الجمعة، 11 مارس 2022

قصص الأنبياء تأليف فؤاد بن عبدالعزيز الشلهوب

 

قصص الأنبياء تأليف فؤاد بن عبدالعزيز الشلهوب=====

مقدمة

الحمد لله إله الأولين والآخرين، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجة، على الخلق أجمعين . والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .

قصص الأنبياء فيها عبرة وعظة لأصحاب العقول، لأولي النهي، قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .

ففي قصصهم الهداية والنور، وفي قصصهم تسلية للمؤمنين وتقوية لعزائمهم، وفيه تعلم الصبر وتحمل الأذى في سبيل الدعوة إلى الله، وفيه ما كان عليه الأنبياء من الخلق الرفيع و الأدب الجم مع ربهم ومع أتباعهم، وفيه شدة ورعهم، وحسن عبادتهم لربهم، وفيه نصرة الله لأنبيائه ورسله، وعدم خذلانهم فالعاقبة الحميدة لهم، وسوء المنقلب لمن عاداهم وشذ عنهم .

وفي كتابنا هذا سردنا بعضاً من قصص أنبيائنا، لنعتبر ونتأسى بهم، فهم خير أسوة وخير قدوة، صلى الله عليهم وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .

 

 

 

وكتبه :

فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب

 

 

 

 

 

 

 

   قصة آدم عليه  السلام 

 

قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30)وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31)قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(34)وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36)فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)} ([1]) .

قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك ) ([2]) . وجعله الله جسداً من طين أربعين سنة، فمرت به الملائكة وفزعوا لما رأوه ، وكان أشدهم فزعاً إبليس ، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار ويدخل من فيه ويخرج من دبره ، وقال للملائكة، لا تخافوا منه فإنه أجوف وربكم صمد، وكان يقول : لأمر ما خلقت، ويقول: لئن سلطت عليه لأهلكنه . ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  (لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك ) ([3]) .

ولما أخبر الله تعالى ملائكته بأنه سوف يجعل في الأرض خليفة، سألوه جل في علاه من باب معرفة وجه الحكمه ،لا على سبيل الاعتراض ، أو أن تساؤل الملائكة خوفاً أن يكون بدر منهم أو من  أحدهم تقصير أو مخالفة ، فأسرعوا في تبرئة أنفسهم بقولهم : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك . ثم علم الله آدم أسماء كل شيء يتعارف بها الإنسان ، علمه اسم الجبل والوادي والنهر والبحر ..إلخ.  وطلب الله من الملائكة أن ينبئونه بالاسماء التي علمها آدم، فأرجعت الملائكة العلم إلى عالمه فقالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .  ثم أمر الله آدم أن يخبرهم بالاسماء وأخبرهم بها .

ثم أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم متى ما نفخ فيه من روحه، فسجد الملائكة ، واستكبر إبليس وأبى ، كبراً وحسداً ، واعتذر بشبهة شيطانية فقال : { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون } وقال : { أنا خيرمنه خلقتني من نار ، وخلقته من طين } .  فظن إبليس عليه لعنة الله أن النار خير من الطين ، وأن العنصر الناري خير من العنصر الطيني ، فكيف يسجد، وما ظن الجاهل أن السجود لآدم هو طاعة لله ، أولا وآخراً . ولكنه هو الحسد والكبر، ثم إن العنصر الطيني خير من العنصر الناري، فالنار من صفتها الخفة ، والإحراق، والطيش، والطين  من صفته الليونة، والرزانة، والنفع . إلى غير ذلك مما بينه أهل العلم .

ولما أبى إبليس ، السجود طُرد من الملكوت الأعلى ، قال تعالى : { فاخرج إنك رجيم} ، وقال تعالى : { فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين } . ويقال إن إبليس كان معظماً ومقرباً ، ولما عصى أبعد وطرد . ولما عاين إبليس الحرمان ، سأل الإنظار إلى يوم الدين، فأجابه الله إلى ما سأل،  { قال ربي أنظرني إلى يوم يبعثون . قال إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم } و قال  : { أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلاً } قال تعالى : { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جزاؤكم جزاء موفورا} وقال إبليس عليه لعائن الله لما استوثق من ربه : { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } . فأعلن العداوة على آدم من لحظة الطرد والإبعاد .

ثم أسكن الله آدم الجنة، وأمره الأكل والتمتع بما شاء من الجنة إلا شجرة نهاه ربه أن يأكل منها ، وخلق الله من آدم زوجه حواء ليسكن إليها { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها } . وأمر الله آدم وحواء بالتنعم من الجنة وحذرهما من تلك الشجرة :{ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } . وحذر الله آدم من إغواء إبليس ليكون منه على حذر: { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنك من الجنة فتشقى . إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } ولكن إبليس زين لآدم الأكل من الشجرة، وجاءه من كل جانب، بل وأقسم لهما أنه ناصح لهما فخاطب آدم : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فسماها شجرة الخلد حتى يطمع آدم وتطمع حواء فيها . وقال لهما : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } وهذا فيه إغراء بالأكل من الشجرة ، ثم أكد قوله بالقسم { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } . أقسم إبليس أنه ناصح لهما ، ويريد الخير لهما، فاغتر آدم وحواء بقسم إبليس فأكلا من الشجرة : { فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة }  ([4]) . فلما عصى آدم ، وعصت حواء ، تبدل الحال، وظهرت السوآت ، فالمعصية شؤم ، وحاول آدم وحواء أن يسترا سوآتهما من ورق الجنة ،  ثم ناداهما الجليل ، {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } ([5]) . فأناب آدم عليه السلام وأنابت حواء إلى ربهما ، واعترفا بالذنب ، وطلبا المغفرة من الغفور الرحيم : {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ([6])  . وقال تعالى : { فتلقى آدمن من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } . وانظر إلى توفيق الله لآدم ، لما عصى ربه إذ هداه للتوبة، فسأله التوبة والمغفرة  فتاب الله عليه، وإبليس لما عصى الله خُذل ولم يوفق للتوبة ولم يهتد إليها، فتجبر وسأل الإنظار ليضل الناس عن صراط الله المستقيم . ولله الحكمة البالغة .

ولكن توبة الله لآدم مقرونة بخروجه  من الجنة ، فأهبطه الله وزوجه إلى الأرض ، وأهبط معهما إبليس عليه لعائن الله . {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين(24)قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون(25)} ([7]) . وقال تعالى : {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}  ([8])   .  فعمر آدم عليه السلام وحواء الأرض وأنجبوا ،  وكثر نسلهم .

ولم يعرف كم عمّر آدم على الأرض على وجه الدقة ، لكن روى الترمذي وغيره حديثاً في ذكر آخر أمر آدم عليه السلام  فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ([9]) ما بين عينيه فقال أي رب من هذا فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت فقال أولم يبق من عمري أربعون سنة قال أولم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته ([10]) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

        قصة نوح عليه السلام أول الرسل إلى أهل الأرض  ([11])

 

هو نوح بن لامك بن متوشلخ أول رسول إلى أهل الأرض ([12])  . كان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة . ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله  عنهما قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام .  بعثه الله إلى الناس لما عبدت الأصنام، وضلوا عن عبادة ربهم . ومنشأ ضلال الناس بعد أن كانوا على الإسلام هو ما زينه الشيطان لهم من عبادة الأصنام، فعند تفسير قوله تعالى : { وقالوا لا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسر } قال ابن عباس هذه  أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ ([13]) العلم عبدت ([14]) . فدعاهم نوح عليه السلام إلى عبادة الله وحده  لا شريك له، وترك ما يعبد من دونه .فدعاهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(5)فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}([15])  . فدعاهم نبي الله نوح عليه السلام بكل طريقة وبكل وسيلة ، لعلهم يتوبون من شركهم بالله ، ويستغفرونه فيغفر لهم ، ولكن استمر أكثرهم على الطغيان والضلال البعيد وعبادة الأصنام، وأقاموا على عداوة نوح عليه السلام والسخرية به . قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(59)قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(60)قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(61)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(62)} ([16]) . ولبث نوح عليه السلام يدعوهم ويذكرهم بالله تسع مائة وخمسين عاماً كما أخبرنا ربنا { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً } . ولما تطاول الزمن وأيس نوح عليه السلام من توبتهم من الشرك، ولما رأى عليه السلام استمرار قومه على المعاصي والعناد والمكابرة ، وتحديهم أن يأتيهم العذاب {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ([17])  . عندئذ دعا عليهم نبيهم ولكل نبي دعوة مستجابة {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(26)إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(27)} ([18]) . فاستجاب الله له {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ([19]) . ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يصنع سفينة وأن هؤلاء القوم مآلهم إلى الغرق ، وحذر الله نوحاً من مراجعته في قومه فإنهم قد حق عليهم العذاب ، قال تعالى :{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ ءَامَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(37)ْ} ولما شرع نوح في صنع السفينة سخر قومه منه {  وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} ([20]) . ولما تكامل بناء السفية أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين من الحيوانات والطيور وغيرها لبقاء نسلها  {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} ([21]) . وقال تعالى : {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ(11)وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(12)وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ(13)تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ(14)وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا ءَايَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(15)} ([22]) . فماء ينزل من السماء ، وأرض تفجرت عيوناً، حتى أغرق الله القوم المكذبين ، ونجى برحمته نوحاً والمؤمنين فلله الحمد والمنة .

ولما أغرق الله قوم نوح إلا المؤمنين كان من جملة القوم الذين أغرقهم الله  زوجة نوح عليه السلام  فإنها كانت على الكفر ،  قال الله عز وجل في شأنها : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} ([23]) . والخيانة المراد بها هنا ، هو عدم التصديق بالرسالة ، وعدم اتباع الرسول وبقائها على الكفر .

وابنه (يام)  الذي أبى أن يركب السفينة مع أبيه ، قال تعالى  : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ(42)قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} ([24]).

وأمر الله رسوله نوح أن يقول إذا ركبوا الفلك واستقروا عليها : الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين  . وأن  يقول : رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين . قال تعالى { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ([25]) . ثم لما قضى الله الأمر ، وأغرق الظالمين، أمر الله السماء أن تمسك ، والأرض أن تذهب بالماء الذي عليها ، قال تعالى : { وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظالمين} ([26]) . ثم أمر الله نوحاً أن يهبط على وجه الأرض سالماً ، مباركاً { قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ([27]) . فهبطت السفينة على الجودي ، وهو جبل معروف في الجزيرة ([28]) .  ثم لما أُهبط نوح ومن معه، سأل الله  نجاة ابنه فإن الله وعد بإنجائه وأهله ، { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(46)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(47)} ([29]) . فبين الله له أن ابنه وإن كان من صلبه إلا أن بقاءه على الشرك أخرجه من مسمى الأهل  . ثم طلب نوح عليه السلام من ربه أن يغفر له سؤاله ما ليس له به علم .

وكان من أخر آمره عليه السلام ، كما في مسند أحمد أنه لما دنا أجله ( وحضرته الوفاة قال لابنه   إني قاص عليك الوصية آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وأنهاك عن الشرك والكبر...الحديث ) ([30]) .

قال ابن كثير : فإن كان ما ذكر محفوظاً عن ابن عباس من أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة , وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة .

 

 

 

 

 

 

 

 

     قصة نبي الله هود عليه السلام   ([31])     

 

هو نبي الله هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليهما السلام . كان من قبيلة يقال لها عاد ، وكانوا عرباً يسكنون الأحقاف وهي جبال الرمل ، وكانت باليمن .وكانوا كثيراً ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام كما قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} ([32]) .  فعاد هذه هم أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، فبعث الله لهم هوداً عليه السلام ، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(65)}  . فدعاهم هود عليه السلام إلى التوحيد، وذكرهم بربهم ، فكذبوه وخالفوه ، وتنقصوه وسخروا منه ، حكى الله مقالتهم وسخريتهم بهود ورد هود عليهم  فقال : {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(66)قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(67)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(68)أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا ءَالَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(69)} ([33]) . فنصح لهم  وذكرهم بنعمة الله عليهم أن استخلفهم وأورثهم الأرض بعد قوم نوح، وجعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش  . ولكن لم تفد تلك النصائح ولم يفد تذكيرهم بالله فقالوا له : {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136)إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(137)وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ([34]) . وقالوا : {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي ءَالِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(53)إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ}  . فردوا على نبيهم بأن قالوا لم تأت بخارق ، أو آية تشهد لك بصدق دعواك ، ولن نترك عبادتنا لهذه الأصنام لقولك ، بل تهكموا به وأرجعوا دعواه النبوة والدعوة إلى التوحيد بسبب آلهتهم التي أصابته في عقله . عندئذ قاله لهم نبيهم : {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54)مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}([35]) .    وهذا تحد من هود عليه السلام ، فإنه تبرأ من آلهتهم أولاً ، ثم تحداهم  جميعاً أن يضروه بشيء وهو واحد، وأمعن في التحدي لما قال لهم : لا تمهلوني طرفة عين، بل افعلوا ما بدا لكم ، فإني متوكل على ربي ، الذي نواصي العباد بيده . 

ولما قالوا لهود عليه السلام : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(70)} رد عليهم :  {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} ([36]) .  فحل عليهم عذاب الجبار ، وخسروا خسراناً مبيناً ، وكان أول أمر عقوبتهم ما ذكره الله في سورة الأحقاف : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(24)تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(25)} ([37]) . فاستبشروا لما رأوا  السحاب مقبلاً وظنوا أن المطر أتاهم ، وما علموا أنه العذاب قد حل بهم .  وهذه الريح هي المذكورة في سورة الحاقة : {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6)سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(8)} ([38]) . وهي المذكورة في سورة القمر : {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(18)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(19)تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20)} ([39]) . وهي أيضاً المذكورة في سورة الذارايات : {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ(41)مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ([40]) .  استمرت هذه الريح العظيمة سبعة ليال وثمانية أيام ، ريح عقيم لا تنتج خيراً ، وكل شيء تمر عليه تجعله رميماً فانياً بالياً ، وهذه الريح من قوتها أنها كانت تحمل الرجل فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه حتى يكون جثة بلا رأس ، كأعجاز النخل الخاوية التي لا رؤس لها . واسم هذه الريح الدبور ، قال صلى الله عليه وسلم : ( نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ) ([41]) .والصبا : ريح تهب من الشرق ، والدبور : ريح تهب من الغرب .

