أحكام النساء لابن الجوزى { رحمه الله }
كتاب يبحث في الأحكام المتعلقة بالنساء بشكل خاص وعبادتهن ومعاملاتهن وآدابهن وأخلاقهن مع إيراد لسير بعض النساء من الصحابيات وغيرهن من الصالحات
فهو كتاب تحتاج إليه كل مرأة مسلمة
مقدِّمةُ المؤلِّف
الحمدُ لله جابرِ الوهن والكسر، ورازق النمل والنَّسر، المغني بوابل القطر القفر،
أحمدُه حمداً يدوم بدوام الدهر، وأشهد له بالوحدانية في السر والجهر، وأصلي على
رسوله المشروح الصدر، الذي نسبة فضله إلى الأنبياء كالنجوم والبدر، وعلى آله
وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الحشر، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإني تفكرت في سبب إعراض الناس عن ذكر الآخرة، فوجدته من قلة الفهم، ورأيت أحد
العوام يشغل ولده حين ينشأ بالمعاش، ولا يعلّمه واجبات العبادة، ولوازم المعاملات،
فيتقلّب الولد في طلب الدنيا، ولا يعلم أخبارا لآخرة، ولا يعرف فرضاً من الفرائض،
ولا يردّ لجامه عن الهوى ألف رائض، فإن أفلح وحضر مجلساً من مجالس القُصّاص، فربما
سمع منهم أحاديث الرخص الباطلة، فخرج مصرّاً على الذنوب، ويقول: ربي كريم.
وربما أسمعوه أخبار الزهاد، كمعروف، وبشر، والجنيد، في زهدهم، وهو بعد لم يعرف
الواجبات، ولا تعلق من ذلك بطائل، فإن علق بشيء علق بما الجهل أحسن منه، وهو أنه
يفهم من كلامهم أن المقصود ترك الدنيا، ولا يعرّفونه ما المتروك فيها، فينفرد في
زاوية، ويخلي معاشه، ويضيّع عائلته، ولا يستفيد في تلك الزاوية، إلا ما تستفيده
البهيمة من حبسها في الإصطبل، لأنه خلا بجهله، ولا علم معه.
وربما تهيَّأ لتسليم الناس عليه، والتبرّك به لموضع انفراده، وربما تخشَّع كأنه
خرج من معاينة بخبر عن مشاهدة، وربما هام في البوادي سائحاً، فضيَّع الفروض، وترك
العيال... فعلمت أن أصل هذه الآفات الجهل بالعلم.
وما
أزال أحرّض الناس على العلم، لأنه النور الذي يُهتدى به، إلا أني رأيت النساء أحوج
إلى التنبيه من هذه الرفدة من الرجال، لبعدهن عن العلم، وغلبة الهوى عليهن بالطبع،
فإنّ الصبية في الغالب تنشأ في مخدعها، لا تُلقَّن القرآن، ولا تعرف الطهارة من
الحيض، ولا تُعلَّم أيضاً أركان الصلاة، ولا تُحدَّث قبل التزويج بحقوق الزوج،
وربما رأت أمها تؤخر الغسل من الحيض إلى حين غسل الثياب، وتدخل الحمام بغير مئزر،
وتقول ما معي إلا أختي وابني، وتأخذ من مال الزوج بغير إذنه، وتسحره، تدّعي جواز
ذلك لتُعطفه عليها، وتصلي مع القدرة على القيام قاعدة، وتحتال في إفساد الحمل إذا
حبلت، إلى غير ذلك من الآفات التي سنذكر منها ما يدل مذكوره على مغفله، إن شاء
الله تعالى.
فإن أفلحت، وحضرت مجلس القصاص كان أردأ لها، وأضرّ عليها من جهة التبرُّج، وافتتان
الناس بها، وافتتانها برؤية الأحداث، وتارة من جهة القصاص، فإن القصّاص اليوم
يعطون مكان الدرياق سُمّاً، وينشدون أشعار العُشق والغزل، فإذا صادف ذلك قلباً
فارغاً تمكَّن منه، وعسر زواله.
ولا يتعرَّضون لتعريف الواجبات، ولا بالزجر عن المنهيات. وربما رأت الرجال يصيحون
متواجدين، فصاحت، إلى غير ذلك مما قد نشرحه في كتاب «القُصَّاص الجهلة».
فلما رأيت النساء أحوج إلى العلم من الرجال، شرعت في تصنيف هذا الكتاب؛ الذي يتعلق
بأحوالهن، محتسباً الأجر، ولم أر من سبقني إلى تصنيف مثله.
والنساء وإن كنّ معرضات عن العلم، فما يخلو الزمان من صالحة تطلبه، ورب خلق كثير
خوطبوا بالصواب، فأجاب منهم شخص، ولقد أنذر موسى ـــ عليه السلام ـــ فرعون وقومه،
وهم ألوف، فلم يجب منهم إلا حرسل، وآسية، والله الموفق لما يرضيه، إنه قريب مجيب.
ذكر تراجم الأبواب في هذا الكتاب
وهي مائة باب وعشرة أبواب
ذكر تراجم الأبواب في هذا الكتاب، وهي مائة باب وعشرة أبواب:
* الباب الأول: في ذكر البلوغ وبيان حده.
*
الباب الثاني: في ذكر معرفة الله عز وجل.
* الباب الثالث: في وجوب طلب العلم على المرأة.
* الباب الرابع: في بيان أن ذات الدين لا تستحي من السؤال عن دينها.
* الباب الخامس: في تعليم الأولاد الصلاة إذا بلغوا سبع سنين، وضربهم عليها إذا
بلغوا عشراً، والتفريق بينهم في المضاجع.
* الباب السادس: في ذكر الختان للنساء.
* الباب السابع: في ذكر دخول الخلاء.
* الباب الثامن: في ذكر الوضوء.
* الباب التاسع: في ذكر المسح على الخُفَّين.
* الباب العاشر: في ذكر نواقض الوضوء.
* الباب الحادي عشر: في ذكر ما يوجب الغسل.
* الباب الثاني عشر: في وجوب الغسل على المرأة إذا احتلمت.
* الباب الثالث عشر: في صفة الغسل.
* الباب الرابع عشر: في ذكر صفة التيمم.
* الباب الخامس عشر: في ذكر الحيض.
* الباب السادس عشر: في ذكر النفاس.
* الباب السابع عشر: في كراهية الحمَّام للنساء.
* الباب الثامن عشر: في ذكر شرائط الصلاة وأركانها، وواجباتها.
* الباب التاسع عشر: في ذكر الصلاة وترتيبها.
* الباب العشرون: في ذكر ما يبطل الصلاة، وما يعفى عنه فيها.
* الباب الحادي والعشرون: في ذكر سجود السهو.
* الباب الثاني والعشرون: في ذكر الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
* الباب الثالث والعشرون: في ذكر صلاة المريض.
* الباب الرابع والعشرون: في ذكر صلاة المرأة في جماعة.
* الباب الخامس والعشرون: في خروج النساء يوم العيد.
* الباب السادس والعشرون: في تحذير النساء من الخروج.
* الباب السابع والعشرون: في فضل البيت للمرأة.
* الباب الثامن والعشرون في بيان أنه إذا خيف من المرأة الفتنة نُهيت عن الخروج.
* الباب التاسع والعشرون: في نهي المرأة إذا تطيّبت أن تخرج.
* الباب الثلاثون: في بيان أن طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه.
* الباب الحادي والثلاثون: في بيان أن أجود ما للمرأة أن لا ترى الرجال.
* الباب الثاني والثلاثون: في ذكر صلاة التطوع.
*
الباب الثالث والثلاثون: في التسبيحات والأذكار.
* الباب الرابع والثلاثون: في ذكر صوم رمضان.
* الباب الخامس والثلاثون: في ذكر صوم النذر والقضاء، والتطوع.
* الباب السادس والثلاثون: في ذكر الزكاة.
* الباب السابع والثلاثون: في الحثّ على الصدقة.
* الباب الثامن والثلاثون: في ذكر كراهية إطعام المساكين ما لا يأكله المتصدق.
* الباب التاسع والثلاثون: في صدقة المرأة من بيت زوجها غير مفسدة.
* الباب الأربعون: في إنفاق المرأة من بيت زوجها بغير أمره.
* الباب الحادي والأربعون: في ثواب الخازن إذا أخرج ما أمر به للصدقة.
* الباب الثاني والأربعون: في اغتنام فرحة الفقير بإعطائه الجيِّد.
* الباب الثالث والأربعون: في ذكر الحج.
* الباب الرابع والأربعون: في ذكر برّ الوالدين.
* الباب الخامس والأربعون: في تقديم الأم في البر.
* الباب السادس والأربعون: في البر بعد موت الوالدين.
* الباب السابع والأربعون: في التحذير من الغيبة وفضول الكلام.
* الباب الثامن والأربعون: في التحذير من فضول النظر.
* الباب التاسع والأربعون: (في التحذير من قذف المحصنات).
* الباب الخمسون: في النهي عن السمع لحديث من يكره ذلك.
* الباب الحادي والخمسون: في التحذير من السحر والكهانة والنجوم، وإتيان أهل هذه
الصناعات.
* الباب الثاني والخمسون: في ذم الزنى.
* الباب الثالث والخمسون: في بيان ما يصنع بالمرأة إذا زنت.
* الباب الرابع والخمسون: في تحريم السحاق بين النساء.
* الباب الخامس والخمسون: في النهي أن تباشر المرأة المرأة.
* الباب السادس والخمسون: في نهي المرأة أن تصف المرأة لزوجها.
* الباب السابع والخمسون: في تحريم التبرُّج.
* الباب الثامن والخمسون: في أجر المتسربلات من النساء؛ أي المتسرولات.
* الباب التاسع والخمسون: في النهي عن تشبّه المرأة بالرجل.
* الباب الستون: في تخويف النساء من الذنوب، وإعلامهن بأنهنّ أكثر أهل النار.
*
الباب الحادي والستون: في التحذير من مجالس القُصّاص، وما يجلب من المحن، ومؤاخاة
النساء للرجال.
* الباب الثاني والستون: في الأمر بالنكاح.
* الباب الثالث والستون: في الأمر بتزويج البنت إذا بلغت.
* الباب الرابع والستون: في وجوب طاعة الزوج، وحقه على المرأة.
* الباب الخامس والستون: في ثواب طاعة الزوج.
* الباب السادس والستون: في إثم المخالفة لزوجها.
* الباب السابع والستون: في جواز ضرب الرجل زوجته.
* الباب الثامن والستون: في ذكر سؤال المرأة عن بيت زوجها.
* الباب التاسع والستون: في ذكر ما يحلّ لها تناوله من ماله.
* الباب السبعون: في نهي المرأة أن تتسخَّط نفقة الرجل.
* الباب الحادي والسبعون: في نهي ذكر ما تتصنع به المرأة من قشر الوجه وغيره.
* الباب الثاني والسبعون: في النهي عن وصل الشعر.
* الباب الثالث والسبعون: في استحباب الخضاب بالحناء للنساء.
* الباب الرابع والسبعون: في أدب المرأة عند الجماع.
* الباب الخامس والسبعون: في ستر الفرج عن الزوج.
* الباب السادس والسبعون: في أجر المرأة إذا حملت ووضعت.
* الباب السابع والسبعون: في ثواب من ماتت نفساء.
* الباب الثامن والسبعون: في ثواب تربية الأولاد والأخوات.
* الباب التاسع والسبعون: (في ثواب تربية البنات، والنفقة عليهن وعلى الأخوات).
* الباب الثمانون: في تعليق التمائم وما يظن أنه يدفع.
* الباب الحادي والثمانون: في العدل بين الأولاد.
* الباب الثاني والثمانون: في النهي عن الدعاء على الأولاد.
* الباب الثالث والثمانون: في ثواب خدمة المرأة في بيتها.
* الباب الرابع والثمانون: في مراعاة حق الجار والهدية له.
* الباب الخامس والثمانون: في الابتداء بالهدية بأقرب الجيران.
* الباب السادس والثمانون: في إثم أذى الجار.
* الباب السابع والثمانون: في النهي عن حبس الهرة وغيرها، من غير الافتقار لمطعمها
ومشربها.
* الباب الثامن والثمانون: في ثواب من مات له سقط.
*
الباب التاسع والثمانون: في ذكر إثم المرأة إذا تعمَّدتْ الإسقاط.
* الباب التسعون: في كفارة الإسقاط.
* الباب الحادي والتسعون: في ذكر أجر من مات له ولد.
* الباب الثاني والتسعون: في ذكر من مات له ولدان.
* الباب الثالث والتسعون: في أجر من مات له ثلاثة من الولد.
* الباب الرابع والتسعون: في أجر من مات له أربعة من الولد.
* الباب الخامس والتسعون: في بيان أن الصبر عند أول صدمة.
* الباب السادس والتسعون: في جواز البكاء على الميت.
* الباب السابع والتسعون: في النهي عن اللطم، وتخريق الثياب.
* الباب الثامن والتسعون: في النهي عن النوح.
* الباب التاسع والتسعون: في كسب النائحة.
* الباب المائة: في عقوبة النائحة والمستمعة لها.
* الباب الحادي بعد المائة: في ذكر تعذيب الميت بالنياحة.
* الباب الثاني بعد المائة: في نهي النساء عن اتباع الجنائز.
* الباب الثالث بعد المائة: في ذكر لعنة زوارات القبور.
* الباب الرابع بعد المائة: في ذكر ثواب من خلف ولداً صالحاً.
* الباب الخامس بعد المائة: في إحداد المرأة المتوفى عنها زوجها.
* الباب السادس بعد المائة: في ثواب المرأة إذا اشتغلت عن الأزواج بعد موت زوجها
بتربية الأولاد.
* الباب السابع بعد المائة: في ردّ المرأة إلى زوجها في الجنة.
* الباب الثامن بعد المائة: في الأمر بالجِدّ والاجتهاد، والاستعداد للموت قبل
نزوله.
* الباب التاسع بعد المائة: في فضل المرأة الصالحة، وذكر أجرها.
* الباب العاشر بعد المائة: في ذكر أعيان النساء المتقدمات في الفضل، والمجتهدات
في التعبُّد.
الباب الأول في ذِكْر البلوغ وبَيان حَدِّه
يثبت في حقّ الغلام بأحد ثلاثة أشياء:
1 ـــ الاحتلام.
2 ـــ أو كمال خمس عشرة سنة.
3 ـــ أو نبات الشعر الخشن حول القُبُل.
ويثبت في حق المرأة بأحد خمسة أشياء: الثلاثة التي ذكرناها، والحيض، والحبل.
فمتى
وجد أحد هذه الأشياء في حقّ المرأة، فلتعلم أنَّ قلم التكليف حينئذٍ قد جرى، وأنَّ
العقاب على ترك الواجبات قد توجّه، فلهذه الفائدة بينّا حدَّ البلوغ.
الباب الثاني في ذِكْر معرفة اللَّهِ عزَّ وجلَّ بالدليل والنَّظر
معرفة الله عز وجل أول واجب، فإذا ثبت وجوبها، وجب على المكلّف النظر والاستدلال
المؤديان إلى المعرفة، وهو أنْ يتصفَّح بعقلِه صنع الله عز وجل، فيعلم حينئذ: أنه
لا بد للمبنى من بنّاء، ولو أن إنساناً مرّ في برية، ثم عاد فرأى قصراً مبنيّاً،
عَلِم أنه لا بد من بانٍ بنى ذلك القصر.
فرؤية هذا المهاد الموضوع، وهذا السقف المرفوع، والمياه الجارية، والنبات المعدّ
للأغذية، والمصالح والمعادن في الأرض، لموضع الاحتياج إلى كل شيء منها.
ثم النظر في البدن، ووضعه على قانون الحكمة، ونمائه بفنون الأغذية، ثم وضع الأسنان
لتقطع الطعام، والأضراس لتطحنه، وبلّه بالريق، ليمكن البلع، واللسان لتقليب
الممضوغ، وتسليط الحوادب للبلع، وإقامة الكبد لتطبخ المطعوم، وتفرّق ما يتخلص منه
من الدماء على كل عضو بحسب حاجته، ودفع ما هو كالثفل، وإعداد شيء من خالص ذلك
منياً، يكون منه ما تخلَّق هذا الشخص الذي لا شيء مثله.
كل ذلك دليل على حكمة الواضع، وقدرة الصانع، وهذا الخالق سبحانه لا مثل له في
ذاته، ولا يشبه شيئاً من مخلوقاته.
الباب الثالث في وجوبِ طلب العلْم على المرأة
المرأة شخص مكلَّف كالرجل، فيجب عليها طلب علم الواجبات عليها؛ لتكون من أدائها
على يقين.
فإنْ
لم يكن لها أب، أو أخ، أو زوج، أو محرم، يعلِّمها الفرائض، ويعرِّفها كيف تؤدي
الواجبات، كفاها ذلك، وإنْ لم تكن سألت وتعلمت، فإن قدرت على امرأة تعلم ذلك،
تعرفت منها، وإلا تعلّمت من الأشياخ، وذوي الأسنان من غير خلوة بها، وتقتصر على
قدر اللازم، ومتى حدثت حادثة في دينها سألت عنها، ولم تستحِ، فإنَّ الله لا يستحي
من الحق.
الباب الرابع في بَيان أنَّ ذات الدّين لا تستحي من السؤال عن دينها
عن عائشة ـــ رضي الله تعالى عنها ـــ أن أسماء ـــ رضي الله عنها ـــ سألت النبي
صلى الله عليه وسلّمعن غسل الحيض؟ فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسِدرتها،
فَتَتَطهَّرُ. فَتُحسنُ الطُّهور، ثم تَصُبُّ عليها الماء. ثم تأخذ فرصة
مُمسَّكةً، فَتَتَطهَّرُ بها»، فقالت أسماء ـــ رضي الله عنها ـــ: وكيف
أَتَطهَّرُ بها؟ فقال: «سبحان الله، تطهرين بها». فقالت عائشة ـــ رضي الله عنها
ـــ: كأنها تُخْفي ذلك، تتبعي بها أثر الدم.
وسألته عن غُسْل الجنابة؟ فقال: «تأخذين ماءك، فتطهرين، فتحسنين الطهور، وأبلغي
الطهور، ثم تصب على رأسها فَتَدْلُكُهُ، حتى تَبْلُغَ شُؤون رأسها، ثم تُفيض عليها
الماء».
فقالت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ: نعْمَ النساءُ نساءُ الأَنصارِ لَمْ يَكُنْ
يمنعهن الحياء أن يتفقّهن في الدين.
الباب الخامس في تعليم الأولاد الصلاة إذا بلغوا سَبْعَ سنين،وضرْبهم عليها إذا
بلغوا عشراً، والتفريق بينهم في المضاجع
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مُروا
أولادكم بالصلاة في سبع سنين، واضربوهمْ عليها في عشر، وفرِّقوا بينهم في
المضاجع».
وعن أبي هُريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«علِّموا أولادكمُ الصلاةَ إذا بلغوا سبعَ سنين، واضربوهم إذا بلغوا عشراً،
وفرِّقوا بينهم في المضاجع».
وعن
عبد الملك بن ربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلّم «إذا بلغ الغلام سبع سنين أُمر بالصلاة، فإذا بلغ عشراً ضُرِبَ عليها».
وعن الحاطبي وهو عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب قال: سمعت ابن عمر يقول لرجل:
«أدّب ابنك فإنك مسؤول عن ولدك ما علَّمته، وهو مسؤول عن برِّك وطاعته لك».
وقال عليّ عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً} (التحريم: 6) علّموهم وأدّبوهم.
الباب السادس في ذِكْر الخِتان للنساءالختان واجب في حقِّ الرجل والمرأة
ومن أدب الخاتنة ما رواه أبو داود في «سننه» من حديث أم عطية الأنصارية، أنَّ
امرأةً كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلّم «لا تُنْهِكي
فإنَّ ذلك أحظَى للمرأة، وأحبُّ إلى البَعْل».
وعن أنسٍ ـــ رضي الله عنه ـــ أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال لأم عطية: «إذا
خفضت فأشمّي، ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزوج».
وقال أبو عثمان البصري: أصل الختان للنساء، لم يحاول به الحُسْن دون التماس نقصان
الشهوة، ليكون العفاف مقصوراً عليهن.
فالذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّمبقوله: «لا تنهكي»: أنْ ينقص من شهوة
المرأة بقدر ما يردها إلى الاعتدال، فإنَّ شهوتها إذا قلّت ذهب التمتُّع، ونقُص حب
الأزواج، ومعلوم أن حب الأزواج قيد دون الفجور.
وقد كان بعض الأشراف يقول للخاتنة، لا تتعرَّض إلا لما يظهر فقط.
وأكثر العفايف موعبات، وإنّما صار الزنى وطلب الرجال في نساء الهند والروم أتمّ،
لأن شهوتهن للرجال أشد، وليس لذلك علّة إلا وفارة القُلفة، ولمَّا تعمَّق أهل
الهند في توفير حظ الباه منعوا من الختان.
وأكثر
ما يدعو النساء إلى السحاق أنهن إذا ألزقن موضع مَحزِّ الختان، بموضع محزِّ
الختان، وجدن هناك لذة عجيبة، وكلما كان ذلك منها أوفر كان ذلك السحق ألذّ، ولذلك
صار حذّاق الرجال يضعون أطراف الكَمَر ويتعمدون بها محزّ الختان، لأن هناك مجتمع
الشهوة.
فصل: (في الختان والوشم وثقب الأذن)
ومن الدليل على وجوب الختان أنه إيلام، وكشف عورة، فلولا أنه واجب لما فسح فيه.
وإذا ثبت هذا فالوشم لا يحل، لأنه أذى، لا فائدة فيه، وفي «الصحيح» أن رسول الله
صلى الله عليه وسلّم«لعن الواشمة والمستوشمة».
قال أبو الوفاء بن عقيل: والنهي عن الوشم تنبيه على منع ثقب الآذان.
قال المصنف رحمه الله: قلت: وكثير من النساء يستجزن هذا في حق البنات، ويعللن بأنه
يحسنهن، وهذا لا يلتفت إليه، لأنه تعجيل أذى، لإقامة دعوته، فليعلم فاعل هذا أنه
آثم معاقب.
وقال أبو حاتم الطوسي: لا رخصة في تثقيب آذان الصبية لأجل تعليق الذهب، فإن ذلك
جرح مؤلم، ولا يجوز مثله إلا لحاجة مهمة كالفصد، والحجامة، والختان.
والتزيين بالحلق غير مهم، بل تعليقه على الأذن تفريط، وفي المخانق، والأسورة كفاية
عنه.
وهو حرام، والمنع منه واجب، والاستئجار عليه غير صحيح، والأجرة المأخوذة عليه
حرام.
فصل (فيما يحل للمرأة من الزينة)
ويجوز للمرأة أن تلبس الحلق إذا كانت أذنها قد ثُقبت في صغرها، ويحسن بالسوار
والخلخال، وغير ذلك، وتلبس الحرير.
وأما استعمال آنية الذهب والفضة فهو حرام عليها، قال ابن عقيل: لا فرق بين الرجال
والنساء في تحريم ذلك عليهم، بخلاف الحلى والحرير للنساء، فإنهنَّ يتزيّن به، وهذا
للمفاخرة فقط.
أحكام النساء
الباب السابع في ذِكْر آداب الخلاء، وصِفة الاستجمار
من
أراد دخول الخلاء نحَّى ما معه من ذكر الله تعالى، كالخاتم وغيره، ويقدِّم رجله
اليسرى في الدخول، ويقول عند دخوله: «بسم اللَّه، أعوذ بالله من الخبث والخبائث،
ومن الرِّجس النجس الشيطان الرجيم».
ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ولا يستقبل القِبلة، ولا يستدبرها، ولا يستقبل
الشمس، ولا القمر، ولا يبول في شق، ولا سرب، ولا تحت شجرة مثمرة، ولا في ظل حائط،
ولا قارعة طريق، ولا يقعد فوق ما يحتاج إليه، ولا دونه، ولا يتكلم، فإن عطس حمد
الله بقلبه، فإذا فرغ تحوّل من موضعه لأجل الاستنجاء إلى موضع آخر.
والاستنجاء واجب لكل ما يخرج من السبيلين إلا الريح، ومتى لم يتعدّ الخارج، أجزأ
فيه الاستجمار.
وصفة ما يستجمر به أن يكون جامداً طاهراً، غير مطعوم، لا حرمة له، ولا متصلاً
بحيوان، وهذا يدخل فيه الحجر والخشب والخرق والتراب، وما أشبه ذلك.
ويخرج منه المأكولات، والروث، والرِّمة، لأنهما من طعام الجن، ويجزىء فيه الحجر
الذي له ثلاث شعب.
واختلف أصحابنا في صفة الاستجمار، فقال الأكثرون: يأخذ الحجر الأول بيده اليسرى،
ويبدأ به من مقدّم صفحته اليمنى، ويجرّه إلى مؤخرها، ثم يعيده إلى الموضع الذي منه
بدأ، ثم يأخذ الحجر الثاني يبدأ به من مقدم الصفحة اليسرى، ويجرّه إلى مؤخرها، ثم
يعيده إلى الموضع الذي منه بدأ، ثم يأخذ الحجر الثالث فيديره حول الحلقة، ويعيده
على الوسط.
وذهب الشريف أبو جعفر وابن عقيل إلى أنه يعمِّم بكل حجر جميع المحلّ، لأنه إذا لم
يعمِّم به كان تلفيقاً لا تكراراً، ومتى لم تزل العين بثلاثة أحجار زاد حتى تنقى.
والمستحب للرجل أن يبدأ بقُبله لئلا تتنجس يده بالقُبل، إذا بدأ بالدبر.
فأما المرأة فهي مخيِّرة في ذلك، والأفضل الجمع بين الأحجار والماء، فإنْ أراد
الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل.
وإذا
كانت المرأة بكراً، فإن شاءت مسحت موضع البول بالجامد، الذي قد سبق وصفه، وإن شاءت
غسلته، ومتى تعدى الخارج المخرج لم يجز إلا الماء.
وإن كانت ثيّباً فإن خرج البول بحدّة ولم يسترسل، لم يجب سوى الاستنجاء في موضع
خروج البول، وإن استرسل فدخل منه شيء في الفرج وجب غسله، فإن لم تعلم أَوَصل البول
إلى الفرج أم لا؟ استحب غسله، وكتمان هذا عن المرأة غلول للعلم، لأنه إذا وجب غسل
نجاسة فلم تغسل، قدحت في صحة الصلاة.
وقد ظن جماعة من النساء أنهن إذا غسلن ما وصل إليه البول من باطن الفرج أن ذلك
يقدح في الصوم، وليس كذلك، فإنه لا ينفذ إلى المعدة من البول.
وأحب إدخال الإصبع لغسله، ولا يفسد الصوم، وإنما هو كالفم، بخلاف الدبر، فإنه ينفذ
إلى المعدة.
وإذا خرج الإنسان من الخلاء قدم رجله اليمنى في الخروج، وقال: «غفرانك، الحمد لله
الذي أذهب عني الأذى وعافاني».
الباب الثامن في ذكر الوضوء
* وواجبات الوضوء عشرة:
النية، والتسمية، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح جميع
الرأس، وغسل الرجلين، والترتيب، والموالاة.
* ومسنوناته عشرة:
غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، والسواك، والمبالغة في المضمضة، والاستنشاق،
وتخليل اللحية، وغسل داخل العينين، والبداية باليمين، وأخذ ماء جديد للأذنين، ومسح
العنق، وتخليل ما بين الأصابع والغسلة الثانية والثالثة.
الباب التاسع في ذكر المَسْح على الخُفَّين
للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن من حين الحدث، والجرموقان،
والجوربان كذلك.
ولا يجوز المسح إلا على ما يستر محل الفرض، ويثبت بنفسه، ولم تختلف الرواية عن
أحمد في جواز المسح على العمامة، ولا يجوز للمرأة أن تمسح على الوقاية، واختلفت
الرواية عنه في خُمُر النساء المارّة تحت حلوقهن، هل يجوز المسحة عليها أم لا؟ على
روايتين.
وأما
الجبيرة فيجوز المسح عليها إلى أن يحلها، وهل من شرط المسح أن يشدَّها على طهارة؟
فيه روايتان عن أحمد، ويستحب استيعاب الجبيرة بالمسح.
الباب العاشر في ذكر نَواقِض الوضوء
وهي سبعة أشياء:
* الأول: خروج الخارج من السبيلين طاهراً كان كالريح أو نجساً كالبول.
* الثاني: خروج النجاسات من بقيّة البدن، فإن كانت بولاً، أو عَذِرة، فالقليل
كالكثير في النقض، وإن كانت غير ذلك نقض كثيرها، وهو ما يفحش في النظر.
* والثالث: مسّ الفرج قُبُلاً كان أو دبراً، والموضع الذي ينتقض وضوء المرأة
بمسِّه هو القُبُل ما بين الشفرين، سواء كان مخرج البول أو مخرج الحيض، لأن
الشفرين يجريان مجرى الإليتين من الدبر، والأنثيين من الذكر.
* والرابع: لمس النساء، وفي نقض وضوء الملموس روايتان.
* والخامس: زوال العقل إلا بالنوم اليسير جالساً أو قائماً أو راكباً أو ساجداً.
* والسادس: أكل لحم الجَزور.
* والسابع: غسل الميت.
الباب الحادي عشر في ذكْر ما يوجِب الغُسل
وهي سبعة أشياء:
* الأول: خروج المني على وجه الدفق واللذَّة، فإنْ خرج لمرض لم يوجب، فأما خروج
المني بالاحتلام فيوجب الغسل.
* الثاني: تغييب الحشفة في الفرج، سواء كان قُبُلاً أو دبراً.
* الثالث: إسلام الكافر.
* الرابع: الموت.
وهذه الأربعة، يشترك فيها الرجال والنساء، وتختص النساء بثلاثة أشياء: الحيض،
والنفاس، والولادة ـــ العريّة على أحد الوجهين.
والوقت الذي يجب فيه الغسل من الحيض على المرأة إذا خرج القطن، ولا شيء عليه، أو
كان عليه بلّة بيضاء.
وحكم النفاس حكم الحيض، إذا رأت النقاء الخالص، فإنه يجب حينئذ الغسل، فإذا عريت
الولادة عن نفاس، ولا يتصوَّر هذا إلا في السقط، فهل يجب الغسل؟ قد ذكرنا فيه
وجهين.
الباب الثاني عشر في ذكر وجوب الغُسْل على المرأة
المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل أعليها غسل؟
فقال:
نعم، إذا هي أنزلت الماء.
عن عمر بن ثابت، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله
عليه وسلّمفقالت: المرأة ترى في المنام، فتبصر البلل أتغتسل؟ فعضَّت عائشة ـــ رضي
الله عنها ـــ على ثوبها وقالت: فضحتِ الحرائر. قالت: إني والله لا أستحي من الحق،
والله لأسألن. قالت عائشة: فانتهرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأسكتني، قال:
ما تقولين؟ قالت: أقول كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا أَنزلتْ
الماء فلتغتسل».
عن زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة أن أم سليم سألت النبي صلى الله عليه
وسلّمفقالت: يا رسول الله: إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غسل إذا
احتلمت؟ قال: «نعم، إذا رأت الماء».
الباب الثالث عشر في صِفَة الغُسْل
قدر المجزي من الغسل أن يغسل فرجه، وينوي، ويسمّي، ويعمّ بدنه بالغسل.
فإن أراد الكمال نوى وسمّى، وغسل يديه ثلاثاً، وغسل ما به من أذى، ثم توضأ، وحثَّى
على رأسه ثلاث حثيات يروي أصول الشعر، ثم يفيض الماء على سائر بدنه، يدلك بدنه
بيده، ويبدأ بشقِّه الأيمن، وينتقل من موضع غسله، فيغسل قدميه، وهكذا تغتسل الحائض
والنفساء.
ويستحب للمستحاضة أن تغتسل لكل صلاة، ولا يجب عليها ذلك.
وإذا كان رأس المرأة مضفوراً أو معقوصاً ضفراً قوياً يمنع وصول الماء إلى باطنه
وجب عليها حلّه، وإن كان على رأسها حشو كالزادرخت، والخطمي.
وإن كان رقيقاً لا يمنع، كان لها أن تغسل رأسها، وإن لم يزل ذلك.
وتنقض شعرها للغسل من الحيض، بخلاف الجنابة، وهذا على سبيل الاستحباب، على رأي ابن
عقيل، واختياري.
وظاهر كلام الخرقي وجوب ذلك.
ويستحب للمرأة أن تتبع في غسلها مجاري الدم بالماء، ثم بقطعة من قطن فيها مسك، فإن
لم تجد فبالطِّين، فإن لم تجد فالماء كافٍ. وإنما استحببنا ذلك لأن للدم زفورة.
ويستحب للحائض إذا كانت جنباً أن تغتسل من غير وجوب.
الباب الرابع عشر في ذكر صِفة التيمّم
* فرائض التيمّم:
التسمية، والنية، وتعيين النية للفرض، ومسح الوجه، واليدين إلى الكوعين، والترتيب،
والموالاة.
ولا يجوز التيمُّم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد، ومَن كان جنباً وجب عليه أن
ينوي الجنابة والحدث الأصغر.
* وصفة التيمُّم: أن يضرب بيديه ـــ وهما مفرجتا الأصابع ـــ ضربة واحدة على
التراب، ويمسح وجهه بباطن أصابعه، ويمسح كفيه بباطن راحتيه.
وإن شاء ضرب ضربة فمسح بها وجهه، ثم ضرب أخرى فمسح يديه إلى المرفقين.
وصفة ذلك: أن يضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى. ويمرها على
ظهر الكف، فإذا بلغ الكوع قبض أطراف أصابعه على حرف الذراع، ثم يمرها إلى المرفق،
ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، ويمره عليه، ويرفع إبهامه، فإذا بلغ الكوع أمرَّ
الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى، ثم يمسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك، ثم يمسح
إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين أصابعهما.
ولا يجوز التيمُّم لفريضة قبل وقتها، ومن وجد ماء لا يكفيه لبعض بدنه لزمه
استعماله، ويتيمم للباقي، ومن كان بعض بدنه قريحاً غسل الصحيح، وتيمم للقريح.
وإذا كان على جرحه نجاسة يستضر بإزالتها تيمم وصلّى، ومن خاف زيادة المرض أو تباطؤ
البرء باستعمال الماء، جاز له التيمم، ومن خاف شدة البرد تيمم وصلّى، فإن كان ذلك
في السفر فلا إعادة عليه، وإن كان في الحضر فهل يعيد؟ على روايتين.
ومن حبس في بلد صلّى بالتيمم ولا إعادة عليه.
* ونواقض التيمُّم: نواقض الوضوء، ويزيد على ذلك بخروج الوقت، ووجود الماء، وخلع
الخف، وزوال العذر الذي تيمم لأجله.
الباب الخامس عشر في ذكر الحَيْض
إذا رأت الصبية الدم ولها تسع سنين فهو حيض، وأما قبل ذلك فهو دم فساد لا حيض، وإذا
رأت دماً بعد خمسين سنة فليس بحيض.
وأقل
الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً، وقيل سبعة عشر، والحيض يمنع فعل الصلاة
ووجوبها، وفعل الصيام دون وجوبه، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد،
والطواف بالبيت، والوطء في الفرج، وسنة الطلاق، والاعتداد بالأشهر.
وإذا انقطع دم الحائض أبيح لها فعل الصوم دون غيره مما يمنعه الحيض.
والمستحاضة ترجع إلى عادتها، فإن لم يكن لها عادة، رجعت إلى تمييزها، وكان حيضها
أيام الدم الأسود. واستحاضتها زمان الدم الأحمر، ومتى حدث للحائض أحوال تختلف في
حيضها، وجب عليها شرح ذلك للفقهاء، في كل حادثة، ولما قصر فهم المرأة عن شرح ذلك
هاهنا تركناه.
وإذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس لزمها أن تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع
الفجر لزمها المغرب والعشاء، لأن وقت الصلاة الأخيرة جعل وقتاً للأُولى في حال
الجمع لأجل العذر، فجاز أن يكون وقتاً للإيجاب بزوال العذر، فإن حاضت بعد دخول وقت
الصلاة الأولى من الظهر والعصر والمغرب والعشاء لزمها الصلاة الأولى قولاً واحداً،
بمعنى أنها إذا طهرت وجب عليها قضاؤها، وهل يلزم الثانية بإدراك وقت الأولى أم لا؟
على روايتين.
الباب السادس عشر في ذِكْر النِّفاس
أقل النفاس قطرة، وأكثره أربعون يوماً، فإن جاوز الدم الأكثر، وصادف زمان عادة
الحيض فهو حيض، وإن لم يصادف عادة فهو استحاضة، وحكم النفساء حكم الحائض في جميع
ما يحرم عليها، ويسقط عنها وفي غسلها.
الباب السابع عشر في كَراهية الحمَّام للنساء
عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخلنَّ الحمّام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يدخلن حليلته الحمّام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا
يقعدنَّ على مائدة يُشرب عليها الخمر، أو يُدار عليها الخمر».
وعن
عبد الله بن سويد الخطمي، عن أبي أيوب الأنصاري ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلّمقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخلن
الحمّام».
فنقل ذلك إلى عمر بن عبد العزيز في خلافته، فأرسل إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم أن
سل محمد بن ثابت عن حديثه فإنه رضي، فسأله، ثم كتب إلى عمر، فمنع النساء من
الحمّام.
وعن الأعمش قال: حدثنا عمرو بن مرّة عن سالم أنَّ نسوة من أهل حمص دخلن على عائشة
رضي الله عنها فقالت: لعلكن ممن يدخلن الحمّامات؟ قلن: نعم، قالت: أما أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «ما من امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها
إلا هتكت ما بينها وبين الله عز وجل».
قال الحربي: وحدثنا محمد بن عبد الملك بإسناده عن القاسم عن أبي أمامة أن عمر رضي
الله عنه قال: لا يحل الحمام لمؤمنةٍ إلا من سقم، فإن عائشة حدثتني قالت: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «أيّما امرأة مؤمنة وضعت خمارها في غير بيت
زوجها، هتكت الحجاب فيما بينها وبين الله عز وجل».
وعن مهرة امرأة وهب الكناني قالت: دخلنا على عائشة رضي الله عنها فقالت: لعلكن من
النساء اللاتي يدخلن الحمّامات؟ قلن: نعم، قالت: فدعت جارية لها، فأخرجتنا إخراجاً
عنيفاً.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال:
«سَتُفتحُ أرض العجم، وستجدون بها حمَّامات، فامنعوا نساءكم إلا مريضة أو نفساء».
وعن مكحول، عن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «أيما امرأة
دخلت الحمّام من غير علة ولا سقم تلتمس بياض وجهها، سوَّد الله وجهها يوم تبيضُّ
الوجوه».
وعن
سهل عن أبيه أنه سمع أم الدرداء تقول: خرجت من الحمّام، فلقيني رسول الله صلى الله
عليه وسلّمفقال: «من أين يا أم الدرداء؟» فقلت: من الحمّام، فقال: «والذي نفسي
بيده، ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها
وبين الرحمن عز وجل».
فصل (في دخول النساء للحمّام)
قال المصنف رحمه الله: وقد أطلق جماعة من أصحابنا المنع للنساء من دخول الحمّام
إلا من علّة، أو من مرض لا يصلحه إلا الحمام، أو لحاجة إلى الاغتسال لحيض أو نفاس،
أو لشدّة برد، وتعذر إسخان الماء في غيره، وما أشبه ذلك.
وهذا يصعب على نساء هذا الزمان لما قد ألفن وربين عليه، ولا يصعب على العرب، ومَن
لم يعرف الحمّام.
والصواب أن نقول: إنما جاء هذا التشديد لمعنيين:
أحدهما: أنه دخول إلى بيت أجنبي، وفي ذلك مخاطرة.
والثاني: أنه يتضمن كشف العورات، ولا يؤمن الإطلاع عليها، ومتى أمنت المخاطرة،
ورؤية العورات، وكانت ثَم حاجة جاز من غير كراهية وإن لم يكن ثَمَّ حاجة كره لهن،
لما ذكرنا.
وإذا احتاجت المرأة إلى دخوله، وأمنت المخوف، فينبغي أن تدخل، ولا يحل لها أن ترى
عورة امرأة، وأن لا ترى امرأة عوراتها. وعورة المرأة في حق المرأة، كعورة الرجل في
حق الرجل، من السرّة إلى الركبة.
وعموم النساء الجاهلات لا يتحاشين من كشف العورة أو بعضها، والأم حاضرة أو الأخت
أو البنت، ويقلن هؤلاء ذوات قرابة.
فلتعلم المرأة أنها إذا بلغت سبع سنين لم يجز لأمها ولا لأختها ولا لابنتها أن
تنظر إلى عورتها، وقد ذكر حد عورة المرأة مع المرأة.
ولهذا المعنى نقول: يجوز للرجل أن يغسل الصبية إذا كان لها دون سبع سنين، لأن ذلك
الزمان لا يثبت فيه حكم العورة، فيجوز أن ترى، هذا قول أصحابنا، وقال ابن عقيل:
عندي أنه ما لم تتحرك الشهوة بالنظر إليه في العادة، لا يعطى حكم العورات.
ولا
تُباح خلوة النساء بالخصيان، ولا بالمجبوبين، لأن العضو وإن تعطل أو عدم، فشهوة
الرجال لا تزول من قلوبهم، فلا يؤمن التمتُّع بالقبلة وغيرها، وكذلك لا تباح خلوة
الفحل بالرتقاء من النساء لهذه العلة.
قال ابن عقيل: ووجدت لبعض المفرعين من العلماء تفريعاً مليحاً، قال: وإذا كان
الحيوان البهيم مما يشتهي النساء، أو تشتهيه النساء، فقد قيل: إن القرد إذا خلا
بالمرأة أو رآها نائمة يطلب جماعها، وفي بعض النساء الشبقات مَن ربما دعته إلى
نفسها.
فعلى هذا ينبغي أن تصان الدور التي فيها النساء عن إدخال مثل هذا الحيوان.
فصل (في نظر المرأة الكافرة إلى المسلمة)
فإن كانت الناظرة إلى المرأة ذمِّية، فقد اختلفت الرواية عن أحمد فيما يجوز أن
تراه الكافرة من المسلمة؟ فروي عنه: أنها كالرجل الأجنبي، وروي أنها معها
كالمسلمة.
عن قيس بن الحارث قال: كتب عمر بن الخطاب ـــ رضي الله تعالى عنه ـــ إلى أبي عبيدة:
أما بعد، فإنه قد بلغني أن نساء من نساء المؤمنين يدخلن الحمّامات مع نساء اليهود
والنصارى، فلينتهين أشدّ النهي، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن
ينظر إلى عورتها إلا أهل ملَّتها.
قال المصنف رحمه الله: أشار عمر ـــ رضي الله عنه ـــ بالعورة إلى ما ذكرنا، وأما
الفرج فلا يجوز أن يراه لا أهل ملّتها، ولا غيرهم، سوى الزوج.
فصل (في النظر إلى المحارم)
فأما ذوات المحارم فمباح أن ينظر ذوو قرابتهن المحرم منهن: إلى ما يظهر في العادة،
كالوجه والكفين والقدمين وبعض الساق.
قال أحمد بن حنبل رحمه الله: أنا أكره أن ينظر من أمّه وأخته إلى ساقها وصدرها،
وأما الحرّة إذا ملكت عبداً فإنه ليس بمحرم لها، ولا يجوز أن يرى منها ما يراه
المحارم، ولا يخلو بها، ولا يسافر معها.
ويكره
للرجال الأجانب سماع أصوات النساء إلا بمقدار ما تدعو إليه الحاجة، لأنه قد يحصل
بذلك الافتتان، فينبغي للمرأة أن تتوقَّى ذلك.
الباب الثامن عشر في ذكر شَرائط الصَّلاة وأركانها، وواجباتها، ومسنوناتها،
وهيئاتها
* شرائط الصلاة ستة:
دخول الوقت، والطهارة، والستارة، والموضع، واستقبال القبلة، والنية، ويشترط في حق
المرأة شرط سابع وهو خلوها من الحيض والنفاس.
* وأركانها خمسة عشر:
القيام، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والطمأنينة فيه، والاعتدال
عنه، والطمأنينة فيه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه، والتشهد
الأخير، والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم والتسليمة الأولى، وترتيبها
على ما ذكرنا.
* وواجباتها تسعة:
التكبير غير تكبيرة الإحرام، والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع، والتسبيح في
الركوع والسجود مرة مرة، وسؤال المغفرة في الجلسة بين السجدتين مرة، والتشهد
الأول، والجلوس له، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونيَّة الخروج من
الصلاة في التسليم، والتسليمة الثانية.
* ومسنوناتها أربعة عشر:
الاستفتاح، والتعوذ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وقول آمين، وقراءة السورة،
وقوله ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء، بعد التحميد، وما زاد على
التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، والسجود على
الأنف، وجلسة الاستراحة، على إحدى الروايتين فيهما، وهي أن تجلس بعد الرفع من
السجدة الثانية قبل أن تقوم، ففي رواية لا يجلس، بل يقوم، وفي الأخرى يجلس على
قدميه، والتعوذ، والدعاء بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّمفي التشهد
الأخير، والقنوت في الوتر، والتسليمة الثانية في رواية.
* وهيئاتها مسنونات أيضاً، إلا أنها سنة في غيرها، فلذلك سمِّيت هيئاتها، وهي خمس
وعشرون:
رفع
اليدين عند الافتتاح، والركوع، والرفع منه، وإرسالهما بعد الرفع، ووضع اليمين على
الشمال، وجعلهما تحت السرّة، والنظر إلى موضع السجود، والجهر والإسرار بالقراءة
وبآمين، وضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومدّ الظهر، ومجافاة العضدين على
الجنبين، إلا أن المرأة تجتمع، والبداية بوضع الركبة، ثم اليد في السجود، ومجافاة
البطن عن الفخذين، والفخذين عن الساقين فيه، والتفريق بين الركبتين، ووضع اليدين
حذو المنكبين فيه، والافتراش في الجلوس بين السجدتين، والتشهد الأول، والتورُّك في
التشهد الثاني، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة الأصابع محلّقة،
والإشارة بالمسبحة، ووضع اليد اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة.،
فصل (فيمن أخلّ بشرطٍ، أو ركن، أو هيئة في الصلاة)
فمَن أخلّ بشرط لغير عذر لم تنعقد صلاته، ومَن ترك ركناً فلم يذكره حتى سلّم بطلت
صلاته، عمداً كان أو سهواً.
ومَن ترك واجباً عمداً فحكمه حكم ترك الركن. فإن تركه سهواً سجد للسهو.
فإن ترك سنّة أو هيئة لم تبطل صلاته بحال، وهل يسجد للسهو؟ يخرج على روايتين.
الباب التاسع عشر في صِفة الصَّلاة، وترتيبها، وآدابها
سنّة الفجر ركعتان، والفريضة ركعتان، والتغليس بها أفضل. وسنّة الظهر ركعتان
قبلها، وركعتان بعدها، والفرض أربع ركعات. وفرض العصر أربع ركعات، ويستحب التطوُّع
قبلها بأربع، وفرض المغرب ثلاث ركعات، وسنّتها ركعتان، وأول وقتها إذا غابت الشمس،
وآخر وقتها إذا غاب الشفق الأحمر.
وفرض العشاء أربع ركعات، وسنّتها بعدها ركعتان، وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر،
وآخره ثلث الليل، والأفضل تأخيرها إلى آخر ثلث الليل. ويبقى وقت الجواز إلى طلوع
الفجر الثاني.
وستر العورة بما لا يصف البشرة واجب، وهو شرط في صحة الصلاة، وعورة المرأة الحرة
جميع بدنها إلا الوجه، وفي الكفين روايتان.
وعورة
أم الولد والمعتق بعضها عورة الحرّة، وعنه أنها كعورة الأمة، وعورتها ما بين السرة
والركبة.
ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وجلباب تلتحف به، ويجب على من أراد الصلاة أن
يطهّر بدنه وثوبه، وموضع صلاته من النجاسة. فإن حملها أو لاقاها ببدنه أو ثوبه لم
تصح صلاته، إلا أن تكون النجاسة معفواً عنها كيسير الدم.
وإذا اجتمع النساء، استحبّ لهن أن يصلين فرائضهن في جماعة، وتقف التي تؤمهن وسطهن.
وقد كن يخرجن فيصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي جماعة، إلا أن خروج
المرأة التي يخاف فتنتها يكره.
وتصح إمامة المرأة للرجال في موضع واحد، وهو في صلاة التراويح إذا كانت المرأة
تحفظ القرآن، والرجال لا يحفظون، إلا أنها تقف وراءهم، فيتقدمونها في الموقف،
وتتقدمهم في الأفعال.
ومن قام إلى الصلاة، نوى الصلاة وكبّر، ثم استفتح فيقول:
«سبحانك اللهم وبحمدك، وتباركَ اسمُك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك».
ثم يستعيذ فيقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقرأ الفاتحة يبتدئها
بالبسملة، ويختمها بآمين، ثم يقرأ بعدها سورة أو آيات، ثم يركع، فيضع يديه على
ركبتيه ويطمئن، ويقول سبحان ربي العظيم مرّة، وهو قدر الواجب، فإن شاء قالها
ثلاثاً أو سبعاً، ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، فإذا اعتدل قائماً قال:
ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، ثم يكبّر ويخرّ
ساجداً، فيضع ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، ويقول: سبحان ربي الأعلى».
ثم
يرفع رأسه مكبّراً ويجلس، فيقول: رب اغفر لي، ثم يسجد مكبراً، فيقول: سبحان ربي
الأعلى، ثم يرفع رأسه مكبراً وينهض، فإذا قعد للتشهد الأول جلس مفترشاً، وجعل يده
اليمنى على فخذه اليمنى، يقبض منها الخنصر والبنصر، ويحلّق الإبهام مع الوسطى،
ويشير بالسبّاحة في تشهده، ويبسط اليد اليسرى مضمومة الأصابع على الفخذ اليسرى،
ويقول: «التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله».
فإن كانت صلاة الظهر أو العصر، قام فصلّى ركعتين لا يزيد فيهما على الفاتحة، وكذلك
في الأخيرة من المغرب، والأخيرتين من العشاء، ثم يجلس فيقول هذا التشهد، ويزيد
عليه: «اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنك حميد مجيد».
ويستحب له أن يتعوذ فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن
فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال». وإن دعا بشيء من القرآن كقوله:
{رَبَّنَآ ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201)، وبما صح في الحديث جاز، ثم يسلّم تسليمتين ينوي
بهما الخروج من الصلاة.
والمرأة في جميع ما ذكرنا كالرجل، إلا أنها تجمع نفسها في الركوع والسجود أو تسدل
رجليها في الجلوس، فتجعلهما في جانب يمينها، أو تجلس متربعة.
وإذا سلمت من الصلاة فلتسبّح عشراً، ولتحمد عشراً.
فقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال لأم سُلَيْم ـــ رضي الله عنها
ـــ: «إذا صليت المكتوبة فقولي: سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر
عشراً، ثم سلي الله ما شئت، فإنه يقال لك: نعم نعم نعم».
وليقل:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم
لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ». فقد روي في
«الصحيحين» «أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان يقول ذلك في دبر كل صلاة».
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: مثل التسبيح في دبر كل صلاة مثل جلاء
الصائغ الحلي بعدما يفرغ منه.
فصل (في صلاة الوتر)
فأما الوتر فأقله ركعة، وأفضله إحدى عشرة ركعة، يسلم في كل ركعتين، ويوتر بركعة.
وأدنى الكمال ثلاث ركعات بتسليمتين، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ{سَبِّحِ}
(الأعلى: 1)، وفي الثانية بـ{قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ } (الكافرون: 1)، وفي
الثالثة بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (الإخلاص: 1). ثم يقول بعد انتصاب قامته من
الركوع: اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني
عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى
ونَحْفِد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجدّ بالكفار ملحق، اللهم اهدني
فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر
ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت
ربنا وتعاليت»، «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك،
لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
الباب العشرون في ذِكْر ما يُبْطِل الصَّلاة وما يُعفى عنه فيها
قال المصنف رحمه الله: ذكرنا أن من ترك شرطاً من شرائطها أو ركناً بطلت، فإنْ عزم
على قطع الصلاة بطلت، وإن تردد في قطعها فيه وجهان.
وإن تكلم عامداً بطلت، فإن كان ساهياً سجد للسهو. وإن قهقه أو انتحب أو تنحنح فبان
حرفان بطلت، والعمل المستكثر في العادة لغيرة حاجة يبطل.
ويكره
أن يلتفت أو يفرقع أصابعه أو يعبث في الصلاة، أو مدافعاً للخبيثين، أو يكون تائقاً
إلى طعام.
وإن نابه شيء في صلاته مثل أن يستأذن عليه أحد، أو يخشى على ضرير أن يقع في بئر،
فإنِّ الرجل يسبّح حينئذ، والمرأة تصفق ببطن راحتها على ظهر كفها الآخر.
فصل (في ستر المرأة الحرّة)
ومتى انكشف من المرأة الحرّة شيء في الصلاة سوى وجهها أعادت الصلاة.
وينبغي أن يكون ستر المرأة بما لا يصف البشرة على الدوام، خصوصاً في الصلاة.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلّم «أن الكاسيات العاريات لا يدخلن الجنَّة».
وهنّ اللواتي يلبسن رقاق الثياب لأنها لا تسترهنّ.
الباب الحادي والعشرون في ذكر سُجودِ السهو
إذا شك المصلي في عدد الركعات بنى على اليقين، وسجد للسهو. فإن قرأ في الأخيرتين
من الرباعية بسورة بعد الفاتحة، أو قرأ في سجوده، أو أتى بالتشهُّد في قيامه
ناسياً، فهل يسجد للسهو؟ على روايتين.
الباب الثاني والعشرون في ذكْر الأوقات المنهي عن الصَّلاة فيها
وهي خمسة أوقات:
بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وعند طلوعها حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى
تزول، وبعد صلاة العصر حتى تغرب، وعند غروبها حتى تكامل.
ولا تطوّع في هذه الأوقات بصلاة لا سبب لها، فإن كان لها سبب كتحيّة المسجد، وسجود
الشكر، والتلاوة، فعلى روايتين؟
فأما إن كان قد فاتته فريضة قضاها في جميع الأوقات.
الباب الثالث والعشرون في ذكر صَلاة المريض
قد بيّنا أن القيام في الصلاة ركن، فمن تركه مع القدرة عليه لم تصح صلاته.
ومن عجز عنه لمرض صلّى قاعداً متربعاً، ويثني رجليه في حال سجوده، فإن عجز عن
القعود صلّى على جانبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه، فإن صلّى مستلقياً على ظهره،
ووجهه ورجلاه إلى القبلة جاز، ويومىء بالركوع والسجود، ويكون سجوده أخفض من ركوعه.
فإن
عجز عن ذلك أومأ بطرفه، وينوي بقلبه، ولا تسقط الصلاة عن أحد وعقله ثابت.
ومن صلّى قاعداً، ثم قدر في أثناء الصلاة على القيام، أو مضطجعاً، ثم قدر على
القعود لزمه ذلك.
الباب الرابع والعشرون في صَلاة المرأة في جماعة
يجوز للمرأة أن تخرج إلى المسجد لحضور الجماعة مع الرجال.
قال المصنف:
فقد أخبرنا محمد بن أبي منصور، وعن علي بن عمر بإسنادهما إلى عائشة رضي الله عنها
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلي الصبح، فينصرف نساءُ
المؤمنات متلفعات بمروطهن، لا يعرفن، أو لا يعرف بعضهن بعضاً من الغلس»، أخرجه
البخاري عن يحيى بن موسى عن سعيد.
وعنها رضي الله عنها قالت: «كن نساء المؤمنين يصلين مع رسول الله صلى الله عليه
وسلّمصلاة الصبح في مروطهن، ثم ينصرفن فما يعرفن من الغلس».
فصل (في صلاة المرأة مع الرجال)
وإذا صلت المرأة مع الرجال وقفت بعد صفوف الرجال، فإن وقفت في صفوف الرجال كره
ذلك، ولم تبطل صلاتها، ولا صلاة من يليها.
وقال أبو بكر عبد العزيز من أصحابنا: تبطل صلاة من يليها.
فصل (في خروج المرأة إلى الصلاة)
وهذا الخروج إلى المسجد مباح لها، فإنْ خافت أن تفتن برؤيتها فلتصلِّ في بيتها.
فقد أخبرنا ابن الحصين، بإسناده إلى زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلّم «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولتخرجن تفلات».
وعن عبد الله بن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها».
وعن الزُّهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا استأذنت
أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «لا تمنعوا نساءكم
المساجد، وبيوتهن خير لهن».
وعنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ائذنوا بالليل لنسائكم إلى المساجد».
فصل (في إمامة المرأة في الصلاة)
وإذا كان معها في بيتها نساء أمَّتهن، وتقف معهن في الصف، ولا تقدمهن، وقد سبق ذكر
هذا.
ولا يسنّ في حق النساء أذان ولا إقامة.
فصل (في صلاة المرأة لصلاة الجمعة)
ولا تجب الجمعة على المرأة، فإن خرجت لصلاة الجمعة، صحت منها وأجزأتها.
وإذا أرادت حضورها فلتغتسل للجمعة.
فقد أنبأنا زاهر بن طاهر قال: حدثنا (أبو عمر) المسيب بن محمد الأرغياني بإسناده
إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من أتى الجمعة فليغتسل من
الرجال والنساء».
الباب الخامس والعشرون في خُروج النِّساء يوم العيد
عن حفصة عن أم عطية قالت: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي يوم العيد أن تخرج
العواتق، وذوات الخدور، والحيَّض، فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين،
فقالت امرأة من المسلمين: وإحداهن لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها من جلبابها».
قال المصنف رحمه الله: قلت: العواتق، جمع عاتق، وهي المدركة.
قالت جارية من العرب لأبيها: اشتر لي لوطاً أغطّي به قزعي، فإني قد عتقت، اللوط:
الرداء، والقزع: الشعر، وعتقت: أدركت. يقال للمرأة حين تدرك: عاتق.
وعن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن تخرج
ذوات الخدور يوم العيدين، قيل: فالحيَّض؟ قال: «يشهدن الخير ودعوة المسلمين».
وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميأمر
بناته، ونساءه، أن يخرجن في العيدين».
قال المصنف رحمه الله:
قلت: وقد بيَّنا أن خروج النساء مباح، لكن إذا خيفت الفتنة بهن أو منهن، فالامتناع
من الخروج أفضل، لأن نساء الصدر الأول كنَّ على غير ما نشأ نساء هذا الزمان عليه،
وكذلك الرجال.
فصل (في السلام على النساء)
إذا خرجت المرأة لم تسلم على الرجال أصلاً.
عن عطاء الخراساني يرفع الحديث قال: «ليس للنساء سلام، ولا عليهن سلام»، قال
الزبيدي: أخذ على النساء ما أخذ على الحيات، أن يتحجرن في بيوتهن.
وقد روينا عن أحمد بن حنبل: أنه كان عنده رجل من العباد فعطست امرأة أحمد، فقال
لها العابد: يرحمك الله، فقال أحمد: عابد جاهل.
وبلغني عن امرأة من القدماء أنه كان إذا طرق عليها الباب، وليس عندها أحد، وضعت
يدها على فمها، وتكلمت لتخرج كلاماً منزعجاً لا يفتن.
الباب السادس والعشرون في تَحذير النساء من الخروج
ينبغي للمرأة أن تحذر من الخروج مهما أمكنها، فإنها إنْ سلمت في نفسها لم يسلم
الناس منها.
فإذا اضطرت إلى الخروج خرجت بإذن زوجها في هيئة رثّة، وجعلت طريقها في المواضع
الخالية، دون الشوارع والأسواق، واحترزت من سماع صوتها، ومشت في جانب الطريق لا في
وسطه.
أنبأنا إسماعيل بن أحمد بإسناده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم «ليس للنساء وسط الطريق».
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول:
«ما من امرأة تنزع ثيابها في غير بيتها، إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى».
وعنها ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «أيما
امرأة نزعت ثيابها في غير بيت زوجها، هتكت ستر ما بينها وبين ربها».
الباب السابع والعشرون في ذكر فَضْل البيت للمرأة
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «المرأة عورة،
إذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من الله ما كانت في بيتها».
وعن
أبي الأحوص عن عبد الله أيضاً قال: النساء عورة، فاحبسوهن في البيوت. فإن المرأة
إذا خرجت إلى الطريق قال لها أهلها: أين تذهبين؟ قالت: أعود مريضاً، وأشيّع جنازة.
فلا يزال بها الشيطان حتى تخرج ذراعيها، وما التمست امرأة وجه الله بمثل أن تقرّ
بيتها، وتعبد الله عز وجل.
وعن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة ـــ رضي الله عنها ـــ أن النبي صلى الله عليه
وسلّمقال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن».
وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله قال في حجة الوداع: «إنما هي
هذه، ثم عليكم بظهور الحصر» قال: (فكن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّميحججن).
وعن زينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة قالتا: «لا والله لا تحركنا دابة بعد الذي سمعنا
من رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن القسم».
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لأن
تصلي المرأة في بيتها خير من أن تصلّي في حجرتها، ولأن تصلّي في حجرتها، خير لها
من أن تصلي في الدار، ولأن تصلّي في الدار خير لها من أن تصلّي في المسجد».
وعن علي عليه السلام أنه قال: «ألا تستحون، أو تغارون، فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن
في الأسواق يزاحمن العلوج».
فصل (في حرمة اطّلاع النساء على الشباب)
ويكره للمرأة أن تطلع من الخوخات، لأنها ترى الرجال، ولا يؤمن أن تتأذى برؤيتهم،
كما يتأذون برؤيتها.
عن محفوظ بن علقمة عن أبيه، أن معاذ بن جبل ـــ رضي الله عنه ـــ دخل بيته، فرأى
امرأته تنظر من خرق في القبّة فضربها، قال: وكان معاذ يأكل تفاحاً ومعه امرأته،
فمرَّ غلام له فناولته تفاحة قد عضّتها، فضربها معاذ.
ومن المنكرات اطلاع النساء على الشباب إذا اجتمعوا في الدعوات لأنه لا يؤمن
الفتنة.
الباب الثامن والعشرون في ذِكْر أنَّه إذا خِيفَ من المرأة الفتنة نُهيتْ عنِ
الخروج
عن
عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمرأى
النساء اليوم، لنهاهن عن الخروج، أو حرَّم عليهن الخروج».
وعنها ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّممن
النساء ما نرى لمنعهن من المساجد، كما منعت بنو إسرائيل نساءها».
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: «كان النساء الأكابر وغيرهن يحضرن مع
رسول الله صلى الله عليه وسلّموأبي بكر وعمر وعثمان العيد، فلما كان سعيد بن العاص
سألني عن خروج النساء، فرأيت أن يمنع الشواب الخروج، فأمر مناديه لا تخرج يوم
العيد شابة، فكان العجائز يخرجن».
الباب التاسع والعشرون في نَهْي المرأة إذا تطيَّبتْ أنْ تخرج
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أيما
امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة».
وعن غنيم بن قيس عن الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أيما امرأة
استعطرت فمرَّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية».
عن مولى ابن أبي رهم سمعه عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلّمقال:
استقبل أبو هريرة امرأة متطيِّبة فقال: أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: المسجد.
فقال: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قال أبو هريرة: إنه قال: «أيما امرأة خرجت من بيتها
متطيبة تريد المسجد، لم يقبل الله عز وجل لها صلاة حتى ترجع فتغتسل منه، غسلها من
الجنابة».
وعن أبي هريرة أنه لقي امرأة فوجد منها ريحاً طيبة، فقال لها أبو هريرة: المسجد
تريدين؟ قالت: نعم، قال: وتطيبت؟ قالت: نعم، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلّم «ما من امرأة تطيبت للمسجد لم يقبل الله لها صلاة حتى تغتسل منه
اغتسالها من الجنابة، فاذهبي فاغتسلي».
وعن زينب امرأة عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا شهدت إحداكن
العشاء فلا تمس طيباً».
الباب
الثلاثون في أنَّ طيبَ النساءِ ما ظهر لونه، وخَفيتْ ريحه
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «إنَّ طيب الرجال ريح لا لون له،
وإن طيب النساء لون لا ريح له».
قال المصنف رحمه الله: قلت: وإنما جعل طيبهن ما لا ريح له لئلا ينمّ عليهن خصوصاً
إذا خرجت المرأة من بيتها، وقد منعت المرأة مما ينمّ عليها، قال الله عز وجل:
{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}
(النور: 31) قيل: هو: الخلخال، وقال ابن عقيل: ويُقاس على هذا تحريم الصرير في
المداس.
الباب الحادي والثلاثون في أنَّ أجوَد ما للمرأةِ أنْ لا ترى الرجال
عن سعيد بن المسيَّب أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال لفاطمة عليها السلام: ما
خير النساء؟ قالت: أن لا ترى الرجال، ولا يرونهن. فقال علي: فذكرتُ ذلك للنبي صلى
الله عليه وسلّمفقال: «إنما فاطمة بضعة مني».
قال المصنف رحمه الله: قلت: قد يشكل هذا على من لا يعرفه، فيقول: الرجل إذا رأى
المرأة خيف عليه أن يفتتن، فما حال المرأة؟ فالجواب أن النساء شقائق الرجال، فكما
أن المرأة تعجب الرجل، كذلك الرجل يعجب المرأة وتشتهيه كما يشتهيها، ولهذا تنفر من
الشيخ، كما ينفر الرجل من العجوز.
عن أسامة قال: كانت عائشة، وحفصة عند النبي صلى الله عليه وسلّمجالستين، فجاء ابن
أم مكتوم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلّم «قوما». فقالتا: إنّه أعمى. فقال:
«وأنتما عمياوان؟».
الباب الثاني والثلاثون في ذكر صَلاة التطوُّع
إذا قضت المرأة فرائضها، وأتت بالسنن، فأحبَّت أن تتطوع، فلتصلي صلاة الضحى، فإن
شاءت ركعتين، وإنْ شاءت أربعاً، وإن شاءت ثمانياً. فقد صح عن النبي صلى الله عليه
وسلّمأنه صلاها يوم الفتح ثماني ركعات.
ووقتها
إذا علت الشمس، واشتدَّ حرُّها، وقد روي في حديث أنها اثنتا عشرة ركعة، وإن أمكنها
التطوع بين الظهر والعصر، فإنه وقت شريف، وكذلك بين المغرب والعشاء.
وأفضل التهجد بالليل وسطه، والنصف الأخير من الليل أفضل من الأول.
ولا ينبغي لها أن تفعل من هذا شيئا يمنعها من قضاء حق زوجها، أو يؤثر في بدنها
فيكون سبباً لأذى زوجها، فإنْ علمت منه أنه يحبّ الصلاة في الليل أيقظته، وكذلك
إذا علم منها.n
فقد أخبرنا هبة الله بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلّت، فإن أبت نضح في
وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت، وأيقظت زوجها فصلّى، فإنْ أبى
نضحت في وجهه الماء».
وروى أبو داود في سننه عن الأعرج عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلّم «من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصلّيا جميعاً ركعتين، كتبا من
الذاكرين الله كثيراً والذاكرات».
الباب الثالث والثلاثون في التسبيحاتِ والأذكار
قد أغرى كثير من القُصَّاص بذكر صلوات، وتسبيحات، وأذكار لا أصل لها، ولا صحة،
فيستعملها الجهال والنساء، ونحن نتخيّر هاهنا من الأذكار الصحاح، ما ينبغي أن
يستغنى به عن غيرها.
أما صلوات التطوع فمنها: صلاة الضحى، وقد سبقت، ومنها، صلاة التسبيح.
عن
ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال للعباس: «يا
عمّاه ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا افعل عشر خصال، إذا أنت فعلت ذلك غفر لك ذنبك
كله، أوله وآخره، قديمه، وحديثه، وخطأه، وعمده، وصغيره، وكبيره، وسرّه، وعلانيته،
أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في
أول ركعة وأنت قائم، قلت: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر،
خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها
عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها
عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل
ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات».
إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرّة فافعل، فإن لم تفعل، ففي كل جمعة مرّة، فإن لم
تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لما تفعل ففي عمرك مرة».
ومنها صلاة الاستخارة:
أخبرنا عبد الأول، بإسناده عن جابر بن عبد الله قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما كان
يعلّمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير
الفريضة ثم ليقل: اللّهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك
العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنت
تعلم هذا الأمر ـــ تسميه باسمه ـــ خيراً لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، أو
قال: عاجل أمري، وآجله، فأقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه. اللهم إن كنت تعلمه
شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري، فاصرفني عنه، واصرفه عني،
وأقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به». هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.
وأما
الصلوات التي يذكرها القصاص عن صلاة ليلة الفطر، وليلة النحر، وليلة الرغائب،
وليلة نصف شعبان، فلا صحة لها، فلذلك سكتنا عن ذكرها.
وأما الأذكار فأفضلها القرآن، فإنه قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال:
«مَن قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف،
ولام حرف، وميم حرف».
وصح عنه صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن».
فينبغي للمرأة أن تجتهد في حفظ ما يمكن، فإنه قد روي أن عدد درج الجنة بعدد آي
القرآن، يقال للقارىء: «اقرأ وارْقَ، فمنزلك عند آخر آية تقرؤها».
وقد كان جماعة من النساء يحفظن جميع القرآن، وقد رأينا في زماننا جماعة منهن
فينبغي لمن لها همّة، أن تؤثر هذه الفضيلة التي ليس لها مثيل.
وأما التسبيح والذكر فقد أمر النساء بعده ليسهل عليهن.
عن حُميضة بنت ياسر، عن يُسَيْرَة، أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه
وسلّم«أمرهنّ أن يراعين التسبيح والتقديس، والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل، فإنهن
مسؤولات مستنطقات».
عن هانىء بن عثمان الجهني، عن أمه حميضة، عن جدتها يسيرة ـــ وكانت من المهاجرات
ـــ قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا نساء المؤمنين عليكن
بالتهليل والتسبيح، والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل، فإنهنّ
مسؤولات مُسْتَنطقات».
عن عائشة بنت سعد عن أبيها أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى امرأة،
وبين يديها نوى، أو حصى، تسبِّح به، فقال: «أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل،
سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله
عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل
ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك».
وعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان
في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» أخرجاه في
الصحيحين.
وعنه رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَن قال لا إله
إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة
مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له
حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل
أكثر من ذلك. ومَن قال في يومه مائة مرة: سبحان الله وبحمده حطّت خطاياه، وإن كانت
مثل زبد البحر».
عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أحب الكلام إلى الله عز
وجل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرّك بأيهن
بدأت». انفرد بإخراجه مسلم.
* ذكر الدعوات عند الكرب:
عن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان
يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش
العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم» أخرجاه في
الصحيحين.
* ذكر دعوات:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق ـــ رضي الله عنهم ـــ أنه قال
لرسول الله صلى الله عليه وسلّم علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل اللهم إني
ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني
إنك أنت الغفور الرحيم» أخرجاه في الصحيحين.
وعن
عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يدعو بهؤلاء
الدعوات: «اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب
القبر، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال،
اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما يُنَقَّى الثوب
الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم
إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم، والمغرم» أخرجاه في الصحيحين.
الباب الرابع والثلاثون في ذِكْر صَوم رمضَان
لا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصوم الواجب إلا بنيَّة من الليل، وهل تجزىء نية
لجميع رمضان، أم تجب لكل يوم نيَّة؟ فيه روايتان.
فإن طهرت الحائض والنفساء، وقدم المسافر، لزمهم قضاء ذلك اليوم. رواية واحدة، وفي
وجوب الإمساك روايتان.
والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا، فإن خافتا على ولديهما،
أفطرتا وعليهما القضاء، وإطعام مسكين عن كل يوم.
ومن أكل أو شرب أو استعط، أو اكتحل بما يصل إلى جوفه، أو قطَر في أذنه، فوصل إلى
دماغه، أو داوى المأمومة، والجائفة بما يصل إلى جوفه، أو احتقن، أو حجم، أو احتجم،
أو استقاء، أو استمنى، ذاكراً للصوم، عالماً بتحريم ذلك الفعل، بطل صومه، ووجب
عليه إمساك بقية يومه، والقضاء.
فإن فعل ذلك ناسياً أو جاهلاً بالتحريم أو مكرهاً لم يبطل صومه.
وإذا جامع الرجل في الفرج بطل صومه، وصوم المرأة، سواء كانا ذاكرين أو ناسيين أو
مختارين، أو مكرهين، فأما الكفارة فإنها تلزم الرجل مع زوال العذر، وهل تلزمه مع
الإكراه، والنسيان؟ فيه روايتان، وأما المرأة فلا تلزمها الكفارة مع العذر، وهل
تلزمها مع المطاوعة؟ فيه روايتان.
ويكره للصائم السواك بعد الزوال، والقبلة لشهوة، وأن يجمع ريقه فيبلعه، وأن يذوق
الطعام.
ويستحب
له تعجيل الإفطار، ويفطر على التمر، فإن لم يجد فعلى الماء. واختلفت الرواية في
الصبي المراهق، المطيق للصوم، هل يلزمه، ويضرب عليه؟ على روايتين، ومثله الصبية،
وإذا كانت الداية ترضع ولد غيرها.
الباب الخامس والثلاثون في ذكر صَوم النَّذْر والقضَاء والتطوُّع
ومن نذر صيام شهر بعينه، فلم يصمه لغير عذر، فعليه القضاء، وفي الكفارة روايتان.
فإن نذر أن يصوم يوم يقدم فلان، وقدم وهو ممسك، لزمه صيام ذلك اليوم، ويقضي
ويكفِّر، وعن أحمد لا يلزمه صيام ذلك اليوم.
فإن وافق قدومه يوماً من رمضان لم يلزمه شيء، وقال بعض أصحابنا: يلزمه القضاء.
ولا يصح صيام يومي العيد، وأيام التشريق نفلاً، فأما صوم يومي العيدين عن الفرض،
ففي إحدى الروايتين لا يصوم، ويقضي، ويكفِّر كفارة يمين، وفي الأخرى يكفِّر من غير
قضاء.
وأما أيام التشريق فهل يصح صومها عن الفرض؟ فيه روايتان.
فصل (في قضاء رمضان)
ويجوز قضاء رمضان متفرقاً، ويجوز تأخيره إلى ما قبل رمضان. عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن أنه سمع عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ زوج النبي صلى الله عليه وسلّمتقول:
إن كان ليكون عليَّ الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان».
فصل (في تأخير قضاء رمضان)
وإذا ثبت أنه يجوز للمرأة أن تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان، فلا يجوز لها أن تتطوَّع،
وعليها القضاء، نص عليه أحمد.
فإذا أصبحت يوماً، وقد نوت القضاء، لم يجز أن تفطر ذلك اليوم، لأنه قد تعيّن
بتعيينها.
فصل (في استحباب صيام ست من شوّال)
ويستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال، وإن فرَّقها.
ويستحب صوم عشر ذي الحجة، وعشر المحرم.
وفي «الصحيح» أن «صوم يوم عرفة، كفّارة سنتين»، و«صوم يوم عاشوراء كفارة سنة».
ويستحب صوم أيام البيض وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر.
ويستحب
صوم الاثنين والخميس، وأفضل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً، ويفطر
يوماً.
ويكره إفراد يوم الجمعة بالصيام، أو يوم السبت.
ولا يجوز للمرأة أن تتطوع بالصوم إلا عن إذن زوجها.
وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا
تصوم المرأة، وزوجها حاضر إلا بإذنه».
وعنه ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «لا تصوم المرأة
وزوجها شاهد يوماً من غير شهر رمضان إلا بإذنه».
الباب السادس والثلاثون في ذكر الزَّكَاة
تجب الزكاة على من ملك عشرين ديناراً، وحال عليه الحول، فيلزمه إخراج نصف دينار،
أو مائتي درهم، فيلزمه خمس دراهم، وما زاد على النصاب فبحسابه.
ويُضم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب، بالأجزاء لا بالقيمة، وقال بعض أصحابنا:
بما هو أحوط للفقراء، من الأجزاء أو القيمة.
ومن أخرج قراضة عن صحيح، أخرج ما بينهما من الفضل.
ولا تجب الزكاة في الحلي المباح، إذا كان معدّاً للاستعمال، فإن كان معداً للنفقة،
أو الكراء، وجبت الزكاة.
وتجب في الأواني المتخذة من الذهب والفضة، وتجب في قيمة عروض التجارة، وتجب في
الصداق، وعوض الخلع قبل القبض، إلا أنه لا يلزم إخراجها إلا بعد القبض.
وتجب في كل ما يكال ويدّخر من الزروع والثمار، إذا بلغت نصاباً، قدّر بعد التصفية
في الحبوب، والجفاف في الثمار، خمسة أوسق، (والوسق) ستون صاعاً. والصاع خمسة أرطال
وثلث بالعراقي، فيكون ذلك ألفاً وستمائة رطل، إلا الأرز والعلس، وهو نوع من الحنطة
يدخر في قشره، فإنَّ نصابه عشرة أوسق مع قشره.
الباب السابع والثلاثون في الحثِّ على الصَّدَقة
عن
عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما منكم من أحد إلا سيكلمه
ربه، فينظر أمامه فتستقبله النار، فينظر عن أيمن منه، فلا يرى إلا شيئاً قدَّمه،
فينظر عن أشأم منه، فلا يرى إلا شيئاً قدَّمه، فمن استطاع فليتق النار، ولو بشق
تمرة».
عن عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله، عن زينب قالت: خطبنا رسول الله
صلى الله عليه وسلّمفقال: «يا معشر النساء تصدَّقن، ولو من حليكنّ، فإنكن أكثر أهل
النار يوم القيامة».
وعن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إن
الله عز وجل ليدرأ بالصدقة سبعين ميتة من السوء».
وعن الحارث بن النعمان بن سالم قال: دخلت على أنس بن مالك فسألته، فقال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلّم «الصدقة تمنع سبعين نوعاً من أنواع البلاء، أهونُها
الجذامُ والبَرَص».
قال الحارث: اسم هذا الشيخ على اسمي، واسم أبيه على اسم أبي، واسم جدّه على اسم
جدّي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «ما من عبد
مسلم يتصدّق من كسب طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا كان الله يأخذها،
فيربِّيها كما يربّي أحدكم فَلْوَهُ، أو فصيله، حتى تبلغ الثمرة جبل أحد».
وعن أنس ـــ رضي الله عنه ـــ أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «تصدقوا فإن
الصدقة فكاككم من النار».
وعن
أبي حمزة الثمالي عن عكرمة أن ملكاً قال لأهل مملكته: إني إنْ وجدتُ أحداً يتصدق
بصدقة، قطعت يديه، فجاء سائل إلى امرأة فقال: تصدقي عليّ بشيء. فقالت: كيف أتصدق
عليك، والملك يقطع يديْ من يتصدق. فقال: أسألك بوجه الله، إلا تصدقت عليّ. فتصدقتْ
عليه برغيفين، فبلغ ذلك الملك، فأرسل إليها، فقطع يديها، ثم إن الملك قال لأمه:
دلّيني على امرأة جميلة أتزوجها. فقالت: إن هاهنا امرأة ما رأيت مثلها لولا عيب
بها، قال: أي عيب بها؟ قالت: قطعاء اليدين. قال: فأرسلي إليها، فأرسلت إليها، فلما
رآها أعجبته، فتزوجها وأكرمها، فبرز إلى الملك عدو، فخرج إليهم، وكتب إلى أمه أن
أنظري فلانة، فاستوصي بها خيراً، وافعلي وافعلي.
فجاء الرسول، فنزل على ضرائرها، فحسدنها فأخذن الكتاب فغيّرنه، وكتبن إلى أمه، أن
انظري فلانة، فقد بلغني أن رجالاً يأتونها، فأخرجيها من البيت، وافعلي وافعلي،
فكتبت إليه أمه أنك قد كذبت، وأنها لامرأة صدق، فذهب الرسول فنزل بهنّ، فأخذن
الكتاب فغيّرنه وكتبن أنها فاجرة، ولدت غلاماً.
قال: فكتب إلى أمه أن انظري فلانة، فاربطي ولدها على رقبتها واضربي على جنبها،
وأخرجيها. فلما جاءها الكتاب قرأته عليها، وقالت لها: اخرجي، فجعلت الولد على
رقبتها، وخرجت فمرت على نهر، وهي عطشى، فبركت لتشرب والصبي على رقبتها، فوقع في
الماء فغرق، فجلعت تبكي على شاطىء النهر، فمر بها رجلان، فقالا لها: ما يبكيك؟
قالت: ابني كان على رقبتي، وليس لي يدان، وأنه سقط في الماء فغرق. فقالا لها:
أتحبين أن يرد الله عليك يديك كما كانتا قالت: نعم، فدعوا الله ربهما، فاستوت
يداها، فقالا لها: تدرين من نحن؟ قالت لا، قالا: نحن رغيفاك اللذان تصدقت بهما».
فصل (في إعطاء السائل)
ولا
يحقرن السائل بشيء يتصدق به عليه، فقد أخبرنا أبو بكر محمد عبد الباقي، بإسناده
إلى عبد الرحمن بن بجيد، عن جدته أم بجيد أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلّميأتينا في بني عوف، فأعدّ له سويقة في قصعة لي، فأسقيها إياه إذا جاء، فقلت:
يا رسول الله، إنه يأتيني السائل، فأزهد له بعض ما عندي. فقال: «يا أم بجيد، ضعي
في يد المسكين ولو ظلفاً محرقاً».
وعن عبد الرحمن بن بجيد أنّ جدّته، وهي أم بجيد، وكانت ممن بايعت رسول الله صلى
الله عليه وسلّم «إن لم تجدي شيئاً تعطيه إياه إلا ظلفاً محرقاً، فادفعيه إليه في
يده».
وعن جابر بن النعمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «مناولة
المسكين تقي ميتة السوء».
الباب الثامن والثلاثون في كَراهيةِ إطْعام المِسْكين ما لا يأكل منه المتصدِّق
ينبغي للمتصدق أن يتخير الأجود كسباً لقوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ
مِنْهُ تُنفِقُونَ} (البقرة: 267).
وقول النبي صلى الله عليه وسلّم «لا يقبل الله صدقة من غلول»، ثمَّ يتخير الأجود
في نفسه، ثم يؤثر بالمحبوب، فقد قال عز وجل: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى
تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92)، وكان السلف إذا أحبوا شيئاً قدموه
لله عز وجل، فقال ابن عمر يوماً: اللهم إنه لا أحبَّ إليَّ من جاريتي رميثة، وهي
حرة لوجه الله تعالى. وركب نجيباً فأعجبه مشيه، فأناخه، فقال: يا نافع، أشْعِره،
وأدخلْه في البدن، وكان الربيع بن خثيم يتصدق بالسكَّر، ويقول: إن الربيع يحب
السكَّر.
الباب التاسع والثلاثون في صدقة المرأة من بيتها غير مفسدة
عن عمرو بن مرّة عن أبي وائل عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلّم «إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها، كان لها أجر، وللزوج مثل
ذلك، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص أجر واحد منهم من أجر صاحبه».
وعن
ابن أبي مُلَيكة، عن أسماء قالت: يا رسول الله، إنه ليس لي إلا ما أدخل عليّ
الزبير بيته، قال: «يا أسماء أعطي، وتصدقي، ولا توكي فيوكى عليك».
الباب الأربعون في إنفاق المرأةِ من بيتِ زوجها بغير أمره
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا
تصوم المرأة، وزوجها شاهد، إلا بإذنه، وما أنفقت من كسبه بغير أمره، فإنَّ نصف
أجره له، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه».
الباب الحادي والأربعون في ثواب الخازن إذا أخرج ما أمر به للصَّدَقة
عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «الخازن الأمين إذا
أعطى ما أمر به كاملاً موفراً طيّبة به نفسه، فهو أحد المتصدقين».
الباب الثاني والأربعون في اغتنامِ فَرْحةِ الفقير بإعطائِه الجيّد
كان كثير من السلف لا يقنعون بنفس ما يغني الفقير، بل يعطونه فوق ما يؤمل، لينالوا
ثواب فرحته، فروِّينا عن ابن المبارك أنه رأى امرأة فقيرة قد أخذت بطّة ميتة،
فسألها عن ذلك، فقالت: لنا أيام ما أكلنا، فأعطاها نحواً من ألف دينار.
وكان أبو عبد الله محمد بن العباس العصمي نبيلاً من ذوي الأقدار العالية، وله
أفضال على الصالحين، والفقهاء، وبلغني أنه كان يضرب له دنانير، كل دينار منها
مثقال ونصف، وأكثر من ذلك، فيتصدق بها، ويقول: إنَّ الفقير يفرح إذا ناولته
كاغداً، فيتوهم أن فيه فضة، ثم يفتحه فيفرح إذا رأى صفرة الدينار، ثم يزنه فيفرح
إذا زاد على المثقال.
الباب الثالث والأربعون في ذكر الحَجِّ
يجب الحج على المرأة إذا كانت حرّة، بالغة، عاقلة، مستطيعة، لها محرم، يخرج معها،
فالحج للمرأة مكان الجهاد للرجل.
عن
عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: قلت: يا رسول
الله، ألا نخرج فنجاهد معكم؟ قال: «لا، جهادُكن الحج المبرور هو لكنَّ جهاد».
وإذا ثبت أن حج المرأة جهاد، فلا يجوز أن تخرج إلا بمحرم.
عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا تسافر
امرأة سفراً ثلاثة أيام فصاعداً، إلا مع أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها أو ذي
محرم».
وعن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه
وسلّمقال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا
ومعها ذو محرم».
وعن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلّم «لا يحل لامرأة بالله واليوم الآخر، تسافر يوماً وليلة إلا مع ذي
محرم من أهلها».
فصل (في خروج المرأة إلى الحج)
إذا أرادت المرأة الخروج إلى الحج خرجت من المظالم، وقضت الديون، وصلّتْ صلاة
الاستخارة، وقد سبقت، واجتهدت في الخير، والسنن، مهما أمكن.
فإذا وصلت إلى مكان الإحرام اغتسلت، وأحرمت ولبّت، فقالت: لبيك اللهم لبيك، لبيك
لا شريك لك لبيك إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ولا تتجرد من المخيط، ويجوز لها لبس القميص والسراويل والخمار، والخفّ، ولا يجوز
لها لبس البرقع، ولا القفازين، ولا النقاب، فإن أرادت ستر وجهها سدلت عليه ما
يستره، ولا يقع على البشرة، ولا ترفع صوتها بالتلبية إلا بقدر ما تسمع رفيقتها،
وتتجنب الطيب وحلق الشعر، وتقليم الأظفار، والصيد، والدلالة عليه، ويجوز لها أن
تختضب بالحنّاء، وتنظر في المرآة، غير أنها لا تصلح شعثاً.g
فإذا دخلت المسجد، دخلت من باب بني شيبة، وقالت عند رؤية البيت: اللهم أنت السلام،
ومنك السلام، حيّنا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتكريماً، الحمد لله
الذي بلغني بيته، ورآني لذلك أهلاً.
وتطوف
طواف القدوم، فتبتدىء من الحجر الأسود، فتستلمه، وتطوف، وتجعل البيت عن يسارها،
وتقول عند استلام الحجر: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك،
واتباعاً لسنّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلّم
وتطوف سبعاً ولا ترمل، ولا تضطبع، ثم تصلي ركعتين خلف المقام، فإذا طافت طواف
الفرض، فعلت هكذا، فإذا فرغت من الركعتين، عادت إلى الركن فاستلمته، ثم خرجت من
باب الصفا، فتقف عند الصفا، ولا ترقى عليه، وتكبّر ثلاثاً، وتقول: الحمد لله على
ما هدانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب
وحده. ثم تلبي، وتدعو بما تحب، ويكون سعيها بين الصفا والمروة مشياً.
ويكون أكثر كلامها يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد،
وهو على كل شيء قدير. إلا أنها لا تسمع الرجال أذكارها.
وإذا أخذت الحصى وهو سبعون حصاة، غسلته، فإذا وصلت إلى مِنى بدأت بجمرة العقبة،
فرمت إليها سبع حصيات، وتكبّر مع كل حصاة، وتعلم حصولها في المرمى، وتقطع التلبية
مع أول حصاة، وترمي بعد طلوع الشمس، ثم تنحر هدياً إن كان معها، وتقصّر من شعرها
قدر الأنملة.
وترمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال، كل جمرة في كل يوم بسبع حصيات،
وتبدأ بالجمرة الأولى، وهي أبعد الجمرات من مكة، وتلي مسجد الخيف، فتجعلها عن
يسارها، وتستقبل القبلة، وتدعو كثيراً، ثم ترمي الجمرة الوسطى، وتجعلها عن يمينها،
ثم ترمي جمرة العقبة، وتجعلها عن يمينها، ولا تقف عندها.
ومن لم ينفر في اليوم الثاني قبل غروب الشمس لزمه البيتوتة، والرمي من الغد،
ويُستحب الشرب من ماء زمزم، والإكثار منه.
وطواف الوداع واجب، فمن تركه فعليه دم، إلا أن تخرج المرأة من مكة، وهي حائض، فلا
شيء عليها.
وإذا
ودعت البيت، وقفت بين الركن والباب، وقالت: اللهم هذا بيتك، وأنا أمتك، حملتني على
ما سخّرت لي، وبلغتني بنعمتك وأعنتني على قضاء نسكي، فإن كنت رضيت عني رضى، وإلا
فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي، إنْ أذنت لي غير مستبدل بك،
ولا ببيتك، ولا راغبة عنك، ولا عن بيتك، اللهم اجمع لي خير الدارين. وإن كانت
حائضاً وقت الوداع فلتدع بهذا الدعاء خارج المسجد.
فصل (في العمرة)
والعمرة واجبة، وإذا أرادت أن تعتمر، خرجت إلى الحل، فأحرمت وطافت بالبيت، وسعت،
وقصَّرت، فإذا وصلت إلى المدينة، زارت الرسول صلى الله عليه وسلّم وبالغت في
الدعاء، وانفردت للصلاة في مكان لا يطلع عليها الرجال، فإذا توجهت إلى بلدها قالت:
آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون.
الباب الرابع والأربعون في بِرّ الوالدين
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «رضا
الله في رضا الوالدين، وسَخَطُ الله في سخط الوالدين».
وعن زيد بن أرقم ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلّميقول: «من أصبح والداه راضيين عنه، أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، ومن أمسى
والداه راضيين عنه، أمسى له بابان مفتوحان من الجنة، ومن أصبحا عليه ساخطين، أصبح
له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحداً فواحد، فقيل: وإن ظلماه؟ فقال: وإن
ظلماه، وإن ظلماه».
وعن البخاري قال: ثنا آدم قال: ثنا شعبة، قال: «ثنا سعيد بن أبي بردة، قال: سمعت
أبي يحدِّث أنه شهد ابن عمر، ورجل يماني يطوف بالبيت، قد حمل أمه، وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلل
إن ذعرت ركابها لم أذعرْ
حملتها ما حملتني أكثر
إني لها مطيّة لا أذعرْ
ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة».
قال
البخاري: وحدثنا عبد الله بن صالح، بإسناده إلى أبي مرة مولى عقيل أن أبا هريرة،
كان في بيت، وأمه في بيت، فإذا أراد أن يخرج، وقف على بابها، وقال: «السلام عليك
يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته،
فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً، ثم إذا
آن يدخل صنع مثله».
الباب الخامس والأربعون في تقديمِ الأمِّ في البرِّ
أخبرنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عاصم بن الحسن، قال: أخبرنا أبو عمر بن مهدي قال:
أنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال ثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أنا عبد الله بن بكر
قال: حدثنا بهز عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله: من أبرّ؟ قال: «أمك، قلت:
ثم مَن؟ قال: أمك، قلت: ثم مَن؟ قال: أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب».
وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلّم «أي
الناس أحق بحسن الصحبة: قال: أمك، ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم
من؟ قال: أبوك».
وبه قال: حدثنا زيد بن الحباب قال: حدثنا بعض البصريين، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن
في رجل حلف عليه أبوه بكذا، وحلفت عليه أمه بخلافه، قال: يطيع أمه.
الباب السادس والأربعون في البِرِّ بعد موتِ الوالدَين
عن الحسن، أن سعد بن عبادة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: يا رسول الله: إني كنت أبر
أمي، وإنها ماتت، فإن تصدقت عنها، أو أعتقت عنها ينفعها ذلك؟ قال: «نعم». قال:
فمرني بصدقة، قال: «اسق الماء». قال: فنصب سعد سقايتين بالمدينة.
وعن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول:
«إنّ أبرَّ البرِّ أن يصل الرجلُ أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّي الأب.
وعن
أبي أسيد قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّمجالساً، فجاء رجل من الأنصار فقال:
يا رسول الله، هل بقي من برّ والديّ من بعد موتهما شيء أبرّهما به؟ قال: «نعم.
الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، من بعد موتهما، وإكرام صديقهما،
وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك».
الباب السابع والأربعون في التَّحذير من الغيبةِ وفُضُول الكَلام
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قيل له:
ما الغيبة يا رسول الله؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قال: أفرأيت إن كان في أخي ما
أقول؟ قال: «إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد
بهتّه».
وعن أبي حذيفة أن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ حكت امرأة عند النبي صلى الله عليه
وسلّمذكرت قصرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «قد اغتبتها».
وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تذم أحداً؟ فقال: «ما أنا عن نفسي راض فأتفرغ من
عيبها لغيرها».
وقد روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «لا يستقيمُ إيمانُ عبد حتى
يستقيمَ قلبُهُ، ولا يستقيمَ قلبُهُ حتى يستقيمَ لسانُهُ، ولا يدخلُ رجل الجنةَ
حتى يأمن جارُه بوائقَه».
الباب الثامن والأربعون في التَّحذير من قذفِ المُحْصَنات
من عادة أكثر النساء إذا اجتمعن أن يذكر بعضهن بعضاً، ورميهن المذكورة بكل شيء،
وقد عُدَّ قذف المحصنات من الكبائر.
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «اجتنبوا
السبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: «الشرك بالله، والسحر،
وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، والزنى، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،
والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» أخرجاه في الصحيحين.
قال:
أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد، قال: ثنا ابن النقور بإسناده إلى أبي شهاب
الحناط، عن الليث، قال: «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة».
الباب التاسع والأربعون في التَّحذير من فضولِ النظر
قال النبي صلى الله عليه وسلّملعلي بن أبي طالب عليه السلام: «لا تتبع النظرة
النظرة».
وسأله جرير عن نظرة الفجاءة، فقال: «اصرف بصرك».
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك بإسناده إلى الأعمش في قوله تعالى: {وَقُل
لّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ} (النور: 31) قال: أن ينظرن إلى غير
أزواجهن.
عن محفوظ بن علقمة عن أبيه أن معاذاً رضي الله عنه ـــ رأى امرأته تطلع من كوّة،
فأوجعها ضرباً.
فصل (فيما يباح للمرأة من النظر)
وينبغي للمرأة أن تغضّ طرفها عن الرجال، كما يؤمر الرجال بالغض عنها، وقد اختلفت
الرواية عن أحمد بن حنبل، ـــ رحمه الله ـــ فيما يجوز للمرأة أن ترى من الرجل
الأجنبي، فروي عنه، أنه يجوز لها أن ترى منه ما ليس بعورة، وروي عنه أنه يحرَّم
عليها أن تنظر منه ما يحرَّم عليه أن ينظر منها.
واعلم أن أصل العشق إطلاق البصر، وكما يخاف على الرجل من ذلك يخاف على المرأة، وقد
ذهب دين خلق كثير من المتعبّدين بإطلاق البصر وما جلبه، فليحذر من ذلك.
الباب الخمسون في النهي عن التسمّع لحديثِ مَن يكره استماعه
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «من استمع
إلى حديث قوم، وهم له كارهون، صب في أذنيه الآنك».
قال: وأخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، بإسناده إلى عمرو بن دينار قال: «كان رجل من
أهل المدينة له أخت في ناحية المدينة، فهلكت، فجهزها، ولقيه رجل معه كيس فيه
دنانير، فجعله في حجزته.
فلما
دفنها ورجع، ذكر الكيس، فأتى القبر، فاستعان برجل من أصحابه، فنبشا، فوجدا الكيس،
فقال الرجل لصاحبه: تنح حتى أنظر على أي حال أختي، فرفع بعض ما على اللحد، فإذا
القبر يشتعل ناراً، فردّه، ودعا الرجل، فسوّى معه القبر.
ثم رجع إلى أمه قال: أخبريني ما حال أختي؟ قالت: وما تسأل عنها، أليس قد ماتت؟
قال: لتخبريني، قال: كانت أختك تؤخر الصلاة ولا تصلي فيما أظن بوضوء، وتأتي أبواب
الجيران إذا ناموا فتلقم أذنها أبوابهم، فتخرج حديثهم».
الباب الحادي والخمسون في التحذير من السِّحْر والكهانة والنُّجوم وإتيان أهلِ
هذهِ الصناعات
قد ذكرنا في باب المحصنات أن السحر معدود من الكبائر.
وقد روى مسلم في إفراده من حديث صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله
عليه وسلّمأنه قال: «من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة».
وروى أبو داود في سُننه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال:
«من أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول، فقد برىء مما أنزل على محمد صلى الله عليه
وسلّم.
وأخبرنا موهوب بن أحمد قال: أنبأنا علي بن البسري، بإسناده إلى عبد الله قال: «من
أتى ساحراً، أو كاهناً، فصدّقه بما يقول: فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه
وسلّم.
فصل (في حكم الساحر والكاهن والعرّاف)
واعلم أن الساحر عند أصحابنا كافر، وكذلك الساحرة، وقال ابن عقيل: إنما هو كافر
للنعمة، وليس في السحر إلا صناعة تعود بفساد أحوال، وقتل نفوس، وهذا القدر
بالمباشرة لا يحصل به الكفر.
وحد الساحر ضربه بالسيف، قال أحمد: يقتل من غير استتابة. وعلل أصحابنا بأنه في
الغالب يكتم سحره، فإن أقرّ بقتل معين قتل حداً، أو إصلاحاً للإسلام، وكانت الدية
في ماله للمقتول، ليجمع بين المصلحة الكلية، وحق أولياء المقتول، وإذا كان الساحر
ذميّا، وكان سحره يضر المسلمين قتل لنقض العهد.
وأما
الكاهن والعرّاف، فقال القاضي أبو يعلى: حكمهما حكم الساحر. وخالفه ابن عقيل،
فقال: غاية ما يدعي الكاهن أنه تكلمه الجن وهذا كذب، وليس لنا كذب يوجب الكفر
والقتل إلا الكذب في أمر الشرائع، إلا أن يقول: إني أعلم الغيب.
فأما القائل بزجر الطير، والنجوم، والحصى، أو الشعير والقداح التي يتخذها
المعزمون، يدعون أنها عندهم عزائم، يستحضرون بها الجان، فكلهم أهل ضلال، ويجب
تعزيرهم، فإن اعتقدوا أن هذا طريق لعلم ما يكون قبل كونه، وجب تكفيرهم.
قال: وأما لعب النساء بالحصى، والشعير، وما شاكل ذلك من الأمور التي تجعلها كالفأل
لاستعلام حال الغائبين من الأهل، وحال الأزواج، وفيه ضرب من السحر، فإنهنّ يذكرن
فيه القلب، والفؤاد، وللأكراد الكفّ، ولبعض العراقيين القداح، والتعزيم عليها، فكل
ذلك مكروه جداً، والإدمان لها يوجب الفسق، ومن عرف بها لم تقبل شهادته، وكذلك
الأرجوحة، والتعلّق عليها، والترجيح فيها، مكروه، ولا تقبل شهادة المدمن له.
قال المصنف رحمه الله ـــ: قلت: وفي معنى الكاهن المنجِّم، فإنه يدعي علم الغيب،
وقد صار أكثر أهل زماننا لا يسافرون، ولا يلبسون ثوباً، ولا يعملون عملاً إلا بقول
المنجم.
واعلم أن علم النجوم على ضربين:
* أحدهما: مباح، وتعلّمه فضيلة، وهو العلم بأسماء الكواكب ومطالعها، ومساقطها،
وسيرها في منازلها، والاهتداء بها إلى القبلة وغيرها من الطرق.
* والثاني: محظور، وهو ما يدعيه المنجمون من الأحكام.
وقد روى علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلّم «يا
علي لا تجالس أصحاب النجوم».
وقال
مسافر بن عوف، لعلي بن أبي طالب وهو في سفر: لا تسر في هذه الساعة لأنك إن سرت
فيها، أصابك وأصحابك بلاء، وإن سرت في الساعة التي آمرك بها ظفرت. فقال علي ـــ
عليه السلام ـــ: ما يحمد منجم، هل تعلم ما في بطن فرسي هذه؟ قال: إن شئت علمت.
قال: من صدقك بهذا القول، كذب بالقرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ} (لقمان: 34)،
والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم، لأخلدنك السجن.
الباب الثاني والخمسون في ذَمِّ الزنى وبَيان إثْمه
أخبرنا عبد الأول بإسناده إلى عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلّمقال: «يا أمة محمد، ما أجد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني».
وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «رأيت الليلة رجلين
أتياني فأخرجاني، فانطلقت معهما، فإذا بيت مبني على بناء التنور، أعلاه ضيق،
وأسفله واسع، توقد تحته نار، فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى يكادوا
أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت: ما هذا؟ قالا: هم الزناة».
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بإسناده إلى أنس ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلّم «إن أعمال أمتي تعرض عليّ في كل يوم جمعة، واشتد غضب
الله على الزناة».
أخبرنا عبد الله بن علي بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم «إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء، فإذا زنى العبد نزع منه سربال
الإيمان، فإذا تاب ردّ عليه».
وعن أبي موسى: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدِّق بالسحر،
ومن مات مدمناً للخمر سقاه الله من نهر الغوطة. قال: نهر يجري من فروج المومسات،
يؤذي أهل النار ريح فروجهن».
وروى
الهيثم بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم
عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحلُّ له».
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إياكم والزنى، فإن في الزنى ست
خصال، ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة، فأما اللواتي في دار الدنيا: فذهاب نور
الوجه، وانقطاع الرزق، وسرعة الفناء، وأما اللواتي في الآخرة: فغضب الرب، وسوء
الحساب، والخلود في النار، إلا أن يشاء الله».
وعن مالك بن دينار قال: مكتوب في التوراة: امرأة حسناء لا تحصن فرجها كمثل خنزيرة
على رأسها تاج في عنقها طوق من ذهب، يقول الناس: ما أحسن هذا الحلي وأقبح هذه
الدابة.
وبلغنا أن بعض الملوك رأى امرأة في صحراء فسامها نفسها، فقالت: أيها الملك: إن
المرأة مطبوعة على أربعة أجزاء من الإنسانية، فإذا افتضّت ذهب جزء من إنسانيتها،
فإذا حملت ذهب جزء آخر، فإذا وضعت ذهب آخر، فإذا زُنِيَ بها خرجت من حدّ الإنسانية
وقد أتيت على هذه الثلاثة، وأنا أعيذ الملك بالله أن يخرجني من حدِّ الإنسانية.
فرقّ لها وتركها.
الباب الثالث والخمسون في بَيان ما تصنعُ المرأة إذا زَنَتْ
إذا زنت المرأة وجب عليها أن تتوب مما فعلت، وتتعلل على زوجها، فتمتنع من أن
يقربها، إلى أن تستبرىء نفسها، وإن علم وجب عليه أن يكف عنها حتى يستبرئها.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد في عدة المزني بها، والمشهور أن عدتها: عدة المطلقة.
وحكى أبو علي بن أبي موسى رواية أخرى أنها تُستبرأ بحيضة. وعن الإمام أحمد بن حنبل
قال: من فجر بامرأة ذات بعل، ولم يكن الزوج قد اطلع على ذلك، فلا تُعلم زوجها، بل
تستر على نفسها، وتتوب، وتستغفر، ولتهب صداقها لزوجها.
فصل (فيمن زنا بامرأة ثم تزوّجها)
ومن زنى بامرأة ثم أراد أن يتزوجها، فمن شرط صحة نكاحه لها، أن يتوبا جميعاً من
الزنى.
وقد
روينا عن ابن عباس أنه اعتبر التوبة، وزاد في الاحتياط بأن قال: يختبرها، بأن يدسّ
عليها من يراودها عن نفسها، فإن أبت تحققت التوبة.
وتجب العدة من الزنى، فإذا انقضت عقد عليها، وقد روى إسحاق بن إبراهيم بن هانىء،
عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة، ثم يتزوجها، قال: لا يتزوجها حتى
يعلم أنها قد تابت، قلت: وما علمه بذلك؟ قال: يريدها على ما كان أرادها عليه، فإن
امتنعت فقد تابت، وإن طاوعته لم يتزوجها.
وقال: وسئل عن الرجل يفجر بأخت امرأته: قال: يعتزل امرأته حتى تنقضي عدة التي فجر
بها، إن كانت ممن تحيض، فثلاث حيض، وإن لم تكن ممن تحيض، فثلاثة أشهر، ولا يجمع
ماؤه في أختين.
فصل (في حمل المرأة من الزنا)
ويزيد على الزنى في فحشه، ويتضاعف قبحه، أن تحمل المرأة من الزنى، فتلحق الحمل
بزوجها.
أخبرنا المبارك بن علي بن الحصين، بإسناده إلى أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلّميقول: حين نزلت آية الملاعنة: «أيما امرأة أدخلت على قوم نسباً ليس
منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده، وهو ينظر
إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين».
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ بإسناده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلّم «اشتد غضب الله عز وجل على امرأة تدخل على قوم مَن ليس منهم
ليشركهم في أموالهم، ويطلع على عوراتهم».
وعن أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«اشتد غضب الرب عز وجل على امرأة ألحقت بقوم نسباً ليس منهم ليشركهم في أموالهم،
ويطلع على عوراتهم».
الباب الرابع والخمسون في تَحْريمِ السُّحاق بينَ النساء
عن
واثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك ـــ رضي الله عنهما ـــ قالا: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلّم «لا تذهب الدنيا حتى يستغني الرجال بالرجال، والنساء بالنساء،
والسحاق زنى النساء بينهن».
قال الآجري: حدثنا أحمد بن الحسن بإسناده إلى واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلّم «سَحاقُ النساءِ زنى بينهنَّ».
وأخبرنا عمر بن هدية الصواف بإسناده إلى زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: «قيل لنا
أشياء تكون في هذه الأمة عند اقتراب الساعة، فمنها نكاح الرجل امرأته أو أمته في
دبرها، وذلك مما حرَّم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله، وليس لهؤلاء صلاة ما
أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحاً».
قال ابن عقيل: «إذا عرف في النساء حب السحاق منعن خلوة بعضهن ببعض، والسحاق زنى
لكنه لا يوجب الحد، بل التعزير، لأنه من غير إيلاج، فهو كوطء الرجل الرجل دون
الفرج».
الباب الخامس والخمسون في النهي عن أنْ تُباشِر المرأةُ المرأةَ في ثوبٍ واحد
عن جابر ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ينهى أن
يباشر الرجل الرجل في ثوب واحد، والمرأة المرأة في ثوب واحد».
الباب السادس والخمسون في نَهْيِ المرأة أنْ تصفَ المرأةَ لزوجها
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا تباشر المرأة المرأة،
تنعتها لزوجها حتى كأنه ينظر إليها».
واعلم أنه إنما نهي عن هذا لأن الرجل إذا سمع وصف المرأة، تحركت همّته، واشتغل
قلبه، والنفس مولعة بطلب الموصوف بالحسن، فربما كانت الصفة داعية إلى تطلب
الموصوف، وربما وقع من اللهج بالطلب لذلك ما يقارب العشق.
الباب السابع والخمسون في تحريمِ التبرُّجِ وإظْهار الزينةِوإبراز المحاسنِ وكلّ
ما يستدعي شَهْوة الرجل
وقد
قال الله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى} (الأحزاب:
33)، وقد اختلف المفسرون في ذلك التبرّج، فقال مجاهد: كانت المرأة في الجاهلية
الأولى تخرج، فتمشي بين الرجال، فذلك التبرج.
وقال قتادة: هي مشية فيها تكسر وتغنّج. وقال ابن أبي نجيح: هو التبختر. وحكى
الفراء: أنه لبس الثياب الخفاف التي تصف الجسد.
قال المصنف رحمه الله: قلت: نفس خروج المرأة من بيتها ومشيها في الطريق فتنة، فإذا
تصنعت في مشيتها لتري محاسنها زاد في الشرك حبل.
الباب الثامن والخمسون في أَجر المُتَسرْبِلات من النساء
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «رحم
الله المتسربلات من النساء».
وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلّمعلى باب من أبواب
المسجد، مرت امرأة على دابة، فلما جازت بالنبي صلى الله عليه وسلّمعثرت بها، فأعرض
النبي صلى الله عليه وسلّموتكشفت فقيل: يا رسول صلى الله عليه وسلّم إنَّ عليها سراويل.
فقال: «رحم الله المتسرولات».
الباب التاسع والخمسون في النَّهْي عن تشبُّهِ المرأة بالرجل
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه
وسلّمالمخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، قال: قلت له: وما المترجلات من
النساء، قال: «المتشبهات من النساء بالرجال».
وعن ابن عباس أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لعن الواصلة والموصلة،
والمتشبهات من النساء بالرجال».
وعن نافع قال: كان ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، عند بني المطلب إذ أقبلت امرأة
تسوق غنماً، متنكبة قوساً، فقال عبد الله بن عمر: أرَجُل أنت أم امرأة؟ فالتفتت
إلى ابن عمر فقال: إن الله عز وجل لعن على لسان نبيّه صلى الله عليه
وسلّمالمتشبهات بالرجال من النساء، والمتشبهين من الرجال بالنساء.
وعن
عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أنه ذكر لها أن امرأة تنتعل أو انتعلت، فقالت: لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلّمالرَجُلَة من النساء.
وعن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه
وسلّمالمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
وعن أبي هريرة قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّممخنثي الرجال الذين يتشبهون
بالنساء، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال، وراكب الفلاة وحده».
قال أحمد بن حنبل ـــ رحمه الله ـــ حدثنا أبو عامر بإسناده إلى أبي هريرة عن أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّملعن الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة
الرجل.
الباب الستون في تخويف النساء من الذنوب وإعلامهنَّ أنهنَّ أكثر أهل النار
عن أسامة بن زيد ـــ رضي الله عنهما ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال:
«قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها من المساكين، وقمت على باب النار فإذا عامة
من دخلها النساء».
وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «اطلعت في
الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء».
وعن جابر بن عبد الله قال: «شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفصلى قبل
أن يخطب، وصلّى بغير أذان ولا إقامة، قال: فوعظ الناس، وذكرهم، ثم أتى النساء ومعه
بلال، فوعظهن، وذكّرهن، وأمرهن بالصدقة، وقال: «إن في الجنة منكن ليسيراً». قال:
فقالت امرأة: لِمَ يا رسول الله؟ قال: «لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير».
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّمللنساء: «تصدقن فإن أكثركن حطب
جهنم». فقامت امرأة من سطة النساء، سفعاء الخدين، فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال:
«لأنكن تكثرن الشكاة أو اللعن، وتكفرن العشير».
وعن
زينب قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «يا معشر النساء تصدقن، ولو
من حليكنّ، فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة».
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «رأيت النار، ورأيت أكثر أهلها
النساء»، قالوا: لِمَ يا رسول الله، قال: «لكفرهن»، قال: أيكفرن بالله؟ قال:
«يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً،
قالت: ما رأيت منك خيراً قط».
وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «يا معشر النساء تصدقن، فإنكن أكثر
أهل النار»، قالت امرأة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: «لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن
العشير».
وعن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلّمفي أضحى أو فطر إلى المصلّى، فصلّى ثم انصرف، فقام فوعظ الناس، وأمرهم
بالصدقة، فقال: «أيها الناس تصدّقوا»، ثم انصرف. فمرّ على النساء فقال: «يا معشر
النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار»، فقلن: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال:
«تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم
من إحداكن».
وعن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمانصرف من
الصبح يوماً، فأتى النساء فوقف عليهن، فقال: «يا معشر النساء ما رأيت من نواقص عقل
ودين أذهب لعقول ذوي الألباب منكنّ، وإني قد رأيت أنكن أكثر أهل النار. فتقربن إلى
الله تعالى ما استطعتن».
وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: كنا مع عمرو بن العاص في الحج أو عمرة فإذا امرأة
قد أخرجت يدها، عليها خواتمها، قد وضعت يدها على هودجها، فعدل، فدخل شعباً فقال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي هذا فإذا غربان كثيرة، وإذا فيها غراب
أعصم، أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يدخل الجنة
من النساء، إلا كقدر هذا الغراب في هذه الغربان».
وعن
عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إن المرأة
المؤمنة كالغراب الأصم في الغربان، وإن النار خلقت للسفهاء، وإن النساء من السفهاء
إلا صاحبة القسط والسراج».
قلت: أما الغراب الأعصم ففيه قولان:
أحدهما: أنه الأبيض اليدين، ومنه قيل للوعول: عصم، لبياض أيديها، قاله أبو عبيدة.
والثاني: أنه الأبيض الجناحين، قاله: النضر بن شميل.
وأما القسط، فقال الخطّابي: المراد به الإناء الذي توضئه فيه، فقال: والقسط نصف
صاع. وأما السراج، فقال بقية بن الوليد: هي التي تقوم على رأس زوجها بالسراج توضئه
بالماء.
وعن أبي راشد الحبراني قال: قال عبد الرحمن بن شبل: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم «إن الفساق أهل النار»، قيل: يا رسول الله، ومَن الفسّاق؟ قال: «النساء»،
قال رجل: يا رسول الله، أوَلسن أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا، قال: «بلى، ولكنهنّ إذا
أعطين لا يشكرن، وإذا ابتلين لم يصبرن».
الباب الحادي والستون في تحذير النساء من مجالس القُصَّاص وما تجلب من المِحَن،
وأحداث السوء، ومؤاخاة الرجال النساء، ومصافحتهنَّ، وغير ذلك من المنكرات
أما أفعالهن الظاهرة القبيحة فكثيرة، ولهن مقابح يحتقرنها، وهي عظائم، كالصرير في
الخف، والخروج بغير إذن الزوج، وسوء المعاشرة له، والسرقة من ماله، والتدليس في
القطن بدقّ الخشن منه ليتوهم أنه ناعم، وتنديته، والخروج إلى المقابر، فإذا أفلحن
وتركن ذلك، حضرن أوقات الصوفية المتضمنة للغناء والطرب والرقص واللعب، وتخريق
الثياب على الوجد، وتفريقها بعد تخريقها، والنظر إلى الشباب. وغير ذلك من الأسباب
المفسدة لقلوبهن على أزواجهن المغيّرة لدينهن.
فإذا
حضرن مجالس القُصَّاص، فأكثرها يجري فيها المنكر من إنشاد القصاص أشعار العشق
والغزل، وتلحين القراء القرآن، ونحو ذلك مما يوجب الطرب، ويثبت في القلب الهوى،
وربما أنشدوا الأشعار الواصفة للبلى وأحوال الموتى، فيهيجون قلوب السامعين،
ويخرجونهم من الصبر إلى الجزع، وكل ذلك من القبائح المفسدة. وربما قالت المرأة:
أنا ألبس قميصاً من يد الواعظ، وأصير بنتاً له. وبلغنا أن قوماً من المتزهدين
يؤاخون النساء، ويخلون بهن، ويصافحونهن، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلّمأنه ما صافح امرأة أجنبية، وكل هذا مخرج إلى الفساد والقبيح، وقد ذكرت في
كتابي «تلبيس إبليس» طرفاً من هذا.
الباب الثاني والستون في الأمرِ بالتزويج، وفَضْلِ النكاح
عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلّمشباباً ليس لنا شيء، فقال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج،
فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء».
وروى جابر ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «أيما شاب
تزوج في حداثة سنّه عج شيطانه، يا ويله عصم مني دينه».
وعن علقمة عن عثمان قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى فتية من قريش، وأنا
فيهم فقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإن لم يستطع فليصم،
فإن الصوم له وجاء».
قال المصنف رحمه الله: هذا الحديث رواه خالد الحذاء، وسعيد بن أبي عروبة، ويونس بن
عبيد، جميعاً عن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة، وأسنده.
وعن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلّم والصحيح أنه مسند عن عبد الله بن مسعود.
قال البغوي: حدثني أحمد بن زهير قال: سئل يحيى بن معين عن حديث أبي معشر هذا،
فقال: خطأ الأعمش.
حدثنا
شيبان قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: قال عبد الله
لعثمان: لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا معشر الشباب»، وذكر
الحديث.
هذا هو الصحيح، وهو مخرّج في «الصحيح» على ما ذكرناه في أول الباب، والمراد
بالباءة: النكاح. والوجاء: رضّ الأنثيين من الفحل، فكأنه أراد أن الصوم يقطع شهوة
النكاح كما يفعل الوجاء.
الباب الثالث والستون في الأمرِ بتزويِج البنت إذا بلغتْ
عن علي بن أبي طالب ـــ عليه السلام ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال:
«ثلاث يا علي لا تؤخرهن، الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت
كفؤاً».
وعن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم «من أدرك له ولد وقد بلغ النكاح، وعنده ما يزوِّجه فلم يزوِّجه فأحدث،
فالإثم بينهما».
وعن محمد بن إبراهيم التيمي عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلّم «ما من شيء خير لامرأة من زوج أو قبر».
وعن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلّميقول: «مكتوب في التوراة من بلغتْ له ابنةُ اثنتي عشرة سنة فلم يزوجها،
فأصابت إثماً، فإثم ذلك عليه».
وعن زيد بن أسلم قال: قال عمر بن الخطاب: زوّجوا أولادكم إذا بلغوا، لا تحملوا
آثامهم.
وعن الحسن قال: بادروا نساءكم التزويج، فإنَّ التسويف مغلمة لهن.
وعن ابن أبي نصر العطار قال: سمعت محمد بن سليمان قال: قال حاتم: كان يقال:
«العجلة من الشيطان إلا في خمس: إطعام الطعام إذا حضر ضيف، وتجهيز الميت إذا مات،
وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدَّيْنِ إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب».
فصل (في أنّ المرأة تحب ما يحّب الرجل)
واستحب لمن أراد تزويج ابنته أن ينظر لها شاباً مستحسن الصورة، لأن المرأة تحب ما
يحب الرجل.
عن
الزبير بن العوام ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«يعمد أحدكم إلى ابنته فيزوجها القبيح الذميم، إنهن يردن ما تريدون».
وعن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ قال: «لا تنكحوا المرأة الرجل القبيح
الذميم، فإنهن يحببن لأنفسهن ما تحبون لأنفسكم».
فصل (في أنه لا ينبغي لوالدي المرأة أنْ تميل إلى إيثارهم)
ولا ينبغي لوالدي المرأة، ولا لجميع أهلها أن يطلبوا منها الميل إلى إيثارهم أكثر
من ميلها إلى زوجها، فإنها تميل إلى زوجها بالطبع، وقد أخبر عنها الشارع بذلك،
فلتعذر في ذلك.
عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله عن أبيه عن حمنة بنت جحش أنها قيل لها: قتل أخوك. فقالت:
رحمه الله {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رجِعونَ} (البقرة: 156). قالوا: قُتل
زوجك. فقالت: واحزناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «إنَّ للزوج من المرأة
لشعبة ما هي لبشر».
الباب الرابع والستون في وجوبِ طاعةِ الزوج، وحقّه على المرأة
عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم«لا تمنع المرأة
زوجها حاجته وإن كان على ظهر قتب، وإن كانت على ظهر قتب».
وعنه أيضاً قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّمرجل، فقال: الرجل منّا تكون له
الحاجة إلى امرأته فقال: «ليس لها أن تمنعه. وإن كانت على رأس تنور».
وعنه أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إن دعا الرجل زوجته
فلتأته، وإن كانت على التنُّور».
وعن حصين بن محصن عن عمّةٍ له أتت النبي صلى الله عليه وسلّمفي حاجةٍ لها، ففرغت
من حاجتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أذات زوج أنت؟» قالت: نعم.
قال: «فكيف أنت له»؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: «انظري أين أنت منه،
فإنما هو جنتك ونارك».
وعن
قيس بن سعد بن عبادة قال: أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم ورهبانهم، فلما
قدمت على النبي صلى الله عليه وسلّمقلت: يا رسول الله، أنت أحق أن نسجد لك، فإني
رأيتهم يسجدون لرهبانهم وأساقفتهم. فقال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت
المرأة أن تسجد لزوجها».
وعن معاذ بن جبل ـــ رضي الله عنه ـــ أنه لما رجع من اليمن قال: يا رسول الله،
رأيت رجالاً باليمن يسجد بعضهم لبعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لو كنت آمراً بشراً أن
يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».
وعن فضال بن جبير قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلّميقول: «لو جاز لأحد أن يسجد لأحد من دون الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
لعظم حقه عليها».
وعن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لو
صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي
بيده، لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح، والصديد، ثم استقبلته
تلحسه ما أدت حقه».
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان في نفر من
المهاجرين والأنصار، فجاء بعير، فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله، تسجد لك
البهائم والشجر، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: «اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت
آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبل
أصفر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أصفر، كان ينبغي لها أن تفعل».
(وعن أبي عبد الله الشامي) عن تميم الداري ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله
عليه وسلّمقال: «حق الزوج على زوجته أن تطيع أمره، وأن تبر قسمه، ولا تهجر فراشه،
ولا تخرج إلا بإذنه، ولا تدخل عليه من يكره».
وعن
ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفقالت: يا رسول الله، ما
حقُ الزوج على الزوجة؟ قال: «لا تتصدّق من بيته بشيء إلا بإذنه، فإن فعلت، كان له
الأجر، وعليها الوزر»، قالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على الزوجة؟ قال: «لا تصوم
يوماً إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب،
حتى تفيء أو ترجع».
وقد روي هذا الحديث من طريق ابن عباس أيضاً، عن عطاء عن ابن عباس قال: سألت امرأة
رسول الله صلى الله عليه وسلّمقالت: ما حق الرجل على المرأة قال: «لا تمنعه نفسها،
وإن كانت على رأس قتب»، قالت: وما حق الرجل على امرأته؟» قال: «لا تصوم يوماً
تطوعاً إلا بإذنه، فإن فعلت أثمت ولم يتقبل منها»، قالت: وما حق الرجل على امرأته؟
قال: «لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الرحمة، وملائكة الغضب
حتى تتوب وترجع»، قالت: لا جرم، والله لا يملك على أمري رجل أبداً.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «نساؤكم أهل الجنة، الودود،
الولود، التي إذا أذت أو أُوذيت، أتت زوجها حتى تضع يدها في كفه فتقول: لا أذوق
غمضاً حتى ترضى».
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «يا معشر النساء، لو تعلمن بحق أزواجكن
عليكن، لجعْلتُ المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحرّ وجهها».
وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: قالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلِّم أزواجنا
إلا كما تكلمون أمراءكم.
وعنه أيضاً قال: قالت امرأة سعيد بن المسيِّب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون
أمراءكم، أصلحك الله، عافاك الله.
فصل (في أنّ المرأة كالمملوك للزوج)
وينبغي
للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج، فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إلا بإذنه،
وتقدم حقّه على حقّ نفسها، وحقوق أقاربها. وتكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب
النظافة، ولا تفتخر عليه بجمالها، ولا تعيبه بقبيح إن كان فيه.
قال الأصمعي: دخلت البادية فإذا امرأة حسناء لها رجل قبيح، فقلت لها: كيف ترضين
لنفسك أن تكوني تحت مثله؟ فقالت: لعله أحسن فيما بينه وبين خالقه، فجعلني ثوابه، ولعلي
أسأت، فجعله عقوبتي.
وينبغي للمرأة أن تصبر على أذى الزوج كما يصبر المملوك، وقد رُوِّيْنا أن عبد
الملك بن مروان وصفت له جارية اجتمعت فيها مناقب، فلما حضرت سألها عن حالها،
فقالت: إني لا أنس نفسي أني لك مملوكة. فقال: هذه المنقبة تساوي جميع الثمن.
فصل (في بيان حقّ الزوج ووصايا الوالدين)
وينبغي لأبوي المرأة خصوصاً الأم أن تعرِّفها حق الزوج، وتبالغ في وصيتها، عن عمرو
بن سعيد قال: كان في عليّ شدّة على فاطمة ـــ سلام الله عليهما ـــ فقالت: والله
لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلّم فانطلق عليّ، فقام حيث يسمع كلامها، فشكت غلظ عليّ عليها، وشدته، فقال: يا
بنيّة استمعي واسمعي واعقلي، فإنه لا امرأة لا تأتي هوى زوجها، وهو ساكت، قال
عليّ: فرجعت، فقال: (والله لا آتي شيئاً تكرهينه أبداً، فقالت: والله لا آتي شيئاً
تكرهه أبداً).
قال القرشي: وحدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي قال: حدثني
بشر أبو نصر أن أسماء بن خارجة زوّج ابنته، فلما أراد أن يهديها إلى زوجها، أتاها
فقال: يا بنية، إنّ النساء أحق بأدبك مني، ولا بد لي من تأديبك، كوني لزوجك أمة
يكن لك عبداً، ولا تدني منه فيملّك، ولا تباعدي منه فتثقلي عليه، ويثقل عليك،
وكوني كما قلت لأمك:
خُذي العفوَ منّي تَسْتديمي مودَّتي
ولا تنطقي في سورتي حين أغضبُ
فإنّي
رأيتُ الحبَّ في القلبِ والأذى
إذا اجتمعا، لم يلبث الحبّ يذهبُ
قال القرشي: وحدثني إبراهيم بن سعيد قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: ثنا غسان
قال: ثنا سعيد بن يزيد، أن أبا الأسود الدؤلي زوّج ابنه له، فأتته الجارية فقالت:
يا أبت إني لم أن أحب أن أفارقك، فأما إذ زوجتني فأوصني. قال: إنك لن تنالي ما
عنده إلا باللطف، واعلمي أنَّ أَطْيب الطيب الماء.
وعن أبي عبيدة قال: زوَّج رجل من العرب أربع بنات له، فزار أولاهن فقال: كيف ترين
بعلك يا بنيّة؟ فقالت: السهل بأرض محل، إن سألت أعطى، وإن سكت ابتدأ من غير مَنّ
ولا أذى. فقال: أي بنية، رزقته بجدّك لا بكدّك.
ثم زار الثانية، فقال: أي بعل بعلك؟ فقالت: جبار عنيد، من الخيرات بعيد، لا توقد
له نار، ولا يؤمن له جار. فقال: أي بنيّة، صبَّتْ عليك بليَّة، فليكن الصبر منك
سجيّة حتى تأتيك المنيّة.
ثم زار الثالثة فقال: كيف زوجك؟ فقالت: ذو خلق نزق، وشر غلق، يجود لي في الغنى،
ويحرمني إذا افتقر. فقال: أي بنية، تذمّين وتحمدين، وكذا الدهر يكون حين وحين،
ويحمل الغث والثمين.
ثم زار الرابعة فقال: أي بعل بعلك؟ فقالت: ذو خلق جميل، ورأي أصيل، مقبل على أهله،
متكرم في رحله. فقال: أي بنية، رزقتيه ماجداً، فامنحيه ودّك، وألطفيه جهدك.
وعن عبد الملك بن عُمَيْر قال: لما زوّج عوف بن محلِّم الشيباني ابنته أم إياس بن الحارث
بن عمرو الكندي، فجهزت، وحضرت لتحمل إليه، دخلت عليها أمها أمامة لتوصيها فقالت:
يا بنية، إنَّ الوصية لو تركت لفضل في الأدب أو مكرمة في الحسب لتركت ذلك منك،
ولزويتها عنك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، أي بنيّة، لو استغنت المرأة عن
زوجها بغنى أبيها، وشدّة حاجتها إليه، لكنت أغنى الناس عنه، إلا أنهنّ خُلقن
للرجال، كما لهن خُلق الرجال.
أي
بنيّة، إنك قد فارقت الجوّ الذي منه خرجت، والعش الذي فيه درجت، إلى وكر لم
تعرفيه، وقرين لم تألفيه، أصبح بملكه عليك مليكاً، فكوني له أمة يكن لك عبداً.g
احفظي له خصالاً عشراً، تكن لك دركاً وذكراً.
أما الأولى، والثانية: فالصحبة له بالقناعة، والمعاشرة له بحسن السمع والطاعة،
فإنّ في القناعة راحة القلب، وفي حسن السمع والطاعة رضى الرب.
وأمّا الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع أنفه، والتعاهد لموضع عينه، فلا تقع عينه
منك على شيء قبيح، ولا يشمّ أنفه منك إلا أطيب ريح، وإن الكحل أحسن الحسن الموجود،
والماء أطيب المفقود.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لموضع طعامه، والتفقّد له حين منامه، فإنَّ حرارة
الجوع ملهبة، وإنّ تنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالإرعاء على حشمه وعياله، والاحتفاظ بماله، فإنَّ أصل
الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على الحشم والعيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سراً، ولا تعصي له في حال أمراً، فإنك إنْ
أفشيت سره، لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي يا بنيّة الفرح
لديه، إذا كان ترحاً، والاكتئاب إذا كان فرحاً، فإنَّ الخصلة الأولى من التقصير،
والثانية من التكدير، وكوني أشدّ ما يكون لك إكراماً، أشد من تكونين له إعظاماً،
وأشدّ ما تكونين له موافقة، وأطول ما تكونين له مرافقة، واعلمي يا بنية، أنك لن
تصلي إلى ما تحبين منه حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببت
وكرهت، والله يخيِّر لك ويحفظك. فحملت إليه، فعظم موقفها منه، فولدت له الملوك
الذي ملكوا بعده.
قال المصنّف رحمه الله: وقد رويت لنا هذه الحكاية مبسوطة، فقد روى أبو روق
الهمداني، عن أبي حاتم السجستاني قال: قالوا: كان ملك من ملوك اليمن يقال له:
الحارث بن عمرو الكندي بلغه أنَّ ابنة لعوف الكندي أنها ذات جمال وكمال، فبعث إلى
امرأة من قومها يقال لها: عصام.
فقال:
إنه بلغني عن بنت عوف جمال وكمال، فاذهبي واعلمي لي عليها. فانطلقت حتى دخلت على
أمها، وهي أمامة بنت الحارث، فأخبرتها، ما جاءت له، وإذا أمها كأنها خاذل من
الظباء، وحولها بنات لها، كأنهن شوادن الغزلان.
فأرسلت إلى ابنتها فقالت: يا بنية، إنَّ هذه خالتك أتتك لتنظر إلى بعض شأنك،
فاخرجي إليها، ولا تستتري عنها بشيء، وناطقيها فيما استنطقتك فيه. فدخلت عليها، ثم
خرجت من عندها، وهي تقول: تَركَ الخداعَ مَنْ كشفَ القناعَ، فأرسلتها مثلاً.
فلما جاءت إلى الحارث قال: ما وراءك يا عصام؟ قالت: أيها الملك، صرح المخضي عن
الزبد ـــ فأرسلتها مثلاً، ثم قالت: أقول حقاً، وأخبرك صدقاً، لقد رأيت وجهاً
كالمرآة المضيئة يزينه شعر حالك، كأذناب الخيل المضفورة إنْ أرسلته خلته سلاسل،
وإن مشطته خلته عناقيد كرم جلاها وابل.
لها حاجبان، كأنما خطا بقلم، أو سُوِّدا بحمم، قد تقوسا على مثل عيني الظبية
العَبْهرة، التي لم تر قانصاً، ولم يذعرها قسورة ببهتان المتوسم، بينهما أنف كحد
السيف المصقول، لم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفَّت به وجنتان كالأرجوان في
بياض محض كالجمان، شق فيه فم لذيذ الملثم، فيه ثنايا غر، وأسنان كالدر، ذات أشر،
ينطق فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يحركه عقل وافر، وجواب حاضر، تلتقي دونه شفتان
حمروان، كأنهما في لين الزبد يحملان ريقاً كالشهد، نصب ذلك على عنق أبيض، كأنه
إبريق فضة.
لها صدر كصدر التمثال، مدت فيه عضدان مدمجتان ممليتان لحماً، مكسوتان شحماً، متصلة
بهما ذراعان ما فيهما عظم يمس، ولا عرق يجس عصبتهما، يعقد إن شئت منهما الأنامل،
وتركب الفصوص في حفر المفاصل.
نتأ في ذلك الصدر ثديان يخرقان عليها ثيابها، ويمنعانها أن تقلد سخاباً، أسفل من
ذلك بطن، طوي كطي القباطي المدمجة كسي عكناً كالقراطيس المدرجة، كمدهن العاج.
لها
ظهر فيه كالجدول، ينتهي إلى خصر لولا رحمة ربك لانبتر لها كفل، يكاد يقعدها إذا
نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه حقف من الرمل، لبده سقوط الطل، أسفل من ذلك فخذان
لفاوان، كأنما نصبا على نضد جمان، متصلة بهما ساقان بيضاوان خدلجتان حمل ذلك كله
قدمان كحذو اللسان، تبارك الله، مع لطافتهما كيف يطيقان حمل ما فوقهما.
وأما ما سوى ذلك، فإني تركت نعته ووصفه لوقته، إلا أنه أكمل وأحسن مما وصف في شعر
أو قول.
قال: فبعث إلى أبيها، فخطبها إليه، فزوّجها إياه، فبعث إليها من الصداق بمثل مهور
نساء الملوك مائة ألف درهم، وألف من الإبل، فلما حان أن تحمل إليه، دخلت إليها
أمها لتوصيها، فقالت: أي بنية، إنَّ الوصية لو تركت لعقل أو أدب أو مكرمة في حسب،
لتركت ذلك منك، ولزويته عنك.
ولكن الوصيّة تذكرة للعاقل، ومنبهة للغافل. أي بنيّة، إنه لو استغنت المرأة عن
زوجها بغنى أبيها، وشدّة حاجتها إليه، لكنت أغنى الناس عن الزوج، ولكن للرجال
خُلِق النساء، كما لهن خُلِق الرجال.
أي بنيّة: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، والوكر الذي فيه درجت، إلى وكر لم
تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك ملكاً، فكوني له أمة يكن لك عبداً.
واحفظي عني خصالاً عشراً تكن لك دركاً وذخراً:
فأما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، فإن في
القناعة راحة القلب، وحسن السمع والطاعة رأفة الرب.
وأما الثالثة والرابعة: فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلا أطيب
ريح، واعلمي أي بنية، أن الماء أطيب الطيب المفقود، وأن الكحل أحسن الحسن الموجود.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع
ملهبة، وتنغص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله والرعاية على حشمه وعياله، فإنّ الاحتفاظ
بالمال من حسن التقدير، والرعاية على الحشم والعيال من حسن التدبير.
وأما
التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً، فإنك إن أفشيت سره، لم
تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي الفرح لديه إن كان ترحاً، والاكتئاب
إذا كان فرحاً، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي أنك لن تصلي
إلى ذلك منه حتى تؤثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك، فيما أحببت وكرهت، والله
يخير لك بخيرته، ويصنع لك برحمته.
فلما حملت إليه غلبت على أمره، وولدت له سبعة أولاد ملكوا بعده.
فصل (في السعي لطلب مرضاة الزوج)
وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجاً صالحاً يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب
كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته، أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته، وبقي ذلك في
نفسه، فربما وجد فرصته فتركها أو آثر غيرها، فإنه قد يجد، وقد لا تجد هي، ومعلوم
أن الملل للمستحسن قد يقع، فكيف للمكروه؟
الباب الخامس والستون في ثوابِ طَاعةِ الزوج
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه
وسلّمفقالت: يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، ما من امرأة تسمع مقالتي إلى
يوم القيامة إلا سرّها ذلك، الله رب الرجال والنساء، وآدم أبو الرجال والنساء،
وحواء أم الرجال والنساء، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء، كتب الله الجهاد على
الرجال، فإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، وإن ماتوا، وقع أجرهم على
الله، وإن رجعوا آجرهم الله، ونحن النساء نقوم على المرضى ونداوي الجرحى، فما لنا
من الآخرة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا وافدة النساء، أبلغي من لقيت من
النساء، أن طاعة الزوج، واعترافها بحقه، يعدل ذلك كله».
وعنه
أيضاً قال: جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلّمامرأةٌ، فقالت: إني وافدة النساء
إليك، والله ما من امرأة سمعت بمخرجي أو لم تسمع، إلا وهي تهوى مقالتي، الله رب
الرجال والنساء، وآدم أبو الرجال والنساء، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء، كتب
الله الجهاد على الرجال، فإن أصابوا أُجروا، وإن ماتوا وقع أجرهم على الله عز وجل،
وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يُرزقون، ونحن نقوم عليهم، ونحْتَش لدوابهم،
وليس لنا شيء من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «فأبلغي من لقيت من
النساء، أنَّ طاعة الزوج واعترافها بحقه، يعدل ذلك كله، وقليل منكنّ مَن يفعل
ذلك».
وعن أمّ سلمة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راضٍ، دخلت الجنة».
وعن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها، دخلت الجنة».
الباب السادس والستون في ذكر إثمِ المخالَفة لزوجها
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا دعا
أحدكم امرأته إلى فراشه فلم تأته لعنتها الملائكة حتى تصبح». وفي لفظ: «فبات وهو
عليها ساخط، لعنتها الملائكة حتى تصبح» أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحهما».
وعن أبي حازم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «والذي نفسي
بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً
عليها، حتى يرضى عنها».
وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا
دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تجبه لعنتها الملائكة».
وعن زرارة بن أبي أوفى، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «لا
تهجر امرأة فراش زوجها إلا لعنتها ملائكة الله عز وجل».
وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش
زوجها لعنتها الملائكة».
وعنه ـــ أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «لا تهجر امرأة فراش زوجها إلا لعنتها
ملائكة الله عز وجل.
وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة، ولا
يرفع لهم إلى السماء حسنة، العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه، فيضع يده في أيديهم،
والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى، والسكران حتى يصحو».
وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة قال: «لعن رسول الله صلى
الله عليه وسلّمالمسوفة، والمفلسة، فأما المسوفة فالتي إذا أرادها زوجها، قالت:
سوف وسوف، والآن».
قال المصنف: قلت: كذا روي لنا في هذا الحديث المفلسة، ولم يذكر تفسيره، وقد رواه
ابن مِقْسَم في كتاب ـــ «الأنوار»، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلّمأنه لعن المسوفة، والمفلسة، فأما المسوفة: فهي التي إذا أرادها زوجها قالت:
الآن، وسوف، وأما المفلِّسة، فالتي إذا أرادها قالت: إني حائض، وليست بحائض.
قال المصنف رحمه الله ـــ قلت: فعلى هذا يكون المعنى أنها تقدم ذكر الحيض قبل
مجيئه، كما تقدم المفلس.
وقد روى ابن قُتيبة هذا الحديث، وقال: لعن المفسلة، قال: وقال غير واحد: المفسلة
التي إذا أرادها زوجها أن يأتيها قالت: إني حائض، وأصل الحرف من الفسولة، وهي
الفتور في الأمر والكسل، فعلى هذا تكون المفسلة تصحيفاً من الرواة.
وعن معاذ بن جبل ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «لا تؤذي
امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله،
فإنما هو دخيل عندك، يوشك أن يفارقك إلينا».
وعن عبد الله بن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم «لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، ولا تستغني به».
وعن
الحسن قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلّميقول: «أول ما تُسأل عنه المرأة
يوم القيامة، عن صلاتها، وعن بعلها كيف فعلت إليه».
وعن علي بن زيد عن الحسن قال: «أيما امرأة قالت لزوجها: ما رأيت منك خيراً قط، فقد
حبط عملها».
فصل (في وجوب طاعة الزوج)
وعلى ما ذكرنا من وجوب طاعة الزوج، فلا يجوز للمرأة أن تطيعه فيما لا يحل مثل أن
يطلب منها الوطء في زمان الحيض أو في المحل المكروه، أو في نهار رمضان، أو غير ذلك
من المعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى.
وعن أبي أمامة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلّمتقود ولدين لها، وتحمل آخر، قال: فما أعلمها سألته شيئاً إلا أعطاها، فلما
ذهبت أتبعها بصره، فقال: «حاملات، والدات رحيمات، لولا ما يأتين إلى أزواجهن، دخلت
مصلياتُهن الجنة».
وعنه أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمرأى امرأة ومعها أولادها قد حملت
واحداً، والبقية يمشون خلفها، فقال: «والدات حاملات، رحيمات، لولا ما يأتين إلى
أزواجهن، دخل مصلياتهن الجنة».
فصل (في الغيرة عند المرأة)
وقد تخرج الغيرة بالمرأة إلى معصية الزوج، فيجب على المؤمنة أن تحمل نفسها على
الصبر، إذا كان لها ضرّة.
عن علقمة عن عبد الله قال: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلّم إذ أقبلت
امرأة عريانة، فقام إليها رجل فاعتنقها فواراها، وتغيّر وجه رسول الله صلى الله
عليه وسلّم فقال الرجل: يا رسول الله، إني زوجها. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم
«إنَّ الله كتب الغيرة على النساء، والجهاد على الرجال، فمن صبر منهن احتساباً كان
لها أجر شهيد».
الباب السابع والستون في جوازِ ضَرْب الرجل زوجته
إذا
نشزت المرأة على الرجل أو خالفته فيما هو حقّ له، فلتؤدَّب بإذن الله عز وجل، وهو
أن يعظها فإنْ أصرَّت على الخلاف هجرها في المضجع، فإن أصرّت ضربها ضرباً غير
مبرّح، سوطاً أو سوطين، أو يزيد عدداً قليلاً.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم «لا يُضرب فوق عشرة أسواط، إلا في حدَ من حدود
الله عز وجل».
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه ما ضرب امرأة من نسائه قط.
وليعلم الإنسان أن من لا ينفع فيه الوعيد والتهديد لا يردعه السوط، وربما كان
اللطف أنجح من الضرب، فإنّ الضرب يزيد قلب المعرض إعراضاً.
وفي الحديث «ألا يستحي أحدكم أن يجلد امرأته جَلْدَ العبد، ثم يضاجعها؟» فاللطف
أولى إذا نفع.
وعن محمد بن إبراهيم الأنطاكي قال: حدثنا محمد بن عيسى، قال: أراد شعيب بن حرب أن
يتزوج امرأة فقال لها: إني سيّىء الخلق. فقالت: أسوأ منك خُلُقاً من أحوجك أنْ
تكون سيىء الخُلُق، فقال: إذاً أنت امرأتي.
الباب الثامن والستون في ذكْرِ سؤال المرأة عن بيتِ زَوجها
عن نافع عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال:
«كلكم راع، وكلكم مسؤول، عن رعيته، فالأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة
راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته».
الباب التاسع والستون في ذكر مَا يحِلُّ لها تناوله من ماله
عن سعد بن أبي وقاص قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلّمالنساء قامت إليه
امرأة جليلة، كأنها من نساء مضر، فقالت: يا رسول الله، إنّا كَلٌّ على آبائنا
وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ فقال: «الرطب أن تأكلنه وتهدينه».
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: جاءت هند بنت عتبة، فقالت: يا رسول الله،
إنّ أبا سفيان رجل مِسِّيك، فهل عليّ من حرج أن أطعم عيالي من الذي له؟ فقال: «لا،
(إلا) بالمعروف».
وعن
عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلّمفقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباءٍ، أحب إليّ من أن يذلهم
الله من أهل خبائك، وقد أصبحت، وما على ظهر الأرض أهل خباءٍ أحبّ إليّ أن يعزهم
الله من أهل خبائك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأيضاً والذي نفسي بيده،
قالت: يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجل ممسك، فهل عليّ حرج أن أنفق على عياله من
ماله من غير إذنه؟ فقال: «لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروفة».
فصل (في أخذ المرأة من مال زوجها)
واعلم أن فصل الخطاب في هذا الباب، أنه متى كان الرجل يفرض للمرأة ما يجب عليه لها
من النفقة، لم يجز لها أن تأخذ من ماله شيئاً، إلا عن أمره، إلا أن تعلم أنه إذا
اطلع على ذلك لم يكرهه، وكذلك إن تصدقت بما تعلم أنه يأذن فيه جاز.
فأما إذا علمت أنه يكره ذلك لم يجز لها، وإنما يجوز أن تأخذ مقدار نفقتها بالعدل
إذا كان يمنعها ذلك.
الباب السبعون في نَهْي المرأة أنْ تتسخَّط نفقة الرجل
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «رأيت
النار، ورأيت أكثر أهلها النساء»، قالوا: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن»،
قالوا: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن
الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: والله ما رأيت منك خيراً قط».
وعن ابن أبي حسين سمع شهراً قال: سمعت أسماء بنت يزيد تقول: مرّ بنا رسول الله صلى
الله عليه وسلّم ونحن في نسوة، فسلّم علينا، وقال: «إياكن وكفر المنعمين»، فقلنا:
يا رسول الله، وما كفر المنعمين؟ قال: «لعل إحداكن تطول أيمتها بين أبويها وتعنس،
فيرزقها الله زوجاً، ويرزقها منه مالاً وولداً، فتغضب الغضبة، فتقول: ما رأيت منه
يوم خير قط» وقال مرَّة: «خيراً قط».
وعن
عبد الحميد، قال: حدثني شهر، قال: سمعت أسماء بنت يزيد الأنصارية تحدث أن رسول
الله صلى الله عليه وسلّممرّ في المسجد يوماً، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده
إليهن بالسلام، وقال: «إياكن وكفر المنعمين، إياكن وكفر المنعمين»، قالت إحداهن:
يا رسول الله، أعوذ بالله يا نبي الله من كفران نِعَمِ اللَّه، قال: «بلى، إنَّ
إحداكن تطول أيمتها، ويطول تعنيسها، ثم يزوجها الله تعالى البعل، ويفيدها الولد،
وقرّة العين، ثم تغضب الغضبة، فتقسم بالله ما رأيت منه ساعةً خيراً قط، فذلك من
كفران المنعمين».
وقال المصنف ـــ رحمه الله ـــ: وقد ذكرنا في «باب إثم المخالفة» عن الحسن «أن
المرأة إذا قالت لزوجها: ما رأيت منك خيراً قط أُحبط عملها».
الباب الحادي والسبعون في ذكْر ما تتصنَّع به المرأة من قشر الوجه، والوَشْم، وغير
ذلك
عن كريمة بنت همّام قالت: سمعت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ تقول: «يا معشر النساء
إياكن وقشر الوجه، قالت: فسألتها عن الخضاب، قالت: لا بأس بالخضاب، ولكني أكرهه؛
لأن حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يكره ريحه».
وعنها ـــ رضي الله عنها ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لعن الصالقة،
والحالقة، والخارقة، والقاشرة».
وعن آمنة بنت عبد الله أنها شهدت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلّم«يلعن القاشرة، والمقشورة، الواشمة، والمستوشمة، والواصلة
والموصّلة».
وعن الحارث عن عليّ ـــ عليه السلام ـــ أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه
وسلّمالواشمة، والمستوشمة، وكان ينهى عن النوح».
وعن قبيصة بن جابر الأسدي، قال: انطلقت مع عجوز من بني أسد إلى ابن مسعود ـــ رضي
الله عنه ـــ فقال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميلعن المتنمصات
والمتفلجات، والمستوشمات اللائي يغيّرن خلق الله».
وعن
علقمة عن عبد الله ـــ رضي الله عنه ـــ قال: «لعن الله الواشمات، والمستوشمات،
والمتنمصات، والمتفِّلجات للحسن، المغيّرات خلق الله». قال: فبلغ ذلك امرأة في
البيت يقال لها أم يعقوب، فجاءت إليه، فقالت: بلغني أنك قلت، كيت وكيت، فقال: ما
لي لا ألعن من لعن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله عز وجل،
فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما
قرأت: {وَمَآ ءاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}
(الحشر: 7) قالت: بلى. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّمنهى عنه، قالت: إني
لأظن أهلك يفعلون ذلك، قال: اذهبي فانظري، فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئاً، فجاءت
فقالت: ما رأيت شيئاً، قال: لو كانت كذلك لم تجامعنا».
وقال: سمعته من عبد الرحمن بن عابس، يحدثه عن أم يعقوب سمعته منها، واخترت حديث
منصور.
قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ: في هذه الأحاديث كلمات غريبة فلنفسرها؛ أما
القاشرة: فهي التي تقشر وجهها بالدواء، ليصفو لونها.
وأما الصالقة: فهي التي ترفع صوتها بالصراخ عند المصايب. والحالقة: هي التي تحلق
شعرها عند النوائب.
أما الخارقة: فأظنّها التي تخرق ثيابها للمصيبة.
والوشم: أن يغرز كف المرأة، أو معصمها بإبرة، ثم يحشى بكحل فيخضر.
والواصلة: التي تصل شعرها بشعر.
والنامصة: التي تنتف الشعر من الوجه.
والمتفلجات: من الفلج، والفلج فُرْجَةٌ بين الثنايا والرباعيات، تفعل ذلك كله
للتحسن.m
وظاهر هذه الأحاديث تحريم هذه الأشياء التي قد نُهي عنها على كل حال، وقد أخذ
بإطلاق ذلك ابن مسعود على ما روّينا.
ويحتمل أن يحمل ذلك على أحد ثلاثة أشياء:
إما
أن يكون ذلك قد كان شعار الفاجرات، فيكنّ المقصودات به، أو أن يكون مفعولاً
للتدليس على الرجل فهذا لا يجوز، أو يكون يتضمن تغيير خلق الله تعالى، كالوشم الذي
يؤذي اليد ويؤلمها، ولا يكاد يستحسن، وربما أثر القشر في الجلد تحسناً في العاجل،
ثم يتأذى به الجلد فيما بعد.
وأما الأدوية التي تزيل الكلف، وتحسن الوجه للزوج، فلا أرى بها بأساً، وكذلك أخذ
الشعر من الوجه للتحسن للزوج، ويكون حديث النامصة محمولاً على أحد الوجهين
الأولين.
قال شيخنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي: إذا أخذت المرأة الشعر من وجهها لأجل
زوجها بعد رؤيته إياها، فلا بأس به، وإنما يذم إذا فعلته قبل أن يراها، لأن فيه
تدليساً.
عن أم جليلة قالت: شهدتُ امرأة سألت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ ما تقولين في قشر
الوجه، قالت: إن كان شيء ولدت وهي بها، فلا يحلّ لها، ولا آمرها، ولا أنهاها، وإن
كان شيء حدث، فلا بأس، تعمد إلى ديباجة كساها الله إياها فتنحيها من وجهها، لا
آمرها ولا أنهاها.
قال مسلم: وحدثتنا تحية الراسبية، قالت: حدثتني أم نصرة، قالت: قالت عائشة ـــ رضي
الله عنها ـــ: «لو كان في وجه بنات أخي لأخرجته ولو بشفرة».
وعن بكرة بنت عقبة أنها دخلت على عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ فسألتها عن الحنّاء،
فقالت: «شجرة طيبة وماء طهور، وسألتها عن الحفاف، فقالت لها: إن كان لك زوج
فاستطعت أن تنتزعي مقلتيك فتصنعيها أحسن مما هما فافعلي».
الباب الثاني والسبعون في النهْي عن وصْلِ الشَّعَر
عن أبي سعيد المقبري عن أبيه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان، وهو على المنبر يقول
ـــ وفي يده قصة من شعر ـــ: ما بال نسائكم يجعلن في رؤوسهن مثل هذا؟ سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلّميقول: «ما من امرأة تجعل في رأسها شعراً من شعر غيرها،
إلا كان زُوراً».
وعن
عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أنها جاءتها امرأة فقالت: ابنة لي سقط شعرها، فنجعل
على رأسها شيئاً نجمِّلها به؟ فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميسأل عن
مثل ما سألت عنه، فقال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة».
وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لعن
الواصلة والمستوصلة، والمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء
بالرجال».
وعن عبد الله قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمالواشمة، والمستوشمة،
والواصلة والمستوصلة، والمحلل، والمحلل له، وآكل الربا، وموكله» رواه أحمد.
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن امرأة أتتها، فقالت: إن ابنتي عروس مرضت،
وتمزق شعرها، أفأصل فيه؟ فقالت: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الواصلة
والمستوصلة، أو قال: المواصلة» رواه أحمد.
وعن أسماء بنت أبي بكر ـــ رضي الله عنها ـــ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه
وسلّمفقالت: إن لي ابنة عروساً، وإنها مرضت فتمزّق شعرها، وإني زوجتها، أفأصله؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «لعن الله الواصلة والمستوصلة».
وعن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم«لعن الواصلة
والمستوصلة والواشمة والمستوشمة».
وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: «لُعنت الواصلة والمستوصلة،
والمتنمِّصة، والواشمة، والمستوشمة من غير داء».
قال أبو عبيد: وقد رخصت الفقهاء في القرامل، وكل شيء وصل به الشعر ما لم يكن الوصل
شعراً.
الباب الثالث والسبعون في استحبابِ الخضاب بالحنَّاء للنساء
عن بهية قالت: سمعت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ تقول: «كان رسول الله صلى الله
عليه وسلّميكره أن يرى المرأة ليس بيدها أثر الحنّاء والخضاب».
عن
ابن ضميرة بن سعد عن جدته عن امرأة من نسائهم قال: وقد كانت صلَّت إلى القبلتين مع
رسول الله صلى الله عليه وسلّمقالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال:
«اختضبي، تترك إحداكن الخضاب حتى تكون يدها كيد الرجل»، فقالت: فما تركت الخضاب
حتى لقيت الله، وإن كانت لتختضب، وإنها لابنة ثمانين.
عن عائشة أم المؤمنين ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: مدّت امرأة من وراء الستر
بيَدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقبض رسول الله صلى الله عليه
وسلّميده، وقال: «ما أدري أيَد رجل أو يد امرأة؟» فقالت: بل يد امرأة، فقال: «لو
كنت امرأة غيّرت أظفارك بالحناء».
وعنها ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إني
لأبغض المرأة (أن تكون) سلتاء مرهاء، لا يكون في عينيها كحل، ولا في يدها خضاب».
وقالت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن نتمشط
بالغسل، وأن نختضب الغمس، ولا نقحل أيدينا مثل أيدي الرجال». السلتاء: التي لا
تختضب، والمرهاء: التي لا تكتحل، والغمس: خضب اليد كلها.
وعن أيوب قال: دخلت على عائشة بنت سعد، فقالت: «والله ما بقي على ظهر الأرض ابنة
مهاجري، ولا مهاجرة غيري، أبي الذي جمع له رسول الله صلى الله عليه وسلّمأبويه يوم
أُحد، قالت: ورأيت نساء من أزواج النبي صلى الله عليه وسلّمعليهن المعصفرات، وما
رأيت عليهن ثوباً أبيض قط، وكنت أدخل عليهن، فتقعدني إحداهن في حجرها، فتدعو لي
بالبركة، وعليّ حليّ، قال أيوب: قلت لها: ما كان حليك؟ قالت: قلائد الذهب».
قال الأصمعي: رأيت في البادية امرأة عليها قميص أحمر، وهي مختضبة، وبيدها سبحة،
فقلت لها: ما أبعد هذا من هذا فقالت:
وللَّهِ منّي جانبٌ لا أضيّعهُ
وللَّهِ منّي، والبطالة جانبُ
الباب الرابع والسبعون في ذكر أدبِ المرأة عند الجِمَاع
عن
عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا أراد الرجل أن
يجامع أهله اتخذت له خرقة، فإذا فرغ ناولته، فمسح عنه الأذى، ومسحت، ثم صلّيا في
ثوبهما ذلك».
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «ينبغي للمرأة إذا كانت عاقلة أن تتخذ
خرقة، فإذا جامعها زوجها ناولته، فيمسح عنه، ثم تمسح عنها، فيصليان في ثوبهما ذلك،
ما لم تصبه جنابة».
قال المصنف رحمه الله ـــ قُلْتُ: هذا أثبت من المرفوع.
فصل (في معرفة المرأة مقصود الرجل)
وينبغي للمرأة العاقلة أن تتلمّح مقصود الرجل فتتبعه، ومتى كان الرجل من أهل
الصيانة والتديّن، وشرف النفس، أحب سكوت المرأة عند الجماع، واستعمالها الوقار.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه كان إذا قرُب من المرأة، قال: «عليكن
الوقار». أو كما قال.
ومن الرجال من يحب كلام المرأة حينئذ، ويميل إلى تهالكها عند الجماع، ويقول هؤلاء:
إذا باشرنا امرأة ساكتة، فكأننا نطأ خشبة منقورة منجورة.
قالوا: وإنما يطيب الأكل مع المنادمين المتكلمين، ويجيب الأولون عن هذا، فيقولون:
إنما يقضي الرجل بالوطء حاجة نفسه، فإذا تهالكت المرأة عليه كان كأنما يقضي
حاجتها، وإنما يعز عند النفوس الممتنع لا المبذول.
الباب الخامس والسبعون في ستر الفرج عن الزوج
عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «ما نظرت إلى فَرْج رسول الله صلى الله عليه
وسلّمقط» أو «ما رأيت فَرْج النبي صلى الله عليه وسلّمقط».
وقد روي عن عامر بن الظرب، وكان من حكماء العرب، أنه قال لامرأته: مري ابنتك أن
تكثر استعمال الماء، فلا طيب أطيب من الماء، ولا تكثر مضاجعة زوجها، فإن الجسد إذا
ملّ، ملّ القلب وَلْتَخَبِّىءْ سَوْأَتها منه.
قال
المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وهذا عين الصواب، فإنَّ الفَرْج غير مستحسن الصورة
من الزوجين، فالاطلاع على بعض العيوب يقدح في المحبة، فينبغي لهما جميعاً، الحذر
من ذلك، ولهذا ترى الأكابر ينامون منفردين، لعلمهم أن النوم يتجدد فيه ما لا يصلح.
الباب السادس والسبعون في أجر المرأة إذا حملت ووضعت
عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: أراه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمـ
قال: «إن للمرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها من الأجر، كالمتشحط في سبيل الله،
فإن هلكت فيما بين ذلك، فلها أجر الشهيد».
وعن ابن عمر أيضاً قال سعيد بن جبير أحسبه قد رفعه، قال: المرأة في حملها إلى
وضعها، إلى فصالها، كالمرابط في سبيل الله، فإن ماتت فيما بين ذلك، فلها أجر
الشهيد.
الباب السابع والسبعون في ثواب من ماتت نفساء
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «ما تعدون الشهيد
فيكم؟»، قالوا: الذي يقاتل فيُقتل في سبيل الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلّم «إن شهداء أمتي إذاً لقليلٌ، القتيلُ في سبيل الله شهيد، والمَطْعونُ
شهيد، والمبطون شهيد، والمرأةُ تموتُ بجُمْع شهيد» ـــ يعني النُّفساء.
وعن عبادة بن الصامت ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال:
«القتل في سبيل الله شهادة، والبطن شهادة، والغرق شهادة، والنفساء شهادة».
وعن
راشد بن حبيش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمدَخَلَ على عبادة بن الصامت في
مرضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أتعلمون مَن الشهيد من أمتي؟»، فأرم
القوم، فقال عبادة: ساندوني، فأسندوه، فقال: يا رسول الله، الصابر المحتسب، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن شهداء أمتي إذاً لقليل، القتل في سبيل الله ـــ
عز وجل ـــ شهادة، والطاعون شهادة، والغرق شهادة، والبطن شهادة، والنفساء يجرها
ولدها بسرره إلى الجنة».
الباب الثامن والسبعون في ثوابِ تربية الأولاد
عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَن
سقى ولده شربة ماء في صغره، سقاه الله سبعين شربة من ماء الكوثر يوم القيامة» رواه
الحافظ أبو نعيم بإسناده.
وعن أبي أمامة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «أربعة
تجري عليهم أجورهم بعد الموت: من رابط في سبيل الله، ومن علَّمِ علماً أجري له مثل
عمله، ورجل تصدق بصدقة، فأجرها له ما جرت، ورجل ترك ولداً صالحاً فهو يدعو له».
الباب التاسع والسبعون في ثوابِ تربيةِ البنات، والنفقة عليهّن، وعلى الأخوات
عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي صلى
الله عليه وسلّمقالت: جاءت امرأة معها ابنتان لها تسألني، فلم تجد عندي شيئاً غير
تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، أخذتها، فشقتها باثنتين، بين ابنتيها، ولم تأكل منها
شيئاً، ثم قامت فخرجت هي وابنتاها، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم
فَحَدَّثْتُهُ حديثها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من ابتُلِيَ من هذه
البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار». أخرجه البخاري، ومسلم.
عن
أبي اليمان عن شعيب عن جابر بن عبد الله ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلّم «من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن، فقد وجبت له الجنة
البتة»، قالوا: يا رسول الله، وإن كانتا اثنتين؟ قال: «وإن كانتا اثنتين؟»، قال:
فرأى بعض القوم أن لو قالوا واحدة، لقال: واحدة.
عن أنس بن مالك أن امرأة دخلت على عائشة، ومعها صبيان لها، فأعطتها عائشة ثلاث
تمرات، فأعطت كل صبي تمرة، فأكل الصبيان تمرتيهما، ثم نظرا إلى أمهما، فأخذت
التمرة، فشقتها نصفين، فأعطت ذا نصفها، وذا نصفها، فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم
فأخبرته عائشة، فقال لها: «ما أعجبك من ذلك؟ فإن الله عز وجل قد رحمها برحمتها
صبييها».
وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «مَن كان له
ثلاث بنات فصبر على إيوائهن وضرّائهن وسرّائهن، أدخله الله الجنةَ بفضل رحمته
إياهنَّ»، فقال رجل: أو اثنتان يا رسول الله؟ قال: «أو اثنتان»، فقال رجل: أو
واحدةٌ يا رسول الله؟ قال: «أو واحدة».
وعن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو أختان، فيتقي الله فيهن، ويحسن إليهن،
إلا دخل الجنة».
عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «مَن أنفق على ابنتين،
أو أختين، أو ذواتي قرابة يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما الله من فضله، أو
يكفيهما، كانتا له ستراً من النار».
وعن شرحبيل قال: سمعت ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «ما من مسلم تدركه
ابنتان، فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة».
وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من
ولدت له ابنة فلم يئدها، ولم يُهنْها، ولم يؤثر ولدَهُ عليها ـــ يعني الذكور ـــ
أدخله الله عز وجل بها الجنة».
وعن
أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من كان له ثلاث بنات أو ثلاث
أخوات، اتقى الله فيهن، وأقام عليهن، كان معي في الجنة هكذا، وأشار بأصابعه
الأربع».
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «من كانت له ثلاث
بنات فصبر عليهن، وأطعمهن وسقاهن، وكساهن من جدَتِهِ، كنّ له حجاباً من النار».
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا تكرهوا البنات، فإنهن المؤنسات
الغاليات».
وعن أبي وائل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من كانت له بنت، فأدبها
فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعمة الله عز وجل التي أسبغ
عليه، كانت له ستراً وحجاباً من النار».
وعن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «من كان له ثلاث
بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته، كن له حجاباً من النار».
الباب الثمانون في النَّهْي عن تعليقِ التمائم، وما يظنّ أنه يدفع الشر
عن عبد الله أنه دخل على امرأته، وفي عنقها شيء معقود، فجذبه، فقطعه، ثم قال: لقد
أصبح آل عبد الله أغنياء عن أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ثم قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إنَّ الرقى والتمائم والتولة شرك»، فقلنا:
هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: «شيء يجعله النساء لأزواجهن
يتحبَّبن إلى أزواجهن».
وعن
أبي عبيدة عن عبد الله ـــ رضي الله عنه ـــ أنه رأى في عنق امرأةٍ له سيراً فيه
تمائم، قال: فمدّه مداً شديداً حتى انقطع السير، وقال: إنَّ آل عبد الله لأغنياء
عن الشرك، ثم قال: إن التولة والتمائم والرقى لشرك، فقالت امرأة: إن إحدانا لتشتكي
رأسها، فتسترقي فإذا استرقت ظنت أنَّ ذلك قد نفعها. قال عبد الله: ذلك الشيطان إذ
يأتي إحداكن، فينخس في رأسها، فإذا استرقت خنس، فإذا لم تسترق لم ينخس، فلو أن
إحداكن تدعو بماء، فينضح في وجهها ورأسها، ثم تقول: «بسم الله الرحمن الرحيم،
وتقرأ قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، نفعها ذلك إنْ شاء
الله تعالى».
وعن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب،
تنحنح وبصق، كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنَّه جاء ذات يوم فتنحنح،
قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل، فجلس إلى
جنبي، فرأى في عنقي خيطاً، قال: ما هذا الخيط؟ قالت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه،
فقطه، ثم قال: إنّ آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلّميقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك». قالت: فقلت له: لِمَ تقول هذا؟ وقد
كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها فكان إذا رقاها سكنت، قال:
إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كفّ عنها، إنما كان يكفيك أن
تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أذهب البأس ربّ الناس، اشف أنت
الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً».
وعن عمران بن الحصين «أن النبي صلى الله عليه وسلّمرأى في عضد رجل حلقة من صفر،
فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة، فقال: انبذها عنك، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، ولو
متّ وهي عليك وكّلت إليها».
عن
أبي قلابة قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلّمالتميمة من قلادة الصبي، قال:
«وهو الشيء، يحرر في عنق الصبي من العين، وقطعها من عنق الفضل بن عباس».
قال ابن عقيل: لا يجوز التعوذ بالطلسمات والعزائم، وأسماء الكواكب والصور، وما وضع
على النجوم من النقوش، إذ كل هذا منهي عنه، وإنما التعوذ بالقرآن.
الباب الحادي والثمانون في العدل بين الأولاد
عن النعمان بن بشير قال: «سَألت أمي أبي بعض المواهبة لي، فوهبها لي، فقالت: لا
أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: فأخذ أبي بيدي، وأنا غلام، فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: يا رسول الله، إن أم هذا زاولتني على بعض
المواهبة له، وإن قد وهبت له، وقد أعجبها أن أشهدك. قال: «يا بشير أَلَكَ ابن غير
هذا؟». قال: نعم، قال: «فوهبت له مثل الذي وهبت لهذا؟». قال: لا، قال: «فلا تشهدني
إذاً، فإني لا أشهد على جور». أخرجاه في «الصحيحين».
وعن مالك بن أبي معشر عن إبراهيم قال: كانوا يحبون أن يساووا بين أولادهم حتى في
القبل».
الباب الثاني والثمانون في النهي عن الدعاء على الأولاد
عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا
تدعوا على أولادكم أن يوافق ذلك إجابةً».
الباب الثالث والثمانون في ثوابِ خدْمة المرأةِ في بيتها
عن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: أتين النساء النبي صلى الله عليه وسلّم
وقلن: يا رسول الله، ذهب الرجال بالفضل من الجهاد في سبيل الله، وما لنا عمل ندرك
به عمل المجاهدين في سبيل الله، قال: مهنة إحداكن في بيتها تدرك بها عمل المجاهدين
في سبيل الله.
وعن
أسماء بنت أبي بكر ـــ رضي الله عنهما ـــ قالت: «تزوجني الزبير، وما له في الأرض
من مال ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته،
وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز قربه، وأعجن، ولم أكن
أحسن أخبز، فكانت تخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى في أرض
الزبير ـــ التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلّمـ على رأسي، وهي مني على ثلثي
فرسخ.
قالت: فجئت يوماً، والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه نفر
من أصحابه، فدعاني، ثم قال: أنخ، ليحملني خلفه، قالت: فاستحييت أن أسير مع الرجال،
وذكرت الزبير وغيرته، قالت: وكان أغيَر الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه
وسلّمأني قد استحييت فمضى.
فجئت الزبير، فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى رأسي النوى، ومعه
نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت، وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى
كان أشد عليّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني
سياسة الفرس، فكأنما أعتقني».
الباب الرابع والثمانون في مُرَاعاةِ حقِّ الْجَارِ والهديةِ له
عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «ما زال جبريل ـــ عليه السلام ـــ
يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه».
وعن أبي ذر ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا
طبخت فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك» وأقسم بين جيرانك.
قال أبو يوسف: وحدّثنا محمد بن أبي بإسناده إلى سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة ـــ
رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «يا نساء المسلمات، لا تحقرنَّ
جارة لجارتها، ولو فرسن شاة».
وعن
أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يقول: «يا
نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة».
وعن عمرو بن معاذ الأشهلي عن جدّته أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«يا نساء المؤمنات، لا تحقرَّن أحداكن لجارتها، ولو كراع شاة محرق».
قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ: الفرسن للشاة: بمنزلة الحافر للفرس، وكراع الشاة:
قائمتها.
الباب الخامس والثمانون في الابتداءِ بالهديَّةِ بأقربِ الْجيران
عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلّمفقالت: إنَّ
لي جارين، فإلى أيهما أُهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك باباً».
الباب السادس والثمانون في إثْمِ أذى الْجَار
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إن
فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها بلسانها، قال: «لا خير فيها، هي في
النار» قالوا: يا رسول الله، إن فلانة تصلي المكتوبة، وتتصدق بالأثوار من الأقط،
ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي في الجنة».
الباب السابع والثمانون في النهي عن حبسِ الهرّة وغيرها من غيرِ افتقادٍ لمطعمها،
ومشربها
عن أبي هريرة، وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «دخلت
امرأة النار في هرّة ربطتها حتى ماتت، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من
خشاش الأرض».
وعن جابر بن عبد الله ـــ رضي الله عنهما ـــ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلّميقول: «عُذِّبت امرأة في هرّة أو هرّ، ربطته حتى مات، ولم ترسله فيأكل من
خشاش الأرض، وجبت لها النار بذلك».
وعن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول:
«دخلت امرأة النار في هرّ أو هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم ترسلها تأكل
من خشاش الأرض».
وعن
أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «دخلت امرأة النار في هر
ربطته، فلم تطعمه، ولم تسقه، ولم ترسله، فيأكل من خشاش الأرض حتى مات في رباطه،
ودخلت امرأة مومسة الجنة، إذ مرّت على طوى عليه كلب يريد الماء، فلم تقدر عليه
ظمآن، فنزعت خفها أو موقها، فربطته في نطاقها أو خمارها، ثم نزعت له، فسقته حتى
أروته».
وعن عبد الله بن أبي رافع عن جدّته قالت: «أوصانا رسول الله صلى الله عليه
وسلّمبالهرَّة، وقالت: إن امرأة عذبت في هرة ربطتها (حتى ماتت)، فلم تطعمها، ولم
تتركها، فتأكل من خشاش الأرض».
الباب الثامن والثمانون في ذكر ثوَاب من مات له سِقْط
عن سهل بن الحنظلية ـــ وكان لا يولد له ـــ قال: لأن يولد لي في الإسلام، ولو
سقط، فأحتسبه، أحب إلي من أن تكون لي الدنيا جميعاً وما فيها.
وكان ابن الحنظلية ممن بايع تحت الشجرة.
الباب التاسع والثمانون في إثمِ المرأة إذا تعمَّدتِ الإسقاط
لما كان موضوع النكاح لطلب الولد، وليس من كل الماء يكون الولد، فإذا تكوَّن فقد
حصل المقصود من النكاح.
فتعمُّد إسقاطه مخالفة لمراد الحكمة، إلا أنه إن كان ذلك في أول الحمل، فقبل نفخ
الروح، كان فيه إثم كبير، لأنه مترقّ إلى الكمال، وسار إلى التمام، إلا أنه أقل
إثماً من الذي نفخ فيه الروح.
فإذا تعمَّدت إسقاط ما فيه الروح كان كقتل مؤمن، وقد قال تعالى: {وَإِذَا
الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } (التكوير: 8 ـــ 9)، الموؤودة:
البنت كانوا يدفنونها حية، فهي تُسأل يوم القيامة لتبكيت قاتليها.
وقد
روى جويرية بن أسماء عن عمه قال: حججت، وإنّا لفي رفقة، إذ نزلنا، ومعنا امرأة.
فنامت، فانتبهت، فإذا حية منطوية عليها، قد جمعت رأسها مع ذنبها بين ثدييها،
فهالنا ذلك، وارتحلنا، فلم تزل منطوية عليها، لا تضربها، حتى دخلنا أنصاب الحرم،
فانسابت، فدخلت مكة، فقضينا نسكنا، وانصرفنا، حتى إذا كنا بالمكان الذي انطوت
عليها فيه الحيّة، وهو المنزل الذي نزلت، فنامت واستيقظت، والحية منطوية عليها،
صفّرت الحيّة، فإذا الوادي يسيل علينا حيات، فنهشتها حتى بقيت عظامها، فقلت لجارية
كانت معها: ويحك أخبرينا عن هذه المرأة، قالت: بغت ثلاث مرات، كل مرّة تلد ولداً،
فإذا وضعته سجرت التنور، ثم ألقته فيه.
الباب التسعون في ذِكْر كفَّارة الإسقاط
إذا تعمَّدت المرأة الإسقاط بشرب دواء يسقط، فإن كان الحمل لم يبلغ المدة التي
تُنفخ فيها الروح، فلا دية في ذلك، إنما عليها الإثم فحسب.
هذا في أحد الوجهين لأصحابنا.
والوجه الثاني: أنها إن ألقته مضغة، وشهد القوابل أنه خلق آدمي، وجبت الغرة.
قال الخرقي: وإذا شربت الحامل دواء، فأسقطت جنينها، فعليها غرة لا ترث منها شيئاً،
وتعتق رقبة.
قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وإن كان قد نفخ فيه الروح فوقع، فعليها غرة،
عبد، أو أمة، قيمتها نصف عشر دية أبيه، أو عشر دية الأم، تدفع إلى ورثته، ولا ترث
الأم منها شيئاً.
وتجب عليها الكفارة بعد هذا، وهي: عتق رقبة، فإن لم تجد صامت شهرين متتابعين، فإن لم
تستطع، فهل يجب أن تطعم أم لا؟ على روايتين، فإن قلنا تطعم، أطعمت ستين مسكيناً.
الباب الحادي والتسعون في ذكْر مَن مَات له ولدٌ
عن
أبي سنان قال: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت
الخروج، أخذ بيدي، فأخرجني، فقال: ألا أبشرك، حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عزوم،
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا مات ولد العبد
قال الله عز وجل للملائكة: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم. قال: ما قال؟ قالوا:
استرجع وحمد. قال: ابْنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد».
وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «قال الله عز وجل: يا ملك
الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه، وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فماذا قال؟
قال: حمدك واسترجع. قال: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسمّوه بيت الحمد».
وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلّميقول: «من كان له فرطان من أمتي دخل الجنة». فقالت: عائشة ـــ رضي الله عنها
ـــ بأبي فمن كان له فرط؟ قال: «ومن كان له فرط»، قالت: فمن لم يكن له فرط من
أمتك؟ قال: «فأنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي».
عن معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلّم ومعه
ابنٌ له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم «أتحبُّه؟». فقال: يا رسول الله أحبّك
اللَّهُ، كما أُحبُّهُ، فَفَقَدَهُ النبي صلى الله عليه وسلّمفقال: «ما فعل ابن
فلان؟». قالوا: يا رسول الله، مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلّملأبيه: «أما تحب
أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟» فقال رجلٌ: يا رسول الله،
ألَهُ خاصَّةً، أم لكُلِّنا؟ قال: «بل لكلكم».
وعن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَن
قدّم ثلاثة لم يبلغوا الحنث، كانوا له حصناً حصيناً من النار»، فقال أبو ذر: قدمت
اثنين؟ قال: «واثنين»، فقال أُبِّي بن كعب سيد القراء: قدمت واحداً، قال:
«وواحداً، ولكن ذلك في أول صدمة».
وعن
محمد خلف وكيع قال: كان لإبراهيم الحربي ابن، وكان له إحدى عشرة سنة، قد حفظ
القرآن، ولقّنه من الفقه شيئاً كثيراً فمات، قال: فجئت أعزِّيه، فقال لي: كنت
أشتهي موت ابني هذا، قلت: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا في صبي، قد
أنجب، وحفظ القرآن، ولقّنته الحديث والفقه؟ قال: نعم. رأيت في النوم، كأنَّ
القيامة قد قامت، وكأنَّ صبياناً بأيديهم قلال ماء، يستقبلون الناس يسقونهم، وكان
اليوم يوماً حاراً شديداً حرّه.
قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر إليّ، وقال لي: ليس أنت أبي؟
فقلت: فأيش أنتم؟ قالوا: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، وخلفنا آباءنا،
نستقبلهم، فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.
الباب الثاني والتسعون في ذكْر أجرِ مَن مَات له ولدان
عن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ أن النساء قلن: غلبنا عليك الرجال يا
رسول الله، فاجعل لنا يوماً نأتك فيه. فواعدهن ميعاداً، فأمرهن ووعظهن، وقال: «ما
منكن امرأة يموت لها ثلاثة من الولد، إلا كانوا لها حجاباً من النار»، فقالت
امرأة: أو اثنين؟ فإنه مات لي ابنان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«واثنين».
عن أبي ثعلبة الأشجعي قال: قلت: مات لي يا رسول الله ولدان في الإسلام، قال: فقال:
«من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهما».
وعن جابر بن عبد الله ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلّميقول: «من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة، قال: قلنا يا رسول
الله، واثنان؟ قال: واثنان، قال محمود: فقلت لجابر: أراكم لو قلتم واحداً، لقال
واحداً، قال: وأنا والله أظن ذلك».
الباب الثالث والتسعون في ذكْر أَجر مَن مَات له ثلاثةٌ من الولد
عن
الزبير بن العوام ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «من مات
له ثلاثة من الأولاد لم يبلغوا الحنث، كانوا له حجاباً من النار». أو كما قال.
وعن عمرو بن عبسة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «أيما
رجل مسلم قدم الله له من صلبه ثلاثة لم يبلغوا الحنث أو امرأة، فهم له ستر من
النار».
وعن ابن مسعود ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمخطب النساء،
فقال لهن: «ما فيكن امرأة يموت لها ثلاثة من الولد إلا أدخلها الله عز وجل الجنة»،
فقالت أجلّهن امرأة: يا رسول الله، وصاحبة الاثنين في الجنة؟ فقال: «وصاحبة
الاثنين في الجنة».
وعن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من
مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، أدخله الله بفضل رحمته إياهم».
وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «لا
يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلّة القسم».
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم
يبلغوا الحنث، فتمسه النار إلا تحلة القسم».
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة
أولاد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهم الله وإياهم بفضل رحمته الجنة، قال: يقال لهم:
ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: حتى يجيء أبوانا، قال: ثلاث مرات، فيقولون مثل ذلك،
فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم».
وعن أبي زرعة عن أبي هريرة ـــ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلّمبصبي فقالت:
ادع له، فقد دفنت ثلاثة، قال: «احتظرت بحظار شديد من النار».
وعن أم سليم قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلّميوماً، فقال: «يا أم سليم، ما
من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد، إلا أدخلهم الله عز وجل الجنة بفضل رحمته
إياهم»، قلت: واثنان؟، قال: «واثنان».
وعن
أبي ذر ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «ما من
مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته
إياهم».
وعن شرحبيل الرحبي قال: سمعت عتبة بن عبد السلمي أنه سمع النبي صلى الله عليه
وسلّميقول: «ما من رجل مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه
من أبواب الجنة الثمانية من أيِّها شاء دخل».
الباب الرابع والتسعون في ذكر مَن مات له أربعةٌ من الولد
عن الحارث بن أقيش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من مسلمين يموت
لهما أربعة أولاد، إلا أدخلهما الله الجنة»، قالوا: يا رسول الله، وثلاثة؟ قال:
«وثلاثة»، قالوا: يا رسول الله، واثنان؟ قال: «واثنان».
الباب الخامس والتسعون في الأمرِ بالصبر، وبَيان أنَّ الصبر عند أوَّل صدمة
الصبر: حبس النفس عن الجزع.
وفي «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال:
«ما أُعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر».
وقال علي عليه السلام للأشعث بن قيس: «إنك إن صبرت إيماناً واحتساباً، وإلا سلوت
كما تسلو البهائم».
وكتب حكيم إلى رجل قد أصيب بمصيبة: «إنك قد ذهب منك ما رزقت به، فلا يذهبن عنك ما
عُوِّضت عنه، يعني من الأجر».
وقال حكيم: الجزع لا يردّ الفائت، ولكن يسرّ الشامت.
وقال آخر: العاقل من يفعل أول يوم من أيام المصيبة ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام.
قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وقد علم أن مَرَّ الزمان يسلي المصائب، فلذلك
أمر الشرع بالصبر، عند الصدمة الأولى.
وعن
أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلّم«أنه خرج إلى البقيع، فأتى على امرأة جاثية
على قبر تبكي، فقال لها: «يا أمة الله، اتقي الله، واصبري»، قالت: يا عبد الله،
أنا الحزنى الثكلى، قال: «يا أمة الله، اتقي الله، واصبري»، قالت: يا عبد الله، لو
كنت مصاباً لعذرتني، قال: يا أمة الله، اتقي الله، واصبري». قالت: يا عبد الله، قد
أسمعتني، فانصرف.
قال: فانصرف عنها، وبصر بها رجل من المسلمين، فأتاها، فسألها: ما قال لك الرجل؟
فأخبرته بما قال، وما ردّت عليه، فقال لها: أتعرفينه؟ قالت: لا، قال: ويحك ذاك
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبادرت تسعى حتى أدركته، قالت: يا رسول الله
أَصْبِرُ، قال: «الصبر عند الصدمة الأولى»، ثلاث مرات.
قال أبان بن ثعلب: رأيت أعرابية تمرّض ولدها، فلما فاض أغمضته، ثم تنحت، وقالت: ما
أحقّ من ألبس العافية، وأسبغت عليه النعمة، وأطيلت له النظرة، أن يعجز عن التوثق
لنفسه قبل حلّ عقدته، والحلول بعقوته.
فأجابها أعرابي: لم نزل نسمع أن الجزع للنساء، ولقد كرم صبرك. فقالت: ما بَيّن رجل
بين الصبر والجزع، إلا أصاب بينهما منهجين بعيدي التفاوت.
أما الصبر فحسن العلانية، محمود العاقبة، وأما الجزع فغير معوّض مع مأثمه.
وأصيبت منفوسة بنت زيد الفوارس بابنها، فقالت، وهو في حجرها: والله لتقدّمك أمامي
أحب إليّ من تأخرك ورائي، ولصبري عليك أجدى من جزعي عليك، ولئن كان فراقك حسرة،
إنّ توقع أجرك لخيرة.
ونظر
رجل إلى امرأة بالبصرة، فقال: ما رأيت مثل هذه النضارة، وما ذاك إلا من قلة الحزن.
فقالت: يا عبد الله، إنَّ لي حزناً ما شاركني فيه أحد. قال: وكيف؟ قالت: أخبرك أن
زوجي ذبح شاة يوم أضحى، ولي صبيَّان يلعبان، فقال الأكبر للأصغر: أتريد أن أريك
كيف ذبح أبي الشاة؟ قال: نعم. فذبحه، فلما ارتفع الصراخ، هرب الغلام، فالتجأ إلى
الجبل، فأكله الذئب، فخرج أبوه يطلبه، فمات عطشاً، فأفردني الدهر. فقال: فكيف
صبرت؟ فقالت: لو وجدت في الجزع دركاً ما حزنت عليهم.
الباب السادس والتسعون في جوازِ البُكَاءِ على الميِّت
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلّمبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه
وسلّمبيده، ثم قال: «مهلاً يا عمر»، ثم قال: «ابكين، وإياكنّ ونعيق الشيطان»، ثم
قال: إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل، ومن الرحمة، وما كان من اليد
واللسان فمن الشيطان».
وعنه قال: ماتت رُقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «الحقي بسلفنا
الخير عثمان بن مظعون، وبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فقال النبي صلى الله
عليه وسلّملعمر: دعهن يبكين، وإياكن ونعيق الشيطان، ثم قال رسول الله صلى الله
عليه وسلّم مهما يكن من العين والقلب فمن الله والرحمة، ومهما كان من اليد واللسان
فمن الشيطان، وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى شفير القبر، وفاطمة إلى جنبه
تبكي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلّميمسح عن فاطمة بثوبه رحمة لها».
الباب السابع والتسعون في النهي عن اللَّطْمِ وتخريقِ الثياب عند المصيبة
عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ليس منا مَن شقّ
الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية».
وعن
ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: «دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإذا
ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوضعه في حجره،
ففاضت عيناه، قال: قلت: يا رسول الله، أتبكي وتنهانا عن البكاء؟ فقال: «لست عن
البكاء نهيت، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير
الشيطان، وصوت عند مصيبة ضرب وجه، وشق جيوب، ورنّة شيطان، وهذه رحمة، ومن لا يرحم
لا يُرحم، يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل لا بد منه، لحزنا عليك
حزناً غير هذا، وإنا بك لمحزونون، العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول ما يسخط
الرب».
وعن محمد بن سعد قال: قيل لأم خلاد بن سويد بن ثعلبة: قد قتل خلاد، فجاءت وهي
متنقبة، فقيل لها: قتل خلاد، وأنت متنقبة؟ قالت: إن كنت رزئت خلاداً، فلا أرزأ
حيائي.
الباب الثامن والتسعون في النهي عن النَوْح
عن حفصة عن أم عطية قالت: «كنت فيمن بايع النبي صلى الله عليه وسلّم وكان فيما أخذ
علينا أن لا ننوح، ولا نحدِّث من الرجال إلا محرماً».
الباب التاسع والتسعون في كسب النائحة
عن حميد بن عبد الرحمن قال: كنت عند الحسن بن صالح، قال: فجاءت امرأة فسألته،
قالت: ما تقول في نائحة أسكنتها داري؟ فقال: لا، فذهبت ثم جاءت، فقالت: ما تقول
فيما كَسَبَتْ، وقد تابت، ورجعت، قال: تردّه على أصحابه، قالت: لا أعرف أصحابه،
قال: اصَّدّقي به، فبكت، وبكى معها كل من ثمة غير حسن، فإنه كان ينقر الأرض
بإصبعه، ثم قال لها: اتقي الله عز وجل، قالت: أنفقه على أختي أو أعطيه أختي؟ قال:
لا، اصّدقي به.
الباب المائة في عقوبةِ النائحةِ، والمستمعة لها
عن
أبي مالك الأنصاري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«النائحة إذا لم تتب قبل موتها، بُعثت يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، أو
قال: درع من جرب».
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «تخرج النائحة من قبرها شعثاء
غبراء، عليها درع من جرب، وجلباب من لعنة، واضعة يديها على رأسها تقول: يا ويلتاه،
وملك يقول: آمين، ثم يكون من ذلك حظها من النار».
وعن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه
وسلّمالنائحة والمستمعة».
عن العبادلة عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عباس، وعبد الله
بن الزبير، وعبد الله بن عمر ـــ رضي الله عنهم ـــ أجمعين، قالوا: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلّم «النائحة ومن حولها من امرأة مستمعة عليهم لعنة الله
والملائكة، والناس أجمعين».
وقد روى عمر بن شيبة بإسناد له عن الأوزاعي قال: بلغني أن عمر بن الخطاب ـــ رضي
الله عنه ـــ سمع صوت بكاء في بيت، فدخل ومعه عنزة، فمال عليهم ضرباً حتى بلغ إلى
النائحة، فضربها حتى سقط خمارها، وقال: اضرب فإنها نائحة، ولا حرمة لها، إنها لا
تبكي بشجوكم، إنها تهرق دموعها على أخذ دراهمكم، إنها تؤذي أمواتكم في قبورهم،
وأحياءكم في دورهم، إنها تنهى عن الصبر، وقد أمر الله سبحانه وتعالى به، وتأمر
بالجزع، وقد نهى الله تعالى عنه.
الباب الحادي بعد المائة في ذكر تعذيب الميت بالنياحة
عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «إن الميت
ليعذب في قبره بالنياحة عليه» أخرجاه في «الصحيحين».
وعن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «الميت يعذب ببكاء
الحي عليه، إذا قالت النائحة، وا عضداه وا ناصره، وا كاسياه، جبذ الميت، وقيل له:
أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها؟».
فإذا
قال قائل: ما ذنب الميت؟ فالجواب أن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «إنما مر
رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى قبر يهودي فقال: إن صاحب هذا القبر ليعذب، وأهله
يبكون عليه، ثم قرأت {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164).
ويحتمل أن يكون هذا في حق مَن أوصى بذلك، أو أن يكون التعذيب بذنوبه، ويجعل ذكر ما
يناح به عليه زيادة في توبيخه كقوله: أنت عضدها، أنت كاسيها.
الباب الثاني بعد المائة في نهي النساءِ عنِ اتّباع الجنائز
عن عامر الشعبي عن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: هلك رجل من الأنصار،
قال: فذهبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى الجنازة حتى إذا كان على باب
الدار، ونحن معه، إذا هو بنسوة قعود على باب الدار، فقال: «السلام عليكن»، فقلن:
وعليكم السلام يا رسول الله، فقال لهن: «ما يجلسكن هاهنا؟» قلن: ننتظر هذه
الجنازة، قال: «هل تحملنها فيمن يحمل؟»، قلن: لا، قال: «فهل تدلينها فيمن يدليها
في قبرها؟»، قلن: لا، قال: «فهل تحثين عليها من التراب فيمن يحثى عليها؟»، قلن:
لا، قال: «فارجعن مأزورات غير مأجورات». وقال: «ليس للنساء في الجنازة نصيب».
يعني ليس لهن في اتباع الجنازة أجر.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـــ قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه
وسلّمإذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟»،
قالت: أتيت أهل هذا البيت، فرحِّمتُ إليهم ميِّتهم وعزَّيتهم، قال: «لعلك بلغت
معهم الكُدَى؟» قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما
تذكر، قال: «لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جدُّ أبيك».
وعن
عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه رأى ابنته فاطمة عليها
السلام، فقال لها: «من أين أقبلت يا فاطمة؟»، قالت: أقبلت من وراء جنازة هذا
الرجل، قال: «فهل بلغت معهم الكُدى؟»، قالت: لا، وكيف أبلغها، وقد سمعت منك ما
سمعت؟ قال: «والذي نفسي بيده، لو بلغت معهم الكدى، ما رأيت الجنة حتى يراها جد
أبيك».
قال أبو سليمان الخطابي: الكُدَى جمع كدية وهي القطعة الصلبة من الأرض، يحفر فيها
القبور، قال: وروي الكرى، بالراء، وهي القبور من قولك كريت الأرض إذا حفرتها، وقد
أنكر الأزهري الكرى.
عن أم عطية قالت: نُهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا.j
عن هشام عن حفصة أنها كانت يموت بعض إخوتها، فلا تتبع جنازته إلى المصلى، ولا إلى
المقابر،
وعن علقمة بن قيس قال: امنعوا النساء من اتباع الجنائز، فإن أبين فاقتلوهن
بالحجارة، فإن أبين فضعوا الجنازة.
الباب الثالث بعد المائة في ذكر لعنة زوارات القبور
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمزائرات
القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج.
وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لعن
الله زوارات القبور».
وعنه أيضاً قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمزوارات القبور».
الباب الرابع بعد المائة في ذكر ثوابِ مَن خلَّف ولداً صالحاً
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا مات
الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح
يدعو له».
وفي الحديث: أن العبد ليكسى حلة لا تقوم لها الدنيا، فيقول: بماذا كسيت هذه؟
فيقال: ختم ولدك بعدك القرآن.
وقال
بعض السلف: رأيت في المنام مقبرة وأهلها، قد خرجوا من القبور يلتقطون شيئاً، وفيهم
رجل صالح جالس على قبره، لا يقوم ولا يلتقط، فقلت له: ما هذا الذي يلتقطون؟ فقال:
ترحُّم الناس عليهم. فقلت: وأنت ما لك لا تلتقط معهم؟ فقال: لي ولد صالح يقرأ
القرآن، ويهدي لي ثوابه، فأنا غني بذلك عن الالتقاط معهم، قال: ثم رأيت بعد مدة
تلك المقبرة وأهلها، وهم يلتقطون، وذلك الرجل يلتقط معهم، فسألته عن حاله، فقال:
كنت غنياً بما يبعثه إلي ولدي، والآن فقد مات الولد، فاحتجت أن ألتقط معهم.
الباب الخامس بعد المائة في إحداد المرأة المتوفَّى عنها زوجها
عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «المتوفى عنها زوجُها لا تلبس
المُعَصْفر من الثياب، ولا المُمَشقة، ولا الحُليّ، ولا تختضب، ولا تكتحل».
وعن أسماء بنت عميس قالت: «لما مات جعفر، أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال:
تَسَلّبي ثلاثاً، ثم اصنعي ما شئت».
فصل (في الحِداد ومعناه)
والإحداد واجب في عدّة الوفاة، وهل تجب على البائن، أم لا؟ على روايتين. وسواء في
ذلك المسلمة، والذمية، والصغيرة، والكبيرة، ومعنى الإحداد: الامتناع عن الزينة،
وما يدعو إلى الجماع: كلبس الحلي، والطيب، والخضاب، والحناء، والكحل الأسود،
والكلّكون، وإسفيداج العرائس، والحفاف، والملوّن من الثياب: كالأحمر، والأصفر،
والأخضر الصافي، والأزرق الصافي، فأما الملوّن لدفع الوسخ كالكحلي والأسود فلا
تمنع عنه.
وتعتد التي مات عنها زوجها في المنزل الذي وجبت عليها العدة وهي فيه، إلا أن تدعو
ضرورة إلى خروجها عنه، بأن يحولها مالكه، أو تخشى على نفسها، فتنتقل إلى أقرب ما
يمكنها منه، ويجوز لها الخروج من منزلها نهاراً، ولا يجوز لها ليلاً.
فأما المبتوتة فلا تجب عليها العدة في منزل طلاقها، ولا الانتقال عنه، والاعتداد
في غيره.
فصل
(في الحِداد على غير الزوج)
ولا تحد المرأة على غير الزوج؛ عن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله
عليه وسلّمقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر، وتؤمن بالله ورسوله أن تحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها
تحدُّ عليه أربعة أشهر وعشراً».
وفي «الصحيحين» من حديث زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى
الله عليه وسلّمحين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق، أو
غيره في اليوم الثالث، فدهنت منه جارية، ثم مسَّت بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي
بالطيب حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً».
قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها، فدعت بالطيب، فمسَّت منه، ثم
قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلّميقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا
على زوج أربعة أشهر وعشراً».
الباب السادس بعد المائة في ذكرِ ثوابِ المرأة إذا مَات عنها زوجها واشتغلتْ عنِ
النكاح بتربية أولادها
عن عوف بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «أنا
وامرأة سفعاء الخدين، امرأة آمت من زوجها، فصبرت على ولدها كهاتين في الجنة» رواه
البخاري.
قال المصنف رحمه الله: قلت: ومعنى قوله سفعاء الخدين: أن تركها للأزواج أعرض بها
عن التصنع، فقد صار في خديها كمود.
الباب السابع بعد المائة في ذكر ردِّ المرأة إلى زوجها في الجنَّة إذا لم تتزوَّجْ
بعده
عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «المرأة لآخر
أزواجها».
عن
سلمى بنت جابر أن زوجها استشهد، فأتت عبد الله بن مسعود، فقالت: إني امرأة قد
استشهد زوجي، وخطبني الرجال، فأبيت أن أتزوج حتى ألقاه، فترجو لي إذا اجتمعتُ أنا
وهو أن أكون من أزواجه؟ قال: نعم. فقال له رجل عنده: ما رأيناك فعلت هذا منذ
قاعدناك، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إن أسرع أمتي لحوقاً
بي امرأة من أحمس».
وعن أم الدرداء ـــ رضي الله عنها ـــ أنها قالت: اللهم إن أبا الدرداء خطبني،
فتزوجني في الدنيا، اللهم فأنا أخطبه إليك، فأسألك أن تزوجنيه في الجنة. فقال لها
أبو الدرداء: فإن أردت ذلك، وكنتُ أنا الأول، فلا تتزوجي بعدي. فقالت: لا والله،
لا أتزوج زوجاً في الدنيا حتى أزوج أبا الدرداء إن شاء الله عز وجل في الجنة.
وعن عروة بن رويم اللخمي قال: لما احتضر موسى صلى الله عليه وسلّمقالت له امرأته:
سل الله أن يزوجنيك في الجنة، قال: إن أحببت ذلك، لا تتزوجي بعدي، ولا تأكلي من
رشح جبينك، فكانت تتبرقع بعده للقاط، فإذا رآها الحصادون لم يخالطوها، فإذا أحسَّت
بذلك تركته، وفي رواية أخرى: فإنَّ المرأة لآخر أزواجها.
الباب الثامن بعد المائة في الأمر بالجدِّ والاجتهاد والاستعداد للموت قَبل نزوله
عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من
أحد يموتُ إلا نَدِمَ»، قالوا: فما ندمه يا رسول الله؟ قال: «إن كان محسناً ندم
إلا يكونَ ازدادَ، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نَزَعَ».
وعن طارق بن عبد الله المحاربي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا
طارق، استعد للموت قبل الموت».
الباب التاسع بعد المائة في فضل المرأة الصَّالحةِ وذكر أجْرها
عن
أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «تنكح المرأة
لأربع: لمالها، ولحسنها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك».
أخرجاه في «الصحيحين».
وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلّم «من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة».
وعن عبد الرحمن بن عوف ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلّم «إذا صلَّت المرأةُ خَمْسَها، وصامتْ شَهْرَها، وحَفِظَتْ فَرْجَها، وطاعت
زوجَها، قيل لها: ادخلي الجنةَ، من أي أبواب الجنةِ شئْتِ».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـــ رضي الله عنه ـــ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلّمنه قال: «إنّ الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة».
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الدنيا متاع، وليس من متاع
الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة» انفرد بإخراجه مسلم.
وعن إسماعيل بن محمد بن سعد أبي وقاص ـــ رضي الله عنه ـــ، عن أبيه عن جده قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقوة ابن آدم
ثلاثة. من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح. ومن
شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء».
عن يعلى بن منية أن رجلاً كانت له امرأة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وكانت امرأة صالحة، وكانت إذا دخل عليها قالت: مرحباً بسيدها وسيد أهل بيتها، إن
كان همُّك لآخرتك فزادك الله همّاً، وإن كان همّك الدنيا فإن الله عز وجل سيرزقك
ويحسن إليك. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفأخبره فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلّم «لها نصف أجر المجاهد في سبيل الله، وهي عامل من عمال الله».
وعن
كثير بن مرة عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن فجور المرأة
الفاجرة كفجور ألف فاجر، وإن برّ المرأة المؤمنة كعمل سبعين صديقاً».
وعن كعب بن عجرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«ألا أُخبرُكم برجالكم من أهل الجنة؟»، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «النَبيُّ في
الجنَّةِ، والصدِّيقُ في الجنة، والشهيدُ في الجنة، والرجلُ يزورُ أخاهُ في جانب
المِصرِ في الله في الجنة، ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟»، قلنا: بلى يا رسول
الله، قال: «الودود، الولود، العوود، التي إن هي ظلمت قالت: هذه يدي في يدك لا
أذوق غمضاً حتى ترضى».
عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي ـــ عليهم السلام ـــ عن النبي صلى
الله عليه وسلّمأنه قال: «ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟»، قالوا: بلى يا رسول
الله قال: «الودود الولود العوود التي إن أغضبته أو غضبت قالت: يدي في يدك لا
أكتحل غمضاً حتى ترضى عني».
وعن عليّ ـــ عليه السلام ـــ قال: النساء أربع: القرثع، والوعوع، وغل لا ينزع،
وجامعة تجمع. فأما القرثع، فالسمحة، وأما الوعوع: فالصَّخّابة، وأما الغل الذي لا
ينزع: فالمرأة السوء للرجل منها أولاد، لا يدري كيف يتخلص، وأما الجامعة التي
تجمع: فهي التي تجمع الشمل، وتلمّ الشعث.
وعن زيد بن مرّة قال: «المرأة الفاجرة كألف فاجر، والمرأة الصالحة يكتب لها عمل
مائة صدّيق».
وقال زيد بن أسلم: «مثل المرأة التي تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ولا توطىء فراشها
أحداً، مثل المجاهد في سبيل الله».
وعن محمد بن واسع ـــ رحمه الله ـــ قال: قال مسلم بن يسار: «ما غبطت رجلاً بشيء
ما غبطته بثلاث: زوجة صالحة، وبجار صالح، وبمسكن واسع».
الباب العاشر بعد المائة في ذكرِ أعيانِ النساء المتقدِّمات في الشَّرَف،
والفضْلِ، والعلم
اعلم
أنه إذا ذُكر مَن له فضل من الجنس كان تحريضاً للعازم، وتوبيخاً للمتكاسل،
وتعليماً للمسترشد، وأنا أذكر من أعيان النساء المتقدمات في الفضائل، فأبتدىء بذكر
جماعة من القدماء، ثم من نختار ذكره من الصحابيات، ثم أذكر جماعة من الفاضلات بشرف
أو علم، أو تعبّد، أو كرم، والله الموفق.
ذكر جماعة من القدماء
1 ـــ سارة زوج إبراهيم الخليل ـــ عليه السلام ـــ:
لما خلص إبراهيم عليه السلام من النار آمن به جماعة لما رأوا من تلك الآية، منهم:
سارة وهي ابنة عمّه، فتزوجها، وعمّه اسمه هاران، وهو الذي بنى مدينة حران، وإليه
تنسب.
وقال السدّي: كانت سارة بنت ملك، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها إبراهيم
على أن لا يغيّرها، وخرج بها من حران حتى قدم مصر، وبها فرعون من الفراعنة الأول،
وكانت من أحسن الناس، فوصفت لفرعون فبعث فطلبها.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «دخل إبراهيم قرية فيها ملك
من الملوك، أو جبَّارٌ من الجبابرة فقيلَ: دخلَ إبراهيم الليلة بامرأةٍ من أحسن
الناس، قال: فأرسل إليه الملك من هذه معك؟ قال: أختي، قال: أرسل بها، قال: فأرسل
بها إليه، وقال لها: لا تُكَذِّبي حديثي، فإني قد أخبرته بأنك أختي، والله ليس على
الأرض مؤمن غيري وغيرُك.
قال: فلما دخلت إليه، قام إليها، قال: فأقبلت تتوضَّأ وتُصلي، وتقول: اللهم إن كنت
تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي، إلا على زوجي، فلا تُسلِّط عليَّ الكافر.
قال: فغُطَّ حتى رَكَض برجله.
قال
أبو الزناد، قال: أبو سلمة، عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أنها قالت: اللَّهم
إنْ يَمُتْ يقل هي قَتَلَتْهُ، قال: فأُرسِلَ، ثم قامَ إليها فقامت، تتوضأ وتُصلي
وتقول: اللهم إن كنت تعلم أني آمنتُ بك وبرسولك، وأحصنت فرجي، إلا على زوجي، فلا
تُسَلِّطْ عليّ هذا الكافر، قال: فغُط حتى ركض الأرض برجله، فقال في الثالثة أو
الرابعة: ما أرسلتم إليّ إلا شيطاناً، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر،
فَرَجَعت إلى إبراهيم، فقالت لإبراهيم: أَشعَرتَ أَنَّ اللَّه ـــ عز وجل ـــ ردّ
كيد الكافر، وأخْدَمَ وَليدةً».
قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ: توفّيت سارة بالشام وهي بنت مائة وسبع وعشرين سنة.
2 ـــ آسية بنت مزاحم:
آمنت بموسى عليه السلام ـــ فعلم فرعون فعذبها، قال أبو هريرة ـــ رضي الله عنه: «ضرب
فرعون أوتاداً في يديها ورجليها، فكانوا إذا تفرقوا عنها، أظلتها الملائكة، فقالت:
{رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ} (التحريم: 11)، فكشف الله لها عن
بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها».
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
«أفضلُ نساء أهل الجنة خديجةُ بنتُ خُويلدٍ، وفاطمةُ بنتُ محمد، ومريمُ بنتُ
عِمْرانَ، وآسيةُ بنت مُزَاحمٍ».
3 ـــ ماشطة بنت فرعون:
عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّملما أُسِري
به، مرت به رائحةٌ طيبةٌ، فقال: يا جبريل، ما هذه الرائحة؟ قال: (هذه رائحة) ماشطة
ابنة فرعون وأولادها، كانت تمشطها، فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله. فقالت
ابنة فرعون: أبي؟، قالت: لا، بل ربي ورب أبيك. قالت: أُخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم،
فأخبرته، فدعا بها وبولدها.
فقالت: إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟، قالت: أن تجمع عظامي، وعظام ولدي، فتدفنها
جميعاً.
قال:
ذلك لك علينا من الحق، قال: فألقي ولدها واحداً واحداً حتى إذا كان آخر ولدها،
وكان صبياً مرضعاً قال: اصبري يا أماه، إنك على الحق، ثم ألقيت مع ولدها».
4 ـــ مريم بنت عمران:
كانت أمها حنّة قد رأت طائراً يزق فرخة، فحنّت إلى ولد، فحملت مريم، فجعلت حملها
محرراً للكنيسة، فلما وضعت مريم كفلها زكريا، فكان يرى عندها فواكه الصيف في
الشتاء، وفواكه الشتاء في الصيف، فيقول: أنَّى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله،
فلما بلغت خرجت تستعذب الماء من مغارة، فإذا جبريل ـــ عليه السلام ـــ فنفخ في
جيبها نفخة، فحملت بعيسى عليه السلام.
قال ابن عباس: حين حملت وضعت صبيحة ثمانية أشهر، وقال الحسن: تسع ساعات، وعاشت بعد
رفع عيسى ست سنين، وكان عمرها نيفاً وخمسين سنة.
5 ـــ زرقاء اليمامة:
وبها سمي بلدها باليمامة، وهي من بنات لقمان بن عاد، وكانت أبصر الخلق، وقصدهم جيش
حسَّان بن تبّع، فبقي بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام، فأبصرتهم، وقد حمل كل رجل
منهم شجرة، فقالت: أقسم بالله، لقد أرى رجلاً ينهش كتفاً، أو يخصف نعلاً، فكذبوها،
فلم يستعدوا حتى صبحهم حسان فاجتاحهم، فأخذها، فشق عينيها، فإذا فيها عروق من
الإثمد، وبنظر هذه المرأة يضرب المثل.
وكانت قد نظرت إلى سرب من حمام طائر فيه ست وستون حمامة، وعندها حمامة واحدة،
فقالت: ليت الحمام إلى حمامتنا، ونصفه قد به تم الحمام مائة.
فقال النابغة، يخاطب النعمان:
فَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إذ نظرتْ
إلى حَمَامٍ سراعٍ واردِ الثَّمدِ
قالت: ألا ليتما هذا الحمامَ، لنا
إلى حمامتِنا، أو نصفَه فَقَدِ
وأراد بقوله فاحكم: أي كنْ حكيماً.
فائدة: من بني إسرائيل
عن
وهب بن منبِّه قال: أُتي بامرأة من بني إسرائيل، يُقال لها سارة، وسبع بنين لها
إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، فدعا أكبرهم فقرّب إليه لحم خنزير
فقال: كل، قال: ما كنت لآكل شيئاً حرّمه الله عز وجل عليّ أبداً. فأمر به، فقطع
يديه ورجليه، وقطعه عضواً عضواً، حتى قتله.
ثم دعا بالذي يليه فقال: كل، فقال: ما كنت لآكل شيئاً حرّمه الله تعالى عليّ، فأمر
بقدر من نحاس فَمُلِئَتْ زيتاً، ثم أُغليت، حتى إذا غلت ألقاه فيها.
ثم دعا بالذي يليه فقال: كل، قال: أنت أذلّ وأهون على الله من أن آكل شيئاً حرّمه
الله عليّ. فضحك الملك، وقال: أتدرون ما أراد بسبه إياي؟ أراد أن يغضبني، فأعجل في
قتله، وليخطئنه ذلك، وأمر به فَحزَّ جلد عنقه، ثم أمر به أن يسلخوا جلد رأسه
ووجهه، فسلخوه سلخاً.
فلم يزل يقتل كل واحد منهم بلون غير قتل أخيه حتى بقي أصغرهم، فالتفت إليه وإلى
أمه، فقال لها: لقد أريت لك مما أريت، فانطلقي بابنك هذا، فاخلي به وأريديه على أن
يأكل لقمة واحدة فيعش لك.
قالت: نعم، فخلت به، فقالت: أي بني إنّه كان لي على كل رجل من أخوتك حق، ولي عليك
حقان، وذلك أني أرضعتُ كل رجل منهم حولين، فمات أبوك، وأنت حمل، فنفست بك، فأرضعتك
لضعفك ولرحمتي لك أربعة أحوال، فأسألك بالله، وحقي عليك لما صبرت، ولم تأكل شيئاً
مما حرّم الله عليك، ولا تلقينَّ إخوتك يوم القيامة ولستَ معهم.
قال:
الحمد لله الذي أسمعني هذا منك، فإنما كنتُ أخاف أن تريديني على أن آكل مما حرّم
الله عليّ. ثم جاءت به إلى الملك فقالت: ها هو ذا قد أردته، وعرضت عليه، فأمره
الملك أن يأكل، فقال: ما كنت لآكل شيئاً حرّمه الله تعالى، فقتله، وألحقه بإخوته،
وقال لأمهم: إني أجدني أرثي لك مما رأيت اليوم، ويحكِ فكلي لقمة، ثم أصنع بك ما
شئت، وأعطيك ما أحببت تعيشين به. قال: أجمع بين ثكل ولدي ومعصية الله فلو حييت
بعدهم ما أردت ذلك، وما كنت لآكل شيئاً حرّمه الله عليّ أبداً. فقتلها، وألحقها ببنيها.
ذكر فائدة أخرى من بني إسرائيل
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: بلغني أن عابداً كان في زمن بني إسرائيل يتعبَّد،
فأُتيَ في منامه، فقيل: إن فلانة زوجتك في الجنة، قال: فلانة وما عملها؟ فجاءها،
فقال لها: إني قد أحببت أن أضيفك ثلاثة أيام ولياليهن، فقالت: بالرحب والسعة.
قال: فكان عندها ثلاثاً، يبيت قائماً، وتبيت نائمة، ويصبح صائماً، وتصبح مفطرة،
فلما مضت قال: ما لك عمل غير هذا؟. ما أوثق عملك عندك؟ فقالت: لا والله يا أخي ما
هو إلا ما رأيت، إلا خصلة واحدة. قال: وما تلك الخصلة؟ قالت: إن كنتُ في شدّة لم
أتمنَّ أني في رخاء، وإن كنتُ جائعة لم أتمنَّ أني شبعانة، وإن كنت في شمس لم
أتمنَّ أن أكون في فيء، وإن كنتُ في فيء لم أتمنَّ أن أكون في شمس، وإن كنت في مرض
لم أتمنَّ أني في صحة. قال: وأي خصلة هذه والله يعجز عنها العباد؟.
6 ـــ بنت أوس بن حارثة الطائي:
قال
الحارث بن عوف لخارجة بن سنان: أتراني أخطب إلى أحد فيردني؟ فقال لغلامه: ارحل
بنا، فركبا حتى انتهيا إلى أوس، فلما رأى الحارث بن عوف قال: مرحباً بك يا حارث،
وما جاء بك؟ قال: جئتك خاطباً، قال: لست هناك، فانصرف، ولم يكلّمه، ودخل أوس على
امرأته مغضباً، وكانت من بني عبس، فقالت: من رجل وقف عليك فلم يطل؟ قال: ذاك سيد
العرب، الحارث بن عوف، قالت: فما لك لم تستفز له.
قال: إنه استحمق، جاءني خاطباً، قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان
ذلك، قالت: فتدارك ما كان منك. قال: بماذا؟ قالت: أن تلحقه فترده وتقول: إنك
لقيتني، وأنا مغضب، فلحقه، فقال له ذلك: فرجع مسروراً.
فقال أوس لزوجته: ادعي أكبر بناتي. فأتته، فقال: يا بنيّة هذا الحارث بن عوف سيد
من سادات العرب قد جاءني خاطباً، وأراد أن أزوجك منه.
قالت: لا تفعل فإني لست بابنة عمّه فيرعني حقي، وليس بجارك فيستحي منك، ولا آمن أن
يرى مني ما يكره فيطلقني. فدعا الوسطى فأجابت بمثل ذلك، فدعا الصغيرة فأخبرها،
فقالت: لكني والله الجميلة الوجه، الصناع يداً، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه
بخير. فخرج إليه، فقال: قد زوجتك بهية بنت أوس، فأمر أمها أن تهيئها، ثم أمر ببيت
فضرب له.
قال خارجة: فخرج إلينا، فقلنا له: أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله، قلت: كيف؟ قال:
لما مددت يدي إليها، قالت: مَهْ أعند أهلي وأخوتي؟ هذا والله ما لا يكون.
فارتحلنا، فسرنا ما شاء الله، ثم عدل بها عن الطريق، ثم لحقناه، فقلت: أفرغت؟ قال:
لا والله، قلت: ولِمَ؟ قالت: أو كما يفعل بالأمة والسبية، لا والله حتى تنحر
الجزور، وتذبح الغنم، وتدعو العرب، وتعمل ما تعمل بمثلي.
قالت:
قلت: إني والله لأرى همَّة وعقلاً، فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل والغنم،
ثم دخل عليها، ثم خرج، فقلت: أفرغت؟ قال: لا، قلت: ولِمَ؟ قال: دخلت عليها، فقلت:
قد أحضرنا من المال ما تريدين، فقالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك،
قلت: فكيف؟ قالت: أتفرغ لنكاح النساء، والعرب تقتل بعضها بعضاً؟ وذلك في أيام حرب
عبس وذبيان، قلت: فتقولين ماذا؟ قالت: أخرج إلى هؤلاء القوم، فأصلح بينهم، ثم ارجع
إلى أهلك فلن يفوتوك.
قلت: والله إني لأرى همَّة وعقلاً، فخرجنا حتى أصلحنا بينهم، وحملنا عنهم الديات،
وكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين، فانصرفنا بأجمل الذكر، فقال زهير بن أبي
سُلمى في ذلك:
تَدَاركْتُمَا عَبْساً، وذبيانَ بَعْدَما
تَفَانَوا، ودقُّوا بينَهم عِطْرَ مَنْشَمِ
ذكر من نختار ذكرها من الصحابيات
1 ـــ ذكر خديجة ـــ رضي الله عنها ـــ:
عن إسماعيل بن أبي خالد عن ابن أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول:
«بشر خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب».
عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت علياً ـــ عليه السلام ـــ يقول عن رسول الله صلى
الله عليه وسلّمقال: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة».
وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلّملا يكاد
يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن عليها الثناء، فذكرها يوماً من الأيام،
فأذكرتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أخلف الله لك خيراً منها؟ قالت:
فغضب حتى اهتزّ مقدم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله، وما أخلف الله لي خيراً
منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها، إذ
حرمني الناس، ورزقني الله أولادها، إذ حرمني أولاد النساء»، قالت: فقلت بيني وبين
نفسي: لا أذكرها بسوء أبداً.
2 ـــ ذكر فاطمة عليها السلام:
قال
علي ـــ عليه السلام ـــ: «لقد تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام
عليه بالليل، ونضعه على الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها، ولما زوجها رسول
الله صلى الله عليه وسلّمبي بعث معها بخميلة، ووسادة أدم حشوها ليف، ورحائين،
وسقاء، وجرتين، فجرّت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة
بنحرها، وقمّت البيت حتى أغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها».
3 ـــ ذكر عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ:
عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أنها قالت: يا رسول الله ألا تُكنّيني قال: «تكني
بابنك»، يعني عبد الله بن الزبير، فكانت تُكنى أم عبد الله».
ذكر رؤية عائشة جبريل عليه السلام:
عن أبي سلمة قال: قالت عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلّمواضعاً يده على معرفة
فرس دحية الكلبي، وهو يكلمه، قالت: قلت: يا رسول الله، رأيتك واضعاً يدك على معرفة
فرس، وأنت تكلمه. قال: أوَ رأيته؟ قلت: نعم. قال: «ذاك جبريل، هو يقرئك السلام»،
قالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، جزاه الله من صاحب ودخيل خيراً، فنعم
الصاحب، ونِعم الدخيل، قال سفيان: الدخيل: الضيف.
ذكر تعبُّد عائشة واجتهادها:
عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه حدّثه أن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ كانت تصوم
الدهر ولا تفطر، إلا يوم أضحى، أو يوم فطر.
وعن القاسم قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة، وأسلِّم عليها، فغدوت يوماً، فإذا
هي قائمة تُسبح، وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَنَا عَذَابَ السَّمُومِ
} (الطور: 27)، وتدعو، وتبكي، وترددها، فقمت حتى مللت، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم
رجعت، فإذا هي قائمة كما هي، تصلي، وتبكي.
ذكر كرم عائشة رضي الله عنها:
عن
عبد الله بن الزبير ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة
وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء، حتى إذا اجتمع
عندها قسمت، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد.
ذكر مدح ابن عبَّاس لأم المؤمنين عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ:
عن عبد الله بن أبي مليكة أنه حدّثه ذكوان حاجب عائشة أنه جاء عبد الله بن عباس
يستأذن على عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ فجئت وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن
عبد الرحمن، فقلت: هذا ابن عباس يستأذن. فأكب عليها ابن أخيها عبد الله، فقال عبد
الله: هذا ابن عباس، وهي تموت.
فقالت: دعني من ابن عباس، فقال لها: يا أماه إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلِّم
عليك ويودِّعك. فقالت: أئذن له إن شئت، فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري، فما بينك
وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلّموالأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنتِ
أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يكن
رسول الله صلى الله عليه وسلّميحبّ إلا طيِّباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبْواء،
فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّمحتى تصبح في المنزل، وأصبح الناس ليس معهم
ماء، فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} (النساء: 43)، وكان
ذلك في سبيلك، وما أنزل لهذه الأمة من الرخصة، وأنزل براءتك من فوق سبع سموات جاء
بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه، إلا تتلى فيه آناء
الليل وآناء النهار، فقالت: دعني منك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت
نسياً منسياً.
4 ـــ ذكر حفصة بنت عمر ـــ رضي الله عنها ـــ:
قال المصنف رحمه الله: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعد غزوة بدر، ثم إنه
طلقها، فقال له جبريل: راجع حفصة، فإنها صوّامة قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة، وفي
رواية أراد أن يطلقها، فقال له جبريل ذلك.
5 ـــ
ذكر زينب ـــ رضي الله عنها ـــ:
عن أنس بن مالك قال: كانت زينب بنت جحش تفخر على نساء النبي صلى الله عليه
وسلّمتقول: إنَّ الله أنكحني من السماء، وأطعم عليها يومئذ خبزاً ولحماً. قال:
وكان القوم جلوساً في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم فلبث هنيهة، فرجع،
والقوم جلوس، فشقَّ ذلك عليه، وعرف في وجهه ذلك، فنزلت آية الحجاب.
6 ـــ ذكر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم
عن ثابت قال: حدثني ابن أم سلمة أن أبا سلمة جاء إلى أم سلمة فقال: لقد سمعت من
رسول الله صلى الله عليه وسلّمحديثاً أحب إليّ من كذا، لا أدري ما عدل به، سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «لا تصيب أحداً مصيبة فيسترجع عند ذلك، ويقول:
اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه، اللهم أخلفني فيها خيراً منها، إلا أعطاه الله عز
وجل».
قالت أم سلمة: فلما أُصبت بأبي سلمة، قلت: اللهم أخلفني فيها بخير منها، ثم قالت:
من خير من أبي سلمة أَلَيْس أَلَيْس، ثم قالت ذلك، فلما انقضت عدتها أرسل إليها
أبو بكر يخطبها فأبت، ثم أرسل إليها عمر يخطبها فأبت.
ثم أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلّميخطبها، فقالت: مرحباً برسول الله،
إنّ فيّ خلالاً ثلاثة، أنا امرأة شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية، وأنا امرأة ليس
لي هاهنا أحد من أوليائي فيزوجني. فغضب عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلّمأشد مما
غضب لنفسه حين ردَّته، فأتاها عمر رضي الله عنه، فقال: أنت التي تردّين رسول الله
صلى الله عليه وسلّمبما تردّينه؟ فقالت: يا ابن الخطاب بي كذا وكذا.
فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله
عز وجل أن يُذهبها عنك، وأما ما ذكرتِ من صبيتك فإنَّ الله عز وجل سيكفيكهم، وأما
ما ذكرت أنه ليس من أوليائك أحد شاهد، فليس من أوليائك أحد شاهد، ولا غائب يكرهني».
فقالت لابنها: زوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فزوَّجه.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أما إني لم أنقصك مما أعطيت فلانة، قال ثابت: قلت
لابن أم سلمة: ما أعطى فلانة؟ قال: أعطاها جرتين تضع فيهما حاجتها، ورحى ووسادة من
أدم حشوها ليف، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أقبل رسول الله صلى
الله عليه وسلّميأتيها، فلما رأته وضعت زينب أصغر ولدها في حجرها.
فلما رآها انصرف، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّميأتيها، فوضعتها في حجرها،
وأقبل عمار مسرعاً بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم فانتزعها من حجرها، وقال:
هاتي هذه المشقوحة التي قد منعت رسول الله صلى الله عليه وسلّمحاجته. فجاء رسول
الله صلى الله عليه وسلّم فلم يرها في حجرها، قال: أين زينب؟ قالت: أخذها عمار،
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى أهله. قال: «وكانت في النساء كأنها ليست
فيهن، لا تجد ما تجدن من الغيرة».
7 ـــ ذكر صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلّم
عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأتى بصفية يوم خيبر، وأتى برجلين:
أحدهما زوجها، والآخر أخوها، وقد كان أعطاهما الأمان على أن لا يكتما شيئاً، فإن
كتماه استحلَّ دماءهما، فأما أحدهما فصدّقه ولم يكتمه، وأما كنانة وهو زوج صفية،
فكتمه مسك الجمل، وكان فيه حلي كثير، كان بعيره من غطفان، ويرتهن به الرهان، فقال:
يا كنانة، إنك قد أعطيتني ألا تكتمني شيئاً، قال: أجل، قال: فأين مسك الجمل؟ قال:
ما كتمتك شيئاً، فأتاه جبريل ـــ عليه السلام ـــ فأخبره بمكانه، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلّملأصحابه: اذهبوا فإنه في مكان كذا وكذا، فلما أتى به أمر بهما،
فضربت أعناقهما.
وقال
لبلال: خذ بيد صفية، فأخذ بيدها، فمرّ بها بين القتيلين، فكره ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلّمحتى رؤي في وجهه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلّمفدخل عليها،
فنزعت شيئاً كانت عليه جالسة، فألقته لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم خيَّرها
بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختارُ
الله ورسوله. فلما قالت ذلك، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلّمالناس أن انصرفوا
عن أمكم، فلما كان عشية زواجه أحقب بعيره، ثم خرجت معه تمشي حتى ثنى لها ركبته صلى
الله عليه وسلّمعلى فخذه، فأجلَّت رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن تضع قدمها على
فخذه، فوضعت ركبتها على فخذه، فركبت، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلّم فألقى
عليها كساء، ثم سارا.
وقال المسلمون حجبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى إذا كان على ستة أميال من
خيبر مال يريد أن يعرّس بها، فأبت صفية، فوجد النبي صلى الله عليه وسلّمعليها في
نفسه، فلما كان بالصهباء مال إلى دومة هناك، فطاوعته، فقال لها: ما حملك على إبائك
حين أردتُ المنزل الأول؟ قالت: يا رسول الله، خشيت عليك قرب اليهود. فأعرس بها
رسول الله صلى الله عليه وسلّمبالصهباء، واغتسل بالقصيبة على رأس ستة أميال، قال:
وبات أبو أيوب ليلة يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدور حول خباء رسول الله
صلى الله عليه وسلّم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّمالوطء، قال: من هذا؟
قال: أنا خالد بن زيد، فرجع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّموقال له: ما لك؟
قال: ما نمت هذه الليلة مخافة هذه الجارية عليك. فأمره رسول الله صلى الله عليه
وسلّمفرجع».
8 ـــ ذكر أم سليم:
عن أنس بن مالك قال: «خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: ما مثلك يرد، ولكن لا يحل لي أن
أتزوجك يا أبا طلحة، وأنت كافر، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره، فأسلم،
فتزوجها.
قال
ثابت: فما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم، الإسلام.
وعن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّميدخل على أم
سليم، فتبسط له النطع، فيقيل عندها، فتأخذ من عرقه، فتجعله في طيبها».
وعن أنس أن أبا طلحة زوج أم سليم كان له ابن منها يقال له حفص، غلام قد ترعرع،
فأصبح أبو طلحة وهو صايم في بعض شغله، فأقبلت أم سليم على ذات بيتها، فخرج الغلام
يلعب مع الصبيان، فلما جاء الغلام الغداة اضطجع على فراش مزمل قطيفة، فلما صنعت أم
سليم غداء بيتها، جعلت تصرخ تناديه، فلا يستجيب لها، فلما رأت هذا شأنه، كشفت عن
وجهه، فوجدته قد قبض في منامه، فزمَّلته كهيئته، وأقبلت على ذات بيتها، حتى إذا
أمست جاء زوجها أبو طلحة، فقربت له فطره، فقال: ادعي لي ابني حفصاً يأكل معي،
قالت: إنه قد فرغ. فلما فرغ الشيخ من فطره دنت منه، حتى إذا أصاب ما يصيب الرجل من
أهله وفرغ، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن رجلاً أعارك عارية، فاستمتعت بها
زماناً، وقرت بها عينك، ثم بدا له أن ينتزعها منك، أكنت واجداً عليه في نفسك؟ قال:
لا وأبيك إذاً لقد ظلمت.
قالت:
فإنَّ ابنك حفصاً أعاركه الله عز وجل ما شاء، ثم قد بدا له أن ينتزعه، وهو أحق به.
قال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رجِعونَ} (البقرة: 156)، ثم قاما فجهّزاه
حتى فرغا منه، فلما أصبحا ذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: اللهم
بارك لهما في ليلتهما، فحملت فجاءت بغلام فلما نفست قالت لابنها أنس بن مالك: أي
بني، احمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّمفليحنِّكه، وليسمّه. قالت: فاحتمله
أنس ـــ رضي الله عنه ـــ إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفي خرقة حتى طلع به إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد فقال: أنفست أم سليم؟ قال: نعم،
وقد أرسلت به إليك لتحنّكه وتسميه. فسمّاه عبد الله، وأخذ تمرة فمضعها فلاكها في
فيه فحنكه بها، فجعل الصبي يتلمظ حين وجد حلاوة التمر، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلّم «حب الأنصار التمر».
9 ـــ ذكر أم حرام بنت ملحان:
عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ـــ رضي الله عنه ـــ أنه سمعه يقول:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميدخل على أم حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أم
حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّميوماً
فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلّمثم استيقظ، وهو
يضحك.
قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله،
يركبون ثبج البحر، ملوكاً على الأسرّة أو مثل الملوك على الأسرة ـــ يشكّ أيهما
قال ـــ قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله ـــ عز وجل ـــ أن يجعلني منهم. قال:
أنتِ من الأولين، فركبتْ أم حرام البحر زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من
البحر فهلكت».
10 ـــ ذكر أسماء بنت أبي بكر ـــ رضي الله عنها ـــ:
أسلمت قديماً، وهي ذات النطاقين، وكانت تمرِّض المرضى، فتعتق كل مملوك لها، وتوفيت
بعد ابنها عبد الله بن الزبير بليال.
عن
هشام عن أبيه قال: دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء قبل قتل عبد الله بعشر
ليال، وأسماء وجعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعة، قال: إن في الموت
راحة. فقالت: لعلك تشتهي موتي فلذلك تتمنَّاه، فلا تفعل، فوالله ما أشتهي أن أموت
حتى يأتي على أحد طرفيك، إما أن تُقتل فأحتسبك، وإمّا أن تظفر فتقرَّ عيني، فإياك
أن تعرض عليك خطة فلا توافقك، فتقبلها كراهية الموت.
وإنما عني ابن الزبير أن يقتل، فيحزنها ذلك.
11 ـــ ذكر الربيع بنت معوذ بن عفراء:
عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت: «كنا نغزو مع رسول الله صلى
الله عليه وسلّم فنخدم القوم، ونسقيهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة».
12 ـــ ذكر أم الدحداح:
عن أنس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلّمفقال: يا رسول الله، إنَّ لفلان
نخلة، وإنما قوام حائطي بها، فأمُرْه أن يعطيني حتى أقيم بها حائطي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أعطها إياه بنخلة في الجنة» فأبى، فأتى أبو
الدحداح الرجل فقال: بعني نخلتك بحائطي. ففعل، فأتى أبو الدحداح النبي صلى الله
عليه وسلّمفقال: يا رسول الله، إني قد ابتعتُ النخلة بحائطي، فاجعلها له فقد
أعطيتكها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة»،
قالها مراراً.
فأتى أبو الدحداح امرأته، فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فقد بعته بنخلة
في الجنة. فقالت: ربح البيع ربح البيع، أو كلمة تشبهها.
13 ـــ ذكر أم عطية:
عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: «غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلّمسَبْعَ
غزوات، وكنت أخلُفُهم في الرحال، وأصنع لهم الطعام، وأقوم على المرضى، وأداوي
الجرحى».
14 ـــ ذكر أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط:
عن أبي إسحاق بن شهاب قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في مدة الحديبية،
فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلّم
قال
الحربي: وحدثنا محمد بن صالح عن محمد بن عمر عن ربيعة بن عثمان وقدامة، قالا: لا
نعلم قرشية خرجت من بين أبويها مسلمة مهاجرة إلا أم كلثوم.
قالت: كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي، ولا ينكرون ذهابي البادية حتى أجمعت
المسير، فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية، فلما رجع من معي، إذا رجل من
خزاعة، قال: أين تريدين؟ قلت: ما مسألتك، مَنْ أنت؟ قال: رجل من خزاعة، فلما ذكر
خزاعة اطمأنت إليه لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّموعقده، فقلت:
إني امرأة من قريش، وإني أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا علم لي
بالطريق. فقال: أنا صاحبك حتى أوردك المدينة.
ثم جاءني ببعير فركبته، فكان يقود لي البعير، ولا والله ما يكلمني بكلمة حتى إذا
أناخ البعير تنحّى عني، فإذا نزلت، جاء إلى البعير، فقيّده بالشجرة، وتنحّى إلى
فيء شجرة، حتى إذا كان الرواح أخرج البعير فقرَّبه، وولَّى عني، فإذا ركبتُ، أخذ
برأسه، فلم يلتفت وراءه حتى أنْزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله من
صاحب خيراً، فدخلت على أم سليم، وأنا متنقبة فما عرفتني، حتى انتسبت، وكشفت
النقاب، فالتزمتني، وقالت: هاجرت إلى الله ورسوله، قلت: نعم، وأنا أخاف كما ردّ
أبا جندل، وأبا بصير، وحال الرجل ليس كحال النساء، والقوم مصبِّحي، قد طالت غيبتي
عنهم، اليوم خمسة أيام منذ فارقتهم، وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب، ثم يطلبوني، فإن
لم يجدوني رحلوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى أم سليم، فأخبرته خبر أم
كلثوم، فرحّب وسهّل.
فقلت:
إني قد فررت إليك بديني، فامنعني ولا تردني لهم، يفتنوني ويعذبوني، ولا صبر لي على
العذاب، إنما أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعرف، وقد رأيتك رددت رجلين حتى امتنع
أحدهما، فقال: إن الله ـــ عز وجل ـــ قد نقض العهد في النساء، وحكم في ذلك بحكم
رضوه كلهم، فكان يردّ من جاء من الرجال، ولا يردّ النساء، فقدم أخواها الوليد
وعمارة من الغد.
فقالا: أوف لنا بشرطنا، وما عاهدتنا عليه. قال: «قد نقض الله ذلك»، فانصرفا.
قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وكانت أم كلثوم عاتقاً حينئذ، فلما هاجرت تزوجت
زيد بن حارثة، فقتل عنها، فتزوجها الزبير، فولدت له زينب، ثم تزوجها عبد الرحمن بن
عوف، فولدت له إبراهيم وحميداً، ثم تزوجها عمرو بن العاص فماتت عنده.
15 ـــ ذكر امرأة من المهاجرات:
عن أنس ـــ رضي الله عنه ـــ قال: «دخلنا على رجل من الأنصار، وهو مريض مقبل، فلم
نبرح حتى مات، فبسطنا عليه ثوبه، وأم له عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها
بعضُنا، فقال: يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله، قالت: وما ذاك، مات ابني؟ قلنا:
نعم، قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم، فمدّت يدها إلى الله ـــ عز وجل ـــ فقالت:
اللهم إنك تعلم أني أسلمت، وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعينني عند كل شدة ورخاء، فلا
تحملن عليّ هذه المصيبة اليوم، قال: فكشف الثوب عن وجهه، فما برحنا حتى طعمنا معه»
لفظ ابن المهدي.
16 ـــ امرأة أخرى من المهاجرات:
عن ابن سيرين أن أبا بكر ـــ رضي الله عنه ـــ أتى بمال فقسَّمه بين الناس، فبعث
منه إلى امرأة من المهاجرات، فلما أُتيتْ به قالت: ما هذا؟ قالوا: أبو بكر جاءه
مال، فقسَّمه في الناس، فقسم منه في نظرائك، فقالت: أتخافونني أن أدع الإسلام؟
قالوا: لا، قالت: أفترشونني على ديني؟ قالوا: لا، قالت: لا حاجة لي فيه.
17 ـــ اليمنية:
عن
أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: جاءت امرأة من اليمن إلى النبي صلى الله عليه
وسلّمفقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني، قال: «إنْ شئت دعوت لك، وإن شئت
فاصبري، ولا حساب عليك»، قالت: بل أصبر، ولا حساب عليَّ ـــ رحمها الله.
ذكر جماعة من الفاضلات بعد الصحابيات بشرف أو علم أو تعبُّد أو كرم
1 ـــ عابدة من أهل المدينة:
عن عبد الله بن أسلم عن أبيه عن جده قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب ـــ رضي الله
عنه ـــ وهو يعسّ المدينة إذ أعيا، فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة
تقول لابنتها: يا ابنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء.
فقالت: يا أمتاه وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم. قالت: وما كان من
عزمته يا بنيّة؟ قالت: إنه أمر منادياً، فنادى ألا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها:
يا بنيّة قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك في موضع لا يراك عمر.
فقالت الصبية لأمها: ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء. وعمر يسمع ذلك،
فقال: يا أسلم علِّم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في عشيّته، فلما أصبح، قال: يا
أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعل.
قال: فأتيت الموضع، فنظرت، فإذا الجارية أيِّم، وإذا تلك أمها: وإذا ليس لهم رجل،
فأتيت عمر فأخبرته، فدعا ولده فجمعهم، قال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوِّجه؟
ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية.h
فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: لا زوجة لي،
فزوجني. فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتاً، وولدت البنت عمر بن
عبد العزيز.
2 ـــ ذكر زوجة شريح القاضي:
قال
الشعبي: قال لي شريح عليكم بنساء بني تميم، فإنهن النساء. قلت: كيف؟ قال: انصرفت
من جنازة يوماً، فمررت بدور بني تميم، فإذا امرأة جالسة على وسادة، وتجاهها جارية
زؤود لها ذؤابة، فأعجبتني فقلت: من هذه؟ قالت: ابنتي، قلت: فمن؟.
قالت: هذه زينب بنت جدير إحدى نساء بني تميم.
قلت: أفارغة أم مشغولة؟
قالت: فارغة. قلت: أفتزوجينها؟ قالت: نعم، إن كنت كفوءاً، ولها عمّ، فاقصده.
فأرسلتُ إلى مسروق وأبي بردة وغيرهما، فوافينا عمَّها فقال: ما حاجتك؟ قلت: بنت
أخيك زينب بنت جدير. فزوجني، ثم زُفّتْ إليّ.
فلما خلا البيت قلت لها: إن من السنّة أن تصلي ركعتين، وأسأل الله تعالى خير
ليلتنا. فالتفت، فإذا هي خلفي تصلي.
ثم التفت، فإذا هي على فراشها، فمددت يدي، فقالت: على رسلك إني امرأة غريبة،
ووالله ما سرت سيراً قط أشدّ عليّ منه، وأنت رجل غريب لا أعرف أخلاقك، فحدثني بما
تُحب فآتيه، وما تكره فأنزجر عنه. فقلت: أحب كذا، وأكره كذا. فقالت: أخبرني عن
أختانك، أتحب أن يزوروك؟ قلت: ما أحب أن يملّوني، فبتُّ بأنعم ليلة.
ثم أقمت عندها ثلاثاً، ثم رجعت إلى مجلس القضاء، فكنت لا أرى يوماً، إلا وهو أفضل
من الذي قبله، حتى إذا كان رأس الحول، دخلت منزلي فإذا عجوز تأمر وتنهى.
فقلت: يا زينب، من هذه؟ قالت: أمي. قلت: حياك الله بالسلام. قالت: كيف أنت وزوجتك؟
قلت: على خير. قالت: إنْ رابك ريب فالسوط. قلت: أشهد أنها ابنتك. فكانت كل حول
تأتينا فتقول هذا، ثم تنصرف، فما غضبتُ عليها إلا مرّة، كنت لها فيها ظالماً، كنت
أمام قومي، فسمعت الإقامة، وقد رأيت عقرباً، فعجلت عن قتلها، وكفأت الإناء عليها،
وقلت: لا تحركي الإناء حتى أجيء، فعجلت الإناء فضربتها العقرب، فجئت وهي تلوي، فلو
رأيتني يا شعبي وأنا أفرك إصبعها في الماء والملح، وأقرأ عليها.
وكان لي جار لا يزال يضرب امرأته فقلت:
رأيتُ رجالاً يضربون نسَاءَهم
فشلّتْ يميني يومَ أضربُ زينبا
يا
شعبي: وددت أني قاسمتها عيشي.
3 ـــ خنساء بنت عمرو النخعيّة:
لما اجتمع الناس بالقادسية، دعت خنساء بنت عمرو بنيها الأربعة، فقالت: يا بني،
إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم، وما بنت بكم الدار، ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم
الطمع، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة،
ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيَّرت نسبكم، ولا وطأت حريمكم، ولا أبحت
حماكم، فإذا كان غداً، فاغدوا لقتال عدوكم، مستنصرين الله، مستبصرين.
فغدوا، وقاتلوا، وكانوا إذا جاؤوا بأعطيتهم يصبونها في حجرها، فتقسم ذلك بينهم
حفنة حفنة، فما يغادر واحد من عطائه درهماً.
4 ـــ سُكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب:
واسمها آمنة، وقيل: سكينة لقب عُرفت به، كانت من أهل الجمال والأدب والفصاحة
بمنزلة عظيمة، وكان منزلها يألف الأدباء والشعراء، وتزوجت عبد الله بن الحسن بن
علي، فقُتل بالطائف قبل أن يبني بها، ثم تزوجها مصعب بن الزبير، ومهرها ألف ألف
درهم، وحملها أخوها علي بن الحسين فأعطاه أربعين ألف دينار، فولدت له الرباب،
وكانت تلبسها اللؤلؤ، وتقول ما ألبسها إلا لتفضحه.
5 ـــ فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوجها الحسن بن الحسن بن علي، وذلك أنه خطب إلى عمه الحسين، فقال: يا ابن أخي، قد
انتظرت هذا منك، انطلق معي. فخرج معه، حتى أدخله منزله، ثم أخرج إليه ابنتيه فاطمة
وسكينة فقال: اختر، فاختار فاطمة، فزوّجه إياها، فلما حضرت الحسن الوفاة. قال
لفاطمة: إنك امرأة مرغوب فيك، وكأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان، إذا خرج بجنازتي،
قد جاء على فرس مرجّلاً جمّته لابساً حلّته، يسير في جانب الناس، يتعرض لك، فانكحي
من شئت سواه، فإني لا أدع من الدنيا ورائي همَّاً غيرك.
فقالت
له: أنت آمن من ذلك، والجنة بالإيمان من العتق والصدقة، فوافى عبد الله بن عمرو في
الحال الذي وصف، فنظر إلى فاطمة حاسرة تضرب وجهها، فأرسل إليها أن لنا في وجهك
حاجة فارفقي به، فاسترخت يداها، وعرف ذلك منها، فلما حلت، أرسل يخطبها، وقالت: كيف
بيميني؟ قال: لك مكان كل مملوك مملوكان، ومكان كل شيء شيئان، فعوضها من يمينها،
فنكحته، وولدت له محمد الديباج، والقاسم، ورقية.
6 ـــ عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمية:
أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق ـــ رضي الله عنه ـــ كانت فائقة في الحسن،
فتزوجها مصعب ابن الزبير، وأمهرها خمسمائة ألف درهم، وأهدى لها مثل ذلك، ودخل
عليها يوماً، وهي نائمة، ومعه لؤلؤ قيمته عشرون ألفاً، فأيقظها، ونثر اللؤلؤ في
حجرها.
فقالت له: نومتي كانت أحب إليَّ من هذا اللؤلؤ، وحجت، ومعها ستون بغلاً عليها
الهوادج والرحائل، وقدمت في آخر عمرها على هشام بن عبد الملك، فأمر لها بمائة ألف
درهم.
7 ـــ ذكر أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر:
كانت من الأجواد الكرماء، وكانت تقول: لكل قوم نهمة في شيء، ونهمتي في الإعطاء.
وكانت تعتق كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، وتقول: أف للبخل لو
كان قميصاً لم ألبسه، ولو كان طريقاً لم أسلكه.
8 ـــ الخيزرانة بنت نجيح:
بربرية اشتراها المهدي وتزوجها، فولدت له الهادي والرشيد، وكانت عليها مائتي ألف
ألف وستين ألف ألف درهم، ولما وُلِّيَ محمد بن سليمان البصرة أهدى إليها مائة
وصيفة بيد كل وصيفة جام من ذهب مملوء مسكاً. فقبلت ذلك منه، وكتبت إليه: عافاك
الله إن كان ما وصل إلينا منك ثمن رأينا فيك، فقد بخستنا القيمة، وإن كان وزن ميلك
إلينا فظنّنا بك فوقه. ولما ماتت شدَّ الرشيد وسطه، وأخذ بقائمة السرير، ومشى
حافياً حتى أتى مقابر قريش.
9 ـــ زبيدة بنت جعفر بن المنصور:
ولدت
في زمن المنصور، وكان يرقصها ويقول: أنت زبدة، وأنت زبيدة. فغلب عليها هذا الاسم،
وتكنى أم جعفر وأمة العزيز، وليس في بنات هاشم عباسية ولدت خليفة إلا هي، وكانت
معروفة بالخير والأفضال على العلماء والفقراء، ولها آثار كثيرة في طريق مكة
والحرمين الشريفين، وساقت الماء من أميال حتى أوصلته بين الحل والحرم، ووقفت
أموالها على عمارة الحرمين، وحجت، فبلغت نفقتها أربعة وخمسين ألف ألف.
وقالت للمأمون عند دخوله بغداد: أهنيك بخلافة قد هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك،
ولئن كنت قد فقدت ابناً خليفة لقد عوضت ابناً خليفة لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك
ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل الله أجراً على ما أخذ، وإمتاعاً بما عوض.
فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه، وماذا أبقت في هذا الكلام لبلغاء الرجال؟.
10 ـــ عُلَيَّة بنت المهدي:
أمها أم ولد، اسمها مكنونة، اشتُريت للمهدي بمائة ألف درهم، فولدت عليّة، وكانت من
أجمل النساء، وأظرفهن، وأكملهن عقلاً وأدباً ونزاهة وصيانة وظرفاً، وكان في جبهتها
سعة تشين، فاتخذت العصابة المكللة بالجوهر، لتستر بها جبينها، وهي أول من اتخذها.
وكانت كثيرة الصلاة، ملازمة للمحراب، وقراءة القرآن.
وكانت تتزيَّن وتقول: ما حرم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما أحل عوضاً منه، فبماذا
يحتجّ العاصي؟ وكانت تقول: اللهم لا تغفر لي حراماً أتيته، ولا استفزني لهو إلا
ذكرت نسبي من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقصرت عنه، ولها شعر مليح مثل قولها:
كتَمْتُ اسمَ الحبيبِ عن العبادِ
وردَّدُت الصَّبابةَ في فؤادي
فَوا شَوقي إلى بلدٍ خليَ
لعلي باسمِ مَن أهْوَى أُنادي
11 ـــ بوران بنت الحسن بن سهل:
تزوجها
المأمون، ومضى للبناء بها إلى معسكر الحسن، بفم الصلح، فدخل عليها، فنثرت عليها
جدتها ألف درة كانت في صينية من ذهب، وفرش له حصير من ذهب، ونثر عليه الدرّة، فقال
المأمون لمن حوله من بنات الخلفاء: شرفن أبا محمد، فأخذت كل واحدة درة، وأشعل بين
يديه شمعة عنبر وزنها مائة رطل، ونثر على القواد رِقَاع فيها أسماء ضياع، فمن وقعت
بيده رقعة أُشهد له.
يا نفسُ صبراً إنها ميتة
مجرَّعها الكاذب والصّادقُ
ظن بنات أنَّني خُنْتُه
روحي إذاً، من جسدي، طالقُ
12 ـــ بدعة جارية عريب:
مولاة المأمون كانت مغنِّية، فبذل إسحاق بن أيوب لمولاتها في ثمنها مائة ألف
دينار، وللسفير بينهما عشرين ألفاً، فدعتها، فأخبرتها بالحال، فلم تؤثر البيع،
فأعتقتها من وقتها، فلما ماتت خلفت مالاً كثيراً وضياعاً ما ملكها رجل قط.
13 ـــ شجاع أم المتوكل:
كانت كريمة من مسرورات النساء، حجَّت فشيَّعها المتوكل، فلما صارت إلى الكوفة،
أمرت لكل رجل من العباسيين والطالبيين بألف درهم، ولأبناء المهاجرين بخمس مائة
درهم، ولكل امرأة من الهاشميات بخمس مائة درهم، ولكل امرأة من المهاجرين بعشرة
دنانير، ثم خلفت من العين خمسة آلاف دينار، وخمسين ألف دينار، ومن الجوهر ما قيمته
ألف ألف دينار.
14 ـــ شغب، أم المقتدر:
كان يُرفع لها من ضياعها كل عام ألف ألف دينار، وكانت تتصدق بأكثر ذلك، وتواظب على
مصالح الحاج، وتبعث خزانة الشراب والأطباء معهم، وتأمر بإصلاح الحياض، فلما قتل
ولدها، وولي القاهر، عاقبها، فأخذ منها مائة ألف وثلاثين ألف دينار.
15 ـــ عابدتان مدنيتان:
بلغنا
عن عبد الله ابن أخت مسلم بن سعد أنه قال: أردت الحج فدفع إليّ خالي عشرة آلاف
درهم، وقال لي: إذا قدمت المدينة فانظر إلى أفقر أهل بيت في المدينة، فأعطهم
إياها، فلما دخلت سألت عن أفقر أهل بيت في المدينة، فأعطهم إياها، فلما دخلت سألت
عن أفقر أهل بيت في المدينة، فدُللت على أهل بيت، فطرقت الباب فأجابتني امرأة، من
أنت؟ فقلت: رجل من أهل بغداد، أودعت عشرة آلاف، وأمرت أن أسلِّمها إلى أفقر أهل بيت
بالمدينة، وقد وُصفتم لي، فخذوها، فقالت: يا عبد الله إنَّ صاحبك اشترط أفقر أهل
بيت، وهؤلاء الذين بإزائنا أفقر منَّا.
فتركتهم، وأتيت أولئك فطرقت الباب فأجابتني امرأة، فقلت لها مثل الذي قلت لتلك
المرأة، فقالت: يا عبد الله نحن وجيراننا في الفقر سواء، فاقسمها بيننا وبينهم.
16 ـــ عابدة مكية:
قال مالك بن دينار: رأيت بمكة امرأة من أحسن الناس عينين، وكنّ النساء يجئن فينظرن
إليها، فأخذت في البكاء.
فقيل لها: تذهب عيناك، فقال: إن كنت من أهل الجنة، فسيبدلني الله عينين أحسن من
هاتين، وإن كنت من أهل النار، فسيصيبني أشدّ من هذا. فبكت حتى ذهبت إحدى عينيها.
17 ـــ عابدة أخرى:
قال ابن أبي رواد: كانت عندنا امرأة بمكة تُسبِّح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة
فماتت، فلما بلغت القبر اختلست من أيدي الرجال.
18 ـــ عابدة أخرى:
قال هشام بن حسّان: خرجنا حجاجاً، فنزلنا منزلاً، فقرأ رجل منا: {لَهَا سَبْعَةُ
أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ } (الحجر: 44) فسمعت امرأة،
فقالت: أعد. فأعاد، فقالت: خلَّفت لي في البيت سبعة أُعبُد، أشهدكم أنهم أحرار
لوجه الله تعالى، لكل باب واحد منهم.
19 ـــ عابدة أخرى:
كانت تأوي إلى سراب، فقيل لها: كيف ترضين بهذا؟ فقالت: هذا لمن يموت كنز.
20 ـــ عابدة أخرى من أهل بغداد:
كانت
جوهرة امرأة أبي عبد الله البرائي جارية لبعض الملوك فعتقت، فخلعت الدنيا، ولزمت
أبا عبد الله البرائي، فتزوج بها، وتعبدت، فرأت في المنام خياماً مضروبة، فقالت:
لمن هذه؟ فقيل: للمتهجدين بالقرآن، فكانت بعد ذلك لا تنام، وكانت تقول لزوجها:
كاروان برفت؛ أي قد سارت القافلة.
21 ـــ امرأة يوسف بن أسباط:
قرأت على أبي الفضل بن منصور بسنده إلى محمد بن عياش قال: سمعت يوسف بن أسباط
يقول: استأذنتني أهلي أن تزور أباها، فقبضت على كمها بين المغرب والعشاء، وذهبت
بها حتى أديتها إليهم، وقعدت على الباب حتى خرجت فرددتها، فما رجعت نفسها إليها
سنة.
22 ـــ أخت بشر الحافي:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: دقّ الباب يوماً، فخرجت، فإذا امرأة تستأذن على
أبي، فأذن لها، فقالت: أنا أغزل بالليل في السراج، فربما طفىء السراج، فأغزل في
ضوء القمر، فهل عليّ أن أبيّن غزل القمر من غزل السراج؟ فقال: إن كان عندك بينهما
فرق، فعليك أن تبيِّني ذلك.
فقالت: يا أبا عبد الله، أنين المريض شكوى؟
قال: أرجو أن لا يكون شكوى ـــ ولكنه اشتكاء إلى الله عز وجل. فخرجتْ، فقال: يا
بنيّ، اتبع هذه المرأة، وانظر أين تدخل. فتتبعتها فإذا قد دخلت بيت بشر، وإذا هي
أخته، قال: فرجعت فقلت له: محال أن تكون مثل هذه إلا أخت بشر.
وقال عبد الله بن أحمد: جاءت مُخّة، أخت بشر إلى أبي، فقالت: إني امرأة رأس مالي
دانقان، أشتري القطن فأردنه، فأبيعه بنصف درهم، فأتقوّت بدانق من الجمعة إلى
الجمعة، فمرّ أبو طاهر الطائف، ومعه مشعل فوقف يكلم أصحاب المصالح، فاغتنمت ضوء
المشعل، فغزلت طاقات، ثم غاب عني المشعل، فعلمت أن لله في ذلك مطالبة، فخلّصني
خلصك الله. فقال: تخرجين الدانقين، وتبقين بلا رأس مال حتى يعوّضك الله تعالى خيراً
منه.
23 ـــ عابدة أخرى:
سألت
امرأة من المتعبدات إبراهيم الخواص، عن تغيّر وجدَتْه في قلبها، وتغيّر في
أحوالها، فقال لها: تفقَّدي. قالت: فقد تفقدت فما رأيت شيئاً. قال: أما تذكرين
ليلة المشعل؟ فقالت: بلى، فقال: هذا التغيُّر من ذلك. فبكت.
وقالت: نعم كنتُ أغزل فوق السطح فانقطع خيطي، فمر مشعل السلطان، فغزلتُ في ضوئه
خيطاً، ثم أدخلتُ ذلك الخيط في غزلي، ونسجت منه قميصاً ولبسته، ثم قامت، فنزعت
القميص، وقالت: يا إبراهيم إنْ أنا بعته وتصدقت بثمنه يرجع قلبي إلى الصفاء؟ فقال:
إن شاء الله تعالى ذلك.
24 ـــ عابدة أخرى:
بلغني أن امرأة من أهل بغداد كانت على قدم التقوى والمحاسبة لنفسها، فلقيها رجل،
فقرص كتفها، فجاءت إلى زوجها، فقالت له: بالله عليك، أصدقني ما الذي فعلت اليوم من
الذنوب؟ فقال: قرصتُ كتف امرأة، فقالت: فقد قُرص كتفي، فقيل لها: من أين علمت؟
قالت: أنا على قدم المراقبة والاحتراس من نفسي، فعلمت أني أوتيت من قبله.
25 ـــ عابدات كوفيات:
كانت أم حسان مجتهدة، فدخل عليها سفيان الثوري، فلم يرَ في بيتها غير قطعة حصير
خَلق، فقال لها: لو كتبت رقعة إلى بعض بني أعمامك لغيّروا من سوء حالك، فقالت: يا
سفيان: قد كنت في عيني أعظم وفي قلبي أكبر مذ ساعتك هذه، أما إني ما أسألُ الدنيا
من يملكها، فكيف أسألُ من لا يملكها؟ يا سفيان: والله ما أحب أن يأتي عليّ وقت،
وأنا متشاغلة فيه عن الله بغير الله. فبكى سفيان.
وقالت أم سفيان الثوري له: يا بني، اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي، يا بني، إذا
كتبت عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة؟ فإن لم ترَ ذلك فاعلم أنه لا ينفعك.
وكانت أم الحسن بن صالح تقوم ثلث الليل، وتبكي الليل والنهار، فماتت، ومات الحسن،
فرؤي في المنام، فقيل: ما فعلت الوالدة؟ فقال: بُدِّلت بطول ذلك البكاء سرور
الأبد.
أذنب غلام لامرأة، فتبعته بالسوط. فلما قربت منه، رمت السوط، وقالت: ما تركت
التقوى أحداً يشفي غيظه.
كانت
عابدة لا تنام الليل إلا اليسير، فعوتبت في ذلك، فقالت: كفى بالموت وطول الرقدة في
القبور للمؤمن رقاداً.
26 ـــ عابدات بصريات:
كانت معاذة العدوية إذا جاء النهار تقول: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تفطر حتى
تمسي، وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها، فما تنام حتى تصبح، وإذا
جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم، وكانت تصلي كل يوم وليلة
ستمائة ركعة، وتقول: عجبت لعين تنام، وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور، ولم ترفع
رأسها إلى السماء أربعين سنة، وقتل زوجها وابنها في غزاة، فاجتمع النساء عندها،
فقالت: مرحباً، من جاءت تهنيني فمرحباً، ومن جاء لغير ذلك فلترجع.
وكانت حفصة بنت سيرين قد قرأت القرآن، وهي ابنة اثنتي عشرة سنة، وماتت وهي بنت
تسعين سنة، ومكثت في مصلاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة، وكانت جاريتها تقول:
أذنبت سيدتي ذنباً عظيماً، فهي الليل تبكي كله وتصلّي، وكانت تصوم الدهر، وتقرأ
القرآن في يومين، وربما طفيت سراجها، فأضاء لها البيت حتى تصبح.
27 ـــ وكانت رابعة العدوية:
قد بلغت ثمانين سنة كأنها الشن البالي، وكان في بيتها كراخة بواري ومشجب قصب عليه
أكفانها، فإذا ذكرت الموت ارتعدت، وكان سفيان يقول: مُرُّوا بنا إلى المؤدبة. فدخل
عليها يوماً فقال: واحزناه فقالت: قل وا قلّة حزناه لو كنت محزناً ما هنَّاك
العيش، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم مضى بعضك. وكانت تصلي الليل كله، فإذا أضاء
الفجر هجعت يسيراً، ثم قامت تقول: يا نفس، كم تنامين؟ يوشك أن تنامي نومة لا
تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور.
28 ـــ حبيبة العدوية:
وكانت حبيبة العدوية تقف بالليل إلى السحر، وتقول: قد خلا كل حبيب بحبيبه، وهذا
مقامي بين يديك. فإذا جاء السحر، قالت: يا ليت شعري هل قبلت منّي ليلتي فأهنأ، أم
رددتها عليّ فأعزّى.
29 ـــ عفيرة العابدة:
ودخلوا
على عفيرة العابدة فقالوا: ادعي الله لنا. فقالت: لو خرس الخاطئون ما تكلمت
عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم الجنة، وجعل الموت مني
ومنكم على بال؛ وقدم ابن أخ لها من غيبة طويلة، فبشرت به، فبكت فقيل لها: ما هذا
البكاء؟ اليوم يوم فرح وسرور. فازدادت بكاء ثم قالت: والله ما أجد للسرور في قلبي
سكناً مع ذكر الآخرة، ولقد أذكرني قدومه يوم القدوم على الله، فمن بين مسرور
ومثبور.
30 ـــ عبيدة بنت أبي كلاب:
وبكت عبيدة بنت أبي كلاب أربعين سنة حتى ذهب بصرها، وقالت: أشتهي الموت، لأني أخشى
أن أجني جناية يكون فيها عطبي أيام الآخرة.
31 ـــ عمرة امرأة حبيب العجمي:
كانت توقظه بالليل، وتقول: قم يا رجل، فقد ذهب الليل، وبين يديك طريق بعيد، وزاد
قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا.
32 ـــ زجلة العابدة:
ودخلوا على زجلة العابدة مولاة معاوية، وكانت قد صامت حتى اسودَّت، وبكت حتى عمشت،
وصلَّت حتى أقعدت، فذكروا العفو، فقالت: علمي بنفسي قرَّح فؤادي، وكلم قلبي، والله
لوددت أن الله لم يخلقني.
33 ـــ وكانت راهبة العابدة:
كثيرة التعبّد، فلما احتضرت قالت: يا ذخري وذخيرتي، ومن عليه اعتمادي، لا تخذلني
عند الموت، ولا توحشني في قبري. فماتت، وكان ابنها يتردد إلى قبرها كل جمعة، فرآها
في المنام فقال: يا أماه، كيف أنت؟ قالت: يا بني، إن للموت كربة شديدة، وأنا بحمد
الله لفي برزخ محمود، نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبرق، إلى يوم
النشور، وإنِّي لأبشر بمجيئك يوم الجمعة، فيقال لي: يا راهبة، هذا ابنك قد أقبل،
مِنْ أهلِهِ زائراً لك، فأُسرّ بذلك، ويُسر مَنْ حوْلي من الأموات.
وتزوج
رباح القيس امرأةً، فنام في أول الليل ليختبرها، فقامت ربع الليل ثم نادته. قم يا
رباح فقال: أقوم، فقامت: الربع الآخر، ثم نادته: قم يا رباح فقال أقوم، فقامت
الربع الآخر وقالت: مضى الليل، وعسكر المحسنون، وأنت نائم ليت شعري من غرّني بك يا
رباح
وكانت امرأة من الصالحات تعجن عجينها، فبلغها موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت:
هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
وجاء أخرى موت زوجها، والسراج يشتعل، فأطفأته، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه
شريك.g
واختار بعض الأمراء بنات حاتم الأصم فطلب ماء، فسقي، فرمى إليها شيئاً من المال،
فوافقه أصحابه، فبكت بنيَّة صغيرة لحاتم، فقالوا: ما يبكيك؟ قالت: مخلوق نظر إلينا
فاستغنينا، فكيف لو نظر إلينا الخالق سبحانه وتعالى؟
34 ـــ جارية هشام بن عبد الملك:
عن يونس قال: اشترى هشام بن عبد الملك جارية، وخلا بها، فقالت له: يا أمير
المؤمنين، ما منزلة أطمع فيها فوق منزلتي هذه، إذ صرت للخليفة، ولكن النار ليس لها
حظر، إنَّ ابنك فلاناً اشتراني، وكنت عنده، لا أدري أذكر ليلة ونحو ذلك، وإن لا
يحل لك مسّي. قال: فحسن هذا القول منها عنده، وحظيت، وتركها، وولاها أمرها.
35 ـــ امرأة بدر المغازلي:
عن محمد بن الحسين السلمي، قال: قال أبو محمد الحريري: كنت عند بدر المغازلي،
وكانت امرأته. باعت داراً لها بثلاثين ديناراً، فقال لها بدر: نفرّق هذه الدنانير
في إخواننا ونأكل رزق يوم بيوم، فأجابته إلى ذلك، وقالت: تزهد أنت ونرغب نحن، هذا
ما لا يكون.
36 ـــ ميمونة بنت شاقولة الواعظة:
أخبرنا
محمد بن ناصر، قال أبو علي بن المهدي، قال: أخبرني أبي قال: سمعت ميمونة بنت
شاقولة الواعظة تقول: هذا قميص له اليوم سبع وأربعون سنة، ألبسه وما تخرّق، غزلته
لي أمي، وصبغته بماء السنابك، والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرَّق سريعاً،
وسمعتها تقول: آذانا جار لنا، فصليت ركعتين، وقرأتُ من فاتحة كل سورة آية حتى
ختمتُ القرآن، وقلت: اللهم اكفنا أمره. ثم نمت، ففتحت عيني، فرأيت النجوم مصطفة،
فقرأت: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 137)
فلما كان السحر قام ذلك الإنسان لينزل، فزلقت قدمه، فوقع فمات.
قال: وأخبرني ابنها عبد الصمد قال: كان في دارنا حائط له جوف، فقلت لها: امضي
استدعي البنّاء. فقالت: هات رقعة والدواة. فناولتها، فكتبت فيها شيئاً وقالت: دعه
في ثقب منه ففعلت، فبقي الحائط نحواً من عشرين سنة، فلما ماتت ذكرت ذلك القرطاس،
فقمت، فأخذته لأقرأه، فوقع الحائط، وإذا في الرقعة {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَوتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ} (فاطر: 41) بسم الله، يا مُمْسك السماوات
والأرض أمسك.
37 ـــ أم عيسى بنت إبراهيم الحربي:
كانت عالمة فاضلة تفتي في الفقه، وهي مدفونة إلى جانب أبيها.
38 ـــ أَمَة الواحد:
سكينة بنت القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، تُكنى أَمَة الواحد،
كانت عالمة فاضلة من أحفظ الناس للفقه على مذهب الشافعي، وكانت تفتي مع أبي علي بن
أبي هريرة.
عن أبي الحسن الدارقطني قال: أمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل سمعت أباها،
وإسماعيل الوراق، وعبد الغفّار بن سلامة وغيرهم، وحفظت القرآن والفقه على مذهب
الشافعي، والفرائض، وحسابها، والدرر، والنجوم، وغير ذلك من العلوم، وكانت فاضلة في
نفسها، كثيرة الصدقة، مسارعة في الخيرات، حدَّثت، وكتب عنها الحديث، وتوفيت سنة
سبع وسبعين وثلاثمائة.
39 ـــ أَمَة السلام بنت القاضي أبي بكر أحمد بن كامل:
سمعت
محمد بن إسماعيل النصلاني ومحمد بن الحسين بن حميد، روى عنها الأزهري، والتنوخي.
وكانت عالمة، عاقلة، كثيرة الفضل.
قال المصنف ـــ رحمه الله تعالى ـــ: هذه نبذة من أخبار النساء الصالحات
والفاضلات، تكتفي بسماعها وفهمها المرأة العاقلة الموفقة، فإن أحبت زيادة في أخبار
النساء، نظرت كتابنا المسمى بـ«صفة الصفوة»، فإن كانت عالية الهمّة، سمت همتها إلى
فنون العلم، فإنَّ الهمّة في القلب جوهر المهر، يحرِّكه الرائض إذا كان عربياً جيد
الأصل، فتخرج ما فيه من الجوهر، وإذا لم يكن له همّة كان مثله كمثل الكودن لا
ينفعه الرائض.
=========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق