(الجزء السادس – كتاب الاعتكاف) •
كتاب الاعتكاف o مسألة: حكم الاعتكاف فصل: قضاء الاعتكاف o مسألة: صحة الاعتكاف بصوم وبدون صوم فصل: اشتراط الصوم في الاعتكاف o مسألة: شرط الاعتكاف المسجد الجامع فصل: الاعتكاف مدة غير وقت الصلاة في أي مسجد فصل: اعتكاف المرأة في أي مسجد فصل: اعتكاف من سقطت عنه الجماعة من الرجال فصل: استحباب الاستتار للمعتكفات o مسألة: خروج المعتكف للضرورة فصل: أكل المعتكف إذا خرج لحاجة فصل: قضاء المعتكف حاجته في أقرب مكان للمسجد فصل: بطلان الاعتكاف بالخروج لغير ضرورة o مسألة: عيادة المريض وشهود الجنازة للمعتكف أحدهما: الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة مع عدم الاشتراط الفصل الثاني: اشتراط المعتكف الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة o فصل: اشتراط المعتكف ما لا يباح فعله في الاعتكاف o فصل: خروج المعتكف ناسيا o فصل: صعود المعتكف سطح المسجد o مسألة: فساد الاعتكاف بالوطء فصل: المباشرة دون الفرج o فصل: فساد الاعتكاف بالردة o فصل: ما يجب على من أفسد الاعتكاف o فصل: إذا نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم فأفطر يوما o مسألة: ترك الاعتكاف خوف الفتنة o مسألة: المعتكف لا يتجر ولا يتكسب بالصنعة o فصل: ما يستحب للمعتكف ومايكره فصل: اشتغال المعتكف بإقراء القرآن وتدريس العلم ونحوه فصل: فصل: حكم الصمت عن الكلام فصل: لا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام o مسألة: تزوج المعتكف وشهوده النكاح o فصل: التنظف والتطيب للمعتكف o فصل: أكل المعتكف في المسجد o فصل: قضاء الحاجة في المسجد o مسألة: خروج المعتكفة لقضاء العدة o فصل: استئذان الزوجة والمملوك قبل الاعتكاف فصل: منع المكاتب من الاعتكاف o مسألة: خروج المرأة من المسجد إذا حاضت فصل: الاستحاضة لا تمنع الاعتكاف o فصل: أقسام الخروج المباح في الاعتكاف o مسألة: وقت دخول المعتكف لمن نذر الاعتكاف شهرا بعينه o فصل: وقت دخول المعتكف في العشر الأواخر من رمضان فصل: استحباب البيات ليلة العيد في المعتكف o فصل: الخلاف في لزوم التتابع في نذور الاعتكاف أيام معدودة o فصل: إن قال: لله علي أن أعتكف ثلاثين يوما o فصل: إن نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه o فصل: إن نذر اعتكافا مطلقا لزمه ما يسمى به معتكفا o فصل: لا يتعين في الاعتكاف المنذور مسجد إلا أحد المساجد الثلاثة o فصل: نذر الاعتكاف في المسجد الحرام o فصل: صحة نذر اعتكاف يوم يقدم فلان
عرض كتاب الاعتكاف
عرض كتاب الاعتكاف
الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء, وحبس النفس عليه برا كان أو غيره ومنه قوله تعالى: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} وقال: {يعكفون على أصنام لهم} قال الخليل: عكف يعكف ويعكف وهو في الشرع: الإقامة في المسجد, على صفة نذكرها وهو قربة وطاعة قال الله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} وقال: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} وقالت عائشة: (كان النبي -ﷺ- يعتكف العشر الأواخر) متفق عليه وروى ابن ماجه في "سننه", عن ابن عباس عن النبي -ﷺ- (أنه قال في المعتكف: هو يعكف الذنوب ويجرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها) وهذا الحديث ضعيف وفي إسناده فرقد السبخي قال أبو داود: قلت لأحمد, -رحمه الله-: تعرف في فضل الاعتكاف شيئا؟ قال: لا إلا شيئا ضعيفا ولا نعلم بين العلماء خلافا في أنه مسنون. مسألة:
قال أبو القاسم -رحمه الله-: [ والاعتكاف سنة إلا أن يكون نذرا, فيلزم الوفاء به ] لا خلاف في هذه الجملة بحمد الله قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب على الناس فرضا إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيجب عليه ومما يدل على أنه سنة, فعل النبي -ﷺ- ومداومته عليه تقربا إلى الله تعالى وطلبا لثوابه, واعتكاف أزواجه معه وبعده ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا ولا أمرهم النبي -ﷺ- به إلا من أراده وقال عليه السلام: (من أراد أن يعتكف, فليعتكف العشر الأواخر) ولو كان واجبا لما علقه بالإرادة وأما إذا نذره فيلزمه لقول النبي -ﷺ-: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) رواه البخاري وعن عمر أنه قال: (يا رسول الله, إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي -ﷺ-: أوف بنذرك) رواه البخاري ومسلم. فصل:
وإن نوى اعتكاف مدة لم تلزمه فإن شرع فيها فله إتمامها, وله الخروج منها متى شاء وبهذا قال الشافعي وقال مالك: تلزمه بالنية مع الدخول فيه فإن قطعه لزمه قضاؤه وقال ابن عبد البر: لا يختلف في ذلك الفقهاء ويلزمه القضاء عند جميع العلماء وقال: وإن لم يدخل فيه فالقضاء مستحب ومن العلماء من أوجبه وإن لم يدخل فيه, واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي -ﷺ- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فاستأذنته عائشة فأذن لها, فأمرت ببنائها فضرب وسألت حفصة أن تستأذن لها رسول الله -ﷺ- ففعلت فأمرت ببنائها فضرب, فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببنائها فضرب قالت: وكان رسول الله -ﷺ- إذا صلى الصبح دخل معتكفه فلما صلى الصبح انصرف, فبصر بالأبنية فقال: ما هذا؟ فقالوا: بناء عائشة, وحفصة وزينب فقال رسول الله -ﷺ-: البر أردتن ما أنا بمعتكف فرجع فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال) متفق على معناه ولأنها عبادة تتعلق بالمسجد, فلزمت بالدخول فيها كالحج ولم يصنع ابن عبد البر شيئا وهذا ليس بإجماع, ولا نعرف هذا القول عن أحد سواه وقد قال الشافعي: كل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فخرجت منه, فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة ولم يقع الإجماع على لزوم نافلة بالشروع فيها سوى الحج والعمرة وإذا كانت العبادات التي لها أصل في الوجوب لا تلزم بالشروع فما ليس له أصل في الوجوب أولى, وقد انعقد الإجماع على أن الإنسان لو نوى الصدقة بمال مقدر وشرع في الصدقة به فأخرج بعضه, لم تلزمه الصدقة بباقيه وهو نظير الاعتكاف لأنه غير مقدر بالشرع فأشبه الصدقة وما ذكره حجة عليه فإن النبي -ﷺ- ترك اعتكافه, ولو كان واجبا لما تركه وأزواجه تركن الاعتكاف بعد نيته وضرب أبنيتهن له ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب, ولا أمرن بالقضاء وقضاء النبي -ﷺ- له لم يكن واجبا عليه وإنما فعله تطوعا لأنه كان إذا عمل عملا أثبته, وكان فعله لقضائه كفعله لأدائه على سبيل التطوع به لا على سبيل الإيجاب, كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر فتركه له دليل على عدم الوجوب لتحريم ترك الواجب, وفعله للقضاء لا يدل على الوجوب لأن قضاء السنن مشروع فإن قيل: إنما جاز تركه ولم يؤمر تاركه من النساء بقضائه لتركهن إياه قبل الشروع قلنا: فقد سقط الاحتجاج لاتفاقنا على أنه لا يلزم قبل شروعه فيه, فلم يكن القضاء دليلا على الوجوب مع الاتفاق على انتفائه ولا يصح قياسه على الحج والعمرة لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة ومشقة شديدة, وإنفاق مال كثير ففي إبطالهما تضييع لماله وإبطال لأعماله الكثيرة, وقد نهينا عن إضاعة المال وإبطال الأعمال وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه مال يضيع, ولا عمل يبطل فإن ما مضى من اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل, ولأن النسك يتعلق بالمسجد الحرام على الخصوص والاعتكاف بخلافه. مسألة:
قال: [ ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم ] المشهور في المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم روي ذلك عن علي, وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز, والحسن وعطاء وطاوس, والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية أخرى, أن الصوم شرط في الاعتكاف قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وبه قال الزهري, ومالك وأبو حنيفة والليث, والثوري والحسن بن يحيى لما روي عن عائشة عن النبي -ﷺ- (أنه قال: لا اعتكاف إلا بصوم) رواه الدارقطني وعن ابن عمر (أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية, فسأل النبي -ﷺ- فقال: اعتكف وصم) رواه أبو داود ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن بمجرده قربة كالوقوف، ولنا ما روى ابن عمر عن عمر (أنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي -ﷺ-: أوف بنذرك) رواه البخاري ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل, لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح في الليل فلم يشترط له الصيام كالصلاة, ولأنه عبادة تصح في الليل فأشبه سائر العبادات ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع, ولم يصح فيه نص ولا إجماع قال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن أبي سهل, قال: كان على امرأة من أهلي اعتكاف فسألت عمر بن عبد العزيز فقال: ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها فقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم. فقال له عمر: عن النبي -ﷺ-؟ قال: لا. قال: فعن أبي بكر؟ قال: لا قال: فعن عمر؟ قال: لا. قال: وأظنه قال: فعن عثمان؟ قال: لا. فخرجت من عنده, فلقيت عطاء وطاوسا فسألتهما فقال طاوس: كان فلان لا يرى عليها صياما, إلا أن تجعله على نفسها وأحاديثهم لا تصح. أما حديثهم عن عمر فتفرد به ابن بديل, وهو ضعيف قال أبو بكر النيسابوري: هذا حديث منكر والصحيح ما رويناه أخرجه البخاري, والنسائي وغيرهما وحديث عائشة موقوف عليها ومن رفعه فقد وهم, ولو صح فالمراد به الاستحباب فإن الصوم فيه أفضل وقياسهم ينقلب عليهم فإنه لبث في مكان مخصوص فلم يشترط له الصوم كالوقوف, ثم نقول بموجبه فإنه لا يكون قربة بمجرده بل بالنية إذا ثبت هذا فإنه يستحب أن يصوم لأن النبي -ﷺ- كان يعتكف وهو صائم, ولأن المعتكف يستحب له التشاغل بالعبادات والقرب والصوم من أفضلها ويتفرغ به مما يشغله عن العبادات, ويخرج به من الخلاف. فصل:
إذا قلنا: إن الصوم شرط لم يصح اعتكاف ليلة مفردة ولا بعض يوم ولا ليلة وبعض يوم لأن الصوم المشترط لا يصح في أقل من يوم ويحتمل أن يصح في بعض اليوم إذا صام اليوم كله لأن الصوم المشروط وجد في زمن الاعتكاف, ولا يعتبر وجود المشروط في زمن الشرط كله. مسألة:
قال: [ ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه ] يعني تقام الجماعة فيه وإنما اشترط ذلك لأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة وإما خروجه إليها, فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا, والأصل في ذلك قول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} فخصها بذلك ولو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا وفي حديث عائشة, قالت: (إن كان رسول الله -ﷺ- ليدخل على رأسه وهو في المسجد فأرجله, وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا) وروى الدارقطني بإسناده عن الزهري عن عروة, وسعيد بن المسيب عن عائشة في حديث: (وأن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان, ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة) فذهب أبو عبد الله إلى أن كل مسجد تقام فيه الجماعة يجوز الاعتكاف فيه ولا يجوز في غيره وروي عن حذيفة وعائشة, والزهري ما يدل على هذا واعتكف أبو قلابة وسعيد بن جبير في مسجد حيهما وروي عن عائشة والزهري, أنه لا يصح إلا في مساجد الجماعات وهو قول الشافعي إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة لئلا يلتزم الخروج من معتكفه, لما يمكنه التحرز من الخروج إليه وروي عن حذيفة وسعيد بن المسيب: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي وحكي عن حذيفة أن الاعتكاف لا يصح إلا في أحد المساجد الثلاثة قال سعيد: حدثنا مغيرة, عن إبراهيم قال: دخل حذيفة مسجد الكوفة فإذا هو بأبنية مضروبة, فسأل عنها فقيل: قوم معتكفون فانطلق إلى ابن مسعود فقال: ألا تعجب من قوم يزعمون أنهم معتكفون بين دارك ودار الأشعري؟ فقال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت فقال حذيفة: لقد علمت ما الاعتكاف إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, والمسجد الأقصى ومسجد رسول الله -ﷺ- وقال مالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد لعموم قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} وهو قول الشافعي إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة ولنا قول عائشة: من السنة للمعتكف, أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة وقد قيل: إن هذا من قول الزهري وهو ينصرف إلى سنة رسول الله -ﷺ- كيفما كان وروى سعيد: حدثنا هشيم حدثنا جويبر, عن الضحاك عن حذيفة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (كل مسجد له إمام ومؤذن, فالاعتكاف فيه يصلح) ولأن قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} يقتضي إباحة الاعتكاف في كل مسجد إلا أنه يقيد بما تقام فيه الجماعة بالأخبار والمعنى الذي ذكرناه, ففيما عداه يبقى على العموم وقول الشافعي في اشتراطه موضعا تقام فيه الجمعة لا يصح للأخبار ولأن الجمعة لا تتكرر, فلا يضر وجوب الخروج إليها كما لو اعتكفت المرأة مدة يتخللها أيام حيضها ولو كان الجامع تقام فيه الجمعة وحدها ولا يصلى فيه غيرها, لم يجز الاعتكاف فيه ويصح عند مالك والشافعي ومبنى الخلاف على أن الجماعة واجبة عندنا فيلتزم الخروج من معتكفه إليها, فيفسد اعتكافه وعندهم ليست واجبة. فصل:
وإن كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة كليلة أو بعض يوم جاز في كل مسجد لعدم المانع وإن كانت تقام فيه في بعض الزمان, جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره وإن كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور, ومن هو في قرية لا يصلى فيها سواه جاز اعتكافه في كل مسجد لأنه لا تلزمه الجماعة فأشبه المرأة وإن اعتكف اثنان في مسجد لا تقام فيه جماعة, فأقاما الجماعة فيه صح اعتكافهما لأنهما أقاما الجماعة فأشبه ما لو أقامها فيه غيرهما. فصل:
وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها وبهذا قال الشافعي وليس لها الاعتكاف في بيتها وقال أبو حنيفة, والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكي عن أبي حنيفة, أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة (لأن النبي -ﷺ- ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه وقال: البر تردن,) ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل ولنا, قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجدا كان مجازا, فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية كقول النبي -ﷺ-: (جعلت لي الأرض مسجدا) ولأن أزواج النبي -ﷺ- استأذنه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن, ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه, ونبههن عليه ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة, كالطواف وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال, حيث كثرت أبنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن, خشية عليهن من فساد نيتهن وسوء المقصد به ولذلك قال: (البر تردن) منكرا لذلك أي لم تفعلن ذلك تبررا ولذلك ترك الاعتكاف, لظنه أنهن يتنافسن في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن, ولم يأذن لهن في المسجد وأما الصلاة فلا يصح اعتبار الاعتكاف بها فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه. فصل:
ومن سقطت عنه الجماعة من الرجال, كالمريض إذا أحب أن يعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة ينبغي أن يجوز له ذلك لأن الجماعة ساقطة عنه فأشبه المرأة ويحتمل ألا يجوز له ذلك لأنه من أهل الجماعة, فأشبه من تجب عليه ولأنه إذا التزم الاعتكاف وكلفه نفسه, فينبغي أن يجعله في مكان تصلى فيه الجماعة ولأن من التزم ما لا يلزمه لا يصح بدون شروطه كالمتطوع بالصوم والصلاة. فصل:
وإذا اعتكفت المرأة في المسجد, استحب لها أن تستتر بشيء لأن أزواج النبي -ﷺ- لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربن في المسجد ولأن المسجد يحضره الرجال وخير لهم وللنساء أن لا يرونهن ولا يرينهم وإذا ضربت بناء جعلته في مكان لا يصلي فيه الرجال, لئلا تقطع صفوفهم ويضيق عليهم ولا بأس أن يستتر الرجل أيضا فإن النبي -ﷺ- أمر ببنائه فضرب ولأنه أستر له, وأخفى لعمله وروى ابن ماجه عن أبي سعيد (أن رسول الله -ﷺ- اعتكف في قبة تركية على سدتها قطعة حصير قال: فأخذ الحصير بيده, فنحاها في ناحية القبلة ثم أطلع رأسه فكلم الناس) والله أعلم. مسألة:
قال: [ ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان, أو صلاة الجمعة ] وجملة ذلك أن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه إلا لما لا بد له منه قالت عائشة, رضي الله عنها: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لا بد له منه رواه أبو داود وقالت أيضا: (كان رسول الله -ﷺ- إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) متفق عليه ولا خلاف في أن له الخروج لما لا بد له منه قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول ولأن هذا مما لا بد منه ولا يمكن فعله في المسجد, فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه لم يصح لأحد الاعتكاف ولأن النبي -ﷺ- كان يعتكف, وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط كني بذلك عنهما لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما, وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به فله الخروج إليه إذا احتاج إليه, وإن بغته القيء فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد وكل ما لا بد له منه, ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه ولا يفسد اعتكافه وهو عليه, ما لم يطل وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة, ويلزمه السعي إليها فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يعتكف في غير الجامع, إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة فإن نذر اعتكافا متتابعا فخرج منه لصلاة الجمعة بطل اعتكافه, وعليه الاستئناف لأنه أمكنه فرضه بحيث لا يخرج منه فبطل بالخروج كالمكفر إذا ابتدأ صوم الشهرين المتتابعين في شعبان أو ذي الحجة ولنا, أنه خرج لواجب فلم يبطل اعتكافه كالمعتدة تخرج لقضاء العدة, وكالخارج لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق أو أداء شهادة تعينت عليه, ولأنه إذا نذر أياما فيها جمعة فكأنه استثنى الجمعة بلفظه ثم تبطل بما إذا نذرت المرأة أياما فيها عادة حيضها فإنه يصح مع إمكان فرضها في غيرها, والأصل غير مسلم إذا ثبت هذا فإنه إذا خرج لواجب فهو على اعتكافه, ما لم يطل لأنه خروج لما لا بد له منه أشبه الخروج لحاجة الإنسان فإن كان خروجه لصلاة الجمعة فله أن يتعجل قال أحمد: أرجو أن له ذلك, لأنه خروج جائز فجاز تعجيله كالخروج لحاجة الإنسان فإذا صلى الجمعة, فإن أحب أن يعتكف في الجامع فله ذلك لأنه محل للاعتكاف والمكان لا يتعين للاعتكاف بنذره وتعيينه, فمع عدم ذلك أولى وكذلك إن دخل في طريقه مسجدا فأتم اعتكافه فيه جاز لذلك وإن أحب الرجوع إلى معتكفه, فله ذلك لأنه خرج من معتكفه فكان له الرجوع إليه كما لو خرج إلى غير جمعة قال بعض أصحابنا: يستحب له الإسراع إلى معتكفه وقال أبو داود: قلت لأحمد يركع - أعني المعتكف - يوم الجمعة بعد الصلاة في المسجد؟ قال: نعم, بقدر ما كان يركع ويحتمل أن يكون الخيرة إليه في تعجيل الركوع وتأخيره لأنه في مكان يصلح للاعتكاف فأشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه فأما إن خرج ابتداء إلى مسجد آخر أو إلى الجامع من غير حاجة, أو كان المسجد أبعد من موضع حاجته فمضى إليه لم يجز له ذلك لأنه خروج لغير حاجة أشبه ما لو خرج إلى غير المسجد فإن كان المسجدان متلاصقين, يخرج من أحدهما فيصير في الآخر فله الانتقال من أحدهما إلى الآخر لأنهما كمسجد واحد ينتقل من إحدى زاويتيه إلى الأخرى وإن كان يمشي بينهما في غيرهما, لم يجز له الخروج وإن قرب لأنه خروج من المسجد لغير حاجة واجبة. فصل:
وإذا خرج لما لا بد منه فليس عليه أن يستعجل في مشيه بل يمشي على عادته, لأن عليه مشقة في إلزامه غير ذلك وليس له الإقامة بعد قضاء حاجته لأكل ولا لغيره وقال أبو عبد الله بن حامد: يجوز أن يأكل اليسير في بيته كاللقمة واللقمتين, فأما جميع أكله فلا وقال القاضي: يتوجه أن له الأكل في بيته والخروج إليه ابتداء لأن الأكل في المسجد دناءة وترك للمروءة وقد يخفى جنس قوته على الناس, وقد يكون في المسجد غيره فيستحي أن يأكل دونه وإن أطعمه معه لم يكفهما ولنا أن النبي -ﷺ- كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان, وهذا كناية عن الحدث ولأنه خروج لما له منه بد أو لبث في غير معتكفه لما له منه بد, فأبطل الاعتكاف كمحادثة أهله وما ذكره القاضي ليس بعذر يبيح الإقامة ولا الخروج, ولو ساغ ذلك لساغ الخروج للنوم وأشباهه. فصل:
وإن خرج لحاجة الإنسان وبقرب المسجد سقاية أقرب من منزله لا يحتشم من دخولها ويمكنه التنظف فيها, لم يكن له المضي إلى منزله لأن له من ذلك بد وإن كان يحتشم من دخولها أو فيه نقيصة عليه, أو مخالفة لعادته أو لا يمكنه التنظف فيها فله أن يمضي إلى منزله لما عليه من المشقة في ترك المروءة وكذلك إن كان له منزلان أحدهما أقرب من الآخر, يمكنه الوضوء في الأقرب بلا ضرر فليس له المضي إلى الأبعد وإن بذل له صديقه أو غيره الوضوء في منزله القريب لم يلزمه لما عليه من المشقة بترك المروءة والاحتشام من صاحبه قال المروذي: سألت أبا عبد الله, عن الاعتكاف في المسجد الكبير أعجب إليك أو مسجد الحي؟ قال: المسجد الكبير وأرخص لي أن أعتكف في غيره قلت: فأين ترى أن أعتكف في هذا الجانب أو في ذاك الجانب؟ قال: في ذاك الجانب هو أصلح من أجل السقاية قلت: فمن اعتكف في هذا الجانب ترى أن يخرج إلى الشط يتهيأ؟ قال: إذا كان له حاجة لا بد له من ذلك قلت: يتوضأ الرجل في المسجد؟ قال: لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد. فصل:
إذا خرج لما له منه بد بطل اعتكافه وإن قل وبه قال أبو حنيفة, ومالك والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم لأن اليسير معفو عنه, بدليل أن (صفية أتت النبي -ﷺ- تزوره في معتكفه فلما قامت لتنقلب خرج معها ليقلبها) ولأن اليسير معفو عنه بدليل ما لو تأنى في مشيه ولنا, أنه خروج من معتكفه لغير حاجة فأبطله كما لو أقام أكثر من نصف يوم, وأما خروج النبي -ﷺ- فيحتمل أنه لم يكن له بد لأنه كان ليلا فلم يأمن عليها ويحتمل أنه فعل ذلك لكون اعتكافه تطوعا, له ترك جميعه فكان له ترك بعضه ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه وأما المشي فتختلف فيه طباع الناس, وعليه في تغيير مشيه مشقة ولا كذلك ها هنا فإنه لا حاجة به إلى الخروج. مسألة:
قال: [ ولا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، إلا أن يشترط ذلك ] الكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما:
في الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة ، مع عدم الاشتراط . واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك ، فروي عنه : ليس له فعله . وهو قول عطاء ، وعروة ، ومجاهد ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي . وروى عنه الأثرم ، ومحمد بن الحكم ، أن له أن يعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويعود إلى معتكفه . وهو قول علي رضي الله عنه . وبه قال سعيد بن جبير ، والنخعي ، والحسن ؛ لما روى عاصم بن ضمرة ، عن علي قال : إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة ، وليعد المريض ، وليحضر الجنازة ، وليأت أهله ، وليأمرهم بالحاجة وهو قائم . رواه الإمام أحمد ، والأثرم . وقال أحمد : عاصم بن ضمرة عندي حجة . قال أحمد : يشهد الجنازة ، ويعود المريض ، ولا يجلس ، ويقضي الحاجة ، ويعود إلى معتكفه . وجه الأول ، ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله ﷺ إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) . متفق عليه . وعنها رضي الله عنها أنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه . وعنها قالت: (كان النبي ﷺ يمر بالمريض وهو معتكف ، فيمر كما هو ، فلا يعرج يسأل عنه). رواهما أبو داود . ولأن هذا ليس بواجب ، فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب من أجله ، كالمشي مع أخيه في حاجة ليقضيها له . وإن تعينت عليه صلاة الجنازة ، وأمكنه فعلها في المسجد ، لم يجز الخروج إليها . وإن لم يمكنه ذلك ، فله الخروج إليها . وإن تعين عليه دفن الميت ، أو تغسيله ، جاز أن يخرج له ؛ لأن هذا واجب متعين ، فيقدم على الاعتكاف ، كصلاة الجمعة ، فأما إن كان الاعتكاف تطوعا ، وأحب الخروج منه لعيادة مريض ، أو شهود جنازة ، جاز ؛ لأن كل واحد منهما تطوع ، فلا يتحتم واحد منهما ، لكن الأفضل المقام على اعتكافه ؛ لأن النبي ﷺ لم يكن يعرج على المريض ولم يكن واجبا عليه . فأما إن خرج لما لا بد منه ، فسأل عن المريض في طريقه ، ولم يعرج ، جاز ؛ لأن النبي ﷺ فعل ذلك. الفصل الثاني:
إذا اشترط فعل ذلك في اعتكافه ، فله فعله ، واجبا كان الاعتكاف أو غير واجب . وكذلك ما كان قربة ، كزيارة أهله ، أو رجل صالح أو عالم ، أو شهود جنازة ، وكذلك ما كان مباحا مما يحتاج إليه ، كالعشاء في منزله ، والمبيت فيه ، فله فعله . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله ؟ قال : إذا اشترط فنعم . قيل له : وتجيز الشرط في الاعتكاف ؟ قال : نعم . قلت له : فيبيت في أهله ؟ فقال : إذا كان تطوعا ، جاز . وممن أجاز أن يشترط العشاء في أهله الحسن ، والعلاء بن زياد ، والنخعي ، وقتادة . ومنع منه أبو مجلز ، ومالك ، والأوزاعي . قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط . ولنا ، أنه يجب بعقده ، فكان الشرط إليه فيه كالوقوف ، ولأن الاعتكاف لا يختص بقدر ، فإذا شرط الخروج فكأنه نذر القدر الذي أقامه . وإن قال : متى مرضت أو عرض لي عارض ، خرجت . جاز شرطه. فصل:
وإن شرط الوطء في اعتكافه ، أو الفرجة ، أو النزهة ، أو البيع للتجارة ، أو التكسب بالصناعة في المسجد ، لم يجز ؛ لأن الله تعالى قال : {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} . فاشتراط ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى . والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف ، ففي الاعتكاف أولى ، وسائر ما ذكرناه يشبه ذلك ، ولا حاجة إليه ، فإن احتاج إليه ، فلا يعتكف ؛ لأن ترك الاعتكاف أولى من فعل المنهي عنه . قال أبو طالب : سألت أحمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياط وغيره ؟ قال : ما يعجبني أن يعمل . قلت : إن كان يحتاج ؟ قال : إن كان يحتاج لا يعتكف. فصل:
إذا خرج لما له منه بد عامدا ، بطل اعتكافه ، إلا أن يكون اشترط . وإن خرج ناسيا ، فقال القاضي : لا يفسد اعتكافه ؛ لأنه فعل المنهي عنه ناسيا ، فلم تفسد العبادة ، كالأكل في الصوم . وقال ابن عقيل : يفسد ؛ لأنه ترك للاعتكاف ، وهو لزوم للمسجد ، وترك الشيء عمده وسهوه سواء ، كترك النية في الصوم . فإن أخرج بعض جسده ، لم يفسد اعتكافه ، عمدا كان أو سهوا لأن النبي ﷺ (كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله وهي حائض) . متفق عليه . فصل:
ويجوز للمعتكف صعود سطح المسجد ؛ لأنه من جملته ، ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه . وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي . ولا نعلم فيه مخالفا . ويجوز أن يبيت فيه . وظاهر كلام الخرقي أن رحبة المسجد ليست منه ، وليس للمعتكف الخروج إليها ، لقوله في الحائض : يضرب لها خباء في الرحبة . والحائض ممنوعة من المسجد . وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا . وروى عنه المروذي أن المعتكف يخرج إلى رحبة المسجد ، هي من المسجد . قال القاضي : إن كان عليها حائط وباب فهي كالمسجد ؛ لأنها معه ، وتابعة له ، وإن لم تكن محوطة ، لم يثبت لها حكم المسجد . فكأنه جمع بين الروايتين ، وحملهما على اختلاف الحالين . فإن خرج إلى منارة خارج المسجد للأذان ، بطل اعتكافه . قال أبو الخطاب: ويحتمل أن لا يبطل ؛ لأن منارة المسجد كالمتصلة به . مسألة:
قال: [ ومن وطئ فقد أفسد اعتكافه, ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا ] وجملة ذلك أن الوطء في الاعتكاف محرم بالإجماع والأصل فيه قول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها} فإن وطئ في الفرج متعمدا أفسد اعتكافه, بإجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر عنهم ولأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها كالحج والصوم وإن كان ناسيا فكذلك عند إمامنا وأبي حنيفة, ومالك وقال الشافعي: لا يفسد اعتكافه لأنها مباشرة لا تفسد الصوم فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج ولنا, أن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد ولا نسلم أنها لا تفسد الصوم ولأن المباشرة دون الفرج لا تفسد الاعتكاف, إلا إذا اقترن بها الإنزال إذا ثبت هذا فلا كفارة بالوطء في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام الخرقي وقول عطاء والنخعي, وأهل المدينة ومالك وأهل العراق, والثوري وأهل الشام والأوزاعي ونقل حنبل عن أحمد أن عليه كفارة وهو قول الحسن, والزهري واختيار القاضي لأنه عبادة يفسدها الوطء لعينه فوجبت الكفارة بالوطء فيها, كالحج وصوم رمضان ولنا أنها عبادة لا تجب بأصل الشرع فلم تجب بإفسادها كفارة, كالنوافل ولأنها عبادة لا يدخل المال في جبرانها فلم تجب الكفارة بإفسادها, كالصلاة ولأن وجوب الكفارة إنما يثبت بالشرع ولم يرد الشرع بإيجابها, فتبقى على الأصل وما ذكروه ينتقض بالصلاة وصوم غير رمضان والقياس على الحج لا يصح لأنه مباين لسائر العبادات ولهذا يمضي في فاسده ويلزم بالشروع فيه, ويجب بالوطء فيه بدنة بخلاف غيره ولأنه لو وجبت الكفارة ها هنا بالقياس عليه للزم أن يكون بدنة لأن الحكم في الفرع يثبت على صفة الحكم في الأصل, إذ كان القياس إنما هو توسعة مجرى الحكم فيصير النص الوارد في الأصل واردا في الفرع فيثبت فيه الحكم الثابت في الأصل بعينه وأما القياس على الصوم فهو دال على نفي الكفارة لأن الصوم كله لا يجب بالوطء فيه كفارة سوى رمضان, والاعتكاف أشبه بغير رمضان لأنه نافلة لا يجب إلا بالنذر ثم لا يصح قياسه على رمضان أيضا لأن الوطء فيه إنما أوجب الكفارة لحرمة الزمان ولذلك يجب على كل من لزمه الإمساك, وإن لم يفسد به صوما واختلف موجبو الكفارة فيها فقال القاضي: يجب كفارة الظهار وهو قول الحسن والزهري, وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه روي عن الزهري أنه قال: من أصاب في اعتكافه فهو كهيئة المظاهر ثم قال أبو عبد الله: إذا كان نهارا وجبت عليه الكفارة ويحتمل أن أبا عبد الله إنما أوجب عليه الكفارة إذا فعل ذلك في رمضان لأنه اعتبر ذلك في النهار لأجل الصوم, ولو كان لمجرد الاعتكاف لما اختص الوجوب بالنهار كما لم يختص الفساد به وحكي عن أبي بكر أن عليه كفارة يمين ولم أر هذا عن أبي بكر في كتاب "الشافي" ولعل أبا بكر إنما أوجب عليه كفارة في موضع تضمن الإفساد الإخلال بالنذر, فوجبت لمخالفته نذره وهي كفارة يمين فأما في غير ذلك فلا لأن الكفارة إنما تجب بنص أو إجماع أو قياس وليس ها هنا نص ولا إجماع ولا قياس, فإن نظير الاعتكاف الصوم ولا يجب بإفساده كفارة إذا كان تطوعا ولا منذورا ما لم يتضمن الإخلال بنذره فيجب به كفارة يمين, كذلك هذا. فصل:
فأما المباشرة دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها, مثل أن تغسل رأسه أو تفليه أو تناوله شيئا لأن النبي -ﷺ- كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله وإن كانت عن شهوة, فهي محرمة لقول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ولقول عائشة: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة, ولا يباشرها رواه أبو داود ولأنه لا يأمن إفضاءها إلى إفساد الاعتكاف وما أفضى إلى الحرام كان حراما فإن فعل فأنزل, فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد وبهذا قال أبو حنيفة, والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر: يفسد في الحالين وهو قول مالك لأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف, كما لو أنزل ولنا أنها مباشرة لا تفسد صوما ولا حجا فلم تفسد الاعتكاف, كالمباشرة لغير شهوة وفارق التي أنزل بها لأنها تفسد الصوم ولا كفارة عليه إلا على رواية حنبل.
فصل: وإن ارتد, فسد اعتكافه لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} ولأنه خرج بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف وإن شرب ما أسكره فسد اعتكافه, لخروجه عن كونه من أهل المسجد.
فصل: وكل موضع فسد اعتكافه فإن كان تطوعا فلا قضاء عليه لأن التطوع لا يلزم بالشروع فيه في غير الحج والعمرة وإن كان نذرا نظرنا, فإن كان نذر أياما متتابعة فسد ما مضى من اعتكافه واستأنف لأن التتابع وصف في الاعتكاف, وقد أمكنه الوفاء به فلزمه وإن كان نذر أياما معينة, كالعشرة الأواخر من شهر رمضان ففيه وجهان: أحدهما يبطل ما مضى, ويستأنفه لأنه نذر اعتكافا متتابعا فبطل بالخروج منه كما لو قيده بالتتابع بلفظه والثاني, لا يبطل لأن ما مضى منه قد أدى العبادة فيه أداء صحيحا فلم يبطل بتركها في غيره كما لو أفطر في أثناء شهر رمضان, والتتابع ها هنا حصل ضرورة التعيين والتعيين مصرح به وإذا لم يكن بد من الإخلال بأحدهما ففيما حصل ضرورة أولى, ولأن وجوب التتابع من حيث الوقت لا من حيث النذر فالخروج في بعضه لا يبطل ما مضى منه, كصوم رمضان إذا أفطر فيه فعلى هذا يقضي ما أفسد فيه حسب وعليه الكفارة على الوجهين جميعا لأنه تارك لبعض ما نذره وأصل الوجهين في من نذر صوما معينا فأفطر في بعضه, فإن فيه روايتين كالوجهين اللذين ذكرناهما.
فصل: إذا نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم فأفطر يوما, أفسد تتابعه ووجب استئناف الاعتكاف لإخلاله بالإتيان بما نذره على صفته.
مسألة: قال: [ وإذا وقعت فتنة خاف منها ترك اعتكافه, فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياما معلومة وقضى ما ترك, وكفر كفارة يمين وكذلك في النفير إذا احتيج إليه ] وجملته أنه إذا وقعت فتنة خاف منها على نفسه إن قعد في المسجد أو على ماله نهبا أو حريقا, فله ترك الاعتكاف والخروج لأن هذا مما أباح الله تعالى لأجله ترك الواجب بأصل الشرع وهو الجمعة والجماعة فأولى أن يباح لأجله ترك ما أوجبه على نفسه, وكذلك إن تعذر عليه المقام في المسجد لمرض لا يمكنه المقام معه فيه كالقيام المتدارك أو سلس البول, أو الإغماء أو لا يمكنه المقام إلا بمشقة شديدة مثل أن يحتاج إلى خدمة وفراش, فله الخروج وإن كان المرض خفيفا كالصداع ووجع الضرس, ونحوه فليس له الخروج فإن خرج بطل اعتكافه وله الخروج إلى ما يتعين عليه من الواجب مثل الخروج في النفير إذا عم, أو حضر عدو يخافون كلبه واحتيج إلى خروج المعتكف لزمه الخروج لأنه واجب متعين, فلزم الخروج إليه كالخروج إلى الجمعة وإذا خرج ثم زال عذره نظرنا, فإن كان تطوعا فهو مخير إن شاء رجع إلى معتكفه وإن شاء لم يرجع, وإن كان واجبا رجع إلى معتكفه فبنى على ما مضى من اعتكافه ثم لا يخلو النذر من ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون نذر اعتكافا في أيام غير متتابعة ولا معينة, فهذا لا يلزمه قضاء بل يتم ما بقي عليه لكنه يبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله, ليكون متتابعا ولا كفارة عليه لأنه أتى بما نذر على وجهه فلا يلزمه كفارة كما لو لم يخرج الثاني, نذر أياما معينة كشهر رمضان فعليه قضاء ما ترك, وكفارة يمين بمنزلة تركه المنذور في وقته ويحتمل أن لا يلزمه كفارة على ما سنذكره, إن شاء الله الثالث نذر أياما متتابعة فهو مخير بين البناء والقضاء والتكفير, وبين الابتداء ولا كفارة عليه لأنه يأتي بالمنذور على وجهه فلم يلزمه كفارة, كما لو أتى به من غير أن يسبقه الاعتكاف الذي قطعه وذكر الخرقي مثل هذا في الصيام فقال: ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه, فإذا عوفي بنى على ما مضى من صيامه وقضى ما ترك وكفر كفارة يمين, وإن أحب أتى بشهر متتابع ولا كفارة عليه وقال أبو الخطاب في من ترك الصيام المنذور لعذر: فعن أحمد فيه رواية أخرى, أنه لا كفارة عليه وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد لأن المنذور كالمشروع ابتداء, ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شيء فكذلك المنذور وقال القاضي: إن خرج لواجب, كالجهاد تعين أو أداء شهادة واجبة فلا كفارة عليه لأنه خروج واجب لحق الله تعالى, فلم يجب به شيء كالمرأة تخرج لحيضها أو نفاسها وحمل كلام الخرقي على أنه يبني على ما مضى دون إيجاب الكفارة وظاهر كلام الخرقي, أن عليه الكفارة لأن النذر كاليمين ومن حلف على فعل شيء فحنث لزمته الكفارة, سواء كان لعذر أو غيره وسواء كانت المخالفة واجبة أو لم تكن ويفارق صوم رمضان, فإن الإخلال به والفطر فيه لغير عذر لا يوجب الكفارة ويفارق الحيض فإنه يتكرر, ويظن وجوده في زمن النذر فيصير كالخروج لحاجة الإنسان وكالمستثنى بلفظه.
مسألة: قال: [ والمعتكف لا يتجر, ولا يتكسب بالصنعة ] وجملته أن المعتكف لا يجوز له أن يبيع ولا يشتري إلا ما لا بد له منه قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: المعتكف لا يبيع ولا يشتري إلا ما لا بد له منه طعام أو نحو ذلك, فأما التجارة والأخذ والعطاء فلا يجوز شيء من ذلك وقال الشافعي: لا بأس أن يبيع ويشتري, ويخيط ويتحدث ما لم يكن مأثما، ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي -ﷺ- نهى عن البيع والشراء في المسجد) رواه الترمذي, وقال: حديث حسن ورأى عمران القصير رجلا يبيع في المسجد فقال: يا هذا إن هذا سوق الآخرة, فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدنيا وإذا منع من البيع والشراء في غير حال الاعتكاف ففيه أولى فأما الصنعة فظاهر كلام الخرقي, أنه لا يجوز منها ما يكتسب به لأنه بمنزلة التجارة بالبيع والشراء ويجوز ما يعمله لنفسه كخياطة قميصه ونحوه وقد روى المروذي قال: سألت أبا عبد الله عن المعتكف, ترى له أن يخيط؟ قال: لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل وقال القاضي: لا تجوز الخياطة في المسجد سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن قل أو كثر لأن ذلك معيشة أو تشغل عن الاعتكاف, فأشبه البيع والشراء فيه والأولى أن يباح له ما يحتاج إليه من ذلك إذا كان يسيرا مثل أن ينشق قميصه فيخيطه, أو ينحل شيء يحتاج إلى ربط فيربطه لأن هذا يسير تدعو الحاجة إليه فجرى مجرى لبس قميصه وعمامته وخلعهما.
فصل: يستحب للمعتكف التشاغل بالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة, ويجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال ولا يكثر الكلام لأن من كثر كلامه كثر سقطه وفي الحديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف, ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظوره وعكسه الوطء ولا بأس بالكلام لحاجته ومحادثة غيره, فإن صفية زوجة النبي -ﷺ- قالت: (كان رسول الله -ﷺ- معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته, ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد - فمر رجلان من الأنصار, فلما رأيا النبي -ﷺ- أسرعا فقال النبي -ﷺ-: على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا: سبحان الله يا رسول الله, فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أو قال: شيئا) متفق عليه وقال علي رضي الله عنه: أيما رجل اعتكف فلا يساب, ولا يرفث في الحديث ويأمر أهله بالحاجة - أي وهو يمشي - ولا يجلس عندهم رواه الإمام أحمد. فصل:
فأما إقراء القرآن وتدريس العلم ودرسه, ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث ونحو ذلك مما يتعدى نفعه, فأكثر أصحابنا على أنه لا يستحب وهو ظاهر كلام أحمد وقال أبو الحسن الآمدي: في استحباب ذلك روايتان واختار أبو الخطاب أنه مستحب إذا قصد به طاعة الله تعالى لا المباهاة وهذا مذهب الشافعي لأن ذلك أفضل العبادات, ونفعه يتعدى فكان أولى من تركه كالصلاة واحتج أصحابنا بأن النبي -ﷺ- كان يعتكف فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به, ولأن الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد فلم يستحب فيها ذلك كالطواف, وما ذكروه يبطل بعيادة المرضى وشهود الجنازة فعلى هذا القول فعله لهذه الأفعال أفضل من الاعتكاف قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا يقرئ في المسجد, وهو يريد أن يعتكف ولعله أن يختم في كل يوم؟ فقال: إذا فعل هذا كان لنفسه وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره, يقرئ أحب إلي. وسئل: أيما أحب إليك الاعتكاف أو الخروج إلى عبادان؟ قال: ليس يعدل الجهاد عندي شيء يعني أن الخروج إلى عبادان أفضل من الاعتكاف. فصل:
وليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام وظاهر الأخبار تحريمه قال قيس بن مسلم: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس, يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة فقال لها: تكلمي, فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت. رواه البخاري وروى أبو داود بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (لا صمات يوم إلى الليل) وروي عن النبي -ﷺ- أنه (نهى عن صوم الصمت) فإن نذر ذلك في اعتكافه أو غيره لم يلزمه الوفاء به وبهذا قال الشافعي, وأصحاب الرأي وابن المنذر ولا نعلم فيه مخالفا لما روى ابن عباس قال: (بينا النبي -ﷺ- يخطب إذا هو برجل قائم, فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم, ويصوم فقال النبي -ﷺ-: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد, وليتم صومه) رواه البخاري ولأنه نذر فعل منهي عنه فلم يلزمه كنذر المباشرة في المسجد وإن أراد فعله لم يكن له ذلك, سواء نذره أو لم ينذره وقال أبو ثور وابن المنذر: له فعله إذا كان أسلم ولنا النهي عنه, وظاهره التحريم والأمر بالكلام ومقتضاه الوجوب, وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وهذا صريح ولم يخالفه أحد من الصحابة فيما علمناه, واتباع ذلك أولى. فصل:
ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما هو له فأشبه استعمال المصحف في التوسد ونحوه وقد جاء: لا تناظروا بكتاب الله قيل: معناه لا تتكلم به عند الشيء تراه, كأن ترى رجلا قد جاء في وقته فتقول: ثم جئت على قدر يا موسى أو نحوه ذكر أبو عبيد نحو هذا المعنى. مسألة:
قال: [ ولا بأس أن يتزوج في المسجد ويشهد النكاح ] وإنما كان كذلك, لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب فلم تحرم النكاح كالصوم ولأن النكاح طاعة, وحضوره قربة ومدته لا تتطاول فيتشاغل به عن الاعتكاف, فلم يكره فيه كتشميت العاطس ورد السلام.
فصل: ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظف (لأن النبي -ﷺ- كان يرجل رأسه وهو معتكف وله أن يتطيب, ويلبس الرفيع من الثياب) وليس ذلك بمستحب قال أحمد: لا يعجبني أن يتطيب وذلك لأن الاعتكاف عبادة تختص مكانا فكان ترك الطيب فيها مشروعا كالحج وليس ذلك بمحرم لأنه لا يحرم اللباس ولا النكاح فأشبه الصوم.
فصل: ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد, ويضع سفرة يسقط عليها ما يقع منه كي لا يلوث المسجد, ويغسل يده في الطست ليفرغ خارج المسجد ولا يجوز أن يخرج لغسل يده لأن له من ذلك بدا وهل يكره تجديد الطهارة في المسجد؟ فيه روايتان: إحداهما, لا يكره لأن أبا العالية قال: حدثني من كان يخدم النبي -ﷺ- قال: أما ما حفظت لكم منه (أنه كان يتوضأ في المسجد) وعن ابن عمر أنه قال: (كان يتوضأ في المسجد الحرام على عهد رسول الله -ﷺ- الرجال والنساء) وعن ابن سيرين قال: كان أبو بكر وعمر, والخلفاء يتوضئون في المسجد وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعطاء, وطاوس وابن جريج والأخرى يكره لأنه لا يسلم من أن يبصق في المسجد أو يتمخط, والبصاق في المسجد خطيئة ويبل من المسجد مكانا يمنع المصلين من الصلاة فيه وإن خرج عن المسجد للوضوء وكان تجديدا, بطل لأنه خروج لما له منه بد وإن كان وضوءا من حدث لم يبطل لأن الحاجة داعية إليه, سواء كان في وقت الصلاة أو قبلها لأنه لا بد من الوضوء للمحدث وإنما يتقدم عن وقت الحاجة إليه لمصلحة وهو كونه على وضوء, وربما يحتاج إلى صلاة النافلة به.
فصل: إذا أراد أن يبول في المسجد في طست لم يبح له ذلك لأن المساجد لم تبن لهذا وهو مما يقبح ويفحش ويستخفى به, فوجب صيانة المسجد عنه كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله وإن أراد الفصد أو الحجامة فيه, فكذلك ذكره القاضي لأنه إراقة نجاسة في المسجد فأشبه البول فيه وإن دعت إليه حاجة كبيرة خرج من المسجد ففعله, وإن استغنى عنه لم يكن له الخروج إليه كالمرض الذي يمكن احتماله وقال ابن عقيل: يحتمل أن يجوز الفصد في المسجد في طست بدليل أن المستحاضة يجوز لها الاعتكاف, ويكون تحتها شيء يقع فيه الدم قالت عائشة: (اعتكفت مع رسول الله -ﷺ- امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة, وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي) رواه البخاري والفرق بينهما أن المستحاضة لا يمكنها التحرز من ذلك إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد.
مسألة: قال: [ والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة تخرج لقضاء العدة وتفعل كما فعل الذي خرج لفتنة ] وجملته أن المعتكفة إذا توفي زوجها لزمها الخروج لقضاء العدة, وبهذا قال الشافعي وقال ربيعة ومالك وابن المنذر: تمضي في اعتكافها, حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتد فيه لأن الاعتكاف المنذور واجب والاعتداد في البيت واجب, فقد تعارض واجبان فيقدم أسبقهما ولنا أن الاعتداد في بيت زوجها واجب فلزمها الخروج إليه, كالجمعة في حق الرجل ودليلهم ينتقض بالخروج إلى الجمعة وسائر الواجبات وظاهر كلام الخرقي أنها كالذي خرج لفتنة وأنها تبني وتقضي وتكفر وقال القاضي: لا كفارة عليها لأن خروجها واجب وقد مضى القول فيه.