قال تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ(58)وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(59)وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ(60)} ([42]) .

فأهلك الله الظالمين، ونجى برحمته هوداً والمؤمنين ، فلله الحمد والفضل والمنة .

 

 

 

 

 

 

    قصة نبي الله صالح عليه السلام   

 

هو نبي الله صالح بن عبد بن ماسح بن عبيد ابن ثمود ، وهو من قوم ثمود -الذين يسكنون الحجر الواقعة بين الحجاز وتبوك- ، وأمة ثمود جاءت بعد أن أهلك الله عاد ، ولذلك قال لهم نبيهم صالح : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} ([43]) .

أرسل الله صالحاً إلى ثمود ؛  يدعوهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام والأنداد، فقال لهم         { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ([44]) .  ولكن قوم ثمود ردوا على نبيهم صالح دعوته بل سخروا منه فقالوا له : { يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} ([45]) . فتهكموا به وقالوا له : كنا نرجو أن يكون عقلك كاملاً  قبل هذه المقالة .

وقد ذكر المفسرون أن ثمودَ اجتمعوا يوماً في ناديهم، فجاءهم صالح عليه السلام وذكرهم بالله ووعظهم ، فطلبوا منه على وجه التعنت والسخرية والتحدي أن يخرج لهم من صخرة عظيمة ناقة عظيمة وذكروا من صفاتها كيت وكيت، وأشاروا إليها، فقال لهم صالح عليه السلام إن أنا أجبتكم إلى ما سألتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به . قالوا: نعم . فأخذ منهم العهود والمواثيق على ذلك، ثم دعا ربه عز وجل ، فاستجاب الله له، وأخرج من تلك الصخرة التي أشاروا إليها ناقة عظيمة حسب ما طلبوا، فآمن منهم من آمن وكفر أكثرهم . وقال لهم نبيهم صالح : { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ} ([46]) . وقال لهم أيضاً : { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155)وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ([47]) .  فأمرهم نبيهم صالح أن  لا يمسوا هذه الناقة بسوء، فهي آيه من آيات الله ، وقال لهم إن لها شرب يوم ترد الماء ولا يشرب الماء معها أحد من دوابكم، وفي اليوم الآخر تدّر عليهم لبناً يكفيهم كلهم .

ولكن أهل الريب والفساد لم يرتضوا ذلك، حيث سعى تسعة رجال في المدينة يدعون إلى عقرها والتخلص منها ، وتقاسموا وتحالفوا على قتل صالح عليه السلام : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ(48)قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(49)وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(50)} ([48]) .  فكفاه الله شرهم وأهلكهم .

وانبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف ، وكان عزيزاً منيعاً في قومه ، ولكنه شقي بعقره الناقة، قال عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، خطب النبي صلى الله عليه وسلم يومأ وذكر الناقة والذي عقر فقال النبي صلى الله عليه وسلم { إذ انبعث أشقاها } انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة .. الحديث ) ([49]) .   قال تعالى : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ([50]) . وقال تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا(11)إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا(12)فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا(13)فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا(14)وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا(15)} ([51]) .  ومن عتوهم وجبروتهم تحدوا صالحاً عليه السلام   أن يأتي ربه بالعذاب الذي حذرهم وخوفهم منه ، قال تعالى : { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ([52]).  فقال لهم نبي الله صالح : {   تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} ([53]) .

قال ابن كثير : فلما اشرقت الشمس –أي شمس اليوم الثالث- جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم ، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس وسكنت الحركات وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق ، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثاً لا أرواح فيها ولا حراك بها ([54]).  { أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} ([55]) . والحمد لله رب العالمين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

      قصة  نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

 

 

آتى الله إبراهيم عليه السلام رشداً في صغره، كما قال المولى جل وعلا { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين } .

ولما اصطفاه ربه دعا أباه ، فهو أحق وأولى الناس بدعوته، وكان أبوه آزر يعبد الأصنام، فألان إبراهيم لأبيه الكلام، وتلطف في العبارة، لعله يتقي وينيب ، فقال : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(41)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا(42)يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(43)يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا(44)يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45)} ([56]) . فتأمل كيف بين إبراهيم لأبيه أن هذه الأوثان لا تسمع ولا تبصر فكيف تنفع عابدها وهي لا تنفع نفسها، ثم أخبر أباه أنه قد جاءه من ربه هدى وعلم فلا تمتنع من قبول الحق لكوني أصغر سناً منك ، ولكن أباه زجره ونهاه وأغلظ له القول فقال له : {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ ءَالِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(46)} وعندها قال له إبراهيم عليه السلام : {   سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} ([57]) . وكان إبراهيم عليه السلام يرجو أن يمن الله على أبيه فيسلم، ولكن لما صد أبوه عن اتباع الحق وأيس إبراهيم من أبيه تبرأ منه لكونه كافراً فأخبرنا الله عن ذلك بقوله : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ([58]) .

وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ[وهو ذكر الضباع]  ملتطخ(1) فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار ) ([59]) .

ووسع إبراهيم عليه السلام دعوته ، فدعا قومه وناظرهم، وبين لهم الحق من الباطل ، وكان ممن ناظره في ذلك النمرود ، وقد قص الله علينا في كتابه تلك المناظرة فقال جل وعز : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ([60]) . فلما تجبر ذلك الملك وهو النمرود وعتى وأدعى الربوبية وأنه يحيى الموتى، أتاه إبراهيم عليه السلام بحجة لم يجد لها جواباً ، وذلك من توفيق الله ولطفه بأوليائه .

وأما قوم إبراهيم فإنهم  لما أعرضوا عنه ، توعد آلهتهم . ولما دعاه أبوه  لحضور  عيدٍ لهم ، اعتذر عن الخروج معهم وقال   : { إني سقيم } وذلك من أجل الوصول إلى مقصوده الذي أراده ، ولما خرجوا لعيدهم جاء إلى الأصنام وكلمها ساخراً منها : {  فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ(91)مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ(92) } ([61]) . ثم جعل يضربها ويكسرها حتى جاء على كبيرها ، ووضع الفأس عليه . ولما جاء الناس من عيدهم ورأوا ما حلّ بآلهتهم ، جاءوا إلى إبراهيم مسرعين ، لعلمهم بأنه سفه آلهتهم وتوعدها، فسألوه : { ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ(62)قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ(63)فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ(64)} فألزمهم إبراهيم عليه السلام الحجة، واتهموا أنفسهم بالظلم ، ثم عادوا لكفرهم وضلالهم وجهلم وخفة عقولهم: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ(65)} عندها قال إبراهيم عليه السلام {  أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ(66)أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(67) } فأرادوا البطش بإبراهيم وعقوبته { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(68)} ولكن الله ناصر أوليائه ومنجي رسله من كيد الكافرين  {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ }  ([62]) . 

ثم بعد أن نجى الله إبراهيم عليه السلام من كيد الكافرين خرج مهاجراً إلى أرض الشام بزوجته سارة ، وابن أخيه لوط عليه السلام  وذهب إلى مصر وحدث له ولزوجه مع ملكها محنة  ولكن الله سلم ،  قال صلى الله عليه وسلم : (  هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة فدخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء فأرسل إليه أن يا إبراهيم من هذه التي معك قال أختي ثم رجع إليها فقال لا تكذبي حديثي فإني أخبرتهم أنك أختي فو الله إن على الأرض مؤمن غيري وغيرك فأرسل بها إليه فقام إليها فقامت توضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر فغط حتى ركض برجله.... قالت اللهم إن يمت يقال هي قتلته فأرسل ثم قام إليها فقامت توضأ تصلي وتقول اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله قال عبد الرحمن قال أبو سلمة قال أبو هريرة فقالت اللهم إن يمت فيقال هي قتلته فأرسل في الثانية أو في الثالثة فقال والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانا ارجعوها إلى إبراهيم وأعطوها آجر فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام فقالت أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة) ([63])  .

ثم بعد ذلك  رجع إبراهيم وزوجته سارة ولوط عليهما السلام إلى بلاد بيت المقدس، ونزل لوط عليه السلام مدينة سدوم وبعثه الله نبياً يدعو الناس لدين الله .

ولما كانت سارة عقيماً لا تنجب، وهبت هاجر لزوجها إبراهيم لعل الله يرزقه منها الولد، فكان كذلك وولدت إسماعيل ، ثم إن سارة بعد ذلك اشتدت بها الغيرة، وطلبت من زوجها إبراهيم أن يغيب وجهها ووجه ولدها عنها ، قال ابن عباس (جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له أالله الذي أمرك بهذا قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بشرٍّ نحن في ضيقٍ وشدةٍ فشكت إليه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال هل جاءكم من أحد قالت نعم جاءنا شيخٌ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال فهل أوصاك بشيء قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك قال ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال ما طعامكم قالت اللحم قال فما شرابكم قالت الماء قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء قالت نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك)([64]) .

ولما أراد الله أن يختبر إبراهيم عليه السلام، أمره أن يذبح ابنه، فكان لإسماعيل عليه السلام شأن، وكان لإبراهيم شأن عظيم، قال الله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107) } ([65]) . أُمر إبراهيم أن يذبح ابنه في رؤيا رآها في منامه ، ورؤيا الأنبياء وحيٌ ، فكلم ابنه اسماعيل في ذلك، فأجاب إسماعيل بقوله : افعل ما تؤمر ، ثم عقَّب وقال : ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وصدق إسماعيل في قوله ووعده ، ولذلك امتدحه الله في سورة مريم بأنه صادق الوعد . ثم موقف إبراهيم في ذبح ابنه، بعد أن جاءه الولد على كبر، وبلغ الولد مبلغ الرجال، مع ما في القلب من المحبة العظيمة التي أوجدها الله في قلوب الخلق لأولادهم . ولكن كانت طاعة الله ومحبة الله فوق كل محبة، فاستجاب إبراهيم لأمر الله ، وتل إسماعيل للجبين ، قيل: إن إبراهيم جعل وجه إسماعيل إلى الأرض وأراد أن يذبحه من قفاه لكي لا يرى وجه ابنه حال ذبحه له . ثم سمى وكبر وتشهد الولد للموت، فجاء الفرج من الرحمن الرحيم، وجعل فداء إسماعيل ذبح عظيم ، كبش أرسله الله سبحانه وتعالى ، فداء لإسماعيل عليه السلام، ونال إبراهيم عليه السلام مرتبة الخلة ، وهي أعلى من مرتبة المحبة ، كما نالها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

ومن رحمة الله بإبراهيم وزوجه سارة ، أن الله رزقهما ذرية على كبر وعقم ، وذلك من لطف الله ورحمته بهما .  قال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ(69)فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ(70)وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ(71)قَالَتْ يَاوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ(72)قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(73) } ([66]) . فولدت سارة إسحاق على كبر وعقم، وجعله الله نبياً ، وكان  من ذرية إسحاق يعقوب النبي الكريم .

ثم أمر الله نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام أن يبني بمكة بيتاً . قال ابن عباس : (... قال إبراهيم  يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال فاصنع ما أمرك ربك قال وتعينني قال وأعينك قال فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) ([67]) .  قال تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127)رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128)رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)} ([68]) . فلله الحمد .

 

 

 

 

      قصة لوط عليه السلام

 

هو لوط بن هاران بن تارح ، ابن أخي إبراهيم عليه السلام .  فإخوة إبراهيم عليه السلام هاران وناحور .

ولوط عليه السلام نزح من محل إبراهيم عليه السلام بأمره وبإذنه إلى مدينة سدوم فنزلها ، وكان أهلها من أفجر الناس ، وأكفرهم، وأشدهم تعنتاً، وأسوأهم وأخبثهم طوية . كانوا يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويأتون الذكور في أدبارهم –قبحهم الله ولعنهم- . فدعاهم لوط عليه السلام إلى الله ، و إلى التوحيد ، وإلى ترك هذه الفاحشة العظيمة،  قال تعالى: { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ(80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} ([69]). وقال تعالى : { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ(28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ...}الآية  ([70]) . ولذا كان حكم مرتكب هذه الجريمة في شريعتنا قتل الفاعل والمفعول به ، قال صلى الله عليه وسلم : (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) ([71]) . سواء كان الفاعل والمفعول به محصنين أو لا . وما هذا التشديد إلا لأنها جريمة وفاحشة عظيمة تخالف الفطرة  التي فطر الله الناس عليها، ومرتكبها قد بلغ الغاية في الفحش فاستحق هذه العقوبة البليغة .

ولم يرتض قوم لوط ما دعاهم إليه لوط عليه السلام فنابذوه، وردوا عليه قوله : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ([72]) . بل قالوا له : {  ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ([73]) . ولما رأى لوط عليه السلام عنادهم واستكبارهم وإفسادهم في الأرض دعا عليهم   : { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ(30)} ([74]) . فاستجاب الله لنبيه ، وبعث الملائكة بالعذاب على المكذبين المعاندين .

 قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ(77)وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ(78)}  فلما جاءت الملائكة على صورة رجال حسان الوجوه، اشتد على لوط عليه السلام لعلمه بقومه وخبثهم وطلبهم الفاحشة ، فما كان من قومه لما علموا بمجيء الضيوف  إلا أن جاءوا مسرعين، طالبين الضيوف، وهم قد اشترطوا عليه أن لا يضيّف أحداً . فدعاهم إلى بناته ، ولم يرد لوط عليه السلام فعل الفاحشة ببناته، ولكن مراده إما مدافعته لقومه وصدهم عن مرادهم، أو أنه دعاهم إلى نكاح بناته من قومه الذين أرسل فيهم، وذلك أن كل نبي بمنزلة الأب لبني قومه، وزوجته بمنزلة الأمهات [75] . ولكنهم لم يستجيبوا له و قالوا له :  {  لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ(79)قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(80)} قال صلى الله عليه وسلم : ( يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد) ([76]) . ولوطاً لما ضاق بهم ذرعاً ولم تكن له عصبة وجماعة يأوي إليها وتمنعه منهم قال ما قال ،  ومراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الله هو الركن الشديد بل هو أشد الأركان وأمنعها .  ولما وصل به شدة الأمر إلى تلك الحال التي وصف الله عز وجل  قالت له الملائكة   {  يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ(81)} فأُمر لوط بأن يخرج بأهله ولا يلتفت منهم أحد وقيل لم يتبعه أحد من قومه إلا ابنتاه ، وأما زوجة لوط عليه السلام فإنها لما خانت زوجها بالكفر وكانت تدل قومها على أضياف لوط، استحقت العذاب والنكال مع قومها.  قال تعالى :  {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ(82)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(83)} ([77]) . قال المفسرون : اقتلع جبريل قرى قوم لوط ورفعها بطرف جناحه ، حتى بلغ بهن السماء، وسمعت  الملائكة صوت صياح الديكة ، ونباح الكلاب ، ثم قلبها عليهم ، ثم أُمطرت عليهم حجارة من سجيل منضود وهي الحجارة الشديدة الصلبة، ومنضود : أي متتابعة .

فانظر  رعاك الله ، إلى أولئك القوم ، كيف هانوا على الله لما عصوه وكذبوا رسله،  ولا يظن ظان  أن هذا العذاب خاص بقوم لوط ، بل من شابه فعلهم ، فهو على خطر من ذلك العذاب ، وهو مصداق قوله تعالى : { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } .

جنبا الله وإياكم سخط الجبار ، وأليم عقابه، وأنزلنا وإياكم  فسيح جنانه ، والفوز بالفردوس الأعلى، اللهم آمين  .

 

 

 

 

 

 

 

   قصة خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام

 

كان أهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريباً من بحيرة قوم لوط ([78]) .  وكانوا كفاراً يقطعون السبيل، ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة وهي شجرة من الأيك، وكانوا يبخسون المكيال والميزان ويطففون . حتى بعث الله فيهم رجلاً منهم وهو شعيب عليه السلام ، فدعاهم إلى التوحيد ، وترك القبائح، وعدم ظلم الناس .  قال تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(86)} ([79]) .  فدعاهم إلى التوحيد، وأمرهم بالعدل وعدم بخس الناس حقهم، ونهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية، وذكرهم بنعمة الله عليهم أن كثرهم من قلة .

ولكن كعادة الأمم الظالمة، والقرون السالفة، كذبوا نبيهم واستهزءوا به ، { قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ([80]) . وذلك على سبيل الاستهزاء والتنقص والسخرية .  فأجابهم شعيب عليه السلام : { قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ([81]) .  فبين لهم أنه على يقين من أمر ربه وأنه مرسل إليهم ، وأنه إن أمرهم كان هو أول من يأتمر  ، وإن نهاهم عن شيء كان هو أول من ينتهي . ثم ذكّرهم بحال الأمم المكذبة قبلهم وما حل بهم من النكال والعذاب لما خالفوا رسل ربهم ، فقال  : { وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ  ببعيد } ([82]) . أي :  لا يكن بغضكم لي يحملكم علىمخالفة أمر الله، فإن قوم نوح وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، كذبوا رسل الله، وعاندوهم، ونابذوهم ، فحل عليهم العذاب الأليم .  ثم دعاهم إلى الرحمن الرحيم، وفتح لهم باب التوبة  والمغفرة ليعودوا : { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ(90)} ([83]) .  ولكن عاندوا وكابروا، وقالوا: { يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ(91)} أي: لا نعقل كلامك ولا نفهمه ولا نحبه، ولا نريده ، وأنت ضعيف عندنا، ولولا قبيلتك وعشريتك لرجمناك. {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(92)} فرد عليهم: أتخافون من قبيلتي وعشيرتي ولا تخافون من الله، ثم توعدهم فقال:  {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ(93) } ([84]) . 

ثم لما استحقوا العقاب والعذاب، جمع الله لهم صنوفاً من العذاب، لأنهم جمعوا صنوفاً كثيرة من الأفعال القبيحة والشنيعة ، فأخذوا بعذاب الظلة كما في سورة الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189)} ([85])  .  ثم عذبوا بالرجفة التي زلزت الأرض من تحتهم وأزهقتهم كما في سورة الأعراف  قال تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(78)} ([86]) .    ثم عذبوا بالصيحة  : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(94)} ([87])  وهي صيحة عظيمة أخمدت الأصوات .. قال ابن كثير: أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى إليهم منها شرراً من نار ولهباً ووهجاً عظيماً ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم .. ([88]) .فبعداً للقوم الظالمين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصة يوسف عليه السلام        

 

هو يوسف ابن يعقوب ابن اسحاق ابن ابراهيم عليهم السلام، وأكرم به من نسب ! ، أنزل الله في شأنه سورة تتلى ، فذكرت أحواله وتفاصيل حياته .

مبدؤها رؤيا رآها يوسف في منامه ،  حيث رأى أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر له ساجدين،ولما قص تلك الرؤيا على أبيه يعقوب عليه السلام، علم أنه سيكون ليوسف شأن عظيم، فأمره بأن يكتم الأمر حتى لا يحسده أخوته أو ينالوه بسوء، والشمس والقمر أي أبواه ، والكواكب الأحدى عشر هم إخوته  : {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ(5)وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ([89])  . ولما رأى أخوة يوسف محبة أبيهم له وعنايته به، حسده أخوته وأضمروا له في أنفسهم شراً وكادوا أن يتفقوا على قتله، لولا أن أخاهم الأكبر رأى عدم قتله الاقتصار على رميه في البر حتى  تلتقطه أحد القوافل التي ترد البئر- أثنتهم عن قتله، والله غالب على أمره  .  ثم احتالوا على أبيهم حتى يخرج يوسف معهم للعب ، وكان يعقوب لا يمكنه من الذهاب معهم، خوفاً عليه : {قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11)أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(12)قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ(13)قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}  . ثم نفذوا ما أضمروه في صدورهم، فألقوا يوسف في البئر، وأخذوا قميصه ولطخوه بالدم، وعادوا إلى أبيهم  وتصنعوا : {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16)قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } ولكن لم تنطل حجتهم على أبيهم يعقوب وعلم أنهم قد كتموه أمراً { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)} . ثم جاءت قافلة سائرة في الطريق، وجاء الذي يستقي الماء، فأرسل الدلو، وتعلق يوسف به ، ولما رأوه  فرحوا به ، وأخذوه رقيقاً ،  ثم لما علم أخوة يوسف بأمر القافلة لحقوهم ، وقالوا لهم: هذا غلام أبق منا، فباعوه لهم  بثمن قليل جداً ! .

وفي مصر بيع ذلك النبي الكريم إلى عزيز مصر ، وهو وزير خزائن الدولة ، { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًاً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } ، وهذا من تمكين الله ليوسف ، وحسن تدبيره .

ثم لما شب يوسف وبلغ مبلغ الرجال، وكان عليه السلام جميلاً أعطاه الله شطر حسن بني آدم ، افتتنت به امرأة العزيز ، فهيأت له مكاناً، وتطيبت وتزينت، ودعته إلى مكانها، وغلقت الأبواب، ودعته إلى نفسها . ولكن يوسف عليه السلام اعتصم بمولاه ، وتعوذ بالله أن يخون سيده الذي أكرمه ورباه . { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24)} وفي الآية لطف الله وعنايته بيوسف عليه السلام ، فإن يوسف عليه السلام هم بها ، ولك أن تتخيل موقف كهذا الموقف، امرأة جميلة، وسيدة القصر وهي الآمرة الناهية فيه ، وتزينت كما تتزين الزوجة لزوجها، ومكان مغلق، وهو غريب في ذلك البلد، كلها دواعي قوية  لا يكاد ينفك منها الرجل إلا من وفقه الله وأعانه .  ولذلك كان من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله  : (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ) ([90]) .

 وفي الآية أيضا: بيان أن الإخلاص سبب للنجاة والخلاص من المضائق والكروب، فانظر إلى قوله  { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }، فكان الإخلاص سبباً في نجاة يوسف عليه السلام .

ولم ينتهي الموقف بعد، بل أراد يوسف النجاة بنفسه من هذا الابتلاء، فتسابقا إلى الباب ، وكان العزيز قد قدم عليهما ، وأسقط في يدها لكنها تخلصت وألقت باللائمة والتهمة على يوسف فقالت : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(25)}، فدافع يوسف عن نفسه : {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وأظهر الله براءة يوسف بشاهد من أهل البيت : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(26)وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ(27)فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }. ثم شاع الخبر في المدينة، وتناقل الناس وخصوصاً النساء أمر افتتان امرأة العزيز بفتاها، { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(30)}، فعلمت امرأة العزيز مرادهن وفهمت مقالتهن وأن قصدهن رؤية يوسف {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ }. وهذا الذي حصل لهن مما أنعم الله به على يوسف عليه السلام من جمال الصورة وحسن الهيئة حيث لم تميز معه النساء ولم تشعر إلا وهن يقطعن أيديهن من جماله !،  فسبحان الله الذي أتقن صنعه ! . ثم  عقبت امرأة العزيز   : { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ(32)}، لكن يوسف اعتصم بربه والتجأ إليه وهو نعم الملجأ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }  ، واستقر أمرهم على سجن يوسف حيناً من الزمن ، وكان ذلك .

ولما أدخل يوسف عليه السلام السجن، لكونه لم يجب امرأة العزيز إلى ما تريد، دخل معه فتيان، أحدهما كان ساقي الملك ، والآخر خبازاً . وكلاهما رأى رؤيا، فساقي الخمر  رأى أنه يعصر خمراً، والخباز رأي أنه يحمل فوق رأسه الخبز والطير تأكل منه .  فلما رأوا حال يوسف وسمته، قص كل واحد عليه الرؤيا التي رآها ليعبرها لهما، فأراد يوسف عليه السلام أن يدعوهما للتوحيد قبل أن يجيبهما ، وهذا من الأساليب الحسنة في الدعوة إلى الله، فقال لهما : {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39)مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(40)} . ثم  عبر الرؤيا، فأما الساقي  فإنه يعصر لسيده الخمر، وأما الخباز ، فإنه سوف يُصلب والطير تأكل من  رأسه .

ولما عبر يوسف الرؤيا قال لساقي الملك الذي ظن أنه سينجو   أذكرني عند الملك ،  والسجن الذي وضعت فيه بغير جرم .  ولما خرج الساقي أُنسي   ما قال له يوسف عليه السلام، فشاء الله أن يمكث مدة بضع سنين في السجن .

ثم إنه بعد ذلك أقلقت الملك رؤيا رآها وطلب تعبيرها : {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ(44)} .  ولم يجد من يعبرها له، واعتذروا بأنها قد تكون أضغاث أحلام . وتذكر ساقي الملك أمر يوسف وطلب إرساله إلى يوسف في السجن، فلما جاءه وقص عليه الرؤيا أولها يوسف عليه السلام فقال : {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ(48)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ(49)} . فرجع الساقي إلى الملك فأخبره، ولكن الملك طلب يوسف ليأخذ عنه التأويل مشافهة، ولكن يوسف عليه السلام أبى الخروج حتى تظهر براءته، فجمع الملك النسوة وسألهن  عن  أمر يوسف ،   : {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} عندئذ لم تر امرأة العزيز مناص من الاعتراف بالحق :  { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} . فخرج يوسف عليه السلام معززاً مكرماً ، وأراد أن يجعله الملك مقرباً ومستشاراً له ، فطلب منه يوسف أن يجعله على خزائن الأرض لعلمه ومعرفته بتصريفها وأخبر عن نفسه بأنه حفيظ عليم .

ولما جاءت سنين الجدب، كان الناس يأتون إلى مصر لأخذ ما قدر لهم من الطعام، وكان نصيب كل إنسان من الطعام حمل بعير . فدخل إخوة يوسف عليه ، فعرفهم ولم يعرفوه ، ولم يكن ببالهم أن يصل يوسف عليه السلام إلى هذا المنصب . فسألهم وعلم حالهم، وأن لهم أخاً من أبيهم لم يأت معهم ، فطلب منهم إذا جاءوا في العام القادم أن يأتوا بأخيهم ، حتى يكون فعله أقرب للعدل، ثم حذرهم إن لم يأتوا بأخيهم العام القادم، فلا يطلبوا منه شيئا ولا يقربوه .  فكان في هذا تهديد لهم ، مما حملهم على الإلحاح على أبيهم لكي يرسل معهم أخاهم ، فيوافق العزيز على إعطائهم الطعام .  ولكن الأب خاف أن يفعل بابنه بنيامين مثل ما فعل بيوسف، فأخذ عليهم العهود والمواثيق، أن يأتوا بابنه بنيامين  إلا أن يحيط بهم أمر لا يستطيعون رده عن أنفسهم ولا عن  بنيامين . فأعطوه العهود المواثيق على ذلك،  ثم أمرهم أبوهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة ، وذلك أن أولاد يعقوب عليه السلام كانوا كثيرين وكانوا حسن الهيئة ، فخاف عليهم العين، فأمرهم بالتفرق . ثم أنهم لما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم، و دخلوا على يوسف ، وتمكن من الخلوة بأخيه بنيامين ، وأخبره بأنه أخوه وقص عليه الخبر ، ثم دبر معه مكيدة تبقيه عنده ، حيث جعل صواع  الملك ، وهي التي كان الملك يشرب بها، ويكيل بها الطعام ، ولما خرج أخوة يوسف، لحقهم جند الملك وقالوا لهم لقد سرقتم صواع الملك، فأنكر إخوة يوسف ذلك أشد الإنكار، وطلب منهم جند الملك أن يفتشوا متاعهم فمن وجدوا  عنده الصواع فإنه يؤخذ ، وتلك العقوبة في شريعة يعقوب ، ولم يكن في دين الملك أن من سرق يؤخذ .  ففتشت أوعية الأكبر فالأكبر حتى جاءوا إلى رحل بنيامين ووجدوا عنده الصواع ، فأخذوه معهم إلى عزيز مصر، وحاول إخوة يوسف أن يبقوا غيره عند العزيز ، ويخلي سبيل بنيامين حتى لا يخلفوا مواثيقهم وعهودهم لأبيهم يعقوب ، لكن عزيز مصر رفض ذلك.

ولما جاء الخبر يعقوب عليه السلام ،  أكثر البكاء ، وابيضت عيناه من كثر الحزن والبكاء على يوسف ، ولم ييأس يعقوب من رحمة الله ، وأمر بنيه بالبحث عن يوسف وبنيامين ، فعاد إخوة يوسف إلى  عزيز مصر  وناشدوه ، وذكروا له حال  أبيهم : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ(88)}  فلما رأى حالهم ، رق لهم  وقال : {  هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} .  {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90)قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ(91)قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} ،  فذهب البشير بقميص يوسف عليه السلام ،  {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ  لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ(94)قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ(95)فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ولما دخل يعقوب عليه السلام وزوجه وأولاده الأحد عشر ، سجدوا له ، والسجود في شريعتهم كانت تحية للعظماء ، وكان هذا السجود تأويل للرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام لما كان صغيراً .  والحمد لله رب العالمين .

