شخصيات المخالفين له في الدين، سواء في عقائدهم أو عباداتهم أو سلوكياتهم0
فالمسلم هو حامل أعظم رسالة ، وأكمل دين ، وقد اختاره الله – عز وجل – لكى يكون أمينا على هذا الدين ، الذي هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة ، وهذا يتطلب من المسلم أن يكون ذا شخصية مستقلة متفردة حتى يستطيع نشر الحق الذى معه ، وتعليمه لكل من حاد عن طريقه ، وبعد عن سبيله0
فالمسلم ينبغى أن يكون هو رائد الطريق ، وقائد السبيل ، لا تذوب شخصيته في الآخرين ، وإنما هو الذين يذوبون فيه ، ينبغي أن يكون متبوعا لا تابعا ، وقائدا لا مقودا ؛ لأن معه الحق والهدى واليقين ، معه الحق الذى تحتاجه البشرية في مسيرها ، معه الهدى الذي ينقذها من ضلالات الأفكار ومتاهات العقول ، معه اليقين الذي يخلصها من شبهات الشكوك ، وأوهام الظنون0
وإذا ضاعت شخصية المسلم ، وأصبح مقلدا للآخرين ضاع الحق الذى معه ، وذهب الدين الصحيح الذي يحمله ، لذلك كانت أعظم جناية على الدين هو أن ينسلخ المسلم من شخصيته الإسلامية ، وهويته الإيمانية ، ويصبح مقلدا لمن يخالفه في الدين سواء في العقائد أو العبادات أو السلوك 0
لذلك حرص الإسلام في كثير من تشريعاته على تحقيق الاستقلالية في شخصية المسلم ، وترسيخها في عقله وفكره ، وغرسها في قلبه وضميره ، وهذه التشريعات يمكن تقسيمها إلى عدة محاور ولنبدأ بأول محور منها وهو :
1- الاستقلال في المسئولية:
يعلمنا الإسلام أن كل إنسان مسئول عن أعماله ، وأنه سيحاسب على ما اقترفته يداه ، وجنته جوارحه ، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) المدثر 38 ، وأن كل إنسان سيحمل وزر نفسه ولن يحمل أحد عنه وزره ، أو يُسأل عن عمله حتى ولو كان قريبا له قال تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى000 الآية) فاطر 18 ، وأن علاقات النسب وروابط القربى لا قيمة لها يوم القيامة ، وأنها لا تغني عن صاحبها شيئا ، قال تعالى (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ) المؤمنون 101 ، وأن كل واحد سيقف أمام ربه وحده ، وسيحاسب وحده ، فلا حميم يشفع له ، ولا صديق يُطاع من أجله ، قال تعالى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}مريم 93-95 0
إن ما سبق ذكره يُعد من صلب عقيدتنا وأساسيات ديننا ، وهو له أكبر الأثر في تربية المؤمن على الاستقلال التام في شخصيته ، والبعد عن التقليد الأعمي ، لأن ترسيخ هذه المعانى في قلبه، وغرسها في نفسه ينشىء منه إنسانا معتدا بنفسه مستقلا بذاته في كل توجهاته وأفكاره واعتقاداته ، فلا يقلد لمجرد التقليد ، وإنما يزن كل ما يراه بميزان الشرع فما وافقه قبله وما خالفه رفضه ، وهذا هو المأمول من كل مسلم0
2- الاستقلال في الاعتقاد :
الإسلام لا يريد من المسلم أن يلقى بزمام عقله لغيره ، وأن يكون تابعا له يقوده حيث يشاء ، بل يريد منه أن يكون مستقلا برأيه ، معتدا بفكره ، لا يقول إلا ما يراه صحيحا ، ولا يعتقد إلا ما يظنه صوابا ، لذلك جاء كثير من آيات القرآن الكريم تذم التقليد ، وتنهى عنه ، بل وتأمر بإعمال العقل والفكر ، والإيمان بما يؤكده الدليل ، وأن الإنسان الحر هو الذي ينبع اعتقاده من عقله ، وينبثق رأيه من ضميره0
قال تعالى في ذم الذين يقلدون آبائهم في الكفر على حساب الدين الصحيح ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) الزخرف 22 ، كما نعي عليهم تقليد هؤلاء الآباء مع ضعف عقولهم ، وظهور ضلالهم ،فقال : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) البقرة 170
وإذا كان القرآن ينعي على التقليد فإنه دائما ما يطالب بالتفكير الصحيح المدعوم الدليل الواضح ، والبرهان اللائح ، فنراه يقول (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) سبأ 46 ، كما أعلى من قيمة الدليل ، وبين أن صاحب العقل الحر هو من يكون يسير وراء الدليل أينما سار ؛ لذلك تكرر في القرآن قوله تعالى (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) البقرة11 ، كما تكرر كثيرا قوله في نهاية الآيات ( أفلا يتدبرون – أفلا يتفكرون )0
ولكي يرسخ الإسلام استقلالية الشخصية في الاعتقاد فإنه قرر حرية العقيدة ، بقوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ000 الآية ) البقرة 256 ، فإن العقيدة التى تنبع من عقلٍ مقتنع بها ، قد ارتاح ضميره إليها ، هي العقيدة التى يكون لها أثر في سلوكه وحياته ، ويكون عنده الاستعداد للموت في سبيلها ، والتضحية من أجلها ، أما من يُكرَه على عقيدة لا يؤمن بها ، ولا يقتنع بها فإنه ستكون عقيدة واهية في قلبه ، ذات أثر ضعيف فى نفسه ، يوشك أن ينسلخ منها في أقرب فرصة تتاح له عندما يتخلص من إكراه من أكرهه عليها0
إن كل هذه التعاليم لها أثر كبير في ترسيخ الاستقلالية في شخصية المسلم ، وبناء عقله وضميره عليها ، فيكون مستقل الفكر والاعتقاد لا يقلد غيره ، ولا يسلم عقله له ، بل يكون رائده الدليل ، وقائده البرهان ، وإذا كان الإسلام جعل لغير المسلم حرية الاعتقاد في أخطر قضية وهي قضية الدين ، فما بالك بالأفكار والقضايا الأقل شأنا والأهون خطرا ، إن هذه رسالة للمسلم أن لا يقلد أفكارا واردة عليه من الشرق أو الغرب بسبب انهزاميته ، أو انبهاره بما عندهم من تقدم وحضارة ، بل عليه أن يقبل ما يتوافق مع ديننا ، ويرفض ما يعارضه ، وكما قيل ( الحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها فهو أحق الناس بها ) ، لكن من المهم أن تكون هذه الحكمة متوافقة مع شرعنا غير مصادمة له0
3- الاستقلال في العبادة:
حرص الإسلام أن يجعل المسلم مستقلا تمام الاستقلال في عبادته ، فلا يقلد غيره وخاصة من أهل الكتاب والمشركين ، سواء كان هذا في الصلاة أو الصوم أو الحج ، لذلك وردت أحاديث كثيرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها توجيه للمسلمين بأن يخالفوا غير المسلمين في هذه العبادات ، حتى يحقق لهم الشخصية المستقلة البعيدة عن التشبه بالآخرين وتقليدهم ، حتى ولو كانت هذه المشابهة غير مقصودة ، ولنبدأ أولا بـ
أ – الصلاة :
ففي الأذان للصلاة رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون بالبوق ؛ لأنه يشبه فعل اليهود ، كما رفض الناقوس ؛ لأنه يشبه فعل النصاري ، إلى أن شرع الله – عز وجل- له الأذان عبر رؤية رآها أحد أصحابه ، فعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ : ( اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا ، فَقِيلَ لَهُ : انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ ، قَالَ : فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ (يعني : البوق) ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ : هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ ، قَالَ : فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ ، فَقَالَ : هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى ، فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ ) ([1])0
كما نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس ، وعند غروبها حتى لا نشابه الكفار في سجودهم للشمس في هذين الوقتين ، ومع أن نيتنا مخالفة لنية الكافرين ، فنحن نسجد لله ، وهم يسجدون للشمس إلا أن مجرد هذه التشابه الظاهرى مرفوض عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى يحقق الاستقلالية الكاملة لعبادة المسلم0
فعن عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ أنه قال للنبي – صلى الله عليه وسلم – أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ»([2])0
كما نهي – صلى الله عليه وسلم - عن أن يضع الرجل يده على خاصرته في الصلاة لأنه من فعل اليهود ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا»([3]) ، وقد ذكرت عائشة رضى الله عنها علة هذا النهي وهو مخالفة اليهود ، فعَنْ مَسْرُوقٍ َعنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، " كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ فِي خَاصِرَتِهِ وَتَقُولُ: إِنَّ اليَهُودَ تَفْعَلُهُ " ([4])0
كما أمرنا – صلى الله عليه وسلم - أن نصلي في النعال والخفاف مخالفة لليهود فقال: ( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم ) ([5])0
ب- الصوم :
أما في الصوم فقد أمرنا بالسحور حتى نخالف اليهود والنصارى ، فقال – صلى الله عليه وسلم - قال فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السَّحَر " ([6])0
وعندما صام يوم عاشوراء ؛ لأنه اليوم الذى نجى الله – عز وجل – فيه موسى عليه السلام من فرعون ، فإنه شرع لنا أن نصوم يوما قبله ، أو بعده لكي نخالف اليهود في صيام هذا اليوم ، فعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([7])0
ج – الحج:
أما في الحج فقد خالف النبي – صلى الله عليه وسلم – المشركين فقد كانوا يقفون بمزدلفة ، أما هو فقد خالفهم فوقف بعرفة ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ العَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ([8])0
كما كان يفيض من المزدلفة إلى عرفة قبل طلوع الشمس ، مخالفا في ذلك المشركين حيث كانوا يفيضون بعد طلوعها ، فعَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ، يَقُولُ: شَهِدْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: " إِنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَهُمْ ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ "([9])0
ومعنى (أشرق ثبير) : من الإشراق وهو طلوع الشمس ، وثبير جبل في المزدلفة ، والمعنى لتطلع عليك الشمس حتى ندفع من مزدلفة ([10])0
وشرع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العمرة في شهر ذي الحجة مخالفة للمشركين ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " وَاللَّهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا عَفَا الْوَبَرْ وَبَرَأَ الدَّبَرْ وَدَخَلَ صَفَرْ فَقَدْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ "([11])0
4- الاستقلال في السلوك:
حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعلم المسلمين الاستقلال في سلوكهم ، وأن لا يكونوا مقلدين لغيرهم بل ينبغى أن يكون سلوكهم نابعا من دينهم ، ملتزما بشرائعه ، بعيدا كل البعد عن التقليد للغير ، والسير في ركابه0
وقد وردت بعض الأحاديث التى تأمر المسلمين بمخالفة غير المسلمين في بعض سلوكهم ؛ لكي يعلم المسلمين الاستقلال وعدم التقليد0
ففي السلام نهانا أن نسلم كتسليم اليهود والنصارى ، وإنما لنا تسليمنا المميز لشخصيتنا الإسلامية ، وهويتنا الإيمانية ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالْأَكُفِّ وَالرُّؤوسِ وَالْإِشَارَةِ([12])0
كما أمر المسلمين بمخالفة اليهود في تعاملهم مع المرأة عندما تحيض ، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا، فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا([13])0
تأمل قول اليهود (مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ ) تجد الحرص الكامل من الرسول – صلى الله عليه وسلم – على مخالفة اليهود في كل أحوالهم إلى درجة أن هذا قد لفت أنظار اليهود أنفسهم ، فقالوا هذه المقولة ، كما تلحظ الغضب الشديد من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الصحابيين (أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ ) عندما أرادا تقليد اليهود في جماع النساء وقت الحيض ، وهذا كله مما يؤكد حرص النبي صلى الله عليه وسلم الشديد على تحقيق الاستقلالية الكاملة لشخصية المسلم 0
ومن ضمن السلوكيات التى أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه بمخالفة اليهود فيها المحافظة على نظافة البيوت فقال صلى الله عليه وسلم :" طَهِّرُوا أَفْنِيَتَكُمْ ، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَا تُطَهِّرُ أَفْنِيَتَهَا "([14])0
وهذا الأمر منه – ص – كان متعلقا باليهود في وقته حيث كانوا لا ينظفون أفنيتهم ، وقد علل هذا الأمر بمخالفة اليهود في هذا السلوك0
وتحقيق الاستقلال في السلوك لا يتعلق فقط بمخالفة غير المسلم ، وإنما يتحقق أيضا بمخالفة المسلم في سلوكياته الخاطئة ، وعدم اتباعه فيما تبين له عدم صوابه ، وفي هذا ورد قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ "([15])0
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ ([16])0
وفي هذا الحديث أبلغ رد على هؤلاء المنبطحين أمام رؤسائهم ، والذين ينفذون أوامرهم حتى ولو كانت مخالفة للدين وأحكامه ، وإذا عُوتب في ذلك يقول قولته المشهورة ( أنا العبد المأمور ) ، وهي جملة مخالفة لعقائدنا وتعاليم ديننا ، فلا عبودية إلا لله ، ولا طاعة إلا لله ، وكل أمر يخالف أمر الله – عز وجل - يجب علي المسلم رفضه ، وعدم طاعة رؤسائه فيه ، وهكذا يحقق الاستقلالية في شخصيته وسلوكه بدل أن يكون عبدا لبشر مثله لا يملك له ضرا ولا نفعا0
5- الاستقلال في المظهر:
لقد أراد الإسلام من المسلم أن يكون مستقلا في مظهره عن غير المسلم ، فلا يقلده في ملبس ، ولا يتبعه في هيئة. وبالطبع المقصود هنا هو مخالفة غير المسلم في الملبس والهيئة اللتين أصبحتا من خصائص غير المسلم ، مثل لبس ملابس القساوسة والرهبان الخاصة بهم ، أو يلبس طاقية اليهود ويضفر شعره ضفيرتين كما هو ظاهر من هيئتهم ، وعلى هذا حمل كثير من العلماء حديث رسول الله «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»([17])0
فالتشبه المحرم هو ما كان في خصائصهم المميزة لهم عن غيرهم ، أما التشبه بهم في أشياء ليست من خصائصهم ، وإنما يشترك فيها كل الناس فليس محرما ولا يتناوله الحديث0
وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ما الضابط في مسألة التشبه بالكفار ؟
فأجاب:
" التشبه بالكفار يكون في المظهر واللباس والمأكل وغير ذلك لأنها كلمة عامة ، ومعناها أن يقوم الإنسان بشيء يختص به الكفار ، بحيث يدل من رآه أنه من الكفار وهذا هو الضابط ، أما إذا كان الشيء قد شاع بين المسلمين والكفار فإن التشبه يجوز ، وإن كان أصله مأخوذاً من الكفار ، ما لم يكن محرماً لعينه كلباس الحرير"([18])0
ومما يؤكد ما سبق ذكره الحديث الذي رواه عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أنه قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا»([19])0 والثياب المعصفرة : هي المصبوغة بالعصفر وهو نوع من الصبغ لونه أصفر ، ومن هنا ندرك مدى حرص النبي – على تعليم أصحابه الاستقلالية الكاملة في المظهر 0
ومن أوامره – أيضا – في مخالفة غير المسلم في المظهر قوله – صلى الله عليه وسلم: " خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَاحْفُوا الشَّوَارِبَ " ([20])، وقوله «إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ» ([21]) ، وقد تبعه في ذلك أصحابه ومنهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه ، حيث كتب للمسلمين في أذربيجان : (وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ، وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ، ) ([22]) 0
فكل هذه الأوامر تدلنا بوضوح على أن من أهم جوانب استقلالية المسلم هي استقلاله في مظهره وهيئته ، لأن التشبه بغير المسلمين في مظهرهم وهيئتهم سيجعل المسلم يميل إليهم ويتعلق بهم ، وسرعان ما يتأثر بهم ؛ لأن التشابه في الظاهر سيولِّد تشابها في الباطن ، وعندها قد يخسر المسلم دينه وعقيدته0
6- الاستقلال فى المال :
من المعلوم أن الإنسان في الغالب أسير لمن يحسن إليه ، وينفق عليه. وكلما أنفق عليه كلما طوَّقه بجميله ، وجعله رهن إشارته وعند ذلك يفقد شخصيته ، ويصبح كالعبد بين يديه ؛ لذلك كان من أكثر ما يجعل للإنسان استقلالية في شخصيته ورأيه ومواقفه أن يكون مستقلا في ماله ، فلا يتواكل على أحد ، ولا يريق ماء وجهه في السؤال0
لذلك أمرنا الله – عز وجل - بالسعى في الحياة حتى نحصل أرزاقنا ، ونعف أنفسنا عن مهانة المسألة وذل الطلب ، فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ الملك: ١٥ ، وقال – أيضا - ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ﴾ الجمعة: ١٠
وقد جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – السعى في تحصيل الرزق ؛ لكي ينفق الإنسان على نفسه وأولاده من الجهاد في سبيل الله وذلك ليحث المسلمين على طلب الرزق وعدم القعود عن تحصيله ، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: مَرَّ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رَجُلٌ فَرَأَى أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَلْدَه وَنَشَاطَه فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يَعُفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ»([23])0 وقال أيضا - في ترغيب المسلم أن يأكل من عمل يده ( ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده) ([24]) وقال – أيضا – ( لأن يأخذَ أحدكم حَبْلَه، فيأتيَ بحُزمة الحطب على ظهره، فيبيعَها، فيكُفَّ اللهُ بها وجهه: خيرٌ له من أن يسألَ الناس، أعطَوْه أو منعوه) ([25])0
وكما أمرنا بالسعي في الرزق فإنه نهانا عن المسألة فقال:) ما يزال الرجلُ يسأل الناسَ حتى يأتيَ يومَ القيامة وليس في وجهِه مُزعةُ لحمٍ) ([26]) ، أي : قطعة لحم
كما حذر تحذيرا شديدا من عاقبة الذي يسأل الناس ، ويتكثر من أموالهم ، فقال: (مَن سأل الناسَ أموالهم تكثُّرًا، فإنما يسألُ جمرًا (أي: من جهنَّم)، فليستقلَّ أو ليستكثِرْ) ([27])0
إن هذه التوجيهات النبوية الشريفة تبنى مسلما ذا استقلالية في ماله ، وبالتالى يصبح ذا استقلالية في شخصيته فلا يستعبده أحد ، ولا يملي عليه رأيا ، بل تكون مواقفه وتوجهاته نابعة من عقله وضميره ، وهذه هي قمة الاستقلالية في أسمى صورها وأجلى مظاهرها0
من خلال كل ما سبق ذكره يتبين لنا حرص الشريعة على تحقيق الاستقلالية الكاملة للمسلم ، وتربيته على هذه الاستقلالية ، وغرسها في قلبه وضميره ، وعندها يكون هو القائد لا المقود ، المتبوع لا التابع وبذلك يحافظ على دينه وعقيدته من الذوبان في أديان الآخرين وعقائدهم ، وبذلك يكون هو المسلم المنشود الذي به يُنصَر الدين ، ويعلو الإسلام ، ويُرفع به لواء الحق في كل زمان ومكان0
والحمد لله رب العالمين
-------------------------------
([1]) سورة رواه أبو داود (498) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
([2]) مسلم ( 832 )
([3]) البخاري ( 1220 )
([4]) البخاري ( 3458 )
([5]) رواه أبو داود (652) ، وصححه الألباني
([6]) رواه مسلم (1096)
([7]) رواه مسلم (1134)
([8]) رواه البخاري (4520)
([9]) رواه البخاري (1648)
([10]) فتح الباري 3/531
([11]) أبو داود ( 1987 ) ، وحسنه الألباني
([12]) النسائي في الكبرى ( 10100 ) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1783)
([13]) مسلم ( 302 )
([14]) الطبراني في "المعجم الأوسط" (4057) ، وحسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (236)
([15]) رواه أحمد (1095) ، وقال محققو المسند : إسناده صحيح
([16]) البخاري ( 4340 )
([17]) أبو داود ( 4031 ) ، وصححه الألباني
([18]) مجموع دروس وفتاوى الحرم المكي3/367
([19]) مسلم ( 2077)
([20]) البخاري ( 5892 )
([21]) البخاري ( 5899 )
([22]) رواه أحمد ( 92 ) ، وإسناده صحيح
([23]) مجمع الزوائد ( 7709 ) ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الثلاثة، ورجال الكبير رجال الصحيح.
([24]) البخاري( 2072 )
([25]) البخاري( 1471 )
([26]) البخاري( 1474 )
([27]) مسلم ( 1041 )
======
11-
عبرة الأندلس
أ.محمد عبد الله عنان
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
سلسلة مقالات أعجبتني من مجلة (الرسالة)
عبرة الأندلس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
مجلة الرسالة العدد 93ص585 القاهرة
يوم الاثنين 12 محرم 1354هـ
الموافق 15 ابريل 1935م السنة الثالثة
ليس في تاريخ الإسلام كله صفحة أدعى إلى الشجن والأسى من تاريخ الأندلس، ففي الأندلس وحدها بادت أمة إسلامية عظيمة، ومحيت حضارة إسلامية زاهرة، ولم تبق ثمة من تلك الصفحة الباهرة سوى أطلال وذكريات دارسة.
وقد زالت دولة الإسلام في الأندلس ومحيت صفحته وأبيد أبناؤه منذ أربعة قرون، وقام فوق الأرض شعب غير الشعب، ودين غير الدين، وحضارة غير الحضارة، ولكن المأساة ما تزال حية في صدر كل مسلم يستعرض هذه الصفحة، وما زالت تثير في النفس بالغ الحسرات.
عاشت دولة الإسلام في الأندلس زهاء ثمانية قرون، ولم يكن غريباً أن تغيض في هذا القطر النائي المنعزل عن باقي الأقطار الإسلامية، بعد أن لبثت قروناً تمزق بعضها بعضاً، ولكن الغريب هو انها استطاعت رغم جراحها الدامية أن تصمد للعدو الخالد المتربص بها مدى قرون.
على أن تاريخ الأندلس نفسه يقدم إلينا سر هذا الفناء البطيء الذي سرى إلى الدولة الإسلامية منذ قيامها، سنحاول أن نستعرض في هذه اللمحة السريعة بعض العلل الجوهرية التي أصابت المجتمع الإسلامي في الأندلس منذ تكوينه، وغدت بمضي الزمن داء ذريعاً يقضم أسسه ويقوض دعائمه، وما زالت به حتى استنفدت قواه وحملته إلى هاوية الانحلال والعدم.
كان فتح العرب لأسبانيا فاتحة عصر جديد وبدء تطور عظيم في حياتها العامة وفي نظمها الاجتماعية.
ومع أن العرب شغلوا حيناً بتوطيد الفتح الجديد ودفع حدوده، فأنهم استطاعوا في أعوام قلائل أن يقمعوا عناصر الشر والفوضى وأن ينظموا إدارة البلاد المفتوحة، وأن يبثوا في الجزيرة روحاً جديداً من الأمل والحياة.
وقد قضى الفتح على سلطان الطبقات الممتازة، وتنفس الشعب نسيم الحرية، وفرض المسلمون الضرائب بالمساواة والعدل بعد أن كان يفرضها حكم الهوى والجشع، وأمن الناس على حياتهم وحرياتهم وأموالهم، وترك الفاتحون لرعاياهم الجدد حق أتباع قوانينهم وتقاليدهم، والخضوع لقضائهم. أما في شأن الدين وحرية العقائد والضمائر فقد كانت السياسة الإسلامية مثلاً أعلى للتسامح، فلم يظلم أحد أو يرهق بسبب الدين والاعتقاد، وكانت تأدية الجزية هي كل ما يفرض على الذميين من النصارى واليهود لقاء الاحتفاظ بدينهم وحرية شعائرهم، ومن دخل الإسلام سقطت عنه الجزية وأصبح كالمسلم سواء بسواء في جميع الحقوق والواجبات. وفي ذلك يقول العلامة دوزي: (لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي مما يدعو إلى الكثير من الشكوى بالنسبة لما كانت عليه من قبل. أضف إلى ذلك أن العرب كانوا يتصفون بكثير من التسامح، فلم يرهقوا أحد في شئون الدين. . . ولم يغمط النصارى للعرب هذا الفضل، بل حمدوا للفاتحين تسامحهم وعدلهم وآثروا حكمهم على حكم الجرمان والفرج) ثم يقول دوزي عن آثار الفتح الاجتماعية: (كان الفتح العربي من بعض الوجوه نعمة لأسبانيا، فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعاينها البلاد منذ قرون. . .).
غير أن هذه الدولة الجديدة التي بعثها الإسلام في أسبانيا، كانت تحمل منذ البداية جرثومة الخلاف والخطر، وكان المجتمع الجديد، الذي جمع الإسلام شمله ومزج بين عناصره يضطرم بمختلف الأهواء والنزعات، وتمزقه فوارق الجنس والعصبية. كانت القبائل العربية ما تزال تضطرم بمنافساتها القديمة الخالدة، وكان البربر الذين يتألف منهم معظم الجيش يبغضون قادتهم ورؤساءهم من العرب، وينقمون عليهم استئثارهم بالسلطة والمغانم الكبيرة، وكثيراً ما رفعوا لواء العصيان والثورة. وكان المسلمون الأسبان، - وهم المولدون أو البلديون - محدثون في الإسلام يشعرون دائماً بأنه، رغم إسلامهم أحط من الوجهة الاجتماعية من سادتهم العرب. ذلك أن العرب، رغم كون الإسلام، يسوي بين جميع المسلمين في الحقوق والواجبات ويمحو كل فوارق الجنس والطبقات، كانوا يشكون في ولاء المسلمين الجدد، ويضنون عليهم بمناصب الثقة والنفوذ، هذا إلى أن العربي في الأقطار القاصية التي افتتحها بالسيف لم يستطع أن يتنازل عن كبرياء الجنس التي كانت دائماً من خواص طبيعته، فكان مثل الإنكليزي السكسوني يعد نفسه أشرف الخليقة. على أن الخلاف بين العرب أنفسهم كان أخطر ما في المجتمع الجديد من عوامل التفكك والانحلال؛ فقد كانت عصبية القبائل والبطون ما تزال حية في الصدور، وكان التنافس بين الزعماء والقادة يمزق الصفوف ويجعلها شيعاً وأحزاباً، وكانت عوامل الغيرة والحسد تعمل عملها في نفوس القبائل والبطون المختلفة. وأشد ما كانت تستعر نار الخلاف والتنافس بين اليمنية والمضرية، وذلك لأسباب عديدة ترجع إلى ما قبل الإسلام، منها أن الرياسة كانت لعصور طويلة قبل الإسلام في حمير وتبًع أعظم القبائل اليمنية، وكانت لهم دول ومنعة وحضارة زاهرة، بينما كانت مضر بدواً خشنين يخضعون لحمير ويؤدون لهم الجزية؛ وكان بينهما خصومات وحروب مستعرة طويلة الأمد؛ ولنا في (أيام) العرب ووقائعها المشهورة أمثلة رائعة من هذا النضال. قال ابن خلدون (واستمرت الرياسة والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآماداً بما كانت صبغتها لهم من قبل، وأحياء مصر وربيعة تبعاً لهم - فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر، وبالشام لغسان في بني جفنة ويثرب، وكذلك في الأوس والخزرج، وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ضواعن بادية، وأحياء ناجعة، وكانت في بعضهم رياسة بدوية، وراجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء. ثم نبضت عروق الملك وظهرت قريش على مكة ونواحي الحجاز؛ فاستحالت صبغة الملك اليهم، وعادت الدول لمضر إلى بينهم، واختصت كرامة الملك بالنبوة منهم، فكانت فيهم الدولة الإسلامية كلها إلا بعضاً من دولها، قام بها العجم اقتداء بالملة وتمهيداً للدعوة). وهكذا أسفر، النضال لظهور الإسلام عن تحول في الرياسة، وانقلبت الآية فأصبحت المضرية تعمل على الاحتفاظ برياستها، واليمنية تجاهد في انتزاعها منها. وكانت مسألة اللغة أيضاً من أسباب ذلك الخلاف. ذلك أن لسان الحمير كان أصل اللغة العربية التي اعتنقتها مضر، وأسبغت عليها آيات باهر من الفصاحة والبيان، ونزل بها القرآن الكريم على النبي القرشي المضري، فكانت اللغة من مفاخر مضر تغار عليها، وتحافظ على سلامتها ونقائها، بينما فسدت لهجات القبائل الأخرى بالاختلاط وضعف بيانها ، أضف إلى هذا وذاك ما كان بين الفريقين من تباين شديد في الطبائع والخلال مما كان يذكي بينهما أسباب التنافس والتباعد، وقد كان الإسلام مدى حين عاملاً قوياً في جمع الكلمة، ولكن العصر الأول ما كاد ينقضي حتى هبت كوامن الخصومة والنضال من مرقدها وعادت تعصف بوحدة المجتمع الإسلامي، وكان هذا الخلاف أخطر وأشد في الأقطار القاصية التي افتتحها الإسلام بالسيف، ففتحت أمام القبائل والأجناس المختلفة التي تعمل تحت لوائه مجالاً واسعاً للتنافس والتطاحن؛ وكان هذا هو بالأخص شأن المجتمع الإسلامي المضطرب الذي قام بأسبانيا.
وكان البربر الذين اشتركوا في فتح الأندلس واستعماره عنصراً خالداً في إذكاء هذا الخلاف؛ فكانت هذه المعركة المزدوجة: العرب فيما بين أنفسهم، ثم العرب والبربر، هي قوام المجتمع الأندلسي.
كان هذا الخلاف يقضم أسس المجتمع الأندلسي الفتي، ولم يمضي على قيامه أربعون عاماً حتى تحولت الأندلس إلى بركان مضطرم من الحروب الأهلية؛ واستمرت هذه المعارك الداخلية زهاء قرن ونصف، ولم يقف تيارها قيام دولة أموية جديدة، ولم تتخللها في ظل هذه الدولة سوى فترة يسيرة من السكينة والتوطد، منذ الناصر إلى المنصور. بيد أن خطراً جديداً كان يتربص بهذه الدولة الاسلامية التي يمزقها الخلاف الداخلي ، وهو خطر المملكة النصرانية الأسبانية، التي نشأت صغيرة متواضعة ونمت بسرعة مدهشة، وأخذت تنافس المملكة الإسلامية، وتتحين فرص الإيقاع بها، ولم تفطن الأندلس إلى هذا الخطر الداهم؛ وما كاد صرح الدولة الأموية ينهار، حتى وثب المتغلبون على أشلاء الأندلس يقتسمونها، وقامت دويلات الطوائف في المقاطعات والمدن، تنافس بعضها بعضاً، وتحاول كل منها أن تنتزع ما بيد الأخرى، وألفى عدو الأندلس الخالد - أسبانيا النصرانية - فرصته السانحة، فأخذت تؤلب دويلات الطوائف بعضها على بعض؛ وملوك الطوائف يرتمون في أحضان النصارى، ويلتمس كل محالفتهم على خصمه ومنافسه. وكادت الأندلس يومئذ تسير مسرعة إلى قدرها المحتوم، وانتزع النصارى كثيراً من قواعدها وأراضيها، لولا أن ظهر في الميدان عامل جديد، هو قيام الدولة المرابطية فيما وراء البحر، ومقدم أميرها يوسف بن تاشفين إلى الأندلس على رأس جنوده البربر، ملبياً داعي الغوث من جانب ملوك الطوائف؛ فهنا استطاعت الدولة الإسلامية أن تنسى خلافها مدى لحظة، وأن تلقي على النصرانية بمؤازرة المرابطين هزيمة حاسمة في سهول الزلافة؛ ثم افتتح المرابطون الأندلس، وأقاموا بها دولة جديدة، ولكن الصرح القوي الباذخ كان قد أخذ ينهار؛ ولم يدم تماسك الدولة المرباطية طويلاً، فقامت بالأندلس ملوك طوائف بربرية جديدة، وعادت الأندلس تسير إلى فنائها، وجاء الموحدون بعد المرابطين، فوصلوا دولة البربر بالأندلس مدى حين.
ثم كانت دولة بني الأحمر بغرناطة، وكانت أندلس جديدة، ولكن صغيرة لا تعدو القطر الجنوبي المسمى بهذا الاسم؛ وكانت أسبانيا النصرانية قد نمت واتسع نطاقها، واستولت على قواعد الأندلس وثغوره العظيمة: قرطبة مهد الإسلام، وطليطلة، وأشبيلية، ومرسية، وبلنسية، وسرقسطة وغيرها، وسطعت في مملكة غرناطة، مدى حين، لمحة من عظمة الأندلس الذاهبة وحضارتها الزاهرة، واجتمعت أشلاء الدولة الأندلسية العظيمة في هذه المملكة الصغيرة المتواضعة، وشغلت الممالك النصرانية الشمالية مدى حين بخلافها الداخلي. ولكن الأندلس كانت تشعر بمصيرها شعوراً قوياً، واستطاع رجال مثل ابن الخطيب وابن خلدون أن يستشفوا ببصرهم الثاقب ذلك المصير المروع الذي تسير إليه مملكة غرناطة. ذلك أن نفس الخلاف الداخلي الذي قامت عليه الدولة الإسلامية منذ البداية، واستمر يدفع الأندلس إلى مصيرها خلال القرون، كان يعصف أيضاً بهذه المملكة الصغيرة، ولم يمض بعيد حتى أخذت تمزقها المعارك الداخلية، ويثب أمراؤها بعضهم ببعض، ويستعدون خلال هذه المعركة الخطرة، العدو الرابض المتربص بهم جميعاً.
وكان مصرع الأندلس خلال إحدى هذه المعارك الداخلية، وما زالت قصة السلطان أبي الحسن، وأخيه الزغل، وابنه عبد الله أبي محمد، وانشقاق المملكة الصغيرة في أدق ساعات الخطر إلى شطرين، والتجاء أبي عبد الله إلى ملك النصارى لينصره على أبيه وعمه، ثم انتهاز النصارى هذه الفرصة لإيقاع ضربتهم الأخيرة بتلك المملكة التي مهدت لهم سبل الظفر بتمزيق بعضها بعضاً، وتلك الأمة المسلمة التي لم تعرف قط أن تواجه الخطر متحدة الكلمة والقوى - ما زالت هذه كلها عبرة العبر، وكان مصرع الأندلس هذه المرة يسيراً محققاً، فسقطت قواعدها الباقية تباعاً في يد النصارى، وسلمت غرناطة أخيراً، ووقعت النتيجة المحتومة، وطويت صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ولم يمض جيل أو اثنان حتى طويت صفحة الإسلام كله، وكل آثاره وذكرياته من أسبانيا.
وقد كانت مأساة الأندلس وما زالت عبرة بالغة ودروساً خالداً للعالم الإسلامي كله. ولكن العالم الإسلامي لم يعتبر بهذه العبرة، ولم يع هذا الدرس، وما زال التفرق يمزق أوصاله حتى التهم الغرب الجشع معظم أشلائه، وأضحى الإسلام ذليلاً في أرضه تخفق عليها أعلام النصرانية.
فإنى يسير الإسلام؟ ومتى يدرك العالم الإسلامي قوة الاتحاد؟
محمد عبد الله عنان المحامي
=====================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القرآن الكريم : {المصحف كله وورد}

الرابط https://archive.org/download/sunnahandhadith/UthmanicHafs1-Ex1-Ver12-browser.zip  سورة الفاتحة     القرآن الكريم : بِسْمِ اللَ...