فصل: وليس للزوجة أن تعتكف إلا بإذن زوجها, ولا للمملوك أن يعتكف إلا بإذن سيده لأن منافعهما مملوكة لغيرهما والاعتكاف يفوتها ويمنع استيفاءها, وليس بواجب عليهما بالشرع فكان لهما المنع منه وأم الولد والمدبر كالقن في هذا لأن الملك باق فيهما فإن أذن السيد والزوج لهما, ثم أراد إخراجهما منه بعد شروعهما فيه فلهما ذلك في التطوع وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في العبد كقولنا وفي الزوجة: ليس لزوجها إخراجها لأنها تملك بالتمليك, فالإذن أسقط حقه من منافعها وأذن لها في استيفائها فلم يكن له الرجوع فيها, كما لو أذن لها في الحج فأحرمت به بخلاف العبد فإنه لا يملك بالتمليك وقال مالك: ليس له تحليلهما لأنهما عقدا على أنفسهما تمليك منافع كانا يملكانها لحق الله تعالى فلم يجز الرجوع فيها, كما لو أحرما بالحج بإذنهما ولنا أن لهما المنع منه ابتداء فكان لهما المنع منه دواما, كالعارية ويخالف الحج لأنه يلزم بالشروع فيه بخلاف الاعتكاف على ما مضى من الخلاف فيه, فإن كان ما أذنا فيه منذورا لم يكن لهما تحليلهما منه لأنه يتعين بالشروع فيه ويجب إتمامه, فيصير كالحج إذا أحرما به فأما إن نذرا الاعتكاف فأراد السيد والزوج منعهما الدخول فيه نظرت فإن كان النذر بإذنهما, وكان معينا لم يملكا منعهما منه لأنه وجب بإذنهما وإن كان بغير إذنهما, فلهما منعهما منه لأن نذرهما تضمن تفويت حق غيرهما بغير إذنه فكان لصاحب الحق المنع منه وإن كان النذر المأذون فيه غير معين فهل لهما منعهما؟ على وجهين أحدهما, لهما منعهما لأن حقهما ثابت في كل زمن فكان تعيين زمن سقوطه إليهما كالدين والثاني ليس لهما ذلك لأنه وجب التزامه بإذنهما, فأشبه المعين وأما المعتق بعضه فإن كان بينه وبين سيده مهايأة فله أن يعتكف في يومه بغير إذن سيده لأن منافعه غير مملوكة لسيده في هذا اليوم, وحكمه في يوم سيده حكم القن فإن لم يكن بينهما مهايأة فلسيده منعه لأن له ملكا في منافعه في كل وقت. فصل:
وأما المكاتب فليس لسيده منعه من واجب ولا تطوع لأنه لا يستحق منافعه, وليس له إجباره على الكسب وإنما له دين في ذمته فهو كالحر المدين.
مسألة: قال: [ وإذا حاضت المرأة, خرجت من المسجد وضربت خباء في الرحبة ] أما خروجها من المسجد فلا خلاف فيه لأن الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد, فهو كالجنابة وآكد منه وقد قال النبي -ﷺ-: (لا أحل المسجد لحائض, ولا جنب) رواه أبو داود وإذا ثبت هذا فإن المسجد إن لم يكن له رحبة رجعت إلى بيتها فإذا طهرت رجعت فأتمت اعتكافها, وقضت ما فاتها ولا كفارة عليها نص عليه أحمد لأنه خروج معتاد واجب أشبه الخروج للجمعة, أو لما لا بد منه وإن كانت له رحبة خارجة من المسجد يمكن أن تضرب فيها خباءها فقال الخرقي: تضرب خباءها فيها مدة حيضها وهو قول أبي قلابة وقال النخعي: تضرب فسطاطها في دارها, فإذا طهرت قضت تلك الأيام وإن دخلت بيتا أو سقفا استأنفت وقال الزهري وعمرو بن دينار, وربيعة ومالك والشافعي: ترجع إلى منزلها, فإذا طهرت فلترجع لأنه وجب عليها الخروج من المسجد فلم يلزمها الإقامة في رحبته كالخارجة لعدة, أو خوف فتنة ووجه قول الخرقي ما روى المقدام بن شريح عن عائشة قالت: (كن المعتكفات إذا حضن أمر رسول الله -ﷺ- بإخراجهن من المسجد, وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن) رواه أبو حفص بإسناده وفارق المعتدة فإن خروجها لتقيم في بيتها وتعتد فيه, ولا يحصل ذلك مع الكون في الرحبة وكذلك الخائفة من الفتنة خروجها لتسلم من الفتنة فلا تقيم في موضع لا تحصل السلامة بالإقامة فيه والظاهر أن إقامتها في الرحبة مستحب وليس بواجب وإن لم تقم في الرحبة, ورجعت إلى منزلها أو غيره فلا شيء عليها لأنها خرجت بإذن الشرع ومتى طهرت رجعت إلى المسجد فقضت وبنت, ولا كفارة عليها لا نعلم فيه خلافا لأنه خروج لعذر معتاد أشبه الخروج لقضاء الحاجة وقول إبراهيم تحكم لا دليل عليه. فصل:
فأما الاستحاضة فلا تمنع الاعتكاف لأنها لا تمنع الصلاة ولا الطواف, وقد قالت عائشة: (اعتكفت مع رسول الله -ﷺ- امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي) أخرجه البخاري إذا ثبت هذا فإنها تتحفظ وتتلجم, لئلا تلوث المسجد فإن لم يمكن صيانته منها خرجت من المسجد لأنه عذر وخروج لحفظ المسجد من نجاستها فأشبه الخروج لقضاء حاجة الإنسان.
فصل: الخروج المباح في الاعتكاف الواجب ينقسم أربعة أقسام أحدها, ما لا يوجب قضاء ولا كفارة وهو الخروج لحاجة الإنسان وشبهه مما لا بد منه والثاني: ما يوجب قضاء بلا كفارة, وهو الخروج للحيض والثالث ما يوجب قضاء وكفارة وهو الخروج لفتنة, وشبهه مما يخرج لحاجة نفسه والرابع ما يوجب قضاء وفي الكفارة وجهان وهو الخروج لواجب, كالخروج في النفير أو العدة ففي قول القاضي لا كفارة عليه لأنه واجب لحق الله تعالى, أشبه الخروج للحيض وظاهر كلام الخرقي وجوبها لأنه خروج غير معتاد فأوجب الكفارة كالخروج لفتنة.
مسألة: قال: [ ومن نذر أن يعتكف شهرا بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس ] وهذا قول مالك, والشافعي وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنه يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر من أوله وهو قول الليث وزفر (لأن النبي -ﷺ- كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح, ثم دخل معتكفه) متفق عليه ولأن الله تعالى قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ولا يلزم الصوم إلا من قبل طلوع الفجر ولأن الصوم شرط في الاعتكاف فلم يجز ابتداؤه قبل شرطه ولنا أنه نذر الشهر, وأوله غروب الشمس ولهذا تحل الديون المعلقة به ويقع الطلاق والعتاق المعلقان به, ووجب أن يدخل قبل الغروب ليستوفي جميع الشهر فإنه لا يمكن إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, كإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم وأما الصوم فإن محله النهار فلا يدخل فيه شيء من الليل في أثنائه ولا ابتدائه, إلا ما حصل ضرورة بخلاف الاعتكاف وأما الحديث فقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به على أن الخبر إنما هو في التطوع فمتى شاء دخل, وفي مسألتنا نذر شهرا فيلزمه اعتكاف شهر كامل ولا يحصل إلا أن يدخل فيه قبل غروب الشمس من أوله, ويخرج بعد غروبها من آخره فأشبه ما لو نذر اعتكاف يوم فإنه يلزمه الدخول فيه قبل طلوع فجره, ويخرج بعد غروب شمسه.
فصل: وإن أحب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تطوعا ففيه روايتان: إحداهما يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين لما روي عن أبي سعيد (أن رسول الله -ﷺ- كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان, حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال: من كان اعتكف معي, فليعتكف العشر الأواخر) متفق عليه ولأن العشر بغير هاء عدد الليالي فإنها عدد المؤنث قال الله تعالى: {وليال عشر} وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين والرواية الثانية, يدخل بعد صلاة الصبح قال حنبل قال أحمد: أحب إلى أن يدخل قبل الليل ولكن حديث عائشة (أن النبي -ﷺ- كان يصلي الفجر, ثم يدخل معتكفه) وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق ووجهه ما روت عمرة عن عائشة (أن النبي -ﷺ- كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه) متفق عليه وإن نذر اعتكاف العشر, ففي وقت دخوله الروايتان جميعا.
فصل: ومن اعتكف العشر الأواخر من رمضان استحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه نص عليه أحمد وروي عن النخعي وأبي مجلز, وأبي بكر بن عبد الرحمن والمطلب بن حنطب وأبي قلابة, أنهم كانوا يستحبون ذلك وروى الأثرم بإسناده عن أيوب عن أبي قلابة, أنه كان يبيت في المسجد ليلة الفطر ثم يغدو كما هو إلى العيد وكان - يعني في اعتكافه - لا يلقى له حصير ولا مصلى يجلس عليه, كان يجلس كأنه بعض القوم قال: فأتيته في يوم الفطر فإذا في حجره جويرية مزينة ما ظننتها إلا بعض بناته فإذا هي أمة له, فأعتقها وغدا كما هو إلى العيد وقال إبراهيم: كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد, ثم يغدو إلى المصلى من المسجد.
فصل: وإذا نذر اعتكاف شهر لزمه شهر بالأهلة أو ثلاثون يوما وهل يلزمه التتابع؟ على وجهين بناء على الروايتين في نذر الصوم أحدهما, لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأنه معنى يصح فيه التفريق فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر كالصيام والثاني, يلزمه التتابع وهو قول أبي حنيفة ومالك وقال القاضي: يلزمه التتابع قولا واحدا لأنه معنى يحصل في الليل والنهار فإذا أطلقه اقتضى التتابع كما لو حلف لا يكلم زيدا شهرا, وكمدة الإيلاء والعنة والعدة وبهذا فارق الصيام فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك, وإن كان ناقصا وإن اعتكف ثلاثين يوما من شهرين جاز وتدخل فيه الليالي لأن الشهر عبارة عنهما, ولا يجزئه أقل من ذلك وإن قال: لله علي أن أعتكف أيام هذا الشهر أو ليالي هذا الشهر لزمه ما نذر ولم يدخل فيه غيره وكذلك إن قال: شهرا في النهار, أو في الليل.
فصل: وإن قال: لله علي أن أعتكف ثلاثين يوما فعلى قول القاضي يلزمه التتابع وقال أبو الخطاب: لا يلزمه لأن اللفظ يقتضي ما تناوله والأيام المطلقة توجد بدون التتابع, فلا يلزمه كما لو قال: لله علي أن أصوم ثلاثين يوما فعلى قول القاضي: يدخل فيه الليالي الداخلة في الأيام المنذورة كما لو نذر شهرا ومن لم يوجب التتابع لا يقتضي أن تدخل الليالي فيه, إلا أن ينويه فإن نوى التتابع أو شرطه لزمه, ودخل الليل فيه ويلزمه ما بين الأيام من الليالي وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يلزمه من الليالي بعدد الأيام, إذا كان على وجه الجمع والتثنية يدخل فيه مثله من الليالي والليالي تدخل معها الأيام, بدليل قوله تعالى: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} وقال في موضع آخر: {ثلاثة أيام إلا رمزا} ولنا أن اليوم اسم لبياض النهار والتثنية والجمع تكرار للواحد, وإنما تدخل الليالي تبعا لوجوب التتابع ضمنا وهذا يحصل بما بين الأيام خاصة فاكتفي به وأما الآية فإن الله تعالى نص على الليل في موضع والنهار في موضع, فصار منصوصا عليهما فإن نذر اعتكاف يومين متتابعين لزمه يومان وليلة بينهما وإن نذر اعتكاف يومين مطلقا فعلى قول القاضي, هو كما لو نذرهما متتابعين وكذلك لو نذر ليلتين لزمه اليوم الذي بينهما وعلى قول أبي الخطاب لا يلزمه التتابع, ولا ما بينهما إلا بلفظه أو نيته.
فصل: وإن نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه, ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس وقال مالك: يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم كقولنا في الشهر لأن الليل يتبع النهار, بدليل ما لو كان متتابعا ولنا أن الليلة ليست من اليوم وهي من الشهر قال الخليل: اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وإنما دخل الليل في المتتابع ضمنا, ولهذا خصصناه بما بين الأيام وإن نذر اعتكاف ليلة لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر, وليس له تفريق الاعتكاف وقال الشافعي: له تفريقه هذا ظاهر كلامه قياسا على تفريق الشهر ولنا أن إطلاق اليوم يفهم منه التتابع, فيلزمه كما لو قال: متتابعا وفارق الشهر فإنه اسم لما بين الهلالين, واسم لثلاثين يوما واسم لغير ذلك واليوم لا يقع في الظاهر إلا على ما ذكرنا وإن قال في وسط النهار: لله علي أن أعتكف يوما من وقتي هذا لزمه الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله, ويدخل فيه الليل لأنه في خلال نذره فصار كما لو نذر يومين متتابعين وإنما لزمه بعض يومين لتعيينه ذلك بنذره, فعلمنا أنه أراد ذلك ولم يرد يوما صحيحا.
فصل: وإن نذر اعتكافا مطلقا لزمه ما يسمى به معتكفا, ولو ساعة من ليل أو نهار إلا على قولنا بوجوب الصوم في الاعتكاف فيلزمه يوم كامل, فأما اللحظة وما لا يسمى به معتكفا فلا يجزئه, على الروايتين جميعا.
فصل: ولا يتعين شيء من المساجد بنذره الاعتكاف فيه إلا المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام, ومسجد النبي -ﷺ- والمسجد الأقصى لقول رسول الله -ﷺ-: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) متفق عليه ولو تعين غيرها بتعيينه لزمه المضي إليه, واحتاج إلى شد الرحال لقضاء نذره فيه ولأن الله تعالى لم يعين لعبادته مكانا فلم يتعين بتعيين غيره وإنما تعينت هذه المساجد الثلاثة للخبر الوارد فيها, ولأن العبادة فيها أفضل فإذا عين ما فيه فضيلة لزمته, كأنواع العبادة وبهذا قال الشافعي في صحيح قوليه وقال في الآخر: لا يتعين المسجد الأقصى لأن النبي -ﷺ- قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) رواه مسلم وهذا يدل على التسوية فيما عدا هذين المسجدين لأن المسجد الأقصى لو فضلت الصلاة فيه على غيره للزم أحد أمرين إما خروجه من عموم هذا الحديث, وإما كون فضيلته بألف مختصا بالمسجد الأقصى ولنا أنه من المساجد التي تشد الرحال إليها فتعين بالتعيين في النذر, كمسجد النبي -ﷺ- وما ذكروه لا يلزم فإنه إذا فضل الفاضل بألف فقد فضل المفضول بها أيضا.
فصل: وإن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام, لم يكن له الاعتكاف فيما سواه لأنه أفضلها ولأن عمر (نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية فسأل النبي -ﷺ-؟ فقال: أوف بنذرك) متفق عليه وإن نذر أن يعتكف في مسجد النبي -ﷺ-, جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام لأنه أفضل منه ولم يجز أن يعتكف في المسجد الأقصى لأن مسجد النبي -ﷺ- أفضل منه وقال قوم: مسجد النبي -ﷺ- أفضل من المسجد الحرام لأن النبي -ﷺ- إنما دفن في خير البقاع وقد نقله الله تعالى من مكة إلى المدينة, فدل على أنها أفضل ولنا قول رسول الله -ﷺ-: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) وروي في خبر, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فيما سواه) رواه ابن ماجه فيدخل في عمومه مسجد النبي -ﷺ- فتكون الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة فيما سوى مسجد النبي -ﷺ- فأما إن نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجدين الآخرين لأنهما أفضل منه وقد روى الإمام أحمد في "مسنده", عن رجال من الأنصار من أصحاب النبي -ﷺ- (أن رجلا جاء إلى النبي -ﷺ- يوم الفتح والنبي -ﷺ- في مجلس قريبا من المقام, فسلم على النبي -ﷺ- وقال: يا نبي الله إني نذرت لئن فتح الله للنبي -ﷺ- والمؤمنين مكة لأصلين في بيت المقدس, وإني وجدت رجلا من أهل الشام ها هنا في قريش مقبلا معي ومدبرا فقال رسول الله -ﷺ-: ها هنا فصل فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات كل ذلك يقول النبي -ﷺ-: ها هنا فصل ثم قال الرابعة مقالته هذه, فقال النبي -ﷺ-: اذهب فصل فيه فوالذي بعث محمدا بالحق لو صليت ها هنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس) ومتى نذر الاعتكاف في غير هذه المساجد, فانهدم معتكفه ولم يمكن المقام فيه لزمه إتمام الاعتكاف في غيره, ولم يبطل اعتكافه.