 

 

 

 

 

قصة نبي الله أيوب عليه السلام 

 

هو أيوب بن موص بن زراح بن العيص بن إسحاق ابن إبراهيم الخليل عليه السلام.

قال ابن كثير ([91]) : قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم ، كان أيوب رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد المواشي والأراضي المتسعة بأرض البثينة من أرض حوران . وحكى ابن عساكر أنها كلها كانت له ، وكان له أولاد وأهلون كثير فسلب من ذلك جميعه وابتلى في جسده بأنواع البلاء ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بها وهو في ذلك كله صابر محتسب، ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه، وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته . وضعف حالها وقل مالها حتى إنها كانت تخدم الناس بالأجر، لتطعمه وتقيم أوده، رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ماحل بهما من فراق المال والولد وما يختص بها من المصيبة بالزوج، وضيق ذات اليد وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة ، فإن لله وإنا إليه راجعون ... قال: ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام إلا صبراً واحتساباً وحمداً وشكراً حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام ..

قال: ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها لعلمهم أنها امرأة أيوب خوفاً أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته ، فلما لم تجد أحداً يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير ، فأتت به أيوب فقال : من أين لك هذا ؟ وأنكره . فقالت : خدمت به إناساً فلما كان الغد ، لم تجد أحداً فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به فأنكره أيضاً وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام ، فكشفت عن رأسها خمارها فلما رأى رأسها محلوقاً قال في دعائه : { ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } .. وحلف أيوب عليه السلام أن يضربها مائة سوط لبيعها ضفائرها .

وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قالك : ( إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنه فرفضه القريب و البعيد ... الحديث ) .

ثم لما أراد الله رفع ضره وبلائه ، أمره أن يضرب الأرض برجله { أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } . فانبع الله له عيناً باردة الماء، وأمر أن يغتسل فيها، ويشرب منها ، فأذهب الله عنه  ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض .

ولما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه ذهباً كثيراً ، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بينا أيوب يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحتثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك ) ([92]) .

ورخص الله لأيوب عليه السلام فيما كان من حلفه ليضربن زوجه مائة سوط ، قال تعالى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب } . فأُمر أن  يجمع قبضة من قضبان مختلفه يجمعها أصل واحد من العهن والصوف ونحوه ، ويضرب زوجه ضربة واحدة . فيبر بيمينه ولا يحنث . والحمد لله إله الأولين والآخرين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

         قصة يونس عليه السلام

 

بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى التوحيد، وإلى عبادة الله وحده، ولكنهم كعادة الأمم قبلهم ، كذبوا رسولهم ، وكفروا به، فخرج غاضباً من عندهم ووعدهم أن يحل بهم العذاب بعد ثلاث .

ولما خرج من عندهم غاضباً ، أوقع الله في أنفسهم التوبة والإنابة ، وندموا على ما كان منهم، فخرجوا وقد لبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، وعجوا بالدعاء إلى الله وتضرعوا، فلا تسمع إلا دعاء ونداء وبكاء، ولا تسمع إلا رغاء الإبل، وخوار البقر،وثغاء الغنم.. ولما رأى الله عز وجل حالهم ذلك، رأف بهم ، وكشف عنهم العذاب، الذي قد انعقد سببه . قال تعالى :{ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا  عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } .

وأما يونس عليه السلام فإنه لما خرج غاضباً بسبب قومه ، ركب سفينة في البحر ، فاضطربت وماجت بهم ، وثقلت بمن فيها ، وكادوا يغرقون ، فاتفقوا على أن يجروا قرعة ، فمن وقعت عليه يلقونه في البحر ،  فوقعت القرعة على يونس، ولما هم بإلقاء نفسه في البحر، أعادوا القرعة فخرجت الثانية عليه، ثم أعادوا القرعة مرة ثالثة، وفي كل مرة تقع عليه ، فلم يرَ يونس عليه السلام بداً من إلقاء نفسه، لأمر قدره الله عز وجل . ولما ألقى يونس نفسه في البحر، أوحى الله إلى حوت أن يلتقمه ولا يهشم له عظماً ولا يأكل له لحماً فليس له برزق .  قال تعالى : { وإن يونس لمن المرسلين . إذا أبق إلى الفلك المشحون . فساهم فكان من المدحضين .فالتقمه الحوت وهو مليم } .  فمكث يونس في بطن الحوت مدة الله أعلم بها  وكان تسبيحه : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .  فاستجاب الله له : { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } .  قال صلى الله عليه وسلم : (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له  ) ([93]) .

فأوحى  الله إلى الحوت أن يقذفه إلى البر، وأنبت عليه من شجرة اليقطين أي القرع، كي يعوضه  السقم الذي أصابه من مكثه في الحوت ، قال تعالى : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم . وأنبتنا عليه شجرة من يقطين  } .  ثم أرسله الله إلى قوم عدتهم مائة ألف أو يزيدون . فآمنوا جميعهم ، فضلاً من الله وكرامه .

والحمد لله أولاً وآخراً . والصلاة والسلام على محمد وآله .

         قصة كليم الله موسى عليه السلام  

 

هو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام .

أول أمره رؤيا رآها فرعون، فقد رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بني إسرائيل ، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة  والسحرة، وسألهم عن رؤياه، فقالوا له : هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه ، ثم إن فرعون أمر بقتل كل غلام يولد لبني إسرائيل . فجعل هناك قوابل ورجال يدورون علىنساء بني إسرائيل ويعلمون ميقات وضع الحوامل ، فإن كان ذكراً قتل ، وإن كانت أنثى تركت .

وكان بنوا إسرائيل مسخرين لخدمة فرعون والأقباط، ومع استمرار قوم فرعون في قتل الذكور، خشي الأقباط إن هم قتلوا كل مولود ذكر،  أن لا يجدوا من يخدمهم ، ويتولوا هم القيام بالأعمال التي كان يقوم بها بنو إسرائيل . ولذلك شكوا إلى فرعون ذلك الأمر، فأمر فرعون بقتل الذكور سنة، وأن يترك قتلهم سنة . فولد هارون بن عمران في عام المسامحة ، وفي عام القتل حملت أم موسى بموسى، فخافت عليه، ولكن الله إذا قدر أمراً كان ، فلم يظهر على أم موسى مخايل الحمل، ولما وضعت أُلهمت بأن تضع ابنها في تابوت، وتربطه بحبل، وكانت دارها متاخمة للنيل ، فكانت ترضعه، وإذا قضى رضاعه أرسلت التابوت وطرف الحبل عندها، خشية أن يباغتوها رجال فرعون . ثم إنها ظلت على ذلك فترة من الزمن ، فأوحى إليها ربها أن ترسل الحبل : { وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } ([94]) .  ولك أن تتأمل كيف تُلقي أم بولدها في النهر تتقاذفه المياه من كل جانب، ولكن هي مشيئة الله وإرادته، وأخبر الله أم موسى أن لا تخاف عليه من الضيعة أو الموت ، وأن لا تحزن عليه، فإنه راجعٌ إليك، وفوق ذلك بشارة وأعظم بشارة ، أنه سيكون من الأنبياء المرسلين الذين لهم شأن .

فاستجابت أم موسى لأمر ربها ، وأرسلت وليدها في التابوت تجرفه المياه حتى وقف على قصر فرعون ، والتقطه الجواري وذهبوا به إلى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فلما رأته ألقى الله في قلبها محبته، وكان  لا يأتيها الولد، وقالت لفرعون : { قرت عين لي ولك لاتقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون } . فقال فرعون : أما لك فنعم، أما لي فلا حاجة لي به .  ولما استقر مقام موسى في بيت فرعون ، لم تصبر أم موسى على فراق ابنها ، وأرسلت أخته تقص خبره ولتعلم مكانه ، وكادت أن تبدي أم موسى بأمرها، ولكن الله ثبتها، { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين } .

ولكن الله لا يخلف وعده بقوله { إنا رادوه إليك } ، فحرمت المراضع على موسى، فلم يقبل أن يرتضع من أحد ، ولم يقبل ثدياً ، وخافت امرأة فرعون عليه الهلاك، وأرسلته إلى السوق لعلهم يجدون له مرضعاً، فجاءتهم أخت موسى وقالت لهم : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } . فذهبوا معها إلى منزلها، فأخذته أم موسى ووضعته في حجرها وألقمته ثديها فأخذ يرتضع منها، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً ، فأخبروا آسية بذلك ففرحت، وأرسلت في طلب أم موسى، وعرضت عليها أن تكون عندها ترضع موسى، فاعتذرت بأن لها بيتاً وأولاد وزوج، وقالت لها: أرسليه معي ، فوافقت آسيه على ذلك ، ورتبت لها رواتب ونفقات وهبات، فعادت أم موسى بابنها ، وبرزق مستمر يأتيها من امرأة فرعون .

و شب موسى ، وبلغ مبلغ الرجال، وكان الله قد آتاه قوة في الجسم ، ثم إنه دخل المدينة في وقت غفلة فوجد رجلين يقتتلان أحدهما قبطي ، والآخر من بني إسرائيل، فطلب الإسرائيلي من موسى النصرة والنجدة، فبادر موسى لنصرته ، فضرب القبطي ضربة قتلته، وعلم موسى أن هذا العمل من فعل الشيطان فتاب إلى ربه واستغفره من هذا الذنب، فتاب الله عليه ، ثم إنه من الغد دخل المدينة فوجد ذلك الرجل الإسرائيلي يقتتل مع قبطي آخر ، وناداه واستغاث به، فقال له موسى، إنك لغوي مبين، فأراد موسى أن يبطش بالقبطي ، فخاف الإسرائيلي وظن أن موسى سيبطش به فقال : { ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس  إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } . فلما سمع القبطي بذلك الأمر ذهب مسرعاً يخبر الناس بمن قتل القبطي الآخر ، فخرج الناس مسرعين يريدون موسى، وجاء رجل قد سبقهم ، ينذر موسى بما أضمروا  له، وأشار عليه بالخروج من المدينة لينجو بنفسه ، {فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين(21)ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} .

خرج موسى من أرض مصر خائفاً من بطش فرعون وقومه، لا يعرف أن يذهب؛ لكن تعلق قلبه بمولاه : {ولما توجه تلقاء مدين قال  عسى ربي أن يهديني إلى سواء السبيل } . فهداه الله إلى أرض مدين، فبلغ ماء مدين، ووجد الرعاء يسقون، ولاحظ وجود امرأتين تردان غنمهما أن يردا مع غنم القوم . قال المفسرون : وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة فتجيء هاتان المرأتان فتوردان  غنمهما في فضل أغنام الناس .

فلما ذهب الرعاء قال لهم موسى ما شأنكما ؟ فأخبراه أنهما لا تقدران على ورود الماء حتى يذهب الرعاء،  وأبوهما شيخ كبير وهم نسوة ضعفاء . ولما عرف حالهما ، رفع موسى الحجر عن البئر ، وكان لا يرفعه إلا عشرة من الرجال، : { فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وقال ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير } .

ثم مالبث أن جاءته إحدى المرأتين وقالت : { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } فذهب موسى وكلم أبوهما شعيب ، وهو ليس شعيب النبي ،  وطمأنه بأنه في أرض ليست لفرعون عليها سلطة ، وتكلمت إحدى المرأتين ، وقالت : {ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} . أما القوة فظاهر ، وذلك أن موسى عليه السلام رفع الحجر من فم البئر، حيث كان لا يستطيع رفعه إلا عشرة من الرجال، وأما الأمانة: فإن المرأة لما جاءته  ليأخذ أجره من أبيها، قال لها لا تمشي أمامي ، وامشي خلفي ، وأمرها بأن ترمي الحجر يميناً وشمالاً لتدله على الطريق .

وعرض عليه شعيب أن يستأجره لرعي الغنم ثمانية أعوام وإن زاد عشرة فهو فضل من موسى، على أن يزوجه إحدى ابنتيه . فوافق موسى عليه السلام، وأتم له عشرة أعوام .

ولما قضى الأجل سار موسى بأهله قاصداً أرض مصر، وكان له موعد تشريف ، حيث امتن الله عليه وأكرمه بالرسالة، وكلمه ربه  : {فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني ءانست نارا لعلي ءاتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون(29)فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين(30)وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين(31) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين  قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون(33)وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون(34)قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون(35) } ([95]) .

فكلمه ربه، وأرسله إلى بني إسرائيل، وأعطاه آيات وبراهين، من رآها علم أنها ليست في مقدور البشر .  فكانت عصا موسى تنقلب حية عظيمة ، وحلّ عقدة من لسانه حتى يفقهوا عن موسى قوله وقد كان في لسانه لثغة ، ثم أجاب الله سؤال موسى أن يرسل إلى هارون  ويجعله وزيراً معيناً لمواجهة فرعون وقومه، فأجاب الله موسى إلى ما سأل، وهذا دليل على وجاهة موسى عند ربه : { وكان عند الله وجيهاً } .

ثم أمر الله موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون ، ويدعونه إلى التوحيد، قال تعالى :  {اذهبا إلى فرعون إنه طغى(43)فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى(44)قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى(45)قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى(46)فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى} ([96]) .  وأظهر موسى عليه السلام لفرعون الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله وأنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فلم يستجب بل كابر وعاند، ثم أظهر موسى له  الآيات الباهرة، فأظهر يده بيضاء شديدة البياض، وألقى العصى فكانت حية تسعى ترهب كل من رآها . ومع ذلك كله ، لم يستجب فرعون وقومه واتهموه بالسحر، وطلبوا موعداً ليقابلوا سحرهما بسحر مثله ، فأجاباهما إلى طلبهم وواعداهما يوم الزينة وهو يوم  عيد لهم  حيث يجتمع الناس كلهم ، ولما جمع فرعون السحرة قال لهم : {إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى(63)فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى(64) قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى(65)قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(66)فأوجس في نفسه خيفة موسى(67)قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى(68)وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى(69)فألقي السحرة سجدا قالوا ءامنا برب هارون وموسى(70)قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى(71)قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا(72)إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى(73)} قال ابن عباس وغيره : أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء

ولما خاب ما كان فرعون يؤمله من قهر السحرة لموسى، حيث آمن السحرة كلهم لما رأوا آية ليست من جنس السحر، عندئذ، توعدهم فرعون بالقتل والصلب، فقتلهم وأفناهم . وحرض رجال فرعون ،  ملكهم فرعون على موسى ومن معه ، { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك . قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون . قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا . قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } . واستمرت أذية فرعون وقومه ، لموسى وقومه، فانتصر الله لموسى فابتلى  فرعون وقومه بأنواع من العذاب ، فابتلاهم بالسنين وهي الأعوام التي ليس فيها زرع ولا ينتفع بضرع، ثم ابتلاهم بالطوفان وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع، ثم ابتلاهم بالجراد الذي ذهب بزروعهم ، ثم ابتلاهم الله بالقمل الذي نغص عليهم حياتهم فدخلت عليهم بيوتهم وفي فرشهم . ثم ابتلاهم الله بالدم، فكانوا كلما اغترفوا ماء تحول دماً عبيطاً فلم يهنئوا بماء عذب . ثم ابتلاهم الله بالضفادع، فملأت عليهم بيوتهم ، فلا يكشفوا إناء إلا وبه من الضفادع، فتنكد عيشهم بذلك .

وكانوا كلما ابتلوا ببلوى سألوا موسى أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب، وإن فعل ليؤمنوا له ويرسلوا معه بني إسرائيل . وكان موسى يدعو ربه في كل مرة يسألونه ذلك، وكان الله يستجيب دعاء نبيه ورسوله .

ولما تمادى فرعون وقومه في الضلال والغي، وكفرهم بالله، ومخالفة لرسوله . أوحى الله إلى موسى أن يكون هو وبنو اسرائيل على أهبة الرحيل، وأن يجعلوا في بيوتهم علامة تميزهم عن بيوت الأقباط، ليعرفوا بعضهم عند الرحيل ، وأمرهم الله بإقامة الصلاة { وأوحينا إلى موسى أن تبوءآ لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين } .  ولما رأى موسى أن قوم فرعون يزدادون عتواً وعناداً دعا عليهم وأمن هارون على دعائه  فقال :{ ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة  الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك  ربنا اطمس على اموالهم واشدد قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } .

فأمر الله موسى وقومه بالخروج ، واحتالوا على فرعون بأنهم يريدون أن يخرجوا لعيد لهم، فأذن لهم فرعون وهو كارهٌ لذلك ،  واستعاروا حلياً من الأقباط، وهذا والله أعلم حتى يأمنوا   أن خروجهم كان للعيد .  فسار موسى ببني اسرائيل واستمروا ذاهبين صوب بلاد الشام، ولما علم فرعون بمسيرهم ،  حنق عليهم حنقاً شديداً ، وجمع جيشه من كل مملكته، وخرج على رأسهم في جيش عظيم جداً طالباً موسى وقومه ، يريد الفتك بهم وإفنائهم .  واستمروا في سيرهم طالبين موسى وقومه حتى أدركوهم عند شروق الشمس، ولما رأى بنوا اسرائيل فرعون وقومه مقبلين نحوهم قالوا : { إنا لمدركون }  وقال موسى من فوره مقالة الواثق بربه، { كلا إن معي ربي سيهدين } . وأوحى الله لموسى أن يضرب بعصاه البحر ، فانفلق البحر اثنا عشر طريقاً ، وكان بنوا اسرائيل اثنا عشر سبطاً ، فسار كل سبط في طريق، ورفع الله الماء كالجبل يابساً ،  ولما وصل فرعون إلى البحر ، ساءه ما رأى ، وأخذته الحمية، ودفع بفرسه داخل البحر يريد أن يدرك موسى، ولما تكامل موسى وقومه خارجين من البحر، وتكامل فرعون وقومه في البحر، أمر الله البحر فأطبق   الماء على فرعون وقومه وأغرقهم جميعاً ، ولما رأى فرعون الموت قال { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } قال الله : { الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية } . فأخرج الله جثة فرعون لكي يراه الناس ويتيقنوا هلاكه . فلله الحمد والمنة .

وقال تعالى : {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين(136)وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون(137)وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم ءالهةقال إنكم قوم تجهلون(138)إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون(139)قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين(140)وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } ([97]) .  وبعد رأى بنو اسرائيل هذه الآية العظيمة بهلاك فرعون وقومه، مروا على قوم عاكفين على أصنام يعبدونها، فسألهم بعضهم عن ذلك، فقالوا: إنها تجلب النفع والضر والرزق والنصر، فعندئذ سأل بعض بني اسرائيل نبيهم موسى أن يجعل لهم آلهة مثل أولئك، فعنفهم موسى على ذلك . وتوجه موسى ببني اسرائيل قاصداً بيت المقدس، وكان فيها قوماً من الجبارين ، وكان الله قد وعدهم دخول بيت المقدس، فأمر بني اسرائيل دخولها، وقتال أهلها، فنكل أكثرهم وتبجحوا في الجواب . فقال لهم موسى : {ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين(21)قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون(22)قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين(23)} والعجب أن بني اسرائيل قد عاينوا هلاك فرعون وقومه وهم أشد بأساً وأكثر جمعاً، والذي أهلك فرعون وقومه، قادرٌ على أن يهلك من هو دونه ، ولكن تلك عادة أولئك القوم قتلة الأنبياء . { قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون(24)} وبئس القول الذي صدر منهم . فعندئذ قال موسى عليه السلام {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين(25)} قال ابن عباس : أي اقض بيني وبينهم  . فقال تعالى : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين(26)}([98]). فضرب على بني اسرائيل التيه في الصحراء أربعين سنة عقوبة لهم ، فكانوا يسيرون ليلاً ونهاراً إلى غير مقصد أربعين سنة .

وكان شرابهم ماءً زلالاً طيب حيث يضرب موسى عليه السلام الحجر بعصاه فينبع منها ماء طيب، {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين(60)}. وكان  طعامهم المن والسلوى ،وهو طعام ينزل عليهم من السماء فيصنعون منه الخبز، وهو في غاية البياض والحلاوة، فيأخذون منه على قدر حاجتهم، ومن أخذ زيادة فإنه يفسد، وإذا كان آخر النهار غشيهم طير السلوى فيقتنصون منه بلا كلفة، وفي الصيف يظللهم غمام يقيهم حر الشمس رحمة من الله بعباده {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} ([99]) . ولكنهم وكعادتهم ، لم  يعجبهم ذلك وطلبوا من موسى الطعام الخارج من الأرض فقالوا : {وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} فقال لهم موسى: { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.

ثم إن موسى عليه السلام أراد لقاء ربه ، فأمره الله بصيام ثلاثين يوماً ، ثم أمره الله أن يصوم عشرة أيام أخرى،  فصامها. قال تعالى : {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين(142)ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما ءاتيتك وكن من الشاكرين} .  ولما نال موسى عليه السلام شرف كلام الرب، طمع في رؤية ربه ، وسأله الرؤية، فبين له ربه أنه لا يقدر في هذه الدنيا على رؤيته، وأراه  تجليه للجبل، وكيف كان بعد ذلك، فلم يحتمل موسى هذا التجلي ولم يقو على رؤيته فصُعق . ثم تاب موسى إلى ربه من مسألته تلك، وأكرم الله موسى بأن كتب له التوراة  : {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين}.  وفي الفترة التي كان موسى بجانب الطور يناجي ربه،  أحدث بني اسرائيل حدثاً خالفوا به أمر ربهم ، فماكان من رجل يقال له السامري إلا أن زين لهم أن يجمعوا حليهم فصاغ منه عجلاً، ثم  ألقى عليه قبضة من تراب كان قد أخذها من أثر فرس جبريل لما رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه، فأحدث ذلك العجل صوت كخوار العجل الحقيقي، ففتنوا به ، فذكرهم هارون ، وحذرهم، ولكنهم لم يلقوا له بالاً ، وقالوا هذا إلهنا حتى يرجع إلينا موسى .

ثم أعلم الله رسوله بما أحدث بني اسرائيل بعده ، قال تعالى : { وما أعجلك عن قومك ياموسى(83)قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى(84)قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري(85)فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي(86) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري(87) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي(88)أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا(89)ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري(90)قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى(91)قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا(92)ألا تتبعن أفعصيت أمري(93) قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي(94)قال فما خطبك ياسامري(95)قال بصرت بما لم يبصروا به} أي : رأيت جبرائيل وهو راكب على فرس{ فقبضت قبضة من أثر الرسول} أي من أثر فرس جبريل { فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي(96)قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} فدعا عليه موسى بأن لا يمس أحداً  معاقبة له على مسه مالم يكن له مسه ، وذلك في الدنيا { وإن لك موعدا لن تخلفه } وهذا في الآخرة . {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا(97)}. فحرقه موسى عليه السلام ثم نسفه في اليم .  ثم إن الله لم يقبل توبة عابدي العجل إلا بقتل أنفسهم ، قال الله تعالى : {وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم }.  قال ابن كثير: فيقال إنهم أصبحوا يوماً وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف، وألقى الله عليهم ضباباً حتى  لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه، ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم ، فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفاً .

ثم إن موسى عليه السلام خرج بسبعين رجلاً من خيار بني اسرائيل ومعهم هارون ، ليعتذروا عن بني اسرائيل في عبادتهم للعجل ، فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل ، ثم لما انكشف الغمام ، طلبوا رؤية الله ! { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} فجعل موسى عليه السلام يناشد ربه ويرغب إليه ليرفع عنهم:{ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} .

ثم ما زال موسى عليه السلام يعلم بني اسرائيل التوراة ، ويعلمهم الحكمة ، فتوفي هارون في التيه ،  ثم خلفه بعد ذلك موسى عليه السلام . ولوفاة موسى عليه السلام قصة ، ذكرها البخاري وغيره  . فعن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد الله عليه عينه وقال ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة قال أي رب ثم ماذا قال ثم الموت قال فالآن فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ) ([100]) .

 قصة نبي الله داود عليه السلام

 

هو داود بن ايشا بن عويد بن عابر.. ويتصل نسبه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام . قال وهب بن منبه : كان داود عليه السلام قصيراً، أزرق العينين، قليل الشعر، طاهر القلب ونقيه . مكنه الله من قتل جالوت، كما في سورة البقرة، فعظم في أعين بني إسرائيل، فأحبوه ومالوا إليه، وولوه ملكاً عليهم . فجمع الله له بين الملك والنبوة، بين خير الدنيا والآخرة، قال تعالى : { وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء .. الآية } .

وأنزل الله عليه الزبور، ورزقه الله صوتاً حسناً عظيماً، تسبح معه الجبال والطيور، وأرشده الله وألهمه لصناعة الدروع لمقاتلة الأعداء . قال تعالى : {ولقد ءاتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد} ([101]) .  وقال تعالى : {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق(18)  والطير محشورة كل له أواب(19) } ([102]) .  وكان داود عليه السلام يأكل من عمل يده، فكان يصنع الدروع ويبيعها ، قال صلى الله عليه وسلم : (  ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) ([103]) .

ووفق الله داود عليه السلام لعبادة يحبها ، فأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود عليه السلام ، قال صلى الله عليه وسلم: ( أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما) ([104]) . وكان داود عليه السلام مع عبادته، قوياً شديد البأس لا يفر إذا لا قى عدوه ([105]). 

عُمّر داود عليه السلام مائة سنة، يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  (  أول من جحد آدم قالها ثلاث مرات إن الله لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم عليه فرأى فيهم رجلا يزهر قال أي رب من هذا قال ابنك داود قال كم عمره قال ستون قال أي رب زد في عمره قال لا إلا أن تزيده أنت من عمرك فزاده أربعين سنة من عمره فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما أراد أن يقبض روحه قال بقي من أجلي أربعون فقيل له إنك جعلته لابنك داود قال فجحد قال فأخرج الله عز وجل الكتاب وأقام عليه البينة فأتمها لداود عليه السلام مائة سنة وأتمها لآدم عليه السلام عمره ألف سنة) ([106]) .  وكانت وفاته عليه السلام فجأة ، وقد ذكر قصة وفاته الإمام أحمد في مسنده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كان داود النبي فيه غيرة شديدة وكان إذا خرج أغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع قال فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت من أين دخل هذا الرجل الدار والدار مغلقة والله لتفتضحن بداود فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود من أنت قال أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمتنع مني شيء فقال داود أنت والله ملك الموت فمرحبا بأمر الله فرمل داود مكانه حيث قبضت روحه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس فقال سليمان للطير أظلي على داود فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض فقال لها سليمان اقبضي جناحا جناحا قال أبو هريرة يرينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فعلت الطير وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبت عليه يومئذ المصرخية) ([107]) . وقوله وغلبت عليه يومئذ المصرخية : أي وغلبت على تظليله الصقور الطوال الأجنحة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصة نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام

 

هو سليمان بن داود عليهما السلام، ورث النبوة والملك من أبيه داود عليه السلام، وسأل سليمان ربه حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا يكون لأحد من بعده، فأجابه الله إلى مسألته ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثة سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه) ([108]) .

فسخر الله له الريح تجري بأمره، وسخرت له الجن والشياطين، والإنس والطير كلهم جنود له يأتمرون بأمره . قال تعالى : { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب(35)فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب(36)والشياطين كل بناء وغواص(37)وءاخرين مقرنين في الأصفاد(38)هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب(39)} ([109]) . وقال تعالى :{وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهو يوزعون .. الآية } ([110]) . ومكنه الله من فهم لغة الطيور وغيرها ، قال تعالى حاكياً مقالته : { يا أيها الناس علمنا منطق الطير .. الآية } ([111]) .  وقال تعالى : {  وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون  حتى إذا أتو على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } ([112]) .

وقصة سليمان عليه السلام مع الملكة بلقيس مشهورة معلومة، أظهرت عظمة ملك سليمان ، وكيف أُحضر عرش بلقيس خلال مدة يسيرة جداً . قال تعالى : { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } . والمعنى : قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته ([113]) .

وكان لسليمان عليه السلام نساء كثر، ذكر بعض السلف أنه كانت لسليمان عليه السلام من النساء ألف امرأة سبعمائة حرائر، وثلاثمائة إماء، وقيل العكس . ويدل على كثرتهم الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون) ([114]) .

وأما موت سليمان عليه السلام، فقد كان فيه عبرة للإنس، حيث قبض الله روح سليمان وهو متوكئ على عصاه، وكانوا يهابون منه فلا يسألونه أو يحدثونه حتى يكون هو البادئ، واستمر على ذلك زمناً طويلاً ، وما علموا إلا بعد أن أكلت الأرضة عصا سليمان فخر ساقطاً، فعلمت الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، ولو كانت الجن تعلم  أن سليمان عليه السلام قد مات  منذ زمن  ، لم يصبروا على البقاء في السخرة والعذاب -وكان سليمان عليه السلام قد دعا ربه فقال: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب -. قال تعالى : { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } ([115]) .  ولله الحمد .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

 

زكريا عليه السلام نبي كريم، بلغ مع زوجه من الكبر عتياً، ولم يرزق بولد، وكان قد دعا ربه فقال : { رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً . وإن خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً } .  فسأل الله الولد الذي يرثه في النبوة وليست وراثة المال، ولذلك قال: { ويرث من آل يعقوب} . وآل يعقوب تميزوا بالنبوة وليس بكثرة العرض .  وكان زكريا عليه السلام قد كفل مريم أم عيسى عليهما السلام، فتعجب من حالها، فكان يرى عندها فاكهة الشتاء في فصل الصيف، وفاكهة الصيف في فصل الشتاء، فسألها عن ذلك فقال : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} . فتوجه زكريا عليه السلام بالدعاء إلى ربه فقال : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء }. فطلب من ربه ذرية طيبة ، وكذلك المسلم يسأل ربه الذرية وليس ذرية فقط وإنما ذرية طيبة .  فاستجاب الله له، ونادته الملائكة ، قال تعالى : { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } وهنا ملحظ عجيب، وهو أن زكريا عليه السلام مع دعائه ربه وسؤاله الولد، لم ينقطع عن العبادة والتوجه إلى ربه، فجاءته البشرى وهو في محراب صلاته ، { أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين } . فوصفه الله بأنه سيد، أي : الشريف الكريم، ( وحصوراً) : أي مترفعاً عن الفواحش والقاذورات .  فطلب زكريا من ربه علامة على تحقق هذه البشارة، وليس هو اعتراضاً أو تكذيباً بخبر الله، وإنما هو من باب طمأنينة القلب، كما قال إبراهيم عليه السلام { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي.. الآية } . فكانت العلامة أن يمنع زكريا عليه السلام عن الكلام مدة ثلاثة أيام قال تعالى :{ قال رب اجعل لي ءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا(10)فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا(11)} . فوهب الله لزكريا يحيى ، وآتاه الله الحكم في الصبا ، { يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً } . وكان يحيى باراً بوالديه قال تعالى : { وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا(13)وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا}.

قال ابن كثير: واختلفت الرواية عن وهب بن منبه، هل مات زكريا عليه السلام موتاً أو قتل قتلاً على روايتين ([116]) .

وأما يحيى عليه السلام فقد ذُكر في سبب قتله أسبابٌ من أشهرها : أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه، أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فبقي في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها ([117]) . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصة نبي الله عيسى عليه السلام  

 

كانت أم مريم لا تحبل فرأت يوماً طائراً يزق فرخاً له، فاشتهت الولد، فنذرت لله أن حملت لتجعلن ولدها محرراً أي حبيساً في خدمة بيت المقدس؛ فأجابها الله إلى ذلك؛ ولكن أنثى  . قال تعالى : { إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم(35)فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم(36) فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا.. .الآية } ([118]) . وقد استجاب الله لها فأعاذ مريم وابنها عيسى عليهما السلام . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة واقرءوا إن شئتم:{ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} ([119])

ولما تمت رضاعة مريم ، دفعتها أمها إلى المسجد وفاء بنذرها، فتنازعوها كلٌ يريدها، وكان زكريا عليه السلام يريد أن يكفلها ، وكانت زوجته أختها أو خالتها، ولكنهم نازعوه في ذلك كلٌ يريد أن يكفلها . فاتفقوا على أن يقترعوا، فاقترعوا عدة مرات، وكانت في كل مرة تقع القرعة على زكريا، فكفلها، وكان أحق بها من غيرهم .

واتخذ لها زكرياً مكاناً في المسجد، تتعبد الله فيه ، ولا يدخله سواه، وتقوم بسدانة المسجد إذا جاءت نوبتها، واستمرت علىذلك واشتهرت بالعبادة، وبما ظهر على يديها من الأحوال الكريمة، فكان زكريا يجد عندها فاكهة الصيف في فصل الشتاء، ويجد عندها فاكهة الشتاء في فصل الصيف، ولما سألها عن ذلك قالت : { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } .

ثم كان من أمرها أن بشرتها الملائكة ، وجاءها الملك جبريل عليه السلام في صورة بشر، وكلمها، وذلك مبسوط في سورة مريم،  قال تعالى  : { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا(16)فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا(17)قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا(18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا(19)قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا(20)قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا(21)فحملته فانتبذت به مكانا قصيا(22)فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا(23)فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا(24) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا(25)فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا(26)فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا(27)ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا(28)فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا(29) قال إني عبد الله ءاتاني الكتاب وجعلني نبيا(30)وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا(31)وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا(32)والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا(33)}. فكان التكذيب والاتهام بالباطل هو أول ما قابل به بنو اسرائيل مريم، ولكن الله أظهر براءتها على يد عيسى الذي كان في المهد، وتلك آية عظيمة، وهو أول كلام تفوه به عيسى عليه السلام .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاماً من الله، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى، فهمست به بنو اسرائيل، فخافت أمه عليه فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر فذلك قوله :{ وجعلنا ابن مريم وأمه آيه وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } ([120]) .

 ولما بلغ عيسى عليه السلام ثلاث عشرة سنة عاد إلى بيت إيليا، فقدم على يوسف ابن خال أمه، ثم آتاه الله الإنجيل، وعلمه التوراة، وأعطاه إحياء الموتى، والإبراء من الأمراض، وعلم ما يدخره الناس في بيوتهم . ففشا أمره بينهم ،ودعاهم إلى التوحيد . وهيأ الله لعيسى عليه السلام أنصاراً يتبعونه وينصرونه وهم الحواريون .  واستمر عيسى يدعوهم إلى التوحيد ويقيم عليهم الحجج والبراهين، ولكن أكثر بني اسرائيل استمروا في كفرهم وضلالهم . 

ثم طلب الحواريون من عيسى عليه السلام أن يسأل الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون آية على صدقه ويحصل لهم بها الطمأنينة، فوعظهم عيسى عليه السلام، فأبوا عليه ذلك، فسأل الله عيسى عليه السلام، فقال الله في سورة المائدة: { قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين(115)}. فعندئذ خافوا وأبوا نزولها .

وكعادة اليهود لم يرتضوا رسل ربهم، فوشوا بعيسى عليه السلام عند بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان، وأمر بقتله وصلبه، وكان عيسى عليه السلام في دار ببيت المقدس، ومعه اثنا عشر رجلاً، وقال عيسى لمن معه أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب منهم وقال أنا. فرده عيسى عليه السلام مراراً ، ثم لما لم ينتدب أحد غيره ، قال له عيسى إذا أنت . ثم رفع الله عيسى عليه السلام من روزنة أو كوة في ذلك البيت، ودخل الشرط وأخذوا شبه عيسى ، وقتلوه ثم صلبوه، ظانين أنه عيسى عليه السلام، وأمات الله عيسى وفاة الله أعلم بها، وسوف ينزل آخر الزمان  وذلك بعد أن يعيث المسيح الدجال-مسيح الضلالة- في الأرض الفساد، فيبعث الله المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام-  ليخلص الناس من شره، ويقيم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ويحكم بها. فينزل إلى الأرض عند المنارة البيضاء شرقي دمشق الشام. قال صلى الله عليه وسلم في ذكر نزول المسيح عيسى بن مريم : ( فبينما هو كذلك ، إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين([121]) واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمانٌ كاللؤلؤ ) ([122]) . 

وينزل عليه السلام على الفئة المؤمنة،والطائفة المنصورة من هذه الأمة ، ويكون وقت صلاة فيقدم عيسى عليه السلام ويأبى ، فعن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول  : (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، قال : فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ، فيقول أميرهم: تعال صل لنا ، فيقول: لا . إن بعضكم على بعض أمراء . تكرمة الله هذه الأمة  ) ([123]) .

فيحكم عليه السلام بالعدل، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام أو القتل، ويكثر المال ويفيض ، قال صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم  حكماً مقسطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ) ([124]) . ولا يقال أن عيسى عليه السلام نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل هو متبع لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإن رسولنا أخبرنا أن أخذ الجزية قائم حتى ينزل عيسى عليه السلام، فإذا نزل وضعت الجزية ولا يقبل إلا الإسلام .

أما المسيح الدجال فلا يرى المسيح ابن مريم إلا ذاب كما يذوب الملح، قال صلى الله عليه وسلم في ذكر مقتل المسيح الدجال : (... فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأمهم فإذا رآه عدو الله [ أي:المسيح الدجال] ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته)([125]) . وفي حديث النواس بن سمعان : (فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله) ([126]) .

وأما الكافر ، فإنه لا يجد ريح نفس عيسى ابن مريم عليه السلام إلا مات ، ونفسه عليه السلام ينتهي حيث ينتهي طرفه ([127])  .

وفي زمن عيسى ابن مريم عليه السلام بعد نزوله تكثر الخيرات، ويسود الأمن، ويفيض المال، وتزول الشحناء والبغضاء من قلوب الناس، ويعيشون في أهنأ عيش . قال صلى الله عليه وسلم : (  والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص([128]) فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) ([129]) .

أما مدة مكثه عليه السلام ، فقد جاءت الروايات أنه يمكث في الأرض بعد هلاك الدجال سبع سنين ([130]) . ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون . قال الحسن البصري: كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعاً وثلاثين سنة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سيرة خليل الرحمن محمد عليه أفضل الصلاة  والسلام  

 

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة .. ويتصل نسبه إلى عدنان ولد إسماعيل عليهما الصلاة والسلام .

ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل بمكة، وكانت ولادته يوم الاثنين، وطلبوا له مرضعاً، فأرضعته حليمة السعدية، وظهرت بعض الآيات والبركات خلال مدة مكثه في بني سعد .

وقد سأل أبو أمامة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال:  (دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام) ([131]) .

 أما والده عبد الله فقد توفي وآمنة بنت وهب حامل به صلىالله عليه وسلم، وتوفيت أمه وهو لم يستكمل ست سنين بالأبواء وهو مكان يقع بين مكة والمدينة، فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً وكفله جده عبد المطلب، وكان يحبه حباً شديداً . ولما توفي عبد المطلب، تولى أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يرق عليه رقة شديدة،وكان يقدمه على أولاده .

ولما بلغ اثنتي عشرة سنة خرج به عمه أبو طالب في تجارة إلى الشام، ولما رآه بحيرى الراهب، أشار على أبي طالب بأن لا يقدم به الشام خوفاً عليه من اليهود، فأمر أبو طالب بعض غلمانه أن يعود به إلى مكة .

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، وبلغ خديجة صدق حديث النبي صلى الله عليه  وسلم، وأمانته وكرم أخلاقه، عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الشام يتاجر بمالها، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورافقه غلامها ميسرة، ولما رجع من تجارته تلك ، عرضت خديجة بنت خويلد نفسها عليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم  وعمرها إذ ذاك أربعون سنة ، وانجبت خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم : القاسم، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة رضوان الله عليهن .

ولقد حُبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التحنث في غار حراء فكان يتزود، ثم يخلو بنفسه في غار حراء أياماً . وقد سبق نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمات منها : الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ومنها: سلام الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ([132]) .

وبدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول:   أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعٌ ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ([133]).

وبعد أن أوحى الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وكانت بها نبوته، أرسله الله بـ : { يا أيها المدثر ، قم فأنذر } فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو  إلى التوحيد، ونبذ الأصنام، فبدأ بدعوة قومه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي)  قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال : (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)  فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا . فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} ([134]) .

ثم دعا أهل مكة، فكان أول من آمن به من الرجال أبو بكر الصديق، ومن النساء خديجة بنت خويلد، ومن العبيد بلال بن رباح . وآمن به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثمان سنين وقيل أكثر من ذلك . فمن كانت له منعة لم ينله أذى، ومن لم تكن له منعة عُذب، ومنهم بلال وآل ياسر، وهم عمار بن ياسر وأمه سمية وأبوه ياسر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم ويثبتهم ويقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة . وعذب بلال بن رباح حتى اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً.

وضيق على المسلمين في مكة حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة . ثم عادوا لأخبار وصلتهم أن قريشاً كفت أذاها عن محمد وأصحابه، ولما وصلوا مكة لم يزل البلاء يشتد على المسلمين حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة الثانية إلى الحبشة وكان عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة . وحاولت قريش إرجاع من هاجر إلى الحبشة عبر وفد قدَّم كثيراً من الهدايا للنجاشي ملك الحبشة، ولكن رد الله كيد الكافرين، وأبى النجاشي تسليمهم لقريش.

وحاولت قريش مع أبي طالب أن يكف عنهم محمداً فلا يسفه آلهتهم، أو يخلي بينه وبينهم، فأبى عليهم ، ودعا أبو طالب أقاربه لنصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب، غير أبي لهب وقال:

والله لن يصلوا إليك بجمعهــم

 

حتى أوسد في التراب دفينـا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

 

وابشر وقرّ بذاك منك عيونـا

ودعوتني، وعرفت أنك  ناصحي

 

ولقد صدقت وكنت ثم أمينـا

وعرضت ديناً قد عرفت   بأنـه

 

من خير أديان البرية   دينــا

لولا الملامة أو حذار مسبـــة

 

لوجدتني سمحاً بذلك مبينــا

ثم اشتد أذى قريش، وضربت على بني هاشم وبني المطلب والمسلمين الحصار في الشعب، وتعاهدت قريش على أن لا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يناكحوهم،ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبثوا على ذلك مدة ثلاث سنين، نال فيها المسلمين ومن دخل الشعب معهم من الأذى والجوع والعطش ما الله به عليم . ثم تعاقد هشام بن عمرومن بني عامر، وزهير بن أبي أمية، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي- على نقض الصحيفة، فاجتمعوا عند الكعبة، وتبرؤوا إلى الله من أمر هذه الصحيفة الجائرة، وطلبوا نقض الصيحفة فكانت الأرض قد أكلت كل اسم لله فيها، وأبقت ما فيها من ظلم  وغدر . وانتهت بذلك محنة الشعب، بعد حصار دام ثلاث سنين .

وبعد الخروج من الشعب بستة أشهر مات أبو طالب، ولم يُكتب له الإسلام، ثم ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك حزناً شديداً، فمات من كان يحوطه ويحميه بعد الله، وماتت زوجه خديجة التي كانت تثبته وتعينه .

وازداد أذى قريش للمسلمين، وازداد المسلمون صلابة في دينهم لما رأوا من الآيات الكونية والقرآنية على صدق النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم . وكان كفار مكة يرسلون إلى  اليهود يسألونهم عن مسائل يحاجون بها محمد صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف،  وكان القرآن ينزل ويرد عليهم حججهم وباطلهم، ويخبرهم بأمور لا يعلمها أهل الكتاب . وحاولوا إغراء محمد صلى الله عليه وسلم بالمال، أو الجاه، أو تنصيبهم ملكاً عليهم، أو تزويجه أجمل نساء قريش؛ ولكنه أعرض عنهم ليبلغ رسالة ربه .

ولم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، واتهموه بالجنون والسحر والكهانة، ورموه بالكذب، مع أنهم هم الذين سموه بالصادق الأمين ! .  وآذوه حتى وهو يتعبد لربه عند الكعبة، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً عند الكعبة وكفار مكة ينظرون إليه، ثم تشاورا أيهم يأخذ سلا الجزور ويضعه على ظهره، فانتدب لذلك عقبة بن أبي معيط وكان أشقاهم، فوضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم، فجاءت فاطمة بنت محمد وأزالت سلا الجزور عنه وهي تسبهم .

 ثم تعرض له الوليد بن المغيرة، وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فأعجب به، وقال فيه قولاً حسناً؛ فقال: فوا الله ما هو بسحر ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، ثم خشيت قريش من ذلك، فما زال أبو جهل يكلمه حتى نكص على عقبيه وقال إنه هو إلا سحر يؤثر . قال تعالى: { إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر *  عليها تسعة عشر }.

ولم يزل العناد والتكذيب يلازم كفار مكة، حتى إنهم طلبوا من رسول الله صلىالله عليه وسلم أن يريهم آية عظيمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه  أن يريهم آية، فأراهم الله القمر وقد صار فلقتين ، كل فلقة في جهة، ولما رأى ذلك أهل مكة قالوا: سحرنا محمد . ولكن كذبهم كل من أتى قادماً إلى مكة فإنهم أخبروا برؤية انشقاق القمر،  ومع ذلك لم يؤمنوا بل عاندوا واستكبروا .

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى عبادة ربهم، فأقام بينهم عشرة أيام يدعو أشرافهم، فأخرجوه من الطائف، وأغروا السفهاء والصبيان برجمه بالحجارة، وبأقذع الكلام، فأدميت قدماه صلى الله عليه وسلم ، وانطلق هائماً  فقال الدعاء المشهور : ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعو ذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولاحول ولا قوة إلا بالله ) . فأرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، وأخبره أن شاء أطبق على أهل مكة الجبلان اللذين يحيطان بها فعل، ولكن الرسول الرؤف الرحيم بأمته، قال : ( بل استأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده  ولا يشرك به شيئاً ) .

وقبل مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بسنة، أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء السابعة . قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }. فأتاه جبريل في مكة بدابة يقال لها البراق، وركبها النبي صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى بيت المقدس، وصلى فيه إماماً بالأنبياء ، ثم عرج به إلى السماء السابعة، ورأى في كل سماء بعض الأنبياء؛ فرأى آدم وعيسى وموسى وإبراهيم وغيرهم . ثم لما بلغ سدرة المنتهى، أوحى الله إليه وكلمه ، وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة يؤدونها كل يوم، ثم ما زال موسى بمحمد صلى الله عليه وسلم يسأله أن يراجع ربه في تخفيف الصلاة لأن أمته لا تطيق ذلك، حتى استقرت على خمس صلوات بالفعل، وخمسين صلاة بالأجر فضلاً من الله . ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في تلك الليلة وأخبر أهلها بالخبر، كذبوه وتهكموا به، وطاروا بتلك الحادثة كل مطار، وذهبوا سريعاً إلى أبي بكر ليخبروه خبر صاحبه، فلما كلموه في خبره، قال أبو بكر: إن كان قاله فقد صدق . فسمي أبو بكر بعدئذ بالصديق .  ثم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بصفة بيت المقدس، ورسول الله لم ير بيت المقدس بعد، فجلى الله له بيت المقدس كأنه يراه، فأخذ ينعت لهم بيت المقدس فأعجزهم ورد الله كيد الفجار.

وفي المواسم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل، وكانت قريش تحذر القبائل من اتباعه، وتقول إنه مجنون وإنه ساحر وإنه سفيه، حتى ينصرفوا عنه، فقُدر لنفر من الخزرج أن يلتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أبو أمامة أسعد بن زرارة . فسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته وقرأ عليهم القرآن، فأعجبوا بكلامه، وقد كانوا سمعوا اليهود يتحدثون عن خروج نبي في هذا الزمان، فآمنوا به ووعدوه أن يدعوا قومهم لعل الله يجمعهم به .

وعاد القوم إلى ديارهم وفشا فيهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمن من آمن منهم، وفي العام المقبل –وفي الموسم- قدم اثنا عشر رجلاً من الأنصار وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقوه بالعقبة وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه يعلمهم دينهم ويفقهم فيه، فكثر الإسلام في يثرب جداً .

وفي الحج خرج كثير من الأنصار وعدتهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان لملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وواعدوه أوسط أيام التشريق عند العقبة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس بن عبد المطلب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ) فأخذ بيده البراء بن معرور وقال: نعم فو الذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى طيبة، وكان ينتظر الإذن  من ربه بالهجرة، ولما رأى كفار مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت له منعة في يثرب ، أرادوا منعه من الخروج،  واجتمعوا وتشاوروا في أمره ، وخرج عليهم إبليس في هيئة رجل من أهل نجد وأشار عليهم بأن يأخذوا من كل قبيلة شاباً جلداً ثم يقتلوه قتلة رجل واحد، فعندئذ يتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو مناف على حربهم جميعاً ويرضون بالدية؛ فأعجبوا برأيه وقوله، فاجتمعوا على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وأوحى الله إلى نبيه بأمرهم، وأمر علياً بأن يرقد على فراشه ولن يمسه سوء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } إلى قوله : { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون }، فأُلقي عليهم ووضع رسول الله صلى التراب على رؤوسهم وهم لا يشعرون ثم انصرف عنهم مهاجراً، ولما أفاقوا وأبصروا ما  ألقي عليهم طلبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في فراشه، فلم يجدوه ووجدوا علياً مكانه، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجر. -وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته أبو بكر الصديق، وتلك منة من الله، وفضيلة لأبي بكر أن اختصه الله من بين سائر المؤمنين في أن يكون له شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره إلى المدينة . واستأجرا رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط، هادياً يدلهم الطريق .

ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاصدين غار ثور، أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما الأخبار، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم، ويريح الغنم عليهما ويأتيهما في المساء باللبن ،  وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار فإذا خرج من عندهما، عمد عامر بن فهيرة، وساق الغنم لكي تعفي أثره .  وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهم بالطعام في المساء، فمكثا في غار ثور ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام جاء عبد الله بن أريقط حسب الموعد المتفق عليه بدابتين، وسلك بهم طريق الساحل. وجعلت قريش جائزة كبيرة لمن يأتي بهما أحياء أو أمواتاً، ونفر الناس للبحث عنهم، وخرج سراقة بن مالك يطلبهما، فأدركهما ولكن  الله لم يمكنه من الوصول إليهما، فكلما أراد أن يصل إليهما ساخت فرسه في الرمل، وذلك ثلاث مرات، حتى طلب الأمان، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أنه محفوظ من الله وأن الله ناصره، فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاب أمن ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة فكتب له ذلك، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفي عن قريش خبرهما، فعاد إلى قومه ولم يسأله أحدٌ  عن جهته التي أتى منها إلا قال كفيتم هذا الوجه .

ولما أن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية استقبله الناس بفرح بالغ، وكلٌ يريد ضياقة رسول الله صلىالله عليه وسلم ، فبركت ناقته عند بني عمرو بن عوف فأقام عندهم بضع عشرة ليلة، ثم سار بناقته حتى بركت مكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر ببناء المسجد هنالك .

ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، ووادع اليهود الذين كانوا بالمدينة .

وبعد سبعة  أشهر من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أرسل سرية بقيادة حمزة بن عبد المطلب وفيها ثلاثون رجلاً، لاعتراض عير لقريش وكان فيها أبو جهل، ولكن حجز بينهم مجدي بن عمرو ولم يحصل بينهم قتال . ثم توالت السرايا والغزوات للقبائل والقرى المحيطة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم .

وفي السنة الثانية من الهجرة حولت القبلة إلى البيت الحرام بمكة،  وفرض صوم شهر رمضان، وفي تلك السنة وقعت موقعة بدر الكبرى، وهي الواقعة الأولى بين معسكر الإيمان ومعسكر الشيطان، فنصر الله أولياءه وأذل أعداءه ([135]) .

وفي سنة ثلاث من الهجرة توالت الغزوات، وكان فيها غزوة أحد وهي ثاني المعارك مع كفار مكة، وفيها قتل كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه الكريم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم .

-وفي سنة أربع من الهجرة كانت غزوة الرجيع، وسرية بئر معونة وغزوة بني النضير، وغزوة ذات الرقاع .

وفي سنة خمس للهجرة المباركة،  وقعت غزوة دومة الجندل، ثم غزوة والأحزاب أو الخندق، وهي ثالث المعارك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزبه، وبين كفار قريش وأحزابهم التي تجمعت للفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولكن الله رد كيد الكافرين، وأرسل عليهم الريح التي قلبت قدورهم، وخيامهم، وأزعجتهم، حتى ردوا على أعقابهم خائبين ، وفي غزوة الأحزاب نقضت بنو قريظة العهد، ولما انصرف المشركون خائبين تفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قريظة، فحاصرهم وأنزلهم من حصونهم وأخرجهم منها أذله صاغرين .

وفي سنة ست من الهجرة الشريفة : كانت غزوة ذي قَرَد، وغزوة بني المصطلق، وغزوة الحديبية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد زيارة البيت وأصحابه، ولكن قريش منعته من ذلك، وعقدت معه صلحاً، وكان فيه فرجٌ للمسلمين بعد ذلك .

وفي سنة سبع من الهجرة: حدثت غزوة خيبر، وفتح الله خيبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وغنموا مالا كثيراً وأرضاً شاسعة، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقاتلين .وسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة سرايا كثيرة لإقامة دين الله في الأرض . وفي ذي القعدة من سنة سبع للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابة قاصداً زيارة البيت العتيق، وأداء العمرة التي صده المشركون عنها في عام ست من الهجرة،  فدخل مكة واعتمر، وأقام بها ثلاث ليال، ثم سأله أشراف مكة أن يخرج بعد انقضاء الثلاث؛ ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للعقد الذي كان بينه وبين قريش .

وفي سنة ثمان للهجرة، وقعت غزوة مؤتة  في أرض البلقاء من الشام وقوام جيش المسلمين ثلاثة الآف مقاتل، واستشهد فيها الأمراء الثلاثة، وهم من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة، واستشهد غيرهم ، رضي الله عنهم أجمعين .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل البعوث والرسل إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الإيمان بالله، فأرسل إلى ملك كسرى، وملك قيصر، والنجاشي، وغيرهم .

ثم وقعت غزوة ذات السلاسل ، وكان أميرهم عمرو بن العاص، ثم طلب المدد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمده بجمع من الصحابة فيهم  أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعليهم أبو عبيدة عامر بن الجراح، ولم يلقوا قوة تذكر فساحوا في بلاد بلي وبلقين وعذرة، غير أن قوة ناوشتهم فقهروها .

وفي سنة ثمان للهجرة المباركة، وقعت غزوة الفتح الأعظم، وسبب ذلك أن قريشاً نكثت العهد الذي كان بينها وبين رسول الله صلىالله عليه وسلم في صلح الحديبية. حيث أعانت قريش بالكراع والسلاح بني بكر على قتال بني خزاعة التي حالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني خزاعة، وجهز جيشه العظيم، وسأل الله أن يعمي عن قريش خبره حتى يبغتهم.

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم فيهم المهاجرون والأنصار والقبائل التي دخلت في طوع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو سفيان ورأى ما هاله من أمر المسلمين، وشهد شهادة الحق فأسلم، فقال العباس: يارسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .  فجاء أبو سفيان إلى أهل مكة يصيح بهم قد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به، وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن . فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد .

ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة على ناقته وقد أحنى رأسه تواضعاًً لله أن منّ عليه بفتح مكة.  ولم يلق المسلمين مقاومة تذكر إلا في موضع يقال له الخندمة، فقتل من المسلمين من جيش خالد نحواً من ثلاثة ، وقتل من المشركين نحواً من اثني عشر رجلاً، ثم فروا هاربين .

وأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم جماعة كانوا قد آذوه كثيراً وهم عبد الله بن خطل، وكان قد أسلم، ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فغضب على من معه فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن عبد الله بن خطل متعلق بأستار الكعبة، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله . وأهدر –أيضاً- دم عبد الله بن أبي السرح كان قد اسلم وكتب الوحي ثم ارتد، ولكن عثمان بن عفان رضي الله عنه جاء به ليستأمنه، فأمنه الرسول صلى الله عليه وسلم . وأهدر دم عكرمة بن أبي جهل، فهرب وركب البحر ثم هاجت الريح بهم، وأيقنوا بالهلاك، فقال عكرمة: اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم، وكذلك صفوان بن أمية .  وأُهدر دم قينتان لعبد الله بن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأهدر دم مقيس بن صبابة، وهذا أدركه الناس في السوق وقتلوه .

وخطب في أهل مكة وقال لهم: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالو خيراً أخ كريم وابن أخ كريم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء .

-ثم طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبيده قوس، وجعل يمر على الأصنام ويطعنها ويقول: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}.  وأمر بمفاتيح الكعبة أن تؤتى: ودخلها ومعه أسامة بن زيد وبلال بن رباح وعثمان بن أبي طلحة من الحجبة . وصلى ركعتين في الكعبة . ثم خرج وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة ويؤذن .

وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يلي الفتح خطبة بليغة، حرم فيها الدماء والأموال والأعراض، وحرم في مكة القتال والصيد وقطع الشجر. وأشهدهم على البلاغ . وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بضعة عشر يوماً .

وفي شوال سنة ثمان للهجرة، جمعت هوازن لحرب رسول الله صلىالله عليه وسلم،  وكان معهم ثقيف، وبعض القبائل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لملاقاتهم، وكان عدد المسلمين كثير جداً، وظنوا أنهم لن يغلبوا من قلة، ولما دارت رحى الحرب،  باغت المشركون المسلمين ، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، فتفرق صف المسلمين ، وهرب من هرب، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى جهة العدو وهو يقول : أنا النبي لا كذب **** أنا ابن عبد المطلب .

ثم أمر العباس وكان جهوري الصوت أن ينادي أصحاب السمرة ، فناداهم، فلما سمعوا صوته، انعطفوا جميعاً كعطفة البقر علىأولادها، فلبوا مسرعين، ودارت رحى الحرب، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (  هذا حين حمى الوطيس ) . ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بها وجوه الكفار وقال : ( انهزموا ورب محمد ) . فما خلى الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً . فانهزموا وغنم المسلمين منهم خيراً كثيراً . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عطاء من لا يخشى الفقر، وبالغ في إعطاء المؤلفة قلوبهم .  ثم كانت غزوة أوطاس، وسببها أن من فر من المشركين من هوازن لجؤوا إلى الطائف وتحصنوا بها ، ثم حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقتل ناساً من أصحابه بالنبل، ثم تراجع إلى موقع بني فيه مسجداً، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين ليلة، وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال نوفل بن معاوية الدثلي: يا رسول الله ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفك الحصار عن الطائف.

ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالجعرانة، ثم اعتمر من الجعرانة،  وعاد بعد ذلك إلى المدينة النبوية طيبة طيبها الله .

وفي سنة تسع للهجرة المباركة، عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو الروم، فأمر بالتجهز لتلك الغزوة، وكان بالمسلمين شدة، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة في سبيل الله، وأظهر عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق مثلها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم). وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، في وقت صيف وحر شديد. وفي تبوك أتاه صاحب أيلة وصالحه وأعطاه الجزية، فأقام رسول الله صلىالله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة، ثم قفل راجعاً إلى المدينة، وفي طريق العودة صعد النبي صلى الله عليه وسلم طريق العقبة، وكان طريقاً وعراً، وكان عمار آخذاً بزمامها، وحذيفة يسوقها، وحاول جماعة من المنافقين وعدتهم اثنا عشر وقد تلثموا، أن يلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق العقبة، ولكن الله أخبر نيبه بأمرهم، ولما أقبلوا، صرخ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليهم حذيفة وبيده محجن يضرب به وجوه رواحلهم، وعرفوا أن أمرهم قد ظهر، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بأسمائهم، وقيل له ألا تقتلهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا ، أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل لقومه ).

ولما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وكان قد واعد جماعة من أهل المدينة على أن يصلي بمسجد بنوه قريباً من مسجد قباء عند عودته من تبوك، ولكن الله أخبر نبيه بما اضمروه في أنفسهم من الكفر والإلحاد والشقاق لما بنوا هذا المسجد؛ ولما عاد أمر أصحابه بتحريق هذا المسجد، وهو مسجد الضرار، قال تعالى :{ والذين اتخذوا مسجداً ضرارا وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبداً… الآية } .

وفي سنة تسع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يحج بالناس، وأن يعلن أن  لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته . ثم نزلت صدر سورة براءة فأرسل بها علي بن أبي طالب ليتلوها على الناس.

واستمرت وفود القبائل تتتابع  على رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي سنة عشر من الهجرة المباركة الشريفة، حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وسميت بحجة الوداع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعهم فيها، فتتابع الناس من كل فج للحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلم مناسك الحج منه، فحج قارناً، وأمر  من لم يسق الهدي من أصحابه أن يتحلل بعمرة وفعلوا ([136]) .

وفي سنة إحدى عشرة من الهجرة المباركة، حدث الأمر الجلل،وهو وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لوفاته مقدمات، منها: قوله في حجة الوداع: ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، ومنها: أنه في آخر رمضان عارضه جبريل القرآن مرتين، ومنها: أنه اعتكف في آخر شهر رمضان صامه عشرين يوماً. ففي أواخر شهر صفر ابتدئ الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أمر أبابكر أن يصلي بالناس، وجهز جيشاً بقيادة أسامة بن زيد لقتال الفاجر مسيلمة الكذاب، ولكن أسامة بن زيد رضي الله عنه عسكر خارج المدينة، لينظر ما يؤول إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي صبيحة يوم الاثنين يوم موته صلى الله عليه وسلم، خرج على أصحابه وهم يصلون الفجر، وكان وجهه كفلقة قمر، فلما رآه الصحابة فرحوا به، وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم يصلون، وخشي أن يفتتنوا، فأشار إليها بإكمال الصلاة، ودخل بيته، وكانت تلك آخر نظرة ألقاها على أصحابه، ثم اشتد به الوجع، حتى توفي في ضحى ذلك اليوم في حجر أمنا عائشة رضي الله عنها . فتنكرت قلوب الصحابة، وطارت قلوبهم، وبعضهم لم يصدق موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب، ولكن أبو بكر كان أسكنهم، فثبتهم وتلا عليهم قول الله تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاًً وسيجزي الله الشاكرين }.فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها أبو بكر يومئذ .

وأزواجه صلى الله عليه وسلم هن: أولاهن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تزوجها قبل النبوة، ثم تزوج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة التي وهبت يومها لعائشة، ثم تزوج بعدها عائشة بنت الصديق، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها وعمرها تسع سنين بالمدينة، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث، وتوفيت عنده بعد ضمه لها بشهرين، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بأم سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من بني أسد، وقد نزل فيها قرآناً وكانت تفخر على أزواج رسول الله صلىالله عليه وسلم بتزويج الله لها من فوق سبع سموات وذلك في قوله تعالى : { فلما قضى منها زيدٌ منها وطراً زوجناكها } الآية. ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية . ثم تزوج أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان بن صخر بن حرب القرشية . ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بن حيي بن أخطب سيد بني النضير من ولد هارون ابن عمران أخي موسى، وهي وقعت في السبي لما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها.  ثم تزوج رسول الله صلىالله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية وهي آخر من تزوج بها، وتزوجها بمكة بعد أن حلّ من عمرة القضاء .

وجواريه صلى الله عليه وسلم هن: مارية وهي أم ولده إبراهيم، وريحانة، وجارية أخرى أصابها من السبي، وجارية وهبتها له زبينب بنت جحش .

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث وستين سنة . أربعون عاماً قبل البعثة، وثلاث عشرة عاماً بمكة بعد البعثة، وعشر سنوات بالمدينة . صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين .



  1. [1] .سورة البقرة .
  2. [2] .رواه أحمد (19085) والترمذي (2955) وقال : حديث حسن صحيح ، وأبو داود( 4693)
  3. [3] .رواه مسلم (2611)
  4. [4] .الأعراف (22)
  5. [5] .الأعراف (22)
  6. [6] .الأعراف (23)
  7. [7] .الأعراف .
  8. [8] .البقرة (38) .
  9. [9] . الوبيص : هو البريق و اللمعان .
  10. [10] .رواه الترمذي (3076) وقال حديث حسن صحيح .
  11. [11] .البداية والنهاية (1/113)
  12. [12] .انظر: صحيح البخاري (3340)
  13. [13] . وعند بعض رواة البخاري : ونسخ العلم . أي علم تلك الصور بخصوصها .
  14. [14] .رواه البخاري (4920)
  15. [15] .سورة نوح (5-9)
  16. [16] .سورة الأعراف .
  17. [17] .سورة هود (32)
  18. [18] .سورة نوح (26-27)
  19. [19] .الأنبياء (76
  20. [20] .هود( 36-)38)
  21. [21] .سوة هود (40)
  22. [22] .سورة القمر (11-15)
  23. [23] .سورةا لتحريم (10)
  24. [24]. سورة هود (42-43)
  25. [25] .المؤمنون (28)
  26. [26] .هود (44)
  27. [27] .سورة هود (48)
  28. [28] .انظر : البداية والنهاية (1/130)
  29. [29] .هود (45-47)
  30. [30] .رواه أحمد (6547). وقال ابن كثير في البداية والنهاية : وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه ( 1/136)
  31. [31] .انظر: البداية والنهاية (1/137-149)
  32. [32] .سورة الفجر (6-8)
  33. [33] .سورة الأعراف (65-69)
  34. [34] .الشعراء (136-138)
  35. [35] .سورة هود (53-56)
  36. [36] .سورة الأعراف (70-71)
  37. [37] . آية (24-25)
  38. [38] .الآيات (6-8)
  39. [39] . الآيات (18-20)
  40. [40] . الآيات (41-42)
  41. [41] . رواه البخاري (1035)، ومسلم (900)
  42. [42] .سورة هود (58-60)
  43. [43] .الأعراف (74)
  44. [44] .الأعراف (73)
  45. [45] .هود (62)
  46. [46] .الأعراف (73)
  47. [47] .الشعراء (155-156)
  48. [48] . سورة النمل .
  49. [49] .رواه البخاري (4942)، ومسلم (2855)
  50. [50] .سورة القمر .
  51. [51] .سورة الشمس .
  52. [52] .الأعراف (77)
  53. [53] .سورة هود (65)
  54. [54] .البداية والنهاية (1/157)
  55. [55] .هود (68)
  56. [56] .سورة مريم .
  57. [57] .سورة مريم .
  58. [58] .سورة التوبة (114)
  59. [59] .رواه البخاري (3350) وقوله : ملتطخ : أي في رجيع .
  60. [60] . البقرة (258)
  61. [61] .سورة الصافات .
  62. [62] .سورة الأنبياء .
  63. [63] .رواه البخاري (2065)، ومسلم (4371)
  64. [64] .رواه البخاري (3364)
  65. [65] .سورة الصافات.
  66. [66] .سورة هود .
  67. [67] . رواه البخاري (3364)
  68. [68] .سورة البقرة .
  69. [69] .الأعراف (80-81)
  70. [70] .سورة العنكبوت .
  71. [71] .رواه أبو داود (4462) ، والترمذي (1456)
  72. [72] .سورة الأعراف (82)
  73. [73] .سورة العنكبوت (29)
  74. [74] .سورة العنكبوت .
  75. [75] . انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (المجلد الخامس 9/51)
  76. [76] .رواه البخاري (3372) ، ومسلم (151) واللفظ له .
  77. [77] .سورة هود .
  78. [78] .البداية والنهاية (1/212)
  79. [79] .سورة الأعراف .
  80. [80] .هود آية (87)
  81. [81] .هود آية (88)
  82. [82] .سورة هود آية (89)
  83. [83] .سورة هود .
  84. [84] .سورة هود .
  85. [85] .سورة الشعراء .
  86. [86] .سورة الأعراف .
  87. [87] .سورة هود .
  88. [88] .تفسير ابن كثير . سورة الشعراء آية (189)
  89. [89] .سورة يوسف (5-6) والنصوص اللاحقة كلها من سورة يوسف .
  90. [90] .رواه البخاري(1423)، ومسلم (1031)
  91. [91] . قصص الأنبياء (1/254-266) بتصرف .
  92. [92] .رواه البخاري (279)
  93. [93] .رواه الترمذي (3505) وأحمد (1465)
  94. [94] .سورة القصص (آية 7 ) .
  95. [95] .سورة القصص .
  96. [96] .سورة طه .
  97. [97] . سورة الأعراف .
  98. [98] . سورة المائدة .
  99. [99] .سورة البقرة .
  100. [100] .رواه البخاري (3407)، ومسلم (2372)
  101. [101] . سورة سباء (10)
  102. [102] .سورة ص .
  103. [103] .رواه البخاري(2072)
  104. [104] .رواه البخاري(1131)، ومسلم (1159)
  105. [105] . انظر : البخاري(1977)
  106. [106] .رواه أحمد (2708)
  107. [107] .رواه أحمد (9148) وقال ابن كثير في البداية والنهاية : انفرد بإخراجه الإمام أحمد، وإسناده جيد قوي، رجاله ثقات . (2/21)
  108. [108] .رواه النسائي (693)، وأحمد (27762)
  109. [109] .سورة ص .
  110. [110] .سورة النمل آية (17)
  111. [111] .سورة النمل آية (16)
  112. [112] .سورة النمل (17-19)
  113. [113] .البداية والنهاية لابن كثير (2/28) وقال ابن كثير معلقاً : وهذا أقرب ما قيل .
  114. [114] .رواه البخاري(6639)، ومسلم (1654)
  115. [115] .سورة سبأ (14)
  116. [116] .البداية والنهاية (2/62)
  117. [117] .البداية والنهاية (2/64)
  118. [118] .سورة آل عمران .
  119. [119] .رواه البخاري(4548) واللفظ له ، ومسلم (2366)
  120. [120] . البداية والنهاية (2/91)
  121. [121] ., ثةبين مصبوغين بورص ثم برعفران .
  122. [122] . رواه مسلم (2937)
  123. [123] .رواه مسلم (156)
  124. [124] . رواه البخاري (2222) ، ومسلم (155)
  125. [125] .رواه مسلم (2897)
  126. [126] . رواه مسلم (2937)
  127. [127] . انظر : مسلم (2937)
  128. [128] . القلاص : الناقة الشابة .
  129. [129] . رواه البخاري (2222) ، ومسلم (155) واللفظ له .
  130. [130] . انظر مسلم : (2940)
  131. [131] .رواه أحمد (21758)
  132. [132] .رواه مسلم (2277).
  133. [133]. رواه البخاري(4)، ومسلم (160)
  134. [134] .رواه البخاري(4770)، ومسلم (208)
  135. [135] .سبق الكلام عن غزوة بدر بالتفصيل .
  136. [136] . سبق بيان حج النبي صلى الله عليه وسلم فأغنى عن إعادته ههنا .

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق