Translate

الجمعة، 11 مارس 2022

ج8.المغني - كتاب الحج 2 .

المغني - كتاب الحج 2 .

فصل: يستحب الدنو من البيت 
 
 
 لأنه هو المقصود فإن كان قرب البيت زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذ أحدا, وتمكن من الرمل وقف ليجمع بين الرمل والدنو من البيت وإن لم يظن ذلك وظن أنه إذا كان في حاشية الناس تمكن من الرمل, فعل وكان أولى من الدنو وإن كان لا يتمكن من الرمل أيضا أو يختلط بالنساء, فالدنو أولى ويطوف كيفما أمكنه وإذا وجد فرجة رمل فيها وإن تباعد من البيت في الطواف أجزأه ما لم يخرج من المسجد, سواء حال بينه وبين البيت حائل من قبة أو غيره أو لم يحل لأن الحائل في المسجد لا يضر, كما لو صلى في المسجد مؤتما بالإمام من وراء حائل وقد روت أم سلمة قالت: (شكوت إلى رسول الله -ﷺ- إني أشتكي, فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة قالت: فطفت ورسول الله -ﷺ- حينئذ يصلي إلى جنب البيت) متفق عليه. مسألة:


قال: [ ولا يرمل في جميع طوافه إلا هذا ] وجملة ذلك أن الرمل لا يسن في غير الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم أو طواف العمرة, فإن ترك الرمل فيها لم يقضه في الأربعة الباقية لأنها هيئة فات موضعها فسقطت كالجهر في الركعتين الأولتين, ولأن المشي هيئة في الأربعة كما أن الرمل هيئة في الثلاثة فإذا رمل في الأربعة الأخيرة, كان تاركا للهيئة في جميع طوافه كتارك الجهر في الركعتين الأولتين من العشاء إذا جهر في الآخرتين ولا يسن الرمل والاضطباع في طواف سوى ما ذكرناه لأن النبي -ﷺ- وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا في ذلك وذكر القاضي أن من ترك الرمل والاضطباع في طواف القدوم, أتى بهما في طواف الزيارة لأنهما سنة أمكن قضاؤها فتقضى كسنن الصلاة وهذا لا يصح لما ذكرنا في من تركه في الثلاثة الأول لا يقضيه في الأربعة, وكذلك من ترك الجهر في صلاة الجهر لا يقضيه في صلاة الظهر ولا يقتضي القياس أن تقضى هيئة عبادة في عبادة أخرى قال القاضي: ولو طاف فرمل واضطبع, ولم يسع بين الصفا والمروة فإذا طاف بعد ذلك للزيارة رمل في طوافه لأنه يرمل في السعي بعده, وهو تبع للطواف فلو قلنا: لا يرمل في الطواف أفضى إلى أن يكون التبع أكمل من المتبوع وهذا قول مجاهد, والشافعي وهذا لا يثبت بمثل هذا الرأي الضعيف فإن المتبوع لا تتغير هيئته تبعا لتبعه ولو كانا متلازمين لكان ترك الرمل في السعي تبعا لعدمه في الطواف أولى من الرمل في الطواف تبعا للسعي. فصل:


فإن ترك الرمل في شوط من الثلاثة الأول, أتى به في الاثنين الباقيين وإن تركه في اثنين أتى به في الثالث وإن تركه في الثلاثة سقط كذلك قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن تركه للهيئة في بعض محلها لا يسقطها في بقية محلها, كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأولتين لا يسقطه في الثانية. مسألة:


قال: [ وليس على أهل مكة رمل ] وهذا قول ابن عباس وابن عمر, رحمة الله عليهما وكان ابن عمر إذا أحرم من مكة لم يرمل وهذا لأن الرمل إنما شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة لأهل البلد وهذا المعنى معدوم في أهل البلد والحكم في من أحرم من مكة حكم أهل مكة لما ذكرنا عن ابن عمر, ولأنه أحرم من مكة أشبه أهل البلد والمتمتع إذا أحرم بالحج من مكة ثم عاد, وقلنا: يشرع في حقه طواف القدوم لم يرمل فيه قال أحمد: ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة. مسألة:


قال: [ ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه ] إنما كان كذلك لأن الرمل هيئة, فلا يجب بتركه إعادة ولا شيء كهيئات الصلاة, وكالاضطباع في الطواف ولو تركه عمدا لم يلزمه شيء أيضا وهذا قول عامة الفقهاء إلا ما حكي عن الحسن, والثوري وعبد الملك بن الماجشون أن عليه دما لأنه نسك وقد جاء في حديث عن النبي -ﷺ-: (من ترك نسكا, فعليه دم) ولنا أنه هيئة غير واجبة فلم يجب بتركها شيء, كالاضطباع والخبر إنما يصح عن ابن عباس وقد قال ابن عباس: من ترك الرمل, فلا شيء عليه ثم هو مخصوص بما ذكرنا ولأن طواف القدوم لا يجب بتركه شيء فترك صفة فيه أولى أن لا يجب بها لأن ذلك لا يزيد على تركه. مسألة:


قال: [ ويكون طاهرا في ثياب طاهرة ] يعني في الطواف وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد وهو قول مالك, والشافعي وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطا فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة فإن خرج إلى بلده, جبره بدم وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة وعنه في من طاف للزيارة وهو ناس للطهارة: لا شيء عليه وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك شرطا واختلف أصحابه, فقال بعضهم: هو واجب وقال بعضهم: هو سنة لأن الطواف ركن للحج فلم يشترط له الطهارة كالوقوف ولنا ما روى ابن عباس أن النبي -ﷺ- قال: (الطواف بالبيت صلاة, إلا أنكم تتكلمون فيه) رواه الترمذي والأثرم وعن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله -ﷺ- قبل حجة الوداع يوم النحر, يؤذن: "لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة والستارة فيها شرطا, كالصلاة وعكس ذلك الوقوف. فصل:


ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف وبذلك قال عطاء ومجاهد والثوري, وابن المبارك والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه يكره وروي ذلك عن عروة والحسن ومالك ولنا, أن عائشة روت أن النبي -ﷺ- (كان يقول في طوافه: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}) وكان عمر وعبد الرحمن بن عوف يقولان ذلك في الطواف وهو قرآن, ولأن الطواف صلاة ولا تكره القراءة في الصلاة قال ابن المبارك: ليس شيء أفضل من قراءة القرآن ويستحب الدعاء في الطواف والإكثار من ذكر الله تعالى لأن ذلك مستحب في جميع الأحوال, ففي حال تلبسه بهذه العبادة أولى ويستحب أن يدع الحديث إلا ذكر الله تعالى أو قراءة القرآن, أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ما لا بد منه لقول النبي -ﷺ-: (الطواف بالبيت صلاة, فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير) ولا بأس بالشرب في الطواف لأن النبي -ﷺ- شرب في الطواف رواه ابن المنذر وقال: لا أعلم أحدا منع منه. فصل:


إذا شك في الطهارة وهو في الطواف, لم يصح طوافه ذلك لأنه شك في شرط العبادة قبل الفراغ منها فأشبه ما لو شك في الطهارة في الصلاة وهو فيها وإن شك بعد الفراغ منه لم يلزمه شيء لأن الشك في شرط العبادة بعد فراغها لا يؤثر فيها وإن شك في عدد الطواف, بنى على اليقين قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك ولأنها عبادة فمتى شك فيها وهو فيها بنى على اليقين كالصلاة وإن أخبره ثقة عن عدد طوافه رجع إليه إذا كان عدلا وإن شك في ذلك بعد فراغه من الطواف, لم يلتفت إليه كما لو شك في عدد الركعات بعد فراغ الصلاة قال أحمد: إذا كان رجلان يطوفان فاختلفا في الطواف, بنيا على اليقين وهذا محمول على أنهما شكا فأما إن كان أحدهما تيقن حال نفسه لم يلتفت إلى قول غيره. فصل:


وإذا فرغ المتمتع, ثم علم أنه كان على غير طهارة في أحد الطوافين لا بعينه بنى الأمر على الأشد, وهو أنه كان محدثا في طواف العمرة فلم يصح ولم يحل منها, فيلزمه دم للحلق ويكون قد أدخل الحج على العمرة فيصير قارنا, ويجزئه الطواف للحج عن النسكين ولو قدرناه من الحج لزمه إعادة الطواف ويلزمه إعادة السعي على التقديرين لأنه وجد بعد طواف غير معتد به وإن كان وطئ بعد حله من العمرة, حكمنا بأنه أدخل حجا على عمرة فأفسده فلا تصح, ويلغو ما فعله من أفعال الحج ويتحلل بالطواف الذي قصده للحج من عمرته الفاسدة وعليه دم للحلق, ودم للوطء في عمرته ولا يحصل له حج ولا عمرة ولو قدرناه من الحج لم يلزمه أكثر من إعادة الطواف والسعي, ويحصل له الحج والعمرة. مسألة:


قال: [ ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني ] الركن اليماني قبلة أهل اليمن ويلي الركن الذي فيه الحجر الأسود, وهو آخر ما يمر عليه من الأركان في طوافه وذلك أنه يبدأ بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان فيستلمه ويقبله, ثم يأخذ على يمين نفسه ويجعل البيت على يساره فإذا انتهى إلى الركن الثاني, وهو العراقي لم يستلمه فإذا مر بالثالث, وهو الشامي لم يستلمه أيضا وهذان الركنان يليان الحجر, فإذا وصل إلى الرابع وهو الركن اليماني استلمه قال الخرقي: "ويقبله" والصحيح عن أحمد أنه لا يقبله وهو قول أكثر أهل العلم وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يستلمه قال ابن عبد البر: جائز عند أهل العلم أن يستلم الركن اليماني, والركن الأسود لا يختلفون في شيء من ذلك وإنما الذي فرقوا به بينهما التقبيل, فرأوا تقبيل الأسود ولم يروا تقبيل اليماني وأما استلامهما فأمر مجمع عليه قال: وقد روى مجاهد, عن ابن عباس قال: (رأيت رسول الله -ﷺ- إذا استلم الركن قبله ووضع خده الأيمن عليه) قال: وهذا لا يصح وإنما يعرف التقبيل في الحجر الأسود وحده وقد روى ابن عمر (أن رسول الله -ﷺ- كان لا يستلم إلا الحجر, والركن اليماني) وقال ابن عمر: ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحجر منذ رأيت رسول الله -ﷺ- يستلمهما في شدة, ولا رخاء رواهما مسلم ولأن الركن اليماني مبني على قواعد إبراهيم عليه السلام فسن استلامه, كالذي فيه الحجر وأما تقبيله فلم يصح عن النبي -ﷺ- فلا يسن وأما الركنان اللذان يليان الحجر فلا يسن استلامهما في قول أكثر أهل العلم وروي عن معاوية وجابر, وابن الزبير والحسن والحسين, وأنس وعروة استلامهما وقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا ولنا, قول ابن عمر: إن رسول الله -ﷺ- (كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني) وقال: ما أراه - يعني النبي -ﷺ- لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم, ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك وروي عن ابن عباس أن معاوية طاف فجعل يستلم الأركان كلها, فقال له ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن النبي -ﷺ- يستلمهما؟ فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجورا فقال ابن عباس: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فقال معاوية: صدقت ولأنهما لم يتما على قواعد إبراهيم فلم يسن استلامهما, كالحائط الذي يلي الحجر. فصل:


ويستلم الركنين الأسود واليماني في كل طوافه لأن ابن عمر قال: (كان رسول الله -ﷺ- لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوافه) قال نافع: وكان ابن عمر يفعله رواه أبو داود وإن لم يتمكن من تقبيل الحجر استلمه, وقبل يده وممن رأى تقبيل اليد عند استلامه ابن عمر وجابر وأبو هريرة, وأبو سعيد وابن عباس وسعيد بن جبير, وعطاء وعروة وأيوب, والثوري والشافعي وإسحاق وقال مالك: يضع يده على فيه من غير تقبيل وروي أيضا عن القاسم بن محمد ولنا (أن النبي -ﷺ- استلمه, وقبل يده) أخرجه مسلم وفعله أصحاب النبي -ﷺ- وتبعهم أهل العلم على ذلك فلا يعتد بمن خالفهم وإن كان في يده شيء يمكن أن يستلم الحجر به استلمه وقبله لما روي عن ابن عباس, قال: (رأيت رسول الله -ﷺ- يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن) رواه مسلم فإن لم يمكنه استلامه, أشار إليه وكبر لما روى البخاري بإسناده عن ابن عباس قال: (طاف النبي -ﷺ- على بعير, كلما أتى الركن أشار إليه وكبر). فصل:


ويكبر كلما أتى الحجر أو حاذاه لما رويناه, ويقول بين الركنين: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} لما روى الإمام أحمد في المناسك عن عبد الله بن السائب أنه سمع (النبي -ﷺ- يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}) وعن أبي هريرة (أن النبي -ﷺ- قال: وكل به - يعني الركن اليماني - سبعون ألف ملك, فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} قالوا: آمين) وعن ابن عباس أنه كان إذا جاء الركن اليماني, قال: اللهم قنعني بما رزقتني واخلف لي على كل غائبة بخير ويستحب أن يقول: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا, وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم واعف عما تعلم, وأنت الأعز الأكرم وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: رب قني شح نفسي وعن عروة قال: كان أصحاب النبي -ﷺ- يقولون: لا إله إلا أنت, وأنت تحيي بعد ما أمت ومهما أتى به من الدعاء والذكر فحسن قالت عائشة: قال رسول الله -ﷺ-: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار, لإقامة ذكر الله) رواه الأثرم وابن المنذر. مسألة:


قال: [ ويكون الحجر داخلا في طوافه ؛ لأن الحجر من البيت ] إنما كان كذلك لأن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت جميعه ، بقوله : {وليطوفوا بالبيت العتيق} . والحجر منه ، فمن لم يطف به ، لم يعتد بطوافه . وبهذا قال عطاء ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر . وقال أصحاب الرأي : إن كان بمكة ، قضى ما بقي ، وإن رجع إلى الكوفة ، فعليه دم . ونحوه قال الحسن . ولنا ، أنه من البيت ، بدليل ما روت عائشة ، قالت : (سألت رسول الله ﷺ عن الحجر ، فقال : هو من البيت) . وعنها ، قالت : قال رسول الله ﷺ : (إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك ، أعدت ما تركوا منها ، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوا ، فهلمي لأريك ما تركوا منها . فأراها قريبا من سبعة أذرع) رواهما مسلم . وعنها رضي الله عنه قالت : (قلت يا رسول الله ، إني نذرت أن أصلي في البيت . قال : صلي في الحجر ، فإن الحجر من البيت . وفي لفظ ، قالت : كنت أحب أن أدخل البيت ، فأصلي فيه ، فأخذ رسول الله ﷺ بيدي ، فأدخلني الحجر ، وقال : صلي في الحجر إن أردت دخول البيت ، فإنما هو قطعة من البيت) قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . فمن ترك الطواف بالحجر لم يطف بجميع البيت ، فلم يصح ، كما لو ترك الطواف ببعض البناء ، ولأن النبي ﷺ طاف من وراء الحجر ، وقد قال عليه السلام : (لتأخذوا عني مناسككم) . فصل:


ولو طاف على جدار الحجر ، وشاذروان الكعبة ، وهو ما فضل من حائطها ، لم يجز ؛ لأن ذلك من البيت ، فإذا لم يطف به ، فلم يطف بكل البيت ؛ ولأن النبي ﷺ طاف من وراء ذلك . فصل:


ولو نكس الطواف فجعل البيت على يمينه, لم يجزئه وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك هيئة فلم تمنع الإجزاء, كما لو ترك الرمل والاضطباع ولنا (أن النبي -ﷺ- جعل البيت في الطواف على يساره وقال عليه السلام: لتأخذوا عني مناسككم) ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكان الترتيب فيها واجبا كالصلاة, وما قاسوا عليه مخالف لما ذكرنا كما اختلف حكم هيئة الصلاة وترتيبها. مسألة:


قال: [ ويصلي ركعتين خلف المقام ] وجملة ذلك أنه يسن للطائف أن يصلي بعد فراغه ركعتين ويستحب أن يركعهما خلف المقام لقوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ويستحب أن يقرأ فيهما {قل يا أيها الكافرون} في الأولى {قل هو الله أحد} في الثانية, فإن جابرا روى في (صفة حجة النبي -ﷺ- قال: حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا, ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت) قال محمد بن علي: ولا أعلمه إلا ذكره عن النبي -ﷺ-: كان يقرأ في الركعتين {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} وحيث ركعهما ومهما قرأ فيهما, جاز فإن عمر ركعهما بذي طوى وروي (أن رسول الله -ﷺ- قال لأم سلمة: إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت) ولا بأس أن يصليهما إلى غير سترة, ويمر بين يديه الطائفون من الرجال والنساء فإن (النبي -ﷺ- صلاهما والطواف بين يديه ليس بينهما شيء) وكان ابن الزبير يصلي والطواف بين يديه, فتمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى ترفع رجلها ثم يسجد وكذلك سائر الصلوات في مكة, لا يعتبر لها سترة وقد ذكرنا ذلك. فصل:


وركعتا الطواف سنة مؤكدة غير واجبة وبه قال مالك وللشافعي قولان أحدهما أنهما واجبتان لأنهما تابعتان للطواف فكانتا واجبتين, كالسعي ولنا قوله عليه السلام: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد من حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة) وهذه ليست منها (ولما سأل الأعرابي النبي -ﷺ- عن الفرائض, ذكر الصلوات الخمس قال: فهل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) ولأنها صلاة لم تشرع لها جماعة, فلم تكن واجبة كسائر النوافل والسعي ما وجب لكونه تابعا, ولا هو مشروع مع كل طواف ولو طاف الحاج طوافا كثيرا لم يجب عليه إلا سعي واحد فإذا أتى به مع طواف القدوم, لم يأت به بعد ذلك بخلاف الركعتين فإنهما يشرعان عقيب كل طواف. فصل:


وإذا صلى المكتوبة بعد طوافه, أجزأته عن ركعتي الطواف روي نحو ذلك عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد, والحسن وسعيد بن جبير وإسحاق وعن أحمد أنه يصلي ركعتي الطواف بعد المكتوبة قال أبو بكر عبد العزيز: هو أقيس وبه قال الزهري, ومالك وأصحاب الرأي لأنه سنة فلم تجز عنها المكتوبة, كركعتي الفجر ولنا أنهما ركعتان شرعتا للنسك فأجزأت عنهما المكتوبة, كركعتي الإحرام. فصل:


ولا بأس أن يجمع بين الأسابيع فإذا فرغ منها ركع لكل أسبوع ركعتين فعل ذلك عائشة, والمسور بن مخرمة وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير, وإسحاق وكرهه ابن عمر والحسن والزهري, ومالك وأبو حنيفة لأن النبي -ﷺ- لم يفعله ولأن تأخير الركعتين عن طوافهما يخل بالموالاة بينهما ولنا, أن الطواف يجري مجرى الصلاة يجوز جمعها ويؤخر ما بينهما فيصليها بعدها, كذلك ها هنا وكون النبي -ﷺ- لم يفعله لا يوجب كراهة فإن النبي -ﷺ- لم يطف أسبوعين ولا ثلاثة, وذلك غير مكروه بالاتفاق والموالاة غير معتبرة بين الطواف والركعتين بدليل أن عمر صلاهما بذي طوى, وأخرت أم سلمة ركعتي طوافها حين طافت راكبة بأمر رسول الله -ﷺ- وأخر عمر بن عبد العزيز ركوع الطواف حتى طلعت الشمس وإن ركع لكل أسبوع عقيبه كان أولى وفيه اقتداء بالنبي -ﷺ- وخروج من الخلاف فصل:


وإذا فرغ من الركوع, وأراد الخروج إلى الصفا استحب أن يعود فيستلم الحجر نص عليه أحمد لأن النبي -ﷺ- فعل ذلك ذكره جابر في صفة حج النبي -ﷺ- وكان ابن عمر يفعله وبه قال النخعي ومالك, والثوري والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا. مسألة:


قال: [ ويخرج إلى الصفا من بابه فيقف عليه فيكبر الله عز وجل, ويهلله ويحمده ويصلي على النبي -ﷺ- ] وجملة ذلك أنه إذا فرغ من طوافه, وصلى ركعتين واستلم الحجر فيستحب أن يخرج إلى الصفا من بابه, فيأتي الصفا فيرقى عليه حتى يرى الكعبة ثم يستقبلها فيكبر الله عز وجل, ويهلله ويدعو بدعاء النبي -ﷺ- وما أحب من خير الدنيا والآخرة قال جابر (في صفة حج النبي -ﷺ- بعد ركعتي الطواف: ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا, فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت, فاستقبل القبلة فوحد الله وكبر وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك) وقال مثل هذا ثلاث مرات قال أحمد: ويدعو بدعاء ابن عمر ورواه عن إسماعيل, حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر, أنه كان يخرج إلى الصفا من الباب الأعظم فيقوم عليه فيكبر سبع مرات, ثلاثا ثلاثا يكبر ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه, مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ثم يدعو ثم يقول: اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك اللهم جنبني حدودك, اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك, ورسلك وعبادك الصالحين اللهم حببني إليك, وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين, اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الآخرة والأولى, واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي خطيئتي يوم الدين, اللهم قلت وقولك الحق: {ادعوني أستجب لكم} وإنك لا تخلف الميعاد اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني, حتى توفاني على الإسلام اللهم لا تقدمني إلى العذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن قال: ويدعو دعاء كثيرا, حتى إنه ليملنا وإنا لشباب وكان إذا أتى على المسعى سعى وكبر وكل ما دعا به فهو جائز. فصل:


فإن لم يرق على الصفا فلا شيء عليه قال القاضي: لكن يجب عليه أن يستوعب ما بين الصفا والمروة, فيلصق عقيبه بأسفل الصفا ثم يسعى إلى المروة فإن لم يصعد عليها, ألصق أصابع رجليه بأسفل المروة والصعود عليها هو الأولى اقتداء بفعل النبي -ﷺ- فإن ترك مما بينهما شيئا, ولو ذراعا لم يجزئه حتى يأتي به والمرأة لا يسن لها أن ترقى لئلا تزاحم الرجال, وترك ذلك أستر لها ولا ترمل في طواف ولا سعي والحكم في وجوب استيعابها ما بينهما بالمشي كحكم الرجل. مسألة:


قال: [ ثم ينحدر من الصفا, فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي فيرمل من العلم إلى العلم ثم يمشي حتى يأتي المروة, فيقف عليها ويقول كما قال على الصفا وما دعا به أجزأه, ثم ينزل ماشيا إلى العلم ثم يرمل حتى يأتي العلم يفعل ذلك سبع مرات, يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة ] هذا وصف السعي, وهو أن ينزل من الصفا فيمشي حتى يأتي العلم ومعناه يحاذي العلم وهو الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد, فإذا كان منه نحوا من ستة أذرع سعى سعيا شديدا حتى يحاذي العلم الآخر, وهو الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يترك السعي, ويمشي حتى يأتي المروة فيستقبل القبلة ويدعو بمثل دعائه على الصفا وما دعا به فجائز, وليس في الدعاء شيء مؤقت ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه ويكثر من الدعاء والذكر فيما بين ذلك قال أبو عبد الله: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة, قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وقال النبي -ﷺ-: (إنما جعل رمي الجمار, والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية, وبالرجوع سعية وحكي عن ابن جرير وبعض أصحاب الشافعي أنهم قالوا: ذهابه ورجوعه سعية وهذا غلط لأن جابرا قال (في صفة حج النبي -ﷺ-: ثم نزل إلى المروة, حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى, حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا فلما كان آخر طوافه على المروة, قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة) وهذا يقتضي أنه آخر طوافه, ولو كان على ما ذكروه كان آخر طوافه عند الصفا في الموضع الذي بدأ منه, ولأنه في كل مرة طائف بهما فينبغي أن يحتسب بذلك مرة كما أنه إذا طاف بجميع البيت احتسب به مرة. مسألة:


قال: [ ويفتتح بالصفا, ويختتم بالمروة ] وجملة ذلك أن الترتيب شرط في السعي وهو أن يبدأ بالصفا فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط, فإذا صار على الصفا اعتد بما يأتي به بعد ذلك لأن النبي -ﷺ- بدأ بالصفا وقال: (نبدأ بما بدأ الله به) وهذا قول الحسن ومالك, والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وعن ابن عباس أنه قال: قال الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} فبدأ بالصفا, وقال: اتبعوا القرآن فما بدأ الله به فابدءوا به. مسألة:


قال: [ وإن نسي الرمل في بعض سعيه, فلا شيء عليه ] وجملة ذلك أن الرمل في بطن الوادي سنة مستحبة لأن النبي -ﷺ- سعى وسعى أصحابه فروت صفية بنت شيبة, عن أم ولد شيبة قالت: (رأيت رسول الله -ﷺ- يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: لا يقطع الأبطح إلا شدا) وليس ذلك بواجب, ولا شيء على تاركه فإن ابن عمر قال: إن أسعى بين الصفا والمروة فقد رأيت رسول الله -ﷺ- يسعى, وإن أمشي فقد رأيت رسول الله -ﷺ- يمشي وأنا شيخ كبير رواهما ابن ماجه, وروى هذا أبو داود ولأن ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شيء فيه فبين الصفا والمروة أولى. فصل:


واختلفت الرواية في السعي فروي عن أحمد أنه ركن, لا يتم الحج إلا به وهو قول عائشة وعروة ومالك, والشافعي لما روي عن عائشة قالت: (طاف رسول الله -ﷺ- وطاف المسلمون - يعني بين الصفا والمروة - فكانت سنة) فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة رواه مسلم وعن (حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار, قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله -ﷺ- وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه, حتى إني لأقول: إني لأرى ركبتيه وسمعته يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) رواه ابن ماجه ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركنا فيهما, كالطواف بالبيت وروي عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه دم روي ذلك عن ابن عباس وأنس, وابن الزبير وابن سيرين لقول الله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه فإن هذا رتبة المباح, وإنما ثبت سنيته بقوله: من شعائر الله وروي أن في مصحف أبي وابن مسعود: "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما" وهذا إن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن رتبة الخبر لأنهما يرويانه عن النبي -ﷺ- ولأنه نسك ذو عدد لا يتعلق بالبيت فلم يكن ركنا كالرمي وقال القاضي: هو واجب وليس بركن إذا تركه وجب عليه دم وهو مذهب الحسن, وأبي حنيفة والثوري وهو أولى لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على كونه لا يتم الحج إلا به وقول عائشة في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة وحديث بنت أبي تجراة, قال ابن المنذر: يرويه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا في حديثه ثم إنه يدل على أنه مكتوب وهو الواجب وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الإسلام, لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية لأجل صنمين كانا على الصفا والمروة كذلك قالت عائشة. فصل:


والسعي تبع للطواف لا يصح إلا أن يتقدمه طواف, فإن سعى قبله لم يصح وبذلك قال مالك والشافعي, وأصحاب الرأي وقال عطاء: يجزئه وعن أحمد: يجزئه إن كان ناسيا وإن كان عمدا لم يجزئه سعيه لأن النبي -ﷺ- لما سئل عن التقديم والتأخير في حال الجهل والنسيان قال: "لا حرج" ووجه الأول (أن النبي -ﷺ- إنما سعى بعد طوافه, وقد قال: لتأخذوا عني مناسككم) فعلى هذا إن سعى بعد طوافه ثم علم أنه طاف بغير طهارة لم يعتد بسعيه ذلك ومتى سعى المفرد والقارن بعد طواف القدوم لم يلزمهما بعد ذلك سعي, وإن لم يسعيا معه سعيا مع طواف الزيارة ولا تجب الموالاة بين الطواف والسعي قال أحمد: لا بأس أن يؤخر السعي حتى يستريح أو إلى العشي وكان عطاء والحسن لا يريان بأسا لمن طاف بالبيت أول النهار, أن يؤخر الصفا والمروة إلى العشي وفعله القاسم وسعيد بن جبير لأن الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي ففيما بينه وبين الطواف أولى. مسألة:


قال: [ فإذا فرغ من السعي, فإن كان متمتعا قصر من شعره ثم قد حل ] المتمتع الذي أحرم بالعمرة من الميقات فإذا فرغ من أفعالها, وهي الطواف والسعي قصر أو حلق وقد حل به من عمرته, إن لم يكن معه هدي لما روى ابن عمر قال: (تمتع الناس مع رسول الله -ﷺ- بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله -ﷺ- مكة قال للناس: من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه, حتى يقضي حجه ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت, وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل) متفق عليه ولا نعلم فيه خلافا ولا يستحب تأخير التحلل قال أبو داود: سمعت أحمد, سئل عمن دخل مكة معتمرا فلم يقصر حتى كان يوم التروية عليه شيء؟ قال: هذا لم يحل بعد, يقصر ثم يهل بالحج وليس عليه شيء, وبئس ما صنع. فصل:


فأما من معه هدي فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه, ويدخل الحج على العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أنه يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة, ولا يمس من أظفاره وشاربه شيئا وروي ذلك عن ابن عمر وهو قول عطاء لما روي عن معاوية قال: (قصرت من رأس رسول الله -ﷺ- بمشقص عند المروة) متفق عليه وقال مالك والشافعي في قول: له التحلل, ونحر هديه ويستحب نحره عند المروة وكلام الخرقي يحتمله لإطلاقه ولنا ما ذكرنا من حديث ابن عمر, وروت عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله -ﷺ- في حجة الوداع فأهللت بعمرة, ولم أكن سقت الهدي فقال -ﷺ-: من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته, ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) وعن (حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس, حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) متفق عليه والأحاديث فيه كثيرة وعن أحمد رواية ثالثة, في من قدم متمتعا في أشهر الحج وساق الهدي قال: إن دخلها في العشر, لم ينحر الهدي حتى ينحره يوم النحر وإن قدم قبل العشر نحر الهدي وهذا يدل على أن المتمتع إذا قدم قبل العشر حل, وإن كان معه هدي وإن قدم في العشر لم يحل وهذا قول عطاء رواه حنبل في "المناسك" وقال في من لبد أو ضفر: هو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة والرواية الأولى أولى لما فيها من الحديث الصحيح الصريح, وهو أولى بالاتباع. فصل:


فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن, وسواء كان في أشهر الحج أو في غيرها لأن النبي -ﷺ- اعتمر ثلاث عمر سوى العمرة التي مع حجته بعضهن في ذي القعدة, وقيل: كلهن في ذي القعدة فكان يحل فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره من الحرم جاز لأن النبي -ﷺ- قال: "كل فجاح مكة طريق ومنحر" رواه أبو داود وابن ماجه. فصل:


وقول الخرقي: "قصر من شعره, ثم قد حل" يدل على أن المستحب في حق المتمتع عند حله من عمرته التقصير ليكون الحلق للحج قال أحمد في رواية أبي داود: ويعجبني إذا دخل متمتعا أن يقصر ليكون الحلق للحج ولم يأمر النبي -ﷺ- أصحابه إلا بالتقصير فقال في حديث جابر: (أحلوا من إحرامكم بطواف بين الصفا والمروة, وقصروا) وفي صفة حج النبي -ﷺ-: فحل الناس كلهم وقصروا وفي حديث ابن عمر أنه قال: "من لم يكن معه هدي, فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر, وليحلل" متفق عليه وإن حلق جاز لأنه أحد النسكين فجاز فيه كل واحد منهما ويدل أيضا على أنه لا يحل إلا بعد التقصير وهذا ينبني على أن التقصير نسك, وهو المشهور فلا يحل إلا به وفيه رواية أخرى أنه إطلاق من محظور, فيحل بالطواف والسعي حسب وسنذكر ذلك -إن شاء الله تعالى- فإن ترك التقصير أو الحلق وقلنا: هو نسك فعليه دم وإن وطئ قبل التقصير, فعليه دم وعمرته صحيحة وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وحكي عن الشافعي أن عمرته تفسد لأنه وطىء قبل حله من عمرته وعن عطاء, قال: يستغفر الله تعالى ولنا ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة معتمرة, وقع بها زوجها قبل أن تقصر قال: من ترك من مناسكه شيئا أو نسيه فليهرق دما قيل: إنها موسرة قال: فلتنحر ناقة ولأن التقصير ليس بركن, فلا يفسد النسك بتركه ولا بالوطء قبله كالرمي في الحج قال أحمد, في من وقع على امرأته قبل تقصيرها من عمرتها: تذبح شاة قيل: عليه أو عليها؟ قال: عليها هي وهذا محمول على أنها طاوعته فإن أكرهها فالدم عليه وإن أحرم بالحج قبل التقصير فقد أدخل الحج على العمرة, فيصير قارنا. فصل:


يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره وكذلك المرأة نص عليه وبه قال مالك وعن أحمد يجزئه البعض مبنيا على المسح في الطهارة وكذلك قال ابن حامد وقال الشافعي: يجزئه التقصير من ثلاث شعرات واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له ولنا, قول الله تعالى: {محلقين رءوسكم} وهذا عام في جميعه ولأن النبي -ﷺ- حلق جميع رأسه تفسيرا لمطلق الأمر به, فيجب الرجوع إليه ولأنه نسك تعلق بالرأس فوجب استيعابه به كالمسح فإن كان الشعر مضفورا, قصر من رءوس ضفائره كذلك قال مالك: تقصر المرأة من جميع قرونها ولا يجب التقصير من كل شعرة لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه. فصل:


وأي قدر قصر منه أجزأه لأن الأمر به مطلق فيتناول الأقل وقال أحمد: يقصر قدر الأنملة وهو قول ابن عمر والشافعي وإسحاق, وأبي ثور وهذا محمول على الاستحباب لقول ابن عمر: وبأي شيء قصر الشعر أجزأه وكذلك لو نتفه أو أزاله بنورة لأن القصد إزالته والأمر به مطلق, فيتناول ما يقع عليه الاسم ولكن السنة الحلق أو التقصير, اقتداء برسول الله -ﷺ- وأصحابه ويستحب البداية بالشق الأيمن نص عليه لما روى أنس (أن رسول الله -ﷺ- قال للحلاق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر, ثم جعل يعطيه الناس) رواه مسلم (وكان النبي -ﷺ- يعجبه التيامن في شأنه كله) متفق عليه قال أحمد: يبدأ بالشق الأيمن حتى يجاوز العظمتين وإن قصر من شعر رأسه ما نزل عن حد الرأس أو مما يحاذيه, جاز لأن المقصود التقصير وقد حصل بخلاف المسح في الوضوء فإن الواجب المسح على الرأس, وهو ما ترأس وعلا. مسألة:


قال: [ وطواف النساء وسعيهن مشي كله ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة, وليس عليهن اضطباع وذلك لأن الأصل فيهما إظهار الجلد ولا يقصد ذلك في حق النساء ولأن النساء يقصد فيهن الستر, وفي الرمل والاضطباع تعرض للتكشف. مسألة:


قال: [ ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وأجزأه ] أكثر أهل العلم يرون أن لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة وممن قال ذلك عطاء, ومالك والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي وكان الحسن يقول: إن ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف وإن ذكر بعدما حل, فلا شيء عليه ولنا قول النبي -ﷺ- لعائشة حين حاضت: (اقضي ما يقضي الحاج, غير أن لا تطوفي بالبيت) ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت فأشبهت الوقوف قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: إذا طافت المرأة بالبيت ثم حاضت, سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت وروي عن عائشة وأم سلمة, أنهما قالتا: إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت, فلتطف بالصفا والمروة رواه الأثرم والمستحب مع ذلك لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى إلا متطهرا وكذلك يستحب أن يكون طاهرا في جميع مناسكه ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة والستارة للسعي لأنه إذا لم تشترط الطهارة من الحدث, وهي آكد فغيرها أولى وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد أن الطهارة في السعي كالطهارة في الطواف ولا تعويل عليه. مسألة:


قال: [ وإن أقيمت الصلاة, أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى فإذا صلى بنى ] وجملة ذلك أنه إذا تلبس بالطواف أو بالسعي, ثم أقيمت المكتوبة فإنه يصلي مع الجماعة في قول أكثر أهل العلم, منهم ابن عمر وسالم وعطاء, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي ذلك عنهم في السعي وقال مالك: يمضي في طوافه, ولا يقطعه إلا أن يخاف أن يضر بوقت الصلاة لأن الطواف صلاة فلا يقطعه لصلاة أخرى ولنا قول النبي -ﷺ-: (إذا أقيمت الصلاة, فلا صلاة إلا المكتوبة) والطواف صلاة فيدخل تحت عموم الخبر إذا ثبت ذلك في الطواف بالبيت مع تأكده ففي السعي بين الصفا والمروة أولى, مع أنه قول ابن عمر ومن سميناه من أهل العلم ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا وإذا صلى بنى على طوافه وسعيه, في قول من سمينا من أهل العلم قال ابن المنذر: ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا الحسن فإنه قال: يستأنف وقول الجمهور أولى لأن هذا فعل مشروع في أثناء الطواف, فلم يقطعه كاليسير وكذلك الحكم في الجنازة إذا حضرت يصلي عليها, ثم يبني على طوافه لأنها تفوت بالتشاغل عنها قال أحمد: ويكون ابتداؤه من الحجر يعني أنه يبتدئ الشوط الذي قطعه من الحجر حين يشرع في البناء. فصل:


فإن ترك الموالاة لغير ما ذكرنا وطال الفصل ابتدأ الطواف, وإن لم يطل بنى ولا فرق بين ترك الموالاة عمدا أو سهوا, مثل من يترك شوطا من الطواف يحسب أنه قد أتمه وقال أصحاب الرأي في من طاف ثلاثة أشواط من طواف الزيارة, ثم رجع إلى بلده: عليه أن يعود فيطوف ما بقي ولنا أن النبي -ﷺ- والى بين طوافه, وقال: (خذوا عني مناسككم) ولأنه صلاة فيشترط له الموالاة كسائر الصلوات, أو نقول عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت لها الموالاة كالصلاة, ويرجع في طول الفصل وقصره إلى العرف من غير تحديد وقد روي عن أبي عبد الله -رحمه الله- , رواية أخرى إذا كان له عذر يشغله بنى, وإن قطعه من غير عذر أو لحاجته استقبل الطواف وقال: إذا أعيا في الطواف, لا بأس أن يستريح وقال الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله فلما أفاق أتمه قال أبو عبد الله: فإن شاء أتمه, وإن شاء استأنف وذلك لأنه قطعه لعذر فجاز البناء عليه كما لو قطعه لصلاة. فصل:


فأما السعي بين الصفا والمروة, فظاهر كلام أحمد أن الموالاة غير مشترطة فيه فإنه قال في رجل كان بين الصفا والمروة فلقيه فإذا هو يعرفه, يقف فيسلم عليه ويسائله؟ قال: نعم, أمر الصفا سهل إنما كان يكره الوقوف في الطواف بالبيت فأما بين الصفا والمروة فلا بأس وقال القاضي: تشترط الموالاة فيه, قياسا على الطواف وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد والأول أصح فإنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم تشترط له الموالاة كالرمي والحلاق وقد روى الأثرم, أن سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة, فقضت طوافها في ثلاثة أيام وكانت ضخمة وكان عطاء لا يرى بأسا أن يستريح بينهما ولا يصح قياسه على الطواف لأن الطواف يتعلق بالبيت, وهو صلاة تشترط له الطهارة والستارة فاشترطت له الموالاة بخلاف السعي. مسألة:


قال: [ وإن أحدث في بعض طوافه, تطهر وابتدأ الطواف إذا كان فرضا ] أما إذا أحدث عمدا فإنه يبتدئ الطواف لأن الطهارة شرط له, فإذا أحدث عمدا أبطله كالصلاة وإن سبقه الحدث, ففيه روايتان: إحداهما يبتدئ أيضا وهو قول الحسن ومالك, قياسا على الصلاة والرواية الثانية يتوضأ ويبني وبها قال الشافعي, وإسحاق قال حنبل عن أحمد في من طاف ثلاثة أشواط أو أكثر: يتوضأ فإن شاء بنى وإن شاء استأنف قال أبو عبد الله: يبني إذا لم يحدث حدثا إلا الوضوء, فإن عمل عملا غير ذلك استقبل الطواف وذلك لأن الموالاة تسقط عند العذر في إحدى الروايتين وهذا معذور, فجاز البناء وإن اشتغل بغير الوضوء فقد ترك الموالاة لغير عذر, فلزمه الابتداء إذا كان الطواف فرضا فأما المسنون فلا يجب إعادته, كالصلاة المسنونة إذا بطلت. مسألة:


قال: [ ومن طاف وسعى محمولا لعلة أجزأه ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر فإن ابن عباس روى (أن النبي -ﷺ- طاف في حجة الوداع على بعير, يستلم الركن بمحجن) وعن أم سلمة قالت: (شكوت إلى رسول الله -ﷺ- إني أشتكي فقال: طوفي من وراء الناس, وأنت راكبة) متفق عليهما وقال جابر: (طاف النبي -ﷺ- على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة, ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه, فإن الناس غشوه) والمحمول كالراكب فيما ذكرناه. فصل:


فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ وهو إحدى الروايات عن أحمد لأن النبي -ﷺ- (قال: الطواف بالبيت صلاة) ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر, كالصلاة والثانية يجزئه ويجبره بدم وهو قول مالك وبه قال أبو حنيفة, إلا أنه قال: يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا, ودفع قبل غروب الشمس والثالثة يجزئه ولا شيء عليه اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي, وابن المنذر لأن النبي -ﷺ- طاف راكبا قال ابن المنذر: لا قول لأحد مع فعل النبي -ﷺ- ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقا فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل ولا خلاف في أن الطواف راجلا أفضل لأن أصحاب النبي -ﷺ- طافوا مشيا, والنبي -ﷺ- في غير حجة الوداع طاف مشيا وفي قول أم سلمة: (شكوت إلى النبي -ﷺ- إني أشتكي فقال: طوفي من وراء الناس, وأنت راكبة) دليل على أن الطواف إنما يكون مشيا وإنما طاف النبي -ﷺ- راكبا لعذر فإن ابن عباس روى (أن رسول الله -ﷺ- كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت, وكان رسول الله -ﷺ- لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب) رواه مسلم وكذلك في حديث جابر فإن الناس غشوه وروي عن ابن عباس (أن رسول الله -ﷺ- طاف راكبا لشكاة به) وبهذا يعتذر من منع الطواف راكبا عن طواف النبي -ﷺ- والحديث الأول أثبت فعلى هذا يكون كثرة الناس, وشدة الزحام عذرا ويحتمل أن يكون النبي -ﷺ- قصد تعليم الناس مناسكهم فلم يتمكن منه إلا بالركوب والله أعلم. فصل:


إذا طاف راكبا, أو محمولا فلا رمل عليه وقال القاضي: يخب به بعيره والأول أصح لأن النبي -ﷺ- لم يفعله ولا أمر به, ولأن معنى الرمل لا يتحقق فيه. فصل:


فأما السعي راكبا فيجزئه لعذر ولغير عذر لأن المعنى الذي منع الطواف راكبا غير موجود فيه. مسألة:


قال: [ ومن كان مفردا أو قارنا, أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة إلا أن يكون معه هدي, فيكون على إحرامه ] أما إذا كان معه هدي فليس له أن يحل من إحرام الحج ويجعله عمرة, بغير خلاف نعلمه وقد روى ابن عمر (أن رسول الله -ﷺ- لما قدم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه, حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت, وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل, ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يجد هديا, فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) متفق عليه وأما من لا هدي معه ممن كان مفردا أو قارنا فيستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيته بالحج, وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعا, إن لم يكن وقف بعرفة وكان ابن عباس يرى أن من طاف بالبيت وسعى فقد حل, وإن لم ينو ذلك وبما ذكرناه قال الحسن ومجاهد وداود, وأكثر أهل العلم على أنه لا يجوز له ذلك لأن الحج أحد النسكين فلم يجز فسخه كالعمرة, فروى ابن ماجه بإسناده عن الحارث بن بلال المزني, عن أبيه (أنه قال: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن أتى؟ قال: لنا خاصة) وروى أيضا عن المرقع الأسدي, عن أبي ذر قال: (كان ما أذن لنا رسول الله -ﷺ- حين دخلنا مكة أن نجعلها عمرة ونحل من كل شيء, أن تلك كانت لنا خاصة رخصة من رسول الله -ﷺ- دون جميع الناس). ولنا أنه قد صح عن رسول الله -ﷺ- أنه أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا, أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي, وثبت ذلك في أحاديث كثيرة متفق عليهن بحيث يقرب من التواتر والقطع, ولم يختلف في صحة ذلك وثبوته عن النبي -ﷺ- أحد من أهل العلم علمناه وذكر أبو حفص في "شرحه" قال: سمعت أبا عبد الله بن بطة يقول: سمعت أبا بكر بن أيوب يقول: سمعت إبراهيم الحربي يقول, وسئل عن فسخ الحج فقال: قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن جميل, إلا خلة واحدة فقال: وما هي؟ قال تقول بفسخ الحج فقال أحمد: قد كنت أرى أن لك عقلا عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا جيادا كلها في فسخ الحج, أتركها لقولك وقد روى فسخ الحج ابن عمر وابن عباس وجابر, وعائشة وأحاديثهم متفق عليها ورواه غيرهم وأحاديثهم كلها صحاح قال أحمد: روي الفسخ عن النبي -ﷺ- من حديث جابر, وعائشة وأسماء والبراء, وابن عمر وسبرة الجهني وفي لفظ حديث جابر, قال: (أهللنا أصحاب رسول الله -ﷺ- بالحج خالصا وحده وليس معه عمرة فقدم النبي -ﷺ- صبح رابعة مضت من ذي الحجة, فلما قدمنا أمرنا النبي -ﷺ- أن نحل قال: حلوا, وأصيبوا من النساء قال: فبلغه عنا أنا نقول: لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس ليال أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني قال: فقام رسول الله -ﷺ- فقال: قد علمتم إني أتقاكم لله, وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون, فحلوا ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت قال: فحللنا, وسمعنا وأطعنا قال فقال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي: متعتنا هذه يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد؟ فظنه محمد بن بكر, أنه قال: للأبد) متفق عليه فأما حديثهم فقال أحمد: روى هذا الحديث الحارث بن بلال فمن الحارث بن بلال؟ يعني أنه مجهول ولم يروه إلا الدراوردي, وحديث أبي ذر رواه مرقع الأسدي فمن مرقع الأسدي شاعر من أهل الكوفة, ولم يلق أبا ذر فقيل له: أفليس قد روى الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر؟ قال: كانت متعة الحج لنا خاصة أصحاب رسول الله -ﷺ- قال: أفيقول بهذا أحد؟ المتعة في كتاب الله, وقد أجمع الناس على أنها جائزة قال الجوزجاني: مرقع الأسدي ليس بمشهور ومثل هذه الأحاديث في ضعفها وجهالة رواتها لا تقبل إذا انفردت, فكيف تقبل في رد حكم ثابت بالتواتر مع أن قول أبي ذر من رأيه وقد خالفه من هو أعلم منه, وقد شذ به عن الصحابة رضي الله عنهم فلا يلتفت إلى هذا, وقد اختلف لفظه ففي أصح الطريقين عنه قوله مخالف لكتاب الله تعالى وقول رسول الله, وإجماع المسلمين وسنن رسول الله -ﷺ- الثابتة الصحيحة فلا يحل الاحتجاج به وأما قياسهم في مقابلة قول رسول الله -ﷺ- فلا يقبل, على أن قياس الحج على العمرة في هذا لا يصح فإنه يجوز قلب الحج إلى العمرة في حق من فاته الحج ومن حصر عن عرفة, والعمرة لا تصير حجا بحال ولأن فسخ الحج إلى العمرة يصير به متمتعا فتحصل الفضيلة وفسخ العمرة إلى الحج يفوت الفضيلة, ولا يلزم من مشروعية ما يحصل به الفضيلة مشروعية تفويتها. فصل:


وإذا فسخ الحج إلى العمرة صار متمتعا حكمه حكم المتمتعين في وجوب الدم وغيره وقال القاضي: لا يجب الدم لأن من شرط وجوبه أن ينوي في ابتداء العمرة, أو في أثنائها أنه متمتع وهذه دعوى لا دليل عليها تخالف عموم الكتاب وصريح السنة الثابتة, فإن الله تعالى قال: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وفي حديث ابن عمر أن النبي -ﷺ- قال: (من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت, وبالصفا والمروة وليقصر وليحل, ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) متفق عليه ولأن وجوب الدم في المتعة للترفه بسقوط أحد السفرين, وهذا المعنى لا يختلف بالنية وعدمها فوجب أن لا يختلف وجوب الدم على أنه لو ثبت أن النية شرط, فقد وجدت فإنه ما حل حتى نوى أنه يحل ثم يحرم بالحج. مسألة:


قال: [ ومن كان متمتعا, قطع التلبية إذا وصل إلى البيت ] قال أبو عبد الله: يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن وهو معنى قول الخرقي: "إذا وصل إلى البيت" وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون, وطاوس والنخعي والثوري, والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وقال ابن عمر, وعروة والحسن: يقطعها إذا دخل الحرم وقال سعيد بن المسيب: يقطعها حين يرى عرش مكة وحكي عن مالك أنه إن أحرم من الميقات, قطع التلبية إذا وصل إلى الحرم وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت، ولنا ما روي عن ابن عباس يرفع الحديث: (كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وروى عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده عن (النبي -ﷺ- اعتمر ثلاث عمر, ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر) ولأن التلبية إجابة إلى العبادة وإشعار للإقامة عليها وإنما يتركها إذا شرع فيما ينافيها, وهو التحلل منها والتحلل يحصل بالطواف والسعي فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل, فينبغي أن يقطع التلبية كالحج إذا شرع في رمي جمرة العقبة لحصول التحلل بها وأما قبل ذلك, فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها والله تعالى أعلم. باب صفة الحج نذكر في هذا الباب صفة الحج بعد حل المتمتع من عمرته, ونبدأ بذكر حديث جابر في صفة حج النبي -ﷺ- ونقتصر منه على ما يختص بهذا الباب وقد ذكرنا بعضه مفرقا في الأبواب الماضية وهو حديث جامع صحيح, رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه, عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر, ذكر الحديث قال: (فحل الناس كلهم وقصروا, إلا النبي -ﷺ- ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى, فأهلوا بالحج وركب رسول الله -ﷺ- إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله -ﷺ- ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام, كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله -ﷺ- حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة, فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس, وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا, في بلدكم هذا ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة, وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا, ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء, فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه, فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به, كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت, وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: اللهم اشهد, اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله -ﷺ- حتى أتى الموقف, فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه فاستقبل القبلة, فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه, ودفع رسول الله -ﷺ- وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس, السكينة السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء, بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله -ﷺ- حتى طلع الفجر, فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء, حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده, ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس, وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما, فلما دفع رسول الله -ﷺ- مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله -ﷺ- يده على وجه الفضل, فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله -ﷺ- يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر, حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى, حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف, رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر, وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها, ثم ركب رسول الله -ﷺ- فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم, فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه) قال عطاء: كان منزل النبي -ﷺ- بمنى بالخيف. مسألة:


قال: [ وإذا كان يوم التروية, أهل بالحج ومضى إلى منى ] يوم التروية: اليوم الثامن من ذي الحجة سمي بذلك لأنهم كانوا يتروون من الماء فيه يعدونه ليوم عرفة وقيل: سمي بذلك لأن إبراهيم عليه السلام رأى ليلتئذ في المنام ذبح ابنه, فأصبح يروي في نفسه أهو حلم أم من الله تعالى؟ فسمي يوم التروية فلما كانت ليلة عرفة رأى ذلك أيضا فعرف أنه من الله تعالى, فسمى يوم عرفة والله أعلم. والمستحب لمن كان بمكة حلالا من المتمتعين الذين حلوا من عمرتهم أو من كان مقيما بمكة من أهلها, أو من غيرهم أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى وبهذا قال ابن عمر وابن عباس, وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وإسحاق وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل مكة: ما لكم يقدم الناس عليكم شعثا, إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج وهذا مذهب ابن الزبير وقال مالك: من كان بمكة فأحب أن يهل من المسجد لهلال ذي الحجة. ولنا قول جابر: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى, فأهلوا بالحج وفي لفظ عن جابر قال: (أمرنا النبي -ﷺ- لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى, فأهللنا من الأبطح حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر, أهللنا بالحج) رواه مسلم وعن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: رأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس ولم تهل أنت, حتى يكون يوم التروية؟ فقال عبد الله بن عمر: أما الإهلال فإني لم أر رسول الله -ﷺ- يهل حتى تنبعث به راحلته متفق عليه ولأنه ميقات للإحرام فاستوى فيه أهل مكة وغيرهم, كميقات المكان وإن أحرم قبل ذلك كان جائزا. فصل:


ومن حيث أحرم من مكة جاز لقول النبي -ﷺ- في المواقيت: (حتى أهل مكة يهلون منها) وإن أحرم خارجا منها من الحرم جاز لقول جابر: (فأهللنا من الأبطح ويستحب أن يفعل عند إحرامه هذا ما يفعله عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظيف, ويتجرد عن المخيط ويطوف سبعا ويصلي ركعتين, ثم يحرم عقيبهما) وممن استحب ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والثوري, والشافعي وإسحاق وابن المنذر ولا يسن أن يطوف بعد إحرامه قال ابن عباس: لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا بعد أن يحرموا بالحج, ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا وهذا مذهب عطاء ومالك, وإسحاق وإن طاف بعد إحرامه ثم سعى لم يجزئه عن السعي الواجب وهو قول مالك وقال الشافعي: يجزئه وفعله ابن الزبير, وأجازه القاسم بن محمد وابن المنذر لأنه سعي في الحج مرة فأجزأه, كما لو سعى بعد رجوعه من منى ولنا أن النبي -ﷺ- أمر أصحابه أن يهلوا بالحج إذا خرجوا إلى منى وقالت عائشة: خرجنا مع رسول الله -ﷺ- فطاف الذين أهلوا بعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة, ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ولو شرع لهم الطواف قبل الخروج لم يتفقوا على تركه. مسألة:


قال: [ ومضى إلى منى, فصلى بها الظهر إن أمكنه لأنه روي عن النبي -ﷺ- أنه صلى بمنى خمس صلوات ] وجملة ذلك أن المستحب أن يخرج محرما من مكة يوم التروية, فيصلي الظهر بمنى ثم يقيم حتى يصلي بها الصلوات الخمس ويبيت بها لأن النبي -ﷺ- فعل ذلك كما جاء في حديث جابر, وهذا قول سفيان ومالك والشافعي, وإسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وليس ذلك واجبا في قولهم جميعا قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وتخلفت عائشة ليلة التروية حتى ذهب ثلثا الليل, وصلى ابن الزبير بمكة. فصل:


فإن صادف يوم التروية يوم جمعة فمن أقام بمكة حتى تزول الشمس ممن تجب عليه الجمعة, لم يخرج حتى يصليها لأن الجمعة فرض والخروج إلى منى في ذلك الوقت غير فرض فأما قبل الزوال فإن شاء خرج, وإن شاء أقام حتى يصلي فقد روي أن ذلك وافق أيام عمر بن عبد العزيز فخرج إلى منى وقال عطاء: كل من أدركت يصنعونه, أدركتهم يجمع بمكة إمامهم ويخطب ومرة لا يجمع ولا يخطب فعلى هذا إذا خرج الإمام أمر بعض من تخلف أن يصلي بالناس الجمعة وقال أحمد: إذا كان والي مكة بمكة يوم الجمعة, يجمع بهم قيل له: يركب من منى فيجيء إلى مكة فيجمع بهم؟ قال: لا, إذا كان هو بعد بمكة. مسألة:


قال: [ فإذا طلعت الشمس دفع إلى عرفة فأقام بها حتى يصلي الظهر والعصر, بإقامة لكل صلاة وإن أذن فلا بأس وإن فاته مع الإمام صلى في رحله ] وجملة ذلك أن المستحب أن يدفع إلى الموقف من منى إذا طلعت الشمس يوم عرفة, فيقيم بنمرة وإن شاء بعرفة, حتى تزول الشمس ثم يخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها مناسكهم, من موضع الوقوف ووقته والدفع من عرفات ومبيتهم بمزدلفة, وأخذ الحصى لرمي الجمار لما تقدم في حديث جابر (أن النبي -ﷺ- فعل ذلك ثم يأمر بالأذان فينزل فيصلي الظهر والعصر, يجمع بينهما ويقيم لكل صلاة إقامة) وقال أبو ثور: يؤذن المؤذن إذا صعد الإمام المنبر فجلس فإذا فرغ المؤذن, قام الإمام فخطب وقيل: يؤذن في آخر خطبة الإمام وحديث جابر يدل على أنه أذن بعد فراغ النبي -ﷺ- من خطبته وكيفما فعل فحسن وقوله: "وإن أذن فلا بأس" كأنه ذهب إلى أنه مخير بين أن يؤذن للأولى أو لا يؤذن وكذا قال أحمد لأن كلا مروي عن رسول الله -ﷺ- والأذان أولى وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك: يؤذن لكل صلاة واتباع ما جاء في السنة أولى, وهو مع ذلك موافق للقياس كما في سائر المجموعات والفوائت وقول الخرقي: "فإن فاته مع الإمام صلى في رحله" يعني أن المنفرد يجمع كما يجمع مع الإمام فعله ابن عمر وبه قال عطاء, ومالك والشافعي وإسحاق, وأبو ثور وصاحبا أبي حنيفة وقال النخعي والثوري, وأبو حنيفة: لا يجمع إلا مع الإمام لأن لكل صلاة وقتا محدودا وإنما ترك ذلك في الجمع مع الإمام فإذا لم يكن إمام, رجعنا إلى الأصل ولنا أن ابن عمر كان إذا فاته الجمع بين الظهر والعصر مع الإمام بعرفة, جمع بينهما منفردا ولأن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفردا كالجمع بين العشاءين بجمع وقولهم: إنما جاز الجمع في الجماعة لا يصح لأنهم قد سلموا أن الإمام يجمع وإن كان منفردا. فصل:


والسنة تعجيل الصلاة حين تزول الشمس وأن يقصر الخطبة, ثم يروح إلى الموقف لما روى سالم أنه قال للحجاج يوم عرفة: إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة, وعجل الصلاة فقال ابن عمر: صدق رواه البخاري ولأن تطويل ذلك يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت الزوال والسنة التعجيل في ذلك فقد روى سالم, أن الحجاج أرسل إلى ابن عمر: أية ساعة كان رسول الله -ﷺ- يروح في هذا اليوم؟ فقال: إذا كان ذلك رحنا فلما أراد ابن عمر أن يروح قال: أزاغت الشمس؟ قالوا: لم تزغ فلما قالوا: قد زاغت ارتحل رواه أبو داود وقال ابن عمر: غدا رسول الله -ﷺ- من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة, حتى أتى عرفة فنزل بنمرة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله -ﷺ- مهجرا, فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة وقد ذكرنا حديث جابر في هذا قال ابن عبد البر: هذا كله لا خلاف فيه بين علماء المسلمين. فصل:


ويجوز الجمع لكل من بعرفة, من مكي وغيره قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة وكذلك من صلى مع الإمام وذكر أصحابنا أنه لا يجوز الجمع إلا لمن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخا, إلحاقا له بالقصر وليس بصحيح لأن النبي -ﷺ- جمع فجمع معه من حضره من المكيين وغيرهم ولم يأمرهم بترك الجمع, كما أمرهم بترك القصر حين قال: (أتموا فإنا سفر) ولو حرم الجمع لبينه لهم إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة, ولا يقر النبي -ﷺ- على الخطأ وقد كان عثمان يتم الصلاة لأنه اتخذ أهلا ولم يترك الجمع وروي نحو ذلك عن ابن الزبير قال ابن أبي مليكة: وكان ابن الزبير يعلمنا المناسك فذكر أنه قال: إذا أفاض فلا صلاة إلا بجمع رواه الأثرم وكان عمر بن عبد العزيز والي مكة, فخرج فجمع بين الصلاتين ولم يبلغنا عن أحد من المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة ومزدلفة بل وافق عليه من لا يرى الجمع في غيره والحق فيما أجمعوا عليه, فلا يعرج على غيره. فصل:


فأما قصر الصلاة فلا يجوز لأهل مكة وبهذا قال عطاء ومجاهد, والزهري وابن جريج والثوري ويحيى القطان, والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال القاسم بن محمد, وسالم ومالك والأوزاعي: لهم القصر لأن لهم الجمع, فكان لهم القصر كغيرهم ولنا أنهم في غير سفر بعيد فلم يجز لهم القصر كغير من في عرفة ومزدلفة, قيل لأبي عبد الله: فرجل أقام بمكة ثم خرج إلى الحج؟ قال: إن كان لا يريد أن يقيم بمكة إذا رجع صلى ثم ركعتين وذكر فعل ابن عمر قال: لأن خروجه إلى منى وعرفة ابتداء سفر فإن عزم على أن يرجع, فيقيم بمكة أتم بمنى وعرفة. مسألة:


قال: [ ثم يصير إلى موقف عرفة عند الجبل وعرفة كلها موقف, ويرفع عن بطن عرنة فإنه لا يجزئه الوقوف فيه ] يعني إذا صلى الصلاتين صار إلى الوقوف بعرفة ويستحب أن يغتسل للوقوف, كان ابن مسعود يفعله وروي عن على وبه يقول الشافعي, وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر لأنها مجمع للناس, فاستحب الاغتسال لها كالعيد والجمعة وعرفة كلها موقف فإن النبي -ﷺ- قال: (قد وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف) رواه أبو داود, وابن ماجه وعن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاري, ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو عن الإمام فقال: إني رسول رسول الله -ﷺ- إليكم يقول: (كونوا على مشاعركم, فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم) وحد عرفة من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر وليس وادي عرنة من الموقف ولا يجزئه الوقوف فيه قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من وقف به لا يجزئه وحكي عن مالك أنه يهريق دما, وحجه تام. ولنا قول النبي -ﷺ-: (كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة) رواه ابن ماجه ولأنه لم يقف بعرفة, فلم يجزئه كما لو وقف بمزدلفة والمستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة ويستقبل القبلة لما جاء في حديث جابر (أن النبي -ﷺ- جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات, وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة). فصل:


والأفضل أن يقف راكبا على بعيره, كما فعل النبي -ﷺ- فإن ذلك أعون له على الدعاء قال أحمد حين سئل عن الوقوف راكبا فقال: النبي -ﷺ- وقف على راحلته وقيل: الراجل أفضل لأنه أخف على الراحلة ويحتمل التسوية بينهما. فصل:


والوقوف ركن, لا يتم الحج إلا به إجماعا وقد روى الثوري عن بكير بن عطاء الليثي, عن عبد الرحمن بن نعم الديلي قال: (أتيت رسول الله -ﷺ- بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد, فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال: الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه) رواه أبو داود, وابن ماجه قال محمد بن يحيى: ما أروي للثوري حديثا أشرف منه. مسألة:


قال: [ فيكبر ويهلل ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس ] يستحب الإكثار من ذكر الله تعالى والدعاء يوم عرفة فإنه يوم ترجى فيه الإجابة, ولذلك أحببنا له الفطر يومئذ ليتقوى على الدعاء مع أن صومه بغير عرفة يعدل سنتين وروى ابن ماجه, في "سننه" قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (إن رسول الله -ﷺ- قال: ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة فإنه ليدنو عز وجل, ثم يباهي بكم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟) رواه مسلم ويستحب أن يدعو بالمأثور من الأدعية مثل ما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: -ﷺ- (أكثر دعاء الأنبياء قبلي, ودعائي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد, يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) وكان ابن عمر يقول: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر الله أكبر ولله الحمد, الله أكبر الله أكبر ولله الحمد لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد, اللهم اهدني بالهدى وقني بالتقوى واغفر لي في الآخرة والأولى ويرد يديه, ويسكت بقدر ما كان إنسان قارئا فاتحة الكتاب ثم يعود فيرفع يديه ويقول مثل ذلك ولم يزل يفعل مثل ذلك حتى أفاض وسئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة؟ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فقيل له: هذا ثناء وليس بدعاء فقال: أما سمعت قول الشاعر: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضه الثناء وروي أن من دعاء النبي عليه السلام (بعرفة: اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي, وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير, المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه, أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير, من خشعت لك رقبته وذل لك جسده وفاضت لك عينه, ورغم لك أنفه) وروينا عن سفيان الثوري أنه قال: سمعت أعرابيا وهو مستلق بعرفة, يقول: إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفا ومن أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق, وأمرك بي محيط أطعتك بإذنك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك, فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني, إلهي لم أحسن حتى أعطيتني ولم أسئ حتى قضيت علي, اللهم أطعتك بنعمتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك, الشرك بك فاغفر لي ما بينهما اللهم أنت أنس المؤنسين لأوليائك, وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك تشاهدهم في ضمائرهم وتطلع على سرائرهم وسري، اللهم لك مكشوف وأنا إليك ملهوف إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك, وإذا أصمت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك علما بأن أزمة الأمور بيدك, ومصدرها عن قضائك وكان إبراهيم بن إسحاق الحربي يقول: اللهم قد آويتني من ضناي وبصرتني من عماي, وأنقذتني من جهلي وجفاي أسألك ما يتم به فوزي وما أؤمل في عاجل دنياي وديني, ومأمول أجلي ومعادي ثم ما لا أبلغ أداء شكره ولا أنال إحصاءه وذكره, إلا بتوفيقك وإلهامك أن هيجت قلبي القاسي على الشخوص إلى حرمك, وقويت أركاني الضعيفة لزيارة عتيق بيتك ونقلت بدني لإشهادي مواقف حرمك, اقتداء بسنة خليلك واحتذاء على مثال رسولك واتباعا لآثار خيرتك وأنبيائك وأصفيائك, صلى الله عليهم وأدعوك في مواقف الأنبياء عليهم السلام, ومناسك السعداء ومساجد الشهداء دعاء من أتاك لرحمتك راجيا, وعن وطنه نائيا ولقضاء نسكه مؤديا ولفرائضك قاضيا, ولكتابك تاليا ولربه عز وجل داعيا ملبيا ولقلبه شاكيا, ولذنبه خاشيا ولحظه مخطئا ولرهنه مغلقا, ولنفسه ظالما وبجرمه عالما دعاء من جمت عيوبه, وكثرت ذنوبه وتصرمت أيامه واشتدت فاقته, وانقطعت مدته دعاء من ليس لذنبه سواك غافرا ولا لعيبه غيرك مصلحا, ولا لضعفه غيرك مقويا ولا لكسره غيرك جابرا ولا لمأمول خير غيرك معطيا, ولا لما يتخوف من حر ناره غيرك معتقا اللهم وقد أصبحت في بلد حرام في يوم حرام في شهر حرام, في قيام من خير الأنام أسألك أن لا تجعلني أشقى خلقك المذنبين عندك ولا أخيب الراجين لديك, ولا أحرم الآملين لرحمتك الزائرين لبيتك ولا أخسر المنقلبين من بلادك, اللهم وقد كان من تقصيري ما قد عرفت ومن توبيقي نفسي ما قد علمت ومن مظالمي ما قد أحصيت, فكم من كرب منه قد نجيت ومن غم قد جليت وهم قد فرجت, ودعاء قد استجبت وشدة قد أزلت ورخاء قد أنلت, منك النعماء وحسن القضاء ومني الجفاء, وطول الاستقصاء والتقصير عن أداء شكرك لك النعماء يا محمود, فلا يمنعنك يا محمود من إعطائي مسألتي من حاجتي إلى حيث انتهى لها سؤلي ما تعرف من تقصيري وما تعلم من ذنوبي وعيوبي, اللهم فأدعوك راغبا وأنصب لك وجهي طالبا وأضع خدي مذنبا راهبا, فتقبل دعائي وارحم ضعفي وأصلح الفساد من أمري, واقطع من الدنيا همي وحاجتي واجعل فيما عندك رغبتي اللهم واقلبني منقلب المدركين لرجائهم, المقبول دعاؤهم المفلوج حجتهم المبرور حجتهم, المغفور ذنبهم المحطوط خطاياهم الممحو سيئاتهم, المرشود أمرهم منقلب من لا يعصي لك بعده أمرا ولا يأتي من بعده مأثما, ولا يركب بعده جهلا ولا يحمل بعده وزرا منقلب من عمرت قلبه, بذكرك ولسانه بشكرك وطهرت الأدناس من بدنه, واستودعت الهدى قلبه وشرحت بالإسلام صدره وأقررت بعفوك قبل الممات عينه, وأغضضت عن المآثم بصره واستشهدت في سبيلك نفسه يا أرحم الراحمين, وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا كما تحب ربنا وترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقول الخرقي: "إلى غروب الشمس" معناه ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة فإن النبي -ﷺ- وقف بعرفة حتى غابت الشمس في حديث جابر, وفي حديث علي وأسامة (أن النبي -ﷺ- دفع حين غابت الشمس) فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح في قول جماعة الفقهاء, إلا مالكا فإنه قال: لا حج له قال ابن عبد البر: لا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك وحجته ما روى ابن عمر, أن النبي -ﷺ- قال: (من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحلل بعمرة, وعليه الحج من قابل) ولنا ما روى عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال: (أتيت رسول الله -ﷺ- بالمزدلفة, حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طي أكللت راحلتي, وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله -ﷺ-: من شهد صلاتنا هذه, ووقف معنا حتى يدفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه, وقضى تفثه) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ولأنه وقف في زمن الوقوف فأجزأه كالليل فأما خبره, فإنما خص الليل لأن الفوات يتعلق به إذا كان يوجد بعد النهار فهو آخر وقت الوقوف كما قال عليه السلام: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس, فقد أدركها ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها, ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها) وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم, منهم عطاء والثوري والشافعي, وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن تبعهم وقال ابن جريج: عليه بدنة وقال الحسن البصري: عليه هدي من الإبل ولنا, أنه واجب لا يفسد الحج بفواته فلم يوجب البدنة, كالإحرام من الميقات. فصل:


فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه وبهذا قال مالك, والشافعي وقال الكوفيون وأبو ثور: عليه دم لأنه بالدفع لزمه الدم, فلم يسقط برجوعه كما لو عاد بعد غروب الشمس ولنا أنه أتى بالواجب, وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار فلم يجب عليه دم كمن تجاوز الميقات غير محرم, ثم رجع فأحرم منه فإن لم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم لأن عليه الوقوف حال الغروب وقد فاته بخروجه, فأشبه من تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم عاد إليه ومن لم يدرك جزءا من النهار, ولا جاء عرفة حتى غابت الشمس فوقف ليلا, فلا شيء عليه وحجه تام لا نعلم فيه مخالفا لقول النبي -ﷺ-: (من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج) ولأنه لم يدرك جزءا من النهار فأشبه من منزله دون الميقات إذا أحرم منه. فصل:


وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر قال جابر: (لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع) قال أبو الزبير: فقلت له: أقال رسول الله -ﷺ- ذلك؟ قال: نعم رواه الأثرم وأما أوله فمن طلوع الفجر يوم عرفة, فمن أدرك عرفة في شيء من هذا الوقت وهو عاقل فقد تم حجه وقال مالك والشافعي: أول وقته زوال الشمس من يوم عرفة واختاره أبو حفص العكبري وحمل عليه كلام الخرقي وحكى ابن عبد البر ذلك إجماعا وظاهر كلام الخرقي ما قلناه, فإنه قال: "لو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل الإمام فعليه دم" ولنا قول النبي -ﷺ-: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع, وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه, وقضى تفثه) ولأنه من يوم عرفة فكان وقتا للوقوف كبعد الزوال, وترك الوقوف لا يمنع كونه وقتا للوقوف كبعد العشاء وإنما وقفوا في وقت الفضيلة ولم يستوعبوا جميع وقت الوقوف. فصل:


وكيفما حصل بعرفة, وهو عاقل أجزأه قائما أو جالسا أو راكبا أو نائما وإن مر بها مجتازا, فلم يعلم أنها عرفة أجزأه أيضا وبه قال مالك والشافعي, وأبو حنيفة وقال أبو ثور: لا يجزئه لأنه لا يكون واقفا إلا بإرادة ولنا عموم قوله -ﷺ-: (وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا) ولأنه حصل بعرفة في زمن الوقوف وهو عاقل, فأجزأه كما لو علم وإن وقف وهو مغمى عليه أو مجنون ولم يفق حتى خرج منها, لم يجزئه وهو قول الحسن والشافعي وأبي ثور, وإسحاق وابن المنذر وقال عطاء في المغمى عليه: يجزئه وهو قول مالك وأصحاب الرأي وقد توقف أحمد -رحمه الله- , في هذه المسألة وقال: الحسن يقول بطل حجه وعطاء يرخص فيه وذلك لأنه لا يعتبر له نية ولا طهارة ويصح من النائم, فصح من المغمى عليه كالمبيت بمزدلفة ومن نصر الأول قال: ركنا من أركان الحج فلم يصح من المغمى عليه كسائر أركانه قال ابن عقيل: والسكران كالمغمى عليه لأنه زائل العقل بغير نوم, فأشبة المغمى عليه وأما النائم فيجزئه الوقوف لأنه في حكم المستيقظ. فصل:


ولا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة, ولا استقبال ولا نية ولا نعلم في ذلك خلافا قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أدرك الوقوف بعرفة غير طاهر, مدرك للحج ولا شيء عليه وفي (قول النبي -ﷺ- لعائشة: افعلي ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت) دليل على أن الوقوف بعرفة على غير طهارة جائز ووقفت عائشة رضي الله عنها, بها حائضا بأمر النبي -ﷺ- ويستحب أن يكون طاهرا قال أحمد: يستحب له أن يشهد المناسك كلها على وضوء كان عطاء يقول: لا يقضي شيئا من المناسك إلا على وضوء . مسألة:


قال: [ فإذا دفع الإمام دفع معه إلى مزدلفة ] الإمام ها هنا الوالي الذي إليه أمر الحج من قبل الإمام ولا ينبغي للناس أن يدفعوا حتى يدفع قال أحمد: ما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام وسئل عن رجل دفع قبل الإمام بعد غروب الشمس, فقال: ما وجدت عن أحد أنه سهل فيه كلهم يشدد فيه فالمستحب أن يقف حتى يدفع الإمام ثم يسير نحو المزدلفة على سكينة ووقار لقول النبي -ﷺ- حين دفع, وقد شنق لناقته القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: (أيها الناس, السكينة السكينة) هذا في حديث جابر وروي عن ابن عباس أنه دفع مع النبي -ﷺ- يوم عرفة, فسمع النبي -ﷺ- وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: (أيها الناس, عليكم السكينة فإن البر ليس بإيضاع الإبل) رواه البخاري وقال عروة: (سئل أسامة وأنا جالس, كيف كان رسول الله -ﷺ- يسير في حجة الوداع؟ قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص) قال هشام بن عروة: والنص فوق العنق متفق عليه. مسألة:


قال: [ ويكبر في الطريق ويذكر الله تعالى ] ذكر الله تعالى يستحب في الأوقات كلها, وهو في هذا الوقت أشد تأكيدا لقول الله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} ولأنه زمن الاستشعار بطاعة الله تعالى والتلبس بعبادته والسعي إلى شعائره وتستحب التلبية وذكر قوم أنه لا يلبي ولنا, ما روى الفضل بن عباس (أن النبي -ﷺ- لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة) متفق عليه وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: شهدت ابن مسعود يوم عرفة وهو يلبي فقال له رجل كلمة فسمعته زاد في تلبيته شيئا لم أسمعه قبل ذلك قالها: لبيك عدد التراب ويستحب أن يمضي على طريق المأزمين لأنه يروى أن النبي -ﷺ- سلكها وإن سلك الطريق الأخرى, جاز. مسألة:


قال: [ ثم يصلي مع الإمام المغرب وعشاء الآخرة بإقامة لكل صلاة فإن جمع بينهما بإقامة واحدة فلا بأس ] وجملة ذلك أن السنة لمن دفع من عرفة, أن لا يصلي المغرب حتى يصل مزدلفة فيجمع بين المغرب والعشاء لا خلاف في هذا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن السنة أن يجمع الحاج بين المغرب والعشاء والأصل في ذلك أن النبي -ﷺ- جمع بينهما رواه جابر, وابن عمر وأسامة وأبو أيوب, وغيرهم وأحاديثهم صحاح ويقيم لكل صلاة إقامة لما روى أسامة بن زيد قال: (دفع رسول الله -ﷺ- من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل, فبال ثم توضأ فقلت له: الصلاة يا رسول الله قال: الصلاة أمامك فركب, فلما جاء مزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة, فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى, ولم يصل بينهما) متفق عليه وروي هذا القول عن ابن عمر وبه قال سالم والقاسم بن محمد والشافعي, وإسحاق وإن جمع بينهما بإقامة الأولى فلا بأس يروى ذلك عن ابن عمر أيضا وبه قال الثوري لما روى ابن عمر قال: (جمع رسول الله -ﷺ- بين المغرب والعشاء بجمع صلى المغرب ثلاثا, والعشاء ركعتين بإقامة واحدة) رواه مسلم وإن أذن للأولى وأقام ثم أقام للثانية, فحسن فإنه يروى في حديث جابر وهو متضمن للزيادة وهو معتبر بسائر الفوائت والمجموعات وهو قول ابن المنذر, وأبي ثور والذي اختاره الخرقي إقامة لكل صلاة من غير أذان قال ابن المنذر: وهو آخر قولي أحمد لأنه رواية أسامة وهو أعلم بحال النبي -ﷺ- فإنه كان رديفه وقد اتفق هو وجابر في حديثهما على إقامة لكل صلاة, واتفق أسامة وابن عمر على الصلاة بغير أذان مع أن حديث ابن عمر المتفق عليه قال: بإقامة قال وإنما لم يؤذن للأولى ها هنا لأنها في غير وقتها بخلاف المجموعتين بعرفة وقال مالك: يجمع بينهما بأذان وإقامتين وروي ذلك عن عمر, وابن عمر وابن مسعود واتباع السنة أولى قال ابن عبد البر: لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا بوجه من الوجوه وقال قوم: إنما أمر عمر بالتأذين للثانية لأن الناس كانوا قد تفرقوا لعشائهم, فأذن لجمعهم وكذلك ابن مسعود فإنه يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين. مسألة:


قال: [ وإن فاته مع الإمام, صلى وحده ] معناه أنه يجمع منفردا كما يجمع مع الإمام ولا خلاف في هذا لأن الثانية منهما تصلى في وقتها بخلاف العصر مع الظهر وكذلك إن فرق بينهما, لم يبطل الجمع كذلك ولما روى أسامة قال: ثم أقيمت الصلاة, فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء, فصلاها وروى البخاري عن عبد الرحمن بن يزيد قال: حج عبد الله, فأتينا إلى مزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك فأمر رجلا, فأذن وأقام ثم صلى المغرب ثم صلى بعدها ركعتين, ثم دعا بعشائه ثم أمر - أرى - فأذن وأقام, ثم صلى العشاء ثم قال: رأيت رسول الله -ﷺ- يفعله ولأن الجمع متى كان في وقت الثانية لم يضر التفريق شيئا. فصل:


والسنة التعجيل بالصلاتين وأن يصلي قبل حط الرحال لما ذكرنا من حديث أسامة, وفي بعض ألفاظه (أن النبي -ﷺ- أقام للمغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة, فصلى ثم حلوا) رواه مسلم والسنة أن لا تطوع بينهما قال ابن المنذر: لا أعلمهم يختلفون في ذلك وقد روي عن ابن مسعود أنه تطوع بينهما ورواه عن النبي -ﷺ- ولنا حديث أسامة وابن عمر (أن النبي -ﷺ- لم يصل بينهما) وحديثهما أصح, وقد تقدم في ترك التفريق بينهما. فصل:


فإن صلى المغرب قبل أن يأتي مزدلفة ولم يجمع خالف السنة وصحت صلاته وبه قال عطاء, وعروة والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير, ومالك والشافعي وإسحاق, وأبو ثور وأبو يوسف وابن المنذر وقال أبو حنيفة, والثوري: لا يجزئه لأن النبي -ﷺ- جمع بين الصلاتين فكان نسكا وقد قال: "خذوا عني مناسككم" ولنا, أن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق بينهما كالظهر والعصر بعرفة, وفعل النبي -ﷺ- محمول على أنه الأولى والأفضل ولئلا ينقطع سيره ويبطل ما ذكروه بالجمع بعرفة. مسألة:


قال: [ فإذا صلى الفجر, وقف عند المشعر الحرام فدعا ] يعني أنه يبيت بمزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح, والسنة أن يعجلها في أول وقتها ليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام وفي حديث جابر (أن النبي -ﷺ- صلى الصبح حين تبين له الصبح) وفي حديث ابن مسعود (أنه صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول: قد طلع الفجر, وقائل يقول: لم يطلع ثم قال في آخر الحديث: رأيت النبي -ﷺ- يفعله) رواه البخاري نحو هذا ثم إذا صلى الفجر وقف عند المشعر الحرام وهو قزح, فيرقى عليه إن أمكنه وإلا وقف عنده فذكر الله تعالى, ودعاه واجتهد قال الله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} وفي حديث جابر (أن النبي -ﷺ- أتى المشعر الحرام فرقى عليه, فدعا الله وهلله وكبره ووحده ويستحب أن يكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك, كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا, كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} ويقف حتى يسفر جدا) لما في حديث جابر (أن النبي -ﷺ- لم يزل واقفا حتى أسفر جدا). فصل:


وللمزدلفة ثلاثة أسماء: مزدلفة وجمع, والمشعر الحرام وحدها من مأزمي عرفة إلى قرن محسر وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب ففي أي موضع وقف منها أجزأه لقول النبي: -ﷺ- (المزدلفة موقف) رواه أبو داود, وابن ماجه وعن جابر عن النبي -ﷺ- أنه قال: (وقفت ها هنا بجمع وجمع كلها موقف) وليس وادي محسر من مزدلفة لقوله: (وارفعوا عن بطن محسر). فصل:


والمبيت بمزدلفة واجب, من تركه فعليه دم هذا قول عطاء والزهري وقتادة, والثوري والشافعي وإسحاق, وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال علقمة والنخعي, والشعبي: من فاته جمع فاته الحج لقول الله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} وقول النبي -ﷺ-: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا, فقد تم حجه وقضى تفثه) ولنا قول النبي -ﷺ-: (الحج عرفة, فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه) يعني من جاء عرفة وما احتجوا به من الآية والخبر فالمنطوق به فيهما ليس بركن في الحج إجماعا فإنه لو بات بجمع, ولم يذكر الله تعالى ولم يشهد الصلاة فيها صح حجه, فما هو من ضرورة ذلك أولى ولأن المبيت ليس من ضرورة ذكر الله تعالى بها وكذلك شهود صلاة الفجر, فإنه لو أفاض من عرفة في آخر ليلة النحر أمكنه ذلك فيتعين حمل ذلك على مجرد الإيجاب, أو الفضيلة أو الاستحباب. فصل:


ومن بات بمزدلفة لم يجز له الدفع قبل نصف الليل فإن دفع بعده, فلا شيء عليه وبهذا قال الشافعي وقال مالك: إن مر بها ولم ينزل فعليه دم فإن نزل, فلا دم عليه متى ما شاء دفع ولنا (أن النبي -ﷺ- بات بها وقال: خذوا عني مناسككم) وإنما أبيح الدفع بعد نصف الليل بما ورد من الرخصة فيه فروى ابن عباس, قال: كنت في من قدم النبي -ﷺ- في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى وعن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند دار المزدلفة فقامت تصلي, فصلت ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم قالت: فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة, ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها قلت لها: أي هنتاه ما أرانا إلا غلسنا قالت: كلا يا بني, إن رسول الله -ﷺ- أذن للظعن متفق عليهما وعن عائشة قالت: (أرسل رسول الله -ﷺ- بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت) رواه أبو داود فمن دفع من جمع قبل نصف الليل, ولم يعد في الليل فعليه دم وإن عاد فيه, فلا دم عليه كالذي دفع من عرفة نهارا ومن لم يوافق مزدلفة إلا في النصف الأخير من الليل فلا شيء عليه لأنه لم يدرك جزءا من النصف الأول, فلم يتعلق به حكمه كمن أدرك الليل بعرفات دون النهار والمستحب الاقتداء برسول الله -ﷺ- في المبيت إلى أن يصبح ثم يقف حتى يسفر ولا بأس بتقديم الضعفة والنساء, وممن كان يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف وعائشة وبه قال عطاء والثوري, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا, ولأن فيه رفقا بهم ودفعا لمشقة الزحام عنهم واقتداء بفعل نبيهم -ﷺ-. مسألة:


قال: [ ثم يدفع قبل طلوع الشمس ] لا نعلم خلافا في أن السنة الدفع قبل طلوع الشمس وذلك لأن النبي -ﷺ- كان يفعله قال عمر: (إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير, كيما نغير وإن رسول الله -ﷺ- خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس) رواه البخاري والسنة أن يقف حتى يسفر جدا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وكان مالك يرى الدفع قبل الإسفار ولنا, ما روى جابر (أن النبي -ﷺ- لم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس) وعن نافع أن ابن الزبير أخر في الوقت حتى كادت الشمس تطلع, فقال له ابن عمر: إني أراه يريد أن يصنع كما صنع أهل الجاهلية فدفع ودفع الناس معه وكان ابن مسعود يدفع كانصراف القوم المسفرين من صلاة الغداة وانصرف ابن عمر حين أسفر وأبصرت الإبل موضع أخفافها ويستحب أن يسير وعليه السكينة كما ذكرنا في سيره من عرفات قال ابن عباس: ثم أردف النبي -ﷺ- الفضل بن عباس (وقال: يا أيها الناس, إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل فعليكم بالسكينة فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى). مسألة:


قال: [ فإذا بلغ محسرا أسرع ولم يقف حتى يأتي منى, وهو مع ذلك ملب ] يستحب الإسراع في وادي محسر وهو ما بين جمع ومنى فإن كان ماشيا أسرع, وإن كان راكبا حرك دابته لأن جابرا قال في صفة حج النبي -ﷺ-: (إنه لما أتى بطن محسر حرك قليلا) ويروى أن عمر رضي الله عنه لما أتى محسر أسرع وقال: إليك تعدو قلقا وضينها ** مخالفا دين النصارى دينها ** معترضا في بطنها جنينها وذلك قدر رمية بحجر, ويكون ملبيا في طريقه فإن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله -ﷺ- يومئذ وروي (أن النبي -ﷺ- لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) متفق عليه وفي لفظ عنه (قال: شهدت الإفاضتين مع رسول الله -ﷺ- وعليه السكينة, وهو كاف بعيره ولبى حتى رمى جمرة العقبة) وعن الأسود قال: أفاض عمر عشية عرفة, وهو يلبي بثلاث: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك ولأن التلبية من شعار الحج, فلا يقطع إلا بالشروع في الإحلال وأوله رمى جمرة العقبة. مسألة:


قال: [ ويأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة ] إنما استحب ذلك لئلا يشتغل عند قدومه بشيء قبل الرمي, فإن الرمي تحية له كما أن الطواف تحية المسجد فلا يبدأ بشيء قبله وكان ابن عمر يأخذ الحصى من جمع, وفعله سعيد بن جبير وقال: كانوا يتزودون الحصى من جمع واستحبه الشافعي وعن أحمد قال: خذ الحصى من حيث شئت وهو قول عطاء, وابن المنذر وهو أصح -إن شاء الله تعالى- لأن ابن عباس قال: (قال رسول الله -ﷺ- غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف, فجعل يقبضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا) (ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) رواه ابن ماجه وكان ذلك بمنى ولا خلاف في أنه يجزئه أخذه من حيث كان والتقاط الحصى أولى من تكسيره لهذا الخبر, ولأنه لا يؤمن في التكسير أن يطير إلى وجهه شيء يؤذيه ويستحب أن تكون الحصيات كحصى الخذف لهذا الخبر ولقول جابر في حديثه: كل حصاة منها مثل حصى الخذف وروى سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه, قالت: قال رسول الله -ﷺ-: (يا أيها الناس إذا رأيتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف) رواه أبو داود قال الأثرم: يكون أكبر من الحمص ودون البندق وكان ابن عمر يرمي بمثل بعر الغنم فإن رمى بحجر كبير فقد روي عن أحمد أنه قال: لا يجزئه حتى يأتي بالحصى على ما فعل النبي -ﷺ- وذلك لأن النبي -ﷺ- أمر بهذا القدر, ونهى عن تجاوزه والأمر يقتضي الوجوب والنهي يقتضي فساد المنهي عنه, ولأن الرمي بالكبير ربما آذى من يصيبه وقال بعض أصحابنا: يجزئه مع تركه للسنة لأنه قد رمى بالحجر وكذلك الحكم في الصغير. فصل:


ويجزئ الرامي بكل ما يسمى حصى وهي الحجارة الصغار, سواء كان أسود أو أبيض أو أحمر من المرمر أو البرام, أو المرو وهو الصوان أو الرخام, أو الكذان أو حجر المسن وهو قول مالك والشافعي وقال القاضي: لا يجزئ الرخام ولا البرام والكذان ويقتضي قوله أن لا يجزئ المرو ولا حجر المسن وقال أبو حنيفة: يجوز بالطين والمدر وما كان من جنس الأرض ونحوه قال الثوري وروي عن سكينة بنت الحسين أنها رمت الجمرة ورجل يناولها الحصى, تكبر مع كل حصاة وسقطت حصاة فرمت بخاتمها ولنا (أن النبي -ﷺ- رمى بالحصى وأمر بالرمي بمثل حصى الخذف) فلا يتناول غير الحصى, ويتناول جميع أنواعه فلا يجوز تخصيصه بغير دليل ولا إلحاق غيره به لأنه موضع لا يدخل القياس فيه. فصل:


وإن رمى بحجر أخذ من المرمى لم يجزه وقال الشافعي: يجزئه لأنه حصى, فيدخل في العموم ولنا أن النبي -ﷺ- أخذ من غير المرمى وقال: (خذوا عني مناسككم) ولأنه لو جاز الرمي بما رمى به لما احتاج أحد إلى أخذ الحصى من غير مكانه, ولا تكسيره والإجماع على خلافه ولأن ابن عباس, قال: ما يقبل منها يرفع وإن رمى بخاتم فضة حجرا لم يجزه في أحد الوجهين لأنه تبع, والرمي بالمتبوع لا بالتابع. مسألة:


قال: [ والاستحباب أن يغسله ] اختلف عن أحمد في ذلك فروي عنه أنه مستحب لأنه روي عن ابن عمر أنه غسله وكان طاوس يفعله, وكان ابن عمر يتحرى سنة النبي -ﷺ- وعن أحمد: أنه لا يستحب وقال: لم يبلغنا أن النبي -ﷺ- فعله وهذا الصحيح وهو قول عطاء ومالك وكثير من أهل العلم, فإن النبي -ﷺ- لما لقطت له الحصيات وهو راكب على بعيره يقبضهن في يده, لم يغسلهن ولا أمر بغسلهن ولا فيه معنى يقتضيه فإن رمى بحجر نجس أجزأه لأنه حصاة ويحتمل أن لا يجزئه لأنه يؤدي به العبادة, فاعتبرت طهارته كحجر الاستجمار وتراب التيمم وإن غسله ورمى به, أجزأه وجها واحدا وعدد الحصى سبعون حصاة يرمي منها بسبع في يوم النحر, وسائرها في أيام منى والله أعلم. مسألة:


قال: [ فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات, يكبر في إثر كل حصاة ولا يقف عندها ] حد منى ما بين جمرة العقبة ووادي محسر كذلك قال عطاء, والشافعي وليس محسر والعقبة من منى ويستحب سلوك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى فإن النبي -ﷺ- سلكها كذا في حديث جابر فإذا وصل منى بدأ بجمرة العقبة وهي آخر الجمرات مما يلي منى, وأولها مما يلي مكة وهي عند العقبة وكذلك سميت جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة, ثم ينصرف ولا يقف وهذا بجملته قول من علمنا قوله من أهل العلم وإن رماها من فوقها جاز لأن عمر رضي الله عنه جاء والزحام عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها والأول أفضل لما روى عبد الرحمن بن يزيد أنه مشى مع (عبد الله, وهو يرمي الجمرة فلما كان في بطن الوادي أعرضها فرماها فقيل, له: إن ناسا يرمونها من فوقها فقال: من ها هنا والذي لا إله إلا هو رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة رماها) متفق عليه وفي لفظ: (لما أتى عبد الله جمرة العقبة, استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن, ثم رمى بسبع حصيات ثم قال: والله الذي لا إله غيره من ها هنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة) قال الترمذي: وهذا حديث صحيح, والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ولا يسن الوقوف عندها لأن ابن عمر وابن عباس رويا (أن رسول الله -ﷺ- كان إذا رمى جمرة العقبة, انصرف ولم يقف) رواه ابن ماجه ويكبر مع كل حصاة لأن جابرا قال: فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة وإن قال: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا, وعملا مشكورا فحسن فإن ابن مسعود وابن عمر كانا يقولان نحو ذلك وروى حنبل في "المناسك" بإسناده عن زيد بن أسلم, قال: رأيت سالم بن عبد الله استبطن الوادي ورمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة: الله أكبر الله أكبر ثم قال: اللهم اجعله حجا مبرورا, وذنبا مغفورا وعملا مشكورا فسألته عما صنع؟ فقال: حدثني أبي (أن النبي -ﷺ- رمى الجمرة من هذا المكان ويقول كلما رمى حصاة مثلما قلت) وقال إبراهيم النخعي: كانوا يحبون ذلك. فصل:


ويرميها راكبا أو راجلا كيفما شاء لأن النبي -ﷺ- رماها على راحلته رواه جابر, وابن عمر وأم أبي الأحوص وغيرهم قال جابر: (رأيت النبي -ﷺ- يرمي على راحلته يوم النحر, ويقول: لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) رواه مسلم وقال نافع: كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا وراجعا وزعم أن النبي -ﷺ- كان لا يأتيها إلا ماشيا, ذاهبا وراجعا رواه أحمد في "المسند" وفي هذا بيان للتفريق بين هذه الجمرة وغيرها ولأن رمي هذه الجمرة مما يستحب البداية به في هذا اليوم عند قدومه ولا يسن عندها وقوف, ولو سن له المشي إليها لشغله النزول عن البداية بها والتعجيل إليها بخلاف سائرها. فصل:


ولرمي هذه الجمرة وقتان: وقت فضيلة, ووقت إجزاء فأما وقت الفضيلة فبعد طلوع الشمس قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين على أن رسول الله -ﷺ- إنما رماها ضحى ذلك اليوم وقال جابر: (رأيت رسول الله -ﷺ- يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس) أخرجه مسلم وقال ابن عباس: (قدمنا على رسول الله -ﷺ- أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع, فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول: أبني عبد المطلب لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) رواه ابن ماجه وكان رميها بعد طلوع الشمس يجزئ بالإجماع, وكان أولى وأما وقت الجواز فأوله نصف الليل من ليلة النحر وبذلك قال عطاء وابن أبي ليلى, وعكرمة بن خالد والشافعي وعن أحمد أنه يجزئ بعد الفجر قبل طلوع الشمس وهو قول مالك وأصحاب الرأي وإسحاق, وابن المنذر وقال مجاهد والثوري والنخعي: لا يرميها إلا بعد طلوع الشمس لما روينا من الحديث ولنا, ما روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -ﷺ- (أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر, ثم مضت فأفاضت وروي أنه أمرها أن تعجل الإفاضة وتوافي مكة بعد صلاة الصبح) واحتج به أحمد وقد ذكرنا في حديث أسماء أنها رمت, ثم رجعت فصلت الصبح وذكرت أن النبي -ﷺ- أذن للظعن, ولأنه وقت للدفع من مزدلفة فكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس, والأخبار المتقدمة محمولة على الاستحباب وإن أخر الرمي إلى آخر النهار جاز قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم, على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن مستحبا لها وروى ابن عباس قال: (كان النبي -ﷺ- يسأل يوم النحر بمنى, قال رجل: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: لا حرج) رواه البخاري فإن أخرها إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس من الغد وبهذا قال أبو حنيفة وإسحاق وقال الشافعي, ومحمد بن المنذر ويعقوب: يرمي ليلا لقول النبي -ﷺ-: (ارم ولا حرج) ولنا, أن ابن عمر قال: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد وقول النبي -ﷺ-: (ارم, ولا حرج) إنما كان في النهار لأنه سأله في يوم النحر ولا يكون اليوم إلا قبل مغيب الشمس وقال مالك: يرمي ليلا وعليه دم ومرة قال: لا دم عليه. فصل:


ولا يجزئه الرمي إلا أن يقع الحصى في المرمى فإن وقع دونه, لم يجزئه في قولهم جميعا لأنه مأمور بالرمي ولم يرم وإن طرحها طرحا أجزأه لأنه يسمى رميا وهذا قول أصحاب الرأي وقال ابن القاسم: لا يجزئه وإن رمى حصاة فوقعت في غير المرمى فأطارت حصاة أخرى, فوقعت في المرمى لم يجزه لأن التي رماها لم تقع في المرمى وإن رمى حصاة فالتقمها طائر قبل وصولها, لم يجزه لأنها لم تقع في المرمى وإن وقعت على موضع صلب في غير المرمى ثم تدحرجت على المرمى أو على ثوب إنسان, ثم طارت فوقعت في المرمى أجزأته لأن حصوله بفعله وإن نفضها ذلك الإنسان عن ثوبه, فوقعت في المرمى فعن أحمد -رحمه الله- , أنها تجزئه لأنه انفرد برميها وقال ابن عقيل: لا يجزئه لأن حصولها في المرمى بفعل الثاني فأشبه ما لو أخذها بيده فرمى بها وإن رمى حصاة فشك: هل وقعت في المرمى أو لا؟ لم يجزئه لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته, فلا يزول بالشك وإن كان الظاهر أنها وقعت فيه أجزأته لأن الظاهر دليل وإن رمى الحصيات دفعة واحدة لم يجزه إلا عن واحدة نص عليه أحمد وهو قول مالك, والشافعي وأصحاب الرأي وقال عطاء: يجزئه ويكبر لكل حصاة ولنا, أن (النبي -ﷺ- رمى سبع رميات وقال: خذوا عني مناسككم) قال بعض أصحابنا: ويستحب أن يرفع يديه في الرمي حتى يرى بياض إبطه. مسألة:


قال: [ ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي ] وممن قال : يلبي حتى يرمي الجمرة . ابن مسعود ، وابن عباس ، وميمونة . وبه قال عطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي . وروي عن سعد بن أبي وقاص ، وعائشة : يقطع التلبية إذا راح إلى الموقف . وعن علي ، وأم سلمة ، أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس من يوم عرفة . وهذا قريب من قول سعد ، وعائشة . وكان الحسن يقول : يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة . وقال مالك : يقطع التلبية إذا راح إلى المسجد . ولنا ، أن الفضل بن عباس روى أن النبي ﷺ (لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة . وكان رديفه يومئذ ، وهو أعلم بحاله من غيره) ، وقول النبي ﷺ وفعله مقدم على كل من خالفه . واستحب قطع التلبية عند أول حصاة ؛ للخبر ، وفي بعض ألفاظه : حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاة . رواه حنبل ، في "المناسك" وهذا بيان يتعين الأخذ به . وفي رواية من روى أن النبي ﷺ كان يكبر مع كل حصاة دليل على أنه لم يكن يلبي ، ولأنه يتحلل بالرمي ، فإذا شرع فيه قطع التلبية ، كالمعتمر يقطع التلبية بالشروع في الطواف . مسألة:


قال: [ ثم ينحر إن كان معه هدي ] وجملة ذلك أنه إذا فرغ من رمي الجمرة يوم النحر, لم يقف وانصرف فأول شيء يبدأ به نحر الهدي, إن كان معه هدي واجبا أو تطوعا فإن لم يكن معه هدي وعليه هدي, واجب اشتراه وإن لم يكن عليه واجب, فأحب أن يضحي اشترى ما يضحي به وينحر الإبل, ويذبح ما سواها والمستحب أن يتولى ذلك بيده وإن استناب غيره جاز هذا قول مالك والشافعي, وأبي ثور وأصحاب الرأي وذلك لما روى جابر في صفة حج النبي -ﷺ- (أنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر, فنحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه) وقال أنس: (نحر النبي -ﷺ- بيده سبع بدنات قياما) رواه البخاري. فصل:


والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى, فيضربها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر وممن استحب ذلك مالك والشافعي وإسحاق, وابن المنذر واستحب عطاء نحرها باركة وجوز الثوري وأصحاب الرأي كل ذلك ولنا ما روى دينار بن جبير قال: (رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنته لينحرها, فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد -ﷺ-) متفق عليه وروى أبو داود بإسناده, عن عبد الرحمن بن سابط (أن النبي -ﷺ- وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها) وفي قول الله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} دليل على أنها تنحر قائمة ويروى في تفسير قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} أي قياما وتجزئه كيفما نحر قال أحمد: ينحر البدن معقولة على ثلاث قوائم وإن خشي عليها أن تنفر أناخها. فصل:


ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة, ويقول: بسم الله والله أكبر وإن قال ما روي عن النبي -ﷺ- فحسن قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله -ﷺ- كان إذا ذبح يقول: بسم الله والله أكبر وكذلك يقول ابن عمر وروي أن النبي -ﷺ- (ذبح يوم العيد كبشين ثم قال حين وجههما: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك, عن محمد وأمته) رواه أبو داود وإن اقتصر على التسمية ووجه الذبيحة إلى غير القبلة ترك الأفضل, وأجزأه هذا قول القاسم بن محمد والنخعي والثوري, والشافعي وابن المنذر وكان ابن عمر وابن سيرين يكرهان الأكل من الذبيحة توجه لغير القبلة والصحيح أن ذلك غير واجب, ولم يقم على وجوبه دليل. فصل:


ووقت نحر الأضحية والهدي ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده نص عليه أحمد, وقال: هو عن غير واحد من أصحاب رسول الله -ﷺ- ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس وبه قال مالك, والثوري ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: أيام النحر يوم الضحى وثلاثة أيام بعده وبه قال الحسن وعطاء, والأوزاعي والشافعي وابن المنذر وقال ابن سيرين: يوم واحد وعن سعيد بن جبير, وجابر بن زيد: في الأمصار يوم واحد وبمنى ثلاثة، ولنا (أن النبي -ﷺ- نهى عن الأكل من النسك فوق ثلاث) وغير جائز أن يكون الذبح مشروعا في وقت يحرم فيه الأكل ثم نسخ تحريم الأكل, وبقي وقت الذبح بحاله ولأن اليوم الرابع لا يجب فيه الرمي فلم يجز فيه الذبح كالذي بعده, فأما الليالي المتخللة لأيام النحر فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ فيها ذبح الهدي والأضحية لأن الله تعالى قال: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فذكر الأيام دون الليالي وقال غيره من أصحابنا: يجوز ليلتي يومي التشريق الأولتين وهو قول أكثر الفقهاء لأن هاتين الليلتين داخلتان في مدة الذبح فجاز الذبح فيهما كالأيام. فصل:


وإذا نحر الهدي, فرقه على المساكين من أهل الحرم وهو من كان في الحرم فإن أطلقها لهم جاز كما روى أنس, أن النبي -ﷺ- نحر خمس بدنات ثم قال: (من شاء فليقتطع) رواه أبو داود وإن قسمها فهو أحسن وأفضل ولا يعطي الجازر بأجرته شيئا منها لما روي عن علي رضي الله عنه قال: (أمرني النبي -ﷺ- أن أقوم على بدنه, وأن أقسم بدنه كلها جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر منها شيئا, وقال: نحن نعطيه من عندنا) متفق على معناه ولأنه بقسمها يكون على يقين من إيصالها إلى مستحقها ويكفي المساكين مؤنة النهب والزحام عليها وإنما لم يعط الجازر بأجرته منها لأنه ذبحها فعوضه عليه دون المساكين, ولأن دفع جزء منها عوضا عن الجزارة كبيعه ولا يجوز بيع شيء منها وإن كان الجازر فقيرا, فأعطاه لفقره سوى ما يعطيه أجره جاز لأنه مستحق الأخذ منها لفقره لا لأجره, فجاز كغيره ويقسم جلودها وجلالها كما جاء في الخبر لأنه ساقها لله على تلك الصفة فلا يأخذ شيئا مما جعله, لله وقال بعض أصحابنا: لا يلزمه إعطاء جلالها لأنه إنما أهدى الحيوان دون ما عليه. فصل:


والسنة النحر بمنى لأن النبي -ﷺ- نحر بها وحيث نحر من الحرم أجزأه لقول رسول الله -ﷺ-: (كل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وطريق) رواه أبو داود. فصل:


وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم, ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب ذلك روي هذا عن ابن عباس وبه قال الشافعي, وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ونحوه عن سعيد بن جبير وقال مالك: أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم, فإن ابتاعه من دون ذلك مما يلي مكة بعد أن يقفه بعرفة جاز وقال في هدي المجامع: إن لم يكن ساقه, فليشتره من مكة ثم ليخرجه إلى الحل وليسقه إلى مكة ولنا, أن المراد من الهدي نحره ونفع المساكين بلحمه بهذا لا يقف على شيء مما ذكروه, ولم يرد بما قالوه دليل يوجبه فيبقى على أصله. مسألة:


قال: [ ويحلق أو يقصر ] وجملة ذلك أنه إذا نحر هديه فإنه يحلق رأسه, أو يقصر منه لأن النبي -ﷺ- حلق رأسه فروى أنس (أن رسول الله -ﷺ- رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا فذبح ثم دعا بالحلاق, فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه, ثم قال: ها هنا أبو طلحة؟ فدفعه إلى أبي طلحة) رواه أبو داود والسنة أن يبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر لهذا الخبر ولأن النبي -ﷺ- كان يعجبه التيامن في شأنه كله فإن لم يفعل, أجزأه لا نعلم فيه خلافا وهو مخير بين الحلق والتقصير أيهما فعل أجزأه في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ يعني في حق من لم يوجد منه معنى يقتضي وجوب الحلق عليه إلا أنه يروى عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة حجها ولا يصح هذا لأن الله تعالى قال: {محلقين رءوسكم ومقصرين} ولم يفرق النبي -ﷺ- قال: (رحم الله المحلقين والمقصرين) وقد كان مع النبي -ﷺ- من قصر, فلم يعب عليه ولو لم يكن مجزيا لأنكر عليه والحلق أفضل لأن النبي -ﷺ- قال: (رحم الله المحلقين قالوا: يا رسول الله, والمقصرين؟ قال: رحم الله المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين والمقصرين) رواه مسلم ولأن النبي -ﷺ- حلق واختلف أهل العلم في من لبد أو عقص أو ضفر فقال أحمد: من فعل ذلك فليحلق وهو قول النخعي, ومالك والشافعي وإسحاق وكان ابن عباس يقول: من لبد, أو ضفر أو عقد أو فتل, أو عقص فهو على ما نوى يعني إن نوى الحلق فليحلق وإلا فلا يلزمه وقال أصحاب الرأي: هو مخير على كل حال لأن ما ذكرناه يقتضي التخيير على العموم, ولم يثبت في خلاف ذلك دليل واحتج من نصر القول الأول بأنه روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من لبد فليحلق) وثبت عن عمر وابنه أنهما أمرا من لبد رأسه أن يحلقه وثبت أن النبي -ﷺ- لبد رأسه وأنه حلقه والصحيح أنه مخير إلا أن يثبت الخبر عن النبي -ﷺ- وقول عمر وابنه قد خالفهما فيه ابن عباس, وفعل النبي -ﷺ- له لا يدل على وجوبه بعدما بين لهم جواز الأمرين. فصل:


والحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد, وقول الخرقي وهو قول مالك وأبي حنيفة, والشافعي وعن أحمد أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرما عليه بالإحرام فأطلق فيه عند الحل, كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه ويحصل الحل بدونه ووجهها أن النبي -ﷺ- أمر بالحل من العمرة قبله فروى (أبو موسى, قال: قدمت على رسول الله -ﷺ- فقال لي: بم أهللت؟ قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله -ﷺ- قال: أحسنت فأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة ثم قال لي: أحل) متفق عليه وعن جابر (أن النبي -ﷺ- لما سعى بين الصفا والمروة, قال: من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة) رواه مسلم وعن سراقة أن النبي -ﷺ- قال: (إذا قدمتم فمن تطوف بالبيت, وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي) رواه أبو إسحاق الجوزجاني, في "المترجم" ولأن ما كان محرما في الإحرام إذا أبيح كان إطلاقا من محظور, كسائر محرماته والرواية الأولى أصح فإن النبي -ﷺ- أمر به, فروى ابن عمر أن النبي -ﷺ- قال: (من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت, وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل) وعن جابر, أن النبي -ﷺ- قال: (أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا) وأمره يقتضي الوجوب ولأن الله تعالى وصفهم به بقوله سبحانه: {محلقين رءوسكم ومقصرين} ولو لم يكن من المناسك لما وصفهم به, كاللبس وقتل الصيد ولأن النبي -ﷺ- ترحم على المحلقين ثلاثا وعلى المقصرين مرة, ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات, ولأن النبي -ﷺ- وأصحابه فعلوه في جميع حجهم وعمرهم ولم يخلوا به ولو لم يكن نسكا لما داوموا عليه, بل لم يفعلوه إلا نادرا لأنه لم يكن من عادتهم فيفعلوه عادة, ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله وأما أمره بالحل فإنما معناه - والله أعلم - الحل بفعله لأن ذلك كان مشهورا عندهم, فاستغني عن ذكره ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرما فيها كالسلام من الصلاة. فصل:


ويجوز تأخير الحلق والتقصير إلى آخر النحر لأنه إذا جاز تأخير النحر المقدم عليه, فتأخيره أولى فإن أخره عن ذلك ففيه روايتان: إحداهما, لا دم عليه وبه قال عطاء وأبو يوسف وأبو ثور ويشبه مذهب الشافعي لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} ولم يتبين آخره, فمتى أتى به أجزأه كطواف الزيارة والسعي ولأنه نسك أخره إلى وقت جواز فعله فأشبه السعي وعن أحمد: عليه دم بتأخيره وهو مذهب أبي حنيفة لأنه نسك أخره, عن محله ومن ترك نسكا فعليه دم ولا فرق في التأخير بين القليل والكثير والعامد والساهي وقال مالك, والثوري وإسحاق وأبو حنيفة, ومحمد بن الحسن: من تركه حتى حل فعليه دم لأنه نسك فيأتي به في إحرام الحج كسائر مناسكه ولنا ما تقدم. فصل:


والأصلع الذي لا شعر على رأسه, يستحب أن يمر الموسى على رأسه روي ذلك عن ابن عمر وبه قال مسروق وسعيد بن جبير والنخعي, ومالك والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الأصلع يمر الموسى على رأسه وليس ذلك واجبا وقال أبو حنيفة: يجب لأن النبي -ﷺ- قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وهذا لو كان ذا شعر وجب عليه إزالته وإمرار الموسى على رأسه, فإذا سقط أحدهما لتعذره وجب الآخر ولنا أن الحلق محله الشعر, فسقط بعدمه كما يسقط وجوب غسل العضو في الوضوء بفقده ولأنه إمرار لو فعله في الإحرام لم يجب به دم فلم يجب عند التحلل, كإمراره على الشعر من غير حلق. فصل:


ويستحب لمن حلق أو قصر تقليم أظافره والأخذ من شاربه لأن النبي -ﷺ- فعله قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله -ﷺ- لما حلق رأسه قلم أظفاره, وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره وكان عطاء وطاوس والشافعي, يحبون لو أخذ من لحيته شيئا ويستحب إذا حلق أن يبلغ العظم الذي عند منقطع الصدغ من الوجه كان ابن عمر يقول للحالق: ابلغ العظمات افصل الرأس من اللحية وكان عطاء يقول: من السنة, إذا حلق رأسه أن يبلغ العظمات. مسألة:


قال: [ ثم قد حل له كل شيء إلا النساء ] وجملة ذلك أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة, ثم حلق حل له كل ما كان محظورا بالإحرام إلا النساء هذا الصحيح من مذهب أحمد -رحمه الله- نص عليه, في رواية جماعة فيبقى ما كان محرما عليه من النساء من الوطء, والقبلة واللمس لشهوة وعقد النكاح, ويحل له ما سواه هذا قول ابن الزبير وعائشة وعلقمة, وسالم وطاوس والنخعي, وعبيد الله بن الحسين وخارجة بن زيد والشافعي, وأبي ثور وأصحاب الرأي وروي أيضا عن ابن عباس وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أغلظ المحرمات, ويفسد النسك بخلاف غيره وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يحل له كل شيء إلا النساء, والطيب وروي ذلك عن ابن عمر وعروة بن الزبير وعباد بن عبد الله بن الزبير لأنه من دواعي الوطء, فأشبه القبلة وعن عروة أنه لا يلبس القميص ولا العمامة, ولا يتطيب وروي في ذلك عن النبي -ﷺ- حديث ولنا ما روت عائشة أن النبي -ﷺ- قال: (إذا رميتم, وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب, وكل شيء إلا النساء) رواه سعيد وفي لفظ: (إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه, فقد حل له كل شيء إلا النساء) رواه الأثرم وأبو داود, إلا أن أبا داود قال: هو ضعيف رواه الحجاج عن الزهري, ولم يلقه والذي أخرجه سعيد رواه الحجاج عن أبي بكر بن محمد عن عروة, عن عائشة قالت: (طيبت رسول الله -ﷺ- لحرمه حين أحرم ولحله, قبل أن يطوف بالبيت) متفق عليه وعن سالم عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب: (إذا رميتم الجمرة, وذبحتم وحلقتم كقد حل لكم كل شيء, إلا الطيب والنساء فقالت عائشة رضي الله عنها: أنا طيبت رسول الله -ﷺ- فسنة رسول الله -ﷺ- أحق أن تتبع) رواه سعيد وعن أم سلمة أن رسول الله -ﷺ- قال (يوم النحر: إن هذا يوم رخص لكم فيه إذا أنتم رميتم أن تحلوا يعني من كل ما حرمتم منه إلا النساء) رواه أبو داود وعن عبد الله بن عباس, أنه: قال (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء فقال له رجل: والطيب؟ قال: أما أنا فقد رأيت رسول الله -ﷺ- يضمخ رأسه بالمسك, أفطيب ذلك أم لا؟) رواه ابن ماجه وقال مالك: لا يحل له النساء ولا الطيب ولا قتل الصيد لقول الله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وهذا حرام وقد ذكرنا ما يرد هذا القول, ويمنع أنه محرم وإنما بقي بعض أحكام الإحرام. فصل:


ظاهر كلام الخرقي ها هنا أن الحل, إنما يحصل بالرمي والحلق معا وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقول الشافعي وأصحاب الرأي لقول النبي -ﷺ-: (إذا رميتم, وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما, ولأنهما نسكان يتعقبهما الحل فكان حاصلا بهما كالطواف والسعي في العمرة وعن أحمد: إذا رمى الجمرة, فقد حل وإذا وطئ بعد جمرة العقبة فعليه دم ولم يذكر الحلق وهذا يدل على أن الحل بدون الحلق وهذا قول عطاء, ومالك وأبي ثور وهو الصحيح -إن شاء الله تعالى- لقوله في حديث أم سلمة: (إذا رميتم الجمرة, فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) وكذلك قال ابن عباس قال بعض أصحابنا: هذا يبنى على الخلاف في الحلق هل هو نسك أو لا؟ فإن قلنا: نسك حصل الحل به, وإلا فلا. مسألة:


قال: [ والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة ] الأنملة: رأس الإصبع من المفصل الأعلى والمشروع للمرأة التقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم وذلك لأن الحلق في حقهن مثله وقد روى ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير) رواه أبو داود وعن علي قال: (نهى رسول الله -ﷺ- أن تحلق المرأة رأسها) رواه الترمذي وكان أحمد يقول: تقصر من كل قرن قدر الأنملة وهو قول ابن عمر, والشافعي وإسحاق وأبي ثور وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر من كل رأسها؟ قال: نعم, تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة والرجل الذي يقصر في ذلك كالمرأة وقد ذكرنا في ذلك خلافا فيما مضى. مسألة:


قال: [ ثم يزور البيت, فيطوف به سبعا وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج ثم يصلي ركعتين, إن كان مفردا أو قارنا ] وجملة ذلك أنه إذا رمى ونحر وحلق أفاض إلى مكة فطاف طواف الزيارة لأنه يأتي من منى فيزور البيت, ولا يقيم بمكة بل يرجع إلى منى ويسمى طواف الإفاضة لأنه يأتي به عند إفاضته من منى إلى مكة, وهو ركن للحج لا يتم إلا به لا نعلم فيه خلافا ولأن الله عز وجل قال: {وليطوفوا بالبيت العتيق} قال ابن عبد البر: هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك بين العلماء, وفيه عند جميعهم قال الله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} وعن عائشة قالت: (حججنا مع النبي -ﷺ- فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية, فأراد النبي -ﷺ- منها ما يريد الرجل من أهله فقلت: يا رسول الله إنها حائض, قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر قال: اخرجوا) متفق عليه فدل على أن هذا الطواف لا بد منه, وأنه حابس لمن لم يأت به ولأن الحج أحد النسكين فكان الطواف ركنا كالعمرة. فصل:


ولهذا الطواف وقتان وقت فضيلة, ووقت إجزاء فأما وقت الفضيلة فيوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق لقول جابر في صفة حج النبي -ﷺ- يوم النحر: فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر وفي حديث عائشة الذي ذكرت فيه حيض صفية, قالت: فأفضنا يوم النحر وقال ابن عمر: أفاض النبي -ﷺ- يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر متفق عليهما فإن أخره إلى الليل, فلا بأس فإن ابن عباس وعائشة, رويا: أن النبي -ﷺ- أخر طواف الزيارة إلى الليل رواهما أبو داود والترمذي وقال في كل واحد منهما: حديث حسن وأما وقت الجواز فأوله من نصف الليل من ليلة النحر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: أوله طلوع الفجر من يوم النحر, وآخره آخر أيام النحر وهذا مبني على أول وقت الرمي وقد مضى الكلام فيه وأما آخر وقته فاحتج بأنه نسك يفعل في الحج فكان آخره محدودا كالوقوف والرمي والصحيح أن آخر وقته غير محدود فإنه متى أتى به صح بغير خلاف, وإنما الخلاف في وجوب الدم فيقول: إنه طاف فيما بعد أيام النحر طوافا صحيحا فلم يلزمه دم, كما لو طاف أيام النحر فأما الوقوف والرمي فإنهما لما كانا موقتين, كان لهما وقت يفوتان بفواته وليس كذلك الطواف فإنه متى أتى به صح. فصل:


وصفة هذا الطواف كصفة طواف القدوم, سوى أنه ينوي به طواف الزيارة ويعينه بالنية ولا رمل فيه ولا اضطباع قال ابن عباس: إن النبي -ﷺ- (لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه) والنية شرط في هذا الطواف وهذا قول إسحاق, وابن القاسم صاحب مالك وابن المنذر وقال الثوري والشافعي, وأصحاب الرأي: يجزئه وإن لم ينو الفرض الذي عليه ولنا قول النبي -ﷺ-: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأن النبي -ﷺ- سماه صلاة, والصلاة لا تصح إلا بالنيات اتفاقا. مسألة:


قال: [ ثم قد حل من كل شيء ] يعني إذا طاف للزيارة بعد الرمي والنحر والحلق حل له كل شيء حرمه الإحرام وقد ذكرنا أنه لم يكن بقي عليه من المحظورات سوى النساء فهذا الطواف حلل له النساء قال ابن عمر: (لم يحل النبي -ﷺ- من شيء حرم منه, حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت, ثم حل من كل شيء حرمه) وعن عائشة مثله متفق عليهما ولا نعلم خلافا في حصول الحل بطواف الزيارة على الترتيب الذي ذكر الخرقي وأنه كان قد سعى مع طواف القدوم, وإن لم يكن سعى لم يحل حتى يسعى إن قلنا: إن السعي ركن وإن قلنا: هو سنة فهل يحل قبله؟ على وجهين أحدهما, يحل لأنه لم يبق عليه شيء من واجباته والثاني لا يحل, لأنه من أفعال الحج فيأتي به في إحرام الحج كالسعي في العمرة وإنما خص الخرقي المفرد والقارن بهذا, لكونهما سعيا مع طواف القدوم والمتمتع لم يسع. مسألة:


قال: [ وإن كان متمتعا فيطوف بالبيت سبعا, وبالصفا والمروة سبعا كما فعل للعمرة ثم يعود فيطوف بالبيت طوافا ينوي به الزيارة, وهو قوله عز وجل: {وليطوفوا بالبيت العتيق } ] أما الطواف الأول الذي ذكره الخرقي ها هنا فهو طواف القدوم لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك, والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها ونص أحمد على أنه مسنون للمتمتع في رواية الأثرم, قال: قلت لأبي عبد الله -رحمه الله-: فإذا رجع إلى منى أعني المتمتع كم يطوف ويسعى؟ قال: يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافا آخر للزيارة عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه وكذلك الحكم في القارن والمفرد, إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد أيضا, واحتج بما روت عائشة قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة وبين الصفا والمروة, ثم حلوا فطافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم, وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا فحمل أحمد قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع, فلم يكن تعين طواف الزيارة مسقطا له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بصلاة الفرض, ولا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة, فإنه يكتفى بها عن تحية المسجد ولأنه لم ينقل عن النبي -ﷺ- ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي -ﷺ- أحدا, وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت: طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وهذا هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافا آخر, ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج, لا يتم الحج إلا به وذكرت ما يستغنى عنه وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافا واحدا, فمن أين يستدل به على طوافين؟ وأيضا فإنها لما حاضت فقرنت الحج إلى العمرة بأمر النبي -ﷺ- ولم تكن طافت للقدوم لم تطف للقدوم, ولا أمرها به النبي -ﷺ- وقد ذكر الخرقي في موضع آخر في المرأة إذا حاضت فخشيت فوات الحج أهلت بالحج, وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف للقدوم مع طواف العمرة, لأنه أول قدومه إلى البيت فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به, وفي الجملة إن هذا الطواف المختلف فيه ليس بواجب وإنما الواجب طواف واحد وهو طواف الزيارة, وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد في أنه ركن الحج لا يتم إلا به, ولا بد من تعيينه بالنية فلو نوى به طواف الوداع أو غيره لم يجزه. فصل:


والأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف الزيارة, وهو ركن الحج لا يتم إلا به بغير خلاف وطواف القدوم, وهو سنة لا شيء على تاركه وطواف الوداع واجب, ينوب عنه الدم إذا تركه وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وقال مالك: على تارك طواف القدوم دم, ولا شيء على تارك طواف الوداع وحكي عن الشافعي كقولنا في طواف الوداع وكقوله في طواف القدوم وما عدا هذه الأطوفة فهو نفل ولا يشرع في حقه أكثر من سعي واحد, بغير خلاف علمناه قال جابر: لم يطف النبي -ﷺ- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا, طوافه الأول رواه مسلم ولا يكون السعي إلا بعد طواف فإن سعى مع طواف القدوم لم يسع بعده, وإن لم يسع معه سعى مع طواف الزيارة. فصل:


ويستحب أن يدخل البيت فيكبر في نواحيه ويصلي ركعتين, ويدعو الله عز وجل قال ابن عمر: (دخل النبي -ﷺ- البيت وبلال وأسامة بن زيد, فقلت لبلال: هل صلى فيه رسول الله -ﷺ- قال: نعم قلت: أين هو؟ قال: بين العمودين تلقاء وجهه: ونسيت أن أسأله كم صلى؟ وقال ابن عباس: أخبرني أسامة أن النبي -ﷺ- لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها, ولم يصل فيه حتى خرج) متفق عليهما فقدم أهل العلم رواية بلال على رواية أسامة لأنه مثبت وأسامة ناف ولأن أسامة كان حديث السن فيجوز أن يكون اشتغل بالنظر إلى ما في الكعبة عن صلاة النبي -ﷺ- وإن لم يدخل البيت, فلا بأس فإن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي -ﷺ- البيت في عمرته؟ قال: لا متفق عليه وعن عائشة أن النبي -ﷺ- (خرج من عندها وهو مسرور, ثم رجع وهو كئيب فقال: إني دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي) رواه أبو داود. فصل:


ويستحب أن يأتي زمزم, فيشرب من مائها لما أحب ويتضلع منه قال جابر في صفة حج النبي -ﷺ-: ثم أتى بني عبد المطلب, وهم يسقون فناولوه دلوا فشرب منه وروي أن النبي -ﷺ- قال: (ماء زمزم لما شرب) وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر, قال: كنت عند ابن عباس جالسا فجاءه رجل فقال: من أين جئت؟ قال: من زمزم قال: فشربت منها كما ينبغي؟ قال: فكيف؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل الكعبة, واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا من زمزم وتضلع منها, فإذا فرغت فاحمد الله تعالى فإن رسول الله -ﷺ- قال: (آية ما بيننا وبين المنافقين, أنهم لا يتضلعون من زمزم) رواهما ابن ماجه ويقول عند الشرب: بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا, وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي, واملأه من حكمتك. فصل:


ويسن أن يخطب الإمام بمنى يوم النحر خطبة يعلم الناس فيها مناسكهم من النحر والإفاضة والرمي نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي, وابن المنذر وذكر بعض أصحابنا أنه لا يخطب يومئذ وهو مذهب مالك لأنها تسن في اليوم الذي قبله فلم تسن فيه ولنا ما روى ابن عباس (أن النبي -ﷺ- خطب الناس يوم النحر يعني بمنى) أخرجه البخاري وعن (رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله -ﷺ- يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى, على بغلة شهباء وعلي يعبر عنه والناس بين قائم وقاعد وقال أبو أمامة: سمعت خطبة النبي -ﷺ- بمنى يوم النحر وقال الهرماس بن زياد الباهلي: رأيت النبي -ﷺ- يخطب الناس على ناقته العضباء, يوم الأضحى بمنى) وقال عبد الرحمن بن معاذ: (خطبنا رسول الله -ﷺ- ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ونحن في منازلنا, فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار) روى هذه الأحاديث كلها أبو داود إلا حديث ابن عباس ولأنه يوم تكثر فيه أفعال الحج, ويحتاج إلى تعليم الناس أحكام ذلك فاحتيج إلى الخطبة من أجله كيوم عرفة. فصل:


يوم الحج الأكبر يوم النحر فإن (النبي -ﷺ- قال في خطبته يوم النحر: هذا يوم الحج الأكبر) رواه البخاري وسمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه من الوقوف بالمشعر, والدفع منه إلى منى والرمي والنحر, والحلق وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى ليبيت بها, وليس في غيره مثله وهو مع ذلك يوم عيد ويوم يحل فيه من إحرام الحج. فصل:


وفي يوم النحر أربعة أشياء: الرمي, ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف والسنة ترتيبها هكذا فإن النبي -ﷺ- رتبها, كذلك وصفه جابر في حج النبي -ﷺ- وروى أنس أن (النبي -ﷺ- رمى ثم نحر, ثم حلق) رواه أبو داود فإن أخل بترتيبها ناسيا أو جاهلا بالسنة فيها فلا شيء عليه, في قول كثير من أهل العلم منهم الحسن وطاوس, ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء, والشافعي وإسحاق وأبو ثور, وداود ومحمد بن جرير الطبري وقال أبو حنيفة: إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر, فعليه دم فإن كان قارنا فعليه دمان وقال زفر: عليه ثلاثة دماء لأنه لم يوجد التحلل الأول, فلزمه الدم كما لو حلق قبل يوم النحر ولنا ما روى عبد الله بن عمرو, قال: قال رجل: يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح قال: (اذبح ولا حرج فقال آخر: ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: ارم, ولا حرج) متفق عليه وفي لفظ قال: فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر, فحلقت قبل أن أذبح وذكر الحديث قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعضها وأشباهها, إلا قال: (افعلوا ولا حرج عليكم) رواه مسلم وعن ابن عباس عن النبي -ﷺ- أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى, في النحر والحلق والرمي, والتقديم والتأخير فقال: (لا حرج) متفق عليه, ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري, عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو وفيه: فحلقت قبل أن أرمي, وتابعه على ذلك محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عيسى, عن عبد الله بن عمرو قال: (سمعت رسول الله -ﷺ- وأتاه رجل فقال: يا رسول الله, إني حلقت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج قال: وأتاه آخر فقال: إني أفضت قبل أن أرمي؟ قال: أرم, ولا حرج) وعن ابن عباس (أن رسول الله -ﷺ- سئل يوم النحر عن رجل حلق قبل أن يرمي؟ فقال رسول الله -ﷺ-: لا حرج لا حرج) رواه الدارقطني كله وسنة رسول الله -ﷺ- أحق أن تتبع على أنه لا يلزم من سقوط الدم بفقد الشيء في وقته, سقوطه قبل وقته فإنه لو حلق في العمرة بعد السعي لا شيء عليه, وإن كان الحل ما حصل قبله وكذلك في مسألتنا إذا قلنا: إن الحل يحصل بالحلق, فقد حلق قبل التحلل ولا دم عليه فأما إن فعله عمدا عالما بمخالفة السنة في ذلك, ففيه روايتان: إحداهما , لا دم عليه وهو قول عطاء , وإسحاق لإطلاق حديث ابن عباس , وكذلك حديث عبد الله بن عمرو , من رواية سفيان بن عيينة والثانية , عليه دم روي نحو ذلك عن سعيد بن جبير , وجابر بن زيد , وقتادة , والنخعي لأن الله تعالى قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} ولأن النبي -ﷺ- رتب , وقال: (خذوا عني مناسككم) والحديث المطلق قد جاء مقيدا , فيحمل المطلق على المقيد قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل حلق قبل أن يذبح؟ فقال: إن كان جاهلا فليس عليه فأما التعمد فلا, لأن النبي -ﷺ- سأله رجل فقال: لم أشعر قيل لأبي عبد الله: سفيان بن عيينة لا يقول: لم أشعر فقال: نعم ولكن مالكا والناس عن الزهري: لم أشعر قيل لأبي عبد الله: وهو في الحديث, وقال مالك: إن قدم الحلق على الرمي فعليه دم , وإن قدمه على النحر أو النحر على الرمي فلا شيء عليه لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي الجمرة فأما النحر قبل الرمي فجائز لأن الهدي قد بلغ محله ولنا, الحديث فإنه لم يفرق بينهما فإن النبي -ﷺ- قيل له في الحلق والنحر, والتقديم والتأخير فقال: (لا حرج) ولا نعلم خلافا بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الإجزاء, ولا يمنع وقوعها موقعها وإنما اختلفوا في وجوب الدم على ما ذكرنا, والله أعلم. فصل:


فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزأه طوافه وبهذا قال الشافعي وقال مالك: لا تجزئه الإفاضة فليرم, ثم لينحر ثم ليفض ولنا ما روى عطاء (أن النبي -ﷺ- قال له رجل: أفضت قبل أن أرمي؟ قال: ارم, ولا حرج وعنه أن النبي -ﷺ- قال: من قدم شيئا قبل شيء فلا حرج) رواهما سعيد في "سننه" وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (أن النبي -ﷺ- أتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم ولا حرج فما سئل رسول الله -ﷺ- عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج) رواه أبو داود والنسائي والترمذي ولأنه أتى بالرمي في وقته فأجزأه, كما لو رتب ومقتضى كلام أصحابنا أنه يحصل له بالإفاضة قبل الرمي التحلل الأول كمن رمى ولم يفض فعلى هذا لو واقع أهله قبل الرمي, فعليه دم ولم يفسد حجه وكذلك قال الأوزاعي فإن رجع إلى أهله ولم يرم فعليه دم لترك الرمي, وحجه صحيح قال ابن عباس: من نسي أو ترك شيئا من نسكه فليهرق لذلك دما وقال عطاء: من نسي من النسك شيئا, حتى رجع إلى أهله فليهرق لذلك دما. مسألة:


[ ثم يرجع إلى منى ولا يبيت بمكة ليالي منى ] السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى لما روى ابن عمر, أن النبي -ﷺ- (أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) متفق عليه وقالت عائشة رضي الله عنها: (أفاض رسول الله -ﷺ- من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى, فمكث بها ليالي أيام التشريق) رواه أبو داود وظاهر كلام الخرقي أن المبيت بمنى ليالي منى واجب وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقال ابن عباس: لا يبيتن أحد من وراء العقبة من منى ليلا وهو قول عروة وإبراهيم, ومجاهد وعطاء وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول مالك والشافعي والثانية ليس بواجب روي ذلك عن الحسن وروي عن ابن عباس: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت ولأنه قد حل من حجه, فلم يجب عليه المبيت بموضع معين , كليلة الحصبة والرواية الأولى أن ابن عمر روى: (أن رسول الله -ﷺ- رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى , من أجل سقايته) متفق عليه وتخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره وعن ابن عباس قال: (لم يرخص النبي -ﷺ- لأحد يبيت بمكة إلا للعباس, من أجل سقايته) رواه ابن ماجه وروى الأثرم عن (ابن عمر قال: لا يبيتن أحد من الحاج إلا بمنى وكان يبعث رجالا يدعون أحدا يبيت وراء العقبة) ولأن النبي -ﷺ- فعله نسكا, وقد قال: (خذوا عني مناسككم). فصل:


فإن ترك المبيت بمنى فعن أحمد: لا شيء عليه وقد أساء وهو قول أصحاب الرأي لأن الشرع لم يرد فيه بشيء وعنه يطعم شيئا وخففه, ثم قال: قد قال بعضهم: ليس عليه وقال إبراهيم: عليه دم وضحك , ثم قال: دم بمرة , ثم شدد بمرة قلت: ليس إلا أن يطعم شيئا؟ قال: نعم يطعم شيئا تمرا أو نحوه فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه, ولا فرق بين ليلة وأكثر ولا تقدير فيه وعنه: في الليالي الثلاث دم لقول ابن عباس: من ترك من نسكه شيئا أو نسيه فليهرق دما وفيما دون الثلاث ثلاث روايات وقال عطاء: في كل حصاة درهم وهو قول الشافعي وهذا لا نظير له, فإننا لا نعلم في ترك شيء من المناسك درهما , ولا نصف درهم , فإيجابه بغير نص تحكم لا وجه له والله أعلم. مسألة:


قال: [ فإذا كان من الغد وزالت الشمس رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة ويقف عندها ويرمي, ويدعو ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات يكبر أيضا, ويدعو ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ولا يقف عندها ] قد ذكرنا أن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة, سبعة منها يرميها يوم النحر بعد طلوع الشمس وسائرها في أيام التشريق الثلاثة بعد زوال الشمس, كل يوم إحدى وعشرين حصاة لثلاث جمرات يبتدئ بالجمرة الأولى, وهي أبعد الجمرات من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره, ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما وصفنا في جمرة العقبة, ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى فيقف طويلا يدعو الله تعالى رافعا يديه, ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات, ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ويستبطن الوادي, ويستقبل القبلة ولا يقف عندها وبهذا قال الشافعي ولا نعلم في جميع ما ذكرنا خلافا, إلا أن مالكا قال: ليس بموضع لرفع اليدين وقد ذكرنا الخلاف فيه عند رؤية البيت وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل أيقوم الرجل عند الجمرتين إذا رمى؟ قال: أي لعمري شديدا, ويطيل القيام أيضا قيل: فإلى أين يتوجه في قيامه؟ قال: إلى القبلة ويرميها في بطن الوادي والأصل في هذا ما روت عائشة قالت: (أفاض رسول الله -ﷺ- من آخر يومه حين صلى الظهر, ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس, كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية, فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة, ولا يقف عندها) رواه أبو داود وعن (ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة, ثم يتقدم ويستهل ويقوم قياما طويلا, ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ بذات الشمال, فيستهل ويقوم مستقبل القبلة قياما طويلا ثم يرفع يديه, ويقوم طويلا ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها, ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله -ﷺ- يفعله) رواه البخاري وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه الذي دعا به بعرفة, ويزيد: وأصلح أو أتم لنا مناسكنا وقال ابن المنذر: كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وكان ابن عمر, وابن عباس يرفعان أيديهما إذا رميا الجمرة ويطيلان الوقوف وروي عن عبد الرحمن بن يزيد, قال: (أفضت مع عبد الله فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, واستبطن الوادي حتى إذا فرغ قال: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ثم قال: هكذا رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة صنع) رواه الأثرم وعن عطاء, قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة رواه الأثرم. فصل:


ولا يرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال فإن رمى قبل الزوال أعاد نص عليه وروي ذلك عن ابن عمر وبه قال مالك, والثوري والشافعي وإسحاق, وأصحاب الرأي وروي عن الحسن وعطاء إلا أن إسحاق وأصحاب الرأي, رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال ولا ينفر إلا بعد الزوال وعن أحمد مثله ورخص عكرمة في ذلك أيضا وقال طاوس: يرمي قبل الزوال وينفر قبله ولنا, أن النبي -ﷺ- إنما رمى بعد الزوال لقول عائشة: يرمي الجمرة إذا زالت الشمس وقول جابر في صفة حج النبي -ﷺ-: رأيت رسول الله -ﷺ- يرمي الجمرة ضحى يوم النحر ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس وقد قال النبي -ﷺ-: (خذوا عني مناسككم) وقال ابن عمر: كنا نتحين إذا زالت الشمس رمينا وأي وقت رمى بعد الزوال أجزأه, إلا أن المستحب المبادرة إليها حين الزوال كما قال ابن عمر (وقال ابن عباس إن رسول الله -ﷺ- كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر) رواه ابن ماجه. فصل:


والترتيب في هذه الجمرات واجب, على ما ذكرنا فإن نكس فبدأ بجمرة العقبة ثم الثانية ثم الأولى, أو بدأ بالوسطى ورمى الثلاث لم يجزه إلا الأولى, وأعاد الوسطى والقصوى نص عليه أحمد وإن رمى القصوى ثم الأولى ثم الوسطى, أعاد القصوى وحدها وبهذا قال مالك والشافعي وقال الحسن وعطاء: لا يجب الترتيب وهو قول أبي حنيفة فإنه قال: إذا رمى منكسا يعيد, فإن لم يفعل أجزأه واحتج بعضهم بما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج) ولأنها مناسك متكررة في أمكنة متفرقة, في وقت واحد ليس بعضها تابعا لبعض فلم يشترط الترتيب فيها, كالرمي والذبح ولنا أن النبي -ﷺ- رتبها في الرمي وقال: (خذوا عني مناسككم) ولأنه نسك متكرر, فاشترط الترتيب فيه كالسعي وحديثهم إنما جاء في من يقدم نسكا على نسك لا في تقديم بعض النسك على بعض وقياسهم يبطل بالطواف والسعي. فصل:


وإن ترك الوقوف عندها والدعاء, ترك السنة ولا شيء عليه وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة, وإسحاق وأبو ثور ولا نعلم فيه مخالفا, إلا الثوري قال: يطعم شيئا وإن أراق دما أحب إلي لأن النبي -ﷺ- فعله فيكون نسكا ولنا, أنه دعاء وقوف مشروع له فلم يجب بتركه شيء كحالة رؤية البيت, وكسائر الأدعية ولأنها إحدى الجمرات فلم يجب الوقوف عندها والدعاء, كالأولى والنبي -ﷺ- يفعل الواجبات والمندوبات وقد ذكرنا الدليل على أن هذا ندب. فصل:


والأولى أن لا ينقص في الرمي عن سبع حصيات لأن النبي -ﷺ- رمى بسبع حصيات فإن نقص حصاة أو حصاتين, فلا بأس ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه وهو قول مجاهد وإسحاق وعنه: إن رمى بست ناسيا: فلا شيء عليه, ولا ينبغي أن يتعمده فإن تعمد ذلك تصدق بشيء وكان ابن عمر يقول: ما أبالي رميت بست أو سبع وقال ابن عباس: ما أدري رماها النبي -ﷺ- بست أو سبع وعن أحمد, أن عدد السبع شرط ونسبه إلى مذهب الشافعي وأصحاب الرأي لأن النبي -ﷺ- رمى بسبع وقال أبو حية: لا بأس بما رمى به الرجل من الحصى فقال عبد الله بن عمرو: صدق أبو حية وكان أبو حية بدريا ووجه الرواية الأولى ما روى ابن أبي نجيح قال: سئل طاوس عن رجل ترك حصاة؟ قال: يتصدق بتمرة أو لقمة فذكرت ذلك لمجاهد, فقال: إن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعد قال سعد: رجعنا من الحجة مع رسول الله -ﷺ- بعضنا يقول: رميت بست وبعضنا يقول: بسبع فلم يعب ذلك بعضنا على بعض رواه الأثرم وغيره ومتى أخل بحصاة واجبة من الأولى, لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى فإن لم يدر من أي الجمار تركها بنى على اليقين وإن أخل بحصاة غير واجبة, لم يؤثر تركها. مسألة:


قال: [ ويفعل في اليوم الثاني كما فعل بالأمس فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل غروب الشمس فإن غربت الشمس وهو بها, لم يخرج حتى يرمي من غد بعد الزوال كما رمى بالأمس ] وجملته أن الرمي في اليوم الثاني كالرمي في اليوم الأول في وقته وصفته وهيئته لا نعلم فيه خلافا فإن أحب التعجل في يومين, خرج قبل الغروب وأجمع أهل العلم على أن من أراد الخروج من منى شاخصا عن الحرم غير مقيم بمكة أن ينفر بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق, فإن أحب الإقامة بمكة فقال أحمد: لا يعجبني لمن ينفر النفر الأول أن يقيم بمكة وكان مالك يقول في أهل مكة: من كان له عذر فله أن يتعجل في يومين فإن أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا ويحتج من ذهب إلى هذا بقول عمر رضي الله عنه من شاء من الناس كلهم أن ينفر في النفر الأول إلا آل خزيمة, فلا ينفرون إلا في النفر الآخر جعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر: إلا آل خزيمة أي أنهم أهل حرم مكة والمذهب جواز النفير في النفر الأول لكل أحد وهو قول عامة العلماء لقول الله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى} قال عطاء: هي للناس عامة وروى أبو داود وابن ماجه عن عبد الرحمن بن يعمر, أن رسول الله -ﷺ- قال: (أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه سفيان وقال وكيع: هذا الحديث أم المناسك وفيه زيادة أنا اختصرته ولأنه دفع من مكان, فاستوى فيه أهل مكة وغيرهم كالدفع من عرفة ومن مزدلفة وكلام أحمد في هذا أراد به الاستحباب, موافقة لقول عمر لا غير فمن أحب التعجيل في النفر الأول خرج قبل غروب الشمس فإن غربت قبل خروجه من منى لم ينفر, سواء كان ارتحل أو كان مقيما في منزله لم يجز له الخروج هذا قول عمر, وجابر بن زيد وعطاء وطاوس, ومجاهد وأبان بن عثمان ومالك, والثوري والشافعي وإسحاق, وابن المنذر وقال أبو حنيفة: له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث لأنه لم يدخل وقت رمي اليوم الآخر فجاز له النفر كما قبل الغروب ولنا قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} واليوم اسم للنهار, فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين قال ابن المنذر وثبت عن ابن عمر أنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس وما قاسوا عليه لا يشبه ما نحن فيه فإنه تعجل في اليومين. فصل:


إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة, ولا شيء عليه إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وبذلك قال الشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة: إن ترك حصاة أو حصاتين أو ثلاثا إلى الغد رماها وعليه لكل حصاة نصف صاع, وإن ترك أربعا رماها وعليه دم ولنا أن أيام التشريق وقت للرمي, فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته ولأنه وقت يجوز الرمي فيه, فجاز لغيرهم كاليوم الأول قال القاضي: ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء لأنه وقت واحد وإن كان قضاء فالمراد به الفعل كقوله: {ثم ليقضوا تفثهم} وقولهم: قضيت الدين والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق, في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد وإنما قلنا: يلزمه الترتيب بنيته لأنها عبادات يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها فوجب ترتيبها مجموعة, كالصلاتين المجموعتين والفوائت. مسألة:


قال: [ ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام ] يعني مسجد الخيف فإن النبي -ﷺ- وأصحابه كانوا يصلون بمنى (قال ابن مسعود: صليت مع النبي -ﷺ- بمنى ركعتين ومع أبي بكر وعمر وعثمان ركعتين صدرا من إمارته) وهذا إذا كان الإمام مرضيا, فإن لم يكن مرضيا صلى المرء برفقته في رحله. فصل:


ويستحب أن يخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق خطبة يعلم الناس فيها حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم وبهذا قال الشافعي, وابن المنذر وقال أبو حنيفة لا يستحب قياسا على اليومين الآخرين ولنا ما روي عن (رجلين من بني بكر, قالا: رأينا رسول الله -ﷺ- يخطب بين أوساط أيام التشريق ونحن عند راحلته) رواه أبو داود وعن سراء بنت نبهان قالت: (خطبنا رسول الله -ﷺ- يوم الرءوس, فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: أليس أوسط أيام التشريق؟) روى الدارقطني بإسناده عن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده (أن رسول الله -ﷺ- خطب أوسط أيام التشريق يعني يوم النفر الأول ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم كيف يتعجلون, وكيف يودعون بخلاف اليوم الأول). مسألة:


قال: [ ويكبر في دبر كل صلاة من صلاة الظهر, يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ] إنما خص المحرم بالتكبير من يوم النحر ظهرا لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية فلا يقطعها إلا عند رمى جمرة العقبة كما بيناه فيما قبل وليس بعدهما صلاة قبل الظهر, فيكبر حينئذ بعدها كالمحل ويستوي هو والحلال في آخر مدة التكبير وصفة التكبير ما ذكرناه في صلاة العيد وهو أن يقول: " الله أكبر الله أكبر, لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد ". فصل:


قال بعض أصحابنا: يستحب لمن نفر أن يأتي المحصب وهو الأبطح, وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة فيصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يضطجع يسيرا, ثم يدخل مكة وكان ابن عمر يرى التحصيب سنة قال ابن عمر يصلي بالمحصب الظهر والعصر والمغرب والعشاء وكان كثير الاتباع لرسول الله -ﷺ- وكان طاوس يحصب في شعب الجوز وكان سعيد بن جبير يفعله ثم تركه وكان ابن عباس, وعائشة لا يريان ذلك سنة قال ابن عباس التحصيب ليس بشيء, إنما هو منزل نزله رسول الله -ﷺ- وعن عائشة أن نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزله رسول الله -ﷺ- ليكون أسمح لخروجه إذا خرج متفق عليهما ومن استحب ذلك فلاتباع رسول الله -ﷺ- فإنه كان ينزله, قال نافع: (كان ابن عمر يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ويذكر ذلك عن رسول الله -ﷺ-) متفق عليه وقال ابن عمر: (كان رسول الله -ﷺ- وأبو بكر وعمر وعثمان ينزلون الأبطح) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ولا خلاف في أنه ليس بواجب ولا شيء على تاركه. مسألة:


قال: [ فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا, ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت ] وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها, فإن أقام بها فلا وداع عليه لأن الوداع من المفارق لا من الملازم, سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف ولا يصح لأنه غير مفارق, فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر وإنما قال النبي -ﷺ- " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " وهذا ليس بنافر فأما الخارج من مكة, فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع وهو واجب من تركه لزمه دم وبذلك قال الحسن, والحكم وحماد والثوري وإسحاق, وأبو ثور وقال الشافعي في قول له: لا يجب بتركه شيء لأنه يسقط عن الحائض فلم يكن واجبا كطواف القدوم, ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم ولنا ما روى ابن عباس, قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) متفق عليه ولمسلم قال: كان الناس ينصرفون كل وجه, فقال رسول الله -ﷺ-: (لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها, بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن, بغير خلاف ولذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة, ويسمى طواف الوداع لأنه لتوديع البيت وطواف الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله, ولذلك قال النبي -ﷺ-: " حتى يكون آخر عهده بالبيت ". فصل:


ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه, فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ذكره ابن القاسم وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع, لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام بدليل سقوط دم المتعة عنهم ولنا عموم قوله -ﷺ-: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " ولأنه خارج من مكة, فلزمه التوديع كالبعيد. فصل:


فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج, ففيه روايتان: إحداهما يجزئه عن طواف الوداع لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت, وقد فعل ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة وعنه, لا يجزئه عن طواف الوداع لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجز إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين. مسألة:


قال: [ فإن ودع واشتغل في تجارة, عاد فودع ] قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت, فإن طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته وبهذا قال عطاء ومالك, والثوري والشافعي وأبو ثور وقال أصحاب الرأي: إذا طاف للوداع, أو طاف تطوعا بعدما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع وإن أقام شهرا أو أكثر لأنه طاف بعدما حل له النفر, فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقيبه ولنا قوله عليه السلام: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) ولأنه إذا قام بعده, خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه كما لو طافه قبل حل النفر فأما إن قضى حاجة في طريقه, أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت وبهذا قال مالك, والشافعي ولا نعلم مخالفا لهما. مسألة:


قال: [ فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب, وإن بعد بعث بدم ] هذا قول عطاء والثوري, والشافعي وإسحاق وأبي ثور والقريب هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر والبعيد من بلغ مسافة القصر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وكان عطاء يرى الطائف قريبا وقال الثوري حد ذلك الحرم, فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد ووجه القول الأول أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر, في أنه لا يقصر ولا يفطر ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام وقد روي أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة, ليكون آخر عهده بالبيت رواه سعيد وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ, لعذر أو غيره لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره, كسائر واجباته فإن رجع البعيد فطاف للوداع فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم تسقط برجوعه, كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه وإن رجع القريب, فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا لأن الدم لم يستقر عليه, لكونه في حكم الحاضر ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله, كالقريب. فصل:


إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه, إلا محرما لأنه ليس من أهل الأعذار فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي وطواف لوداعه, وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه فأما إن رجع القريب, فظاهر قول من ذكرنا قوله أنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به فأشبه من رجع لطواف الزيارة فإن ودع وخرج, ثم دخل مكة لحاجة فقال أحمد أحب إلي ألا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك, إنما دخل لحاجة غير متكررة فأشبه من يدخلها للإقامة بها. مسألة:


قال: [ والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت, ولا وداع عليها ولا فدية ] هذا قول عامة فقهاء الأمصار وقد روي عن عمر وابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع وكان زيد بن ثابت يقول به, ثم رجع عنه فروى مسلم أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا, قال طاوس: كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت: تفتي أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت فقال له ابن عباس: إما تسأل فلانة الأنصارية هل أمرها رسول الله -ﷺ- بذلك؟ قال: فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك, وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث (صفية حين قالوا: يا رسول الله, إنها حائض فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر قال: فلتنفر إذا ولا أمرها بفدية ولا غيرها) وفي حديث ابن عباس: إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والحكم في النفساء كالحكم في الحائض لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط. فصل:


وإذا نفرت الحائض بغير وداع, فطهرت قبل مفارقة البنيان رجعت فاغتسلت وودعت لأنها في حكم الإقامة بدليل أنها لا تستبيح الرخص فإن لم يمكنها الإقامة, فمضت أو مضت لغير عذر فعليها دم وإن فارقت البنيان, لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة كالخارج من غير عذر قلنا: هناك ترك واجبا, فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول وها هنا لم يكن واجبا, ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما. فصل:


ويستحب أن يقف المودع في الملتزم وهو ما بين الركن والباب فيلتزمه, ويلصق به صدره ووجهه ويدعو الله عز وجل لما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده قال طفت مع عبد الله, فلما جاء دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب, فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا - وبسطها بسطا - وقال: هكذا رأيت رسول الله -ﷺ- يفعله وعن عبد الرحمن بن صفوان قال: لما فتح رسول الله -ﷺ- مكة انطلقت فرأيت رسول الله -ﷺ- قد خرج من الكعبة, هو وأصحابه قد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت, ورسول الله -ﷺ- وسطهم رواه أبو داود وقال منصور: سألت مجاهدا: إذا أردت الوداع كيف أصنع؟ قال: تطوف بالبيت سبعا وتصلي ركعتين خلف المقام, ثم تأتي زمزم فتشرب من مائها ثم تأتي الملتزم ما بين الحجر والباب فتستلمه, ثم تدعو ثم تسأل حاجتك ثم تستلم الحجر, وتنصرف وقال بعض أصحابنا: ويقول في دعائه: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك, حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي, فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري, فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك, اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني, وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك أبدا ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة, إنك على كل شيء قدير وعن طاوس قال: رأيت أعرابيا أتى الملتزم فتعلق بأستار الكعبة فقال: بك أعوذ, وبك ألوذ اللهم فاجعل لي في اللهف إلى جودك والرضا بضمانك, مندوحا عن منع الباخلين وغني عما في أيدي المستأثرين اللهم بفرجك القريب, ومعروفك القديم وعادتك الحسنة ثم أضلني في الناس فلقيته بعرفات قائما, وهو يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجتي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم أعظم مصيبة ممن ورد حوضك, وانصرف محروما من وجه رغبتك وقال آخر: يا خير موفود إليه قد ضعفت قوتي وذهبت منتي, وأتيت إليك بذنوب لا تغسلها البحار أستجير برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك, رب ارحم من شملته الخطايا وغمرته الذنوب وظهرت منه العيوب, ارحم أسير ضر وطريد فقر أسألك أن تهب لي عظيم جرمي, يا مستزادا من نعمه ومستعاذا من نقمه ارحم صوت حزين دعاك بزفير وشهيق, اللهم إن كنت بسطت إليك يدي داعيا فطالما كفيتني ساهيا فبنعمتك التي تظاهرت على عند الغفلة, لا أيأس منها عند التوبة فلا تقطع رجائي منك لما قدمت من اقتراف وهب لي الإصلاح في الولد, والأمن في البلد والعافية في الجسد إنك سميع مجيب, اللهم إن لك على حقوقا فتصدق بها على وللناس قبلي تبعات فتحملها عني, وقد أوجبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك الليلة فاجعل قراي الجنة, اللهم إني سائلك عند بابك من ذهبت أيامه وبقيت آثامه, وانقطعت شهوته وبقيت تبعته فارض عنه, وإن لم ترض عنه فاعف عنه فقد يعفو السيد عن عبده وهو عنه غير راض ثم يصلي على النبي -ﷺ- والمرأة إذا كانت حائضا لم تدخل المسجد, ووقفت على بابه فدعت بذلك. فصل:


قال أحمد: إذا ودع البيت يقوم عند البيت إذا خرج ويدع وإذا ولى لا يقف ولا يلتفت, فإن التفت رجع فودع وروى حنبل في " مناسكه " عن المهاجر قال: قلت لجابر بن عبد الله: الرجل يطوف بالبيت, ويصلي فإذا انصرف خرج ثم استقبل القبلة فقام؟ فقال: ما كنت أحسب يصنع هذا إلا اليهود والنصارى قال أبو عبد الله: أكره ذلك وقول أبي عبد الله: إن التفت رجع فودع على سبيل الاستحباب, إذ لا نعلم لإيجاب ذلك عليه دليلا وقد قال مجاهد: إذا كدت تخرج من باب المسجد فالتفت ثم انظر إلى الكعبة, ثم قل: اللهم لا تجعله آخر العهد. مسألة:


قال: [ ومن ترك طواف الزيارة رجع من بلده حراما حتى يطوف بالبيت ] وجملة ذلك أن طواف الزيارة ركن الحج لا يتم إلا به ولا يحل من إحرامه حتى يفعله, فإن رجع إلى بلده قبله لم ينفك إحرامه ورجع متى أمكنه محرما, لا يجزئه غير ذلك وبذلك قال عطاء والثوري ومالك, والشافعي وإسحاق وأبو ثور, وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال الحسن: يحج من العام المقبل وحكي نحو ذلك عن عطاء قولا ثانيا وقال: يأتي عاما قابلا من حج أو عمرة ولنا قول النبي -ﷺ- حين ذكر له أن صفية حاضت قال: " أحابستنا هي؟ " قيل: إنها قد أفاضت يوم النحر قال: " فلتنفر إذا " يدل على أن هذا الطواف لا بد منه, وأنه حابس لمن لم يأت به فإن نوى التحلل ورفض إحرامه لم يحل بذلك لأن الإحرام لا يخرج منه بنية الخروج, ومتى رجع إلى مكة فطاف بالبيت حل بطوافه لأن الطواف لا يفوت وقته, على ما أسلفناه. فصل:


فإن ترك بعض الطواف فهو كما لو ترك جميعه فيما ذكرنا وسواء ترك شوطا أو أقل أو أكثر وهذا قول عطاء, ومالك والشافعي وإسحاق, وأبي ثور وقال أصحاب الرأي: من طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة أو طواف العمرة وسعى بين الصفا والمروة, ثم رجع إلى الكوفة إن سعيه يجزئه وعليه دم لما ترك من الطواف بالبيت ولنا, أن ما أتى به لا يجزئه إذا كان بمكة فلا يجزئه إذا خرج منها كما لو طاف دون الأربعة أشواط. فصل:


وإذا ترك طواف الزيارة, بعد رمي جمرة العقبة فلم يبق محرما إلا عن النساء خاصة لأنه قد حصل له التحلل الأول برمي جمرة العقبة فلم يبق محرما إلا عن النساء خاصة وإن وطئ لم يفسد حجه, ولم تجب عليه بدنة لكن عليه دم ويجدد إحرامه ليطوف في إحرام صحيح قال أحمد: من طاف للزيارة, أو اخترق الحجر في طوافه ورجع إلى بغداد فإنه يرجع لأنه على بقية إحرامه, فإن وطئ النساء أحرم من التنعيم على حديث ابن عباس, وعليه دم وهذا كما قلنا. مسألة:


قال: [ وإن كان طاف للوداع لم يجزئه لطواف الزيارة ] وإنما لم يجزئه عن طواف الزيارة لأن تعيين النية شرط فيه على ما ذكرنا, فمن طاف للوداع فلم يعين النية له فلذلك لم يصح. مسألة:


قال: [ وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد, إلا أن عليه دما فإن لم يجد صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة, وسبعة إذا رجع ] المشهور عن أحمد أن القارن بين الحج والعمرة لا يلزمه من العمل إلا ما يلزم المفرد, وأنه يجزئه طواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته نص عليه في رواية جماعة من أصحابه وهذا قول ابن عمر, وجابر بن عبد الله وبه قال عطاء وطاوس, ومجاهد ومالك والشافعي, وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد رواية ثانية, أن عليه طوافين وسعيين ويروى ذلك عن الشعبي وجابر بن زيد وعبد الرحمن بن الأسود وبه قال الثوري, والحسن بن صالح وأصحاب الرأي وقد روي عن علي ولم يصح عنه واحتج بعض من اختار ذلك بقول الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} وتمامهما, أن يأتي بأفعالهما على الكمال ولم يفرق بين القارن وغيره وروي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان) ولأنهما نسكان فكان لهما طوافان, كما لو كانا منفردين ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة, فإنما طافوا لهما طوافا واحدا) متفق عليه وفي مسلم (أن النبي -ﷺ- قال لعائشة لما قرنت بين الحج والعمرة: يسعك طوافك لحجك وعمرتك) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من أحرم بالحج والعمرة, أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما جميعا) وعن جابر (أن النبي -ﷺ- قرن بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافا واحدا) رواهما الترمذي, وقال في كل واحد منهما: حديث حسن وروى ليث عن طاوس وعطاء, ومجاهد عن جابر وابن عمر, وابن عباس (أن رسول الله -ﷺ- لم يطف بالبيت هو وأصحابه لعمرتهم وحجهم إلا طوافا واحدا) رواه الأثرم وابن ماجه وعن سلمة قال: حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب محمد -ﷺ- للحج والعمرة إلا طوافا واحدا ولأنه ناسك يكفيه حلق واحد, ورمي واحد فكفاه طواف واحد وسعي واحد, كالمفرد ولأنهما عبادتان من جنس واحد فإذا اجتمعتا دخلت أفعال الصغرى في الكبرى, كالطهارتين وأما الآية فإن الأفعال إذا وقعت لهما فقد تما وأما الحديث الذي احتجوا به فلا نعلم صحته, ورواه الدارقطني من طرق ضعيفة في بعضها الحسن بن عمارة وفي بعضها عمر بن يزيد, وفي بعضها حفص بن أبي داود وكلهم ضعفاء وكفى به ضعفا معارضته لما روينا من الأحاديث الصحيحة وإن صح, فيحتمل أنه أراد: عليه طواف وسعي فسماهما طوافين فإن السعي يسمى طوافا قال الله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ويحتمل أنه أراد: عليه طوافان طواف الزيارة وطواف الوداع. فصل:


وإن قتل القارن صيدا, فعليه جزاء واحد نص عليه أحمد فقال: إذا قتل القارن صيدا فعليه جزاء واحد وهؤلاء يقولون: في ذلك جزاءان فيلزمهم أن يقولوا: في صيد الحرم ثلاثة لأنهم يقولون: في الحل اثنان ففي الحرم ينبغي أن يكون ثلاثة وهذا قول مالك, والشافعي وقال أصحاب الرأي: عليه جزاءان قال القاضي: وإذا قلنا عليه طوافان لزمه جزاءان ولنا قول الله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} ومن أوجب جزاءين, فقد أوجب مثلين ولأنه صيد واحد فلم يجب فيه جزاءان كما لو قتل المحرم في الحرم صيدا ولأنه لا يزيد على محرمين قتلا صيدا, وليس عليهما إلا فداء واحد وكذلك محرم وحلال قتلا صيدا حرميا. فصل:


وإن أفسد القارن نسكه بالوطء فعليه فداء واحد وبذلك قال عطاء, وابن جريج ومالك والشافعي, وإسحاق وأبو ثور ولا يسقط دم القران وقال الحكم: عليه هديان ويتخرج لنا أن يلزمه بدنة وشاة إذا قلنا يلزمه طوافان وقال أصحاب الرأي: إن وطئ قبل الوقوف فسد نسكه, وعليه شاتان للحج والعمرة ويسقط عنه دم القران ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم, الذين سئلوا عمن أفسد نسكه لم يأمروه إلا بفداء واحد ولم يفرقوا ولأنه أحد الأنساك الثلاثة, فلم يجب في إفساده أكثر من فدية واحدة كالآخرين وسائر محظورات الإحرام, من اللبس والطيب وغيرهما لا يجب في كل واحد منها أكثر من فداء واحد كما لو كان مفردا والله أعلم. مسألة:


قال: [ إلا أن عليه دما, فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ] هذا استثناء منقطع معناه لكن عليه دم, فإن وجوب الدم ليس من الأفعال المنفية بقوله: " وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد " ولا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافا إلا ما حكي عن داود أنه لا دم عليه وروي ذلك عن طاوس وحكى ابن المنذر, أن ابن داود لما دخل مكة سئل عن القارن هل يجب عليه دم؟ فقال: لا فجر برجله وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم ولنا قول الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} والقارن متمتع بالعمرة إلى الحج, بدليل أن عليا رضي الله عنه لما سمع عثمان ينهى عن المتعة أهل بالحج والعمرة ليعلم الناس أنه ليس بمنهي عنه وقال ابن عمر: إنما القران لأهل الآفاق وتلا قوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} وقد روي أن النبي -ﷺ- قال: (من قرن بين حجه وعمرته, فليهرق دما) ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع وإذا عدم الدم فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج, وسبعة إذا رجع كالمتمتع سواء. فصل:


ومن شرط وجوب الدم عليه أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام في قول جمهور العلماء وقال ابن الماجشون: عليه دم لأن الله تعالى إنما أسقط الدم عن المتمتع, وليس هذا متمتعا وليس هذا بصحيح فإننا قد ذكرنا أنه متمتع وإن لم يكن متمتعا فهو فرع عليه ووجوب الدم على القارن إنما كان بمعنى النص على المتمتع, فلا يجوز أن يخالف الفرع أصله. مسألة:


قال: [ ومن اعتمر في أشهر الحج فطاف وسعى ثم أحرم بالحج من عامه, ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة فهو متمتع عليه دم ] الكلام في هذه المسألة في فصول: أحدها:


وجوب الدم على المتمتع في الجملة وأجمع أهل العلم عليه قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها, وحج من عامه أنه متمتع وعليه الهدي إن وجد, وإلا فالصيام وقد نص الله تعالى عليه بقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} الآية وقال ابن عمر: (تمتع الناس مع رسول الله -ﷺ- بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله -ﷺ- قال للناس: من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت, وبالصفا والمروة وليقصر ثم ليهل بالحج ويهدي, فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) متفق عليه وقال جابر: (كنا نتمتع مع رسول الله -ﷺ- بالعمرة إلى الحج, فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها) رواه مسلم وعن أبي جمرة قال: سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها, وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور أو بقرة, أو شاة أو شرك من دم متفق عليه والدم الواجب شاة أو سبع بقرة, أو سبع بدنة فإن نحر بدنة أو ذبح بقرة, فقد زاد خيرا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك: لا يجزئ إلا بدنة لأن النبي -ﷺ- لما تمتع ساق بدنة وهذا ترك لظاهر قوله تعالى: {فما استيسر من الهدي} واطراح للآثار الثابتة, وما احتجوا به فلا حجة فيه فإن إهداء النبي -ﷺ- للبدنة لا يمنع إجزاء ما دونها فإن النبي -ﷺ- قد ساق مائة بدنة ولا خلاف في أن ذلك ليس بواجب, ولا يجب أن تكون البدنة التي يذبحها على صفة بدن النبي -ﷺ- ثم إنهم يقولون: إن النبي -ﷺ- كان مفردا في حجته وكذلك ذهبوا إلى تفضيل الإفراد فكيف يكون سوقه للبدن دليلا لهم في التمتع ولم يكن متمتعا. الفصل الثاني:


في الشروط التي يجب الدم على من اجتمعت فيه, وهي خمسة: الأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج فإن أحرم بها في غير أشهره, لم يكن متمتعا سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو في غير أشهره نص عليه أحمد قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله, سئل عمن أهل بعمرة في غير أشهر الحج ثم قدم في شوال أيحل من عمرته في شوال, أو يكون متمتعا؟ فقال: لا يكون متمتعا واحتج بحديث جابر وذكر إسناده عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن امرأة تجعل على نفسها عمرة في شهر مسمى, ثم تحل إلا ليلة واحدة ثم تحيض؟ قال: لتخرج ثم لتهل بعمرة, ثم لتنتظر حتى تطهر ثم لتطف بالبيت قال أبو عبد الله: فجعل عمرتها في الشهر الذي أهلت فيه لا في الشهر الذي حلت فيه ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من اعتمر في غير أشهر الحج عمرة, وحل منها قبل أشهر الحج أنه لا يكون متمتعا إلا قولين شاذين, أحدهما عن طاوس أنه قال: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى الحج, فأنت متمتع والثاني عن الحسن أنه قال: من اعتمر بعد النحر فهي متعة قال: ابن المنذر: لا نعلم أحدا قال بواحد من هذين القولين فأما إن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج, ثم حل منها في أشهر الحج فذهب أحمد أنه لا يكون متمتعا ونقل معنى ذلك عن جابر وأبي عياض وهو قول إسحاق, وأحد قولي الشافعي وقال طاوس: عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم وقال الحسن والحكم وابن شبرمة, والثوري والشافعي في أحد قوليه: عمرته في الشهر الذي يطوف فيه وقال عطاء: عمرته في الشهر الذي يحل فيه وهو قول مالك وقال أبو حنيفة: إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج فليس بمتمتع وإن طاف الأربعة في أشهر الحج, فهو متمتع لأن العمرة صحت في أشهر الحج بدليل أنه لو وطئ أفسدها أشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج ولنا ما ذكرنا عن جابر, ولأنه أتى بنسك لا تتم العمرة إلا به في غير أشهر الحج فلم يكن متمتعا كما لو طاف ويخرج عليه ما قاسوا عليه. الثاني: أن يحج من عامه فإن اعتمر في أشهر الحج ولم يحج ذلك العام, بل حج من العام القابل فليس بمتمتع لا نعلم فيه خلافا إلا قولا شاذا عن الحسن, في من اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع حج أو لم يحج والجمهور على خلاف هذا لأن الله تعالى قال: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وهذا يقتضي الموالاة بينهما, ولأنهم إذا أجمعوا على أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فليس بمتمتع, فهذا أولى من التباعد بينهما أكثر. الثالث: أن لا يسافر بين العمرة والحج سفرا بعيدا تقصر في مثله الصلاة نص عليه وروي ذلك عن عطاء والمغيرة المديني, وإسحاق وقال الشافعي: إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه وقال أصحاب الرأي: إن رجع إلى مصره بطلت متعته, وإلا فلا وقال مالك: إن رجع إلى مصره أو إلى غيره أبعد من مصره بطلت متعته, وإلا فلا وقال الحسن: هو متمتع وإن رجع إلى بلده واختاره ابن المنذر لعموم قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام, فهو متمتع فإن خرج ورجع فليس بمتمتع وعن ابن عمر نحو ذلك ولأنه إذا رجع إلى الميقات أو ما دونه, لزمه الإحرام منه فإن كان بعيدا فقد أنشأ سفرا بعيدا لحجه فلم يترفه بأحد السفرين, فلم يلزمه دم كموضع الوفاق والآية تناولت المتمتع وهذا ليس بمتمتع بدليل قول عمر. الرابع: أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله منها كما فعل النبي -ﷺ- والذين كان معهم الهدي من أصحابه, فهذا يصير قارنا ولا يلزمه دم المتعة قالت عائشة: (خرجنا مع رسول الله -ﷺ- عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة, فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة, فشكوت ذلك إلى رسول الله -ﷺ- فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج, ودعي العمرة قالت: ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله -ﷺ- مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم, فاعتمرت معه فقال: هذه مكان عمرتك قال عروة: فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة) متفق عليه ولكن عليه دم للقران لأنه صار قارنا, وترفه بسقوط أحد السفرين وقول عروة: لم يكن في ذلك هدي يحتمل أنه أراد لم يكن فيه هدي للمتعة إذ قد ثبت أن رسول الله -ﷺ- ذبح عن نسائه بقرة بينهن. الخامس: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ولا خلاف بين أهل العلم, في أن دم المتعة لا يجب على حاضري المسجد الحرام إذ قد نص الله تعالى في كتابه بقوله سبحانه: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} ولأن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة فلم يحصل له الترفه بأحد السفرين, ولأنه أحرم بالحج من ميقاته فأشبه المفرد. فصل:


"وحاضروا المسجد الحرام" أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر نص عليه أحمد وروي ذلك عن عطاء وبه قال الشافعي وقال مالك: أهل مكة وقال مجاهد: أهل الحرم وروي ذلك عن طاوس وقال مكحول, وأصحاب الرأي: من دون المواقيت لأنه موضع شرع فيه النسك فأشبه الحرم ولنا أن حاضر الشيء من دنا منه, ومن دون مسافة القصر قريب في حكم الحاضر بدليل أنه إذا قصده لا يترخص رخص السفر فيكون من حاضريه وتحديده بالميقات لا يصح لأنه قد يكون بعيدا يثبت له حكم السفر البعيد إذا قصده, ولأن ذلك يفضي إلى جعل البعيد من حاضريه والقريب من غير حاضريه في المواقيت قريبا وبعيدا واعتبارنا أولى لأن الشارع حد الحاضر بدون مسافة القصر, بنفي أحكام المسافرين عنه فالاعتبار به أولى من الاعتبار بالنسك لوجود لفظ الحضور في الآية. فصل:


إذا كان للمتمتع قريتان قريبة وبعيدة, فهو من حاضري المسجد الحرام لأنه إذا كان بعض أهله قريبا فلم يوجد فيه الشرط وهو أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ولأن له أن يحرم من القريبة فلم يكن بالتمتع مترفها بترك أحد السفرين وقال القاضي: له حكم القرية التي يقيم بها أكثر, فإن استويا فمن التي ماله بها أكثر فإن استويا فمن التي ينوي الإقامة بها أكثر فإن استويا حكم للقرية التي أحرم منها وقد ذكرنا الدليل لما قلناه. فصل:


فإذا دخل الآفاقي مكة, متمتعا ناويا للإقامة بها بعد تمتعه فعليه دم المتعة قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم ولو كان الرجل منشؤه ومولده بمكة فخرج عنها متنقلا مقيما بغيرها, ثم عاد إليها متمتعا ناويا للإقامة بها أو غير ناو لذلك فعليه دم المتعة لأنه خرج بالانتقال عنها عن أن يكون من أهلها وبذلك قال مالك, والشافعي وإسحاق وذلك لأن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بنية الإقامة وفعلها وهذا إنما نوى الإقامة إذا فرغ من أفعال الحج لأنه إذا فرغ من عمرته, فهو ناو للخروج إلى الحج فكأنه إنما نوى أن يقيم بعد أن يجب عليه الدم فأما إن خرج المكي مسافرا غير متنقل ثم عاد فاعتمر من الميقات, أو قصر وحج من عامه فلا دم عليه لأنه لم يخرج بهذا السفر عن كون أهله من حاضري المسجد الحرام. فصل:


وهذا الشرط لوجوب الدم عليه وليس بشرط لكونه متمتعا فإن متعة المكي صحيحة لأن التمتع أحد الأنساك الثلاثة, فصح من المكي كالنسكين الآخرين ولأن حقيقة التمتع هو أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامه وهذا موجود في المكي وقد نقل عن أحمد: ليس على أهل مكة متعة ومعناه ليس عليهم دم متعة لأن المتعة له لا عليه, فيتعين حمله على ما ذكرناه. فصل:


إذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات أو أحرم من دونه بعمرة ثم حل منها, وأحرم بالحج من مكة من عامه فهو متمتع عليه دمان دم المتعة, ودم لإحرامه من دون ميقاته قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من أحرم في أشهر الحج بعمرة وحل منها, ولم يكن من حاضري المسجد الحرام ثم أقام بمكة حلالا ثم حج من عامه, أنه متمتع عليه دم وقال القاضي: إذا تجاوز الميقات حتى صار بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر, فأحرم منه فلا دم عليه للمتعة لأنه من حاضري المسجد الحرام وليس هذا بجيد فإن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بالإقامة به وهذا لم يحصل منه الإقامة, ولا نيتها ولأن الله تعالى قال: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} وهذا يقتضي أن يكون المانع من الدم السكنى به وهذا ليس بساكن وإن أحرم الآفاقي بعمرة, في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة فاعتمر من التنعيم في أشهر الحج, وحج من عامه فهو متمتع عليه دم نص عليه أحمد وفي تنصيصه على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى, بطريق الأولى وذكر القاضي أن من شرط وجوب الدم أن ينوي في ابتداء العمرة أو في أثنائها, أنه متمتع وظاهر النص يدل على أن هذا غير مشترط فإنه لم يذكره وكذلك الإجماع الذي ذكرناه مخالف لهذا القول ولأنه قد حصل له الترفه بسقوط أحد السفرين فلزمه الدم, كمن لم ينو. الفصل الثالث:


في وقت وجوب الهدي ، ووقت ذبحه . أما وقت وجوبه ، فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ؛ لأن الله تعالى قال: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} . وهذا قد فعل ذلك . ولأن ما جعل غاية ، فوجود أوله كاف ، كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} . ولأنه متمتع أحرم بالحج من دون الميقات ، فلزمه الدم ، كما لو وقف أو تحلل . وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة . وهو قول مالك ، واختيار القاضي ؛ لأن التمتع بالعمرة في الحج إنما يحصل بعد وجود الحج منه ، ولا يحصل ذلك إلا بالوقوف ، فإن النبي ﷺ قال : (الحج عرفة). ولأنه قبل ذلك يعرض الفوات ، فلا يحصل التمتع ، ولأنه لو أحرم بالحج ، ثم أحصر ، أو فاته الحج فلم يلزمه دم المتعة ، ولا كان متمتعا ، ولو وجب الدم لما سقط . وقال عطاء : يجب إذا رمى الجمرة . ونحوه قول أبي الخطاب ، قال : يجب إذا طلع الفجر يوم النحر ؛ لأنه وقت ذبحه ، فكان وقت وجوبه . فأما وقت إخراجه فيوم النحر . وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ؛ لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية ، فلا يجوز فيه ذبح هدي التمتع ، كقبل التحلل من العمرة . وقال أبو طالب : سمعت أحمد ، قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي . قال : ينحر بمكة ، وإن قدم قبل العشر نحره ، لا يضيع أو يموت أو يسرق . وكذلك قال عطاء . وإن قدم في العشر ، لم ينحره حتى ينحره بمنى ؛ لأن النبي ﷺ وأصحابه قدموا في العشر ، فلم ينحروا حتى نحروا بمنى . ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته ، وأقام على إحرامه ، وكان قارنا . وقال الشافعي : يجوز نحره بعد الإحرام بالحج . قولا واحدا ، وفيما قبل ذلك ، بعد حله من العمرة ، احتمالان ؛ ووجه جوازه أنه دم يتعلق بالإحرام ، وينوب عنه الصيام ، فجاز قبل يوم النحر ، كدم الطيب واللباس ، ولأنه يجوز إبداله قبل يوم النحر ، فجاز أداؤه قبله ، كسائر الفديات. مسألة:


قال: [ فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام يكون آخرها يوم عرفة, وسبعة إذا رجع ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن المتمتع إذا لم يجد الهدي ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع تلك عشرة كاملة وتعتبر القدرة في موضعه, فمتى عدمه في موضعه جاز له الانتقال إلى الصيام وإن كان قادرا عليه في بلده لأن وجوبه موقت وما كان وجوبه موقتا اعتبرت القدرة عليه في موضعه, كالماء في الطهارة إذا عدمه في مكانه انتقل إلى التراب. فصل:


ولكل واحد من صوم الثلاثة والسبعة وقتان وقت جواز ووقت استحباب فأما وقت الثلاثة, فوقت الاختيار لها أن يصومها ما بين إحرامه بالحج ويوم عرفة ويكون آخر الثلاثة يوم عرفة قال طاوس: يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وروي ذلك عن عطاء, والشعبي ومجاهد والحسن, والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة, وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي وروى ابن عمر وعائشة, أن يصومهن ما بين إهلاله بالحج ويوم عرفة وظاهر هذا أن يجعل آخرها يوم التروية وهو قول الشافعي لأن صوم يوم عرفة بعرفة غير مستحب وكذلك ذكر القاضي في " المحرر " والمنصوص عن أحمد الذي وقفنا عليه مثل قول الخرقي أنه يكون آخرها يوم عرفة, وهو قول من سمينا من العلماء وإنما أحببنا له صوم يوم عرفة ها هنا لموضع الحاجة وعلى هذا القول يستحب له تقديم الإحرام بالحج قبل يوم التروية ليصومها في الحج, وإن صام منها شيئا قبل إحرامه بالحج جاز نص عليه وأما وقت جواز صومها فإذا أحرم بالعمرة وهذا قول أبي حنيفة وعن أحمد أنه إذا حل من العمرة وقال مالك والشافعي: لا يجوز إلا بعد إحرام الحج ويروى ذلك عن ابن عمر وهو قول إسحاق وابن المنذر لقول الله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} ولأنه صيام واجب, فلم يجز تقديمه على وقت وجوبه كسائر الصيام الواجب ولأن ما قبله وقت لا يجوز فيه المبدل فلم يجز البدل, كقبل الإحرام بالعمرة وقال الثوري والأوزاعي: يصومهن من أول العشر إلى يوم عرفة ولنا أن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع, فجاز الصوم بعده كإحرام الحج فأما قوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} فقيل: معناه في أشهر الحج فإنه لا بد من إضمار, إذ كان الحج أفعالا لا يصام فيها إنما يصام في وقتها أو في أشهرها فهو في قول الله تعالى: {الحج أشهر} وأما تقديمه على وقت الوجوب, فيجوز إذا وجد السبب كتقديم الكفارة على الحنث وزهوق النفس وأما كونه بدلا, فلا يقدم على المبدل فقد ذكرنا رواية في جواز تقديم الهدي على إحرام الحج فكذلك الصوم وأما تقديم الصوم على إحرام العمرة, فغير جائز ولا نعلم قائلا بجوازه إلا رواية حكاها بعض أصحابنا عن أحمد وليس بشيء لأنه لا يقدم الصوم على سببه ووجوبه, ويخالف قول أهل العلم وأحمد ينزه عن هذا وأما السبعة فلها أيضا وقتان وقت اختيار ووقت جواز أما وقت الاختيار, فإذا رجع إلى أهله لما روى ابن عمر أن النبي -ﷺ- قال: (فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) متفق عليه وأما وقت الجواز, فمنذ تمضي أيام التشريق قال الأثرم: سئل أحمد هل يصوم في الطريق أو بمكة؟ قال: كيف شاء وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وعن عطاء, ومجاهد: يصومها في الطريق وهو قول إسحاق وقال ابن المنذر: يصومها إذا رجع إلى أهله للخبر ويروى ذلك عن ابن عمر وهو قول الشافعي وقيل عنه كقولنا وكقول إسحاق ولنا أن كل صوم لزمه, وجاز في وطنه جاز قبل ذلك كسائر الفروض وأما الآية, فإن الله تعالى جوز له تأخير الصيام الواجب فلا يمنع ذلك الإجزاء قبله كتأخير صوم رمضان في السفر والمرض, بقوله سبحانه: {فعدة من أيام أخر} ولأن الصوم وجد من أهله بعد وجود سببه فأجزأه كصوم المسافر والمريض. فصل:


ولا يجب التتابع, وذلك لا يقتضي جمعا ولا تفريقا وهذا قول الثوري وإسحاق وغيرهما ولا نعلم فيه مخالفا. مسألة:


قال: [ فإن لم يصم قبل يوم النحر, صام أيام منى في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله والرواية الأخرى لا يصوم أيام منى, ويصوم بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم ] وجملة ذلك أن المتمتع إذا لم يصم الثلاثة في أيام الحج, فإنه يصومها بعد ذلك وبهذا قال علي وابن عمر وعائشة, وعروة بن الزبير وعبيد بن عمير والحسن وعطاء, والزهري ومالك والشافعي, وأصحاب الرأي ويروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس, ومجاهد: إذا فاته الصوم في العشر وبعده واستقر الهدي في ذمته لأن الله تعالى قال: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} ولأنه بدل موقت فيسقط بخروج وقته, كالجمعة ولنا أنه صوم واجب فلا يسقط بخروج وقته, كصوم رمضان والآية تدل على وجوبه لا على سقوطه, والقياس منتقض بصوم الظهار إذا قدم المسيس عليه والجمعة ليست بدلا وإنما هي الأصل, وإنما سقطت لأن الوقت جعل شرطا لها كالجماعة إذا ثبت هذا فإنه يصوم أيام منى وهذا قول ابن عمر وعائشة, وعروة وعبيد بن عمير والزهري, ومالك والأوزاعي وإسحاق, والشافعي في القديم لما روى ابن عمر وعائشة قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) رواه البخاري وهذا ينصرف إلى ترخيص النبي -ﷺ- ولأن الله تعالى أمر بصيام الثلاثة في الحج, ولم يبق من أيام الحج إلا هذه الأيام فيتعين الصوم فيها فإذا صام هذه الأيام فحكمه حكم من صام قبل يوم النحر وعن أحمد رواية أخرى, لا يصوم أيام منى روي ذلك عن علي والحسن وعطاء وهو قول ابن المنذر لأن (النبي -ﷺ- نهى عن صوم ستة أيام, ذكر منها أيام التشريق) وقال عليه السلام: (إنها أيام أكل وشرب) ولأنها لا يجوز فيها صوم النفل فلا يصومها عن الهدي كيوم النحر فعلى هذه الرواية, يصوم بعد ذلك عشرة أيام وكذلك الحكم إذا قلنا: يصوم أيام منى فلم يصمها واختلفت الرواية عن أحمد في وجوب الدم عليه فعنه عليه دم لأنه أخر الواجب من مناسك الحج عن وقته فلزمه دم, كرمي الجمار ولا فرق بين المؤخر لعذر أو لغيره, لما ذكرنا وقال القاضي: إن أخره لعذر ليس عليه إلا قضاؤه لأن الدم الذي هو المبدل لو أخره لعذر, لا دم عليه لتأخيره فالبدل أولى وروي عن أحمد لا يلزمه مع الصوم دم بحال وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأنه صوم واجب, يجب القضاء بفواته كصوم رمضان فأما الهدي الواجب إذا أخره لعذر, مثل أن ضاعت نفقته فليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدايا الواجبة وإن أخره لغير عذر, ففيه روايتان: إحداهما ليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدايا والأخرى, عليه هدي آخر لأنه نسك مؤقت فلزم الدم بتأخيره عن وقته كرمي الجمار وقال أحمد: من تمتع, فلم يهد إلى قابل يهدي هديين كذا قال ابن عباس. فصل:


وإذا صام عشرة أيام لم يلزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة وقال أصحاب الشافعي: عليه التفريق لأنه وجب من حيث الفعل, وما وجب التفريق فيه من حيث الفعل لم يسقط بفوات وقته كأفعال الصلاة من الركوع والسجود ولنا, أنه صوم واجب في زمن يصح الصوم فيه فلم يجب تفريقه, كسائر الصوم ولا نسلم وجوب التفريق في الأداء فإنه إذا صام أيام منى وأتبعها السبعة, فما حصل التفريق وإن سلمنا وجوب التفريق في الأداء فإن كان من حيث الوقت فإذا فات الوقت سقط, كالتفريق بين الصلاتين. فصل:


ووقت وجوب الصوم وقت وجوب الهدي لأنه بدل فكان وقت وجوبه وقت وجوب المبدل كسائر الأبدال فإن قيل: فكيف جوزتم الانتقال إلى الصوم قبل زمان وجوب المبدل, ولم يتحقق العجز عن المبدل لأنه إنما يتحقق المجوز للانتقال إلى البدل زمن الوجوب وكيف جوزتم الصوم قبل وجوبه؟ قلنا: إنا جوزنا له الانتقال إلى البدل بناء على العجز الظاهر, فإن الظاهر من المعسر استمرار إعساره وعجزه كما جوزنا التكفير بالبدل قبل وجوب المبدل وأما تجويز الصوم قبل وجوبه فقد ذكرناه. مسألة:


قال: [ ومن دخل في الصيام, ثم قدر على الهدي لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى الهدي إلا أن يشاء ] وبهذا قال الحسن, وقتادة ومالك والشافعي وقال ابن أبي نجيح, وحماد والثوري: إن أيسر قبل أن تكمل الثلاثة فعليه الهدي, وإن أكمل الثلاثة صام السبعة وقيل: متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه صام أو لم يصم وإن وجده بعد أن مضت أيام النحر أجزأه الصيام, قدر على الهدي أو لم يقدر لأنه قدر على المبدل في زمن وجوبه فلم يجزئه البدل كما لو لم يصم ولنا, أنه صوم دخل فيه لعدم الهدي لم يلزمه الخروج إليه كصوم السبعة, وعلى هذا يخرج الأصل الذي قاسوا عليه وإنه ما شرع في الصيام. فصل:


وإن وجب عليه الصوم فلم يشرع حتى قدر على الهدي, ففيه روايتان: إحداهما لا يلزمه الانتقال إليه قال في رواية المروذي: إذا لم يصم في الحج فليصم إذا رجع ولا يرجع إلى الدم وقد انتقل فرضه إلى الصيام وذلك لأن الصيام استقر في ذمته, لوجوبه حال وجود السبب المتصل بشرطه وهو عدم الهدي والثانية يلزمه الانتقال إليه قال يعقوب: سألت أحمد عن المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر؟ قال: عليه هديان, يبعث بهما إلى مكة أوجب عليه الهدي الأصلي وهديا لتأخيره الصوم عن وقته ولأنه قدر على المبدل قبل شروعه في البدل فلزمه الانتقال إليه, كالمتيمم إذا وجد الماء. فصل:


ومن لزمه صوم المتعة فمات قبل أن يأتي به لعذر منعه عن الصوم فلا شيء عليه وإن كان لغير عذر, أطعم عنه كما يطعم عن صوم أيام رمضان ولأنه صوم وجب بأصل الشرع أشبه صوم رمضان. مسألة:


قال: [ والمرأة إذا دخلت متمتعة, فحاضت فخشيت فوات الحج أهلت بالحج, وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم ] وجملة ذلك أن المتمتعة إذا حاضت قبل الطواف للعمرة لم يكن لها أن تطوف بالبيت لأن الطواف بالبيت صلاة, ولأنها ممنوعة من دخول المسجد ولا يمكنها أن تحل من عمرتها ما لم تطف بالبيت فإن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها وتصير قارنة وهذا قول مالك, والأوزاعي والشافعي وكثير من أهل العلم وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة, وتهل بالحج قال أحمد: قال أبو حنيفة قد رفضت العمرة فصار حجا وما قال هذا أحد غير أبي حنيفة واحتج بما روى عروة عن عائشة, قالت: (أهللنا بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت, ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله -ﷺ- فقال: انقضي رأسك وامتشطي, وأهلي بالحج ودعي العمرة قالت: ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله -ﷺ- مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال: هذه عمرة مكان عمرتك) متفق عليه وهذا يدل على أنها رفضت عمرتها, وأحرمت بحج من وجوه ثلاثة أحدها قوله: " دعي عمرتك " والثاني قوله: " وامتشطي " والثالث, قوله: " هذه عمرة مكان عمرتك " ولنا ما روى (جابر قال: أقبلت عائشة بعمرة, حتى إذا كانت بسرف عركت ثم دخل رسول الله -ﷺ- على عائشة فوجدها تبكي, فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني إني قد حضت وقد حل الناس ولم أحل, ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي, ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت, طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي إني لم أطف بالبيت حتى حججت قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن, فأعمرها من التنعيم) وروى طاوس عن عائشة (أنها قالت: أهللت بعمرة فقدمت ولم أطف حتى حضت, ونسكت المناسك كلها وقد أهللت بالحج فقال لها النبي -ﷺ- يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر, فأعمرها من التنعيم) رواهما مسلم وهما يدلان على ما ذكرنا جميعه ولأن إدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات فمع خشية الفوات أولى قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لمن أهل بعمرة أن يدخل عليها الحج, ما لم يفتتح الطواف بالبيت وقد أمر النبي -ﷺ- من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها لقول الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} ولأنها متمكنة من إتمام عمرتها بلا ضرر, فلم يجز رفضها كغير الحائض فأما حديث عروة فإن قوله: " انقضي رأسك, وامتشطي ودعي العمرة " انفرد به عروة وخالف به سائر من روى عن عائشة حين حاضت, وقد روي عن طاوس والقاسم والأسود, وعمرة وعائشة ولم يذكروا ذلك وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة وقد روى حماد بن زيد, عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة, حديث حيضها فقال فيه: حدثني غير واحد أن رسول الله -ﷺ- قال لها: " دعي العمرة, وانقضي رأسك وامتشطي " وذكر تمام الحديث وهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة وهو مع ما ذكرنا من مخالفته بقية الرواة, يدل على الوهم مع مخالفتها الكتاب والأصول إذ ليس لنا موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع إمكان إتمامها, ويحتمل أن قوله: " دعي العمرة " أي دعيها بحالها وأهلي بالحج معها أو دعي أفعال العمرة, فإنها تدخل في أفعال الحج وأما إعمارها من التنعيم فلم يأمرها به النبي -ﷺ- وإنما قالت للنبي -ﷺ-: إني أجد في نفسي إني لم أطف بالبيت حتى حججت قال: " فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم " وروى الأثرم, بإسناده عن الأسود عن عائشة قلت: اعتمرت بعد الحج؟ قالت: والله ما كانت عمرة, ما كانت إلا زيارة زرت البيت إنما هي مثل نفقتها قال أحمد: إنما أعمر النبي -ﷺ- عائشة حين ألحت عليه فقالت: يرجع الناس بنسكين, وأرجع بنسك فقال: " يا عبد الرحمن أعمرها " فنظر إلى أدنى الحرم, فأعمرها منه وقول الخرقي: " ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم " وذلك لأن طواف القدوم سنة لا يجب قضاؤها ولم يأمر النبي -ﷺ- عائشة بقضائه ولا فعلته هي. فصل:


وكل متمتع خشي فوات الحج, فإنه يحرم بالحج ويصير قارنا وكذلك المتمتع الذي معه هدي, فإنه لا يحل من عمرته بل يهل بالحج معها فيصير قارنا ولو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف من غير خوف الفوات, جاز وكان قارنا بغير خلاف, وقد فعل ذلك ابن عمر ورواه عن النبي -ﷺ- فأما بعد الطواف فليس له ذلك, ولا يصير قارنا وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وروي عن عطاء وقال مالك: يصير قارنا وحكي ذلك عن أبي حنيفة لأنه أدخل الحج على إحرام العمرة فصح, كما قبل الطواف ولنا أنه شارع في التحلل من العمرة فلم يجز له إدخال الحج عليها, كما لو سعى بين الصفا والمروة. فصل:


فأما إدخال العمرة على الحج فغير جائز فإن فعل لم يصح, ولم يصر قارنا روي ذلك عن علي وبه قال مالك وإسحاق وأبو ثور, وابن المنذر وقال أبو حنيفة: يصح ويصير قارنا لأنه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر, قياسا على إدخال الحج على العمرة ولنا ما روى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن نصر, عن أبيه قال: خرجت أريد الحج فقدمت المدينة, فإذا علي قد خرج حاجا فأهللت بالحج ثم خرجت, فأدركت عليا في الطريق وهو يهل بعمرة وحجة فقلت: يا أبا الحسن, إنما خرجت من الكوفة لأقتدي بك وقد سبقتني فأهللت بالحج, أفأستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه؟ قال: لا إنما ذلك لو كنت أهللت بعمرة ولأن إدخال العمرة على الحج لا يفيده إلا ما أفاده العقد الأول فلم يصح, كما لو استأجره على عمل ثم استأجره عليه ثانيا في المدة وعكسه إدخال الحج على العمرة. مسألة:


قال: [ ومن وطئ قبل رمي جمرة العقبة, فقد فسد حجهما وعليه بدنة إن كان استكرهها ولا دم عليها ] وفي هذه المسألة ثلاثة فصول: الفصل الأول:


أن الوطء قبل جمرة العقبة يفسد الحج, ولا فرق بين ما قبل الوقوف وبعده وبهذا قال مالك والشافعي وقال أصحاب الرأي: إن وطئ بعد الوقوف لم يفسد حجه لقول النبي -ﷺ-: (من أدرك عرفة فقد تم حجه) ولأنه أمن الفوات فأمن الفساد, كما بعد التحلل الأول ولنا أن رجلا سأل ابن عباس وعبد الله بن عمرو فقال: وقعت بأهلي ونحن محرمان فقالا له: أفسدت حجك ولم يستفصلوا السائل رواه الأثرم ولأنه وطء صادف إحراما تاما فأفسده, كقبل الوقوف ويخالف ما بعد التحلل الأول فإن الإحرام غير تام, والمراد من الخبر الأمن من الفوات ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد وبدليل العمرة يأمن فواتها ولا يأمن فسادها قال أحمد: لا أعلم أحدا قال: إن حجه تام غير أبي حنيفة, يقول: الحج عرفات فمن وقف بها فقد تم حجه وإنما هذا مثل قول النبي -ﷺ-: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) أي أدرك فضل الصلاة, ولم تفته كذلك الحج إذا ثبت هذا فإنه يفسد حجهما جميعا لأن الجماع وجد منهما, وسواء في ذلك الناسي والعامد والمستكرهة والمطاوعة والمستيقظة, عالما كان الرجل أو جاهلا وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يفسد حج الناسي لأنه معذور ولنا أنه معنى يوجب القضاء, فاستوت فيه الأحوال كلها كالفوات ولا فرق بين ما بعد يوم النحر أو قبله لأنه وطئ قبل التحلل الأول ففسد حجه, كما لو وطئ يوم النحر الفصل الثاني:


أنه يلزمه بدنة وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: إن وطئ قبل الوقوف فسد حجه وعليه شاة وإن وطئ بعده لم يفسد حجه, وعليه بدنة لأن الوطء قبل الوقوف معنى يتعلق به وجوب القضاء فلم يوجب بدنة كالفوات ولنا, أنه قد روي عن عمر وابن عباس مثل قولنا ولأنه وطء صادف إحراما تاما فأوجب البدنة, كما بعد الوقوف ولأن ما يفسد الحج الجناية به أعظم فكفارته يجب أن تكون أغلظ وأما الفوات, فإنهم يوجبون به بدنة فكيف يصح القياس عليه؟. الفصل الثالث:


أنه لا دم عليها في حال الإكراه وهو قول عطاء ومالك, والشافعي وإسحاق وأبي ثور وقال أصحاب الرأي: عليها دم آخر لأنه قد فسد حجها, فوجبت البدنة كما لو طاوعت ولنا أنها كفارة تجب بالجماع, فلم تجب على المرأة في حال الإكراه كما لو وطئ في الصوم. فصل:


ومن وطئ قبل التحلل من العمرة فسدت عمرته, وعليه شاة مع القضاء وقال الشافعي: عليه القضاء وبدنة لأنها عبادة تشتمل على طواف وسعي فأشبهت الحج وقال أبو حنيفة إن وطئ قبل أن يطوف أربعة أشواط كقولنا وإن وطئ بعد ذلك فعليه شاة, ولا تفسد عمرته ولنا على الشافعي أنها عبادة لا وقوف فيها فلم يجب فيها بدنة, كما لو قرنها بالحج ولأن العمرة دون الحج فيجب أن يكون حكمها دون حكمه, وبهذا يخرج الحج ولنا على أبي حنيفة أن الجماع من محظورات الإحرام فاستوى فيه ما قبل الطواف وبعده, كسائر المحظورات ولأنه وطء صادف إحراما تاما فأفسده كما قبل الطواف. فصل:


إذا أفسد القارن والمتمتع نسكهما, لم يسقط الدم عنهما وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يسقط وعن أحمد مثله لأنه لم يحصل له الترفه بسقوط أحد السفرين ولنا أن ما وجب في النسك الصحيح وجب في الفاسد, كالأفعال ولأنه دم وجب عليه فلا يسقط بالإفساد, كالدم الواجب لترك الميقات. فصل:


وإذا أفسد القارن نسكه ثم قضى مفردا لم يلزمه في القضاء دم وقال الشافعي: يلزمه لأنه يجب في القضاء ما يجب في الأداء, وهذا كان واجبا في الأداء ولنا أن الإفراد أفضل من القران مع الدم فإذا أتى بهما فقد أتى بما هو أولى, فلا يلزمه شيء كمن لزمته الصلاة بتيمم فقضى بالوضوء. مسألة:


قال: [ وإن وطئ بعد رمي جمرة العقبة, فعليه دم ويمضي إلى التنعيم فيحرم ليطوف وهو محرم ] وفي هذه المسألة ثلاثة فصول: أحدها:


أن الوطء بعد الجمرة لا يفسد الحج وهو قول ابن عباس وعكرمة, وعطاء والشعبي وربيعة, ومالك والشافعي وإسحاق, وأصحاب الرأي وقال النخعي والزهري وحماد: عليه حج من قابل لأن الوطء صادف إحراما من الحج, فأفسده كالوطء قبل الرمي ولنا قول النبي -ﷺ-: (من شهد صلاتنا هذه, ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه, وقضى تفثه) ولأنه قول ابن عباس فإنه قال في رجل أصاب أهله قبل أن يفيض يوم النحر: ينحران جزورا بينهما وليس عليه الحج من قابل ولا نعرف له مخالفا في الصحابة ولأن الحج عبادة لها تحللان, فوجود المفسد بعد تحللها الأول لا يفسدها كبعد التسليمة الأولى في الصلاة وبهذا فارق ما قبل التحلل الأول . الفصل الثاني:


أن الواجب عليه بالوطء شاة هذا ظاهر كلام الخرقي ونص عليه أحمد وقول عكرمة, وربيعة ومالك وإسحاق وقال القاضي: فيه رواية أخرى, أن عليه بدنة وهو قول ابن عباس وعطاء والشعبي, والشافعي وأصحاب الرأي لأنه وطئ في الحج فوجبت عليه بدنة, كما قبل رمي جمرة العقبة ولنا أنه وطء لم يفسد فلم يوجب كالوطء دون الفرج إذا لم ينزل ولأن حكم الإحرام خف بالتحلل الأول, فينبغي أن يكون موجبه دون موجب الإحرام التام. الفصل الثالث:


أنه يفسد الإحرام بالوطء بعد رمي الجمرة ويلزمه أن يحرم من الحل وبذلك قال عكرمة وربيعة, وإسحاق وقال ابن عباس وعطاء والشعبي, والشافعي: حجه صحيح ولا يلزمه الإحرام لأنه إحرام لا يفسد جميعه فلم يفسد بعضه, كما لو وطئ بعد التحلل الثاني ولنا أنه وطء صادف إحراما فأفسده, كالإحرام التام وإذا فسد إحرامه فعليه أن يحرم ليأتي بالطواف في إحرام صحيح لأن الطواف ركن, فيجب أن يأتي به في إحرام صحيح كالوقوف ويلزمه الإحرام من الحل لأن الإحرام ينبغي أن يجمع فيه بين الحل والحرم, فلو أبحنا لهذا الإحرام من الحرم لم يجمع بينهما لأن أفعاله كلها تقع في الحرم فأشبه المعتمر وإذا أحرم من الحل طاف للزيارة, وسعى إن كان لم يسع في حجه وإن كان سعى طاف للزيارة وتحلل هذا ظاهر كلام الخرقي لأن الذي بقي عليه بقية أفعال الحج, وإنما وجب عليه الإحرام ليأتي بها في إحرام صحيح والمنصوص عن أحمد ومن وافقه من الأئمة أنه يعتمر فيحتمل أنهم أرادوا هذا أيضا, وسموه عمرة لأن هذا هو أفعال العمرة ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقية فيلزمه سعي وتقصير والأول أصح لما ذكرنا وقول الخرقي: " يحرم من التنعيم " لم يذكره لتعيين الإحرام منه بل لأنه حل, فمن أحل وأحرم جاز كالمعتمر. فصل:


ولا فرق بين من حلق ومن لم يحلق في أنه لا يفسد حجه بالوطء بعد الرمي وعليه دم وإحرام من الحل هذا ظاهر كلام أحمد, والخرقي ومن سميناه من الأئمة لترتيبهم هذا الحكم على الوطء بعد مجرد الرمي من غير اعتبار أمر زائد. فصل:


فإن طاف للزيارة, ولم يرم ثم وطئ لم يفسد حجه بحال لأن الحج قد تم أركانه كلها, ولا يلزمه إحرام من الحل فإن الرمي ليس بركن وهل يلزمه دم؟ يحتمل أنه لا يلزمه شيء لما ذكرنا ويحتمل أنه يلزمه لأنه وطئ قبل وجود ما يتم به التحلل, فأشبه من وطئ بعد الرمي وقبل الطواف. فصل:


والقارن كالمفرد فإنه إذا وطئ بعد الرمي لم يفسد حجه ولا عمرته لأن الحكم للحج ألا ترى أنه لا يحل من عمرته قبل الطواف, ويفعل ذلك إذا كان قارنا ولأن الترتيب للحج دونها والحج لا يفسد قبل الطواف, كذلك العمرة وقال أحمد من وطئ بعد الطواف يوم النحر قبل أن يركع: ما عليه شيء قال أبو طالب: سألت أحمد عن الرجل يقبل بعد رمي جمرة العقبة قبل أن يزور البيت؟ قال: ليس عليه شيء قد قضى المناسك فعلى هذا, ليس عليه فيما دون الوطء في الفرج شيء. مسألة:


قال: [ ومباح لأهل السقاية والرعاة أن يرموا بالليل ] تروى هذه اللفظة: " الرعاة " بضم الراء وإثبات الهاء مثل الدعاة والقضاة والرعاء, بكسر الراء والمد من غير هاء وهما لغتان صحيحتان قال الله تعالى: {حتى يصدر الرعاء} وفي بعض الحديث: (أرخص للرعاة أن يرموا يوما ويدعوا يوما) وإنما أبيح لهؤلاء الرمي بالليل لأنهم يشتغلون بالنهار برعي المواشي وحفظها, وأهل السقاية هم الذين يسقون من بئر زمزم للحاج فيشتغلون بسقايتهم نهارا فأبيح لهم الرمي في وقت فراغهم, تخفيفا عليهم فيجوز لهم رمي كل يوم في الليلة المستقبلة فيرمون جمرة العقبة في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق, ورمي اليوم الأول في ليلة الثاني ورمي الثاني في ليلة الثالث والثالث إذا أخروه إلى الغروب سقط عنهم, كسقوطه عن غيرهم قال عطاء: لا يرمي الليل إلا رعاء الإبل فأما التجار فلا وكان مالك والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي يقولون: من نسي الرمي إلى الليل رمى, ولا شيء عليه من الرعاة ومن غيرهم. مسألة:


قال: [ ومباح للرعاة أن يؤخروا الرمي فيقضوه في الوقت الثاني ] وجملة ذلك أنه يجوز للرعاة ترك المبيت بمنى ليالي منى, ويؤخرون رمي اليوم الأول ويرمون يوم النفر الأول عن الرميين جميعا لما عليهم من المشقة في المبيت والإقامة للرمي وقد روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر, عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه, قال: (رخص رسول الله -ﷺ- لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما) قال مالك: ظننت أنه في أول يوم منهما, ثم يرمون يوم النفر رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح رواه ابن عيينة, قال: رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما وكذلك الحكم في أهل سقاية الحاج وقد روى ابن عمر (أن العباس استأذن النبي -ﷺ- ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته) متفق عليه إلا أن الفرق بين الرعاء, وأهل السقاية أن الرعاء إذا قاموا حتى غربت الشمس لزمهم البيتوتة وأهل السقاية بخلاف ذلك لأن الرعاة إنما رعيهم بالنهار, فإذا غربت الشمس فقد انقضى وقت الرعي وأهل السقاية يشتغلون ليلا ونهارا فافترقا, وصار الرعاء كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة لمرضه فإذا حضرها تعينت عليه والرعاء أبيح لهم ترك المبيت لأجل الرعي, فإذا فات وقته وجب المبيت. فصل:


وأهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه, ونحوهم كالرعاء في ترك البيتوتة لأن النبي -ﷺ- رخص لهؤلاء تنبيها على غيرهم أو نقول: نص عليه لمعنى وجد في غيرهم, فوجب إلحاقه بهم. فصل:


إذا كان الرجل مريضا أو محبوسا أو له عذر, جاز أن يستنيب من يرمي عنه قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: إذا رمي عنه الجمار يشهد هو ذاك أو يكون في رحله؟ قال: يعجبني أن يشهد ذاك إن قدر حين يرمى عنه قلت: فإن ضعف عن ذلك أيكون في رحله ويرمى عنه؟ قال: نعم قال القاضي: المستحب أن يضع الحصى في يد النائب, ليكون له عمل في الرمي وإن أغمي على المستنيب لم تنقطع النيابة وللنائب الرمي عنه, كما لو استنابه في الحج ثم أغمي عليه وبما ذكرنا في هذه المسألة قال الشافعي ونحوه قال مالك إلا أنه قال: يتحرى المريض حين رميهم, فيكبر سبع تكبيرات. فصل:


ومن ترك الرمي من غير عذر فعليه دم قال أحمد: أعجب إلى إذا ترك الأيام كلها كان عليه دم وفي ترك جمرة واحدة دم أيضا نص عليه أحمد وبهذا قال عطاء والشافعي, وأصحاب الرأي وحكي عن مالك أن عليه في جمرة أو الجمرات كلها بدنة قال الحسن: من نسي جمرة واحدة يتصدق على مسكين ولنا قول ابن عباس: من ترك شيئا من مناسكه فعليه دم ولأنه ترك من مناسكه ما لا يفسد الحج بتركه فكان الواجب عليه شاة كالمبيت وإن ترك أقل من جمرة, فالظاهر عن أحمد أنه لا شيء عليه في حصاة ولا في حصاتين وعنه, أنه يجب الرمي بسبع فإن ترك شيئا من ذلك تصدق بشيء أي شيء كان وعنه, أن في كل حصاة دما وهو مذهب مالك والليث لأن ابن عباس قال: من ترك شيئا من مناسكه فعليه دم وعنه: في الثلاثة دم وهو مذهب الشافعي وفيما دون ذلك, في كل حصاة مد وعنه: درهم وعنه نصف درهم وقال أبو حنيفة: إن ترك جمرة العقبة أو الجمار كلها فعليه دم وإن ترك غير ذلك فعليه في كل حصاة نصف صاع, إلى أن يبلغ دما وقد ذكرنا ذلك وآخر وقت الرمي آخر أيام التشريق فمتى خرجت قبل رميه فات وقته واستقر عليه الفداء الواجب في ترك الرمي هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن عطاء, في من رمى جمرة العقبة ثم خرج إلى إبله في ليلة أربع عشرة ثم رمى قبل طلوع الفجر, فإن لم يرم أهرق دما والأول أولى لأن محل الرمي النهار فيخرج وقت الرمي بخروج النهار والله أعلم. باب الفدية وجزاء الصيد مسألة:


قال: [ ومن حلق أربع شعرات فصاعدا, عامدا أو مخطئا فعليه صيام ثلاثة أيام أو إطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين, أو ذبح شاة أي ذلك فعل أجزأه ] الكلام في هذه المسألة في ستة فصول: الفصل الأول:


أن على المحرم فدية إذا حلق رأسه ولا خلاف في ذلك قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة والأصل في ذلك قوله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (وقال النبي -ﷺ- لكعب بن عجرة: لعلك آذاك هوامك؟ قال: نعم يا رسول الله فقال رسول الله -ﷺ-: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام, أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) متفق عليه وفي لفظ: " أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمر " ولا فرق في ذلك بين إزالة الشعر بالحلق أو النورة, أو قصه أو غير ذلك لا نعلم فيه خلافا. الفصل الثاني:


أنه لا فرق بين العامد والمخطئ, ومن له عذر ومن لا عذر له في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي ونحوه عن الثوري وفيه وجه آخر لا فدية على الناسي وهو قول إسحاق, وابن المنذر لقوله عليه السلام: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان) ولنا أنه إتلاف فاستوى عمده وخطؤه, كقتل الصيد ولأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور فكان ذلك تنبيها على وجوبها على غير المعذور, ودليلا على وجوبها على المعذور بنوع آخر مثل المحتجم الذي يحلق موضع محاجمه أو شعرا عن شجته, وفي معنى الناسي النائم الذي يقلع شعره أو يصوب شعره إلى تنور فيحرق لهب النار شعره ونحو ذلك. الفصل الثالث:


أن الفدية هي إحدى الثلاثة المذكورة في الآية والخبر, أيها شاء فعل لأنه أمر بها بلفظ التخيير ولا فرق في ذلك بين المعذور وغيره والعامد والمخطئ وهو مذهب مالك, والشافعي وعن أحمد أنه إذا حلق لغير عذر فعليه الدم من غير تخيير وهو مذهب أبي حنيفة لأن الله تعالى خير بشرط العذر, فإذا عدم الشرط وجب زوال التخيير ولنا أن الحكم ثبت في غير المعذور بطريق التنبيه تبعا له والتبع لا يخالف أصله, ولأن كل كفارة ثبت التخيير فيها إذا كان سببها مباحا ثبت كذلك إذا كان محظورا كجزاء الصيد ولا فرق بين قتله للضرورة إلى أكله, أو لغير ذلك وإنما الشرط لجواز الحلق لا للتخيير. الفصل الرابع:


القدر الذي يجب به الدم أربع شعرات فصاعدا وفيه رواية أخرى, يجب في الثلاث ما في حلق الرأس قال القاضي: هو المذهب وهو قول الحسن وعطاء وابن عيينة, والشافعي وأبي ثور لأنه شعر آدمي يقع عليه اسم الجمع المطلق فجاز أن يتعلق به الدم كالربع وقال أبو حنيفة: لا يجب الدم بدون ربع الرأس لأن الربع يقوم مقام الكل ولهذا إذا رأى رجلا يقول: رأيت فلانا وإنما رأى إحدى جهاته وقال مالك: إذا حلق من رأسه ما أماط به الأذى وجب الدم ووجه كلام الخرقي أن الأربع كثير, فوجب به الدم كالربع فصاعدا أما الثلاثة فهي آخر القلة وآخر الشيء منه فأشبه الشعرة والشعرتين والاستدلال بأن الربع يقع عليه اسم الكل غير صحيح فإن ذلك لا يتقيد بالربع وإنما هو مجاز يتناول الكثير والقليل. الفصل الخامس:


أن شعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية لأن شعر غير الرأس يحصل بحلقه الترفه والتنظف, فأشبه الرأس فإن حلق من شعر رأسه وبدنه ففي الجميع فدية واحدة وإن كثر وإن حلق من رأسه شعرتين, ومن بدنه شعرتين فعليه دم واحد هذا ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي الخطاب, ومذهب أكثر الفقهاء وذكر أبو الخطاب أن فيها روايتين إحداهما كما ذكرنا والثانية أنه إذا قلع من شعر رأسه وبدنه ما يجب الدم بكل واحد منهما منفردا ففيهما دمان وهو الذي ذكره القاضي وابن عقيل لأن الرأس يخالف البدن بحصول التحلل به دون البدن ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن, فلم تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه, كسائر البدن وكاللباس ودعوى الاختلاف تبطل باللباس فإنه يجب كشف الرأس, دون غيره والجزاء في اللبس فيهما واحد. الفصل السادس:


أن الفدية الواجبة بحلق الشعر هي المذكورة في حديث كعب بن عجرة بقول النبي -ﷺ-: (احلق رأسك, وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين, نصف صاع أو انسك شاة) وفي لفظ: (أو أطعم فرقا بين ستة مساكين) متفق عليه وفي لفظ: (أو أطعم ستة مساكين بين كل مسكينين صاع) وفي لفظ: (فصم ثلاثة أيام وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين) رواه كله أبو داود وبهذا قال مجاهد والنخعي, وأبو مجلز والشافعي ومالك, وأصحاب الرأي وقال الحسن وعكرمة ونافع: الصيام عشرة أيام, والصدقة على عشرة مساكين ويروى ذلك عن الثوري وأصحاب الرأي قالوا: يجزئ من البر نصف صاع لكل مسكين, ومن التمر والشعير صاع صاع واتباع السنة أولى. فصل:


ويجزئ البر والشعير والزبيب في الفدية لأن كل موضع أجزأ فيه التمر أجزأ فيه ذلك كالفطرة وكفارة اليمين وقد روى أبو داود, في حديث كعب بن عجرة قال: (فدعاني رسول الله -ﷺ- فقال لي: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام, أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو انسك شاة) رواه أبو داود ولا يجزئ من هذه الأصناف أقل من ثلاثة آصع إلا البر ففيه روايتان: إحداهما, مد من بر لكل مسكين مكان نصف صاع من غيره كما في كفارة اليمين والثانية, لا يجزئ إلا نصف صاع لأن الحكم ثبت فيه بطريق التنبيه أو القياس والفرع يماثل أصله ولا يخالفه وبهذا قال مالك والشافعي. فصل:


وإذا حلق ثم حلق, فالواجب فدية واحدة ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني فإن كفر عن الأول ثم حلق ثانيا, فعليه للثاني كفارة أيضا وكذلك الحكم فيما إذا لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب أو كرر من محظورات الإحرام اللاتي لا يزيد الواجب فيها بزيادتها, ولا يتقدر بقدرها فأما ما يتقدر الواجب بقدره وهو إتلاف الصيد, ففي كل واحد منها جزاؤه وسواء فعله مجتمعا أو متفرقا ولا تداخل فيه, ففعل المحظورات متفرقا كفعلها مجتمعة في الفدية ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني وعن أحمد أنه إن كرره لأسباب مثل أن لبس للبرد, ثم لبس للحر ثم لبس للمرض فكفارات, وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة وقد روى عنه الأثرم في من لبس قميصا وجبة وعمامة وغير ذلك, لعلة واحدة قلت له: فإن اعتل فلبس جبة ثم برئ, ثم اعتل فلبس جبة؟ فقال: هذا الآن عليه كفارتان وعن الشافعي كقولنا وعنه: لا يتداخل وقال مالك: تتداخل كفارة الوطء دون غيره وقال أبو حنيفة: إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة وإن كان في مجالس فكفارات لأن حكم المجلس الواحد حكم الفعل الواحد بخلاف غيره ولنا, أن ما يتداخل إذا كان بعضه عقيب بعض يجب أن يتداخل وإن تفرق كالحدود وكفارة الأيمان ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة, ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو في دفعات والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن إلا شيئا بعد شيء. فصل:


فأما جزاء الصيد فلا يتداخل, ويجب في كل صيد جزاؤه سواء وقع متفرقا أو في حال واحدة وعن أحمد أنه يتداخل, قياسا على سائر المحظورات ولا يصح لأن الله تعالى قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} ومثل الصيدين لا يكون مثل أحدهما ولأنه لو قتل صيدين دفعة واحدة وجب جزاؤهما, فإذا تفرقا أولى أن يجب لأن حالة التفريق لا تنقص عن حالة الاجتماع كسائر المحظورات. فصل:


إذا حلق المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره فلا فدية عليه وبذلك قال عطاء, ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي, وإسحاق وأبو ثور وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال: يتصدق بدرهم وقال أبو حنيفة: يلزمه صدقة لأنه أتلف شعر آدمي, فأشبه شعر المحرم ولنا أنه شعر مباح الإتلاف فلم يجب بإتلافه شيء, كشعر بهيمة الأنعام. فصل:


وإن حلق محرم رأس محرم بإذنه فالفدية على من حلق رأسه وكذلك إن حلقه حلال بإذنه لأن الله تعالى قال: {ولا تحلقوا رءوسكم} وقد علم أن غيره هو الذي يحلقه فأضاف الفعل إليه, وجعل الفدية عليه وإن حلقه مكرها أو نائما فلا فدية على المحلوق رأسه وبهذا قال إسحاق وأبو ثور, وابن القاسم صاحب مالك وابن المنذر وقال أبو حنيفة: على المحلوق رأسه الفدية وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه يحلق رأسه ولم يحلق بإذنه, فأشبه ما لو انقطع الشعر بنفسه إذا ثبت هذا فإن الفدية على الحالق حراما كان أو حلالا وقال أصحاب الرأي: على الحلال صدقة وقال عطاء: عليهما الفدية ولنا أنه أزال ما منع من إزالته لأجل الإحرام, فكانت عليه فديته كالمحرم يحلق رأس نفسه. فصل:


إذا قلع جلدة عليها شعر فلا فدية عليه لأنه زال تابعا لغيره, والتابع لا يضمن كما لو قلع أشفار عيني إنسان فإنه لا يضمن أهدابهما. فصل:


وإذا خلل شعره فسقطت شعرة, فإن كانت ميتة فلا فدية فيها وإن كانت من شعره النابت ففيها الفدية وإن شك فيها فلا فدية فيها لأن الأصل نفي الضمان إلى أن يحصل يقين. مسألة:


قال: [ وفي كل شعرة من الثلاث مد من طعام ] يعني إذا حلق دون الأربع, فعليه في كل شعرة مد من طعام وهذا قول الحسن وابن عيينة والشافعي فيما دون الثلاث وعن أحمد, في الشعرة درهم وفي الشعرتين درهمان وعنه في كل شعرة قبضة من طعام وروي ذلك عن عطاء, ونحوه عن مالك وأصحاب الرأي قال مالك عليه فيما قل من الشعر إطعام طعام وقال أصحاب الرأي: يتصدق بشيء لأنه لا تقدير فيه فيجب فيه أقل ما يقع عليه اسم الصدقة وعن مالك, في من أزال شعرا يسيرا: لا ضمان عليه لأن النص إنما أوجب الفدية في حلق الرأس كله فألحقنا به ما يقع عليه اسم الرأس ولنا أن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه, كالصيد والأولى أن يجب الإطعام لأن الشارع إنما عدل عن الحيوان إلى الإطعام في جزاء الصيد وها هنا أوجب الإطعام مع الحيوان على وجه التخيير, فيجب أن يرجع إليه فيما لا يجب فيه الدم ويجب مد لأنه أقل ما وجب بالشرع فدية فكان واجبا في أقل الشعر, والطعام الذي يجزئ فيه إخراجه وهو ما يجزئ في حلق الرأس ابتداء من البر والشعير والتمر والزبيب كالذي يجب في الأربع. فصل:


ومن أبيح له حلق رأسه لأذى به, فهو مخير في الفدية قبل الحلق وبعده نص عليه أحمد لما روي أن الحسين بن علي اشتكى رأسه فأتى علي فقيل له: هذا الحسين يشير إلى رأسه فدعا بجزور فنحرها ثم حلقه وهو بالسعياء رواه أبو إسحاق الجوزجاني ولأنها كفارة, فجاز تقديمها على وجوبها ككفارة الظهار واليمين. مسألة:


قال: [ وكذلك الأظفار ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم وهو قول حماد, ومالك والشافعي وأبي ثور, وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عطاء وعنه: لا فدية عليه لأن الشرع لم يرد فيه بفدية ولنا أنه أزال ما منع إزالته لأجل الترفه فوجبت عليه الفدية, كحلق الشعر وعدم النص فيه لا يمنع قياسه عليه كشعر البدن مع شعر الرأس والحكم في فدية الأظفار كالحكم في فدية الشعر سواء في أربعة منها دم وعنه في ثلاثة دم وفي الظفر الواحد مد من طعام, وفي الظفرين مدان على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه وقول الشافعي وأبي ثور كذلك وقال أبو حنيفة: لا يجب الدم إلا بتقليم أظفار يد كاملة حتى لو قلم من كل يد أربعة لا يجب عليه الدم لأنه لم يستكمل منفعة اليد, أشبه الظفر والظفرين ولنا أنه قلم ما يقع عليه اسم الجمع أشبه ما لو قلم خمسا من يد واحدة وما قالوه يبطل بما إذا حلق ربع رأسه, فإنه لم يستوف منفعة العضو ويجب به الدم وقولهم يؤدي إلى أن يجب به الدم في القليل دون الكثير إذا ثبت هذا فإنه يتخير من قلم ما يجب به الدم بين الثلاثة أشياء, كما قلنا في الشعر لأن الإيجاب في الأظفار بالإلحاق بالشعر فيكون حكم الفرع حكم أصله ولا يجب فيما دون الأربعة أو الثلاثة بقسطه من الدم لأن العبادة إذا وجب فيها الحيوان لم يجب فيها جزء منه, كالزكاة فصل:


وفي قص بعض الظفر ما في جميعه وكذلك في قطع بعض الشعرة مثل ما في قطع جميعها لأن الفدية تجب في الشعرة والظفر سواء, طال أو قصر وليس بمقدر بمساحة فيتقدر الضمان عليه, بل هو كالموضحة يجب في الصغيرة منها مثل ما يجب في الكبيرة وخرج ابن عقيل وجها أنه يجب بحساب المتلف كالإصبع يجب في أنملتها ثلث ديتها والله أعلم. مسألة:


قال: [ وإن تطيب المحرم عامدا, غسل الطيب وعليه دم وكذلك إن لبس المخيط أو الخف عامدا وهو يجد النعل, خلع وعليه دم ] لا خلاف في وجوب الفدية على المحرم إذا تطيب أو لبس عامدا لأنه ترفه بمحظور في إحرامه, فلزمته الفدية كما لو ترفه بحلق شعره أو قلم ظفره والواجب عليه أن يفديه بدم, ويستوي في ذلك قليل الطيب وكثيره وقليل اللبس وكثيره وبذلك قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يجب الدم إلا بتطييب عضو كامل وفي اللباس بلباس يوم وليلة, ولا شيء فيما دون ذلك لأنه لم يلبس لبسا معتادا فأشبه ما لو اتزر بالقميص ولنا أنه متى حصل به الاستمتاع بالمحظورات فاعتبر مجرد الفعل كالوطء, محظورا فلا تتقدر فديته بالزمن كسائر المحظورات, وما ذكروه غير صحيح فإن الناس يختلفون في اللبس في العادة ولأن ما ذكروه تقدير والتقديرات بابها التوقيف, وتقديرهم بعضو ويوم وليلة تحكم محض وأما إذا ائتزر بقميص فليس ذلك بلبس مخيط ولهذا لا يحرم عليه, والمختلف فيه محرم. فصل:


ويلزمه غسل الطيب وخلع اللباس لأنه فعل محظورا فيلزمه إزالته وقطع استدامته, كسائر المحظورات والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه ويجوز أن يليه بنفسه ولا شيء عليه لأن النبي -ﷺ- قال للذي رأى عليه طيبا أو خلوقا: (اغسل عنك الطيب) ولأنه تارك له, فإن لم يجد ما يغسله به مسحه بخرقة أو حكه بتراب أو ورق أو حشيش لأن الذي عليه إزالته بحسب القدرة, وهذا نهاية قدرته. فصل:


إذا احتاج إلى الوضوء وغسل الطيب ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما قدم غسل الطيب وتيمم للحدث لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب, وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل وتوضأ لأن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته فلا يتعين الماء, والوضوء بخلافه. فصل:


إذا لبس قميصا وعمامة وسراويل وخفين لم يكن عليه إلا فدية واحدة لأنه محظور من جنس واحد فلم يجب فيه أكثر من فدية واحدة, كالطيب في بدنه ورأسه ورجليه. فصل:


وإن فعل محظورا من أجناس فحلق ولبس, وتطيب ووطئ فعليه لكل واحد فدية, سواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا وهذا مذهب الشافعي وعن أحمد أن في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد فعليه لكل واحد دم وهو قول إسحاق وقال عطاء, وعمرو بن دينار: إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما, ففعل ذلك فليس عليه إلا فدية واحدة وقال الحسن: إن لبس القميص وتعمم وتطيب فعل ذلك جميعا, فليس عليه إلا كفارة واحدة ونحو ذلك عن مالك ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس فلم تتداخل أجزاؤها, كالحدود المختلفة والأيمان المختلفة وعكسه ما إذا كان من جنس واحد. مسألة:


قال: [ وإن لبس أو تطيب ناسيا فلا فدية عليه, ويخلع اللباس ويغسل الطيب ويفرغ إلى التلبية ] المشهور في المذهب أن المتطيب أو اللابس ناسيا أو جاهلا لا فدية عليه وهو مذهب عطاء, والثوري وإسحاق وابن المنذر وقال أحمد قال سفيان: ثلاثة في الجهل والنسيان سواء إذا أتى أهله, وإذا أصاب صيدا وإذا حلق رأسه قال أحمد: إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده, والشعر إذا حلقه فقد ذهب فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء وكل شيء من النسيان بعد الثلاثة فهو يقدر على رده, مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه وليس عليه شيء, أو لبس خفا نزعه وليس عليه شيء وعنه رواية أخرى, أن عليه الفدية في كل حال وهو مذهب مالك والليث والثوري, وأبي حنيفة لأنه هتك حرمة الإحرام فاستوى عمده وسهوه كحلق الشعر, وتقليم الأظفار ولنا عموم قوله عليه السلام: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان, وما استكرهوا عليه) وروى يعلى بن أمية (أن رجلا أتى النبي -ﷺ- وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق, أو قال: أثر صفرة فقال يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: اخلع عنك هذه الجبة, واغسل عنك أثر هذا الخلوق أو قال: أثر الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك) متفق عليه وفي لفظ قال: يا رسول الله (أحرمت بالعمرة, وعلي هذه الجبة) فلم يأمره بالفدية مع مسألته عما يصنع وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز إجماعا دل على أنه عذره لجهله, والجاهل والناسي واحد ولأن الحج عبادة يجب بإفسادها الكفارة فكان من محظوراته أنه ما يفرق بين عمده وسهوه, كالصوم فأما الحلق وقتل الصيد فهو إتلاف لا يمكن رد تلافيه, بإزالته إذا ثبت هذا فإن الناسي متى ذكر فعليه غسل الطيب وخلع اللباس في الحال, فإن أخر ذلك عن زمن الإمكان فعليه الفدية فإن قيل: فلم لا يجوز له استدامة الطيب ها هنا كالذي يتطيب قبل إحرامه؟ قلنا: لأن ذلك فعل مندوب إليه, فكان له استدامته وها هنا هو محرم وإنما سقط حكمه بالنسيان أو الجهل, فإذا زال ظهر حكمه وإن تعذر عليه إزالته لإكراه أو علة ولم يجد من يزيله, وما أشبه ذلك فلا فدية عليه وجرى مجرى المكره على الطيب ابتداء وحكم الجاهل إذا علم, حكم الناسي إذا ذكر وحكم المكره حكم الناسي فإن ما عفي عنه بالنسيان, عفي عنه بالإكراه لأنهما قرينان في الحديث الدال على العفو عنهما وقول الخرقي: (يفرغ إلى التلبية) أي يلبي حين ذكر استذكارا للحج أنه نسيه واستشعارا بإقامته عليه ورجوعه إليه وهذا قول يروى عن إبراهيم النخعي. مسألة:


قال: [ ولو وقف بعرفة نهارا أو دفع قبل الإمام, فعليه دم ] وجملة ذلك أن من وقف بعرفة يوم عرفة نهارا وجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف فإن دفع قبل الغروب ولم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم وقال الشافعي: لا يجب ذلك, ولا دم عليه إن دفع قبل الغروب احتجاجا بحديث عروة بن مضرس ولأنه أدرك من الوقوف ما أجزأه أشبه ما لو أدرك الليل منفردا ولنا, أن النبي -ﷺ- وقف حتى غربت الشمس بغير خلاف وقد قال: (خذوا عني مناسككم) فإذا تركه لزمه دم لقول ابن عباس ولأنه ركن لم يأت به على الوجه المشروع, فلزمه دم كما لو أحرم من دون الميقات وحديثهم دل على الإجزاء, والكلام في وجوب الدم فأما إذا وقف في الليل خاصة فإنه يجزئه ولا يلزمه دم لأن من أدرك الليل وحده لا يمكنه الوقوف نهارا فلا يتعين عليه, ولا يجب عليه بتركه دم بخلاف من أدرك نهارا وأما قوله: (أو دفع قبل الإمام) فظاهره أنه أوجب بذلك دما وإن دفع قبل الغروب وقد روى الأثرم, عن أحمد قال: سمعته يسأل عن رجل دفع قبل الإمام من عرفة بعدما غابت الشمس؟ فقال: ما وجدت أحدا سهل فيه كلهم يشدد فيه قال: وما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام, وعن عطاء عليه شاة إذا دفع قبل الإمام قيل: فيدفع من مزدلفة قبل الإمام؟ فقال: المزدلفة عندي غير عرفة وذكر حديث ابن عمر أنه دفع قبل ابن الزبير وغير الخرقي من أصحابنا لم يوجب بذلك شيئا, ولا عد الدفع مع الإمام من الواجبات وهو الصحيح فإن اتباع الإمام وأفعال النسك معه ليس بواجب في سائر مناسك الحج فكذا ها هنا, وإنما وقع دفع الصحابة مع النبي -ﷺ- بحكم العادة فلا يدل على الوجوب كالدفع معه من مزدلفة, والإفاضة من منى وغير ذلك وليس ذلك فعلا للنبي -ﷺ-, فيدخل في عموم قوله -ﷺ-: (خذوا عني مناسككم). مسألة:


قال: [ ومن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل من غير الرعاة وأهل سقاية الحاج فعليه دم ] وجملة ذلك أن المبيت بمزدلفة واجب يجب بتركه دم, سواء تركه عمدا أو خطأ عالما أو جاهلا لأنه ترك نسكا وللنسيان أثره في ترك الموجود كالمعدوم, لا في جعل المعدوم كالموجود إلا أنه رخص لأهل السقاية ورعاة الإبل في ترك البيتوتة لأن النبي -ﷺ- رخص للرعاة في ترك البيتوتة في حديث عدي, وأرخص للعباس في المبيت لأجل سقايته ولأن عليهم مشقة في المبيت لحاجتهم إلى حفظ مواشيهم وسقي الحاج, فكان لهم ترك المبيت فيها كليالي منى ولأنها ليلة يرمى في غدها, فكان لهم ترك المبيت فيها كليالي منى وروي عن أحمد أن المبيت بمزدلفة غير واجب, ولا شيء على تاركه والأول المذهب. مسألة:


قال: [ ومن قتل وهو محرم من صيد البر عامدا أو مخطئا فداه بنظيره من النعم, إن كان المقتول دابة ] في هذه المسألة فصول ستة: الفصل الأول:


في وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد في الجملة وأجمع أهل العلم على وجوبه ونص الله تعالى عليه بقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} ولا نعلم أحدا خالف في الجزاء في قتل الصيد متعمدا إلا الحسن ومجاهدا, قالا: إذا قتله متعمدا ذاكرا لإحرامه لا جزاء عليه وإن كان مخطئا أو ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء وهذا خلاف النص فإن الله تعالى قال: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} والذاكر لإحرامه متعمد, وقال في سياق الآية: {ليذوق وبال أمره} والمخطئ والناسي لا عقوبة عليهما وقتل الصيد نوعان مباح ومحرم فالمحرم قتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله, ففيه الجزاء والمباح ثلاثة أنواع أحدها أن يضطر إلى أكله فيباح له ذلك بغير خلاف نعلمه فإن الله تعالى قال: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وترك الأكل مع القدرة عند الضرورة إلقاء بيده إلى التهلكة, ومتى قتله ضمنه سواء وجد غيره أو لم يجد وقال الأوزاعي: لا يضمنه لأنه مباح أشبه صيد البحر ولنا, عموم الآية ولأنه قتل من غير معنى يحدث من الصيد يقتضي قتله فضمنه كغيره, ولأنه أتلفه لدفع الأذى عنه لا لمعنى فيه أشبه حلق الشعر لأذى برأسه النوع الثاني إذا صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله, فله قتله ولا ضمان عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر: عليه الجزاء وهو قول أبي حنيفة لأنه قتله لحاجة نفسه أشبه قتله لحاجته إلى أكله ولنا, أنه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي الصائل, ولأنه التحق بالمؤذيات طبعا فصار كالكلب العقور ولا فرق بين أن يخشى منه التلف أو يخشى منه مضرة, كجرحه أو إتلاف ماله أو بعض حيواناته النوع الثالث, إذا خلص صيدا من سبع أو شبكة صياد أو أخذه ليخلص من رجله خيطا ونحوه فتلف بذلك, فلا ضمان عليه وبه قال عطاء وقيل: عليه الضمان وهو قول قتادة لعموم الآية ولأن غاية ما فيه أنه عدم القصد إلى قتله فأشبه قتل الخطأ ولنا, أنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي الصبي فمات بذلك, وهذا ليس بمتعمد فلا تتناوله الآية. الفصل الثاني:


أنه لا فرق بين الخطأ والعمد في قتل الصيد في وجوب الجزاء على إحدى الروايتين وبه قال الحسن, وعطاء والنخعي ومالك, والثوري والشافعي وأصحاب الرأي قال الزهري: على المتعمد بالكتاب, وعلى المخطئ بالسنة والرواية الثانية لا كفارة في الخطأ وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير, وطاوس وابن المنذر وداود لأن الله تعالى قال: {ومن قتله منكم متعمدا} فدليل خطابه, أنه لا جزاء على الخاطئ لأن الأصل براءة ذمته فلا يشغلها إلا بدليل ولأنه محظور للإحرام لا يفسده, فيجب التفريق بين خطئه وعمده كاللبس والطيب ووجه الأولى قول جابر: (جعل رسول الله -ﷺ- في الضبع يصيده المحرم كبشا) وقال عليه السلام (في بيض النعام يصيبه المحرم: ثمنه) ولم يفرق رواهما ابن ماجه ولأنه ضمان إتلاف فاستوى عمده وخطؤه كمال الآدمي. الفصل الثالث:


أن الجزاء لا يجب إلا على المحرم ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام العمرة لعموم النص فيهما ولا خلاف في ذلك ولا فرق بين الإحرام بنسك واحد, وبين الإحرام بنسكين وهو القارن لأن الله تعالى لم يفرق بينهما. الفصل الرابع:


أن الجزاء لا يجب إلا بقتل الصيد لأنه الذي ورد به النص بقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد} والصيد ما جمع ثلاثة أشياء وهو أن يكون مباحا أكله, لا مالك له ممتنعا فيخرج بالوصف الأول كل ما ليس بمأكول لا جزاء فيه كسباع البهائم, والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات قال أحمد: إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله وقال: كل ما يؤذي إذا أصابه المحرم يؤكل لحمه وهذا قول أكثر أهل العلم, إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره كالسبع المتولد من الضبع والذئب تغليبا لتحريم, قتله كما علقوا التحريم في أكله وقال بعض أصحابنا: في أم حبين جدي وأم حبين: دابة منتفخة البطن وهذا خلاف القياس فإن أم حبين لا تؤكل لكونها مستخبثة عند العرب حكي أن رجلا من العرب سئل ما تأكلون؟ قال: ما دب ودرج, إلا أم حبين فقال السائل: ليهن أم حبين العافية وإنما تبعوا فيها قضية عثمان رضي الله عنه فإنه قضى فيها بحلان وهو الجدي والصحيح أنه لا شيء فيها وفي القمل روايتان ذكرناهما فيما مضى والصحيح, أنه لا شيء فيه لأنه غير مأكول وهو من المؤذيات ولا مثل له ولا قيمة قال ميمون بن مهران: كنت عند عبد الله بن عباس, فسأله رجل فقال: أخذت قملة فألقيتها ثم طلبتها فلم أجدها فقال ابن عباس: تلك ضالة لا تبتغى وقال القاضي: إنما الروايتان فيما أزاله من شعره, فأما ما ألقاه من ظاهر بدنه أو ثوبه فلا شيء عليه رواية واحدة ومن أوجب فيه الجزاء قال: أي شيء تصدق به فهو خير واختلفت الرواية في الثعلب, فعنه: فيه الجزاء وبه قال طاوس وقتادة ومالك, والشافعي وقال: هو صيد يؤكل وفيه الجزاء وعن أحمد: لا شيء فيه وهو قول الزهري وعمرو بن دينار, وابن أبي نجيح وابن المنذر واختلف فيه عن عطاء لأنه سبع وقد (نهى النبي -ﷺ- عن كل ذي ناب من السباع) وإذا أوجبنا فيه الجزاء, ففيه شاة لأنه روي ذلك عن عطاء واختلفت الرواية في السنور أهليا كان أو وحشيا والصحيح أنه لا جزاء فيه وهو اختيار القاضي لأنه سبع وليس بمأكول وقال الثوري, وإسحاق: في الوحشي حكومة ولا شيء في الأهلي لأن الصيد ما كان وحشيا واختلفت الرواية في الهدهد والصرد لاختلاف الروايتين في إباحتهما وكل ما اختلف في إباحته يختلف في جزائه, فأما ما يحرم فالصحيح أنه لا جزاء فيه لأنه مخالف للقياس ولا نص فيه الوصف الثاني, أن يكون وحشيا وما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم ذبحه ولا أكله كبهيمة الأنعام كلها, والخيل والدجاج ونحوها لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا, والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء وكذلك وجب الجزاء في الحمام أهليه ووحشيه, اعتبارا بأصله ولو توحش الأهلي لم يجب فيه شيء قال أحمد في بقرة صارت وحشية: لا شيء فيها لأن الأصل فيها الإنسي وإن تولد من الوحشي والأهلي ولد ففيه الجزاء, تغليبا للتحريم كقولنا في المتولد بين المباح والمحرم واختلفت الرواية في الدجاج السندي هل فيه جزاء؟ على روايتين وروى مهنا, عن أحمد في البط يذبحه المحرم إذا لم يكن صيدا والصحيح أنه يحرم عليه ذبحه, وفيه الجزاء لأن الأصل فيه الوحشي فهو كالحمام. الفصل الخامس:


أن الجزاء إنما يجب في صيد البر دون صيد البحر بغير خلاف لقول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} قال ابن عباس: طعامه ما لفظه ولا فرق بين حيوان البحر الملح وبين ما في الأنهار والعيون, فإن اسم البحر يتناول الكل قال الله تعالى: {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا} ولأن الله تعالى قابله بصيد البر بقوله: {وحرم عليكم صيد البر} فدل على أن ما ليس من صيد البر فهو من صيد البحر, وحيوان البحر ما كان يعيش في الماء ويفرخ ويبيض فيه فإن كان مما لا يعيش إلا في الماء كالسمك ونحوه, فهذا مما لا خلاف فيه وإن كان مما يعيش في البر كالسلحفاة والسرطان, فهو كالسمك لا جزاء فيه وقال عطاء: فيه الجزاء وفي الضفدع وكل ما يعيش في البر ولنا, أنه يفرخ في الماء ويبيض فيه فكان من حيوانه كالسمك, فأما طير الماء ففيه الجزاء في قول عامة أهل العلم منهم الأوزاعي والشافعي, وأصحاب الرأي وغيرهم لا نعلم فيه مخالفا غير ما حكي عن عطاء, أنه قال: حيثما يكون أكثر فهو من صيده ولنا أن هذا إنما يفرخ في البر ويبيض فيه وإنما يدخل الماء ليعيش فيه ويكتسب منه, فهو كالصياد من الآدميين واختلفت الرواية في الجراد فعنه: هو من صيد البحر لا جزاء فيه وهو مذهب أبي سعيد قال ابن المنذر: قال ابن عباس, وكعب: هو من صيد البحر وقال عروة: هو نثرة حوت وروي عن أبي هريرة قال: (أصابنا ضرب من جراد فكان رجل منا يضرب بسوطه وهو محرم, فقيل: إن هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي -ﷺ- فقال: هذا من صيد البحر) وعنه عن النبي -ﷺ- أنه قال: (الجراد من صيد البحر) رواهما أبو داود وروي عن أحمد, أنه من صيد البر وفيه الجزاء وهو قول الأكثرين لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لكعب في جرادتين: ما جعلت في نفسك؟ قال: درهمان قال: بخ درهمان خير من مائة جرادة رواه الشافعي, في "مسنده" ولأنه طير يشاهد طيرانه في البر ويهلكه الماء إذا وقع فيه فأشبه العصافير فأما الحديثان اللذان ذكرناهما للرواية الأولى فوهم قاله أبو داود فعلى هذا يضمنه بقيمته لأنه لا مثل له وهذا قول الشافعي وعن أحمد, يتصدق بتمرة عن الجرادة وهذا يروى عن عمر وعبد الله بن عمر وقال ابن عباس: قبضة من طعام قال القاضي: هذا محمول على أنه أوجب ذلك على طريق القيمة والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما أرادوا أن فيه أقل شيء وإن افترش الجراد في طريقه, فقتله بالمشي عليه على وجه لم يمكنه التحرز منه ففيه وجهان أحدهما, وجوب جزائه لأنه أتلفه لنفع نفسه فضمنه كالمضطر يقتل صيدا يأكله والثاني, لا يضمنه لأنه اضطره إلى إتلافه أشبه ما لو صال عليه. الفصل السادس:


أن جزاء ما كان دابة من الصيد نظيره من النعم هذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وقال أبو حنيفة: الواجب القيمة ويجوز فيها المثل لأن الصيد ليس بمثلي ولنا قول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} وجعل النبي -ﷺ- في الضبع كبشا وأجمع الصحابة على إيجاب المثل, فقال عمر وعثمان وعلي, وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية: في النعامة بدنة وحكم أبو عبيدة, وابن عباس في حمار الوحش ببدنة وحكم عمر فيه ببقرة وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة وإذا حكموا بذلك في الأزمنة المختلفة والبلدان المتفرقة, دل ذلك على أنه ليس على وجه القيمة ولأنه لو كان على وجه القيمة لاعتبروا صفة المتلف التي تختلف بها القيمة إما برؤية أو إخبار, ولم ينقل عنهم السؤال عن ذلك حال الحكم ولأنهم حكموا في الحمام بشاة ولا يبلغ قيمة شاة في الغالب إذا ثبت هذا, فليس المراد حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين النعم والصيد لكن أريدت المماثلة من حيث الصورة والمتلف من الصيد قسمان أحدهما, قضت فيه الصحابة فيجب فيه ما قضت وبهذا قال عطاء والشافعي, وإسحاق وقال مالك: يستأنف الحكم فيه لأن الله تعالى قال: {يحكم به ذوا عدل منكم} ولنا قول النبي -ﷺ-: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وقال: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر, وعمر) ولأنهم أقرب إلى الصواب وأبصر بالعلم فكان حكمهم حجة على غيرهم, كالعالم مع العامي والذي بلغنا قضاؤهم في الضبع كبش قضى به عمر وعلي, وجابر وابن عباس وفيه عن جابر أن النبي -ﷺ- (جعل في الضبع يصيدها المحرم كبشا) رواه أبو داود, وابن ماجه وروي عن جابر عن النبي -ﷺ- (قال: في الضبع كبش إذا أصاب المحرم, وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة) قال أبو الزبير: الجفرة, التي قد فطمت ورعت رواه الدارقطني قال أحمد: (حكم رسول الله -ﷺ- في الضبع بكبش) وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور, وابن المنذر وقال الأوزاعي إن كان العلماء بالشام يعدونها من السباع ويكرهون أكلها وهو القياس إلا أن اتباع السنة والآثار أولى وفي حمار الوحش بقرة روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال عروة ومجاهد, والشافعي وعن أحمد: فيه بدنة روي ذلك عن أبي عبيدة وابن عباس وبه قال عطاء والنخعي وفي بقرة الوحش بقرة روي ذلك عن ابن مسعود, وعطاء وعروة وقتادة, والشافعي والأيل فيه بقرة قاله ابن عباس قال أصحابنا: في الوعل والثيتل بقرة كالأيل والأروى فيها بقرة قال ذلك ابن عمر وقال القاضي: فيها عضب وهي من أولاد البقر ما بلغ أن يقبض على قرنه, ولم يبلغ أن يكون جذعا وحكي ذلك عن الأزهري وفي الظبي شاة ثبت ذلك عن عمر وروي عن علي وبه قال عطاء وعروة, والشافعي وابن المنذر ولا نحفظ عن غيرهم خلافهم وفي الوبر شاة روي ذلك عن مجاهد, وعطاء وقال القاضي: فيه جفرة لأنه ليس بأكبر منها وكذلك قال الشافعي: إن كانت العرب تأكله والجفرة من أولاد المعز ما أتى عليها أربعة أشهر وفصلت عن أمها والذكر جفر وفي اليربوع جفرة قال ذلك عمر رضي الله عنه وروي ذلك عن ابن مسعود, وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور وقال النخعي: فيه ثمنه وقال مالك: قيمته طعاما وقال عمرو بن دينار: ما سمعنا أن الضب واليربوع يوديان واتباع الآثار أولى وفي الضب جدي قضى به عمر, وأربد وبه قال الشافعي وعن أحمد فيه شاة لأن جابر بن عبد الله, وعطاء قالا فيه ذلك وقال مجاهد: حفنة من طعام وقال قتادة: صاع وقال مالك: قيمته من الطعام والأول أولى فإن قضاء عمر أولى من قضاء غيره والجدي أقرب إليه من الشاة وفي الأرنب عناق قضى به عمر وبه قال الشافعي وقال ابن عباس: فيه حمل وقال عطاء: فيه شاة وقضاء عمر أولى والعناق: الأنثى من ولد المعز في أول سنة والذكر جدي القسم الثاني, ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة لقول الله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} فيحكمان فيه بأشبه الأشياء من النعم من حيث الخلقة, لا من حيث القيمة بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة وليس من شرط الحكم أن يكون فقيها لأن ذلك زيادة على أمر الله تعالى به, وقد أمر عمر أن يحكم في الضب ولم يسأل أفقيه هو أم لا؟ لكن تعتبر العدالة لأنها منصوص عليها ولأنها شرط في قبول القول على الغير في سائر الأماكن, وتعتبر الخبرة لأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا من له خبرة ولأن الخبرة بما يحكم به شرط في سائر الحكام ويجوز أن يكون القاتل أحد العدلين وبهذا قال الشافعي وإسحاق, وابن المنذر وقال النخعي: ليس له ذلك لأن الإنسان لا يحكم لنفسه ولنا عموم قوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} والقاتل مع غيره ذوا عدل منا وقد روى سعيد في " سننه " والشافعي, في " مسنده " عن طارق بن شهاب قال: خرجنا حجاجا, فأوطأ رجل منا يقال له أربد ضبا ففزر ظهره فقدمنا على عمر رضي الله عنه فسأله أربد, فقال له: احكم يا أربد فيه قال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين قال: إنما أمرتك أن تحكم ولم آمرك أن تزكيني فقال أربد: أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر قال عمر: فذلك فيه فأمره عمر أن يحكم فيه وهو القاتل وأمر أيضا كعب الأحبار أن يحكم على نفسه في الجرادتين اللتين صادهما وهو محرم ولأنه مال يخرج في حق الله تعالى, فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة. فصل:


قال أصحابنا: في كبير الصيد مثله من النعم وفي الصغير صغير, وفي الذكر ذكر وفي الأنثى أنثى وفي الصحيح صحيح, وفي المعيب معيب وبهذا قال الشافعي وقال مالك: في الصغير كبير وفي المعيب صحيح لأن الله تعالى قال: {هديا بالغ الكعبة} ولا يجزئ في الهدي صغير ولا معيب ولأنها كفارة متعلقة بقتل حيوان, فلم تختلف بصغيره وكبيره كقتل الآدمي ولنا قول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} ومثل الصغير صغير, ولأن ما ضمن باليد والجناية اختلف ضمانه بالصغر والكبر كالبهيمة والهدي في الآية معتبرة بالمثل, وقد أجمع الصحابة على الضمان بما لا يصح هديا كالجفرة والعناق والجدي وكفارة الآدمي ليست بدلا عنه ولا تجرى مجرى الضمان, بدليل أنها لا تتبعض في أبعاضه فإن فدى المعيب بصحيح فهو أفضل وإن فداه بمعيب مثله جاز وإن اختلف العيب, مثل أن فدى الأعرج بأعور أو الأعور بأعرج لم يجز, لأنه ليس بمثله وإن فدى أعور من أحد العينين بأعور من أخرى أو أعرج من قائمة بأعرج من أخرى جاز لأن هذا اختلاف يسير ونوع العيب واحد, وإنما اختلف محله وإن فدى الذكر بأنثى جاز لأن لحمها أطيب وأرطب وإن فداها بذكر جاز, في أحد الوجهين لأن لحمه أوفر فتساويا والآخر لا يجوز لأن زيادته عليها ليس هي من جنس زيادتها فأشبه فداء المعيب من نوع بمعيب من نوع آخر. فصل:


فإن قتل ماخضا فقال القاضي: يضمنها بقيمة مثلها وهو مذهب الشافعي لأن قيمته أكثر من قيمة لحمه وقال أبو الخطاب: يضمنها بماخض مثلها لأن الله تعالى قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} وإيجاب القيمة عدول عن المثل مع إمكانه, فإن فداها بغير ماخض احتمل الجواز لأن هذه الصفة لا تزيد في لحمها بل ربما نقصتها, فلا يشترط وجودها في المثل كاللون والعيب وإن جنى على ماخض فأتلف جنينها, وخرج ميتا ففيه ما نقصت أمه كما لو جرحها, وإن خرج حيا لوقت يعيش لمثله ثم مات ضمنه بمثله وإن كان لوقت لا يعيش لمثله فهو كالميت, كجنين الآدمية. فصل:


وإن أتلف جزءا من الصيد وجب ضمانه لأن جملته مضمونة فكان بعضه مضمونا كالآدمي, والأموال ولأن النبي -ﷺ- قال: (لا ينفر صيدها) فالجرح أولى بالنهي والنهي يقتضي تحريمه وما كان محرما من الصيد وجب ضمانه كنفسه, ويضمن بمثله من مثله في أحد الوجهين لأن ما وجب ضمان جملته بالمثل وجب في بعضه مثله, كالمكيلات والآخر يجب قيمة مقداره من مثله لأن الجزاء يشق إخراجه فيمنع إيجابه ولهذا عدل الشارع عن إيجاب جزء من بعير في خمس من الإبل إلى إيجاب شاة من غير جنس الإبل والأول أولى لأن المشقة ها هنا غير ثابتة لوجود الخيرة له في العدول عن المثل إلى عدله من الطعام أو الصيام, فينتفي المانع فيثبت مقتضى الأصل وهذا إذا اندمل الصيد ممتنعا فإن اندمل غير ممتنع ضمنه جميعه لأنه عطله, فصار كالتالف ولأنه مفض إلى تلفه فصار كالجارح له جرحا يتيقن به موته وهذا مذهب أبي حنيفة ويتخرج أن يضمنه بما نقص لأنه لا يضمن ما لم يتلف, ولم يتلف جميعه بدليل ما لو قتله محرم آخر لزمه الجزاء ومن أصلنا أن على المشتركين جزاء واحدا وضمانه بجزاء كامل يفضي إلى إيجاب جزاءين وإن غاب غير مندمل, ولم يعلم خبره والجراحة موجبة فعليه ضمان جميعه كما لو قتله وإن كانت غير موجبة, فعليه ضمان ما نقص ولا يضمن جميعه لأننا لا نعلم حصول التلف بفعله فلم يضمن, كما لو رمى سهما إلى صيد فلم يعلم أوقع به أم لا وكذلك إن وجده ميتا, ولم يعلم أمات من الجناية أم من غيرها ويحتمل أن يلزمه ضمانه ها هنا لأنه وجد سبب إتلافه منه ولم يعلم له سبب آخر فوجب إحالته على السبب المعلوم, كما لو وقع في الماء نجاسة فوجده متغيرا تغيرا يصلح أن يكون منها فإننا نحكم بنجاسته, وكذلك لو رمى صيدا فغاب عن عينه ثم وجده ميتا لا أثر به غير سهمه, حل أكله وإن صيرته الجناية غير ممتنع فلم يعلم أصار ممتنعا أم لا فعليه ضمان جميعه لأن الأصل عدم الامتناع. فصل:


وإن جرح صيدا, فتحامل فوقع في شيء تلف به ضمنه لأنه تلف بسببه وكذلك إن نفره, فتلف في حال نفوره ضمنه فإن سكن في مكان وأمن من نفوره, ثم تلف لم يضمنه وقد ذكرنا وجها آخر أن يضمنه في المكان الذي انتقل إليه لما روى الشافعي في " مسنده ", عن عمر رضي الله عنه أنه دخل دار الندوة فألقى رداءه على واقف في البيت فوقع عليه طير من هذا الحمام, فأطاره فوقع على واقف فانتهزته حية فقتلته, فقال لعثمان بن عفان ونافع بن عبد الحارث: إني وجدت في نفسي إني أطرته من منزل كان فيه آمنا إلى موقعة كان فيها حتفه فقال نافع لعثمان: كيف ترى في عنز ثنية عفراء, يحكم بها على أمير المؤمنين؟ فقال عثمان: أرى ذلك فأمر بها عمر رضي الله عنه. فصل:


وكل ما يضمن به الآدمي يضمن به الصيد من مباشرة, أو بسبب وما جنت عليه دابته بيدها أو فمها من الصيد فالضمان على راكبها, أو قائدها أو سائقها وما جنت برجلها, فلا ضمان عليه لأنه لا يمكن حفظ رجلها وقال القاضي: يضمن السائق جميع جنايتها لأن يده عليها ويشاهد رجلها وقال ابن عقيل: لا ضمان عليه في الرجل لأن النبي -ﷺ- قال: (الرجل جبار) وإن انقلبت فأتلفت صيدا لم يضمنه لأنه لا يدل عليها, وقد قال النبي -ﷺ-: (العجماء جبار) وكذلك لو أتلفت آدميا لم يضمنه ولو نصب المحرم شبكة أو حفر بئرا, فوقع فيها صيد ضمنه لأنه بسببه كما يضمن الآدمي, إلا أن يكون حفر البئر بحق كحفره في داره أو في طريق واسع ينتفع بها المسلمون, فينبغي أن لا يضمن ما تلف به كما لا يضمن الآدمي وإن نصب شبكة قبل إحرامه فوقع فيها صيد بعد إحرامه, لم يضمنه لأنه لم يوجد منه بعد إحرامه تسبب إلى إتلافه أشبه ما لو صاده قبل إحرامه وتركه في منزله, فتلف بعد إحرامه أو باعه وهو حلال فذبحه المشتري. مسألة:


قال: [ وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه ] قوله: " بقيمته في موضعه " يعني يجب قيمته في المكان الذي أتلفه فيه لا خلاف بين أهل العلم في وجوب ضمان الصيد من الطير, إلا ما حكي عن داود أنه لا يضمن ما كان أصغر من الحمام لأن الله تعالى قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} وهذا لا مثل له ولنا عموم قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وقيل في قوله تعالى: {ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم} : يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد { ورماحكم} : يعني الكبار وقد روي عن عمر, وابن عباس رضي الله عنهما أنهما حكما في الجراد بجزاء ودلالة الآية على وجوب جزاء غيره لا يمنع من وجوب الجزاء في هذا بدليل آخر وضمان غير الحمام من الطير قيمته لأن الأصل في الضمان أن يضمن بقيمته أو بما يشتمل عليها, بدليل سائر المضمونات لكن تركنا هذا الأصل بدليل ففيما عداه تجب القيمة بقضية الدليل, وتعتبر القيمة في موضع إتلافه كما لو أتلف مال آدمي في موضع قوم في موضع الإتلاف كذا ها هنا. فصل:


ويضمن بيض الصيد بقيمته, أي صيد كان قال ابن عباس: في بيض النعام قيمته وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وبه قال النخعي والزهري, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه يروى أن رسول الله -ﷺ- قال (في بيض النعام قيمته) مع أن النعام من ذوات الأمثال, فغيره أولى ولأن البيض لا مثل له فيجب قيمته, كصغار الطير فإن لم يكن له قيمة لكونه مذرا أو لأن فرخه ميت, فلا شيء فيه قال أصحابنا: إلا بيض النعام فإن لقشره قيمة والصحيح أنه لا شيء فيه لأنه إذا لم يكن فيه حيوان ولا مآله إلى أن يصير منه حيوان صار كالأحجار والخشب, وسائر ما له قيمة من غير الصيد ألا ترى أنه لو نقب بيضة فأخرج ما فيها, لزمه جزاء جميعها ثم لو كسرها هو أو غيره لم يلزمه لذلك شيء ومن كسر بيضة, فخرج منها فرخ حي فعاش فلا شيء فيه, وإن مات ففيه ما في صغار أولاد المتلف بيضه ففي فرخ الحمام صغير أولاد الغنم وفي فرخ النعامة حوار, وفيما عداهما قيمته ولا يحل لمحرم أكل بيض الصيد إذا كسره هو أو محرم سواه وإن كسره حلال فهو كلحم الصيد إن كان أخذه لأجل المحرم لم يبح له أكله, وإلا أبيح وإن كسر بيض صيد لم يحرم على الحلال لأن حله لا يقف على كسره ولا يعتبر له أهلية, بل لو كسره مجوسي أو وثني أو بغير تسمية لم يحرم, فأشبه قطع اللحم وطبخه وقال القاضي: يحرم على الحلال أكله كما لو ذبح الصيد لأن كسره جرى مجرى الذبح بدليل حله للمحرم بكسر الحلال له وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر, أو ترك مع بيض الصيد بيضا آخر أو شيئا نفره عن بيضه حتى فسد فعليه ضمان لأنه تلف بسببه, وإن صح وفرخ فلا ضمان عليه وإن باض الصيد على فراشه فنقله برفق ففسد ففيه وجهان, بناء على أن الجراد إذا انفرش في طريقه وحكم بيض الجراد وإن احتلب لبن صيد ففيه قيمة, كما لو حلب لبن حيوان مغصوب. فصل: إذا نتف محرم ريش طائر إذا نتف محرم ريش طائر ففيه ما نقص وبهذا قال الشافعي وأبو ثور, وأوجب مالك وأبو حنيفة فيه الجزاء جميعه ولنا أنه نقصه نقصا يمكن زواله فلم يضمنه بكماله, كما لو جرحه فإن حفظه فأطعمه وسقاه, حتى عاد ريشه فلا ضمان عليه لأن النقص زال فأشبه ما لو اندمل الجرح وقيل: عليه قيمة الريش لأن الثاني غير الأول, فإن صار غير ممتنع بنتف ريشه واندمل غير ممتنع فعليه جزاء جميعه, كالجرح فإن غاب غير مندمل ففيه ما نقص كالجرح سواء, وقد ذكرنا ثم احتمالا فهاهنا مثله. مسألة:


قال: [ إلا أن تكون نعامة فيكون فيها بدنة، أو حمامة وما أشبهها فيكون في كل واحد منها شاة ] هذا متعلق بقوله: " وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه " واستثنى النعامة من الطائر لأنها ذات جناحين وتبيض فهي كالدجاج والإوز أوجب فيها بدنة لأن عمر, وعليا وعثمان وزيد بن ثابت, وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم حكموا فيها ببدنة وبه قال عطاء, ومجاهد ومالك والشافعي, وأكثر أهل العلم وحكي عن النخعي أن فيها قيمتها وبه قال أبو حنيفة وخالفه صاحباه واتباع النص في قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} والآثار أولى ولأن النعامة تشبه البعير في خلقته فكان مثلا لها, فتدخل في عموم النص وفي الحمام شاة حكم به عمر وعثمان وابن عمر, وابن عباس ونافع بن عبد الحارث في حمام الحرم, وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وعروة, وقتادة والشافعي وإسحاق وقال أبو حنيفة, ومالك: فيه قيمته إلا أن مالكا وافق في حمام الحرم لحكم الصحابة ففيما عداه يبقى على الأصل قلنا: روي عن ابن عباس في الحمام حال الإحرام كمذهبنا ولأنها حمامة مضمونة لحق الله تعالى, فضمنت بشاة كحمامة الحرم ولأنها متى كانت الشاة مثلا لها في الحرم, فكذلك في الحل فيجب ضمانها بها لقول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} وقياس الحمام على الحمام أولى من قياسه على غيره وقول الخرقي: " وما أشبهها " يعني ما يشبه الحمامة في أنه يعب الماء, أي يضع منقاره فيه فيكرع كما تكرع الشاة ولا يأخذ قطرة قطرة, كالدجاج والعصافير وإنما أوجبوا فيه شاة لشبهه بها في كرع الماء مثلها ولا يشرب مثل شرب بقية الطيور قال أحمد, في رواية أبي القاسم وشندي: كل طير يعب الماء يشرب مثل الحمام ففيه شاة فيدخل في هذا الفواخت, والوراشين والسقايين والقمري والدبسي, والقطا لأن كل واحد من هذه تسميه العرب حماما وقد روي عن الكسائي أنه قال: كل مطوق حمام وعلى هذا القول, الحجل حمام لأنه مطوق. فصل:


وما كان أكبر من الحمام كالحبارى والكركي, والكروان والحجل والإوز الكبير من طير الماء ففيه وجهان أحدهما, فيه شاة لأنه روي عن ابن عباس وجابر وعطاء, أنهم قالوا: في الحجلة والقطاة والحبارى شاة شاة وزاد عطاء: في الكركي والكروان وابن الماء ودجاج الحبش والحرب شاة شاة والحرب: هو فرخ الحبارى لأن إيجاب الشاة في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر منه والوجه الثاني فيه قيمته, وهو مذهب الشافعي لأن القياس يقتضي وجوبها في جميع الطير تركناه في الحمام لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ففي غيره يرجع إلى الأصل. مسألة:


قال: [ وهو مخير, إن شاء فداه بالنظير أو قوم النظير بدراهم ونظر كم يجيء به طعاما, فأطعم كل مسكين مدا أو صام عن كل مد يوما معسرا كان أو موسرا ] في هذه المسألة أربعة فصول:: الفصل الأول:


إن قاتل الصيد مخير في الجزاء بأحد هذه الثلاثة, بأيها شاء كفر موسرا كان أو معسرا وبهذا قال مالك والشافعي, وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية ثانية أنها على الترتيب فيجب المثل أولا, فإن لم يجد أطعم فإن لم يجد صام وروي هذا عن ابن عباس والثوري لأن هدي المتعة على الترتيب وهذا أوكد منه لأنه بفعل محظور وعنه رواية ثالثة, أنه لا إطعام في الكفارة وإنما ذكر في الآية ليعدل الصيام لأن من قدر على الإطعام قدر على الذبح هكذا قال ابن عباس وهذا قول الشعبي وأبي عياض ولنا, قول الله تعالى: {هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} " وأو " في الأمر للتخيير روي عن ابن عباس أنه قال: كل شيء أو أو فهو مخير وأما ما كان فإن لم يوجد, فهو الأول الأول ولأن عطف هذه الخصال بعضها على بعض بأو فكان مخيرا بين ثلاثتها كفدية الأداء وقد سمى الله الطعام كفارة, ولا يكون كفارة ما لم يجب إخراجه وجعله طعاما للمساكين وألا يجوز صرفه إليهم لا يكون طعاما لهم, وعطف الطعام على الهدي ثم عطف الصيام عليه ولو لم يكن خصلة من خصالها لم يجز ذلك فيه ولأنها كفارة ذكر فيها الطعام, فكان من خصالها كسائر الكفارات وقولهم: إنها وجبت بفعل محظور يبطل بفدية الأذى على أن لفظ النص صريح في التخيير فليس ترك مدلوله قياسا على هدي المتعة بأولى من العكس, فلا يجوز قياس هدي المتعة في التخيير على هذا لما يتضمنه من ترك النص كذا ها هنا الفصل الثاني:


إذا اختار المثل, ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم لأن الله تعالى قال: {هديا بالغ الكعبة} ولا يجزئه أن يتصدق به حيا على المساكين لأن الله تعالى سماه هديا والهدي يجب ذبحه, وله ذبحه أي وقت شاء ولا يختص ذلك بأيام النحر . الفصل الثالث:


أنه متى اختار الإطعام فإنه يقوم المثل بدراهم, والدراهم بطعام ويتصدق به على المساكين وبهذا قال الشافعي وقال مالك: يقوم الصيد لا المثل لأن التقويم إذا وجب لأجل الإتلاف قوم المتلف, كالذي لا مثل له ولنا أن كل ما تلف وجب فيه المثل إذا قوم لزمت قيمة مثله كالمثلي من مال الآدمي, ويعتبر قيمة المثل في الحرم لأنه يحل إحرامه ولا يجزئ إخراج القيمة لأن الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ليست القيمة منها والطعام المخرج هو الذي يخرج في الفطرة وفدية الأذى, وهو الحنطة والشعير والتمر والزبيب ويحتمل أن يجزئ كل ما يسمى طعاما لدخوله في إطلاق اللفظ ويعطى كل مسكين مدا من البر كما يدفع إليه في كفارة اليمين, فأما بقية الأصناف فنصف صاع لكل مسكين نص عليه أحمد فقال في إطعام المساكين في الفدية وجزاء كفارة اليمين: إن أطعم برا, فمد طعام لكل مسكين وإن أطعم تمرا فنصف صاع لكل مسكين وأطلق الخرقي لكل مسكين ولم يفرق والأولى أنه لا يجزئ من غير البر أقل من نصف صاع إذ لم يرد الشرع في موضع بأقل من ذلك في طعمة المساكين, ولا توقيف فيه فيرد إلى نظائره ولا يجزئ إخراج لمساكين الحرم لأن قيمة الهدي الواجب لهم فيكون أيضا لهم كقيمة المثلي من مال الآدمي. الفصل الرابع: في الصيام:


فعن أحمد أنه يصوم عن كل مد يوما وهو ظاهر قول عطاء, ومالك والشافعي لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام فكان اليوم في مقابلة المد, ككفارة الظهار وعن أحمد أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما وهو قول ابن عقيل والحسن, والنخعي والثوري وأصحاب الرأي وابن المنذر قال القاضي: المسألة رواية, واحدة واليوم عن مد بر أو نصف صاع من غيره وكلام أحمد في الروايتين محمول على اختلاف الحالين لأن صوم اليوم مقابل بإطعام المسكين, وإطعام المسكين مد بر أو نصف صاع من غيره ولأن الله تعالى جعل اليوم في كفارة الظهار في مقابلة إطعام المسكين فكذا ها هنا وروي عن أبي ثور, أن جزاء الصيد من الطعام والصيام مثل كفارة الأذى وروي ذلك عن ابن عباس ولنا أنه جزاء عن متلف فاختلف باختلافه كبدل مال الآدمي, وإذا بقي ما لا يعدل كدون المد صام يوما كاملا كذلك قال عطاء والنخعي, وحماد والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم لأن الصوم لا يتبعض, فيجب تكميله ولا يجب التتابع في الصيام وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي فإن الله تعالى أمر به مطلقا فلا يتقيد بالتتابع من غير دليل ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء, ويطعم عن بعض نص عليه أحمد وبه قال الشافعي والثوري وإسحاق, وأبو ثور وابن المنذر وجوزه محمد بن الحسن إذا عجز عن بعض الإطعام ولا يصح لأنها كفارة واحدة فلا يؤدي بعضها بالإطعام وبعضها بالصيام, كسائر الكفارات. فصل:


وما لا مثل له من الصيد يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته طعاما فيطعمه للمساكين, وبين أن يصوم وهل يجوز إخراج القيمة؟ فيه احتمالان أحدهما لا يجوز وهو ظاهر قول أحمد في رواية حنبل, فإنه قال: إذا أصاب المحرم صيدا ولم يصب له عدلا يحكم به عليه قوم طعاما إن قدر على طعام وإلا صام لكل نصف صاع يوما هكذا يروى عن ابن عباس ولأنه جزاء صيد, فلم يجز إخراج القيمة فيه كالذي له مثل ولأن الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ليس بها القيمة وإذا عدم أحد الثلاثة يبقى التخيير بين الشيئين الباقيين, فأما إيجاب شيء غير المنصوص فلا الثاني يجوز إخراج القيمة لأن عمر رضي الله عنه قال لكعب: ما جعلت على نفسك؟ قال: درهمين قال: اجعل ما جعلت على نفسك وقال عطاء: في العصفور نصف درهم وظاهره إخراج الدراهم الواجبة. مسألة:


قال: [ وكلما قتل صيدا حكم عليه ] معناه أنه يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني كما يجب عليه إذا قتله ابتداء وفي هذه المسألة عن أحمد ثلاث روايات إحداهن, أنه يجب في كل صيد جزاء وهذا ظاهر المذهب قال أبو بكر: هذا أولى القولين بأبي عبد الله وبه قال الثوري والشافعي, وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي والثانية, لا يجب إلا في المرة الأولى وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال شريح والحسن, وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي, وقتادة لأن الله تعالى قال: {ومن عاد فينتقم الله منه} ولم يوجب جزاء والثالثة إن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة وإلا فلا شيء للثاني لأنها كفارة تجب بفعل محظور في الإحرام, فيدخل جزاؤها قبل التكفير كاللبس والطيب ولنا أنها كفارة عن قتل, فاستوى فيه المبتدئ والعائد كقتل الآدمي ولأنها بدل متلف يجب به المثل أو القيمة, فأشبه بدل مال الآدمي قال أحمد: روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ وفي من قتل, ولم يسألوه: هل كان قتل قبل هذا أو لا؟ وإنما هذا يعني لتخصيص الإحرام ومكانه والآية اقتضت الجزاء على العائد بعمومها وذكر العقوبة في الثاني لا يمنع الوجوب كما قال الله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقد ثبت أن العائد لو انتهى كان له ما سلف, وأمره إلى الله ولا يصح قياس جزاء الصيد على غيره ولأن جزاءه مقدر به ويختلف بصغره وكبره ولو أتلف صيدين معا وجب جزاؤهما, فكذلك إذا تفرقا بخلاف غيره من المحظورات. فصل:


ويجوز إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته نص عليه أحمد لأنها كفارة فجاز تقديمها على الموت, ككفارة قتل الآدمي ولأنها كفارة فأشبهت كفارة الظهار واليمين. مسألة:


قال: [ ولو اشترك جماعة في قتل صيد, فعليهم جزاء واحد ] يروى عن أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات إحداهن أن الواجب جزاء واحد وهو الصحيح ويروى هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس, وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال عطاء والزهري والنخعي, والشعبي والشافعي وإسحاق والثانية, على كل واحد جزاء رواهما ابن أبي موسى واختارها أبو بكر وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة ويروى عن الحسن لأنها كفارة قتل يدخلها الصوم, أشبهت كفارة قتل الآدمي والثالثة إن كان صوما صام كل واحد صوما تاما وإن كان غير ذلك فجزاء واحد, وإن كان أحدهما هدي والآخر صوم فعلى المهدى بحصته وعلى الآخر صوم تام لأن الجزاء ليس بكفارة, وإنما هو بدل بدليل أن الله تعالى عطف عليه الكفارة فقال الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} والصوم كفارة, ككفارة قتل الآدمي ولنا قول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} والجماعة قد قتلوا صيدا فيلزمهم مثله, والزائد خارج عن المثل فلا يجب ومتى ثبت اتخاذ الجزاء في الهدي, وجب اتخاذه في الصيام لأن الله تعالى قال: {أو عدل ذلك صياما} والاتفاق حاصل أنه معدول بالقيمة إما قيمة المتلف وإما قيمة مثله, فإيجاب الزائد على عدل القيمة خلاف النص وأيضا ما روي عمن سمينا من الصحابة أنهم قالوا كمذهبنا ولأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه, فكان واحدا كالدية أو كما لو كان القاتل واحدا, أو بدل المحل فاتحدت باتحاده الدية وكفارة الآدمي لنا فيها منع, ولا يتبعض في أبعاضه ولا يختلف باختلافه فلا يتبعض على الجماعة, بخلاف مسألتنا. فصل:


فإن كان شريك المحرم حلالا أو سبعا فلا شيء على الحلال ويحكم على الحرام ثم إن كان جرح أحدهما قبل صاحبه, والسابق الحلال أو السبع فعلى المحرم جزاؤه مجروحا وإن كان السابق المحرم, فعليه جزاء جرحه على ما مضى وإن كان جرحهما في حال واحدة, ففيه وجهان أحدهما على المحرم بقسطه كما لو كان شريكه محرما لأنه إنما أتلف البعض والثاني, عليه جزاء جميعه لأنه تعذر إيجاب الجزاء على شريكه فأشبه ما لو كان أحدهما دالا والآخر مدلولا أو أحدهما ممسكا والآخر قاتلا, فإن الجزاء على المحرم أيهما كان لتعذر إيجاب الجزاء على الآخر. فصل:


وإن اشترك حرام وحلال في صيد حرمي فالجزاء بينهما نصفين لأن الإتلاف ينسب إلى كل واحد منهما نصفه, ولا يزداد الواجب على المحرم باجتماع حرمة الإحرام والحرم فيكون الواجب على كل واحد منهما النصف وهذا الاشتراك الذي هذا حكمه هو الذي يقع به الفعل منهما معا, فإن سبق أحدهما صاحبه فحكمه ما ذكرناه فيما ما مضى. فصل:


إذا أحرم الرجل وفي ملكه صيد, لم يزل ملكه عنه ولا يده الحكمية مثل أن يكون في بلده, أو في يد نائب له في غير مكانه ولا شيء عليه إن مات وله التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما ومن غصبه لزمه رده ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه ومعناه إذا كان في قبضته, أو رحله أو خيمته أو قفص معه, أو مربوطا بحبل معه لزمه إرساله وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وقال الثوري: هو ضامن لما في بيته أيضا وحكي نحو ذلك عن الشافعي وقال أبو ثور: ليس عليه إرسال ما في يده وهو أحد قولي الشافعي لأنه في يده, أشبه ما لو كان في يده الحكمية ولأنه لا يلزم من منع ابتداء الصيد المنع من استدامته بدليل الصيد في الحرم ولنا على أنه لا يلزمه إزالة يده الحكمية, أنه لم يفعل في الصيد فعلا فلم يلزمه شيء كما لو كان في ملك غيره, وعكس هذا إذا كان في يده المشاهدة فإنه فعل الإمساك في الصيد فكان ممنوعا منه, كحالة الابتداء فإن استدامة الإمساك إمساك بدليل أنه لو حلف لا يمسك شيئا فاستدام إمساكه حنث إذا ثبت هذا, فإنه متى أرسله لم يزل ملكه عنه ومن أخذه رده إذا حل ومن قتله ضمنه له لأن ملكه كان عليه, وإزالة الأثر لا يزيل الملك بدليل الغصب والعارية فإن تلف في يده قبل إرساله بعد إمكانه ضمنه لأنه تلف تحت اليد العادية, فلزمه الضمان كمال الآدمي وإن كان قبل إمكان الإرسال فلا ضمان لأنه ليس بمفرط ولا متعد, فإن أرسله إنسان من يده فلا ضمان عليه لأنه فعل ما يلزمه فعله ولأن اليد قد زال حكمها وحرمتها, فإن أمسكه حتى حل فملكه باق عليه لأن ملكه لم يزل بالإحرام وإنما زال حكم المشاهدة, فصار كالعصير يتخمر ثم يتخلل قبل إراقته. فصل:


ولا يملك المحرم الصيد ابتداء بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الأسباب, فإن الصعب بن جثامة (أهدى إلى رسول الله عليه السلام حمارا وحشيا فرده عليه وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) فإن أخذه بأحد هذه الأسباب, ثم تلف فعليه جزاؤه وإن كان مبيعا فعليه القيمة أو رده إلى مالكه فإن أرسله, فعليه ضمانه كما لو أتلفه وليس عليه جزاء, وعليه رد المبيع أيضا ويحتمل أن يلزمه إرساله كما لو كان مملوكا له لأنه لا يجوز له إثبات يده المشاهدة على الصيد وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا يسترد المحرم الصيد الذي باعه وهو حلال مختار ولا عيب في ثمنه, ولا غيرهما لأنه ابتداء ملك على الصيد وهو ممنوع منه وإن رده المشتري عليه بعيب أو خيار فله ذلك لأن سبب الرد متحقق, ثم لا يدخل في ملك المحرم ويلزمه إرساله. فصل:


وإن ورث المحرم صيدا ملكه لأن الملك بالإرث ليس بفعل من جهته وإنما يدخل في ملكه حكما, اختار ذلك أو كرهه ولهذا يدخل في ملك الصبي والمجنون فيدخل به المسلم في ملك الكافر فجرى مجرى الاستدامة ويحتمل أن لا يملك به لأنه من جهات التملك, فأشبه البيع وغيره فعلى هذا يكون أحق به من غير ثبوت ملكه عليه فإذا حل ملكه. مسألة:


قال: [ ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر, تحلل بعمرة وذبح إن كان معه هدي وحج من قابل, وأتى بدم ] الكلام في هذه المسألة في أربعة فصول الفصل الأول:


أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر فمن [ لم ] يدرك الوقوف حتى طلع الفجر يومئذ فاته الحج لا نعلم فيه خلافا قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع قال أبو الزبير فقلت له: أقال رسول الله -ﷺ- ذلك؟ قال: نعم رواه الأثرم بإسناده وقول النبي -ﷺ-: (الحج عرفة, فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه) يدل على فواته بخروج ليلة جمع وروى ابن عمر أن رسول الله -ﷺ- قال: (من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج, ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة, وعليه الحج من قابل) رواه الدارقطني وضعفه. الفصل الثاني:


أن من فاته الحج يتحلل بطواف وسعي وحلاق هذا الصحيح من المذهب وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه, وزيد بن ثابت وابن عباس وابن الزبير, ومروان بن الحكم وهو قول مالك والثوري والشافعي, وأصحاب الرأي وقال ابن أبي موسى: في المسألة روايتان إحداهما كما ذكرنا والثانية يمضي في حج فاسد وهو قول المزني, قال: يلزمه جميع أفعال الحج لأن سقوط ما فات وقته لا يمنع وجوب ما لم يفت ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا فكان إجماعا وروى الشافعي, في " مسنده " أن عمر قال لأبي أيوب حين فاته الحج: اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت, فإن أدركت الحج قابلا فحج وأهد ما استيسر من الهدي وروي أيضا عن ابن عمر نحو ذلك وروى الأثرم بإسناده عن سليمان بن يسار, أن هبار بن الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر فقال له عمر: ما حبسك؟ قال: حسبت أن اليوم يوم عرفة, قال: فانطلق إلى البيت فطف به سبعا وإن كان معك هدية فانحرها, ثم إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت -إن شاء الله تعالى- وروى النجاد, بإسناده عن عطاء أن النبي -ﷺ- قال: " من فاته الحج فعليه دم وليجعلها عمرة, وليحج من قابل " ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمع الفوات أولى إذا ثبت هذا فإنه يجعل إحرامه بعمرة وهذا ظاهر كلام الخرقي, ونص عليه أحمد واختاره أبو بكر وهو قول ابن عباس وابن الزبير, وعطاء وأصحاب الرأي وقال ابن حامد: لا يصير إحرامه بعمرة بل يتحلل بطواف وسعي وحلق وهو مذهب مالك, والشافعي لأن إحرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر كما لو أحرم بالعمرة, ويحتمل أن من قال: يجعل إحرامه عمرة أراد به يفعل ما فعل المعتمر وهو الطواف والسعي ولا يكون بين القولين خلاف ويحتمل أن يصير إحرام الحج إحراما بعمرة, بحيث يجزئه عن عمرة الإسلام إن لم يكن اعتمر ولو أدخل الحج عليها لصار قارنا إلا أنه لا يمكنه الحج بذلك الإحرام, إلا أن يصير محرما به في غير أشهره فيصير كمن أحرم بالحج في غير أشهره ولأن قلب الحج إلى العمرة يجوز من غير سبب, على ما قررناه في فسخ الحج فمع الحاجة أولى ويخرج على هذا قلب العمرة إلى الحج, فإنه لا يجوز ولأن العمرة لا يفوت وقتها فلا حاجة إلى انقلاب إحرامها, بخلاف الحج. الفصل الثالث:


أنه يلزمه القضاء من قابل سواء كان الفائت واجبا أو تطوعا روي ذلك عن عمر, وابنه وزيد وابن عباس, وابن الزبير ومروان وهو قول مالك, والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد لا قضاء عليه بل إن كانت فرضا فعلها بالوجوب السابق, وإن كانت نفلا سقطت وروي هذا عن عطاء وهو إحدى الروايتين عن مالك لأن النبي -ﷺ- لما سئل عن الحج أكثر من مرة قال: " بل مرة واحدة " ولو أوجبنا القضاء, كان أكثر من مرة ولأنه معذور في ترك إتمام حجه فلم يلزمه القضاء كالمحصر, ولأنها عبادة تطوع فلم يجب قضاؤها كسائر التطوعات ووجه الرواية الأولى ما ذكرنا من الحديث, وإجماع الصحابة وروى الدارقطني بإسناده, عن ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من فاته عرفات فاته الحج فليحل بعمرة, وعليه الحج من قابل) ولأن الحج يلزم بالشروع فيه فيصير كالمنذور بخلاف سائر التطوعات وأما الحديث, فإنه أراد الواجب بأصل الشرع حجة واحدة وهذه إنما تجب بإيجابه لها بالشروع فيها فهي كالمنذورة وأما المحصر فإنه غير منسوب إلى التفريط, بخلاف من فاته الحج وإذا قضى أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة لا نعلم في هذا خلافا لأن الحجة المقضية لو تمت لأجزأت عن الواجبة عليه, فكذلك قضاؤها لأن القضاء يقوم مقام الأداء. الفصل الرابع:


أن الهدي يلزم من فاته الحج في أصح الروايتين وهو قول من سمينا من الصحابة والفقهاء إلا أصحاب الرأي, فإنهم قالوا: لا هدي عليه وهي الرواية الثانية عن أحمد لأنه لو كان الفوات سببا لوجوب الهدي للزم المحرم هديان للفوات والإحصار ولنا حديث عطاء, وإجماع الصحابة ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي, كالمحرم لم يفت حجه فإنه يحل قبل فواته إذا ثبت هذا فإنه يخرج الهدي في سنة القضاء, إن قلنا بوجوب القضاء وإلا أخرجه في عامه وإذا كان معه هدي قد ساقه نحره ولا يجزئه, إن قلنا بوجوب القضاء بل عليه في السنة الثانية هدي أيضا نص عليه أحمد وذلك لحديث عمر الذي ذكرناه والهدي ما استيسر, مثل هدي المتعة لحديث عمر أيضا والمتمتع والمفرد والقارن, والمكي وغيره سواء فيما ذكرنا لأن الفوات يشمل الجميع. فصل:


فإن اختار من فاته الحج البقاء على إحرامه ليحج من قابل فله ذلك روي ذلك عن مالك لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه, كالعمرة والمحرم بالحج في غير أشهره ويحتمل أنه ليس له ذلك وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي, وابن المنذر ورواية عن مالك لظاهر الخبر وقول الصحابة رضي الله عنهم, ولأن إحرام الحج يصير في غير أشهره فصار كالمحرم بالعبادة قبل وقتها. فصل:


وإذا فات القارن الحج حل وعليه مثل ما أهل به من قابل نص عليه أحمد وهو قول مالك, والشافعي وأبي ثور وإسحاق ويحتمل أن يجزئه ما فعل عن عمرة الإسلام, ولا يلزمه إلا قضاء الحج لأنه لم يفته غيره وقال أصحاب الرأي والثوري: يطوف ويسعى لعمرته ثم لا يحل حتى يطوف ويسعى لحجه إلا أن سفيان قال: ويهرق دما والوجه الأول أن يجب القضاء على حسب الأداء, في صورته ومعناه فيجب أن يكون ها هنا كذلك ويلزمه هديان هدي للقران, وهدي فواته وبه قال مالك والشافعي وقيل: يلزمه هدي ثالث للقضاء وليس بشيء فإن القضاء لا يجب له هدي, وإنما يجب الهدي الذي في سنة القضاء للفوات وكذلك لم يأمره الصحابة بأكثر من هدي واحد والله أعلم. فصل:


إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير ليلة عرفة أجزأهم ذلك لما روى الدارقطني بإسناده, عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: قال رسول الله -ﷺ-: (يوم عرفة الذي يعرف فيه الناس فإن اختلفوا فأصاب بعض, وأخطأ بعض وقت الوقوف لم يجزئهم لأنهم غير معذورين في هذا) وروى أبو هريرة أن رسول الله -ﷺ- قال: (فطركم يوم تفطرون, وأضحاكم يوم تضحون) رواه الدارقطني وغيره. مسألة:


قال: [ وإن كان عبدا لم يكن له أن يذبح وكان عليه أن يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما, ثم يقصر ويحل ] يعني أن العبد لا يلزمه هدي لأنه لا مال له فهو عاجز عن الهدي فلم يلزمه كالمعسر وظاهر كلام الخرقي أنه لو أذن له سيده في الهدي لم يكن له أن يهدي, ولا يجزئه إلا الصيام وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي ذكره ابن المنذر عنهم في الصيد وعلى قياس هذا كل دم لزمه في الإحرام لا يجزئه عنه إلا الصيام وقال غير الخرقي: إن ملكه السيد هديا, وأذن له في ذبحه خرج على الروايتين إن قلنا: إن العبد يملك بالتمليك لزمه أن يهدي ويجزئ عنه لأنه قادر على الهدي مالك له, فلزمه كالحر وإن قلنا: لا يملك لم يجزئه إلا الصيام لأنه ليس بمالك ولا سبيل له إلى الملك فصار كالمعسر الذي لا يقدر على غير الصيام وإذا صام فإنه يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما وينبغي أن يخرج فيه من الخلاف ما ذكرناه في الصيد, ومتى بقي من قيمتها أقل من مد صام عنه يوما كاملا لأن الصوم لا يتبعض فيجب تكميله كمن نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم في بعض النهار, لزمه صوم يوم كامل والأولى أن يكون الواجب من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة, كما جاء في حديث عمر أنه قال لهبار بن الأسود: فإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد سعة فصم ثلاثة أيام في الحج, وسبعة إذا رجعت -إن شاء الله تعالى- وروى الشافعي في " مسنده " عن ابن عمر مثل ذلك وأحمد ذهب إلى حديث عمر, واحتج به لأنه صوم وجب لحله من إحرامه قبل إتمامه فكان عشرة أيام كصوم المحرم والمعسر في الصوم كالعبد ولذلك قال عمر لهبار بن الأسود: إن وجدت سعة فأهد, فإن لم تجد فصم ويعتبر اليسار والإعسار في زمن الوجوب وهو في سنة القضاء إن قلنا بوجوبه أو في سنة الفوات إن قلنا لا يجب القضاء وقول الخرقي: "ثم يقصر ويحل" يريد أن العبد لا يحلق ها هنا, ولا في موضع آخر لأن الحلق إزالة الشعر الذي يزيد في قيمته وماليته وهو ملك لسيده ولم يتعين إزالته, فلم يكن له إزالته كغير حالة الإحرام وإن أذن له السيد في الحلق جاز لأنه إنما منع منه لحقه. مسألة:


قال: [ وإذا أحرمت المرأة لواجب لم يكن لزوجها منعها ] وجملة ذلك أن المرأة إذا أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواجبة, وهي حجة الإسلام وعمرته أو المنذور منهما فليس لزوجها منعها من المضي فيها, ولا تحليلها في قول أكثر أهل العلم منهم أحمد والنخعي وإسحاق, وأصحاب الرأي والشافعي في أصح القولين له وقال في الآخر: له منعها لأن الحج عنده على التراخي, فلم يتعين في هذا العام وليس هذا بصحيح فإن الحج الواجب يتعين بالشروع فيه فيصير كالصلاة إذا أحرمت بها في أول وقتها وقضاء رمضان إذا شرعت فيه, ولأن حق الزوج مستمر على الدوام فلو ملك منعها في هذا العام لملكه في كل عام فيفضي إلى إسقاط أحد أركان الإسلام, بخلاف العدة فإنها لا تستمر فأما إن أحرمت بتطوع فله تحليلها ومنعها منه, في ظاهر قول الخرقي وقال القاضي: ليس له تحليلها لأن الحج يلزم بالشروع فيه فلا يملك الزوج تحليلها كالحج المنذور وحكي عن أحمد, في امرأة تحلف بالصوم أو بالحج ولها زوج: لها أن تصوم بغير إذن زوجها ما تصنع, قد ابتليت وابتلي زوجها ولنا أنه تطوع يفوت حق غيرها منها أحرمت به بغير إذنه, فملك تحليلها منه كالأمة تحرم بغير إذن سيدها والمدينة تحرم بغير إذن غريمها على وجه يمنعه إيفاء دينه الحال عليها, ولأن العدة تمنع المضي في الإحرام لحق الله تعالى فحق الآدمي أولى لأن حقه أضيق لشحه وحاجته, وكرم الله تعالى وغناه وكلام أحمد لا يتناول محل النزاع وهو مخالف له من وجهين أحدهما أنه في الصوم, وتأثير الصوم في منع حق الزوج يسير فإنه في النهار دون الليل ولو حلفت بالحج فله منعها لأن الحج لا يتعين في نذر اللجاج والغضب بل هو مخير بين فعله والتكفير, فله منعها منه قبل إحرامها بكل حال بخلاف الصوم والثاني أن الصوم إذا وجب صار كالمنذور, بخلاف ما نحن فيه والشروع ها هنا على وجه غير مشروع فلم يكن له حرمة بالنسبة إلى صاحب الحق فأما إن كانت الحجة حجة الإسلام, لكن لم تكمل شروطها لعدم الاستطاعة فإن له منعها من الخروج إليها والتلبس بها لأنها غير واجبة عليها وإن أحرمت بغير إذنه لم يملك تحليلها لأن ما أحرمت به يقع عن حجة الإسلام الواجبة بأصل الشرع كالمريض إذا تكلف حضور الجمعة ويحتمل أن له تحليلها لأنه فقد شرط وجوبها, فأشبهت حجة الأمة والصغيرة فإنه لما فقدت الحرية أو البلوغ ملك منعها, ولأنها ليست واجبة عليها فأشبهت سائر التطوع. فصل:


وأما قبل الإحرام فليس للزوج منع امرأته من المضي إلى الحج الواجب عليها, إذا كملت شروطه وكانت مستطيعة ولها محرم يخرج معها لأنه واجب, وليس له منعها من الواجبات كما ليس له منعها من الصلاة والصيام وإن لم تكمل شروطه فله منعها من المضي إليه والشروع فيه, ولأنها تفوت حقه بما ليس بواجب عليها فملك منعها كمنعها من صيام التطوع وله منعها من الخروج إلى حج التطوع والإحرام به, بغير خلاف قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم على أن للرجل منع زوجته من الخروج إلى حج التطوع ولأنه تطوع يفوت حق زوجها فكان لزوجها منعها منه, كالاعتكاف فإن أذن لها فيه فله الرجوع ما لم تتلبس بإحرامه فإن تلبست بالإحرام, أو أذن لها لم يكن له الرجوع فيه ولا تحليلها منه لأنه يلزم بالشروع, فصار كالواجب الأصلي فإن رجع قبل إحرامها ثم أحرمت به فهو كمن لم يأذن وإذا قلنا: بتحليلها فحكمها حكم المحصر, يلزمها الهدي فإن لم تجد صامت ثم حلت. فصل:


وإن أحرمت بواجب, فحلف زوجها بالطلاق الثلاث أن لا تحج العام فليس لها أن تحل لأن الطلاق مباح فليس لها ترك فرائض الله خوفا من الوقوع فيه ونقل مهنا عن أحمد أنه سئل عن هذه المسألة, فقال: قال عطاء: الطلاق هلاك هي بمنزلة المحصر وروى عنه ابن منصور أنه أفتى السائل أنها بمنزلة المحصر واحتج بقول عطاء, فرواه والله أعلم ذهب إلى هذا لأن ضرر الطلاق عظيم لما فيه من خروجها من بيتها ومفارقة زوجها وولدها, وربما كان ذلك أعظم عندها من ذهاب مالها وهلاك سائر أهلها ولذلك سماه عطاء هلاكا ولو منعها عدو من الحج إلا أن تدفع إليه مالها, كان ذلك حصرا فهاهنا أولى والله أعلم. فصل:


وليس للوالد منع ولده من الحج الواجب ولا تحليله من إحرامه, وليس للولد طاعته في تركه لأن النبي -ﷺ- قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى) وله منعه من الخروج إلى التطوع فإن له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات, فالتطوع أولى فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله لأنه واجب بالدخول فيه فصار كالواجب ابتداء, أو كالمنذور. مسألة:


قال: [ ومن ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء, وعليه مكانه ] الواجب من الهدي قسمان أحدهما وجب بالنذر في ذمته والثاني وجب بغيره, كدم التمتع والقران والدماء الواجبة بترك واجب, أو فعل محظور وجميع ذلك ضربان: أحدهما أن يسوقه ينوي به الواجب الذي عليه من غير أن يعينه بالقول, فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى أهله وله التصرف فيه بما شاء من بيع, وهبة وأكل وغير ذلك لأنه لم يتعلق حق غيره به, وله نماؤه وإن عطب تلف من ماله وإن تعيب لم يجزئه ذبحه, وعليه الهدي الذي كان واجبا فإن وجوبه في الذمة فلا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه, بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه يقصد دفعه إليه فتلف قبل أن يوصله إليه الضرب الثاني أن يعين الواجب عليه بالقول, فيقول: هذا الواجب على فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه لأنه لو أوجب هديا ولا هدي عليه لتعين فإذا كان واجبا فعينه فكذلك إلا أنه مضمون عليه, فإن عطب أو سرق أو ضل, أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته, كما لو كان لرجل عليه دين فاشترى به منه مكيلا فتلف قبل قبضه, انفسخ البيع وعاد الدين إلى ذمته ولأن ذمته لم تبرأ من الواجب بتعيينه, وإنما تعلق الوجوب بمحل آخر فصار كالدين يضمنه ضامن أو يرهن به رهنا, فإنه يتعلق الحق بالضامن والرهن مع بقائه في ذمة المدين فمتى تعذر استيفاؤه من الضامن أو تلف الرهن, بقي الحق في الذمة بحاله وهذا كله لا نعلم فيه مخالفا وإن ذبحه فسرق أو عطب, فلا شيء عليه قال أحمد: إذا نحر فلم يطعمه حتى سرق لا شيء عليه فإنه إذا نحر فقد فرغ وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك, وأصحاب الرأي وقال الشافعي: عليه الإعادة لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه فأشبه ما لو لم يذبحه ولنا أنه أدى الواجب عليه, فبرئ منه كما لو فرقه ودليل أنه أدى الواجب أنه لم يبق إلا التفرقة, وليست واجبة بدليل أنه لو خلى بينه وبين الفقراء أجزأه ولذلك (لما نحر النبي -ﷺ- البدنات قال: من شاء اقتطع) وإذا عطب هذا المعين, أو تعيب عيبا يمنع الإجزاء لم يجزه ذبحه عما في الذمة لأن عليه هديا سليما ولم يوجد وعليه مكانه, ويرجع هذا الهدي إلى ملكه فيصنع به ما شاء من أكل, أو بيع وهبة وصدقة وغيره هذا ظاهر كلام الخرقي وحكاه ابن المنذر عن أحمد, والشافعي وإسحاق وأبي ثور, وأصحاب الرأي ونحوه عن عطاء وقال مالك: يأكل ويطعم من أحب من الأغنياء والفقراء ولا يبيع منه شيئا ولنا, ما روى سعيد حدثنا سفيان عن عبد الكريم عن عكرمة, عن ابن عباس قال: إذا أهديت هديا تطوعا فعطب, فانحره ثم اغمس النعل في دمه ثم اضرب بها صفحته, فإن أكلت أو أمرت به عرفت وإذا أهديت هديا واجبا فعطب فانحره ثم كله إن شئت, وأهده إن شئت وبعه إن شئت وتقو به في هدي آخر ولأنه متى كان له أن يأكل ويطعم الأغنياء, فله أن يبيع لأنه ملكه وروي عن أحمد أنه يذبح المعيب وما في ذمته جميعا ولا يرجع المعين إلى ملكه لأنه تعلق بحق الفقراء بتعيينه, فلزم ذبحه كما لو عينه بنذره ابتداء. فصل:


وإن ضل المعين ، فذبح غيره ، ثم وجده ، أو عين غير الضال بدلا عما في الذمة ، ثم وجد الضال ، ذبحهما معا . روي ذلك عن عمر ، وابنه وابن عباس ، وفعلته عائشة . وبه قال مالك ، والشافعي ، وإسحاق . ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي ، فأبدله فإن له أن يصنع به ما شاء . أو يرجع إلى ملك أحدهما ؛ لأنه قد ذبح ما في الذمة ، فلم يلزمه شيء آخر ، كما لو عطب المعين . وهذا قول أصحاب الرأي . ووجه الأول ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أهدت هديين ، فأضلتهما ، فبعث إليها ابن الزبير هديين ، فنحرتهما ، ثم عاد الضالان ، فنحرتهما ، وقالت : هذه سنة الهدي رواه الدارقطني . وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله ﷺ ، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما ، أو ذبح أحدهما وإيجاب الآخر . فصل:


وإن عين معيبا عما في ذمته ، لم يجزه ، ولزمه ذبحه ، على قياس قوله في الأضحية ، إذا عينها معيبة لزمه ذبحها ، ولم يجزه . وإن عين صحيحا فهلك ، أو تعيب بغير تفريطه ، لم يلزمه أكثر مما كان واجبا في الذمة ؛ لأن الزائد لم يجب في الذمة ، وإنما تعلق بالعين ، فسقط بتلفها لأصل الهدي ، إذا لم يجب بغير التعيين . وإن أتلفه ، أو تلف بتفريطه ، لزمه مثل المعين ؛ لأن الزائد تعلق به حق الله تعالى ، وإذا فوته لزمه ضمانه ، كالهدي المعين ابتداء . فصل:


ويحصل الإيجاب بقوله: هذا هدي أو بتقليده وإشعاره ناويا به الهدي وبهذا قال الثوري وإسحاق ولا يجب بالشراء مع النية, ولا بالنية المجردة في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة: يجب بالشراء مع النية ولنا أنه إزالة ملك على وجه القربة, فلم يجب بالنية كالعتق والوقف. فصل:


إذا غصب شاة فذبحها عن الواجب عليه, لم يجزه سواء رضي مالكها أو لم يرض أو عوضه عنها أو لم يعوضه وقال أبو حنيفة: يجزئه إن رضي مالكها ولنا, أن هذا لم يكن قربة في ابتدائه فلم يصر قربة في أثنائه كما لو ذبحه للأكل ثم نوى به التقريب, وكما لو أعتق ثم نواه عن كفارته. مسألة:


قال: [ وإن كان ساقه تطوعا نحره في موضعه وخلى بينه وبين المساكين, ولم يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته ولا بدل عليه ] وجملة ذلك أن من تطوع بهدي غير واجب لم يخل من حالين أحدهما, أن ينويه هديا ولا يوجب بلسانه ولا بإشعاره وتقليده فهذا لا يلزمه إمضاؤه, وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه لأنه نوى الصدقة بشيء من ماله فأشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم الثاني, أن يوجبه بلسانه فيقول: هذا هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك إهداءه, فيصير واجبا معينا يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة صاحبه ويصير في يدي صاحبه كالوديعة, يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله فإن تلف بغير تفريط منه أو سوق, أو ضل لم يلزمه شيء لأنه لم يجب في الذمة إنما تعلق الحق بالعين, فسقط بتلفها كالوديعة وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (من أهدى تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل, إلا أن يشاء فإن كان نذرا فعليه البدل) وفي رواية, قال: (من أهدى تطوعا ثم عطب فإن شاء أبدل وإن شاء أكل, وإن كان نذرا فليبدل) فأما إن أتلفه أو تلف بتفريطه فعليه ضمانه لأنه أتلف واجبا لغيره, فضمنه كالوديعة وإن خاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبة الرفاق, نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يبح له أكل شيء منه, ولا لأحد من صحابته وإن كانوا فقراء ويستحب له أن يضع نعل الهدي المقلد في عنقه في دمه, ثم يضرب به صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا أنه هدي, وليس بميتة فيأخذوه وبهذا قال الشافعي وسعيد بن جبير وروي عن ابن عمر أنه أكل من هديه الذي عطب, ولم يقض مكانه وقال مالك: يباح لرفقته ولسائر الناس غير صاحبه أو سائقه, ولا يأمر أحدا يأكل منه فإن أكل أو أمر من أكل, أو حز شيئا من لحمه ضمنه واحتج ابن عبد البر لذلك بما روى هشام بن عروة, عن أبيه عن ناجية بنت كعب صاحب بدن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (يا رسول الله, كيف أصنع بما عطب من الهدي؟ قال: انحره ثم اغمس قلائده في دمه ثم اضرب بها صفحة عنقه, ثم خل بينه وبين الناس) قال: وهذا أصح من حديث ابن عباس وعليه العمل عند الفقهاء ويدخل في عموم قوله: " وخل بينه وبين الناس " رفقته وغيرهم ولنا ما روى ابن عباس, أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه (أن رسول الله -ﷺ- كان يبعث معه البدن ثم يقول: إن عطب منها شيء فخشيت عليها, فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها, ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك) رواه مسلم وفي لفظ رواه الإمام أحمد: (ويخليها والناس ولا يأكل منها هو ولا أحد من أصحابه) وقال سعيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي التياح, عن موسى بن سلمة عن رسول الله -ﷺ- (أنه بعث بثماني عشرة بدنة مع رجل وقال: إن ازدحف عليك منها شيء, فانحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ثم اضرب بها في صفحتها, ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك) وهذا صحيح متضمن للزيادة ومعنى خاص فيجب تقديمه على عموم ما خالفه ولا تصح التسوية بين رفقته وبين سائر الناس لأن الإنسان يشفق على رفقته, ويحب التوسعة عليهم وربما وسع عليهم من مؤنته وإنما منع السائق ورفقته من الأكل منها لئلا يقصر في حفظها فيعطبها ليأكل هو ورفقته منها, فتلحقه التهمة في عطبها لنفسه ورفقته فحرموها لذلك فإن أكل منها أو باع أو أطعم غنيا, أو رفقته ضمنه بمثله لحما وإن أتلفها أو تلفت بتفريطه, أو خاف عطبها فلم ينحرها حتى هلكت فعليه ضمانها بما يوصله إلى فقراء الحرم لأنه لا يتعذر عليه إيصال الضمان إليهم, بخلاف العاطب وإن أطعم منها فقيرا أو أمره بالأكل منها فلا ضمان عليه لأنه أوصله إلى المستحق, فأشبه ما لو أطعم فقيرا بعد بلوغه محله وإن تعيب ذبحه أجزأه وقال أبو حنيفة: لا يجزئه إلا أن يحدث العيب به بعد إضجاعه للذبح ولنا, أنه لو عطب لم يلزمه شيء فالعيب أولى لأن العطب يذهب بجميعه والعيب ينقصه ولأنه عيب حدث بعد وجوبه, فأشبه ما لو حدث بعد إضجاعه وإن تعيب بفعل آدمي فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به وقال أبو حنيفة: يباع جميعه, ويشترى هدي وبنى ذلك على أنه لا يجزئ وقد بينا أنه مجزئ. فصل:


وإذ أوجب هديا فله إبداله بخير منه وبيعه ليشتري بثمنه خيرا منه نص عليه أحمد وهو اختيار أكثر الأصحاب, ومذهب أبي حنيفة وقال أبو الخطاب: يزول ملكه عنه وليس له بيعه ولا إبداله وهو قول مالك والشافعي لأنه حق متعلق بالرقبة, ويسري إلى الولد فمنع البيع كالاستيلاء, ولأنه لا يجوز له إبداله بمثله فلم يجز بخير منه كسائر ما لا يجوز بيعه ووجه الأول, أن النذور محمولة على أصولها في الفرض وهو الزكاة يجوز فيها الإبدال, كذلك هذا ولأنه لو زال ملكه لم يعد إليه بالهلاك كسائر الأملاك إذا زالت وقياسهم ينتقض بالمدبرة يجوز بيعها, وقد دل على جواز بيع المدبر أن النبي -ﷺ- باع مدبرا أما إبدالها بمثلها أو دونها فلم يجز لعدم الفائدة في ذلك. فصل:


إذا ولدت الهدية فولدها بمنزلتها إن أمكن سوقه وإلا حمله على ظهرها وسقاه من لبنها, فإن لم يمكن سوقه ولا حمله صنع به ما يصنع بالهدي إذا عطب ولا فرق في ذلك بين ما عينه ابتداء وبين ما عينه بدلا عن الواجب في ذمته وقال القاضي, في المعين بدلا عن الواجب: يحتمل أن لا يتبعها ولدها لأن ما في الذمة واحد فلا يلزمه اثنان والصحيح أنه يتبع أمه في الوجوب لأنه ولد هدي واجب فكان واجبا, كالمعين ابتداء وقال المغيرة بن حذف: أتى رجل عليا ببقرة قد أولدها فقال له: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم الأضحى ضحيت بها وولدها عن سبعة رواه سعيد, والأثرم وإن تعينت المعينة عن الواجب في الذمة وقلنا: يذبحها ذبح ولدها معها لأنه تبع لها وإن قلنا: يبطل تعيينها وتعود إلى مالكها احتمل أن يبطل التعيين في ولدها تبعا, كنمائها المتصل بها واحتمل أن لا يبطل ويكون للفقراء لأنه تبعها في الوجوب حال اتصاله بها, ولم يتبعها في زواله لأنه منفصل عنها كولد المبيع المعيب إذا ولد عند المشتري ثم رده لم يبطل البيع في ولده, والمدبرة إذا قتلت سيدها فبطل تدبيرها لا يبطل في ولدها. فصل:


وللمهدي شرب لبن الهدي لأن بقاءه في الضرع يضر به, فإذا كان ذا ولد لم يشرب إلا ما فضل عن ولده لما ذكرنا من خبر علي رضي الله عنه فإن شرب ما يضر بالأم أو ما لا يفضل عن الولد, ضمنه لأنه تعدى بأخذه وإن كان صوفها يضر بها بقاؤه جزه وتصدق به على الفقراء والفرق بينه وبين اللبن أن الصوف كان موجودا حال إيجابها, فكان واجبا معها واللبن متجدد فيها شيئا فشيئا فهو كنفعها وركوبها. فصل:


وله ركوبه عند الحاجة, على وجه لا يضر به قال: أحمد: لا يركبه إلا عند الضرورة وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي (لأن رسول الله -ﷺ- قال: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها, حتى تجد ظهرا) رواه أبو داود ولأنه تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركوبها من غير ضرورة كملكهم فأما مع عدم الحاجة, ففيه روايتان إحداهما لا يجوز لما ذكرنا والثانية يجوز لما روى أبو هريرة, وأنس (أن رسول الله -ﷺ- رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها فقال: يا رسول الله إنها بدنة فقال: اركبها, ويلك في الثانية أو في الثالثة) متفق عليه. فصل:


ولا يبرأ من الهدي إلا بذبحه أو نحره لأن النبي -ﷺ- نحر هديه فإن نحره بنفسه أو وكل من نحره أو نحره إنسان بغير إذنه في وقته, أجزأ عنه وإن دفعه إلى الفقراء سليما فنحروه أجزأ عنه لأنه حصل المقصود بفعلهم فأجزأه, كما لو ذبحه غيرهم وإن لم ينحروه فعليه أن يسترده منهم وينحره, فإن لم يفعل أو لم يقدر فعليه ضمانه لأنه فوته بتفريطه في دفعه إليهم سليما. فصل:


ويستحب للمهدي أن يتولى نحر الهدي بنفسه لأن النبي -ﷺ- نحر هديه بيده وروي عن غرفة بن الحارث الكندي, قال: (شهدت رسول الله -ﷺ- في حجة الوداع وأتى بالبدن فقال: ادع لي أبا الحسن فدعي له علي, فقال له: خذ بأسفل الحربة وأخذ رسول الله -ﷺ- بأعلاها ثم طعنا بها البدن) رواه أبو داود وإنما فعلا ذلك لأن النبي -ﷺ- أشرك عليا في بدنه وقال جابر: (نحر رسول الله -ﷺ- ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر) وروي (أن النبي -ﷺ- نحر خمس بدنات, ثم قال: من شاء اقتطع) رواه أبو داود فإن لم يذبح بيده فالمستحب أن يشهد ذبحها لما روي (أن النبي -ﷺ- قال لفاطمة: احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها) ويستحب أن يتولى تفريق اللحم بنفسه لأنه أحوط وأقل للضرر على المساكين وإن خلى بينه وبين المساكين جاز لقوله عليه السلام: (من شاء اقتطع). فصل:


ويباح للفقراء الأخذ من الهدي إذا لم يدفعه إليهم بأحد شيئين أحدهما, الإذن فيه لفظا كما قال النبي -ﷺ-: (من شاء اقتطع) والثاني دلالة على الإذن, كالتخلية بينهم وبينه وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يباح إلا باللفظ وقول النبي -ﷺ- لسائق البدن: (اصبغ نعلها في دمها واضرب به صفحتها) دليل على أن ذلك وشبهه كاف من غير لفظ, ولولا ذلك لم يكن هذا مفيدا. مسألة:


قال: [ ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع ] المذهب أنه يأكل من هدي التمتع والقران دون ما سواهما نص عليه أحمد ولعل الخرقي ترك ذكر القران لأنه متعة واكتفى بذكر المتعة لأنهما سواء في المعنى فإن سببهما غير محظور, فأشبها هدي التطوع وهذا قول أصحاب الرأي وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما وهو قول ابن عمر, وعطاء والحسن وإسحاق لأن جزاء الصيد بدل, والنذر جعله لله تعالى بخلاف غيرهما وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضا من الكفارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ونحوه مذهب مالك لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه, فأشبه التطوع وقال الشافعي: لا يأكل من واجب لأنه هدي وجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة ولنا, أن أزواج النبي -ﷺ- تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة ثم ذبح عنهن النبي -ﷺ- البقرة, فأكلن من لحومها قال أحمد قد أكل من البقرة أزواج النبي -ﷺ- في حديث عائشة خاصة وقالت عائشة: إن النبي -ﷺ- أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل, فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح النبي -ﷺ- عن أزواجه وروى أبو داود وابن ماجه (أن رسول الله -ﷺ- ذبح عن آل محمد في حجة الوداع بقرة) وقال ابن عمر: (تمتع رسول الله -ﷺ- بالعمرة إلى الحج, فساق الهدي من ذي الحليفة) متفق عليه وقد ثبت (أن النبي -ﷺ- أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها, وشربا من مرقها) رواه مسلم ولأنهما دما نسك فأشبها التطوع ولا يؤكل من غيرهما لأنه يجب بفعل محظور, فأشبه جزاء الصيد. فصل:


فأما هدي التطوع وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته, وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه فيستحب أن يأكل منه لقول الله تعالى: {فكلوا منها} وأقل أحوال الأمر الاستحباب ولأن النبي -ﷺ- أكل من بدنه وقال جابر (كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث فرخص لنا النبي -ﷺ- فقال: كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا) رواه البخاري وإن لم يأكل فلا بأس فإن النبي -ﷺ- لما نحر البدنات الخمس قال: (من شاء اقتطع) ولم يأكل منهن شيئا والمستحب أن يأكل اليسير منها, كما فعل النبي -ﷺ- وله الأكل كثيرا والتزود كما جاء في حديث جابر وتجزئه الصدقة باليسير منها كما في الأضحية, فإن أكلها ضمن المشروع للصدقة منها كما في الأضحية. فصل:


وإن أكل منها ما منع من أكله ضمنه بمثله لحما لأن الجميع مضمون عليه بمثله حيوانا, فكذلك أبعاضه وكذلك إن أعطى الجازر منها شيئا ضمنه بمثله وإن أطعم غنيا منها على سبيل الهدية جاز, كما يجوز له ذلك في الأضحية لأن ما ملك أكله ملك هديته وإن باع شيئا منها أو أتلفه ضمنه بمثله لأنه ممنوع من ذلك, فأشبه عطيته للجازر وإن أتلف أجنبي منه شيئا ضمنه بقيمته لأن المتلف من غير ذوات الأمثال فلزمته قيمته, كما لو أتلف لحما لآدمي معين. فصل:


والهدي الواجب بغير النذر ينقسم قسمين منصوص عليه ومقيس على المنصوص فأما المنصوص عليه فأربعة اثنان على الترتيب, والواجب فيهما ما استيسر من الهدي وأقله شاة أو سبع بدنة, أحدهما دم المتعة قال الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} والثاني دم الإحصار, قال الله تعالى {فما استيسر من الهدي} وهو على الترتيب أيضا إن لم يجده انتقل إلى صيام عشرة أيام وإنما وجب ترتيبه لأن الله تعالى أمر به معينا من غير تخيير فاقتضى تعيينه الوجوب, وأن لا ينتقل عنه إلا عند العجز كسائر الواجبات المعينة فإن لم يجده, انتقل إلى صيام عشرة أيام بالقياس على دم المتعة إلا أنه لا يحل حتى يصومها وهذا قول الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة لا بدل له لأنه لم يذكر في القرآن وهذا لا يلزم, فإن عدم ذكره لا يمنع قياسه على نظيره واثنان مخيران أحدهما فدية الأذى قال الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} الثاني, جزاء الصيد وهو على التخيير أيضا بقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} القسم الثاني ما ليس بمنصوص عليه, فيقاس على أشبه المنصوص عليه به فهدي المتعة وجب للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين في سفر واحد, ويقاس عليه أيضا دم الفوات فيجب عليه مثل دم المتعة وبدله مثل بدله وهو صيام عشرة أيام إلا أنه لا يمكن أن يكون ثلاثة قبل يوم النحر, لأن الفوات إنما يكون بفوات ليلة النحر لأنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه فصار كالتارك لأحد السفرين فإن قيل: فهلا ألحقتموه بهدي الإحصار, فإنه أشبه به إذ هو حلال من إحرامه قبل إتمامه؟ قلنا: أما الهدي فهما فيه سواء وأما البدل فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه, وإنما يثبت قياسا فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه على أن الصيام ها هنا مثل الصيام عن دم الإحصار, وهو عشرة أيام أيضا إلا أن صيام الإحصار يجب أن يكون قبل حله وهذا يجوز فعله قبل حله وبعده, وهو أيضا مقارن لصوم المتعة لأن الثلاثة في المتعة يستحب أن يكون آخرها يوم عرفة وهذا يكون بعد فوات عرفة والخرقي إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم عن جزاء الصيد عن كل مد يوما والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا ويقاس عليه أيضا كل دم وجب لترك واجب كدم القران, وترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس والمبيت بمزدلفة, والرمي والمبيت ليالي منى بها وطواف الوداع, فالواجب فيه ما استيسر من الهدي فإن لم يجد فصيام عشرة أيام وأما من أفسد حجه بالجماع فالواجب فيه بدنة بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع, كصيام المتعة كذلك قال عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم ولم يظهر في الصحابة خلافهم, فيكون إجماعا فيكون بدله مقيسا على بدل دم المتعة وقال أصحابنا: يقوم البدنة بدراهم ثم يشتري بها طعاما فيطعم كل مسكين مدا, ويصوم عن كل مد يوما فتكون ملحقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد ويقاس على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور يترفه به كتقليم الأظافر, واللبس والطيب وكل استمتاع من النساء يوجب شاة كالوطء في العمرة أو في الحج بعد رمي الجمرة فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرناه, فيقاس عليه ويلحق به فقد قال ابن عباس لامرأة وقع عليها زوجها قبل أن تقصر: عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك رواه الأثرم. مسألة:


قال: [ وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم, إن قدر على إيصاله إليهم إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه ] أما فدية الأذى, فتجوز في الموضع الذي حلق فيه نص عليه أحمد وقال الشافعي: لا تجوز إلا في الحرم لقوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} ، ولنا (أن النبي -ﷺ- أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية ولم يأمر ببعثه إلى الحرم) وروى الأثرم وإسحاق والجوزجاني في " كتابيهما " عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر, قال: كنت مع عثمان وعلي وحسين بن علي رضي الله عنهم, حجاجا فاشتكى حسين بن علي بالسقيا فأومأ بيده إلى رأسه, فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا هذا لفظ رواية الأثرم ولم يعرف لهم مخالف والآية وردت في الهدي وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بفدية الشعر, وما عداه من الدماء فبمكة وقال القاضي في الدماء الواجبة بفعل محظور كاللباس والطيب: هي كدم الحلق وفي الجميع روايتان إحداهما, يفدي حيث وجد سببه والثانية محل الجميع الحرم وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم نص عليه أحمد فقال: أما ما كان بمكة, أو كان من الصيد فكل بمكة لأن الله تعالى قال: {هديا بالغ الكعبة} وما كان من فدية الرأس فحيث حلقه وذكر القاضي في قتل الصيد رواية أخرى أنه يفدي حيث قتله وهذا يخالف نص الكتاب, ونص الإمام أحمد في التفرقة بينه وبين حلق الرأس فلا يعول عليه وما وجب لترك نسك أو فوات فهو لمساكين الحرم دون غيرهم لأنه هدي وجب لترك نسك, فأشبه هدي القرآن وإن فعل المحظور لغير سبب يبيحه فذكر ابن عقيل أنه يختص ذبحه وتفرقة لحمه بالحرم كسائر الهدي. فصل:


وما وجب نحره بالحرم, وجب تفرقة لحمه به وبهذا قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة: إذا ذبحها في الحرم جاز تفرقة لحمها في الحل ولنا, أنه أحد مقصودي النسك فلم يجز في الحل كالذبح, ولأن المعقول من ذبحه بالحرم التوسعة على مساكينه وهذا لا يحصل بإعطاء غيرهم ولأنه نسك يختص بالحرم, فكان جميعه مختصا به كالطواف وسائر المناسك. فصل:


والطعام كالهدي, يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي به وقال عطاء والنخعي: ما كان من هدي فبمكة وما كان من طعام وصيام فحيث شاء وهذا يقتضيه مذهب مالك, وأبي حنيفة ولنا قول ابن عباس: الهدي والطعام بمكة والصوم حيث شاء ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين فاختص بالحرم, كالهدي. فصل:


ومساكين أهل الحرم من كان فيه من أهله أو وارد إليه من الحاج وغيرهم وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم ولو دفع إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا, خرج فيه وجهان كالزكاة وللشافعي فيه قولان وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وجوزه أصحاب الرأي ولنا, أنه كافر فلم يجز الدفع إليه كالحربي. فصل:


وإذا نذر هديا وأطلق, فأقل ما يجزئه شاة أو سبع بدنة أو بقرة لأن المطلق في النذر يجب حمله على المعهود شرعا والهدي الواجب في الشرع إنما هو من النعم, وأقله ما ذكرناه فحمل عليه ولهذا لما قال الله تعالى في المتعة: {فما استيسر من الهدي} حمل على ما قلنا فإن اختار إخراج بدنة كاملة, فهو أفضل وهل تكون كلها واجبة؟ على وجهين أحدهما تكون واجبة اختاره ابن عقيل لأنه اختار الأعلى لأداء فرضه فكان كله واجبا, كما لو اختار الأعلى من خصال كفارة اليمين أو كفارة الوطء في الحيض والثاني يكون سبعها واجبا والباقي تطوعا, له أكله وهديته لأن الزائد على السبع يجوز تركه من غير شرط ولا بدل فأشبه ما لو ذبح شاتين فإن عين الهدي بشيء لزمه ما عينه, وأجزأه سواء كان من بهيمة الأنعام أو من غيرها وسواء كان حيوانا أو غيره, مما ينقل أو مما لا ينقل فإن النبي -ﷺ- قال: (من راح يعني إلى الجمعة في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة, فكأنما قرب بيضة) فذكر الدجاجة والبيضة في الهدي وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم لأنه سماه هديا وأطلق فيحمل على محل الهدي المشروع, وقد قال الله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} فإن كان مما لا ينقل كالعقار باعه, وبعث ثمنه إلى الحرم فيتصدق به فيه. فصل:


وإن نذر هديا مطلقا أو معينا وأطلق مكانه, وجب عليه إيصاله إلى مساكين الحرم وجوز أبو حنيفة ذبحه حيث شاء كما لو نذر الصدقة بشاة ولنا قوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} ولأن النذر يحمل على المعهود شرعا, والمعهود في الهدي الواجب بالشرع كهدي المتعة والقران وأشباههما أن ذبحها يكون في الحرم, كذا ها هنا وإن عين نذره بموضع غير الحرم لزمه ذبحه به وتفرقة لحمه على مساكين الحرم وإطلاقه لما روي (أن رجلا أتى النبي -ﷺ- فقال: إني نذرت أن أنحر ببوانة قال: أبها صنم؟ قال: لا قال: أوف بنذرك) رواه أبو داود وإن نذر الذبح بموضع به صنم, أو شيء من أمر الكفر أو المعاصي كبيوت النار أو الكنائس والبيع, وأشباه ذلك لم يصح نذره بمفهوم هذا الحديث, ولأنه نذر معصية فلا يوفي به لقول النبي -ﷺ-: (لا نذر في معصية الله تعالى ولا فيما لا يملك ابن آدم) وقوله: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه). فصل:


وقول الخرقي: "إن قدر على إيصاله إليهم" يدل على أن العاجز عن إيصاله لا يلزمه إيصاله, فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فإن منع الناذر الوصول بنفسه وأمكنه تنفيذه لزمه قال ابن عقيل إذا حصر عن الخروج خرج في ذبح هذا الهدي المنذور في موضع حصره روايتان, كدماء الحج واختار أن الصحيح جواز ذبحه في موضع حصره لأن النبي -ﷺ- نحر هديه بالحديبية والثانية إن أمكن إرساله مع غيره فلا يجوز له ذبحه في موضعه لأنه أمكنه إيصال المنذور إلى محله, فلزمه كغير المحصور. مسألة:


قال: [ وأما الصيام فيجزئه بكل مكان ] لا نعلم في هذا خلافا كذلك قال ابن عباس وعطاء, والنخعي وغيرهم وذلك لأن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان, بخلاف الهدي والإطعام فإن نفعه يتعدى إلى من يعطاه. فصل:


ويسن تقليد الهدي ، وهو أن يجعل في أعناقها النعال ، وآذان القرب ، وعراها ، أو علاقة إداوة . وسواء كانت إبلا ، أو بقرا ، أو غنما . وقال مالك ، وأبو حنيفة : لا يسن تقليد الغنم ؛ لأنه لو كان سنة لنقل كما نقل في الإبل . ولنا ، أن عائشة قالت : (كنت أفتل القلائد للنبي ﷺ فيقلد الغنم ، ويقيم في أهله حلالا). وفي لفظ : (كنت أفتل قلائد الغنم للنبي ﷺ). رواه البخاري . ولأنه هدي ، فيسن تقليده كالإبل ، ولأنه إذا سن تقليد الإبل مع إمكان تعريفها بالأشعار ، فالغنم ، أولى ، وليس التساوي في النقل شرطا لصحة الحديث ، ولأنه كان يهدي الإبل أكثر ، فكثر نقله . فصل:


ويسن إشعار الإبل والبقر وهو أن يشق صفحة سنامها الأيمن حتى يدميها, في قول عامة أهل العلم وقال أبو حنيفة: هذا مثلة غير جائز لأن النبي -ﷺ- نهى عن تعذيب الحيوان ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه وقال مالك: إن كانت البقرة ذات سنام, فلا بأس بإشعارها وإلا فلا ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (فتلت قلائد هدي النبي -ﷺ- ثم أشعرها وقلدها) متفق عليه رواه ابن عباس, وغيره وفعله الصحابة فيجب تقديمه على عموم ما احتجوا به, ولأنه إيلام لغرض صحيح فجاز كالكي والوسم, والفصد والحجامة والغرض أن لا تختلط بغيرها وأن يتوقاها اللص, ولا يحصل ذلك بالتقليد لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب وقياسهم منتقض بالكي والوسم وتشعر البقرة لأنها من البدن فتشعر كذات السنام وأما الغنم فلا يسن إشعارها لأنها ضعيفة وصوفها وشعرها يستر موضع إشعارها إذا ثبت هذا فالسنة الإشعار في صفحتها اليمنى وبهذا قال الشافعي, وأبو ثور وقال مالك وأبو يوسف: بل تشعر في صفحتها اليسرى وعن أحمد مثله لأن ابن عمر فعله ولنا ما روى ابن عباس (أن النبي -ﷺ- صلى بذي الحليفة, ثم دعا ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها بيده) رواه مسلم وأما ابن عمر فقد روي عنه كمذهبنا رواه البخاري ثم فعل النبي -ﷺ- أولى من قول ابن عمر وفعله بلا خلاف ولأن النبي -ﷺ- (كان يعجبه التيمن في شأنه كله) وإذا ساق الهدي من قبل الميقات, استحب إشعاره وتقليده من الميقات لحديث ابن عباس وإن ترك الإشعار والتقليد فلا بأس لأن ذلك غير واجب. فصل:


ولا يسن الهدي إلا من بهيمة الأنعام لقول الله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} وأفضله الإبل ثم البقر, ثم الغنم لما روى أبو هريرة أن رسول الله -ﷺ- قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة, ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) متفق عليه وقال ابن عباس لامرأة أصابها زوجها في العمرة: عليك فدية من صيام, أو صدقة أو نسك قالت: أي النسك أفضل؟ قال: إن شئت فناقة وإن شئت فبقرة قالت: أي ذلك أفضل؟ قال: انحري ناقة رواه الأثرم ولأن ما كان أكثر لحما كان أنفع للفقراء, ولذلك أجزأت البدنة مكان سبع من الغنم والشاة أفضل من سبع بدنة لأن لحمها أطيب والضأن أفضل من المعز لذلك. فصل:


والذكر والأنثى في الهدي سواء وممن أجاز ذكران الإبل ابن المسيب, وعمر بن عبد العزيز ومالك وعطاء, والشافعي وعن ابن عمر أنه قال: ما رأيت أحدا فاعلا ذلك وأن أنحر أنثى أحب إلي والأول أولى لأن الله تعالى قال: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} ولم يذكر ذكرا ولا أنثى, وقد ثبت أن (النبي -ﷺ- أهدى جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة) رواه أبو داود وابن ماجه ولأنه يجوز من سائر أنواع بهيمة الأنعام, ولذلك قال النبي -ﷺ-: " فكأنما قرب كبشا أقرن " فكذلك من الإبل ولأن القصد اللحم ولحم الذكر أوفر, ولحم الأنثى أرطب فيتساويان قال أحمد: الخصي أحب إلينا من النعجة وذلك لأن لحمه أوفر وأطيب. مسألة:


قال: [ ومن وجبت عليه بدنة ، فذبح سبعا من الغنم ، أجزأه ] وظاهر هذا أن سبعا من الغنم يجزئ عن البدنة مع القدرة عليها . سواء كانت البدنة واجبة بنذر ، أو جزاء صيد ، أو كفارة وطء . وقال ابن عقيل : إنما يجزئ ذلك عنها عند عدمها ، في ظاهر كلام أحمد لأن ذلك بدل عنها ، فلا يصار إليه مع وجودها ، كسائر الأبدال . فأما مع عدمها فيجوز ؛ لما روى ابن عباس ، قال : (أتى النبي ﷺ رجل ، فقال : إن علي بدنة ، وأنا موسر لها ، ولا أجدها فأشتريها فأمره النبي ﷺ أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن). رواه ابن ماجه . ولنا ، أن الشاة معدولة بسبع بدنة ، وهي أطيب لحما ، فإذا عدل عن الأدنى إلى الأعلى جاز ، كما لو ذبح بدنة مكان شاة. فصل:


ومن وجب عليه سبع من الغنم في جزاء الصيد ، لم يجزئه بدنة في الظاهر ؛ لأن سبعا من الغنم أطيب لحما ، فلا يعدل عن الأعلى إلى الأدنى ، وإن كان ذلك في كفارة محظور ، أجزأه بدنة ؛ لأن الدم الواجب فيه ما استيسر من الهدي ، وهو شاة ، أو سبع بدنة ، وقد كان أصحاب النبي ﷺ يتمتعون ، فيذبحون البقرة عن سبعة ، قال جابر : (كنا نتمتع مع رسول الله ﷺ فنذبح البقرة عن سبعة ، نشترك فيها) . وفي لفظ (أمرنا رسول الله ﷺ أن نشترك في الإبل والبقر ، كل سبعة منا في بدنة) رواه مسلم . فصل:


ومن وجبت عليه بقرة ، أجزأته بدنة : لأنها أكثر لحما وأوفر . ويجزئه سبع من الغنم ؛ لأنها تجزئ عن البدنة ، فعن البقرة أولى . ومن لزمه بدنة ، في غير النذر وجزاء الصيد ، أجزأته بقرة ؛ لما روى أبو الزبير ، عن جابر ، قال : كنا ننحر البدنة عن سبعة . فقيل له : والبقرة ؟ فقال : وهل هي إلا من البدن ، فأما في النذر فقال ابن عقيل : يلزمه ما نواه : فإن أطلق فعنه روايتان ؛ إحداهما ، تجزئه البقرة ؛ لما ذكرنا من الخبر . والأخرى ، لا تجزئه إلا أن يعدم البدنة . وهذا قول الشافعي ؛ لأنها بدل ، فاشترط عدم المبدل . والأولى أولى ؛ للخبر ، ولأن ما أجزأ عن سبعة في الهدايا ودم المتعة ، أجزأ في النذر بلفظ البدنة ، كالجزور . فصل:


ويجوز أن يشترك السبعة في البدنة والبقرة سواء كان واجبا أو تطوعا, وسواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم وأراد الباقون اللحم وقال مالك: لا يجوز الاشتراك في الهدي وقال أبو حنيفة: يجوز إذا كانوا متفرقين كلهم, ولا يجوز إذا لم يرد بعضهم القربة وحديث جابر يرد قول مالك ولنا على أبي حنيفة أن الجزء المجزي لا ينقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز, كما لو اختلفت جهات القرب فأراد بعضهم المتعة والآخر القران ويجوز أن يقتسموا اللحم لأن القسمة إفراز حق, وليست بيعا. مسألة:


قال: [ وما لزم من الدماء فلا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من غيره ] هذا في غير جزاء الصيد فأما جزاء الصيد, فمنه جفرة وعناق وجدي وصحيح ومعيب وأما في غيره مثل هدي المتعة وغيره, فلا يجزئ إلا الجذع من الضأن وهو الذي له ستة أشهر والثني من غيره, وثني المعز ما له سنة وثني البقر ما له سنتان وثني الإبل ما له خمس سنين وبهذا قال مالك, والليث والشافعي وإسحاق, وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال ابن عمر والزهري: لا يجزئ إلا الثني من كل شيء وقال عطاء, والأوزاعي: يجزئ الجذع من الكل إلا المعز ولنا على الزهري ما روى عن أم بلال بنت هلال, عن أبيها أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا يجوز إلا الجذع من الضأن أضحية) وعن عاصم بن كليب قال: (كنا مع رجل من أصحاب رسول الله -ﷺ- يقال له مجاشع من بني سليم, فعزت الغنم فأمر مناديا فنادى: إن رسول الله -ﷺ- كان يقول: إن الجذع يوفي ما توفي منه الثنية) وعن جابر قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا تذبحوا إلا مسنة, إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعا من الضأن) رواهن ابن ماجه وروى حديث جابر مسلم وأبو داود وهذا حجة على عطاء والأوزاعي وحديث أبي بردة بن نيار حين (قال: يا رسول الله, إن عندي عناقا جذعا هي خير من شاتي لحم فقال: تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك) أخرجه أبو داود, والنسائي وفي لفظ: إن عندي داجنا جذعة من المعز قال أبو عبيد الهروي قال إبراهيم الحربي: إنما يجزئ الجذع من الضأن في الأضاحي لأنه ينزو فيلقح فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يصير ثنيا. فصل:


ويمنع من العيوب في الهدي ما يمنع في الأضحية قال البراء بن عازب: (قام فينا رسول الله -ﷺ- فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها, والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والكسيرة التي لا تنقى قال: قلت: إني أكره أن يكون في السن نقص قال: ما كرهت فدعه, ولا تحرمه على أحد) رواه أبو داود والنسائي وبهذا قال عطاء قال: أما الذي سمعناه فالأربع, وكل شيء سواهن جائز ومعنى قوله: " البين عورها " أي انخسفت عينها وذهبت فإن ذلك ينقصها لأن شحمة العين عضو مستطاب فلو كان على عينها بياض ولم تذهب العين, جازت التضحية بها لأن ذلك لا ينقصها في اللحم والعرجاء البين عرجها: التي عرجها متفاحش يمنعها السير مع الغنم ومشاركتهن في العلف ويهزلها والتي لا تنقى: التي لا مخ فيها لهزالها والمريضة: قيل هي الجرباء لأن الجرب يفسد اللحم وظاهر الحديث أن كل مريضة مرضا يؤثر في هزالها, أو في فساد لحمها يمنع التضحية بها وهذا أولى, لتناول اللفظ له والمعنى فهذه الأربع لا نعلم بين أهل العلم خلافا في منعها ويثبت الحكم فيما نقص أكثر من هذه العيوب بطريق التنبيه فلا تجوز العمياء لأن العمى أكثر من العور ولا يعتبر مع العمى انخساف العين لأنه يخل بالمشي مع الغنم, والمشاركة في العلف أكثر من إخلال العرج ولا يجوز ما قطع منها عضو مستطاب كالألية لأن ذلك أبلغ في الإخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين فأما العضباء وهي ما ذهب نصف أذنها أو قرنها, فلا تجزئ وبه قال أبو يوسف ومحمد في عضباء الأذن وعن أحمد: لا تجزئ ما ذهب ثلث أذنها وبه قال أبو حنيفة وروي عن علي وعمار وسعيد بن المسيب, والحسن تجزئ المكسورة القرن لأن ذهاب ذلك لا يؤثر في اللحم فأجزأت, كالجماء وقال مالك: إن كان يدمي لم يجز وإلا جاز ولنا, ما روى علي رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله -ﷺ- أن يضحى بأعضب الأذن والقرن) رواه النسائي وابن ماجه قال قتادة: فسألت سعيد بن المسيب فقال: نعم العضب النصف فأكثر من ذلك ويحمل قول علي رضي الله عنه ومن وافقه, على أن كسر ما دون النصف لا يمنع. فصل:


ويجزئ الخصي سواء كان مما قطعت خصيتاه أو مسلولا وهو الذي سلت بيضتاه, أو موجوءا وهو الذي رضت بيضتاه لأن النبي -ﷺ- ضحى بكبشين أملحين موجوءين والمرضوض كالمقطوع ولأن ذلك العضو غير مستطاب وذهابه يؤثر في سمنه, وكثرة اللحم وطيبه وهو المقصود ولا نعلم في هذا خلافا وتجزئ الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن وحكي عن ابن حامد أنها لا تجزئ لأن عدم القرن أكثر من ذهاب نصفه والأولى أنها تجزئ لأن القرن ليس بمقصود, ولا ورد النهي عم عدم فيه وتجزئ الصمعاء وهي التي لم يخلق لها أذن أو خلقت لها أذن صغيرة كذلك وتجزئ البتراء, وهي المقطوعة الذنب كذلك. فصل:


ويكره أن يضحي بمشقوقة الأذن أو ما قطع منها شيء أو ما فيها عيب من هذه العيوب التي لا تمنع الإجزاء لقول علي رضي الله عنه: أمرنا أن نستشرف العين والأذن ولا يضحي بمقابلة, ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء قال زهير: قلت لأبي إسحاق: ما المقابلة؟ قال: يقطع طرف الأذن قلت: فما المدابرة؟ قال: يقطع مؤخر الأذن قلت: فما الخرقاء؟ قال: يشق الأذن قلت: فما الشرقاء؟ قال: يشق أذنها للسمة رواه أبو داود والنسائي قال القاضي: الخرقاء التي انثقبت أذنها والشرقاء التي تشق أذنها وتبقى كالشاختين وهذا نهي تنزيه ويحصل الإجزاء بها, لا نعلم في هذا خلافا. فصل:


يستحب لمن أتى مكة أن يطوف بالبيت لأن الطواف بالبيت صلاة والطواف أفضل من الصلاة والصلاة بعد ذلك يروى عن ابن عباس, قال: الطواف لكم يا أهل العراق والصلاة لأهل مكة وقال عطاء: الطواف للغرباء والصلاة لأهل البلد قال: ومن الناس من يقول: يزور البيت كل يوم من أيام منى ومنهم من يختار الإقامة بمنى لأنها أيام منى واحتج أبو عبد الله بحديث أبي حسان, عن ابن عباس (أن رسول الله -ﷺ- كان يفيض كل ليلة). فصل:


ويستحب لمن حج أن يدخل البيت ويصلي فيه ركعتين كما فعل النبي -ﷺ- ولا يدخل البيت بنعليه, ولا خفيه ولا الحجر أيضا لأن الحجر من البيت ولا يدخل الكعبة بسلاح قال: وثياب الكعبة إذا نزعت يتصدق بها وقال: إذا أراد أن يستشفي بشيء من طيب الكعبة فليأت بطيب من عنده, فليلزقه على البيت ثم يأخذه ولا يأخذ من طيب البيت شيئا, ولا يخرج من تراب الحرم ولا يدخل فيه من الحل كذلك قال عمر وابن عباس رضي الله عنهما, ولا يخرج من حجارة مكة وترابها إلى الحل والخروج أشد إلا أن ماء زمزم أخرجه كعب. فصل:


قال أحمد كيف لنا بالجوار بمكة قال النبي -ﷺ-: (إنك لأحب البقاع إلى الله عز وجل, ولولا إني أخرجت منك ما خرجت) وإنما كره الجوار بمكة لمن هاجر منها وجابر بن عبد الله جاور بمكة وجميع أهل البلاد ومن كان من أهل اليمين ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر أي لا بأس به وابن عمر كان يقيم بمكة قال: والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه لأنها مهاجر المسلمين وقال النبي -ﷺ-: (لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعا يوم القيامة). فصل:


ويستحب زيارة قبر النبي -ﷺ- لما روى الدارقطني, بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من حج فزار قبري بعد وفاتي, فكأنما زارني في حياتي) وفي رواية: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) رواه باللفظ الأول سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر وقال أحمد, في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة, أن النبي -ﷺ- قال: (ما من أحد يسلم علي عند قبري إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام): وإذا حج الذي لم يحج قط - يعني من غير طريق الشام - لا يأخذ على طريق المدينة, لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصر الطرق ولا يتشاغل بغيره ويروى عن العتبي, قال: كنت جالسا عند قبر النبي -ﷺ- فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} وقد جئتك مستغفرا لذنبي, مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ** فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ** فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم انصرف الأعرابي فحملتني عيني, فنمت فرأيت النبي -ﷺ- في النوم فقال: يا عتبي, الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى ثم يقول: (بسم الله, والصلاة والسلام على رسول الله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لي, وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال مثل ذلك وقال: وافتح لي أبواب فضلك) لما روي عن فاطمة بنت رسول الله -ﷺ- ورضي الله عنها أن رسول الله -ﷺ- علمها أن تقول ذلك إذا دخلت المسجد ثم تأتي القبر فتولي ظهرك القبلة, وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا نبي الله, وخيرته من خلقه وعباده أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, وعبدت الله حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك كثيرا كما يحب ربنا ويرضى, اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون, اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد, اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة, كما أوجبتها لمن أتاه في حياته اللهم اجعله أول الشافعين وأنجح السائلين, وأكرم الآخرين والأولين برحمتك يا أرحم الراحمين ثم يدعو لوالديه ولإخوانه وللمسلمين أجمعين ثم يتقدم قليلا, ويقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق السلام عليك يا عمر الفاروق السلام عليكما يا صاحبي رسول الله -ﷺ- وضجيعيه ووزيريه ورحمة الله وبركاته, اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرا: {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} اللهم لا تجعله آخر العهد من قبر نبيك -ﷺ- ومن حرم مسجدك يا أرحم الراحمين. فصل:


ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي -ﷺ- ولا تقبيله قال أحمد: ما أعرف هذا قال الأثرم: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي -ﷺ- يقومون من ناحية فيسلمون قال أبو عبد الله: وهكذا كان ابن عمر يفعل قال: أما المنبر فقد جاء فيه يعني ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ, أنه نظر إلى ابن عمر وهو يضع يده على مقعد النبي -ﷺ- من المنبر ثم يضعها على وجهه. فصل:


ويستحب لمن رجع من الحج أن يقول ما روى البخاري عن عبد الله بن عمر (أن رسول الله -ﷺ- كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة, يكبر على كل شرف من الأرض ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون, صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده).

===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القرآن الكريم : {المصحف كله وورد}

الرابط https://archive.org/download/sunnahandhadith/UthmanicHafs1-Ex1-Ver12-browser.zip  سورة الفاتحة     القرآن الكريم : بِسْمِ اللَ...