فصل: إذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان صح نذره فإن ذلك ممكن فإن قدم في بعض النهار, لزمه اعتكاف الباقي منه ولم يلزمه قضاء ما فات لأنه فات قبل شرط الوجوب فلم يجب, كما لو نذر اعتكاف زمن ماض لكن إذا قلنا: شرط صحة الاعتكاف الصوم لزمه قضاء يوم كامل لأنه لا يمكنه أن يأتي بالاعتكاف في الصوم فيما بقي من النهار ولا قضاؤه متميزا مما قبله فلزمه يوم كامل ضرورة, كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان ويحتمل أن يجزئه اعتكاف ما بقي منه إذا كان صائما لأنه قد وجد اعتكاف مع الصوم وإن قدم ليلا لم يلزمه شيء لأن ما التزمه بالنذر لم يوجد فإن كان للناذر عذر يمنعه الاعتكاف عند قدوم فلان من حبس أو مرض, قضى وكفر لفوات النذر في وقته ويقضي بقية اليوم فقط على حسب ما كان يلزم في الأداء, في الرواية المنصورة وفي الأخرى يقضي يوما كاملا, بناء على اشتراط الصوم في الاعتكاف.
==========
قال أبو القاسم -رحمه الله-: [ والاعتكاف سنة إلا أن يكون نذرا, فيلزم الوفاء به ] لا خلاف في هذه الجملة بحمد الله قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب على الناس فرضا إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيجب عليه ومما يدل على أنه سنة, فعل النبي -ﷺ- ومداومته عليه تقربا إلى الله تعالى وطلبا لثوابه, واعتكاف أزواجه معه وبعده ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا ولا أمرهم النبي -ﷺ- به إلا من أراده وقال عليه السلام: (من أراد أن يعتكف, فليعتكف العشر الأواخر) ولو كان واجبا لما علقه بالإرادة وأما إذا نذره فيلزمه لقول النبي -ﷺ-: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) رواه البخاري وعن عمر أنه قال: (يا رسول الله, إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي -ﷺ-: أوف بنذرك) رواه البخاري ومسلم. فصل:
وإن نوى اعتكاف مدة لم تلزمه فإن شرع فيها فله إتمامها, وله الخروج منها متى شاء وبهذا قال الشافعي وقال مالك: تلزمه بالنية مع الدخول فيه فإن قطعه لزمه قضاؤه وقال ابن عبد البر: لا يختلف في ذلك الفقهاء ويلزمه القضاء عند جميع العلماء وقال: وإن لم يدخل فيه فالقضاء مستحب ومن العلماء من أوجبه وإن لم يدخل فيه, واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي -ﷺ- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فاستأذنته عائشة فأذن لها, فأمرت ببنائها فضرب وسألت حفصة أن تستأذن لها رسول الله -ﷺ- ففعلت فأمرت ببنائها فضرب, فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببنائها فضرب قالت: وكان رسول الله -ﷺ- إذا صلى الصبح دخل معتكفه فلما صلى الصبح انصرف, فبصر بالأبنية فقال: ما هذا؟ فقالوا: بناء عائشة, وحفصة وزينب فقال رسول الله -ﷺ-: البر أردتن ما أنا بمعتكف فرجع فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال) متفق على معناه ولأنها عبادة تتعلق بالمسجد, فلزمت بالدخول فيها كالحج ولم يصنع ابن عبد البر شيئا وهذا ليس بإجماع, ولا نعرف هذا القول عن أحد سواه وقد قال الشافعي: كل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فخرجت منه, فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة ولم يقع الإجماع على لزوم نافلة بالشروع فيها سوى الحج والعمرة وإذا كانت العبادات التي لها أصل في الوجوب لا تلزم بالشروع فما ليس له أصل في الوجوب أولى, وقد انعقد الإجماع على أن الإنسان لو نوى الصدقة بمال مقدر وشرع في الصدقة به فأخرج بعضه, لم تلزمه الصدقة بباقيه وهو نظير الاعتكاف لأنه غير مقدر بالشرع فأشبه الصدقة وما ذكره حجة عليه فإن النبي -ﷺ- ترك اعتكافه, ولو كان واجبا لما تركه وأزواجه تركن الاعتكاف بعد نيته وضرب أبنيتهن له ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب, ولا أمرن بالقضاء وقضاء النبي -ﷺ- له لم يكن واجبا عليه وإنما فعله تطوعا لأنه كان إذا عمل عملا أثبته, وكان فعله لقضائه كفعله لأدائه على سبيل التطوع به لا على سبيل الإيجاب, كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر فتركه له دليل على عدم الوجوب لتحريم ترك الواجب, وفعله للقضاء لا يدل على الوجوب لأن قضاء السنن مشروع فإن قيل: إنما جاز تركه ولم يؤمر تاركه من النساء بقضائه لتركهن إياه قبل الشروع قلنا: فقد سقط الاحتجاج لاتفاقنا على أنه لا يلزم قبل شروعه فيه, فلم يكن القضاء دليلا على الوجوب مع الاتفاق على انتفائه ولا يصح قياسه على الحج والعمرة لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة ومشقة شديدة, وإنفاق مال كثير ففي إبطالهما تضييع لماله وإبطال لأعماله الكثيرة, وقد نهينا عن إضاعة المال وإبطال الأعمال وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه مال يضيع, ولا عمل يبطل فإن ما مضى من اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل, ولأن النسك يتعلق بالمسجد الحرام على الخصوص والاعتكاف بخلافه. مسألة:
قال: [ ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم ] المشهور في المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم روي ذلك عن علي, وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز, والحسن وعطاء وطاوس, والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية أخرى, أن الصوم شرط في الاعتكاف قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وبه قال الزهري, ومالك وأبو حنيفة والليث, والثوري والحسن بن يحيى لما روي عن عائشة عن النبي -ﷺ- (أنه قال: لا اعتكاف إلا بصوم) رواه الدارقطني وعن ابن عمر (أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية, فسأل النبي -ﷺ- فقال: اعتكف وصم) رواه أبو داود ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن بمجرده قربة كالوقوف، ولنا ما روى ابن عمر عن عمر (أنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي -ﷺ-: أوف بنذرك) رواه البخاري ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل, لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح في الليل فلم يشترط له الصيام كالصلاة, ولأنه عبادة تصح في الليل فأشبه سائر العبادات ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع, ولم يصح فيه نص ولا إجماع قال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن أبي سهل, قال: كان على امرأة من أهلي اعتكاف فسألت عمر بن عبد العزيز فقال: ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها فقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم. فقال له عمر: عن النبي -ﷺ-؟ قال: لا. قال: فعن أبي بكر؟ قال: لا قال: فعن عمر؟ قال: لا. قال: وأظنه قال: فعن عثمان؟ قال: لا. فخرجت من عنده, فلقيت عطاء وطاوسا فسألتهما فقال طاوس: كان فلان لا يرى عليها صياما, إلا أن تجعله على نفسها وأحاديثهم لا تصح. أما حديثهم عن عمر فتفرد به ابن بديل, وهو ضعيف قال أبو بكر النيسابوري: هذا حديث منكر والصحيح ما رويناه أخرجه البخاري, والنسائي وغيرهما وحديث عائشة موقوف عليها ومن رفعه فقد وهم, ولو صح فالمراد به الاستحباب فإن الصوم فيه أفضل وقياسهم ينقلب عليهم فإنه لبث في مكان مخصوص فلم يشترط له الصوم كالوقوف, ثم نقول بموجبه فإنه لا يكون قربة بمجرده بل بالنية إذا ثبت هذا فإنه يستحب أن يصوم لأن النبي -ﷺ- كان يعتكف وهو صائم, ولأن المعتكف يستحب له التشاغل بالعبادات والقرب والصوم من أفضلها ويتفرغ به مما يشغله عن العبادات, ويخرج به من الخلاف. فصل:
إذا قلنا: إن الصوم شرط لم يصح اعتكاف ليلة مفردة ولا بعض يوم ولا ليلة وبعض يوم لأن الصوم المشترط لا يصح في أقل من يوم ويحتمل أن يصح في بعض اليوم إذا صام اليوم كله لأن الصوم المشروط وجد في زمن الاعتكاف, ولا يعتبر وجود المشروط في زمن الشرط كله. مسألة:
قال: [ ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه ] يعني تقام الجماعة فيه وإنما اشترط ذلك لأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة وإما خروجه إليها, فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا, والأصل في ذلك قول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} فخصها بذلك ولو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا وفي حديث عائشة, قالت: (إن كان رسول الله -ﷺ- ليدخل على رأسه وهو في المسجد فأرجله, وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا) وروى الدارقطني بإسناده عن الزهري عن عروة, وسعيد بن المسيب عن عائشة في حديث: (وأن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان, ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة) فذهب أبو عبد الله إلى أن كل مسجد تقام فيه الجماعة يجوز الاعتكاف فيه ولا يجوز في غيره وروي عن حذيفة وعائشة, والزهري ما يدل على هذا واعتكف أبو قلابة وسعيد بن جبير في مسجد حيهما وروي عن عائشة والزهري, أنه لا يصح إلا في مساجد الجماعات وهو قول الشافعي إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة لئلا يلتزم الخروج من معتكفه, لما يمكنه التحرز من الخروج إليه وروي عن حذيفة وسعيد بن المسيب: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي وحكي عن حذيفة أن الاعتكاف لا يصح إلا في أحد المساجد الثلاثة قال سعيد: حدثنا مغيرة, عن إبراهيم قال: دخل حذيفة مسجد الكوفة فإذا هو بأبنية مضروبة, فسأل عنها فقيل: قوم معتكفون فانطلق إلى ابن مسعود فقال: ألا تعجب من قوم يزعمون أنهم معتكفون بين دارك ودار الأشعري؟ فقال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت فقال حذيفة: لقد علمت ما الاعتكاف إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, والمسجد الأقصى ومسجد رسول الله -ﷺ- وقال مالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد لعموم قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} وهو قول الشافعي إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة ولنا قول عائشة: من السنة للمعتكف, أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة وقد قيل: إن هذا من قول الزهري وهو ينصرف إلى سنة رسول الله -ﷺ- كيفما كان وروى سعيد: حدثنا هشيم حدثنا جويبر, عن الضحاك عن حذيفة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (كل مسجد له إمام ومؤذن, فالاعتكاف فيه يصلح) ولأن قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} يقتضي إباحة الاعتكاف في كل مسجد إلا أنه يقيد بما تقام فيه الجماعة بالأخبار والمعنى الذي ذكرناه, ففيما عداه يبقى على العموم وقول الشافعي في اشتراطه موضعا تقام فيه الجمعة لا يصح للأخبار ولأن الجمعة لا تتكرر, فلا يضر وجوب الخروج إليها كما لو اعتكفت المرأة مدة يتخللها أيام حيضها ولو كان الجامع تقام فيه الجمعة وحدها ولا يصلى فيه غيرها, لم يجز الاعتكاف فيه ويصح عند مالك والشافعي ومبنى الخلاف على أن الجماعة واجبة عندنا فيلتزم الخروج من معتكفه إليها, فيفسد اعتكافه وعندهم ليست واجبة. فصل:
وإن كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة كليلة أو بعض يوم جاز في كل مسجد لعدم المانع وإن كانت تقام فيه في بعض الزمان, جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره وإن كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور, ومن هو في قرية لا يصلى فيها سواه جاز اعتكافه في كل مسجد لأنه لا تلزمه الجماعة فأشبه المرأة وإن اعتكف اثنان في مسجد لا تقام فيه جماعة, فأقاما الجماعة فيه صح اعتكافهما لأنهما أقاما الجماعة فأشبه ما لو أقامها فيه غيرهما. فصل:
وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها وبهذا قال الشافعي وليس لها الاعتكاف في بيتها وقال أبو حنيفة, والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكي عن أبي حنيفة, أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة (لأن النبي -ﷺ- ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه وقال: البر تردن,) ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل ولنا, قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجدا كان مجازا, فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية كقول النبي -ﷺ-: (جعلت لي الأرض مسجدا) ولأن أزواج النبي -ﷺ- استأذنه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن, ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه, ونبههن عليه ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة, كالطواف وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال, حيث كثرت أبنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن, خشية عليهن من فساد نيتهن وسوء المقصد به ولذلك قال: (البر تردن) منكرا لذلك أي لم تفعلن ذلك تبررا ولذلك ترك الاعتكاف, لظنه أنهن يتنافسن في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن, ولم يأذن لهن في المسجد وأما الصلاة فلا يصح اعتبار الاعتكاف بها فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه. فصل:
ومن سقطت عنه الجماعة من الرجال, كالمريض إذا أحب أن يعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة ينبغي أن يجوز له ذلك لأن الجماعة ساقطة عنه فأشبه المرأة ويحتمل ألا يجوز له ذلك لأنه من أهل الجماعة, فأشبه من تجب عليه ولأنه إذا التزم الاعتكاف وكلفه نفسه, فينبغي أن يجعله في مكان تصلى فيه الجماعة ولأن من التزم ما لا يلزمه لا يصح بدون شروطه كالمتطوع بالصوم والصلاة. فصل:
وإذا اعتكفت المرأة في المسجد, استحب لها أن تستتر بشيء لأن أزواج النبي -ﷺ- لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربن في المسجد ولأن المسجد يحضره الرجال وخير لهم وللنساء أن لا يرونهن ولا يرينهم وإذا ضربت بناء جعلته في مكان لا يصلي فيه الرجال, لئلا تقطع صفوفهم ويضيق عليهم ولا بأس أن يستتر الرجل أيضا فإن النبي -ﷺ- أمر ببنائه فضرب ولأنه أستر له, وأخفى لعمله وروى ابن ماجه عن أبي سعيد (أن رسول الله -ﷺ- اعتكف في قبة تركية على سدتها قطعة حصير قال: فأخذ الحصير بيده, فنحاها في ناحية القبلة ثم أطلع رأسه فكلم الناس) والله أعلم. مسألة:
قال: [ ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان, أو صلاة الجمعة ] وجملة ذلك أن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه إلا لما لا بد له منه قالت عائشة, رضي الله عنها: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لا بد له منه رواه أبو داود وقالت أيضا: (كان رسول الله -ﷺ- إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) متفق عليه ولا خلاف في أن له الخروج لما لا بد له منه قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول ولأن هذا مما لا بد منه ولا يمكن فعله في المسجد, فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه لم يصح لأحد الاعتكاف ولأن النبي -ﷺ- كان يعتكف, وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط كني بذلك عنهما لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما, وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به فله الخروج إليه إذا احتاج إليه, وإن بغته القيء فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد وكل ما لا بد له منه, ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه ولا يفسد اعتكافه وهو عليه, ما لم يطل وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة, ويلزمه السعي إليها فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يعتكف في غير الجامع, إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة فإن نذر اعتكافا متتابعا فخرج منه لصلاة الجمعة بطل اعتكافه, وعليه الاستئناف لأنه أمكنه فرضه بحيث لا يخرج منه فبطل بالخروج كالمكفر إذا ابتدأ صوم الشهرين المتتابعين في شعبان أو ذي الحجة ولنا, أنه خرج لواجب فلم يبطل اعتكافه كالمعتدة تخرج لقضاء العدة, وكالخارج لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق أو أداء شهادة تعينت عليه, ولأنه إذا نذر أياما فيها جمعة فكأنه استثنى الجمعة بلفظه ثم تبطل بما إذا نذرت المرأة أياما فيها عادة حيضها فإنه يصح مع إمكان فرضها في غيرها, والأصل غير مسلم إذا ثبت هذا فإنه إذا خرج لواجب فهو على اعتكافه, ما لم يطل لأنه خروج لما لا بد له منه أشبه الخروج لحاجة الإنسان فإن كان خروجه لصلاة الجمعة فله أن يتعجل قال أحمد: أرجو أن له ذلك, لأنه خروج جائز فجاز تعجيله كالخروج لحاجة الإنسان فإذا صلى الجمعة, فإن أحب أن يعتكف في الجامع فله ذلك لأنه محل للاعتكاف والمكان لا يتعين للاعتكاف بنذره وتعيينه, فمع عدم ذلك أولى وكذلك إن دخل في طريقه مسجدا فأتم اعتكافه فيه جاز لذلك وإن أحب الرجوع إلى معتكفه, فله ذلك لأنه خرج من معتكفه فكان له الرجوع إليه كما لو خرج إلى غير جمعة قال بعض أصحابنا: يستحب له الإسراع إلى معتكفه وقال أبو داود: قلت لأحمد يركع - أعني المعتكف - يوم الجمعة بعد الصلاة في المسجد؟ قال: نعم, بقدر ما كان يركع ويحتمل أن يكون الخيرة إليه في تعجيل الركوع وتأخيره لأنه في مكان يصلح للاعتكاف فأشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه فأما إن خرج ابتداء إلى مسجد آخر أو إلى الجامع من غير حاجة, أو كان المسجد أبعد من موضع حاجته فمضى إليه لم يجز له ذلك لأنه خروج لغير حاجة أشبه ما لو خرج إلى غير المسجد فإن كان المسجدان متلاصقين, يخرج من أحدهما فيصير في الآخر فله الانتقال من أحدهما إلى الآخر لأنهما كمسجد واحد ينتقل من إحدى زاويتيه إلى الأخرى وإن كان يمشي بينهما في غيرهما, لم يجز له الخروج وإن قرب لأنه خروج من المسجد لغير حاجة واجبة. فصل:
وإذا خرج لما لا بد منه فليس عليه أن يستعجل في مشيه بل يمشي على عادته, لأن عليه مشقة في إلزامه غير ذلك وليس له الإقامة بعد قضاء حاجته لأكل ولا لغيره وقال أبو عبد الله بن حامد: يجوز أن يأكل اليسير في بيته كاللقمة واللقمتين, فأما جميع أكله فلا وقال القاضي: يتوجه أن له الأكل في بيته والخروج إليه ابتداء لأن الأكل في المسجد دناءة وترك للمروءة وقد يخفى جنس قوته على الناس, وقد يكون في المسجد غيره فيستحي أن يأكل دونه وإن أطعمه معه لم يكفهما ولنا أن النبي -ﷺ- كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان, وهذا كناية عن الحدث ولأنه خروج لما له منه بد أو لبث في غير معتكفه لما له منه بد, فأبطل الاعتكاف كمحادثة أهله وما ذكره القاضي ليس بعذر يبيح الإقامة ولا الخروج, ولو ساغ ذلك لساغ الخروج للنوم وأشباهه. فصل:
وإن خرج لحاجة الإنسان وبقرب المسجد سقاية أقرب من منزله لا يحتشم من دخولها ويمكنه التنظف فيها, لم يكن له المضي إلى منزله لأن له من ذلك بد وإن كان يحتشم من دخولها أو فيه نقيصة عليه, أو مخالفة لعادته أو لا يمكنه التنظف فيها فله أن يمضي إلى منزله لما عليه من المشقة في ترك المروءة وكذلك إن كان له منزلان أحدهما أقرب من الآخر, يمكنه الوضوء في الأقرب بلا ضرر فليس له المضي إلى الأبعد وإن بذل له صديقه أو غيره الوضوء في منزله القريب لم يلزمه لما عليه من المشقة بترك المروءة والاحتشام من صاحبه قال المروذي: سألت أبا عبد الله, عن الاعتكاف في المسجد الكبير أعجب إليك أو مسجد الحي؟ قال: المسجد الكبير وأرخص لي أن أعتكف في غيره قلت: فأين ترى أن أعتكف في هذا الجانب أو في ذاك الجانب؟ قال: في ذاك الجانب هو أصلح من أجل السقاية قلت: فمن اعتكف في هذا الجانب ترى أن يخرج إلى الشط يتهيأ؟ قال: إذا كان له حاجة لا بد له من ذلك قلت: يتوضأ الرجل في المسجد؟ قال: لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد. فصل:
إذا خرج لما له منه بد بطل اعتكافه وإن قل وبه قال أبو حنيفة, ومالك والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم لأن اليسير معفو عنه, بدليل أن (صفية أتت النبي -ﷺ- تزوره في معتكفه فلما قامت لتنقلب خرج معها ليقلبها) ولأن اليسير معفو عنه بدليل ما لو تأنى في مشيه ولنا, أنه خروج من معتكفه لغير حاجة فأبطله كما لو أقام أكثر من نصف يوم, وأما خروج النبي -ﷺ- فيحتمل أنه لم يكن له بد لأنه كان ليلا فلم يأمن عليها ويحتمل أنه فعل ذلك لكون اعتكافه تطوعا, له ترك جميعه فكان له ترك بعضه ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه وأما المشي فتختلف فيه طباع الناس, وعليه في تغيير مشيه مشقة ولا كذلك ها هنا فإنه لا حاجة به إلى الخروج. مسألة:
قال: [ ولا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، إلا أن يشترط ذلك ] الكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما:
في الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة ، مع عدم الاشتراط . واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك ، فروي عنه : ليس له فعله . وهو قول عطاء ، وعروة ، ومجاهد ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي . وروى عنه الأثرم ، ومحمد بن الحكم ، أن له أن يعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويعود إلى معتكفه . وهو قول علي رضي الله عنه . وبه قال سعيد بن جبير ، والنخعي ، والحسن ؛ لما روى عاصم بن ضمرة ، عن علي قال : إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة ، وليعد المريض ، وليحضر الجنازة ، وليأت أهله ، وليأمرهم بالحاجة وهو قائم . رواه الإمام أحمد ، والأثرم . وقال أحمد : عاصم بن ضمرة عندي حجة . قال أحمد : يشهد الجنازة ، ويعود المريض ، ولا يجلس ، ويقضي الحاجة ، ويعود إلى معتكفه . وجه الأول ، ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله ﷺ إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) . متفق عليه . وعنها رضي الله عنها أنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه . وعنها قالت: (كان النبي ﷺ يمر بالمريض وهو معتكف ، فيمر كما هو ، فلا يعرج يسأل عنه). رواهما أبو داود . ولأن هذا ليس بواجب ، فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب من أجله ، كالمشي مع أخيه في حاجة ليقضيها له . وإن تعينت عليه صلاة الجنازة ، وأمكنه فعلها في المسجد ، لم يجز الخروج إليها . وإن لم يمكنه ذلك ، فله الخروج إليها . وإن تعين عليه دفن الميت ، أو تغسيله ، جاز أن يخرج له ؛ لأن هذا واجب متعين ، فيقدم على الاعتكاف ، كصلاة الجمعة ، فأما إن كان الاعتكاف تطوعا ، وأحب الخروج منه لعيادة مريض ، أو شهود جنازة ، جاز ؛ لأن كل واحد منهما تطوع ، فلا يتحتم واحد منهما ، لكن الأفضل المقام على اعتكافه ؛ لأن النبي ﷺ لم يكن يعرج على المريض ولم يكن واجبا عليه . فأما إن خرج لما لا بد منه ، فسأل عن المريض في طريقه ، ولم يعرج ، جاز ؛ لأن النبي ﷺ فعل ذلك. الفصل الثاني:
إذا اشترط فعل ذلك في اعتكافه ، فله فعله ، واجبا كان الاعتكاف أو غير واجب . وكذلك ما كان قربة ، كزيارة أهله ، أو رجل صالح أو عالم ، أو شهود جنازة ، وكذلك ما كان مباحا مما يحتاج إليه ، كالعشاء في منزله ، والمبيت فيه ، فله فعله . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله ؟ قال : إذا اشترط فنعم . قيل له : وتجيز الشرط في الاعتكاف ؟ قال : نعم . قلت له : فيبيت في أهله ؟ فقال : إذا كان تطوعا ، جاز . وممن أجاز أن يشترط العشاء في أهله الحسن ، والعلاء بن زياد ، والنخعي ، وقتادة . ومنع منه أبو مجلز ، ومالك ، والأوزاعي . قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط . ولنا ، أنه يجب بعقده ، فكان الشرط إليه فيه كالوقوف ، ولأن الاعتكاف لا يختص بقدر ، فإذا شرط الخروج فكأنه نذر القدر الذي أقامه . وإن قال : متى مرضت أو عرض لي عارض ، خرجت . جاز شرطه. فصل:
وإن شرط الوطء في اعتكافه ، أو الفرجة ، أو النزهة ، أو البيع للتجارة ، أو التكسب بالصناعة في المسجد ، لم يجز ؛ لأن الله تعالى قال : {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} . فاشتراط ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى . والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف ، ففي الاعتكاف أولى ، وسائر ما ذكرناه يشبه ذلك ، ولا حاجة إليه ، فإن احتاج إليه ، فلا يعتكف ؛ لأن ترك الاعتكاف أولى من فعل المنهي عنه . قال أبو طالب : سألت أحمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياط وغيره ؟ قال : ما يعجبني أن يعمل . قلت : إن كان يحتاج ؟ قال : إن كان يحتاج لا يعتكف. فصل:
إذا خرج لما له منه بد عامدا ، بطل اعتكافه ، إلا أن يكون اشترط . وإن خرج ناسيا ، فقال القاضي : لا يفسد اعتكافه ؛ لأنه فعل المنهي عنه ناسيا ، فلم تفسد العبادة ، كالأكل في الصوم . وقال ابن عقيل : يفسد ؛ لأنه ترك للاعتكاف ، وهو لزوم للمسجد ، وترك الشيء عمده وسهوه سواء ، كترك النية في الصوم . فإن أخرج بعض جسده ، لم يفسد اعتكافه ، عمدا كان أو سهوا لأن النبي ﷺ (كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله وهي حائض) . متفق عليه . فصل:
ويجوز للمعتكف صعود سطح المسجد ؛ لأنه من جملته ، ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه . وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي . ولا نعلم فيه مخالفا . ويجوز أن يبيت فيه . وظاهر كلام الخرقي أن رحبة المسجد ليست منه ، وليس للمعتكف الخروج إليها ، لقوله في الحائض : يضرب لها خباء في الرحبة . والحائض ممنوعة من المسجد . وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا . وروى عنه المروذي أن المعتكف يخرج إلى رحبة المسجد ، هي من المسجد . قال القاضي : إن كان عليها حائط وباب فهي كالمسجد ؛ لأنها معه ، وتابعة له ، وإن لم تكن محوطة ، لم يثبت لها حكم المسجد . فكأنه جمع بين الروايتين ، وحملهما على اختلاف الحالين . فإن خرج إلى منارة خارج المسجد للأذان ، بطل اعتكافه . قال أبو الخطاب: ويحتمل أن لا يبطل ؛ لأن منارة المسجد كالمتصلة به . مسألة:
قال: [ ومن وطئ فقد أفسد اعتكافه, ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا ] وجملة ذلك أن الوطء في الاعتكاف محرم بالإجماع والأصل فيه قول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها} فإن وطئ في الفرج متعمدا أفسد اعتكافه, بإجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر عنهم ولأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها كالحج والصوم وإن كان ناسيا فكذلك عند إمامنا وأبي حنيفة, ومالك وقال الشافعي: لا يفسد اعتكافه لأنها مباشرة لا تفسد الصوم فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج ولنا, أن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد ولا نسلم أنها لا تفسد الصوم ولأن المباشرة دون الفرج لا تفسد الاعتكاف, إلا إذا اقترن بها الإنزال إذا ثبت هذا فلا كفارة بالوطء في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام الخرقي وقول عطاء والنخعي, وأهل المدينة ومالك وأهل العراق, والثوري وأهل الشام والأوزاعي ونقل حنبل عن أحمد أن عليه كفارة وهو قول الحسن, والزهري واختيار القاضي لأنه عبادة يفسدها الوطء لعينه فوجبت الكفارة بالوطء فيها, كالحج وصوم رمضان ولنا أنها عبادة لا تجب بأصل الشرع فلم تجب بإفسادها كفارة, كالنوافل ولأنها عبادة لا يدخل المال في جبرانها فلم تجب الكفارة بإفسادها, كالصلاة ولأن وجوب الكفارة إنما يثبت بالشرع ولم يرد الشرع بإيجابها, فتبقى على الأصل وما ذكروه ينتقض بالصلاة وصوم غير رمضان والقياس على الحج لا يصح لأنه مباين لسائر العبادات ولهذا يمضي في فاسده ويلزم بالشروع فيه, ويجب بالوطء فيه بدنة بخلاف غيره ولأنه لو وجبت الكفارة ها هنا بالقياس عليه للزم أن يكون بدنة لأن الحكم في الفرع يثبت على صفة الحكم في الأصل, إذ كان القياس إنما هو توسعة مجرى الحكم فيصير النص الوارد في الأصل واردا في الفرع فيثبت فيه الحكم الثابت في الأصل بعينه وأما القياس على الصوم فهو دال على نفي الكفارة لأن الصوم كله لا يجب بالوطء فيه كفارة سوى رمضان, والاعتكاف أشبه بغير رمضان لأنه نافلة لا يجب إلا بالنذر ثم لا يصح قياسه على رمضان أيضا لأن الوطء فيه إنما أوجب الكفارة لحرمة الزمان ولذلك يجب على كل من لزمه الإمساك, وإن لم يفسد به صوما واختلف موجبو الكفارة فيها فقال القاضي: يجب كفارة الظهار وهو قول الحسن والزهري, وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه روي عن الزهري أنه قال: من أصاب في اعتكافه فهو كهيئة المظاهر ثم قال أبو عبد الله: إذا كان نهارا وجبت عليه الكفارة ويحتمل أن أبا عبد الله إنما أوجب عليه الكفارة إذا فعل ذلك في رمضان لأنه اعتبر ذلك في النهار لأجل الصوم, ولو كان لمجرد الاعتكاف لما اختص الوجوب بالنهار كما لم يختص الفساد به وحكي عن أبي بكر أن عليه كفارة يمين ولم أر هذا عن أبي بكر في كتاب "الشافي" ولعل أبا بكر إنما أوجب عليه كفارة في موضع تضمن الإفساد الإخلال بالنذر, فوجبت لمخالفته نذره وهي كفارة يمين فأما في غير ذلك فلا لأن الكفارة إنما تجب بنص أو إجماع أو قياس وليس ها هنا نص ولا إجماع ولا قياس, فإن نظير الاعتكاف الصوم ولا يجب بإفساده كفارة إذا كان تطوعا ولا منذورا ما لم يتضمن الإخلال بنذره فيجب به كفارة يمين, كذلك هذا. فصل:
فأما المباشرة دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها, مثل أن تغسل رأسه أو تفليه أو تناوله شيئا لأن النبي -ﷺ- كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله وإن كانت عن شهوة, فهي محرمة لقول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ولقول عائشة: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة, ولا يباشرها رواه أبو داود ولأنه لا يأمن إفضاءها إلى إفساد الاعتكاف وما أفضى إلى الحرام كان حراما فإن فعل فأنزل, فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد وبهذا قال أبو حنيفة, والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر: يفسد في الحالين وهو قول مالك لأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف, كما لو أنزل ولنا أنها مباشرة لا تفسد صوما ولا حجا فلم تفسد الاعتكاف, كالمباشرة لغير شهوة وفارق التي أنزل بها لأنها تفسد الصوم ولا كفارة عليه إلا على رواية حنبل.
فصل: وإن ارتد, فسد اعتكافه لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} ولأنه خرج بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف وإن شرب ما أسكره فسد اعتكافه, لخروجه عن كونه من أهل المسجد.
فصل: وكل موضع فسد اعتكافه فإن كان تطوعا فلا قضاء عليه لأن التطوع لا يلزم بالشروع فيه في غير الحج والعمرة وإن كان نذرا نظرنا, فإن كان نذر أياما متتابعة فسد ما مضى من اعتكافه واستأنف لأن التتابع وصف في الاعتكاف, وقد أمكنه الوفاء به فلزمه وإن كان نذر أياما معينة, كالعشرة الأواخر من شهر رمضان ففيه وجهان: أحدهما يبطل ما مضى, ويستأنفه لأنه نذر اعتكافا متتابعا فبطل بالخروج منه كما لو قيده بالتتابع بلفظه والثاني, لا يبطل لأن ما مضى منه قد أدى العبادة فيه أداء صحيحا فلم يبطل بتركها في غيره كما لو أفطر في أثناء شهر رمضان, والتتابع ها هنا حصل ضرورة التعيين والتعيين مصرح به وإذا لم يكن بد من الإخلال بأحدهما ففيما حصل ضرورة أولى, ولأن وجوب التتابع من حيث الوقت لا من حيث النذر فالخروج في بعضه لا يبطل ما مضى منه, كصوم رمضان إذا أفطر فيه فعلى هذا يقضي ما أفسد فيه حسب وعليه الكفارة على الوجهين جميعا لأنه تارك لبعض ما نذره وأصل الوجهين في من نذر صوما معينا فأفطر في بعضه, فإن فيه روايتين كالوجهين اللذين ذكرناهما.
فصل: إذا نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم فأفطر يوما, أفسد تتابعه ووجب استئناف الاعتكاف لإخلاله بالإتيان بما نذره على صفته.
مسألة: قال: [ وإذا وقعت فتنة خاف منها ترك اعتكافه, فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياما معلومة وقضى ما ترك, وكفر كفارة يمين وكذلك في النفير إذا احتيج إليه ] وجملته أنه إذا وقعت فتنة خاف منها على نفسه إن قعد في المسجد أو على ماله نهبا أو حريقا, فله ترك الاعتكاف والخروج لأن هذا مما أباح الله تعالى لأجله ترك الواجب بأصل الشرع وهو الجمعة والجماعة فأولى أن يباح لأجله ترك ما أوجبه على نفسه, وكذلك إن تعذر عليه المقام في المسجد لمرض لا يمكنه المقام معه فيه كالقيام المتدارك أو سلس البول, أو الإغماء أو لا يمكنه المقام إلا بمشقة شديدة مثل أن يحتاج إلى خدمة وفراش, فله الخروج وإن كان المرض خفيفا كالصداع ووجع الضرس, ونحوه فليس له الخروج فإن خرج بطل اعتكافه وله الخروج إلى ما يتعين عليه من الواجب مثل الخروج في النفير إذا عم, أو حضر عدو يخافون كلبه واحتيج إلى خروج المعتكف لزمه الخروج لأنه واجب متعين, فلزم الخروج إليه كالخروج إلى الجمعة وإذا خرج ثم زال عذره نظرنا, فإن كان تطوعا فهو مخير إن شاء رجع إلى معتكفه وإن شاء لم يرجع, وإن كان واجبا رجع إلى معتكفه فبنى على ما مضى من اعتكافه ثم لا يخلو النذر من ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون نذر اعتكافا في أيام غير متتابعة ولا معينة, فهذا لا يلزمه قضاء بل يتم ما بقي عليه لكنه يبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله, ليكون متتابعا ولا كفارة عليه لأنه أتى بما نذر على وجهه فلا يلزمه كفارة كما لو لم يخرج الثاني, نذر أياما معينة كشهر رمضان فعليه قضاء ما ترك, وكفارة يمين بمنزلة تركه المنذور في وقته ويحتمل أن لا يلزمه كفارة على ما سنذكره, إن شاء الله الثالث نذر أياما متتابعة فهو مخير بين البناء والقضاء والتكفير, وبين الابتداء ولا كفارة عليه لأنه يأتي بالمنذور على وجهه فلم يلزمه كفارة, كما لو أتى به من غير أن يسبقه الاعتكاف الذي قطعه وذكر الخرقي مثل هذا في الصيام فقال: ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه, فإذا عوفي بنى على ما مضى من صيامه وقضى ما ترك وكفر كفارة يمين, وإن أحب أتى بشهر متتابع ولا كفارة عليه وقال أبو الخطاب في من ترك الصيام المنذور لعذر: فعن أحمد فيه رواية أخرى, أنه لا كفارة عليه وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد لأن المنذور كالمشروع ابتداء, ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شيء فكذلك المنذور وقال القاضي: إن خرج لواجب, كالجهاد تعين أو أداء شهادة واجبة فلا كفارة عليه لأنه خروج واجب لحق الله تعالى, فلم يجب به شيء كالمرأة تخرج لحيضها أو نفاسها وحمل كلام الخرقي على أنه يبني على ما مضى دون إيجاب الكفارة وظاهر كلام الخرقي, أن عليه الكفارة لأن النذر كاليمين ومن حلف على فعل شيء فحنث لزمته الكفارة, سواء كان لعذر أو غيره وسواء كانت المخالفة واجبة أو لم تكن ويفارق صوم رمضان, فإن الإخلال به والفطر فيه لغير عذر لا يوجب الكفارة ويفارق الحيض فإنه يتكرر, ويظن وجوده في زمن النذر فيصير كالخروج لحاجة الإنسان وكالمستثنى بلفظه.
مسألة: قال: [ والمعتكف لا يتجر, ولا يتكسب بالصنعة ] وجملته أن المعتكف لا يجوز له أن يبيع ولا يشتري إلا ما لا بد له منه قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: المعتكف لا يبيع ولا يشتري إلا ما لا بد له منه طعام أو نحو ذلك, فأما التجارة والأخذ والعطاء فلا يجوز شيء من ذلك وقال الشافعي: لا بأس أن يبيع ويشتري, ويخيط ويتحدث ما لم يكن مأثما، ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي -ﷺ- نهى عن البيع والشراء في المسجد) رواه الترمذي, وقال: حديث حسن ورأى عمران القصير رجلا يبيع في المسجد فقال: يا هذا إن هذا سوق الآخرة, فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدنيا وإذا منع من البيع والشراء في غير حال الاعتكاف ففيه أولى فأما الصنعة فظاهر كلام الخرقي, أنه لا يجوز منها ما يكتسب به لأنه بمنزلة التجارة بالبيع والشراء ويجوز ما يعمله لنفسه كخياطة قميصه ونحوه وقد روى المروذي قال: سألت أبا عبد الله عن المعتكف, ترى له أن يخيط؟ قال: لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل وقال القاضي: لا تجوز الخياطة في المسجد سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن قل أو كثر لأن ذلك معيشة أو تشغل عن الاعتكاف, فأشبه البيع والشراء فيه والأولى أن يباح له ما يحتاج إليه من ذلك إذا كان يسيرا مثل أن ينشق قميصه فيخيطه, أو ينحل شيء يحتاج إلى ربط فيربطه لأن هذا يسير تدعو الحاجة إليه فجرى مجرى لبس قميصه وعمامته وخلعهما.
فصل: يستحب للمعتكف التشاغل بالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة, ويجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال ولا يكثر الكلام لأن من كثر كلامه كثر سقطه وفي الحديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف, ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظوره وعكسه الوطء ولا بأس بالكلام لحاجته ومحادثة غيره, فإن صفية زوجة النبي -ﷺ- قالت: (كان رسول الله -ﷺ- معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته, ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد - فمر رجلان من الأنصار, فلما رأيا النبي -ﷺ- أسرعا فقال النبي -ﷺ-: على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا: سبحان الله يا رسول الله, فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أو قال: شيئا) متفق عليه وقال علي رضي الله عنه: أيما رجل اعتكف فلا يساب, ولا يرفث في الحديث ويأمر أهله بالحاجة - أي وهو يمشي - ولا يجلس عندهم رواه الإمام أحمد. فصل:
فأما إقراء القرآن وتدريس العلم ودرسه, ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث ونحو ذلك مما يتعدى نفعه, فأكثر أصحابنا على أنه لا يستحب وهو ظاهر كلام أحمد وقال أبو الحسن الآمدي: في استحباب ذلك روايتان واختار أبو الخطاب أنه مستحب إذا قصد به طاعة الله تعالى لا المباهاة وهذا مذهب الشافعي لأن ذلك أفضل العبادات, ونفعه يتعدى فكان أولى من تركه كالصلاة واحتج أصحابنا بأن النبي -ﷺ- كان يعتكف فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به, ولأن الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد فلم يستحب فيها ذلك كالطواف, وما ذكروه يبطل بعيادة المرضى وشهود الجنازة فعلى هذا القول فعله لهذه الأفعال أفضل من الاعتكاف قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا يقرئ في المسجد, وهو يريد أن يعتكف ولعله أن يختم في كل يوم؟ فقال: إذا فعل هذا كان لنفسه وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره, يقرئ أحب إلي. وسئل: أيما أحب إليك الاعتكاف أو الخروج إلى عبادان؟ قال: ليس يعدل الجهاد عندي شيء يعني أن الخروج إلى عبادان أفضل من الاعتكاف. فصل:
وليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام وظاهر الأخبار تحريمه قال قيس بن مسلم: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس, يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة فقال لها: تكلمي, فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت. رواه البخاري وروى أبو داود بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (لا صمات يوم إلى الليل) وروي عن النبي -ﷺ- أنه (نهى عن صوم الصمت) فإن نذر ذلك في اعتكافه أو غيره لم يلزمه الوفاء به وبهذا قال الشافعي, وأصحاب الرأي وابن المنذر ولا نعلم فيه مخالفا لما روى ابن عباس قال: (بينا النبي -ﷺ- يخطب إذا هو برجل قائم, فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم, ويصوم فقال النبي -ﷺ-: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد, وليتم صومه) رواه البخاري ولأنه نذر فعل منهي عنه فلم يلزمه كنذر المباشرة في المسجد وإن أراد فعله لم يكن له ذلك, سواء نذره أو لم ينذره وقال أبو ثور وابن المنذر: له فعله إذا كان أسلم ولنا النهي عنه, وظاهره التحريم والأمر بالكلام ومقتضاه الوجوب, وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وهذا صريح ولم يخالفه أحد من الصحابة فيما علمناه, واتباع ذلك أولى. فصل:
ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما هو له فأشبه استعمال المصحف في التوسد ونحوه وقد جاء: لا تناظروا بكتاب الله قيل: معناه لا تتكلم به عند الشيء تراه, كأن ترى رجلا قد جاء في وقته فتقول: ثم جئت على قدر يا موسى أو نحوه ذكر أبو عبيد نحو هذا المعنى. مسألة:
قال: [ ولا بأس أن يتزوج في المسجد ويشهد النكاح ] وإنما كان كذلك, لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب فلم تحرم النكاح كالصوم ولأن النكاح طاعة, وحضوره قربة ومدته لا تتطاول فيتشاغل به عن الاعتكاف, فلم يكره فيه كتشميت العاطس ورد السلام.
فصل: ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظف (لأن النبي -ﷺ- كان يرجل رأسه وهو معتكف وله أن يتطيب, ويلبس الرفيع من الثياب) وليس ذلك بمستحب قال أحمد: لا يعجبني أن يتطيب وذلك لأن الاعتكاف عبادة تختص مكانا فكان ترك الطيب فيها مشروعا كالحج وليس ذلك بمحرم لأنه لا يحرم اللباس ولا النكاح فأشبه الصوم.
فصل: ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد, ويضع سفرة يسقط عليها ما يقع منه كي لا يلوث المسجد, ويغسل يده في الطست ليفرغ خارج المسجد ولا يجوز أن يخرج لغسل يده لأن له من ذلك بدا وهل يكره تجديد الطهارة في المسجد؟ فيه روايتان: إحداهما, لا يكره لأن أبا العالية قال: حدثني من كان يخدم النبي -ﷺ- قال: أما ما حفظت لكم منه (أنه كان يتوضأ في المسجد) وعن ابن عمر أنه قال: (كان يتوضأ في المسجد الحرام على عهد رسول الله -ﷺ- الرجال والنساء) وعن ابن سيرين قال: كان أبو بكر وعمر, والخلفاء يتوضئون في المسجد وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعطاء, وطاوس وابن جريج والأخرى يكره لأنه لا يسلم من أن يبصق في المسجد أو يتمخط, والبصاق في المسجد خطيئة ويبل من المسجد مكانا يمنع المصلين من الصلاة فيه وإن خرج عن المسجد للوضوء وكان تجديدا, بطل لأنه خروج لما له منه بد وإن كان وضوءا من حدث لم يبطل لأن الحاجة داعية إليه, سواء كان في وقت الصلاة أو قبلها لأنه لا بد من الوضوء للمحدث وإنما يتقدم عن وقت الحاجة إليه لمصلحة وهو كونه على وضوء, وربما يحتاج إلى صلاة النافلة به.
فصل: إذا أراد أن يبول في المسجد في طست لم يبح له ذلك لأن المساجد لم تبن لهذا وهو مما يقبح ويفحش ويستخفى به, فوجب صيانة المسجد عنه كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله وإن أراد الفصد أو الحجامة فيه, فكذلك ذكره القاضي لأنه إراقة نجاسة في المسجد فأشبه البول فيه وإن دعت إليه حاجة كبيرة خرج من المسجد ففعله, وإن استغنى عنه لم يكن له الخروج إليه كالمرض الذي يمكن احتماله وقال ابن عقيل: يحتمل أن يجوز الفصد في المسجد في طست بدليل أن المستحاضة يجوز لها الاعتكاف, ويكون تحتها شيء يقع فيه الدم قالت عائشة: (اعتكفت مع رسول الله -ﷺ- امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة, وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي) رواه البخاري والفرق بينهما أن المستحاضة لا يمكنها التحرز من ذلك إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد.
مسألة: قال: [ والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة تخرج لقضاء العدة وتفعل كما فعل الذي خرج لفتنة ] وجملته أن المعتكفة إذا توفي زوجها لزمها الخروج لقضاء العدة, وبهذا قال الشافعي وقال ربيعة ومالك وابن المنذر: تمضي في اعتكافها, حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتد فيه لأن الاعتكاف المنذور واجب والاعتداد في البيت واجب, فقد تعارض واجبان فيقدم أسبقهما ولنا أن الاعتداد في بيت زوجها واجب فلزمها الخروج إليه, كالجمعة في حق الرجل ودليلهم ينتقض بالخروج إلى الجمعة وسائر الواجبات وظاهر كلام الخرقي أنها كالذي خرج لفتنة وأنها تبني وتقضي وتكفر وقال القاضي: لا كفارة عليها لأن خروجها واجب وقد مضى القول فيه.
فصل: وليس للزوجة أن تعتكف إلا بإذن زوجها, ولا للمملوك أن يعتكف إلا بإذن سيده لأن منافعهما مملوكة لغيرهما والاعتكاف يفوتها ويمنع استيفاءها, وليس بواجب عليهما بالشرع فكان لهما المنع منه وأم الولد والمدبر كالقن في هذا لأن الملك باق فيهما فإن أذن السيد والزوج لهما, ثم أراد إخراجهما منه بعد شروعهما فيه فلهما ذلك في التطوع وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في العبد كقولنا وفي الزوجة: ليس لزوجها إخراجها لأنها تملك بالتمليك, فالإذن أسقط حقه من منافعها وأذن لها في استيفائها فلم يكن له الرجوع فيها, كما لو أذن لها في الحج فأحرمت به بخلاف العبد فإنه لا يملك بالتمليك وقال مالك: ليس له تحليلهما لأنهما عقدا على أنفسهما تمليك منافع كانا يملكانها لحق الله تعالى فلم يجز الرجوع فيها, كما لو أحرما بالحج بإذنهما ولنا أن لهما المنع منه ابتداء فكان لهما المنع منه دواما, كالعارية ويخالف الحج لأنه يلزم بالشروع فيه بخلاف الاعتكاف على ما مضى من الخلاف فيه, فإن كان ما أذنا فيه منذورا لم يكن لهما تحليلهما منه لأنه يتعين بالشروع فيه ويجب إتمامه, فيصير كالحج إذا أحرما به فأما إن نذرا الاعتكاف فأراد السيد والزوج منعهما الدخول فيه نظرت فإن كان النذر بإذنهما, وكان معينا لم يملكا منعهما منه لأنه وجب بإذنهما وإن كان بغير إذنهما, فلهما منعهما منه لأن نذرهما تضمن تفويت حق غيرهما بغير إذنه فكان لصاحب الحق المنع منه وإن كان النذر المأذون فيه غير معين فهل لهما منعهما؟ على وجهين أحدهما, لهما منعهما لأن حقهما ثابت في كل زمن فكان تعيين زمن سقوطه إليهما كالدين والثاني ليس لهما ذلك لأنه وجب التزامه بإذنهما, فأشبه المعين وأما المعتق بعضه فإن كان بينه وبين سيده مهايأة فله أن يعتكف في يومه بغير إذن سيده لأن منافعه غير مملوكة لسيده في هذا اليوم, وحكمه في يوم سيده حكم القن فإن لم يكن بينهما مهايأة فلسيده منعه لأن له ملكا في منافعه في كل وقت. فصل:
وأما المكاتب فليس لسيده منعه من واجب ولا تطوع لأنه لا يستحق منافعه, وليس له إجباره على الكسب وإنما له دين في ذمته فهو كالحر المدين.
مسألة: قال: [ وإذا حاضت المرأة, خرجت من المسجد وضربت خباء في الرحبة ] أما خروجها من المسجد فلا خلاف فيه لأن الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد, فهو كالجنابة وآكد منه وقد قال النبي -ﷺ-: (لا أحل المسجد لحائض, ولا جنب) رواه أبو داود وإذا ثبت هذا فإن المسجد إن لم يكن له رحبة رجعت إلى بيتها فإذا طهرت رجعت فأتمت اعتكافها, وقضت ما فاتها ولا كفارة عليها نص عليه أحمد لأنه خروج معتاد واجب أشبه الخروج للجمعة, أو لما لا بد منه وإن كانت له رحبة خارجة من المسجد يمكن أن تضرب فيها خباءها فقال الخرقي: تضرب خباءها فيها مدة حيضها وهو قول أبي قلابة وقال النخعي: تضرب فسطاطها في دارها, فإذا طهرت قضت تلك الأيام وإن دخلت بيتا أو سقفا استأنفت وقال الزهري وعمرو بن دينار, وربيعة ومالك والشافعي: ترجع إلى منزلها, فإذا طهرت فلترجع لأنه وجب عليها الخروج من المسجد فلم يلزمها الإقامة في رحبته كالخارجة لعدة, أو خوف فتنة ووجه قول الخرقي ما روى المقدام بن شريح عن عائشة قالت: (كن المعتكفات إذا حضن أمر رسول الله -ﷺ- بإخراجهن من المسجد, وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن) رواه أبو حفص بإسناده وفارق المعتدة فإن خروجها لتقيم في بيتها وتعتد فيه, ولا يحصل ذلك مع الكون في الرحبة وكذلك الخائفة من الفتنة خروجها لتسلم من الفتنة فلا تقيم في موضع لا تحصل السلامة بالإقامة فيه والظاهر أن إقامتها في الرحبة مستحب وليس بواجب وإن لم تقم في الرحبة, ورجعت إلى منزلها أو غيره فلا شيء عليها لأنها خرجت بإذن الشرع ومتى طهرت رجعت إلى المسجد فقضت وبنت, ولا كفارة عليها لا نعلم فيه خلافا لأنه خروج لعذر معتاد أشبه الخروج لقضاء الحاجة وقول إبراهيم تحكم لا دليل عليه. فصل:
فأما الاستحاضة فلا تمنع الاعتكاف لأنها لا تمنع الصلاة ولا الطواف, وقد قالت عائشة: (اعتكفت مع رسول الله -ﷺ- امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي) أخرجه البخاري إذا ثبت هذا فإنها تتحفظ وتتلجم, لئلا تلوث المسجد فإن لم يمكن صيانته منها خرجت من المسجد لأنه عذر وخروج لحفظ المسجد من نجاستها فأشبه الخروج لقضاء حاجة الإنسان.
فصل: الخروج المباح في الاعتكاف الواجب ينقسم أربعة أقسام أحدها, ما لا يوجب قضاء ولا كفارة وهو الخروج لحاجة الإنسان وشبهه مما لا بد منه والثاني: ما يوجب قضاء بلا كفارة, وهو الخروج للحيض والثالث ما يوجب قضاء وكفارة وهو الخروج لفتنة, وشبهه مما يخرج لحاجة نفسه والرابع ما يوجب قضاء وفي الكفارة وجهان وهو الخروج لواجب, كالخروج في النفير أو العدة ففي قول القاضي لا كفارة عليه لأنه واجب لحق الله تعالى, أشبه الخروج للحيض وظاهر كلام الخرقي وجوبها لأنه خروج غير معتاد فأوجب الكفارة كالخروج لفتنة.
مسألة: قال: [ ومن نذر أن يعتكف شهرا بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس ] وهذا قول مالك, والشافعي وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنه يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر من أوله وهو قول الليث وزفر (لأن النبي -ﷺ- كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح, ثم دخل معتكفه) متفق عليه ولأن الله تعالى قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ولا يلزم الصوم إلا من قبل طلوع الفجر ولأن الصوم شرط في الاعتكاف فلم يجز ابتداؤه قبل شرطه ولنا أنه نذر الشهر, وأوله غروب الشمس ولهذا تحل الديون المعلقة به ويقع الطلاق والعتاق المعلقان به, ووجب أن يدخل قبل الغروب ليستوفي جميع الشهر فإنه لا يمكن إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, كإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم وأما الصوم فإن محله النهار فلا يدخل فيه شيء من الليل في أثنائه ولا ابتدائه, إلا ما حصل ضرورة بخلاف الاعتكاف وأما الحديث فقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به على أن الخبر إنما هو في التطوع فمتى شاء دخل, وفي مسألتنا نذر شهرا فيلزمه اعتكاف شهر كامل ولا يحصل إلا أن يدخل فيه قبل غروب الشمس من أوله, ويخرج بعد غروبها من آخره فأشبه ما لو نذر اعتكاف يوم فإنه يلزمه الدخول فيه قبل طلوع فجره, ويخرج بعد غروب شمسه.
فصل: وإن أحب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تطوعا ففيه روايتان: إحداهما يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين لما روي عن أبي سعيد (أن رسول الله -ﷺ- كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان, حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال: من كان اعتكف معي, فليعتكف العشر الأواخر) متفق عليه ولأن العشر بغير هاء عدد الليالي فإنها عدد المؤنث قال الله تعالى: {وليال عشر} وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين والرواية الثانية, يدخل بعد صلاة الصبح قال حنبل قال أحمد: أحب إلى أن يدخل قبل الليل ولكن حديث عائشة (أن النبي -ﷺ- كان يصلي الفجر, ثم يدخل معتكفه) وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق ووجهه ما روت عمرة عن عائشة (أن النبي -ﷺ- كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه) متفق عليه وإن نذر اعتكاف العشر, ففي وقت دخوله الروايتان جميعا.
فصل: ومن اعتكف العشر الأواخر من رمضان استحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه نص عليه أحمد وروي عن النخعي وأبي مجلز, وأبي بكر بن عبد الرحمن والمطلب بن حنطب وأبي قلابة, أنهم كانوا يستحبون ذلك وروى الأثرم بإسناده عن أيوب عن أبي قلابة, أنه كان يبيت في المسجد ليلة الفطر ثم يغدو كما هو إلى العيد وكان - يعني في اعتكافه - لا يلقى له حصير ولا مصلى يجلس عليه, كان يجلس كأنه بعض القوم قال: فأتيته في يوم الفطر فإذا في حجره جويرية مزينة ما ظننتها إلا بعض بناته فإذا هي أمة له, فأعتقها وغدا كما هو إلى العيد وقال إبراهيم: كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد, ثم يغدو إلى المصلى من المسجد.
فصل: وإذا نذر اعتكاف شهر لزمه شهر بالأهلة أو ثلاثون يوما وهل يلزمه التتابع؟ على وجهين بناء على الروايتين في نذر الصوم أحدهما, لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأنه معنى يصح فيه التفريق فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر كالصيام والثاني, يلزمه التتابع وهو قول أبي حنيفة ومالك وقال القاضي: يلزمه التتابع قولا واحدا لأنه معنى يحصل في الليل والنهار فإذا أطلقه اقتضى التتابع كما لو حلف لا يكلم زيدا شهرا, وكمدة الإيلاء والعنة والعدة وبهذا فارق الصيام فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك, وإن كان ناقصا وإن اعتكف ثلاثين يوما من شهرين جاز وتدخل فيه الليالي لأن الشهر عبارة عنهما, ولا يجزئه أقل من ذلك وإن قال: لله علي أن أعتكف أيام هذا الشهر أو ليالي هذا الشهر لزمه ما نذر ولم يدخل فيه غيره وكذلك إن قال: شهرا في النهار, أو في الليل.
فصل: وإن قال: لله علي أن أعتكف ثلاثين يوما فعلى قول القاضي يلزمه التتابع وقال أبو الخطاب: لا يلزمه لأن اللفظ يقتضي ما تناوله والأيام المطلقة توجد بدون التتابع, فلا يلزمه كما لو قال: لله علي أن أصوم ثلاثين يوما فعلى قول القاضي: يدخل فيه الليالي الداخلة في الأيام المنذورة كما لو نذر شهرا ومن لم يوجب التتابع لا يقتضي أن تدخل الليالي فيه, إلا أن ينويه فإن نوى التتابع أو شرطه لزمه, ودخل الليل فيه ويلزمه ما بين الأيام من الليالي وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يلزمه من الليالي بعدد الأيام, إذا كان على وجه الجمع والتثنية يدخل فيه مثله من الليالي والليالي تدخل معها الأيام, بدليل قوله تعالى: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} وقال في موضع آخر: {ثلاثة أيام إلا رمزا} ولنا أن اليوم اسم لبياض النهار والتثنية والجمع تكرار للواحد, وإنما تدخل الليالي تبعا لوجوب التتابع ضمنا وهذا يحصل بما بين الأيام خاصة فاكتفي به وأما الآية فإن الله تعالى نص على الليل في موضع والنهار في موضع, فصار منصوصا عليهما فإن نذر اعتكاف يومين متتابعين لزمه يومان وليلة بينهما وإن نذر اعتكاف يومين مطلقا فعلى قول القاضي, هو كما لو نذرهما متتابعين وكذلك لو نذر ليلتين لزمه اليوم الذي بينهما وعلى قول أبي الخطاب لا يلزمه التتابع, ولا ما بينهما إلا بلفظه أو نيته.
فصل: وإن نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه, ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس وقال مالك: يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم كقولنا في الشهر لأن الليل يتبع النهار, بدليل ما لو كان متتابعا ولنا أن الليلة ليست من اليوم وهي من الشهر قال الخليل: اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وإنما دخل الليل في المتتابع ضمنا, ولهذا خصصناه بما بين الأيام وإن نذر اعتكاف ليلة لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر, وليس له تفريق الاعتكاف وقال الشافعي: له تفريقه هذا ظاهر كلامه قياسا على تفريق الشهر ولنا أن إطلاق اليوم يفهم منه التتابع, فيلزمه كما لو قال: متتابعا وفارق الشهر فإنه اسم لما بين الهلالين, واسم لثلاثين يوما واسم لغير ذلك واليوم لا يقع في الظاهر إلا على ما ذكرنا وإن قال في وسط النهار: لله علي أن أعتكف يوما من وقتي هذا لزمه الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله, ويدخل فيه الليل لأنه في خلال نذره فصار كما لو نذر يومين متتابعين وإنما لزمه بعض يومين لتعيينه ذلك بنذره, فعلمنا أنه أراد ذلك ولم يرد يوما صحيحا.
فصل: وإن نذر اعتكافا مطلقا لزمه ما يسمى به معتكفا, ولو ساعة من ليل أو نهار إلا على قولنا بوجوب الصوم في الاعتكاف فيلزمه يوم كامل, فأما اللحظة وما لا يسمى به معتكفا فلا يجزئه, على الروايتين جميعا.
فصل: ولا يتعين شيء من المساجد بنذره الاعتكاف فيه إلا المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام, ومسجد النبي -ﷺ- والمسجد الأقصى لقول رسول الله -ﷺ-: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) متفق عليه ولو تعين غيرها بتعيينه لزمه المضي إليه, واحتاج إلى شد الرحال لقضاء نذره فيه ولأن الله تعالى لم يعين لعبادته مكانا فلم يتعين بتعيين غيره وإنما تعينت هذه المساجد الثلاثة للخبر الوارد فيها, ولأن العبادة فيها أفضل فإذا عين ما فيه فضيلة لزمته, كأنواع العبادة وبهذا قال الشافعي في صحيح قوليه وقال في الآخر: لا يتعين المسجد الأقصى لأن النبي -ﷺ- قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) رواه مسلم وهذا يدل على التسوية فيما عدا هذين المسجدين لأن المسجد الأقصى لو فضلت الصلاة فيه على غيره للزم أحد أمرين إما خروجه من عموم هذا الحديث, وإما كون فضيلته بألف مختصا بالمسجد الأقصى ولنا أنه من المساجد التي تشد الرحال إليها فتعين بالتعيين في النذر, كمسجد النبي -ﷺ- وما ذكروه لا يلزم فإنه إذا فضل الفاضل بألف فقد فضل المفضول بها أيضا.
فصل: وإن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام, لم يكن له الاعتكاف فيما سواه لأنه أفضلها ولأن عمر (نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية فسأل النبي -ﷺ-؟ فقال: أوف بنذرك) متفق عليه وإن نذر أن يعتكف في مسجد النبي -ﷺ-, جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام لأنه أفضل منه ولم يجز أن يعتكف في المسجد الأقصى لأن مسجد النبي -ﷺ- أفضل منه وقال قوم: مسجد النبي -ﷺ- أفضل من المسجد الحرام لأن النبي -ﷺ- إنما دفن في خير البقاع وقد نقله الله تعالى من مكة إلى المدينة, فدل على أنها أفضل ولنا قول رسول الله -ﷺ-: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) وروي في خبر, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فيما سواه) رواه ابن ماجه فيدخل في عمومه مسجد النبي -ﷺ- فتكون الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة فيما سوى مسجد النبي -ﷺ- فأما إن نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجدين الآخرين لأنهما أفضل منه وقد روى الإمام أحمد في "مسنده", عن رجال من الأنصار من أصحاب النبي -ﷺ- (أن رجلا جاء إلى النبي -ﷺ- يوم الفتح والنبي -ﷺ- في مجلس قريبا من المقام, فسلم على النبي -ﷺ- وقال: يا نبي الله إني نذرت لئن فتح الله للنبي -ﷺ- والمؤمنين مكة لأصلين في بيت المقدس, وإني وجدت رجلا من أهل الشام ها هنا في قريش مقبلا معي ومدبرا فقال رسول الله -ﷺ-: ها هنا فصل فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات كل ذلك يقول النبي -ﷺ-: ها هنا فصل ثم قال الرابعة مقالته هذه, فقال النبي -ﷺ-: اذهب فصل فيه فوالذي بعث محمدا بالحق لو صليت ها هنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس) ومتى نذر الاعتكاف في غير هذه المساجد, فانهدم معتكفه ولم يمكن المقام فيه لزمه إتمام الاعتكاف في غيره, ولم يبطل اعتكافه.
فصل: إذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان صح نذره فإن ذلك ممكن فإن قدم في بعض النهار, لزمه اعتكاف الباقي منه ولم يلزمه قضاء ما فات لأنه فات قبل شرط الوجوب فلم يجب, كما لو نذر اعتكاف زمن ماض لكن إذا قلنا: شرط صحة الاعتكاف الصوم لزمه قضاء يوم كامل لأنه لا يمكنه أن يأتي بالاعتكاف في الصوم فيما بقي من النهار ولا قضاؤه متميزا مما قبله فلزمه يوم كامل ضرورة, كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان ويحتمل أن يجزئه اعتكاف ما بقي منه إذا كان صائما لأنه قد وجد اعتكاف مع الصوم وإن قدم ليلا لم يلزمه شيء لأن ما التزمه بالنذر لم يوجد فإن كان للناذر عذر يمنعه الاعتكاف عند قدوم فلان من حبس أو مرض, قضى وكفر لفوات النذر في وقته ويقضي بقية اليوم فقط على حسب ما كان يلزم في الأداء, في الرواية المنصورة وفي الأخرى يقضي يوما كاملا, بناء على اشتراط الصوم في الاعتكاف.
==========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق