Translate

الجمعة، 11 مارس 2022

قصص الأنبياء تأليف فؤاد بن عبدالعزيز الشلهوب

 

قصص الأنبياء تأليف فؤاد بن عبدالعزيز الشلهوب=====

مقدمة

الحمد لله إله الأولين والآخرين، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجة، على الخلق أجمعين . والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .

قصص الأنبياء فيها عبرة وعظة لأصحاب العقول، لأولي النهي، قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .

ففي قصصهم الهداية والنور، وفي قصصهم تسلية للمؤمنين وتقوية لعزائمهم، وفيه تعلم الصبر وتحمل الأذى في سبيل الدعوة إلى الله، وفيه ما كان عليه الأنبياء من الخلق الرفيع و الأدب الجم مع ربهم ومع أتباعهم، وفيه شدة ورعهم، وحسن عبادتهم لربهم، وفيه نصرة الله لأنبيائه ورسله، وعدم خذلانهم فالعاقبة الحميدة لهم، وسوء المنقلب لمن عاداهم وشذ عنهم .

وفي كتابنا هذا سردنا بعضاً من قصص أنبيائنا، لنعتبر ونتأسى بهم، فهم خير أسوة وخير قدوة، صلى الله عليهم وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .

 

 

 

وكتبه :

فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب

 

 

 

 

 

 

 

   قصة آدم عليه  السلام 

 

قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30)وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31)قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(34)وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36)فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)} ([1]) .

قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك ) ([2]) . وجعله الله جسداً من طين أربعين سنة، فمرت به الملائكة وفزعوا لما رأوه ، وكان أشدهم فزعاً إبليس ، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار ويدخل من فيه ويخرج من دبره ، وقال للملائكة، لا تخافوا منه فإنه أجوف وربكم صمد، وكان يقول : لأمر ما خلقت، ويقول: لئن سلطت عليه لأهلكنه . ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  (لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك ) ([3]) .

ولما أخبر الله تعالى ملائكته بأنه سوف يجعل في الأرض خليفة، سألوه جل في علاه من باب معرفة وجه الحكمه ،لا على سبيل الاعتراض ، أو أن تساؤل الملائكة خوفاً أن يكون بدر منهم أو من  أحدهم تقصير أو مخالفة ، فأسرعوا في تبرئة أنفسهم بقولهم : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك . ثم علم الله آدم أسماء كل شيء يتعارف بها الإنسان ، علمه اسم الجبل والوادي والنهر والبحر ..إلخ.  وطلب الله من الملائكة أن ينبئونه بالاسماء التي علمها آدم، فأرجعت الملائكة العلم إلى عالمه فقالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .  ثم أمر الله آدم أن يخبرهم بالاسماء وأخبرهم بها .

ثم أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم متى ما نفخ فيه من روحه، فسجد الملائكة ، واستكبر إبليس وأبى ، كبراً وحسداً ، واعتذر بشبهة شيطانية فقال : { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون } وقال : { أنا خيرمنه خلقتني من نار ، وخلقته من طين } .  فظن إبليس عليه لعنة الله أن النار خير من الطين ، وأن العنصر الناري خير من العنصر الطيني ، فكيف يسجد، وما ظن الجاهل أن السجود لآدم هو طاعة لله ، أولا وآخراً . ولكنه هو الحسد والكبر، ثم إن العنصر الطيني خير من العنصر الناري، فالنار من صفتها الخفة ، والإحراق، والطيش، والطين  من صفته الليونة، والرزانة، والنفع . إلى غير ذلك مما بينه أهل العلم .

ولما أبى إبليس ، السجود طُرد من الملكوت الأعلى ، قال تعالى : { فاخرج إنك رجيم} ، وقال تعالى : { فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين } . ويقال إن إبليس كان معظماً ومقرباً ، ولما عصى أبعد وطرد . ولما عاين إبليس الحرمان ، سأل الإنظار إلى يوم الدين، فأجابه الله إلى ما سأل،  { قال ربي أنظرني إلى يوم يبعثون . قال إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم } و قال  : { أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلاً } قال تعالى : { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جزاؤكم جزاء موفورا} وقال إبليس عليه لعائن الله لما استوثق من ربه : { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } . فأعلن العداوة على آدم من لحظة الطرد والإبعاد .

ثم أسكن الله آدم الجنة، وأمره الأكل والتمتع بما شاء من الجنة إلا شجرة نهاه ربه أن يأكل منها ، وخلق الله من آدم زوجه حواء ليسكن إليها { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها } . وأمر الله آدم وحواء بالتنعم من الجنة وحذرهما من تلك الشجرة :{ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } . وحذر الله آدم من إغواء إبليس ليكون منه على حذر: { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنك من الجنة فتشقى . إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } ولكن إبليس زين لآدم الأكل من الشجرة، وجاءه من كل جانب، بل وأقسم لهما أنه ناصح لهما فخاطب آدم : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فسماها شجرة الخلد حتى يطمع آدم وتطمع حواء فيها . وقال لهما : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } وهذا فيه إغراء بالأكل من الشجرة ، ثم أكد قوله بالقسم { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } . أقسم إبليس أنه ناصح لهما ، ويريد الخير لهما، فاغتر آدم وحواء بقسم إبليس فأكلا من الشجرة : { فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة }  ([4]) . فلما عصى آدم ، وعصت حواء ، تبدل الحال، وظهرت السوآت ، فالمعصية شؤم ، وحاول آدم وحواء أن يسترا سوآتهما من ورق الجنة ،  ثم ناداهما الجليل ، {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } ([5]) . فأناب آدم عليه السلام وأنابت حواء إلى ربهما ، واعترفا بالذنب ، وطلبا المغفرة من الغفور الرحيم : {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ([6])  . وقال تعالى : { فتلقى آدمن من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } . وانظر إلى توفيق الله لآدم ، لما عصى ربه إذ هداه للتوبة، فسأله التوبة والمغفرة  فتاب الله عليه، وإبليس لما عصى الله خُذل ولم يوفق للتوبة ولم يهتد إليها، فتجبر وسأل الإنظار ليضل الناس عن صراط الله المستقيم . ولله الحكمة البالغة .

ولكن توبة الله لآدم مقرونة بخروجه  من الجنة ، فأهبطه الله وزوجه إلى الأرض ، وأهبط معهما إبليس عليه لعائن الله . {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين(24)قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون(25)} ([7]) . وقال تعالى : {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}  ([8])   .  فعمر آدم عليه السلام وحواء الأرض وأنجبوا ،  وكثر نسلهم .

ولم يعرف كم عمّر آدم على الأرض على وجه الدقة ، لكن روى الترمذي وغيره حديثاً في ذكر آخر أمر آدم عليه السلام  فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ([9]) ما بين عينيه فقال أي رب من هذا فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت فقال أولم يبق من عمري أربعون سنة قال أولم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته ([10]) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

        قصة نوح عليه السلام أول الرسل إلى أهل الأرض  ([11])

 

هو نوح بن لامك بن متوشلخ أول رسول إلى أهل الأرض ([12])  . كان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة . ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله  عنهما قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام .  بعثه الله إلى الناس لما عبدت الأصنام، وضلوا عن عبادة ربهم . ومنشأ ضلال الناس بعد أن كانوا على الإسلام هو ما زينه الشيطان لهم من عبادة الأصنام، فعند تفسير قوله تعالى : { وقالوا لا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسر } قال ابن عباس هذه  أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ ([13]) العلم عبدت ([14]) . فدعاهم نوح عليه السلام إلى عبادة الله وحده  لا شريك له، وترك ما يعبد من دونه .فدعاهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(5)فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}([15])  . فدعاهم نبي الله نوح عليه السلام بكل طريقة وبكل وسيلة ، لعلهم يتوبون من شركهم بالله ، ويستغفرونه فيغفر لهم ، ولكن استمر أكثرهم على الطغيان والضلال البعيد وعبادة الأصنام، وأقاموا على عداوة نوح عليه السلام والسخرية به . قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(59)قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(60)قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(61)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(62)} ([16]) . ولبث نوح عليه السلام يدعوهم ويذكرهم بالله تسع مائة وخمسين عاماً كما أخبرنا ربنا { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً } . ولما تطاول الزمن وأيس نوح عليه السلام من توبتهم من الشرك، ولما رأى عليه السلام استمرار قومه على المعاصي والعناد والمكابرة ، وتحديهم أن يأتيهم العذاب {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ([17])  . عندئذ دعا عليهم نبيهم ولكل نبي دعوة مستجابة {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(26)إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(27)} ([18]) . فاستجاب الله له {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ([19]) . ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يصنع سفينة وأن هؤلاء القوم مآلهم إلى الغرق ، وحذر الله نوحاً من مراجعته في قومه فإنهم قد حق عليهم العذاب ، قال تعالى :{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ ءَامَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(37)ْ} ولما شرع نوح في صنع السفينة سخر قومه منه {  وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} ([20]) . ولما تكامل بناء السفية أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين من الحيوانات والطيور وغيرها لبقاء نسلها  {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} ([21]) . وقال تعالى : {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ(11)وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(12)وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ(13)تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ(14)وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا ءَايَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(15)} ([22]) . فماء ينزل من السماء ، وأرض تفجرت عيوناً، حتى أغرق الله القوم المكذبين ، ونجى برحمته نوحاً والمؤمنين فلله الحمد والمنة .

ولما أغرق الله قوم نوح إلا المؤمنين كان من جملة القوم الذين أغرقهم الله  زوجة نوح عليه السلام  فإنها كانت على الكفر ،  قال الله عز وجل في شأنها : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} ([23]) . والخيانة المراد بها هنا ، هو عدم التصديق بالرسالة ، وعدم اتباع الرسول وبقائها على الكفر .

وابنه (يام)  الذي أبى أن يركب السفينة مع أبيه ، قال تعالى  : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ(42)قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} ([24]).

وأمر الله رسوله نوح أن يقول إذا ركبوا الفلك واستقروا عليها : الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين  . وأن  يقول : رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين . قال تعالى { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ([25]) . ثم لما قضى الله الأمر ، وأغرق الظالمين، أمر الله السماء أن تمسك ، والأرض أن تذهب بالماء الذي عليها ، قال تعالى : { وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظالمين} ([26]) . ثم أمر الله نوحاً أن يهبط على وجه الأرض سالماً ، مباركاً { قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ([27]) . فهبطت السفينة على الجودي ، وهو جبل معروف في الجزيرة ([28]) .  ثم لما أُهبط نوح ومن معه، سأل الله  نجاة ابنه فإن الله وعد بإنجائه وأهله ، { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(46)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(47)} ([29]) . فبين الله له أن ابنه وإن كان من صلبه إلا أن بقاءه على الشرك أخرجه من مسمى الأهل  . ثم طلب نوح عليه السلام من ربه أن يغفر له سؤاله ما ليس له به علم .

وكان من أخر آمره عليه السلام ، كما في مسند أحمد أنه لما دنا أجله ( وحضرته الوفاة قال لابنه   إني قاص عليك الوصية آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وأنهاك عن الشرك والكبر...الحديث ) ([30]) .

قال ابن كثير : فإن كان ما ذكر محفوظاً عن ابن عباس من أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة , وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة .

 

 

 

 

 

 

 

 

     قصة نبي الله هود عليه السلام   ([31])     

 

هو نبي الله هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليهما السلام . كان من قبيلة يقال لها عاد ، وكانوا عرباً يسكنون الأحقاف وهي جبال الرمل ، وكانت باليمن .وكانوا كثيراً ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام كما قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} ([32]) .  فعاد هذه هم أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، فبعث الله لهم هوداً عليه السلام ، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(65)}  . فدعاهم هود عليه السلام إلى التوحيد، وذكرهم بربهم ، فكذبوه وخالفوه ، وتنقصوه وسخروا منه ، حكى الله مقالتهم وسخريتهم بهود ورد هود عليهم  فقال : {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(66)قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(67)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(68)أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا ءَالَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(69)} ([33]) . فنصح لهم  وذكرهم بنعمة الله عليهم أن استخلفهم وأورثهم الأرض بعد قوم نوح، وجعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش  . ولكن لم تفد تلك النصائح ولم يفد تذكيرهم بالله فقالوا له : {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136)إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(137)وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ([34]) . وقالوا : {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي ءَالِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(53)إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ}  . فردوا على نبيهم بأن قالوا لم تأت بخارق ، أو آية تشهد لك بصدق دعواك ، ولن نترك عبادتنا لهذه الأصنام لقولك ، بل تهكموا به وأرجعوا دعواه النبوة والدعوة إلى التوحيد بسبب آلهتهم التي أصابته في عقله . عندئذ قاله لهم نبيهم : {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54)مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}([35]) .    وهذا تحد من هود عليه السلام ، فإنه تبرأ من آلهتهم أولاً ، ثم تحداهم  جميعاً أن يضروه بشيء وهو واحد، وأمعن في التحدي لما قال لهم : لا تمهلوني طرفة عين، بل افعلوا ما بدا لكم ، فإني متوكل على ربي ، الذي نواصي العباد بيده . 

ولما قالوا لهود عليه السلام : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(70)} رد عليهم :  {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} ([36]) .  فحل عليهم عذاب الجبار ، وخسروا خسراناً مبيناً ، وكان أول أمر عقوبتهم ما ذكره الله في سورة الأحقاف : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(24)تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(25)} ([37]) . فاستبشروا لما رأوا  السحاب مقبلاً وظنوا أن المطر أتاهم ، وما علموا أنه العذاب قد حل بهم .  وهذه الريح هي المذكورة في سورة الحاقة : {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6)سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(8)} ([38]) . وهي المذكورة في سورة القمر : {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(18)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(19)تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20)} ([39]) . وهي أيضاً المذكورة في سورة الذارايات : {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ(41)مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ([40]) .  استمرت هذه الريح العظيمة سبعة ليال وثمانية أيام ، ريح عقيم لا تنتج خيراً ، وكل شيء تمر عليه تجعله رميماً فانياً بالياً ، وهذه الريح من قوتها أنها كانت تحمل الرجل فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه حتى يكون جثة بلا رأس ، كأعجاز النخل الخاوية التي لا رؤس لها . واسم هذه الريح الدبور ، قال صلى الله عليه وسلم : ( نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ) ([41]) .والصبا : ريح تهب من الشرق ، والدبور : ريح تهب من الغرب .

قال تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ(58)وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(59)وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ(60)} ([42]) .

فأهلك الله الظالمين، ونجى برحمته هوداً والمؤمنين ، فلله الحمد والفضل والمنة .

 

 

 

 

 

 

    قصة نبي الله صالح عليه السلام   

 

هو نبي الله صالح بن عبد بن ماسح بن عبيد ابن ثمود ، وهو من قوم ثمود -الذين يسكنون الحجر الواقعة بين الحجاز وتبوك- ، وأمة ثمود جاءت بعد أن أهلك الله عاد ، ولذلك قال لهم نبيهم صالح : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} ([43]) .

أرسل الله صالحاً إلى ثمود ؛  يدعوهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام والأنداد، فقال لهم         { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ([44]) .  ولكن قوم ثمود ردوا على نبيهم صالح دعوته بل سخروا منه فقالوا له : { يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} ([45]) . فتهكموا به وقالوا له : كنا نرجو أن يكون عقلك كاملاً  قبل هذه المقالة .

وقد ذكر المفسرون أن ثمودَ اجتمعوا يوماً في ناديهم، فجاءهم صالح عليه السلام وذكرهم بالله ووعظهم ، فطلبوا منه على وجه التعنت والسخرية والتحدي أن يخرج لهم من صخرة عظيمة ناقة عظيمة وذكروا من صفاتها كيت وكيت، وأشاروا إليها، فقال لهم صالح عليه السلام إن أنا أجبتكم إلى ما سألتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به . قالوا: نعم . فأخذ منهم العهود والمواثيق على ذلك، ثم دعا ربه عز وجل ، فاستجاب الله له، وأخرج من تلك الصخرة التي أشاروا إليها ناقة عظيمة حسب ما طلبوا، فآمن منهم من آمن وكفر أكثرهم . وقال لهم نبيهم صالح : { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ} ([46]) . وقال لهم أيضاً : { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155)وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ([47]) .  فأمرهم نبيهم صالح أن  لا يمسوا هذه الناقة بسوء، فهي آيه من آيات الله ، وقال لهم إن لها شرب يوم ترد الماء ولا يشرب الماء معها أحد من دوابكم، وفي اليوم الآخر تدّر عليهم لبناً يكفيهم كلهم .

ولكن أهل الريب والفساد لم يرتضوا ذلك، حيث سعى تسعة رجال في المدينة يدعون إلى عقرها والتخلص منها ، وتقاسموا وتحالفوا على قتل صالح عليه السلام : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ(48)قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(49)وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(50)} ([48]) .  فكفاه الله شرهم وأهلكهم .

وانبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف ، وكان عزيزاً منيعاً في قومه ، ولكنه شقي بعقره الناقة، قال عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، خطب النبي صلى الله عليه وسلم يومأ وذكر الناقة والذي عقر فقال النبي صلى الله عليه وسلم { إذ انبعث أشقاها } انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة .. الحديث ) ([49]) .   قال تعالى : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ([50]) . وقال تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا(11)إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا(12)فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا(13)فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا(14)وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا(15)} ([51]) .  ومن عتوهم وجبروتهم تحدوا صالحاً عليه السلام   أن يأتي ربه بالعذاب الذي حذرهم وخوفهم منه ، قال تعالى : { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ([52]).  فقال لهم نبي الله صالح : {   تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} ([53]) .

قال ابن كثير : فلما اشرقت الشمس –أي شمس اليوم الثالث- جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم ، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس وسكنت الحركات وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق ، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثاً لا أرواح فيها ولا حراك بها ([54]).  { أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} ([55]) . والحمد لله رب العالمين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

      قصة  نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

 

 

آتى الله إبراهيم عليه السلام رشداً في صغره، كما قال المولى جل وعلا { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين } .

ولما اصطفاه ربه دعا أباه ، فهو أحق وأولى الناس بدعوته، وكان أبوه آزر يعبد الأصنام، فألان إبراهيم لأبيه الكلام، وتلطف في العبارة، لعله يتقي وينيب ، فقال : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(41)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا(42)يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(43)يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا(44)يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45)} ([56]) . فتأمل كيف بين إبراهيم لأبيه أن هذه الأوثان لا تسمع ولا تبصر فكيف تنفع عابدها وهي لا تنفع نفسها، ثم أخبر أباه أنه قد جاءه من ربه هدى وعلم فلا تمتنع من قبول الحق لكوني أصغر سناً منك ، ولكن أباه زجره ونهاه وأغلظ له القول فقال له : {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ ءَالِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(46)} وعندها قال له إبراهيم عليه السلام : {   سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} ([57]) . وكان إبراهيم عليه السلام يرجو أن يمن الله على أبيه فيسلم، ولكن لما صد أبوه عن اتباع الحق وأيس إبراهيم من أبيه تبرأ منه لكونه كافراً فأخبرنا الله عن ذلك بقوله : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ([58]) .

وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ[وهو ذكر الضباع]  ملتطخ(1) فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار ) ([59]) .

ووسع إبراهيم عليه السلام دعوته ، فدعا قومه وناظرهم، وبين لهم الحق من الباطل ، وكان ممن ناظره في ذلك النمرود ، وقد قص الله علينا في كتابه تلك المناظرة فقال جل وعز : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ([60]) . فلما تجبر ذلك الملك وهو النمرود وعتى وأدعى الربوبية وأنه يحيى الموتى، أتاه إبراهيم عليه السلام بحجة لم يجد لها جواباً ، وذلك من توفيق الله ولطفه بأوليائه .

وأما قوم إبراهيم فإنهم  لما أعرضوا عنه ، توعد آلهتهم . ولما دعاه أبوه  لحضور  عيدٍ لهم ، اعتذر عن الخروج معهم وقال   : { إني سقيم } وذلك من أجل الوصول إلى مقصوده الذي أراده ، ولما خرجوا لعيدهم جاء إلى الأصنام وكلمها ساخراً منها : {  فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ(91)مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ(92) } ([61]) . ثم جعل يضربها ويكسرها حتى جاء على كبيرها ، ووضع الفأس عليه . ولما جاء الناس من عيدهم ورأوا ما حلّ بآلهتهم ، جاءوا إلى إبراهيم مسرعين ، لعلمهم بأنه سفه آلهتهم وتوعدها، فسألوه : { ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ(62)قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ(63)فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ(64)} فألزمهم إبراهيم عليه السلام الحجة، واتهموا أنفسهم بالظلم ، ثم عادوا لكفرهم وضلالهم وجهلم وخفة عقولهم: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ(65)} عندها قال إبراهيم عليه السلام {  أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ(66)أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(67) } فأرادوا البطش بإبراهيم وعقوبته { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(68)} ولكن الله ناصر أوليائه ومنجي رسله من كيد الكافرين  {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ }  ([62]) . 

ثم بعد أن نجى الله إبراهيم عليه السلام من كيد الكافرين خرج مهاجراً إلى أرض الشام بزوجته سارة ، وابن أخيه لوط عليه السلام  وذهب إلى مصر وحدث له ولزوجه مع ملكها محنة  ولكن الله سلم ،  قال صلى الله عليه وسلم : (  هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة فدخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء فأرسل إليه أن يا إبراهيم من هذه التي معك قال أختي ثم رجع إليها فقال لا تكذبي حديثي فإني أخبرتهم أنك أختي فو الله إن على الأرض مؤمن غيري وغيرك فأرسل بها إليه فقام إليها فقامت توضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر فغط حتى ركض برجله.... قالت اللهم إن يمت يقال هي قتلته فأرسل ثم قام إليها فقامت توضأ تصلي وتقول اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله قال عبد الرحمن قال أبو سلمة قال أبو هريرة فقالت اللهم إن يمت فيقال هي قتلته فأرسل في الثانية أو في الثالثة فقال والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانا ارجعوها إلى إبراهيم وأعطوها آجر فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام فقالت أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة) ([63])  .

ثم بعد ذلك  رجع إبراهيم وزوجته سارة ولوط عليهما السلام إلى بلاد بيت المقدس، ونزل لوط عليه السلام مدينة سدوم وبعثه الله نبياً يدعو الناس لدين الله .

ولما كانت سارة عقيماً لا تنجب، وهبت هاجر لزوجها إبراهيم لعل الله يرزقه منها الولد، فكان كذلك وولدت إسماعيل ، ثم إن سارة بعد ذلك اشتدت بها الغيرة، وطلبت من زوجها إبراهيم أن يغيب وجهها ووجه ولدها عنها ، قال ابن عباس (جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له أالله الذي أمرك بهذا قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بشرٍّ نحن في ضيقٍ وشدةٍ فشكت إليه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال هل جاءكم من أحد قالت نعم جاءنا شيخٌ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال فهل أوصاك بشيء قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك قال ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال ما طعامكم قالت اللحم قال فما شرابكم قالت الماء قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء قالت نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك)([64]) .

ولما أراد الله أن يختبر إبراهيم عليه السلام، أمره أن يذبح ابنه، فكان لإسماعيل عليه السلام شأن، وكان لإبراهيم شأن عظيم، قال الله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107) } ([65]) . أُمر إبراهيم أن يذبح ابنه في رؤيا رآها في منامه ، ورؤيا الأنبياء وحيٌ ، فكلم ابنه اسماعيل في ذلك، فأجاب إسماعيل بقوله : افعل ما تؤمر ، ثم عقَّب وقال : ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وصدق إسماعيل في قوله ووعده ، ولذلك امتدحه الله في سورة مريم بأنه صادق الوعد . ثم موقف إبراهيم في ذبح ابنه، بعد أن جاءه الولد على كبر، وبلغ الولد مبلغ الرجال، مع ما في القلب من المحبة العظيمة التي أوجدها الله في قلوب الخلق لأولادهم . ولكن كانت طاعة الله ومحبة الله فوق كل محبة، فاستجاب إبراهيم لأمر الله ، وتل إسماعيل للجبين ، قيل: إن إبراهيم جعل وجه إسماعيل إلى الأرض وأراد أن يذبحه من قفاه لكي لا يرى وجه ابنه حال ذبحه له . ثم سمى وكبر وتشهد الولد للموت، فجاء الفرج من الرحمن الرحيم، وجعل فداء إسماعيل ذبح عظيم ، كبش أرسله الله سبحانه وتعالى ، فداء لإسماعيل عليه السلام، ونال إبراهيم عليه السلام مرتبة الخلة ، وهي أعلى من مرتبة المحبة ، كما نالها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

ومن رحمة الله بإبراهيم وزوجه سارة ، أن الله رزقهما ذرية على كبر وعقم ، وذلك من لطف الله ورحمته بهما .  قال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ(69)فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ(70)وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ(71)قَالَتْ يَاوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ(72)قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(73) } ([66]) . فولدت سارة إسحاق على كبر وعقم، وجعله الله نبياً ، وكان  من ذرية إسحاق يعقوب النبي الكريم .

ثم أمر الله نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام أن يبني بمكة بيتاً . قال ابن عباس : (... قال إبراهيم  يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال فاصنع ما أمرك ربك قال وتعينني قال وأعينك قال فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) ([67]) .  قال تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127)رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128)رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)} ([68]) . فلله الحمد .

 

 

 

 

      قصة لوط عليه السلام

 

هو لوط بن هاران بن تارح ، ابن أخي إبراهيم عليه السلام .  فإخوة إبراهيم عليه السلام هاران وناحور .

ولوط عليه السلام نزح من محل إبراهيم عليه السلام بأمره وبإذنه إلى مدينة سدوم فنزلها ، وكان أهلها من أفجر الناس ، وأكفرهم، وأشدهم تعنتاً، وأسوأهم وأخبثهم طوية . كانوا يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويأتون الذكور في أدبارهم –قبحهم الله ولعنهم- . فدعاهم لوط عليه السلام إلى الله ، و إلى التوحيد ، وإلى ترك هذه الفاحشة العظيمة،  قال تعالى: { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ(80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} ([69]). وقال تعالى : { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ(28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ...}الآية  ([70]) . ولذا كان حكم مرتكب هذه الجريمة في شريعتنا قتل الفاعل والمفعول به ، قال صلى الله عليه وسلم : (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) ([71]) . سواء كان الفاعل والمفعول به محصنين أو لا . وما هذا التشديد إلا لأنها جريمة وفاحشة عظيمة تخالف الفطرة  التي فطر الله الناس عليها، ومرتكبها قد بلغ الغاية في الفحش فاستحق هذه العقوبة البليغة .

ولم يرتض قوم لوط ما دعاهم إليه لوط عليه السلام فنابذوه، وردوا عليه قوله : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ([72]) . بل قالوا له : {  ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ([73]) . ولما رأى لوط عليه السلام عنادهم واستكبارهم وإفسادهم في الأرض دعا عليهم   : { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ(30)} ([74]) . فاستجاب الله لنبيه ، وبعث الملائكة بالعذاب على المكذبين المعاندين .

 قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ(77)وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ(78)}  فلما جاءت الملائكة على صورة رجال حسان الوجوه، اشتد على لوط عليه السلام لعلمه بقومه وخبثهم وطلبهم الفاحشة ، فما كان من قومه لما علموا بمجيء الضيوف  إلا أن جاءوا مسرعين، طالبين الضيوف، وهم قد اشترطوا عليه أن لا يضيّف أحداً . فدعاهم إلى بناته ، ولم يرد لوط عليه السلام فعل الفاحشة ببناته، ولكن مراده إما مدافعته لقومه وصدهم عن مرادهم، أو أنه دعاهم إلى نكاح بناته من قومه الذين أرسل فيهم، وذلك أن كل نبي بمنزلة الأب لبني قومه، وزوجته بمنزلة الأمهات [75] . ولكنهم لم يستجيبوا له و قالوا له :  {  لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ(79)قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(80)} قال صلى الله عليه وسلم : ( يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد) ([76]) . ولوطاً لما ضاق بهم ذرعاً ولم تكن له عصبة وجماعة يأوي إليها وتمنعه منهم قال ما قال ،  ومراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الله هو الركن الشديد بل هو أشد الأركان وأمنعها .  ولما وصل به شدة الأمر إلى تلك الحال التي وصف الله عز وجل  قالت له الملائكة   {  يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ(81)} فأُمر لوط بأن يخرج بأهله ولا يلتفت منهم أحد وقيل لم يتبعه أحد من قومه إلا ابنتاه ، وأما زوجة لوط عليه السلام فإنها لما خانت زوجها بالكفر وكانت تدل قومها على أضياف لوط، استحقت العذاب والنكال مع قومها.  قال تعالى :  {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ(82)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(83)} ([77]) . قال المفسرون : اقتلع جبريل قرى قوم لوط ورفعها بطرف جناحه ، حتى بلغ بهن السماء، وسمعت  الملائكة صوت صياح الديكة ، ونباح الكلاب ، ثم قلبها عليهم ، ثم أُمطرت عليهم حجارة من سجيل منضود وهي الحجارة الشديدة الصلبة، ومنضود : أي متتابعة .

فانظر  رعاك الله ، إلى أولئك القوم ، كيف هانوا على الله لما عصوه وكذبوا رسله،  ولا يظن ظان  أن هذا العذاب خاص بقوم لوط ، بل من شابه فعلهم ، فهو على خطر من ذلك العذاب ، وهو مصداق قوله تعالى : { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } .

جنبا الله وإياكم سخط الجبار ، وأليم عقابه، وأنزلنا وإياكم  فسيح جنانه ، والفوز بالفردوس الأعلى، اللهم آمين  .

 

 

 

 

 

 

 

   قصة خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام

 

كان أهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريباً من بحيرة قوم لوط ([78]) .  وكانوا كفاراً يقطعون السبيل، ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة وهي شجرة من الأيك، وكانوا يبخسون المكيال والميزان ويطففون . حتى بعث الله فيهم رجلاً منهم وهو شعيب عليه السلام ، فدعاهم إلى التوحيد ، وترك القبائح، وعدم ظلم الناس .  قال تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(86)} ([79]) .  فدعاهم إلى التوحيد، وأمرهم بالعدل وعدم بخس الناس حقهم، ونهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية، وذكرهم بنعمة الله عليهم أن كثرهم من قلة .

ولكن كعادة الأمم الظالمة، والقرون السالفة، كذبوا نبيهم واستهزءوا به ، { قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ([80]) . وذلك على سبيل الاستهزاء والتنقص والسخرية .  فأجابهم شعيب عليه السلام : { قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ([81]) .  فبين لهم أنه على يقين من أمر ربه وأنه مرسل إليهم ، وأنه إن أمرهم كان هو أول من يأتمر  ، وإن نهاهم عن شيء كان هو أول من ينتهي . ثم ذكّرهم بحال الأمم المكذبة قبلهم وما حل بهم من النكال والعذاب لما خالفوا رسل ربهم ، فقال  : { وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ  ببعيد } ([82]) . أي :  لا يكن بغضكم لي يحملكم علىمخالفة أمر الله، فإن قوم نوح وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، كذبوا رسل الله، وعاندوهم، ونابذوهم ، فحل عليهم العذاب الأليم .  ثم دعاهم إلى الرحمن الرحيم، وفتح لهم باب التوبة  والمغفرة ليعودوا : { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ(90)} ([83]) .  ولكن عاندوا وكابروا، وقالوا: { يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ(91)} أي: لا نعقل كلامك ولا نفهمه ولا نحبه، ولا نريده ، وأنت ضعيف عندنا، ولولا قبيلتك وعشريتك لرجمناك. {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(92)} فرد عليهم: أتخافون من قبيلتي وعشيرتي ولا تخافون من الله، ثم توعدهم فقال:  {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ(93) } ([84]) . 

ثم لما استحقوا العقاب والعذاب، جمع الله لهم صنوفاً من العذاب، لأنهم جمعوا صنوفاً كثيرة من الأفعال القبيحة والشنيعة ، فأخذوا بعذاب الظلة كما في سورة الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189)} ([85])  .  ثم عذبوا بالرجفة التي زلزت الأرض من تحتهم وأزهقتهم كما في سورة الأعراف  قال تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(78)} ([86]) .    ثم عذبوا بالصيحة  : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(94)} ([87])  وهي صيحة عظيمة أخمدت الأصوات .. قال ابن كثير: أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى إليهم منها شرراً من نار ولهباً ووهجاً عظيماً ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم .. ([88]) .فبعداً للقوم الظالمين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصة يوسف عليه السلام        

 

هو يوسف ابن يعقوب ابن اسحاق ابن ابراهيم عليهم السلام، وأكرم به من نسب ! ، أنزل الله في شأنه سورة تتلى ، فذكرت أحواله وتفاصيل حياته .

مبدؤها رؤيا رآها يوسف في منامه ،  حيث رأى أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر له ساجدين،ولما قص تلك الرؤيا على أبيه يعقوب عليه السلام، علم أنه سيكون ليوسف شأن عظيم، فأمره بأن يكتم الأمر حتى لا يحسده أخوته أو ينالوه بسوء، والشمس والقمر أي أبواه ، والكواكب الأحدى عشر هم إخوته  : {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ(5)وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ([89])  . ولما رأى أخوة يوسف محبة أبيهم له وعنايته به، حسده أخوته وأضمروا له في أنفسهم شراً وكادوا أن يتفقوا على قتله، لولا أن أخاهم الأكبر رأى عدم قتله الاقتصار على رميه في البر حتى  تلتقطه أحد القوافل التي ترد البئر- أثنتهم عن قتله، والله غالب على أمره  .  ثم احتالوا على أبيهم حتى يخرج يوسف معهم للعب ، وكان يعقوب لا يمكنه من الذهاب معهم، خوفاً عليه : {قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11)أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(12)قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ(13)قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}  . ثم نفذوا ما أضمروه في صدورهم، فألقوا يوسف في البئر، وأخذوا قميصه ولطخوه بالدم، وعادوا إلى أبيهم  وتصنعوا : {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16)قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } ولكن لم تنطل حجتهم على أبيهم يعقوب وعلم أنهم قد كتموه أمراً { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)} . ثم جاءت قافلة سائرة في الطريق، وجاء الذي يستقي الماء، فأرسل الدلو، وتعلق يوسف به ، ولما رأوه  فرحوا به ، وأخذوه رقيقاً ،  ثم لما علم أخوة يوسف بأمر القافلة لحقوهم ، وقالوا لهم: هذا غلام أبق منا، فباعوه لهم  بثمن قليل جداً ! .

وفي مصر بيع ذلك النبي الكريم إلى عزيز مصر ، وهو وزير خزائن الدولة ، { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًاً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } ، وهذا من تمكين الله ليوسف ، وحسن تدبيره .

ثم لما شب يوسف وبلغ مبلغ الرجال، وكان عليه السلام جميلاً أعطاه الله شطر حسن بني آدم ، افتتنت به امرأة العزيز ، فهيأت له مكاناً، وتطيبت وتزينت، ودعته إلى مكانها، وغلقت الأبواب، ودعته إلى نفسها . ولكن يوسف عليه السلام اعتصم بمولاه ، وتعوذ بالله أن يخون سيده الذي أكرمه ورباه . { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24)} وفي الآية لطف الله وعنايته بيوسف عليه السلام ، فإن يوسف عليه السلام هم بها ، ولك أن تتخيل موقف كهذا الموقف، امرأة جميلة، وسيدة القصر وهي الآمرة الناهية فيه ، وتزينت كما تتزين الزوجة لزوجها، ومكان مغلق، وهو غريب في ذلك البلد، كلها دواعي قوية  لا يكاد ينفك منها الرجل إلا من وفقه الله وأعانه .  ولذلك كان من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله  : (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ) ([90]) .

 وفي الآية أيضا: بيان أن الإخلاص سبب للنجاة والخلاص من المضائق والكروب، فانظر إلى قوله  { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }، فكان الإخلاص سبباً في نجاة يوسف عليه السلام .

ولم ينتهي الموقف بعد، بل أراد يوسف النجاة بنفسه من هذا الابتلاء، فتسابقا إلى الباب ، وكان العزيز قد قدم عليهما ، وأسقط في يدها لكنها تخلصت وألقت باللائمة والتهمة على يوسف فقالت : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(25)}، فدافع يوسف عن نفسه : {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وأظهر الله براءة يوسف بشاهد من أهل البيت : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(26)وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ(27)فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }. ثم شاع الخبر في المدينة، وتناقل الناس وخصوصاً النساء أمر افتتان امرأة العزيز بفتاها، { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(30)}، فعلمت امرأة العزيز مرادهن وفهمت مقالتهن وأن قصدهن رؤية يوسف {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ }. وهذا الذي حصل لهن مما أنعم الله به على يوسف عليه السلام من جمال الصورة وحسن الهيئة حيث لم تميز معه النساء ولم تشعر إلا وهن يقطعن أيديهن من جماله !،  فسبحان الله الذي أتقن صنعه ! . ثم  عقبت امرأة العزيز   : { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ(32)}، لكن يوسف اعتصم بربه والتجأ إليه وهو نعم الملجأ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }  ، واستقر أمرهم على سجن يوسف حيناً من الزمن ، وكان ذلك .

ولما أدخل يوسف عليه السلام السجن، لكونه لم يجب امرأة العزيز إلى ما تريد، دخل معه فتيان، أحدهما كان ساقي الملك ، والآخر خبازاً . وكلاهما رأى رؤيا، فساقي الخمر  رأى أنه يعصر خمراً، والخباز رأي أنه يحمل فوق رأسه الخبز والطير تأكل منه .  فلما رأوا حال يوسف وسمته، قص كل واحد عليه الرؤيا التي رآها ليعبرها لهما، فأراد يوسف عليه السلام أن يدعوهما للتوحيد قبل أن يجيبهما ، وهذا من الأساليب الحسنة في الدعوة إلى الله، فقال لهما : {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39)مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(40)} . ثم  عبر الرؤيا، فأما الساقي  فإنه يعصر لسيده الخمر، وأما الخباز ، فإنه سوف يُصلب والطير تأكل من  رأسه .

ولما عبر يوسف الرؤيا قال لساقي الملك الذي ظن أنه سينجو   أذكرني عند الملك ،  والسجن الذي وضعت فيه بغير جرم .  ولما خرج الساقي أُنسي   ما قال له يوسف عليه السلام، فشاء الله أن يمكث مدة بضع سنين في السجن .

ثم إنه بعد ذلك أقلقت الملك رؤيا رآها وطلب تعبيرها : {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ(44)} .  ولم يجد من يعبرها له، واعتذروا بأنها قد تكون أضغاث أحلام . وتذكر ساقي الملك أمر يوسف وطلب إرساله إلى يوسف في السجن، فلما جاءه وقص عليه الرؤيا أولها يوسف عليه السلام فقال : {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ(48)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ(49)} . فرجع الساقي إلى الملك فأخبره، ولكن الملك طلب يوسف ليأخذ عنه التأويل مشافهة، ولكن يوسف عليه السلام أبى الخروج حتى تظهر براءته، فجمع الملك النسوة وسألهن  عن  أمر يوسف ،   : {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} عندئذ لم تر امرأة العزيز مناص من الاعتراف بالحق :  { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} . فخرج يوسف عليه السلام معززاً مكرماً ، وأراد أن يجعله الملك مقرباً ومستشاراً له ، فطلب منه يوسف أن يجعله على خزائن الأرض لعلمه ومعرفته بتصريفها وأخبر عن نفسه بأنه حفيظ عليم .

ولما جاءت سنين الجدب، كان الناس يأتون إلى مصر لأخذ ما قدر لهم من الطعام، وكان نصيب كل إنسان من الطعام حمل بعير . فدخل إخوة يوسف عليه ، فعرفهم ولم يعرفوه ، ولم يكن ببالهم أن يصل يوسف عليه السلام إلى هذا المنصب . فسألهم وعلم حالهم، وأن لهم أخاً من أبيهم لم يأت معهم ، فطلب منهم إذا جاءوا في العام القادم أن يأتوا بأخيهم ، حتى يكون فعله أقرب للعدل، ثم حذرهم إن لم يأتوا بأخيهم العام القادم، فلا يطلبوا منه شيئا ولا يقربوه .  فكان في هذا تهديد لهم ، مما حملهم على الإلحاح على أبيهم لكي يرسل معهم أخاهم ، فيوافق العزيز على إعطائهم الطعام .  ولكن الأب خاف أن يفعل بابنه بنيامين مثل ما فعل بيوسف، فأخذ عليهم العهود والمواثيق، أن يأتوا بابنه بنيامين  إلا أن يحيط بهم أمر لا يستطيعون رده عن أنفسهم ولا عن  بنيامين . فأعطوه العهود المواثيق على ذلك،  ثم أمرهم أبوهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة ، وذلك أن أولاد يعقوب عليه السلام كانوا كثيرين وكانوا حسن الهيئة ، فخاف عليهم العين، فأمرهم بالتفرق . ثم أنهم لما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم، و دخلوا على يوسف ، وتمكن من الخلوة بأخيه بنيامين ، وأخبره بأنه أخوه وقص عليه الخبر ، ثم دبر معه مكيدة تبقيه عنده ، حيث جعل صواع  الملك ، وهي التي كان الملك يشرب بها، ويكيل بها الطعام ، ولما خرج أخوة يوسف، لحقهم جند الملك وقالوا لهم لقد سرقتم صواع الملك، فأنكر إخوة يوسف ذلك أشد الإنكار، وطلب منهم جند الملك أن يفتشوا متاعهم فمن وجدوا  عنده الصواع فإنه يؤخذ ، وتلك العقوبة في شريعة يعقوب ، ولم يكن في دين الملك أن من سرق يؤخذ .  ففتشت أوعية الأكبر فالأكبر حتى جاءوا إلى رحل بنيامين ووجدوا عنده الصواع ، فأخذوه معهم إلى عزيز مصر، وحاول إخوة يوسف أن يبقوا غيره عند العزيز ، ويخلي سبيل بنيامين حتى لا يخلفوا مواثيقهم وعهودهم لأبيهم يعقوب ، لكن عزيز مصر رفض ذلك.

ولما جاء الخبر يعقوب عليه السلام ،  أكثر البكاء ، وابيضت عيناه من كثر الحزن والبكاء على يوسف ، ولم ييأس يعقوب من رحمة الله ، وأمر بنيه بالبحث عن يوسف وبنيامين ، فعاد إخوة يوسف إلى  عزيز مصر  وناشدوه ، وذكروا له حال  أبيهم : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ(88)}  فلما رأى حالهم ، رق لهم  وقال : {  هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} .  {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90)قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ(91)قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} ،  فذهب البشير بقميص يوسف عليه السلام ،  {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ  لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ(94)قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ(95)فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ولما دخل يعقوب عليه السلام وزوجه وأولاده الأحد عشر ، سجدوا له ، والسجود في شريعتهم كانت تحية للعظماء ، وكان هذا السجود تأويل للرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام لما كان صغيراً .  والحمد لله رب العالمين .

 

 

 

 

 

قصة نبي الله أيوب عليه السلام 

 

هو أيوب بن موص بن زراح بن العيص بن إسحاق ابن إبراهيم الخليل عليه السلام.

قال ابن كثير ([91]) : قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم ، كان أيوب رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد المواشي والأراضي المتسعة بأرض البثينة من أرض حوران . وحكى ابن عساكر أنها كلها كانت له ، وكان له أولاد وأهلون كثير فسلب من ذلك جميعه وابتلى في جسده بأنواع البلاء ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بها وهو في ذلك كله صابر محتسب، ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه، وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته . وضعف حالها وقل مالها حتى إنها كانت تخدم الناس بالأجر، لتطعمه وتقيم أوده، رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ماحل بهما من فراق المال والولد وما يختص بها من المصيبة بالزوج، وضيق ذات اليد وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة ، فإن لله وإنا إليه راجعون ... قال: ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام إلا صبراً واحتساباً وحمداً وشكراً حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام ..

قال: ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها لعلمهم أنها امرأة أيوب خوفاً أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته ، فلما لم تجد أحداً يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير ، فأتت به أيوب فقال : من أين لك هذا ؟ وأنكره . فقالت : خدمت به إناساً فلما كان الغد ، لم تجد أحداً فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به فأنكره أيضاً وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام ، فكشفت عن رأسها خمارها فلما رأى رأسها محلوقاً قال في دعائه : { ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } .. وحلف أيوب عليه السلام أن يضربها مائة سوط لبيعها ضفائرها .

وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قالك : ( إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنه فرفضه القريب و البعيد ... الحديث ) .

ثم لما أراد الله رفع ضره وبلائه ، أمره أن يضرب الأرض برجله { أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } . فانبع الله له عيناً باردة الماء، وأمر أن يغتسل فيها، ويشرب منها ، فأذهب الله عنه  ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض .

ولما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه ذهباً كثيراً ، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بينا أيوب يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحتثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك ) ([92]) .

ورخص الله لأيوب عليه السلام فيما كان من حلفه ليضربن زوجه مائة سوط ، قال تعالى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب } . فأُمر أن  يجمع قبضة من قضبان مختلفه يجمعها أصل واحد من العهن والصوف ونحوه ، ويضرب زوجه ضربة واحدة . فيبر بيمينه ولا يحنث . والحمد لله إله الأولين والآخرين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

         قصة يونس عليه السلام

 

بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى التوحيد، وإلى عبادة الله وحده، ولكنهم كعادة الأمم قبلهم ، كذبوا رسولهم ، وكفروا به، فخرج غاضباً من عندهم ووعدهم أن يحل بهم العذاب بعد ثلاث .

ولما خرج من عندهم غاضباً ، أوقع الله في أنفسهم التوبة والإنابة ، وندموا على ما كان منهم، فخرجوا وقد لبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، وعجوا بالدعاء إلى الله وتضرعوا، فلا تسمع إلا دعاء ونداء وبكاء، ولا تسمع إلا رغاء الإبل، وخوار البقر،وثغاء الغنم.. ولما رأى الله عز وجل حالهم ذلك، رأف بهم ، وكشف عنهم العذاب، الذي قد انعقد سببه . قال تعالى :{ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا  عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } .

وأما يونس عليه السلام فإنه لما خرج غاضباً بسبب قومه ، ركب سفينة في البحر ، فاضطربت وماجت بهم ، وثقلت بمن فيها ، وكادوا يغرقون ، فاتفقوا على أن يجروا قرعة ، فمن وقعت عليه يلقونه في البحر ،  فوقعت القرعة على يونس، ولما هم بإلقاء نفسه في البحر، أعادوا القرعة فخرجت الثانية عليه، ثم أعادوا القرعة مرة ثالثة، وفي كل مرة تقع عليه ، فلم يرَ يونس عليه السلام بداً من إلقاء نفسه، لأمر قدره الله عز وجل . ولما ألقى يونس نفسه في البحر، أوحى الله إلى حوت أن يلتقمه ولا يهشم له عظماً ولا يأكل له لحماً فليس له برزق .  قال تعالى : { وإن يونس لمن المرسلين . إذا أبق إلى الفلك المشحون . فساهم فكان من المدحضين .فالتقمه الحوت وهو مليم } .  فمكث يونس في بطن الحوت مدة الله أعلم بها  وكان تسبيحه : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .  فاستجاب الله له : { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } .  قال صلى الله عليه وسلم : (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له  ) ([93]) .

فأوحى  الله إلى الحوت أن يقذفه إلى البر، وأنبت عليه من شجرة اليقطين أي القرع، كي يعوضه  السقم الذي أصابه من مكثه في الحوت ، قال تعالى : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم . وأنبتنا عليه شجرة من يقطين  } .  ثم أرسله الله إلى قوم عدتهم مائة ألف أو يزيدون . فآمنوا جميعهم ، فضلاً من الله وكرامه .

والحمد لله أولاً وآخراً . والصلاة والسلام على محمد وآله .

         قصة كليم الله موسى عليه السلام  

 

هو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام .

أول أمره رؤيا رآها فرعون، فقد رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بني إسرائيل ، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة  والسحرة، وسألهم عن رؤياه، فقالوا له : هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه ، ثم إن فرعون أمر بقتل كل غلام يولد لبني إسرائيل . فجعل هناك قوابل ورجال يدورون علىنساء بني إسرائيل ويعلمون ميقات وضع الحوامل ، فإن كان ذكراً قتل ، وإن كانت أنثى تركت .

وكان بنوا إسرائيل مسخرين لخدمة فرعون والأقباط، ومع استمرار قوم فرعون في قتل الذكور، خشي الأقباط إن هم قتلوا كل مولود ذكر،  أن لا يجدوا من يخدمهم ، ويتولوا هم القيام بالأعمال التي كان يقوم بها بنو إسرائيل . ولذلك شكوا إلى فرعون ذلك الأمر، فأمر فرعون بقتل الذكور سنة، وأن يترك قتلهم سنة . فولد هارون بن عمران في عام المسامحة ، وفي عام القتل حملت أم موسى بموسى، فخافت عليه، ولكن الله إذا قدر أمراً كان ، فلم يظهر على أم موسى مخايل الحمل، ولما وضعت أُلهمت بأن تضع ابنها في تابوت، وتربطه بحبل، وكانت دارها متاخمة للنيل ، فكانت ترضعه، وإذا قضى رضاعه أرسلت التابوت وطرف الحبل عندها، خشية أن يباغتوها رجال فرعون . ثم إنها ظلت على ذلك فترة من الزمن ، فأوحى إليها ربها أن ترسل الحبل : { وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } ([94]) .  ولك أن تتأمل كيف تُلقي أم بولدها في النهر تتقاذفه المياه من كل جانب، ولكن هي مشيئة الله وإرادته، وأخبر الله أم موسى أن لا تخاف عليه من الضيعة أو الموت ، وأن لا تحزن عليه، فإنه راجعٌ إليك، وفوق ذلك بشارة وأعظم بشارة ، أنه سيكون من الأنبياء المرسلين الذين لهم شأن .

فاستجابت أم موسى لأمر ربها ، وأرسلت وليدها في التابوت تجرفه المياه حتى وقف على قصر فرعون ، والتقطه الجواري وذهبوا به إلى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فلما رأته ألقى الله في قلبها محبته، وكان  لا يأتيها الولد، وقالت لفرعون : { قرت عين لي ولك لاتقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون } . فقال فرعون : أما لك فنعم، أما لي فلا حاجة لي به .  ولما استقر مقام موسى في بيت فرعون ، لم تصبر أم موسى على فراق ابنها ، وأرسلت أخته تقص خبره ولتعلم مكانه ، وكادت أن تبدي أم موسى بأمرها، ولكن الله ثبتها، { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين } .

ولكن الله لا يخلف وعده بقوله { إنا رادوه إليك } ، فحرمت المراضع على موسى، فلم يقبل أن يرتضع من أحد ، ولم يقبل ثدياً ، وخافت امرأة فرعون عليه الهلاك، وأرسلته إلى السوق لعلهم يجدون له مرضعاً، فجاءتهم أخت موسى وقالت لهم : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } . فذهبوا معها إلى منزلها، فأخذته أم موسى ووضعته في حجرها وألقمته ثديها فأخذ يرتضع منها، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً ، فأخبروا آسية بذلك ففرحت، وأرسلت في طلب أم موسى، وعرضت عليها أن تكون عندها ترضع موسى، فاعتذرت بأن لها بيتاً وأولاد وزوج، وقالت لها: أرسليه معي ، فوافقت آسيه على ذلك ، ورتبت لها رواتب ونفقات وهبات، فعادت أم موسى بابنها ، وبرزق مستمر يأتيها من امرأة فرعون .

و شب موسى ، وبلغ مبلغ الرجال، وكان الله قد آتاه قوة في الجسم ، ثم إنه دخل المدينة في وقت غفلة فوجد رجلين يقتتلان أحدهما قبطي ، والآخر من بني إسرائيل، فطلب الإسرائيلي من موسى النصرة والنجدة، فبادر موسى لنصرته ، فضرب القبطي ضربة قتلته، وعلم موسى أن هذا العمل من فعل الشيطان فتاب إلى ربه واستغفره من هذا الذنب، فتاب الله عليه ، ثم إنه من الغد دخل المدينة فوجد ذلك الرجل الإسرائيلي يقتتل مع قبطي آخر ، وناداه واستغاث به، فقال له موسى، إنك لغوي مبين، فأراد موسى أن يبطش بالقبطي ، فخاف الإسرائيلي وظن أن موسى سيبطش به فقال : { ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس  إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } . فلما سمع القبطي بذلك الأمر ذهب مسرعاً يخبر الناس بمن قتل القبطي الآخر ، فخرج الناس مسرعين يريدون موسى، وجاء رجل قد سبقهم ، ينذر موسى بما أضمروا  له، وأشار عليه بالخروج من المدينة لينجو بنفسه ، {فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين(21)ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} .

خرج موسى من أرض مصر خائفاً من بطش فرعون وقومه، لا يعرف أن يذهب؛ لكن تعلق قلبه بمولاه : {ولما توجه تلقاء مدين قال  عسى ربي أن يهديني إلى سواء السبيل } . فهداه الله إلى أرض مدين، فبلغ ماء مدين، ووجد الرعاء يسقون، ولاحظ وجود امرأتين تردان غنمهما أن يردا مع غنم القوم . قال المفسرون : وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة فتجيء هاتان المرأتان فتوردان  غنمهما في فضل أغنام الناس .

فلما ذهب الرعاء قال لهم موسى ما شأنكما ؟ فأخبراه أنهما لا تقدران على ورود الماء حتى يذهب الرعاء،  وأبوهما شيخ كبير وهم نسوة ضعفاء . ولما عرف حالهما ، رفع موسى الحجر عن البئر ، وكان لا يرفعه إلا عشرة من الرجال، : { فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وقال ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير } .

ثم مالبث أن جاءته إحدى المرأتين وقالت : { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } فذهب موسى وكلم أبوهما شعيب ، وهو ليس شعيب النبي ،  وطمأنه بأنه في أرض ليست لفرعون عليها سلطة ، وتكلمت إحدى المرأتين ، وقالت : {ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} . أما القوة فظاهر ، وذلك أن موسى عليه السلام رفع الحجر من فم البئر، حيث كان لا يستطيع رفعه إلا عشرة من الرجال، وأما الأمانة: فإن المرأة لما جاءته  ليأخذ أجره من أبيها، قال لها لا تمشي أمامي ، وامشي خلفي ، وأمرها بأن ترمي الحجر يميناً وشمالاً لتدله على الطريق .

وعرض عليه شعيب أن يستأجره لرعي الغنم ثمانية أعوام وإن زاد عشرة فهو فضل من موسى، على أن يزوجه إحدى ابنتيه . فوافق موسى عليه السلام، وأتم له عشرة أعوام .

ولما قضى الأجل سار موسى بأهله قاصداً أرض مصر، وكان له موعد تشريف ، حيث امتن الله عليه وأكرمه بالرسالة، وكلمه ربه  : {فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني ءانست نارا لعلي ءاتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون(29)فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين(30)وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين(31) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين  قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون(33)وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون(34)قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون(35) } ([95]) .

فكلمه ربه، وأرسله إلى بني إسرائيل، وأعطاه آيات وبراهين، من رآها علم أنها ليست في مقدور البشر .  فكانت عصا موسى تنقلب حية عظيمة ، وحلّ عقدة من لسانه حتى يفقهوا عن موسى قوله وقد كان في لسانه لثغة ، ثم أجاب الله سؤال موسى أن يرسل إلى هارون  ويجعله وزيراً معيناً لمواجهة فرعون وقومه، فأجاب الله موسى إلى ما سأل، وهذا دليل على وجاهة موسى عند ربه : { وكان عند الله وجيهاً } .

ثم أمر الله موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون ، ويدعونه إلى التوحيد، قال تعالى :  {اذهبا إلى فرعون إنه طغى(43)فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى(44)قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى(45)قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى(46)فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى} ([96]) .  وأظهر موسى عليه السلام لفرعون الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله وأنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فلم يستجب بل كابر وعاند، ثم أظهر موسى له  الآيات الباهرة، فأظهر يده بيضاء شديدة البياض، وألقى العصى فكانت حية تسعى ترهب كل من رآها . ومع ذلك كله ، لم يستجب فرعون وقومه واتهموه بالسحر، وطلبوا موعداً ليقابلوا سحرهما بسحر مثله ، فأجاباهما إلى طلبهم وواعداهما يوم الزينة وهو يوم  عيد لهم  حيث يجتمع الناس كلهم ، ولما جمع فرعون السحرة قال لهم : {إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى(63)فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى(64) قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى(65)قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(66)فأوجس في نفسه خيفة موسى(67)قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى(68)وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى(69)فألقي السحرة سجدا قالوا ءامنا برب هارون وموسى(70)قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى(71)قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا(72)إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى(73)} قال ابن عباس وغيره : أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء

ولما خاب ما كان فرعون يؤمله من قهر السحرة لموسى، حيث آمن السحرة كلهم لما رأوا آية ليست من جنس السحر، عندئذ، توعدهم فرعون بالقتل والصلب، فقتلهم وأفناهم . وحرض رجال فرعون ،  ملكهم فرعون على موسى ومن معه ، { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك . قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون . قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا . قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } . واستمرت أذية فرعون وقومه ، لموسى وقومه، فانتصر الله لموسى فابتلى  فرعون وقومه بأنواع من العذاب ، فابتلاهم بالسنين وهي الأعوام التي ليس فيها زرع ولا ينتفع بضرع، ثم ابتلاهم بالطوفان وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع، ثم ابتلاهم بالجراد الذي ذهب بزروعهم ، ثم ابتلاهم الله بالقمل الذي نغص عليهم حياتهم فدخلت عليهم بيوتهم وفي فرشهم . ثم ابتلاهم الله بالدم، فكانوا كلما اغترفوا ماء تحول دماً عبيطاً فلم يهنئوا بماء عذب . ثم ابتلاهم الله بالضفادع، فملأت عليهم بيوتهم ، فلا يكشفوا إناء إلا وبه من الضفادع، فتنكد عيشهم بذلك .

وكانوا كلما ابتلوا ببلوى سألوا موسى أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب، وإن فعل ليؤمنوا له ويرسلوا معه بني إسرائيل . وكان موسى يدعو ربه في كل مرة يسألونه ذلك، وكان الله يستجيب دعاء نبيه ورسوله .

ولما تمادى فرعون وقومه في الضلال والغي، وكفرهم بالله، ومخالفة لرسوله . أوحى الله إلى موسى أن يكون هو وبنو اسرائيل على أهبة الرحيل، وأن يجعلوا في بيوتهم علامة تميزهم عن بيوت الأقباط، ليعرفوا بعضهم عند الرحيل ، وأمرهم الله بإقامة الصلاة { وأوحينا إلى موسى أن تبوءآ لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين } .  ولما رأى موسى أن قوم فرعون يزدادون عتواً وعناداً دعا عليهم وأمن هارون على دعائه  فقال :{ ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة  الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك  ربنا اطمس على اموالهم واشدد قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } .

فأمر الله موسى وقومه بالخروج ، واحتالوا على فرعون بأنهم يريدون أن يخرجوا لعيد لهم، فأذن لهم فرعون وهو كارهٌ لذلك ،  واستعاروا حلياً من الأقباط، وهذا والله أعلم حتى يأمنوا   أن خروجهم كان للعيد .  فسار موسى ببني اسرائيل واستمروا ذاهبين صوب بلاد الشام، ولما علم فرعون بمسيرهم ،  حنق عليهم حنقاً شديداً ، وجمع جيشه من كل مملكته، وخرج على رأسهم في جيش عظيم جداً طالباً موسى وقومه ، يريد الفتك بهم وإفنائهم .  واستمروا في سيرهم طالبين موسى وقومه حتى أدركوهم عند شروق الشمس، ولما رأى بنوا اسرائيل فرعون وقومه مقبلين نحوهم قالوا : { إنا لمدركون }  وقال موسى من فوره مقالة الواثق بربه، { كلا إن معي ربي سيهدين } . وأوحى الله لموسى أن يضرب بعصاه البحر ، فانفلق البحر اثنا عشر طريقاً ، وكان بنوا اسرائيل اثنا عشر سبطاً ، فسار كل سبط في طريق، ورفع الله الماء كالجبل يابساً ،  ولما وصل فرعون إلى البحر ، ساءه ما رأى ، وأخذته الحمية، ودفع بفرسه داخل البحر يريد أن يدرك موسى، ولما تكامل موسى وقومه خارجين من البحر، وتكامل فرعون وقومه في البحر، أمر الله البحر فأطبق   الماء على فرعون وقومه وأغرقهم جميعاً ، ولما رأى فرعون الموت قال { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } قال الله : { الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية } . فأخرج الله جثة فرعون لكي يراه الناس ويتيقنوا هلاكه . فلله الحمد والمنة .

وقال تعالى : {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين(136)وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون(137)وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم ءالهةقال إنكم قوم تجهلون(138)إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون(139)قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين(140)وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } ([97]) .  وبعد رأى بنو اسرائيل هذه الآية العظيمة بهلاك فرعون وقومه، مروا على قوم عاكفين على أصنام يعبدونها، فسألهم بعضهم عن ذلك، فقالوا: إنها تجلب النفع والضر والرزق والنصر، فعندئذ سأل بعض بني اسرائيل نبيهم موسى أن يجعل لهم آلهة مثل أولئك، فعنفهم موسى على ذلك . وتوجه موسى ببني اسرائيل قاصداً بيت المقدس، وكان فيها قوماً من الجبارين ، وكان الله قد وعدهم دخول بيت المقدس، فأمر بني اسرائيل دخولها، وقتال أهلها، فنكل أكثرهم وتبجحوا في الجواب . فقال لهم موسى : {ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين(21)قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون(22)قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين(23)} والعجب أن بني اسرائيل قد عاينوا هلاك فرعون وقومه وهم أشد بأساً وأكثر جمعاً، والذي أهلك فرعون وقومه، قادرٌ على أن يهلك من هو دونه ، ولكن تلك عادة أولئك القوم قتلة الأنبياء . { قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون(24)} وبئس القول الذي صدر منهم . فعندئذ قال موسى عليه السلام {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين(25)} قال ابن عباس : أي اقض بيني وبينهم  . فقال تعالى : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين(26)}([98]). فضرب على بني اسرائيل التيه في الصحراء أربعين سنة عقوبة لهم ، فكانوا يسيرون ليلاً ونهاراً إلى غير مقصد أربعين سنة .

وكان شرابهم ماءً زلالاً طيب حيث يضرب موسى عليه السلام الحجر بعصاه فينبع منها ماء طيب، {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين(60)}. وكان  طعامهم المن والسلوى ،وهو طعام ينزل عليهم من السماء فيصنعون منه الخبز، وهو في غاية البياض والحلاوة، فيأخذون منه على قدر حاجتهم، ومن أخذ زيادة فإنه يفسد، وإذا كان آخر النهار غشيهم طير السلوى فيقتنصون منه بلا كلفة، وفي الصيف يظللهم غمام يقيهم حر الشمس رحمة من الله بعباده {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} ([99]) . ولكنهم وكعادتهم ، لم  يعجبهم ذلك وطلبوا من موسى الطعام الخارج من الأرض فقالوا : {وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} فقال لهم موسى: { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.

ثم إن موسى عليه السلام أراد لقاء ربه ، فأمره الله بصيام ثلاثين يوماً ، ثم أمره الله أن يصوم عشرة أيام أخرى،  فصامها. قال تعالى : {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين(142)ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما ءاتيتك وكن من الشاكرين} .  ولما نال موسى عليه السلام شرف كلام الرب، طمع في رؤية ربه ، وسأله الرؤية، فبين له ربه أنه لا يقدر في هذه الدنيا على رؤيته، وأراه  تجليه للجبل، وكيف كان بعد ذلك، فلم يحتمل موسى هذا التجلي ولم يقو على رؤيته فصُعق . ثم تاب موسى إلى ربه من مسألته تلك، وأكرم الله موسى بأن كتب له التوراة  : {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين}.  وفي الفترة التي كان موسى بجانب الطور يناجي ربه،  أحدث بني اسرائيل حدثاً خالفوا به أمر ربهم ، فماكان من رجل يقال له السامري إلا أن زين لهم أن يجمعوا حليهم فصاغ منه عجلاً، ثم  ألقى عليه قبضة من تراب كان قد أخذها من أثر فرس جبريل لما رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه، فأحدث ذلك العجل صوت كخوار العجل الحقيقي، ففتنوا به ، فذكرهم هارون ، وحذرهم، ولكنهم لم يلقوا له بالاً ، وقالوا هذا إلهنا حتى يرجع إلينا موسى .

ثم أعلم الله رسوله بما أحدث بني اسرائيل بعده ، قال تعالى : { وما أعجلك عن قومك ياموسى(83)قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى(84)قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري(85)فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي(86) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري(87) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي(88)أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا(89)ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري(90)قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى(91)قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا(92)ألا تتبعن أفعصيت أمري(93) قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي(94)قال فما خطبك ياسامري(95)قال بصرت بما لم يبصروا به} أي : رأيت جبرائيل وهو راكب على فرس{ فقبضت قبضة من أثر الرسول} أي من أثر فرس جبريل { فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي(96)قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} فدعا عليه موسى بأن لا يمس أحداً  معاقبة له على مسه مالم يكن له مسه ، وذلك في الدنيا { وإن لك موعدا لن تخلفه } وهذا في الآخرة . {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا(97)}. فحرقه موسى عليه السلام ثم نسفه في اليم .  ثم إن الله لم يقبل توبة عابدي العجل إلا بقتل أنفسهم ، قال الله تعالى : {وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم }.  قال ابن كثير: فيقال إنهم أصبحوا يوماً وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف، وألقى الله عليهم ضباباً حتى  لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه، ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم ، فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفاً .

ثم إن موسى عليه السلام خرج بسبعين رجلاً من خيار بني اسرائيل ومعهم هارون ، ليعتذروا عن بني اسرائيل في عبادتهم للعجل ، فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل ، ثم لما انكشف الغمام ، طلبوا رؤية الله ! { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} فجعل موسى عليه السلام يناشد ربه ويرغب إليه ليرفع عنهم:{ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} .

ثم ما زال موسى عليه السلام يعلم بني اسرائيل التوراة ، ويعلمهم الحكمة ، فتوفي هارون في التيه ،  ثم خلفه بعد ذلك موسى عليه السلام . ولوفاة موسى عليه السلام قصة ، ذكرها البخاري وغيره  . فعن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد الله عليه عينه وقال ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة قال أي رب ثم ماذا قال ثم الموت قال فالآن فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ) ([100]) .

 قصة نبي الله داود عليه السلام

 

هو داود بن ايشا بن عويد بن عابر.. ويتصل نسبه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام . قال وهب بن منبه : كان داود عليه السلام قصيراً، أزرق العينين، قليل الشعر، طاهر القلب ونقيه . مكنه الله من قتل جالوت، كما في سورة البقرة، فعظم في أعين بني إسرائيل، فأحبوه ومالوا إليه، وولوه ملكاً عليهم . فجمع الله له بين الملك والنبوة، بين خير الدنيا والآخرة، قال تعالى : { وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء .. الآية } .

وأنزل الله عليه الزبور، ورزقه الله صوتاً حسناً عظيماً، تسبح معه الجبال والطيور، وأرشده الله وألهمه لصناعة الدروع لمقاتلة الأعداء . قال تعالى : {ولقد ءاتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد} ([101]) .  وقال تعالى : {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق(18)  والطير محشورة كل له أواب(19) } ([102]) .  وكان داود عليه السلام يأكل من عمل يده، فكان يصنع الدروع ويبيعها ، قال صلى الله عليه وسلم : (  ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) ([103]) .

ووفق الله داود عليه السلام لعبادة يحبها ، فأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود عليه السلام ، قال صلى الله عليه وسلم: ( أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما) ([104]) . وكان داود عليه السلام مع عبادته، قوياً شديد البأس لا يفر إذا لا قى عدوه ([105]). 

عُمّر داود عليه السلام مائة سنة، يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  (  أول من جحد آدم قالها ثلاث مرات إن الله لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم عليه فرأى فيهم رجلا يزهر قال أي رب من هذا قال ابنك داود قال كم عمره قال ستون قال أي رب زد في عمره قال لا إلا أن تزيده أنت من عمرك فزاده أربعين سنة من عمره فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما أراد أن يقبض روحه قال بقي من أجلي أربعون فقيل له إنك جعلته لابنك داود قال فجحد قال فأخرج الله عز وجل الكتاب وأقام عليه البينة فأتمها لداود عليه السلام مائة سنة وأتمها لآدم عليه السلام عمره ألف سنة) ([106]) .  وكانت وفاته عليه السلام فجأة ، وقد ذكر قصة وفاته الإمام أحمد في مسنده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كان داود النبي فيه غيرة شديدة وكان إذا خرج أغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع قال فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت من أين دخل هذا الرجل الدار والدار مغلقة والله لتفتضحن بداود فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود من أنت قال أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمتنع مني شيء فقال داود أنت والله ملك الموت فمرحبا بأمر الله فرمل داود مكانه حيث قبضت روحه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس فقال سليمان للطير أظلي على داود فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض فقال لها سليمان اقبضي جناحا جناحا قال أبو هريرة يرينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فعلت الطير وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبت عليه يومئذ المصرخية) ([107]) . وقوله وغلبت عليه يومئذ المصرخية : أي وغلبت على تظليله الصقور الطوال الأجنحة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصة نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام

 

هو سليمان بن داود عليهما السلام، ورث النبوة والملك من أبيه داود عليه السلام، وسأل سليمان ربه حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا يكون لأحد من بعده، فأجابه الله إلى مسألته ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثة سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه) ([108]) .

فسخر الله له الريح تجري بأمره، وسخرت له الجن والشياطين، والإنس والطير كلهم جنود له يأتمرون بأمره . قال تعالى : { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب(35)فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب(36)والشياطين كل بناء وغواص(37)وءاخرين مقرنين في الأصفاد(38)هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب(39)} ([109]) . وقال تعالى :{وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهو يوزعون .. الآية } ([110]) . ومكنه الله من فهم لغة الطيور وغيرها ، قال تعالى حاكياً مقالته : { يا أيها الناس علمنا منطق الطير .. الآية } ([111]) .  وقال تعالى : {  وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون  حتى إذا أتو على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } ([112]) .

وقصة سليمان عليه السلام مع الملكة بلقيس مشهورة معلومة، أظهرت عظمة ملك سليمان ، وكيف أُحضر عرش بلقيس خلال مدة يسيرة جداً . قال تعالى : { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } . والمعنى : قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته ([113]) .

وكان لسليمان عليه السلام نساء كثر، ذكر بعض السلف أنه كانت لسليمان عليه السلام من النساء ألف امرأة سبعمائة حرائر، وثلاثمائة إماء، وقيل العكس . ويدل على كثرتهم الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون) ([114]) .

وأما موت سليمان عليه السلام، فقد كان فيه عبرة للإنس، حيث قبض الله روح سليمان وهو متوكئ على عصاه، وكانوا يهابون منه فلا يسألونه أو يحدثونه حتى يكون هو البادئ، واستمر على ذلك زمناً طويلاً ، وما علموا إلا بعد أن أكلت الأرضة عصا سليمان فخر ساقطاً، فعلمت الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، ولو كانت الجن تعلم  أن سليمان عليه السلام قد مات  منذ زمن  ، لم يصبروا على البقاء في السخرة والعذاب -وكان سليمان عليه السلام قد دعا ربه فقال: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب -. قال تعالى : { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } ([115]) .  ولله الحمد .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

 

زكريا عليه السلام نبي كريم، بلغ مع زوجه من الكبر عتياً، ولم يرزق بولد، وكان قد دعا ربه فقال : { رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً . وإن خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً } .  فسأل الله الولد الذي يرثه في النبوة وليست وراثة المال، ولذلك قال: { ويرث من آل يعقوب} . وآل يعقوب تميزوا بالنبوة وليس بكثرة العرض .  وكان زكريا عليه السلام قد كفل مريم أم عيسى عليهما السلام، فتعجب من حالها، فكان يرى عندها فاكهة الشتاء في فصل الصيف، وفاكهة الصيف في فصل الشتاء، فسألها عن ذلك فقال : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} . فتوجه زكريا عليه السلام بالدعاء إلى ربه فقال : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء }. فطلب من ربه ذرية طيبة ، وكذلك المسلم يسأل ربه الذرية وليس ذرية فقط وإنما ذرية طيبة .  فاستجاب الله له، ونادته الملائكة ، قال تعالى : { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } وهنا ملحظ عجيب، وهو أن زكريا عليه السلام مع دعائه ربه وسؤاله الولد، لم ينقطع عن العبادة والتوجه إلى ربه، فجاءته البشرى وهو في محراب صلاته ، { أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين } . فوصفه الله بأنه سيد، أي : الشريف الكريم، ( وحصوراً) : أي مترفعاً عن الفواحش والقاذورات .  فطلب زكريا من ربه علامة على تحقق هذه البشارة، وليس هو اعتراضاً أو تكذيباً بخبر الله، وإنما هو من باب طمأنينة القلب، كما قال إبراهيم عليه السلام { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي.. الآية } . فكانت العلامة أن يمنع زكريا عليه السلام عن الكلام مدة ثلاثة أيام قال تعالى :{ قال رب اجعل لي ءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا(10)فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا(11)} . فوهب الله لزكريا يحيى ، وآتاه الله الحكم في الصبا ، { يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً } . وكان يحيى باراً بوالديه قال تعالى : { وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا(13)وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا}.

قال ابن كثير: واختلفت الرواية عن وهب بن منبه، هل مات زكريا عليه السلام موتاً أو قتل قتلاً على روايتين ([116]) .

وأما يحيى عليه السلام فقد ذُكر في سبب قتله أسبابٌ من أشهرها : أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه، أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فبقي في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها ([117]) . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصة نبي الله عيسى عليه السلام  

 

كانت أم مريم لا تحبل فرأت يوماً طائراً يزق فرخاً له، فاشتهت الولد، فنذرت لله أن حملت لتجعلن ولدها محرراً أي حبيساً في خدمة بيت المقدس؛ فأجابها الله إلى ذلك؛ ولكن أنثى  . قال تعالى : { إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم(35)فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم(36) فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا.. .الآية } ([118]) . وقد استجاب الله لها فأعاذ مريم وابنها عيسى عليهما السلام . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة واقرءوا إن شئتم:{ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} ([119])

ولما تمت رضاعة مريم ، دفعتها أمها إلى المسجد وفاء بنذرها، فتنازعوها كلٌ يريدها، وكان زكريا عليه السلام يريد أن يكفلها ، وكانت زوجته أختها أو خالتها، ولكنهم نازعوه في ذلك كلٌ يريد أن يكفلها . فاتفقوا على أن يقترعوا، فاقترعوا عدة مرات، وكانت في كل مرة تقع القرعة على زكريا، فكفلها، وكان أحق بها من غيرهم .

واتخذ لها زكرياً مكاناً في المسجد، تتعبد الله فيه ، ولا يدخله سواه، وتقوم بسدانة المسجد إذا جاءت نوبتها، واستمرت علىذلك واشتهرت بالعبادة، وبما ظهر على يديها من الأحوال الكريمة، فكان زكريا يجد عندها فاكهة الصيف في فصل الشتاء، ويجد عندها فاكهة الشتاء في فصل الصيف، ولما سألها عن ذلك قالت : { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } .

ثم كان من أمرها أن بشرتها الملائكة ، وجاءها الملك جبريل عليه السلام في صورة بشر، وكلمها، وذلك مبسوط في سورة مريم،  قال تعالى  : { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا(16)فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا(17)قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا(18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا(19)قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا(20)قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا(21)فحملته فانتبذت به مكانا قصيا(22)فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا(23)فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا(24) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا(25)فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا(26)فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا(27)ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا(28)فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا(29) قال إني عبد الله ءاتاني الكتاب وجعلني نبيا(30)وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا(31)وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا(32)والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا(33)}. فكان التكذيب والاتهام بالباطل هو أول ما قابل به بنو اسرائيل مريم، ولكن الله أظهر براءتها على يد عيسى الذي كان في المهد، وتلك آية عظيمة، وهو أول كلام تفوه به عيسى عليه السلام .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاماً من الله، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى، فهمست به بنو اسرائيل، فخافت أمه عليه فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر فذلك قوله :{ وجعلنا ابن مريم وأمه آيه وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } ([120]) .

 ولما بلغ عيسى عليه السلام ثلاث عشرة سنة عاد إلى بيت إيليا، فقدم على يوسف ابن خال أمه، ثم آتاه الله الإنجيل، وعلمه التوراة، وأعطاه إحياء الموتى، والإبراء من الأمراض، وعلم ما يدخره الناس في بيوتهم . ففشا أمره بينهم ،ودعاهم إلى التوحيد . وهيأ الله لعيسى عليه السلام أنصاراً يتبعونه وينصرونه وهم الحواريون .  واستمر عيسى يدعوهم إلى التوحيد ويقيم عليهم الحجج والبراهين، ولكن أكثر بني اسرائيل استمروا في كفرهم وضلالهم . 

ثم طلب الحواريون من عيسى عليه السلام أن يسأل الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون آية على صدقه ويحصل لهم بها الطمأنينة، فوعظهم عيسى عليه السلام، فأبوا عليه ذلك، فسأل الله عيسى عليه السلام، فقال الله في سورة المائدة: { قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين(115)}. فعندئذ خافوا وأبوا نزولها .

وكعادة اليهود لم يرتضوا رسل ربهم، فوشوا بعيسى عليه السلام عند بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان، وأمر بقتله وصلبه، وكان عيسى عليه السلام في دار ببيت المقدس، ومعه اثنا عشر رجلاً، وقال عيسى لمن معه أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب منهم وقال أنا. فرده عيسى عليه السلام مراراً ، ثم لما لم ينتدب أحد غيره ، قال له عيسى إذا أنت . ثم رفع الله عيسى عليه السلام من روزنة أو كوة في ذلك البيت، ودخل الشرط وأخذوا شبه عيسى ، وقتلوه ثم صلبوه، ظانين أنه عيسى عليه السلام، وأمات الله عيسى وفاة الله أعلم بها، وسوف ينزل آخر الزمان  وذلك بعد أن يعيث المسيح الدجال-مسيح الضلالة- في الأرض الفساد، فيبعث الله المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام-  ليخلص الناس من شره، ويقيم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ويحكم بها. فينزل إلى الأرض عند المنارة البيضاء شرقي دمشق الشام. قال صلى الله عليه وسلم في ذكر نزول المسيح عيسى بن مريم : ( فبينما هو كذلك ، إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين([121]) واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمانٌ كاللؤلؤ ) ([122]) . 

وينزل عليه السلام على الفئة المؤمنة،والطائفة المنصورة من هذه الأمة ، ويكون وقت صلاة فيقدم عيسى عليه السلام ويأبى ، فعن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول  : (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، قال : فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ، فيقول أميرهم: تعال صل لنا ، فيقول: لا . إن بعضكم على بعض أمراء . تكرمة الله هذه الأمة  ) ([123]) .

فيحكم عليه السلام بالعدل، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام أو القتل، ويكثر المال ويفيض ، قال صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم  حكماً مقسطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ) ([124]) . ولا يقال أن عيسى عليه السلام نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل هو متبع لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإن رسولنا أخبرنا أن أخذ الجزية قائم حتى ينزل عيسى عليه السلام، فإذا نزل وضعت الجزية ولا يقبل إلا الإسلام .

أما المسيح الدجال فلا يرى المسيح ابن مريم إلا ذاب كما يذوب الملح، قال صلى الله عليه وسلم في ذكر مقتل المسيح الدجال : (... فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأمهم فإذا رآه عدو الله [ أي:المسيح الدجال] ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته)([125]) . وفي حديث النواس بن سمعان : (فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله) ([126]) .

وأما الكافر ، فإنه لا يجد ريح نفس عيسى ابن مريم عليه السلام إلا مات ، ونفسه عليه السلام ينتهي حيث ينتهي طرفه ([127])  .

وفي زمن عيسى ابن مريم عليه السلام بعد نزوله تكثر الخيرات، ويسود الأمن، ويفيض المال، وتزول الشحناء والبغضاء من قلوب الناس، ويعيشون في أهنأ عيش . قال صلى الله عليه وسلم : (  والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص([128]) فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) ([129]) .

أما مدة مكثه عليه السلام ، فقد جاءت الروايات أنه يمكث في الأرض بعد هلاك الدجال سبع سنين ([130]) . ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون . قال الحسن البصري: كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعاً وثلاثين سنة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سيرة خليل الرحمن محمد عليه أفضل الصلاة  والسلام  

 

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة .. ويتصل نسبه إلى عدنان ولد إسماعيل عليهما الصلاة والسلام .

ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل بمكة، وكانت ولادته يوم الاثنين، وطلبوا له مرضعاً، فأرضعته حليمة السعدية، وظهرت بعض الآيات والبركات خلال مدة مكثه في بني سعد .

وقد سأل أبو أمامة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال:  (دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام) ([131]) .

 أما والده عبد الله فقد توفي وآمنة بنت وهب حامل به صلىالله عليه وسلم، وتوفيت أمه وهو لم يستكمل ست سنين بالأبواء وهو مكان يقع بين مكة والمدينة، فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً وكفله جده عبد المطلب، وكان يحبه حباً شديداً . ولما توفي عبد المطلب، تولى أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يرق عليه رقة شديدة،وكان يقدمه على أولاده .

ولما بلغ اثنتي عشرة سنة خرج به عمه أبو طالب في تجارة إلى الشام، ولما رآه بحيرى الراهب، أشار على أبي طالب بأن لا يقدم به الشام خوفاً عليه من اليهود، فأمر أبو طالب بعض غلمانه أن يعود به إلى مكة .

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، وبلغ خديجة صدق حديث النبي صلى الله عليه  وسلم، وأمانته وكرم أخلاقه، عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الشام يتاجر بمالها، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورافقه غلامها ميسرة، ولما رجع من تجارته تلك ، عرضت خديجة بنت خويلد نفسها عليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم  وعمرها إذ ذاك أربعون سنة ، وانجبت خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم : القاسم، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة رضوان الله عليهن .

ولقد حُبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التحنث في غار حراء فكان يتزود، ثم يخلو بنفسه في غار حراء أياماً . وقد سبق نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمات منها : الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ومنها: سلام الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ([132]) .

وبدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول:   أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعٌ ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ([133]).

وبعد أن أوحى الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وكانت بها نبوته، أرسله الله بـ : { يا أيها المدثر ، قم فأنذر } فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو  إلى التوحيد، ونبذ الأصنام، فبدأ بدعوة قومه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي)  قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال : (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)  فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا . فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} ([134]) .

ثم دعا أهل مكة، فكان أول من آمن به من الرجال أبو بكر الصديق، ومن النساء خديجة بنت خويلد، ومن العبيد بلال بن رباح . وآمن به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثمان سنين وقيل أكثر من ذلك . فمن كانت له منعة لم ينله أذى، ومن لم تكن له منعة عُذب، ومنهم بلال وآل ياسر، وهم عمار بن ياسر وأمه سمية وأبوه ياسر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم ويثبتهم ويقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة . وعذب بلال بن رباح حتى اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً.

وضيق على المسلمين في مكة حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة . ثم عادوا لأخبار وصلتهم أن قريشاً كفت أذاها عن محمد وأصحابه، ولما وصلوا مكة لم يزل البلاء يشتد على المسلمين حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة الثانية إلى الحبشة وكان عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة . وحاولت قريش إرجاع من هاجر إلى الحبشة عبر وفد قدَّم كثيراً من الهدايا للنجاشي ملك الحبشة، ولكن رد الله كيد الكافرين، وأبى النجاشي تسليمهم لقريش.

وحاولت قريش مع أبي طالب أن يكف عنهم محمداً فلا يسفه آلهتهم، أو يخلي بينه وبينهم، فأبى عليهم ، ودعا أبو طالب أقاربه لنصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب، غير أبي لهب وقال:

والله لن يصلوا إليك بجمعهــم

 

حتى أوسد في التراب دفينـا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

 

وابشر وقرّ بذاك منك عيونـا

ودعوتني، وعرفت أنك  ناصحي

 

ولقد صدقت وكنت ثم أمينـا

وعرضت ديناً قد عرفت   بأنـه

 

من خير أديان البرية   دينــا

لولا الملامة أو حذار مسبـــة

 

لوجدتني سمحاً بذلك مبينــا

ثم اشتد أذى قريش، وضربت على بني هاشم وبني المطلب والمسلمين الحصار في الشعب، وتعاهدت قريش على أن لا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يناكحوهم،ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبثوا على ذلك مدة ثلاث سنين، نال فيها المسلمين ومن دخل الشعب معهم من الأذى والجوع والعطش ما الله به عليم . ثم تعاقد هشام بن عمرومن بني عامر، وزهير بن أبي أمية، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي- على نقض الصحيفة، فاجتمعوا عند الكعبة، وتبرؤوا إلى الله من أمر هذه الصحيفة الجائرة، وطلبوا نقض الصيحفة فكانت الأرض قد أكلت كل اسم لله فيها، وأبقت ما فيها من ظلم  وغدر . وانتهت بذلك محنة الشعب، بعد حصار دام ثلاث سنين .

وبعد الخروج من الشعب بستة أشهر مات أبو طالب، ولم يُكتب له الإسلام، ثم ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك حزناً شديداً، فمات من كان يحوطه ويحميه بعد الله، وماتت زوجه خديجة التي كانت تثبته وتعينه .

وازداد أذى قريش للمسلمين، وازداد المسلمون صلابة في دينهم لما رأوا من الآيات الكونية والقرآنية على صدق النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم . وكان كفار مكة يرسلون إلى  اليهود يسألونهم عن مسائل يحاجون بها محمد صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف،  وكان القرآن ينزل ويرد عليهم حججهم وباطلهم، ويخبرهم بأمور لا يعلمها أهل الكتاب . وحاولوا إغراء محمد صلى الله عليه وسلم بالمال، أو الجاه، أو تنصيبهم ملكاً عليهم، أو تزويجه أجمل نساء قريش؛ ولكنه أعرض عنهم ليبلغ رسالة ربه .

ولم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، واتهموه بالجنون والسحر والكهانة، ورموه بالكذب، مع أنهم هم الذين سموه بالصادق الأمين ! .  وآذوه حتى وهو يتعبد لربه عند الكعبة، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً عند الكعبة وكفار مكة ينظرون إليه، ثم تشاورا أيهم يأخذ سلا الجزور ويضعه على ظهره، فانتدب لذلك عقبة بن أبي معيط وكان أشقاهم، فوضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم، فجاءت فاطمة بنت محمد وأزالت سلا الجزور عنه وهي تسبهم .

 ثم تعرض له الوليد بن المغيرة، وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فأعجب به، وقال فيه قولاً حسناً؛ فقال: فوا الله ما هو بسحر ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، ثم خشيت قريش من ذلك، فما زال أبو جهل يكلمه حتى نكص على عقبيه وقال إنه هو إلا سحر يؤثر . قال تعالى: { إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر *  عليها تسعة عشر }.

ولم يزل العناد والتكذيب يلازم كفار مكة، حتى إنهم طلبوا من رسول الله صلىالله عليه وسلم أن يريهم آية عظيمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه  أن يريهم آية، فأراهم الله القمر وقد صار فلقتين ، كل فلقة في جهة، ولما رأى ذلك أهل مكة قالوا: سحرنا محمد . ولكن كذبهم كل من أتى قادماً إلى مكة فإنهم أخبروا برؤية انشقاق القمر،  ومع ذلك لم يؤمنوا بل عاندوا واستكبروا .

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى عبادة ربهم، فأقام بينهم عشرة أيام يدعو أشرافهم، فأخرجوه من الطائف، وأغروا السفهاء والصبيان برجمه بالحجارة، وبأقذع الكلام، فأدميت قدماه صلى الله عليه وسلم ، وانطلق هائماً  فقال الدعاء المشهور : ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعو ذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولاحول ولا قوة إلا بالله ) . فأرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، وأخبره أن شاء أطبق على أهل مكة الجبلان اللذين يحيطان بها فعل، ولكن الرسول الرؤف الرحيم بأمته، قال : ( بل استأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده  ولا يشرك به شيئاً ) .

وقبل مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بسنة، أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء السابعة . قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }. فأتاه جبريل في مكة بدابة يقال لها البراق، وركبها النبي صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى بيت المقدس، وصلى فيه إماماً بالأنبياء ، ثم عرج به إلى السماء السابعة، ورأى في كل سماء بعض الأنبياء؛ فرأى آدم وعيسى وموسى وإبراهيم وغيرهم . ثم لما بلغ سدرة المنتهى، أوحى الله إليه وكلمه ، وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة يؤدونها كل يوم، ثم ما زال موسى بمحمد صلى الله عليه وسلم يسأله أن يراجع ربه في تخفيف الصلاة لأن أمته لا تطيق ذلك، حتى استقرت على خمس صلوات بالفعل، وخمسين صلاة بالأجر فضلاً من الله . ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في تلك الليلة وأخبر أهلها بالخبر، كذبوه وتهكموا به، وطاروا بتلك الحادثة كل مطار، وذهبوا سريعاً إلى أبي بكر ليخبروه خبر صاحبه، فلما كلموه في خبره، قال أبو بكر: إن كان قاله فقد صدق . فسمي أبو بكر بعدئذ بالصديق .  ثم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بصفة بيت المقدس، ورسول الله لم ير بيت المقدس بعد، فجلى الله له بيت المقدس كأنه يراه، فأخذ ينعت لهم بيت المقدس فأعجزهم ورد الله كيد الفجار.

وفي المواسم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل، وكانت قريش تحذر القبائل من اتباعه، وتقول إنه مجنون وإنه ساحر وإنه سفيه، حتى ينصرفوا عنه، فقُدر لنفر من الخزرج أن يلتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أبو أمامة أسعد بن زرارة . فسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته وقرأ عليهم القرآن، فأعجبوا بكلامه، وقد كانوا سمعوا اليهود يتحدثون عن خروج نبي في هذا الزمان، فآمنوا به ووعدوه أن يدعوا قومهم لعل الله يجمعهم به .

وعاد القوم إلى ديارهم وفشا فيهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمن من آمن منهم، وفي العام المقبل –وفي الموسم- قدم اثنا عشر رجلاً من الأنصار وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقوه بالعقبة وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه يعلمهم دينهم ويفقهم فيه، فكثر الإسلام في يثرب جداً .

وفي الحج خرج كثير من الأنصار وعدتهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان لملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وواعدوه أوسط أيام التشريق عند العقبة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس بن عبد المطلب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ) فأخذ بيده البراء بن معرور وقال: نعم فو الذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى طيبة، وكان ينتظر الإذن  من ربه بالهجرة، ولما رأى كفار مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت له منعة في يثرب ، أرادوا منعه من الخروج،  واجتمعوا وتشاوروا في أمره ، وخرج عليهم إبليس في هيئة رجل من أهل نجد وأشار عليهم بأن يأخذوا من كل قبيلة شاباً جلداً ثم يقتلوه قتلة رجل واحد، فعندئذ يتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو مناف على حربهم جميعاً ويرضون بالدية؛ فأعجبوا برأيه وقوله، فاجتمعوا على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وأوحى الله إلى نبيه بأمرهم، وأمر علياً بأن يرقد على فراشه ولن يمسه سوء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } إلى قوله : { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون }، فأُلقي عليهم ووضع رسول الله صلى التراب على رؤوسهم وهم لا يشعرون ثم انصرف عنهم مهاجراً، ولما أفاقوا وأبصروا ما  ألقي عليهم طلبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في فراشه، فلم يجدوه ووجدوا علياً مكانه، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجر. -وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته أبو بكر الصديق، وتلك منة من الله، وفضيلة لأبي بكر أن اختصه الله من بين سائر المؤمنين في أن يكون له شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره إلى المدينة . واستأجرا رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط، هادياً يدلهم الطريق .

ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاصدين غار ثور، أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما الأخبار، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم، ويريح الغنم عليهما ويأتيهما في المساء باللبن ،  وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار فإذا خرج من عندهما، عمد عامر بن فهيرة، وساق الغنم لكي تعفي أثره .  وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهم بالطعام في المساء، فمكثا في غار ثور ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام جاء عبد الله بن أريقط حسب الموعد المتفق عليه بدابتين، وسلك بهم طريق الساحل. وجعلت قريش جائزة كبيرة لمن يأتي بهما أحياء أو أمواتاً، ونفر الناس للبحث عنهم، وخرج سراقة بن مالك يطلبهما، فأدركهما ولكن  الله لم يمكنه من الوصول إليهما، فكلما أراد أن يصل إليهما ساخت فرسه في الرمل، وذلك ثلاث مرات، حتى طلب الأمان، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أنه محفوظ من الله وأن الله ناصره، فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاب أمن ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة فكتب له ذلك، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفي عن قريش خبرهما، فعاد إلى قومه ولم يسأله أحدٌ  عن جهته التي أتى منها إلا قال كفيتم هذا الوجه .

ولما أن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية استقبله الناس بفرح بالغ، وكلٌ يريد ضياقة رسول الله صلىالله عليه وسلم ، فبركت ناقته عند بني عمرو بن عوف فأقام عندهم بضع عشرة ليلة، ثم سار بناقته حتى بركت مكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر ببناء المسجد هنالك .

ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، ووادع اليهود الذين كانوا بالمدينة .

وبعد سبعة  أشهر من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أرسل سرية بقيادة حمزة بن عبد المطلب وفيها ثلاثون رجلاً، لاعتراض عير لقريش وكان فيها أبو جهل، ولكن حجز بينهم مجدي بن عمرو ولم يحصل بينهم قتال . ثم توالت السرايا والغزوات للقبائل والقرى المحيطة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم .

وفي السنة الثانية من الهجرة حولت القبلة إلى البيت الحرام بمكة،  وفرض صوم شهر رمضان، وفي تلك السنة وقعت موقعة بدر الكبرى، وهي الواقعة الأولى بين معسكر الإيمان ومعسكر الشيطان، فنصر الله أولياءه وأذل أعداءه ([135]) .

وفي سنة ثلاث من الهجرة توالت الغزوات، وكان فيها غزوة أحد وهي ثاني المعارك مع كفار مكة، وفيها قتل كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه الكريم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم .

-وفي سنة أربع من الهجرة كانت غزوة الرجيع، وسرية بئر معونة وغزوة بني النضير، وغزوة ذات الرقاع .

وفي سنة خمس للهجرة المباركة،  وقعت غزوة دومة الجندل، ثم غزوة والأحزاب أو الخندق، وهي ثالث المعارك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزبه، وبين كفار قريش وأحزابهم التي تجمعت للفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولكن الله رد كيد الكافرين، وأرسل عليهم الريح التي قلبت قدورهم، وخيامهم، وأزعجتهم، حتى ردوا على أعقابهم خائبين ، وفي غزوة الأحزاب نقضت بنو قريظة العهد، ولما انصرف المشركون خائبين تفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قريظة، فحاصرهم وأنزلهم من حصونهم وأخرجهم منها أذله صاغرين .

وفي سنة ست من الهجرة الشريفة : كانت غزوة ذي قَرَد، وغزوة بني المصطلق، وغزوة الحديبية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد زيارة البيت وأصحابه، ولكن قريش منعته من ذلك، وعقدت معه صلحاً، وكان فيه فرجٌ للمسلمين بعد ذلك .

وفي سنة سبع من الهجرة: حدثت غزوة خيبر، وفتح الله خيبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وغنموا مالا كثيراً وأرضاً شاسعة، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقاتلين .وسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة سرايا كثيرة لإقامة دين الله في الأرض . وفي ذي القعدة من سنة سبع للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابة قاصداً زيارة البيت العتيق، وأداء العمرة التي صده المشركون عنها في عام ست من الهجرة،  فدخل مكة واعتمر، وأقام بها ثلاث ليال، ثم سأله أشراف مكة أن يخرج بعد انقضاء الثلاث؛ ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للعقد الذي كان بينه وبين قريش .

وفي سنة ثمان للهجرة، وقعت غزوة مؤتة  في أرض البلقاء من الشام وقوام جيش المسلمين ثلاثة الآف مقاتل، واستشهد فيها الأمراء الثلاثة، وهم من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة، واستشهد غيرهم ، رضي الله عنهم أجمعين .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل البعوث والرسل إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الإيمان بالله، فأرسل إلى ملك كسرى، وملك قيصر، والنجاشي، وغيرهم .

ثم وقعت غزوة ذات السلاسل ، وكان أميرهم عمرو بن العاص، ثم طلب المدد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمده بجمع من الصحابة فيهم  أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعليهم أبو عبيدة عامر بن الجراح، ولم يلقوا قوة تذكر فساحوا في بلاد بلي وبلقين وعذرة، غير أن قوة ناوشتهم فقهروها .

وفي سنة ثمان للهجرة المباركة، وقعت غزوة الفتح الأعظم، وسبب ذلك أن قريشاً نكثت العهد الذي كان بينها وبين رسول الله صلىالله عليه وسلم في صلح الحديبية. حيث أعانت قريش بالكراع والسلاح بني بكر على قتال بني خزاعة التي حالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني خزاعة، وجهز جيشه العظيم، وسأل الله أن يعمي عن قريش خبره حتى يبغتهم.

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم فيهم المهاجرون والأنصار والقبائل التي دخلت في طوع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو سفيان ورأى ما هاله من أمر المسلمين، وشهد شهادة الحق فأسلم، فقال العباس: يارسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .  فجاء أبو سفيان إلى أهل مكة يصيح بهم قد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به، وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن . فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد .

ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة على ناقته وقد أحنى رأسه تواضعاًً لله أن منّ عليه بفتح مكة.  ولم يلق المسلمين مقاومة تذكر إلا في موضع يقال له الخندمة، فقتل من المسلمين من جيش خالد نحواً من ثلاثة ، وقتل من المشركين نحواً من اثني عشر رجلاً، ثم فروا هاربين .

وأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم جماعة كانوا قد آذوه كثيراً وهم عبد الله بن خطل، وكان قد أسلم، ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فغضب على من معه فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن عبد الله بن خطل متعلق بأستار الكعبة، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله . وأهدر –أيضاً- دم عبد الله بن أبي السرح كان قد اسلم وكتب الوحي ثم ارتد، ولكن عثمان بن عفان رضي الله عنه جاء به ليستأمنه، فأمنه الرسول صلى الله عليه وسلم . وأهدر دم عكرمة بن أبي جهل، فهرب وركب البحر ثم هاجت الريح بهم، وأيقنوا بالهلاك، فقال عكرمة: اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم، وكذلك صفوان بن أمية .  وأُهدر دم قينتان لعبد الله بن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأهدر دم مقيس بن صبابة، وهذا أدركه الناس في السوق وقتلوه .

وخطب في أهل مكة وقال لهم: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالو خيراً أخ كريم وابن أخ كريم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء .

-ثم طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبيده قوس، وجعل يمر على الأصنام ويطعنها ويقول: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}.  وأمر بمفاتيح الكعبة أن تؤتى: ودخلها ومعه أسامة بن زيد وبلال بن رباح وعثمان بن أبي طلحة من الحجبة . وصلى ركعتين في الكعبة . ثم خرج وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة ويؤذن .

وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يلي الفتح خطبة بليغة، حرم فيها الدماء والأموال والأعراض، وحرم في مكة القتال والصيد وقطع الشجر. وأشهدهم على البلاغ . وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بضعة عشر يوماً .

وفي شوال سنة ثمان للهجرة، جمعت هوازن لحرب رسول الله صلىالله عليه وسلم،  وكان معهم ثقيف، وبعض القبائل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لملاقاتهم، وكان عدد المسلمين كثير جداً، وظنوا أنهم لن يغلبوا من قلة، ولما دارت رحى الحرب،  باغت المشركون المسلمين ، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، فتفرق صف المسلمين ، وهرب من هرب، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى جهة العدو وهو يقول : أنا النبي لا كذب **** أنا ابن عبد المطلب .

ثم أمر العباس وكان جهوري الصوت أن ينادي أصحاب السمرة ، فناداهم، فلما سمعوا صوته، انعطفوا جميعاً كعطفة البقر علىأولادها، فلبوا مسرعين، ودارت رحى الحرب، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (  هذا حين حمى الوطيس ) . ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بها وجوه الكفار وقال : ( انهزموا ورب محمد ) . فما خلى الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً . فانهزموا وغنم المسلمين منهم خيراً كثيراً . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عطاء من لا يخشى الفقر، وبالغ في إعطاء المؤلفة قلوبهم .  ثم كانت غزوة أوطاس، وسببها أن من فر من المشركين من هوازن لجؤوا إلى الطائف وتحصنوا بها ، ثم حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقتل ناساً من أصحابه بالنبل، ثم تراجع إلى موقع بني فيه مسجداً، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين ليلة، وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال نوفل بن معاوية الدثلي: يا رسول الله ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفك الحصار عن الطائف.

ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالجعرانة، ثم اعتمر من الجعرانة،  وعاد بعد ذلك إلى المدينة النبوية طيبة طيبها الله .

وفي سنة تسع للهجرة المباركة، عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو الروم، فأمر بالتجهز لتلك الغزوة، وكان بالمسلمين شدة، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة في سبيل الله، وأظهر عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق مثلها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم). وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، في وقت صيف وحر شديد. وفي تبوك أتاه صاحب أيلة وصالحه وأعطاه الجزية، فأقام رسول الله صلىالله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة، ثم قفل راجعاً إلى المدينة، وفي طريق العودة صعد النبي صلى الله عليه وسلم طريق العقبة، وكان طريقاً وعراً، وكان عمار آخذاً بزمامها، وحذيفة يسوقها، وحاول جماعة من المنافقين وعدتهم اثنا عشر وقد تلثموا، أن يلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق العقبة، ولكن الله أخبر نيبه بأمرهم، ولما أقبلوا، صرخ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليهم حذيفة وبيده محجن يضرب به وجوه رواحلهم، وعرفوا أن أمرهم قد ظهر، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بأسمائهم، وقيل له ألا تقتلهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا ، أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل لقومه ).

ولما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وكان قد واعد جماعة من أهل المدينة على أن يصلي بمسجد بنوه قريباً من مسجد قباء عند عودته من تبوك، ولكن الله أخبر نبيه بما اضمروه في أنفسهم من الكفر والإلحاد والشقاق لما بنوا هذا المسجد؛ ولما عاد أمر أصحابه بتحريق هذا المسجد، وهو مسجد الضرار، قال تعالى :{ والذين اتخذوا مسجداً ضرارا وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبداً… الآية } .

وفي سنة تسع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يحج بالناس، وأن يعلن أن  لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته . ثم نزلت صدر سورة براءة فأرسل بها علي بن أبي طالب ليتلوها على الناس.

واستمرت وفود القبائل تتتابع  على رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي سنة عشر من الهجرة المباركة الشريفة، حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وسميت بحجة الوداع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعهم فيها، فتتابع الناس من كل فج للحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلم مناسك الحج منه، فحج قارناً، وأمر  من لم يسق الهدي من أصحابه أن يتحلل بعمرة وفعلوا ([136]) .

وفي سنة إحدى عشرة من الهجرة المباركة، حدث الأمر الجلل،وهو وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لوفاته مقدمات، منها: قوله في حجة الوداع: ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، ومنها: أنه في آخر رمضان عارضه جبريل القرآن مرتين، ومنها: أنه اعتكف في آخر شهر رمضان صامه عشرين يوماً. ففي أواخر شهر صفر ابتدئ الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أمر أبابكر أن يصلي بالناس، وجهز جيشاً بقيادة أسامة بن زيد لقتال الفاجر مسيلمة الكذاب، ولكن أسامة بن زيد رضي الله عنه عسكر خارج المدينة، لينظر ما يؤول إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي صبيحة يوم الاثنين يوم موته صلى الله عليه وسلم، خرج على أصحابه وهم يصلون الفجر، وكان وجهه كفلقة قمر، فلما رآه الصحابة فرحوا به، وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم يصلون، وخشي أن يفتتنوا، فأشار إليها بإكمال الصلاة، ودخل بيته، وكانت تلك آخر نظرة ألقاها على أصحابه، ثم اشتد به الوجع، حتى توفي في ضحى ذلك اليوم في حجر أمنا عائشة رضي الله عنها . فتنكرت قلوب الصحابة، وطارت قلوبهم، وبعضهم لم يصدق موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب، ولكن أبو بكر كان أسكنهم، فثبتهم وتلا عليهم قول الله تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاًً وسيجزي الله الشاكرين }.فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها أبو بكر يومئذ .

وأزواجه صلى الله عليه وسلم هن: أولاهن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تزوجها قبل النبوة، ثم تزوج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة التي وهبت يومها لعائشة، ثم تزوج بعدها عائشة بنت الصديق، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها وعمرها تسع سنين بالمدينة، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث، وتوفيت عنده بعد ضمه لها بشهرين، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بأم سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من بني أسد، وقد نزل فيها قرآناً وكانت تفخر على أزواج رسول الله صلىالله عليه وسلم بتزويج الله لها من فوق سبع سموات وذلك في قوله تعالى : { فلما قضى منها زيدٌ منها وطراً زوجناكها } الآية. ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية . ثم تزوج أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان بن صخر بن حرب القرشية . ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بن حيي بن أخطب سيد بني النضير من ولد هارون ابن عمران أخي موسى، وهي وقعت في السبي لما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها.  ثم تزوج رسول الله صلىالله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية وهي آخر من تزوج بها، وتزوجها بمكة بعد أن حلّ من عمرة القضاء .

وجواريه صلى الله عليه وسلم هن: مارية وهي أم ولده إبراهيم، وريحانة، وجارية أخرى أصابها من السبي، وجارية وهبتها له زبينب بنت جحش .

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث وستين سنة . أربعون عاماً قبل البعثة، وثلاث عشرة عاماً بمكة بعد البعثة، وعشر سنوات بالمدينة . صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين .



  1. [1] .سورة البقرة .
  2. [2] .رواه أحمد (19085) والترمذي (2955) وقال : حديث حسن صحيح ، وأبو داود( 4693)
  3. [3] .رواه مسلم (2611)
  4. [4] .الأعراف (22)
  5. [5] .الأعراف (22)
  6. [6] .الأعراف (23)
  7. [7] .الأعراف .
  8. [8] .البقرة (38) .
  9. [9] . الوبيص : هو البريق و اللمعان .
  10. [10] .رواه الترمذي (3076) وقال حديث حسن صحيح .
  11. [11] .البداية والنهاية (1/113)
  12. [12] .انظر: صحيح البخاري (3340)
  13. [13] . وعند بعض رواة البخاري : ونسخ العلم . أي علم تلك الصور بخصوصها .
  14. [14] .رواه البخاري (4920)
  15. [15] .سورة نوح (5-9)
  16. [16] .سورة الأعراف .
  17. [17] .سورة هود (32)
  18. [18] .سورة نوح (26-27)
  19. [19] .الأنبياء (76
  20. [20] .هود( 36-)38)
  21. [21] .سوة هود (40)
  22. [22] .سورة القمر (11-15)
  23. [23] .سورةا لتحريم (10)
  24. [24]. سورة هود (42-43)
  25. [25] .المؤمنون (28)
  26. [26] .هود (44)
  27. [27] .سورة هود (48)
  28. [28] .انظر : البداية والنهاية (1/130)
  29. [29] .هود (45-47)
  30. [30] .رواه أحمد (6547). وقال ابن كثير في البداية والنهاية : وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه ( 1/136)
  31. [31] .انظر: البداية والنهاية (1/137-149)
  32. [32] .سورة الفجر (6-8)
  33. [33] .سورة الأعراف (65-69)
  34. [34] .الشعراء (136-138)
  35. [35] .سورة هود (53-56)
  36. [36] .سورة الأعراف (70-71)
  37. [37] . آية (24-25)
  38. [38] .الآيات (6-8)
  39. [39] . الآيات (18-20)
  40. [40] . الآيات (41-42)
  41. [41] . رواه البخاري (1035)، ومسلم (900)
  42. [42] .سورة هود (58-60)
  43. [43] .الأعراف (74)
  44. [44] .الأعراف (73)
  45. [45] .هود (62)
  46. [46] .الأعراف (73)
  47. [47] .الشعراء (155-156)
  48. [48] . سورة النمل .
  49. [49] .رواه البخاري (4942)، ومسلم (2855)
  50. [50] .سورة القمر .
  51. [51] .سورة الشمس .
  52. [52] .الأعراف (77)
  53. [53] .سورة هود (65)
  54. [54] .البداية والنهاية (1/157)
  55. [55] .هود (68)
  56. [56] .سورة مريم .
  57. [57] .سورة مريم .
  58. [58] .سورة التوبة (114)
  59. [59] .رواه البخاري (3350) وقوله : ملتطخ : أي في رجيع .
  60. [60] . البقرة (258)
  61. [61] .سورة الصافات .
  62. [62] .سورة الأنبياء .
  63. [63] .رواه البخاري (2065)، ومسلم (4371)
  64. [64] .رواه البخاري (3364)
  65. [65] .سورة الصافات.
  66. [66] .سورة هود .
  67. [67] . رواه البخاري (3364)
  68. [68] .سورة البقرة .
  69. [69] .الأعراف (80-81)
  70. [70] .سورة العنكبوت .
  71. [71] .رواه أبو داود (4462) ، والترمذي (1456)
  72. [72] .سورة الأعراف (82)
  73. [73] .سورة العنكبوت (29)
  74. [74] .سورة العنكبوت .
  75. [75] . انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (المجلد الخامس 9/51)
  76. [76] .رواه البخاري (3372) ، ومسلم (151) واللفظ له .
  77. [77] .سورة هود .
  78. [78] .البداية والنهاية (1/212)
  79. [79] .سورة الأعراف .
  80. [80] .هود آية (87)
  81. [81] .هود آية (88)
  82. [82] .سورة هود آية (89)
  83. [83] .سورة هود .
  84. [84] .سورة هود .
  85. [85] .سورة الشعراء .
  86. [86] .سورة الأعراف .
  87. [87] .سورة هود .
  88. [88] .تفسير ابن كثير . سورة الشعراء آية (189)
  89. [89] .سورة يوسف (5-6) والنصوص اللاحقة كلها من سورة يوسف .
  90. [90] .رواه البخاري(1423)، ومسلم (1031)
  91. [91] . قصص الأنبياء (1/254-266) بتصرف .
  92. [92] .رواه البخاري (279)
  93. [93] .رواه الترمذي (3505) وأحمد (1465)
  94. [94] .سورة القصص (آية 7 ) .
  95. [95] .سورة القصص .
  96. [96] .سورة طه .
  97. [97] . سورة الأعراف .
  98. [98] . سورة المائدة .
  99. [99] .سورة البقرة .
  100. [100] .رواه البخاري (3407)، ومسلم (2372)
  101. [101] . سورة سباء (10)
  102. [102] .سورة ص .
  103. [103] .رواه البخاري(2072)
  104. [104] .رواه البخاري(1131)، ومسلم (1159)
  105. [105] . انظر : البخاري(1977)
  106. [106] .رواه أحمد (2708)
  107. [107] .رواه أحمد (9148) وقال ابن كثير في البداية والنهاية : انفرد بإخراجه الإمام أحمد، وإسناده جيد قوي، رجاله ثقات . (2/21)
  108. [108] .رواه النسائي (693)، وأحمد (27762)
  109. [109] .سورة ص .
  110. [110] .سورة النمل آية (17)
  111. [111] .سورة النمل آية (16)
  112. [112] .سورة النمل (17-19)
  113. [113] .البداية والنهاية لابن كثير (2/28) وقال ابن كثير معلقاً : وهذا أقرب ما قيل .
  114. [114] .رواه البخاري(6639)، ومسلم (1654)
  115. [115] .سورة سبأ (14)
  116. [116] .البداية والنهاية (2/62)
  117. [117] .البداية والنهاية (2/64)
  118. [118] .سورة آل عمران .
  119. [119] .رواه البخاري(4548) واللفظ له ، ومسلم (2366)
  120. [120] . البداية والنهاية (2/91)
  121. [121] ., ثةبين مصبوغين بورص ثم برعفران .
  122. [122] . رواه مسلم (2937)
  123. [123] .رواه مسلم (156)
  124. [124] . رواه البخاري (2222) ، ومسلم (155)
  125. [125] .رواه مسلم (2897)
  126. [126] . رواه مسلم (2937)
  127. [127] . انظر : مسلم (2937)
  128. [128] . القلاص : الناقة الشابة .
  129. [129] . رواه البخاري (2222) ، ومسلم (155) واللفظ له .
  130. [130] . انظر مسلم : (2940)
  131. [131] .رواه أحمد (21758)
  132. [132] .رواه مسلم (2277).
  133. [133]. رواه البخاري(4)، ومسلم (160)
  134. [134] .رواه البخاري(4770)، ومسلم (208)
  135. [135] .سبق الكلام عن غزوة بدر بالتفصيل .
  136. [136] . سبق بيان حج النبي صلى الله عليه وسلم فأغنى عن إعادته ههنا .

=

قصص النبي صلي الله عليه وسلم

من صيد الخاطر // القصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم (قصة كعب بن مالك رضي الله عنه )
من قصص الجيل الفريد 1
من قصص الجيل الفريد 2
من قصص الجيل الفريد 3
(30) ثلاثون قصة بلسان محمد صلى الله عليه وسلم لعصام الشايع
 أحاديث لها قصة (1)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (9)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (8)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (7)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (6)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (5)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (4)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (3)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (2)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (1)
من بدائع القصص النبوي الصحيح
القصص في القرآن الكريم
الفوائد والعبر من قصص الأنبياء
قصص الأنبياء
موسـوعة القصص القرآني
دروس وعبر من صحيح القصص النبوي

 

2.مجموعة مقالات ثانية من{2}



1-مجموعة مقالات ثانية من صيد الخاطر
اللغة العربية بعد نزول القرآن الكريم
إبراهيم فوزى
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمد لله والصلاة والسلام علي محمد رسول الله , أما بعد :-
من أثر القرآن الكريم في اللغة العربية - راجع أثر القرآن الكريم في اللغة العربية والتحديات المعاصرة د.محمد يوسف الشربجي , أثر القرآن في اللغة العربية : حسن الباقوري
1-المحافظة على اللغة العربية من الضياع:‏
السر الكامن وراء خلود اللغة والحفاظ عليها من الاندثار هو القرآن الكريم بما كان له من أثر بالغ في حياة الأمة العربية، وتحويلها من أمة تائهة إلى أمة عزيزة قوية بتمسكها بهذا الكتاب الذي صقل نفوسهم، وهذب طباعهم، وطهر عقولهم من رجس الوثنية وعطن الجاهلية، وألف بين قلوبهم وجمعهم على كلمة واحدة توحدت فيها غاياتهم، وبذلوا من أجلها مهجهم وأرواحهم، ورفع من بينهم الظلم والاستعباد، ونزع من صدورهم الإحن والضغائن والأحقاد، فقد كان القرآن الكريم ولا يزال كالطود الشامخ يتحدى كل المؤثرات والمؤامرات التي حيكت وتحاك ضد لغة القرآن ، يدافع عنها، ويذود عن حياضها، يقرع أسماعهم صباح مساء، وليل نهار بقوله تعالى: ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َ) البقرة: 23 –24 ،
وقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) الإسراء: 88
2-تقوية اللغة والرقي بها نحو الكمال:‏
منح القرآن الكريم اللغة العربية قوة ورقياً ما كانت لتصل إليه لولا القرآن الكريم، بما وهبها الله من المعاني الفياضة، والألفاظ المتطورة والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، فأصبحت بذلك محط جميع الأنظار، والاقتباس منها مناط العز والفخار، وغدت اللغة العربية تتألق وتتباهى على غيرها من اللغات بما حازت عليه من محاسن الجمال وأنواع الكمال،
وفي هذا يقول العلاّمة الرافعي رحمه الله: "نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة، وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحويل التركيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود لأنها هي لغتهم التي يعرفونها ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم" - تاريخ آداب العرب، الرافعي، (ط2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1974م) 2 /74 والشيح والقيصوم نباتان من نبات البادية، يضرب بهما المثل، يقال: فلان يمضغ الشيح والقيصوم، إذا كان عربياً خالص البداوة. انظر لسان العرب: (شيح، قصم).‏
3-توحيد لهجات اللغة العربية وتخليصها من اللهجات القبلية الكثيرة:‏
من المعلوم أن لجهات اللغة العربية كانت مختلفة، تحتوي على الفصيح والأفصح، والرديء والمستكره، وكانت القبائل العربية معتدة بلهجتها حتى إن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف من أجل التخفيف على العرب في قراءته وتلاوته، ولا شكّ أن لغات العرب متفاوتة في الفصاحة والبلاغة، ولذلك نجد عثمان رضي الله عنه قد راعى هذا الجانب في جمعه للقرآن، وقال للجنة الرباعية: "إذا اختلفتم أنتم فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلغتهم" وما ذلك إلا لأن لغة قريش أسهل اللغات وأعذبها وأوضحها وأبينها، وكانت تحتوي على أكثر لغات العرب، ونظراً لكونهم مركز البلاد وإليهم يأوي العباد من أجل الحج أو التجارة، فقد كانوا على علم بمعظم لغات العرب بسبب الاحتكاك والتعامل مع الآخرين، ولكن لغتهم أسهل اللغات كما ذكرت.
ينقل السيوطي (باب النوع السابع والثلاثون فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز – ص 416 و ما بعدها - الإتقان في علوم القرآن، تعليق د. مصطفى البنا (ط. بيروت).‏ ) عن الواسطي قوله: ".... لأن كلام قريش سهل واضح، وكلام العرب وحشي غريب" ولذلك حاول العرب الاقتراب منها، وودوا لو أن ألسنتهم انطبعت عليها حين رأوا هذا القرآن يزيدها حسناً، ويفيض عليها عذوبة، فأقبلوا على القرآن الكريم يستمعون إليه، فقالوا على الرغم من أنفهم: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه"
4-تحويل اللغة العربية إلى لغة عالمية:‏
العرب قبل نزول القرآن الكريم، لم يكن لهم شأن ويذكر أو موقع بين الأمم آنذاك حتى تقبل الأمم على تعلم لغتهم، والتعاون معهم فليست لغتهم لغة علم ومعرفة، وكذلك ليس لديهم حضارة أو صناعة، كل ذلك جعل اللغة تقبع في جزيرتها فلا تبرح إلا لتعود إليها.‏
وقد ظلوا كذلك، حتى جاء القرآن الكريم، يحمل أسمى ما تعرف البشرية من مبادئ وتعاليم، فدعا العرب إلى دعوة الآخرين إلى دينهم، ومما لا شك فيه أن أول ما يجب على من يدخل في الإسلام هو تعلم اللغة العربية لإقامة دينه، وصحة عبادته، فأقبل الناس أفواجاً على تعلم اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولولا القرآن الكريم لم يكن للغة العربية هذا الانتشار وهذه الشهرة.‏
يقول أ. د. نور الدين عتر: "وقد اتسع انتشار اللغة العربية جداً حتى تغلغلت في الهند والصين وأفغانستان، وحسبنا شاهداً على ذلك ما نعلمه من مشاهير العلماء من تلك البلاد مثل البخاري ومسلم، والنسائي، وابن ماجه القزويني، وغيرهم وغيرهم" المزهر في علوم اللغة العربية السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (ط. مصر).
5-تحويل اللغة العربية إلى لغة تعليمية ذات قواعد منضبطة:‏
من الثابت المعروف أن العرب قبل نزول القرآن كانوا يجرون في كلامهم وأشعارهم وخطبهم على السليقة، فليس للغتهم تلك القواعد المعروفة الآن، وذلك لعدم الحاجة إليها، ولا أدل على ذلك من أن التاريخ يحدثنا عن كثير من العلماء الذين صرحوا أن لغتهم استقامت لمّا ذُهب بهم إلى الصحراء لتعلم اللغة العربية النقية التي لم تشبها شائبة، ومن هؤلاء الإمام الشافعي، وأن الوليد بن عبد الملك كان كثير اللحن، لأنه لم يغترف لغته من الينبوع العربي الصحراوي الصافي.‏
ولما اتسعت الفتوح، وانتشر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، احتك العجم بالعرب فأفسدوا عليهم لغتهم، مما اضطر حذيفة بن اليمان الذي كان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، أن يرجع إلى المدينة المنورة ويقول لعثمان رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى...." فأمر عثمان( يجمع القرآن، وكان قصده أن يجمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي ( وإلغاء ما ليس بقرآن خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد, وهذا ما حصل، فقد ضعفت اللغة مع مرور الأيام وفشا اللحن في قراءة القرآن، الأمر الذي أفزع أبا الأسود الدؤلي وجعله يستجيب‏ لوضع قواعد النحو، التي هي أساس ضبط حركات الحروف والكلمات، ومن ثم العمل على ضبط المصاحف بالشكل حفاظاً على قراءة القرآن من اللحن والخطأ.‏
وليس هذا فحسب، بل يرجع الفضل للقرآن الكريم في أنه حفظ للعرب رسم كلماتهم، وكيفية إملائهم، على حين أن اللغات الأخرى قد اختلف إملاء كلامها، وعدد حروفها.‏
يقول د. عتر: "والسر في ذلك أن رسم القرآن جعل أصلاً للكتابة العربية، ثم تطورت قواعد إملاء العربية بما يتناسب مع مزيد الضبط وتقريب رسم الكلمة من نطقها، فكان للقرآن الكريم الفضل في حفظ رسم الكلمة عن الانفصام عن رسم القدماء" - دلائل النظام الفراهي - ط2، الدائرة الحميدية الهندية: 1991م.‏
6-تهذيب ألفاظ اللغة العربية، ونشوء علم البلاغة:‏
العرب كانت أمّة أكثرها ضارب في الصحراء، لم يتحضر منها إلا القليل، فلا جرم كان في لغتهم الخشن الجاف، والحوشي الغريب، وقد أسلفنا عن الواسطي أن لغة قريش كانت سهلة لمكان حياة التحضر التي كانت تحياها في ذلك.‏
ولعل من يقرأ الأدب الجاهلي ويتدبره، يزداد إيماناً بما للحضارة من أثر ألفاظ اللغة، فإنه سيرى في أدب أهل الوبر كثيراً من مثل "جحيش" و"مستشزرات" "وجحلنجع"، وما إلى ذلك مما ينفر منه الطبع، وينبو عنه السمع، على حين أنه يكاد لا يصادفه من ذلك شيء في أدب القرشيين.‏
والقرآن الكريم –فضلاً عن أنه نقل العرب من جفاء البداوة وخشونتها، إلى لين الحضارة ونعومتها، فنزلوا عن حوشيتهم، وتوخوا العذوبة في ألفاظهم، -قد تخير لألفاظه أجمل ما تخف به نطقاً في الألسن، وقرعاً للأسماع، حتى كأنها الماء سلاسة، والنسيم رقة، والعسل حلاوة، وهو بعد بالمكان الأسمى الذي أدهشهم وحير ألبابهم، وأفهمهم أن البلاغة شيء وراء التنقيب والتقعير، وتخير ما يكد الألسن ويرهقها من الألفاظ، فعكفوا عليه يتدبرونه، وجروا إليه يستمعونه ذلك أن القرآن الكريم قد انتهج في تعابيره أسلوباً له حلاوة، وعليه طلاوة، تنتفي فيه الكلمة انتقاء، حتى كانت مفردات القرآن الكريم من اللغة العربية بمثابة اللباب وغيرها كالقشور، مما جعل ابن خالويه يقول: "أجمع الناس أن اللغة إذا وردت في القرآن فهي أصح مما في غيره" ،( تاريخ الأدب العربي : كارل بروكلمان ) ، ولا أدل على ذلك من المقارنة بين الشعر الجاهلي والإسلامي، أو الأدب الجاهلي والإسلامي، لتجد البون شاسعاً، والفارق كبيراً، فأقبلوا إليه يزفون، ومن بحره ورياضه يستقون وينهلون، ومن ألفاظ ومعانيه
7- تنمية ملكة النقد الأدبي، وذلك أن العرب كانت لهم أسواقهم المشهورة، ومعلقاتهم المنظومة، ومبارياتهم المعروفة، فلما نزل القرآن الكريم، ولامس شغاف قلوبهم، ورقت له أحاسيسهم ومشاعرهم، فتغيرت أحكامهم وقوانينهم، فنقلهم من الفصيح إلى الأفصح، ومن الجيد إلى الأجود، ذلك هو القرآن بإعجازه، فإذا كان القرآن الكريم بهذه المنزلة وبهذه المكانة، وبهذا التأثير على العرب ولغتهم فنقلهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الذل والهوان إلى الرفعة والسؤدد، ومن التقوقع والتشرذم إلى العالمية والانتشار، ومن الحوشي والغريب إلى السهولة واليسر، ومن العامية إلى الفصحى.‏
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
=====
2-
وقفات مع الصحة
أ.فؤاد بن عبدالله الحمد
@fuadalhamd
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
إن صحتك الجسدية – عزيزي القارئ الكريم - تتوقف على الطريقة التي تُكيف بها عضلاتك ونظام الاحتراق الداخلي أو التمثيل الغذائي ؛ وحتى تستطيع الحصول على المستوى الذي ترغبه من الطاقة والحيوية. تماماً مثلما تُكيف جهازك العصبي حتى تستطيع التوصل إلى ذلك السلوك الذي يحقق النتائج التي تريدها.
الوقفة الأولى :
يا ترى ماذا تفعل بانتظام لتعتني بجسدك حتى تحقق ذلك المستوى من الصحة الذي ترغبه؟ قد يكون المشيء بضع دقائق يومياً ؟ أو الامتناع أو التقليل من أكل المأكولات السريعة؟ أو قد يكون التوقف عن بعض عادات الأكل الخاطئة!!
ما الذي يسبب الأداء الفائق لوظائف الجسم الإنساني؟
إن الإنجاز الخارق الذي حققه ( ستو ميتلمان Stu Mittleman[1]) يوضح مدى قوة بعض المبادئ لقد تفوق ( ميتلمان ) على الأرقام العالمية في الجري لمسافات طويلة عندما استطاع أن يجري 1000 ميل في 11 يوماً و19 ساعة. بمتوسط 84 ميلاً في اليوم. الشيء المدهش أنه، وفقاً لما قاله من شاهدوه، في النهاية كان يبدو أفضل مما كان عليه بداية الجري. فهو لم يُصب بأي جرح! ما الذي مكنه من الوصول بجسده إلى الحدود القصوى بدون أن يصاب بأية إصابات؟
أولاً: عن طريق تكريس سنوات عديدة من عمرهِ للتدريب الذهني والجسدي، فقد أثبت ( ميتلمان ) أننا نستطيع أن نتأقلم مع أي شيء إذا استطعنا أن ندفع أنفسنا للالتزام بما هو مطلوب بصفة مستمرة.
ما هو العامل الثاني الذي مكن ( ستو ميتلمان ) من تسجيل رقم عالمي جديد في الجري لمسافات طويلة؟ إنه ببساطة التفرقة بين الصحة واللياقة؛ إذ أنهما ليستا شيئاً واحداً. فماهي اللياقة؟
وفقا لما قاله الدكتور فيليب ما فيتون Philip Maffetone) فإن اللياقة هي المقدرة الجسمانية على أداء نشاط رياضي. أما الصحة فإنها تُعرف بصورة أكثر شمولية: " فهي الحالة التي تعمل فيها جميع أجهزة الجسم بالطريقة المثلى" هذا، ويعتقد الكثير من الناس أن الصحة تعني اللياقة، ولكن في حقيقة الأمر أنهما أمران ليسا بالضرورة متلازمين.
فإذا حققت اللياقة البدنية على حساب الصحة فإنك قد لا تعيش وقتاً كافياً حتى تستمتع باللياقة البدنية الفائقة التي حققتها إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
وبالنسبة إليك ــ أي منهما له أولوية أولى؟ هل استطعت أن تحقق توازناً بين الصحة واللياقة؟
الوقفة الثانية :
كيف نستطيع أن نحتفظ بصحة ممتازة؟
أحسن طريق هو أن نعرف الفرق بين تمارين (الأيروبيك Aerobic) أي التمرينات الهوائية أو التمارين الحرة ، وتمرينات (اللأيروبيك Anaerobic) أي اللاهوائية أو الغير حرة! وبمعنى أدق أن نعرف الفرق بين القوة والقدرة على التحمل.
إن كلمة آيروبك أو أوربك تعني " بالأكسجين " وهي تشير إلى التمرينات الرياضية المتوسطة المجهود التي تستمر لفترة زمنية طويلة. فإذا استنهضت مقدرتك على التحمل عن طريق تمرينات الأروبك فإن الدهن المخزون في الجسم يحترق ويصبح الوقود الرئيسي الذي يعتمد عليه جسمك.
أما كلمة اللأيروبيك - من ناحية أخرى - فهي تعني " بدون أكسجين " وهي تشير إلى التمرينات الرياضية التي تولد طاقة عالية ولكن لفترة قصيرة فتمرينات اللأيروبيك - تقوم بحرق مادة جليكوجين (Glycogen) ويستخدمها الجسم كمصدر للطاقة وتسبب احتفاظ الجسم بالدهون.
الآن... هل تعتبر نفسك بصحة جيدة؟ أم على لياقة عالية؟ أم لا هذا ولا ذاك؟
الوقفة الثالثة :
لماذا يعاني الكثير منا من الإرهاق[2]؟
يعيش الكثير من الناس نمط حياة " اللأيروبيك " مشحوناً بالضغط العصبي والمسئوليات العديدة فضلاً عن الطريقة الخطأ التي يمارسون الرياضة بها. وذلك انطلاقاً من رغبتهم في تحقيق نتائج ضخمة في أقصر وقت ممكن. وتمرين اللأيروبيك يستهلك مخزون مادة الجيليكوجن (Glycogen)، ومن ثم يلجأ نظام الاحتراق الداخلي إلى سكر الدم كمصدر ثانٍ للحصول على الطاقة، مما يسبب الصداع، والإرهاق، ومشاكل أخرى.
كيف يمكن أن تغير تدريباتك من " اللأيروبيك " إلى " الأيروبيك " ؟ عن طريق الإبطاء في التدريب. يقول د. فيليب (مافيتون Philip Maffetone) " إن معظم التمرينات مثل المشي ، والجري الخفيف ، وركوب الدراجات ، والسباحة يمكن أن تكون أيروبيك كما يمكن أن تكون لايروبيك!". فمعدل ضربات القلب المنخفض يجعل هذه التمرينات أيروبك، أما المعدل العالي لضربات القلب فيجعلها لا أيروبك.
هل تحتاج إلى الإبطاء من سرعتك في التدريبات وفي طريقة حياتك؟
الوقفة الرابعة :
حتى تحول جسمك إلى آلة لحرق الدهون المخزونة يجب أن تُدرب نظام الاحتراق الداخلي – في جسدك - على أن يعمل وفقاً لتأثير الأيروبك، ويقترح في هذا الشأن الدكتور ( مافيتون ) " أن تعطي نفسك فترة من شهرين إلى ثمانية شهور من المواظبة التامة على التمرينات الأيروبك ". وحتى تستطيع أن تحقق توازناً بين الصحة واللياقة البدنية يمكن بعد انقضاء هذه الفترة أن تنتظم في تمرينات اللاأيروبك من مرة إلى ثلاث مرات أسبوعياً.
وعليك أن تحدد من يجب أن تستشيره حتى تصل بصحتك إلى المستوى المطلوب؟ وماهي تلك المصادر التي يمكن أن تستخدمها في هذا الشأن؟ تذكر.. مشي 15 إلى 30 دقيقة 3 إلى 4 مرات أسبوعياً ولمدة أربعة إلى ثمانية أشهر كفيلة بإذن الله تعالى أن تحقق لك ذلك التوازن في الصحة الجسدية.
الوقفة الخامسة :
قال الفيلسوف الإنجليزي (لدويج ويتجنستين Ludwig Wittgenstein) : " إن الجسم الإنساني هو خير مرآة للروح الإنسانية ". وقيل في الأمثال العربية : " العقل السليم في الجسم السليم ".
يا ترى ماذا يعكس جسدك عن ذاتك الداخلية؟
لا شك أن الأكسجين هو أهم عنصر يؤثر في الصحة؛ فبدونه تصبح الخلايا ضعيفة وتموت. وحتى تتجنب نفاد الأكسجين من جسمك أثناء مزاولة الرياضة يجب أن تعلم أنك تجاوزت حدود الأيروبك إلى اللايروبك أثناء التمرين.
حاول أن تجيب على الأسئلة التالية كمرشدٍ لك في ذلك الأمر:
1- هل تستطيع التحدث أثناء مزاولة تمرينات الأيروبك، أم أنك شديد التعب ولا تستطيع ؟ ( لاأيروبك )
2- هل يكون تنفُسك منتظماً وواضحاً (أيروبك) أم أنه غير طبيعي ومُجهدُ (لاأيروبك)؟
3- هل تستمتع بالتمرينات على الرغم من أنها مجهدة (أيروبك)، أم أنك إتشعر بإرهاق شديد (لاأيروبك)؟
4- إذا أعطيت نفسك درجة من عشر، بحيث يمثل رقم (صفر) أقل جهد ويمثل الرقم (10) أقصى جهد.. فما هي الدرجة التي تعطيها لنفسك؟
إن التقييم المثالي بجيب أن يكون ما بين 6 إلى 7 أما إذا تجاوزت 7 فاعلم أنك قد تجاوزت الحدود إلى اللاأيروبك.
الوقفة السادسة :
الآن إليك الطريقة التي تستطيع بها أن تُدخل التدريبات الرياضية إلى نظام حياتك بصورة مستمرة ومُحببة إلى النفس ــ اتبع هذه التعليمات :
1-حاول أن تحدد ما إذا كانت التدريبات التي تقوم بها تدخل في نطاق الأيروبك أم اللا أيروبك: هل تستيقظ في الصباح شاعراً بالإرهاق؟ هل تشعر بالجوع وتقلّب المزاج، أم تشعر بالآلام بعد انتهاء التمرين؟
هل مازالت طبقات الدهن التي تريد أن تتخلص منها موجودة على الرغم من المجهود المضنى الذي تبذله؟ إذا كانت إجابتك (بنعم) لبعض أو معظم هذه الأسئلة فأغلب الظن أنك تمارس رياضتك بطريقة " اللا أيروبك ".
2-حاول أن تشتري جهاز مراقبة ضربات القلب[3] حتى يساعدك على ضبط مجهودك في حدود نطاق تدريبات الأيروبك، فقد يكون أحد الاستثمارات الناجحة في حياتك.
3-قم بوضع خطة حتى تبدأ في تكييف نظام الاحتراق الداخلي حتى يحرق الدهن ويولد مستويات ثابته من الطاقة. ثم حاول أن تلتزم بهذه الخطة لمدة الأيام العشرة القادمة.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الوقفات ويبارك فيها ويجعلها شاهدة علينا في الدنيا والآخرة... وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين...
--------------------------------------------
[1] Stu Mittleman is an ultradistance running champion, as well as a fitness/running coach and author.
Mittleman set three consecutive American 100-Mile Road Race records in the US National Championships 1980–1982. His fastest 100-Mile Run was 12 hours 56 min [1]. In 1986, he won the 1,000 Mile World Championship and set a new world record by running the distance (1 609.344 kilometers) in 11 days, 2 hours, 6 min. 6 sec. Mittleman set three consecutive American Records in the 6 Day Race, the final one being set in 1985 at the University of Colorado Field House. One record, which still stands: 577.75 miles in 4 Days.
[2] إِرْهَاقُ النَّفْسِ :- : حَمَّلَهَا مَا لَا تُطِيقُ بِعَمَلٍ زَائِدٍ . :- كقول أحدهم " زِدْتُ نَفْسِي إِرْهَاقاً ". المصدر موقع www.almaany.com
[3] هناك بعض أجهزة الهواتف الذكية فيها هذه الخاصية، كذلك هناك ساعات ذكية تتوفر فيها هذه الخاصية يمكنك استعمالها في تمريناتك الرياضية. كذلك معظم أجهزة الرياضة المنزلية؛ سواء أجهزة السير أو التجديف أو حتى الدراجة الرياضية الثابتة وخاصة المتطور منها تتوفر فيها هذه الخاصية إلا أنها باهضة الثمن مقارنة مع الساعات الذكية.
========
3-
مفهوم القرآن
من كتاب مجالس القرآن للشيخ : فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
ولنسأل الآن: ما القرآن؟
ما هذا الكتاب الذي هز العالم كله؟ بل الكون كله؟
أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه (كلام الله)، واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف الصالح. وإنما المهم عندنا الآن ههنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين: (القرآن كلام الله). هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلا..
الله جل جلاله خالق الكون كله.. هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق؟.. طبعا لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى. فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود. هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها... إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية. أين أنت الآن؟ اسأل نفسك.. أنت هنا في ذرة صغيرة جدا، تائهة في فضاء السماء الدنيا: الأرض. وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء، هو محيط بكل شيء قدرةً وعلما.. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان؛ فكلمك بالقرآن.. كلام الله رب العالمين. أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك (فاستَمِعْ لِمَا يُوحَى). أي وجدان، وأي قلب؛ يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجدا لله الواحد القهار رغبا ورهبا؟ اللهم إلا إذا كان صخرا أو حجرا. كيف وها الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر:21) وهي أمثال حقيقة لا مجاز، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ)(سورة ص:18-19)، وقوله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(الأعراف:143).
كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عَلُ: أي من فوق؛ لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فوق كل شيء، محيط بكل شيء علما وقدرة. إنه رب الكون.. فتدبر: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)(فصلت:54). ومن هنا جاء القرآن محيطا بالكون كله، متحدثا عن كثير من عجائبه. قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ. لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْـزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(الواقعة:75-82). سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك نكذب.
ذلك هو القرآن.. كلام من أحاط بمواقع النجوم خَلْقاً، وأمراً، وعلماً، وقدرةً، وإبداعاً. فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، من بعدما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له: (إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(المزمل:5). ومن هنا لما كذب الكفار بالقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم، عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)(الفرقان:5-6). وإنه لرد عميق جدا. ومن هنا جاء متحدثا عن كثير من السر في السماوات والأرض. قال عز وجل: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ. وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(الكهف:54). وقال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)(فصلت:53-54).
فليس عجبا أن يكون تالي القرآن متصلا ببحر الغيب، ومأجورا بميزان الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى الباطني المنحرف، ولكن بالمعنى الرباني المستقيم. أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به الله؟ إذن يكفيه ذلك دلالة وأي دلالة! ويكفيه ذلك عظمة وأي عظمة! فعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
ولذلك كان لقارئ القرآن ما وعده الله إياه، من رفيع المنازل في الجنان العالية، وما أسبغ عليه من حلل الجمال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن ‌:‌ اقرأ وَارْقَ! ورَتِّلْ كما كنت ترتل في دار الدنيا! فإن منـزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها!) ‌وقال أيضا: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول‌:‌ يا رب، حَلِّهِ! فيُلْبَسُ تاجَ الكرامة، ثم يقول:‌ يا رب زِدْهُ! فيُلْبَسُ حُلَّةَ الكرامة، ثم يقول‌:‌ يا رب اِرْضَ عنه! فيرضى عنه، فيقول‌:‌ اِقرأ، وَارْقَ! ويُزَادُ بكل آية حسنة!) (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(الجمعة:4).
إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبتها كما أثبتها السلف، بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه. لقد تكلم عز وجل، وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه الأمة المشرفة، أمة محمد عليه الصلاة والسلام. فكان صلة بين العباد وربهم، صلة متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين.
قال عليه الصلاة والسلام في خصوص هذا المعنى، من حديث سبق: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض) وقال في مثل ذلك أيضا: (أبشروا.. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله و طرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، و لن تضلوا بعده أبدا). وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضا فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه وسلم:‌ (أبشروا.. أبشروا.. أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟‌ قالوا ‌:‌ بلى، قال ‌:‌ فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا!)
هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان، فاحذر أن تظنك غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايير البشر، لا يُدْرَى لك موقع من بينهم، كلا! كلا! إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام الرباني، من كمال وجلال، أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد، ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد، (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ. وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ. وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(آل عمران:29) سبحانه جل جلاله، لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما معنى الربوبية وكمالها؟ تماما كما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر، وتحت طبقاته، وفي مدارات السماء... إلخ. كل ذلك في وقت واحد - وهو تعالى فوق الزمان والمكان - لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات، وكأنه لا يخاطب أحدا سواك. احذر أن تخطئ هذا المعنى.. تذكر أنه كلام الله، وتدبر.. ثم أبصر!
قال جل جلاله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد:24)، (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)(النساء:82).. فتدبر!
ذلك هو القرآن: الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر، فوراء كل كلمة منه حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرها نحو نهايتها. فتدبر.. إن فيه كل ما تريد. ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن عليك بالقرآن! اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك؛ تكن من (أهل الله) كما في التعبير النبوي الصحيح. قال عليه الصلاة والسلام: (إن لله تعالى أهلين من الناس‌:‌ أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته‌).
=========
4.
حاجتنا إلى القرآن العظيم
من كتاب مجالس القرآن للشيخ : فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
من أنت؟
أنا، وأنت!.. ذلك هو السؤال الذي قلما ننتبه إليه! والعادة أن الإنسان يحب أن يعرف كل شيء مما يدور حوله في هذه الحياة، فيسأل عن هذه وتلك، إلا سؤالا واحدا لا يخطر بباله إلا نادرا! هو: من أنا؟ نعم، فهل سألت يوما نفسك عن نفسك: من أنت؟
ولعل أهم الأسباب في إبعاد ذلك وإهماله يرجع في الغالب إلى معطى وهمي، إذ نظن أننا نعرف أنفسنا فلا حاجة إلى السؤال! تغرنا إجابات الانتماء إلى الأنساب والألقاب، وتنحرف بنا عن طلب معرفة النفس الكامنة بين أضلعنا، التي هي حقيقة (من أنا؟) و(من أنت؟) ويتم إجهاض السؤال في عالم الخواطر؛ وبذلك يبقى الإنسان أجهل الخلق بنفسه، فليس دون الأرواح إلا الأشباح!
ولو أنك سألت نفسك بعقلك المجرد: من أنتِ؟ سؤالا عن حقيقتها الوجودية الكاملة؛ لما ظفرت بجواب يشفي الغليل! وإذن تدخل في بحر من الحيرة الوجودية!
أنا وأنتَ، تلك قصة الإنسان منذ بدء الخلق إلى يوم الناس هذا.. إلى آخر مشهد من فصول الحياة في رحلة هذه الأرض! وهي قصة مثيرة ومريرة!
ولذلك أساسا كانت رسالةُ القرآن هي رسالة الله إلى الإنسان؛ لتعريفه بنفسه عسى أن يبدأ السير في طريق المعرفة بالله؛ إذْ معرفة النفس هي أول مدارج التعرف إلى الله. وليس صدفة أن يكون أول ما نزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)(العلق:1-2). ثم تواتر التعريف بالإنسان – بَعْدُ - في القرآن، في غير ما آية وسورة، من مثل قوله سبحانه: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(الإنسان:1-3) وكذلك آيات السيماء الوجودية للإنسان، الضاربة في عمق الغيب، من قوله تعالى: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ)(السجدة:6-9).
ومن هنا أساسا كانت قضية الشيطان - بما هو عدو للإنسان - هي إضلاله عن معالم الطريق، في سيره إلى ربه! بدءا بإتلاف العلامات والخصائص المعرفة بنفسه، والكاشفة له عن حقيقة هويته، وطبيعة وجوده! حتى إذا انقطعت السبل بينه وبين ربه ألَّهَ نفسَه، وتمرد على خالقه!
ولم يزل الإنسان في قصة الحياة يضطرب بين تمرد وخضوع، في صراع أبدي بين الحق والباطل إلى الآن! فكانت لقصته تلك عبر التاريخ مشاهدُ وفصول! وكانت له مع الشيطان ومعسكره معاركُ ضارية، فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وإقبالٌ وإدبار!
قال عز وجل حكايةً عن إبليس: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً. قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(الإسراء:62-65).
من أجل ذلك كان للإنسان في كل زمان قصةٌ مع القرآن، وقصةٌ مع الشيطان!
فيا حسرة عليك أيها الإنسان! هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم، لحظةً فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تَتْرَى! اُرْقُبْ غروبَ الشمس كل يوم؛ لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة؛ لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة! فإذا بك بعد حياة صاخبة جزءٌ حقير من ترابها وقمامتها! وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي.. تمضي جادةً غير لاهية – كما أُمِرَتْ - إلى موعدها الأخير! فكيف تحل لغز الحياة والموت؟ وكيف تفسر طلسم الوجود الذي أنت جزء منه ولكنك تجهله؟ كيف وها قد ضاعت الكتب كلها؟ ولم يبق بين يديك سوى هذا (الكتاب)!
فأين تجد الهداية إذن يا ابن آدم؟ وأنى تجدها إن لم تجدها في القرآن؟ وأين تدرك السكينة إن لم تدركها في آياته المنصوبة - لكل نفس في نفسها – علامات ومبشرات في الطريق إلى الله؟ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)(الإسراء:9 - 10).
نَعَم، بقي القرآن العظيم إعجازا أبديا، يحي الموتى، ويبرئ المرضى، ويقصم قلوب الجبابرة، ويرفع هامات المستضعفين في العالمين، ويحول مجرى التاريخ! وكل ذلك كان - عندما كان - بالقرآن، وبالقرآن فقط! وهو به يكون الآن، وبه يكون كلما حَلَّ الإبَّانُ من موعد التاريخ، ودورة الزمان! على يد أي كان من الناس! بشرط أن يأخذه برسالته، ويتلوه حق تلاوته! وتلك هي القضية!
ماذا حدث لهؤلاء المسلمين؟ أين عقولهم؟ أين قلوبهم؟ أليس ذلك هو القرآن؟ أليس ذلك هو كلام الله؟ أليس الله رب العالمين؟ أليس الخلق - كل الخلق - عبيده طوعا أو كرها؟ ففيم التردد والاضطراب إذن؟ لماذا لا ينطلق المسلم المعاصر يشق الظلمات بنور الوحي الساطع، الخارق للأنفس والآفاق؟
ألم يقل الله في القرآن عن القرآن، بالنص الواضح القاطع: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ! وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)؟(الحشر:21). فهل هذه خاصية ماتت بموت محمد رسول الله؟ أم أن معجزة القرآن باقية بكل خصائصها إلى يوم القيامة؟ ورغم أن الجواب هو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة لكل مسلم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي البشرى إلى هذه الأمة، نورا من الأمل الساطع الممتد إلى الأبد! فقد دخل عليه الصلاة والسلام المسجدَ يوما على أصحابه ثم قال:‌ (أبشروا.. أبشروا..! أليس تشهدون ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟‌ قالوا ‌:‌ بلى، قال ‌:‌ فإن هذا القرآن سَبَبٌ، طرفُه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به! فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً!) ومثله أيضا قولهe بصيغة أخرى: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض). تلك حقيقة القرآن الخالدة، ولكن أين من يمد يده؟
ألم يأن للمسلمين – وأهل الشأن الدعوي منهم خاصة – أن يلتفتوا إلى هذا القرآن؟ عجبا! ما الذي أصم هذا الإنسان عن سماع كلمات الرحمن؟ وما الذي أعماه عن مشاهدة جماله المتجلي عبر هذه الآيات العلامات؟ أليس الله – جل ثناؤه – هو خالق هذا الكون الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؟ أليس هو – جل وعلا – رب كل شيء ومليكه؟ الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ أوَليس الله هو مالك الملك والملكوت؟ ذو العزة والجبروت؟ لا شيء يكون إلا بأمره! ولا شيء يكون إلا بعلمه وإذنه! أوَليس الخلق كلهم أجمعون مقهورين تحت إرادته وسلطانه؟ فمن ذا قدير على إيقاف دوران الأرض؟ ومن ذا قدير على تغيير نُظُم الأفلاك في السماء؟ من بعد ما سوَّاها الله على قدر موزون، (فَقَالَ لَهَا وَلِلاَرْضِ إيتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ)؟(فصلت:10) ومن ذا مِنَ الشيوخ المعمَّرين قديرٌ على دفع الهرم إذا دب إلى جسده؟ أو منع الوَهَنِ أن ينخر عظمه، ويجعد جلده؟ ويحاول الإنسان أن يصارع الهرم والموت! ولكن هيهات! هيهات!
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا *** فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ!
الموت والفناء هو اليقينية الكونية المشتركة بين جمع الخلق، كافرهم ومؤمنهم!
يولد الإنسان يوما ما.. وبمجرد التقاط نفَسِه الأول من هواء الدنيا يبدأ عمره في عَدٍّ عَكْسِي نحو موعد الرحيل..! فكان البدءُ هو آية الختام! هكذا يولد الإنسان وبعد ومضة من زمن الأرض تكون وفاته! (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِكْرَامِ)(الرحمن:24-25).
ذلك هو الله رب العالمين، يرسل رسالته إلى هذا الإنسان العبد، فيكلمه وحيا بهذا القرآن! ويأبى أكثرُ الناس إلا تمردا وكفورا! فواأسفاه على هذا الإنسان! ويا عجبا من أمر هؤلاء المسلمين! كأن الكتاب لا يعنيهم، وكأن الرسول لم يكن فيهم! (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون!)(يس:30)
إن هذا القرآن هو الروح الذي نفخه الله في عرب الجاهلية؛ فأخرج منهم خير أمة أخرجت للناس! وانبعثوا بروح القرآن من رماد الموت الحضاري؛ طيوراً حية تحلق في الآفاق، وخرجوا من ظلمات الجهل ومتاهات العمى أدِلاَّءَ على الله، يُبْصِرون بنور الله ويُبَصِّرون العالم الضال حقائق الحياة! ذلك هو سر القرآن، الروح الرباني العظيم، لا يزال هو هو! روحا ينفخ الحياة في الموتى من النفوس والمجتمعات؛ فتحيا من جديد! وتلك حقيقة من أضخم حقائق القرآن المجيد! قال جل ثناؤه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)(الشورى:52-53).
من أنت؟ تلك قصة النبأ العظيم! نبأ الوجود الضخم الرهيب، من البدء إلى المصير! النبأ الذي جاءت به النُّذُرُ من الآيات: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ!)(الأنبياء:97). وقريبا جدا – واحسرتاه! – تنفجر به الأرض والسماوات! (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ! كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)(الأنبياء:104).
ذلكم هو النذير القرآني الرهيب! ولقد أعذر من أنذر! وما بقي لمن بلغه النبأ العظيم من محيص؛ إلا أن يتحمل مسؤوليته الوجودية، ويتخذ القرار، قراراً واحدا من بين احتمالين اثنين، لا ثالث لهما: النور أو العَمَى! وما أنزل الله القرآن إذْ أنزله إلا لهذا! ولقد صَرَّفَه على مدى ثلاث وعشرين سنة؛ آيةً آيةً، كل آية في ذاتها هي بصيرة للمستبصرين، الذين شَاقَهُم نورُ الحق فبحثوا عنه رَغَباً ورَهَباً؛ عسى أن يكونوا من المهتدين. وبقي القرآن بهذا التحدي الاستبصاري يخاطب العُمْيَ من كل جيل بشري! قال الحقُّ جل وعلا: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104).
من أجل ذلك؛ نرجع آئبين إلى رسالة الله، نقرؤها من جديد، نستغفره تعالى على ما فرطنا وقصرنا! قدوتنا في هذه السبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته الزكية، التي لم تكن في كل تجلياتها النبوية – قولا وفعلا وتقريرا - إلا تفسيرا للقرآن العظيم! وكفى بكلمة عائشة أم المؤمنين، في وصفه – عليه الصلاة والسلام – لما سئلت عن خُلُقِهe؛ فقالت بعبارتها الجامعة المانعة: (كان خُلُقُه القرآن!) ولقد ضل وخاب من عزل السنة عن الكتاب!
نرجع إذن إلى القرآن، نحمل رسالته إن شاء الله – كما أمر الله – نخوض بها تحديات العصر، يحدونا اليقين التام بأن لا إصلاح إلا بالصلاح! وأن لا ربانية إلا بالجمع بينهما! وأن لا إمكان لكل ذلك – صلاحاً وإصلاحاً وربانيةً - إلا بالقرآن المجيد! وهو قول الحق - جل ثناؤها – في آية عجيبة، آية ذات علامات – لمن يقرأ العلامات – ولكل علامة هدايات. قال تعالى ذِكْرُه: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170) التَّمْسِيكُ بالكتاب، وإقامُ الصلاة: أمران كفيلان برفع المسلم إلى منـزلة المصلحين! هكذا: (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ). وإن تلك لآية! ومثلها قوله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران:79). وقد قُرِئَتْ: (تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) و(تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ)؛ للجمع بين وظيفتي التَّعَلُّم والتعليم، والصلاح والإصلاح، إذْ بذلك يكون التدارس لآيات القرآن العظيم، بما هي علامات دالة على الله، وراسمة لطريق التعرف إليه جل وعلا، في الأنفس والآفاق. وتلك هي السبيل الأساس للربانية، كما هو واضح من دلالة الحصر المستفادة من الاستدراك في الآية: (ولكن كونوا ربانيين).
===
5.
در السحابة في مناقب الصحابة
منصور بن محمد فهد الشريده
@Aboesam742Are
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
زكى الله جل وعلا صحابة رسول الله ﷺ الكرام في كتابه الكريم في غير ما آية ، فقال تعالى :{ والسابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم }[ التوبة : ١٠].
وقال الله تعالى : ﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [الحشر : ٨ ، ٩ ].
وقال تعالى: (( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً )) [الفتح :١٨].
ففي هذه الآيات وغيرها بيان فضل الصحابة رضوان الله عليهم ومناقبهم ، وعظم ما امتن الله به عليهم دون سائر الأمة ، كيف لا وهم أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ونقلة الوحي من بعده ، ، ويؤيد هذا البيان ماجاء في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة اكثر من أن تحصر ، ومنها الحديث المعروف :( لاتسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ).
ولاتزال عقيدة المسلمين على إجماع حبهم وتوقيرهم ومعرفة منزلتهم حتى نبتت نابته من أهل الرفض وأذنابهم ، فأخذوا يطعنون في الصحابة ويسبونهم ويشتمونهم مخالفين بذلك الكتاب والسنة وسلف الأمة ، فانبرى لهم الأئمة وبينوا خطر طعنهم وأن القدح في الناقل مسلتزم القدح في المنقول ، فاتخذ كثير من الزنادقة الطعن في صحابة رسول الله ﷺ مطية لتعطيل الشريعة السمحة.
قال الإمام الطحاوي: "ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم ، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني في عقيدته: «فمن أحبهم، وتولاهم، ودعا لهم، ورعى حقهم، وعرف فضلهم، فاز في الفائزين ، ومن أبغضهم، وسبهم، ونسبهم إلى ما تنسبهم إليه الروافض والخوارج لعنهم الله، فقد هلك في الهالكين….».
رَحِيمٌ﴾.
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)).
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة أو الإجماع، من فضائلهم ومراتبهم» إلى أن قال: «ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن أخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمعت الصحابة على تقديم عثمان في البيعة ….».
ويقول الإمام المقرئي أبو عمر الداني في كتابه الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة «ومن قولهم أن يحسن القول في السادات الكرام، أصحاب محمد عليه السلام، وأن تذكر فضائلهم، وتنشر محاسنهم، ويمسك عما سوى ذلك مما شجر بينهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)). يعني إذا ذكروا بغير الجميل، ولقوله: ((الله الله في أصحابي))، ويجب أن يلتمس لهم أحسن المخارج وأجمل المذاهب لمكانهم من الإسلام وموضعهم في الدين والإيمان».
ويقول علامة قطر الشيخ أحمد بن حجر البوطامي رحمه الله تعالى رحمه الله: «وأجمع أهل السنة سلفاً وخلفاً من أهل الفقه والحديث والتفسير والكلام، على تنوع مذاهبهم: أن الواجب الثناء على أصحاب رسول الله، وحبهم والاستغفار لهم، والترحم عليهم، والترضي عنهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول …..».
ابو الحسن الأشعري: أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار والسابقين الى الاسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (سورة الفتح، الآية 18).
وقال أبو الحسن الأشعري –رحمه الله-: (وكل الصحابة أئمة مأمونون، غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم، وتعبّدَنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم، والتبرّي من كل من ينقص أحداً منهم -رضي الله عنهم أجمعين-). [الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، (ص260)]
وقال القحطاني في نونيته:
حب الصحابة والقرابة سنة ::: ألقى بها ربي إذا أحياني
وقال أبو العباس ابن تيمية في لاميته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب ::: ومودة القربى بها أتوسل.
قال القاضي الشوكانيّ في تفسيره عند الآية السابقة: "أمرهم الله بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغِلَّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصَّحَابة دخولاً أوَّلياً لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السِّيَاق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغٌ من الشيطان، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه ... فإن جاوز ما يجده من الغِلِّ إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه. وهذا الدَّاء العضال إنما يُصاب به من ابتلي بمعلِّم من الرَّافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمَّة؛ الذين تلاعب بهم الشيطان، وزيّن لهم الأكاذيب المختلفة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة ... وما زال الشيطان الرَّجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رُتبة إلى رُتبة، حتى صاروا أعداء كتاب الله وسُنَّة رسوله، وخير أُمَّتِه، وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط." ا.هـ [فتح القدير للشوكاني (5/268-269)].
وقد قال إمامنا مالك بن أنس –رحمه الله-، لما ذكر هذه الآية: (قسم الله تعالى الفيء؛ فقال: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم" ثم قال: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا" الآية، فمن لم يقل هذا لهم فليس ممن جعل له الفيء) (أسنده عنه الحميدي في أصول السنة، (مسند الحميدي 2/546)).
وقال مجاهد - رحمه الله – في تفسير قول الله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) قال:"بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين." [أسنده عنه ابن عبد البر – رحمه الله – في (الاستيعاب)، (1/47)].
وقال شيخ المالكية أبو عمر ابن عبد البر النميري: "ونحن وإن كان الصحابة - رضى الله عنهم - قد كُفِينا البحث عن أحوالهم، لإجماع أهل الحقِّ من المسلمين وهم أهل السُّـنَّة والجماعة على أنهم كُلَّهُم عُدُولٌ، فواجبٌ الوقوف على أسمائهم، والبحث عن سيرهم وأحوالهم، ليُهتدى بهديهم، فهم خيرُ من سُلِكَ سبيله واقتُدِي به." ا.هـ [(الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، (1/9)]
وقال الخطيب البغداديُّ – رحمه الله- بعد أن ساق جملةً من أدلّة الكتاب والسُّـنَّة الدَّالّة على فضلهم وعدالتهم: "فلا يحتاج أحدٌ منهم مع تعديل الله تعالى لهم؛ المطلعِ على بواطنهم إلى تعديل أحدٍ من الخلق لهم ... على أنّه لو لم يَرِدْ من الله عز وجل ورسوله فيهم شيءٌ مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها؛ من الهجرة والجهاد والنُّصرة وبذل المهَج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين، وقوّة الإيمان واليقين القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدّلين والمزكَّيْن الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافَّة العلماء، ومن يُعتدّ بقوله من الفقهاء." ا.هـ [(الكفاية في أصول علم الرواية)، (1/186-187)]
وإن من سعادة الدنيا وأسباب النجاة في الآخرة أن يتولّى المسلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وأزواجَه، والصالحين من أهل بيته، فإنه بذلك يكون محبّاً ومتوليّاً لمن أخبر الله بمحبته لهم، ورضاه عنهم، وبشَّرهم بجنَّته، بعد أن اصطفاهم وفضلهم على كلّ من سواهم دون الأنبياء، وهذا ما وفّق الله إليه أهل السُّـنَّة قاطبةً، فأعلنوا الولاء لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأزواجه، في غير إفراط ولا تفريط، وتتابعوا على ذلك وتوارثوه كابراً عن كابر، قال الطّحاويّ مقرّراً عقيدة أهل السُّـنَّة: (ونُحِبُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نُفَرّط في حبّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، وحبُّهم دين، وإيمان، وإحسان، وبغضهم كفرٌ ونفاق وطغيان). [العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العزّ، ص(689) ]
وقال: (ومَن أحسنَ القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كلّ دنس، وذرياته المقدسين من كلّ رجس، فقد برئ من النفاق). [العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العزّ، ص(737)]
وقال أبو الوليد الباجي المالكي في وصيته لولديه: (وأشربا قلوبكما محبة أصحابه أجمعين، وتفضيل الأئمة منهم الطاهرين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، -رضي الله عنهم-، ونفعنا بمحبتهم، وألزِما أنفسكما حسنَ التأويل لما شجر بينهم، واعتقادَ الجميل فيما نقل عنهم....) اهـ. [وصية أبي الوليد الباجي لولديه (ص43)]
قال أبو زرعة –رحمه الله-: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ، والقرآن حقٌّ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُّـنَّة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) [أسنده الخطيب في الكفاية، (1/177)].
وقال إمام أهل السُّـنَّة أحمد بن حنبل –رحمه الله-: (إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام).
وقال الإمام البربهاريّ –رحمه الله-: (واعلم أنَّ من تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه إنَّما أراد محمداً صلى الله عليه وسلم وقد آذاه في قبره) [شرح السُّـنَّة، للبربهاري، ص(114)].
وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: "لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلمقامُ أحدهم ساعة خيرٌ من عبادة أحدكم أربعين سنة".
قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينه".
وقال أيضًا مخاطبًا أصحابه: "أنتم أكثر صلاة، وأكثر صيامًا، وأكثر جهادًا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم كانوا خيرًا منكم"، قالوا: فيمَ ذاك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: "كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "إنَّ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا أكياساً، عملوا صالحاً، وأكلوا طيباً، وقدموا فضلاً، لَم يُنافسوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يجزعوا من ذلها، أخذوا صفْوها، وتركوا كدرها، والله ما تعاظمتْ في أنفسهم حسنةٌ عملوها، ولا تصاغرت في أنفسهم سيئةٌ أمرهم الشيطان بها.
قوله: "ولا نُفَرِّط في حبِّ واحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، وحبهم دين وإيمان وإحسان".
يقصد بذلك الرد على الروافِض والنواصب؛ فإن الرافضة يُكَفِّرون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعتقدون أنهم كفروا إلا ثلاثة منهم؛ بل يعتقدون أنه لا ولاء إلا ببراء؛ أي: لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر، وأهلُ السنة يوالونهم كلهم، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدْل والإنصاف، والرافضة يغلون في عليٍّ ويرفعونه فوق منزلته، أما النواصب، فإنهم يسبون عليًّا، ويبغضون آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
قال يحيى بن معين في تليد بن سليمان المحاربي الكوفي: "كذاب، كان يشتم عثمان، وكل من شتم عثمان أو طلحة أو أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دجال، لا يُكتب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
ولله در القائل:
لاَ تَرْكَنَنَّ إِلَى الرَّوَافِضِ إِنَّهُمْ *** شَتَمُوا الصَّحَابَةَ دُونَ مَا بُرْهَانِ
لُعِنُوا كَمَا بَغَضُوا صَحَابَةَ أَحْمَدٍ *** وَوِدَادُهُمْ فَرْضٌ عَلَى الإِنْسَانِ
حُبُّ الصَّحَابَةِ وَالقَرَابَةِ سُنَّةٌ *** أَلْقَى بِهَا رَبِّي إِذَا أَحْيَانِي
احْذَرْ عِقَابَ اللهِ وَارْجُ ثَوَابَهُ *** حَتَّى تَكُونَ كَمَنْ لَهُ قَلْبَانِ.
=========
7-
رجل معلق قلبه بالمساجد
منصور بن محمد فهد الشريده
@Aboesam742Are
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
فضل المساجد عند اللّه عظيمٌ لأنها بيوته في الأرض، وكذلك فضلُ المحبين لها، المكثرين من ملازمتها والتردّد عليها ،
المرابطين عليها بالغدو والاصال ، فقد ترى رجلاً قلبه معلق بالمساجد ، فلا يكاد إذا خرج من المسجد أن يرتاح لشيء حتى يعود إليه، لأن المساجد بيوت الله ، ومن دخلها فقد حلَّ ضيفًا على ربه ، فلا قلب أطيب ولا نفس أسعد من رجل حل ضيفًا على ربه في بيته وتحت رعايته.
وهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة الذين قال الله فيهم: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18].
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ كَانَ الْمَسْجِدُ ببَيْتَهُ بِالرَّوْحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إلى رِضْوَانِ اللهِ إلَى الجَنَّةِ))[8].
وهذه الضيافة تكون في الدنيا بما يحصل في قلوبهم من الاطمئنان والسعادة والراحة، وفي الآخرة بما أعدَّ لهم من الكرامة في الجنة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ[9] مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ))[10]
فقلبه كالقنديل المعلق ، حتى ولو كان جسده خارج المسجد ، فهو ينتظر بفارغ الصبر والحب الرجوع والعودة للمسجد ،
فالمساجد بيوت الله ومكان آداء العبادات المفروضة وميدان العلم والتعلم فالمتعلق بالمسجد بعيد عن رؤية المنكرات وقريب من الله تعالى فيصفو قلبه وتنجلي همومه وأكداره ويعيش في روضة من رياض الجنة وبذلك تكفر سيئاته وتكثر حسناته وقد قال تعالى :( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال *رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار *ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ). [سورة النور ] .
وكان صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة رضي لله عنها: يشتغل في مهنة أهله يقطع مع أهله اللحم ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته ويكنس بيته وهو أشرف الخلق ..وتقول عائشة : فإذا سمع الله أكبر ، قام من مجلسنا كأننا لا نعرفه ولا يعرفنا ....
ففي هذه المساجد ، أمر الله جل وعلا أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه
فمن تعود وأحب الصلاة فيها
وسابق إليها في الصف الأول غدوا ورواحا
أول من يَقدم إلى المسجد وآخر من يخرج في الغالب فَرح لمقامه فيها
فهذا من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه..
وملازمة المساجد وكثرة الإعتياد لها
صفة لطائفة من الناس من الأخيار يؤتيهم الله من الاستقامة ، فهم لا يتركون صلاةً إلا وصلوها فى المسجد وذلك حباً فى صلاة الجماعة وأبتغاء رضا الله عليهم وعفوه عنهم وهذا ليس معناه ترك العمل والتفرغ للصلاة فى المسجد ولكن أدى عملك و إذا سمعت النداء حي على الصلاة حي على الفلاح اترك ما فى يدك ولبى النداء.
فهذا الرجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، والقلب ـ عباد الله ـ يتعلق بما عودته عليه، فإن عودته على الطاعة بإخلاص اعتادها ولم يجد أنسه إلا فيها، وإن عودته المعصية وأدمنت فعلها تعلق بها ، فالصالحون إنما يأنسون بذكر الله سبحانه ، لهذا فإنهم متعلقون بأماكن الطاعة ، لا يجدون راحتهم إلا فيها ، إذا غادروها فسرعان ما يشتاقون إليها ، هؤلاء ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
فانظر يا عبد الله، هل قلبك معلق بالمسجد أم معلق بغيره من أماكن اللهو واللعب ؟
و ما هي الأماكن التي تشتاق وتحِنُّ إلى الذهاب إليها؟ واعلم أن خير البقاع في الأرض المساجد ، فالتمس الأجر في المسجد ، والتمس ظل الله يوم القيامة بتعمير المسجد ، يقول النبي ﷺ
فيما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة:((كفارات الخطايا: إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)).
و قال -عليه الصلاة والسلام- :{ ورجل قلبه معلق بالمساجد } المساجد هي بيوت الله تعالى التي أذن أن تُرفع ويذكر فيها اسمه سبحانه وتعالى، وقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حريصا على المساجد وكان قلبه معلق بالمسجد كما أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- لما نزل به مرض الموت دخل إلى أهله بعد صلاة المغرب وإذا هو قد ارتفعت عليه الحُمّى فاضطجع على فراش فنودي بصلاة العشاء، ولم ينتبه -عليه الصلاة والسلام- من شدة المرض، فالتفت -صلى الله عليه وآله وسلم- لما بدأ الناس ينادون يقولون:{يارسول الله نامت النساء نامت الصبيان} فالتفت -صلى الله عليه وسلم-إلى من حوله قال :{ أصلى الناس؟ _قالوا: لا يارسول الله هم ينتظرونك } هل قال أنا مريض ! لا، قال : { ضعوا لي ماء في المخضب } إناء كبير فوضعوا له الماء وأقبل - صلى الله عليه وآله وسلم- وجلس في هذا الماء وجعل يُبرد على نفسه حتى برُد جسده ثم اتكأ على يده ليقوم فأُغمي، عليه فلبث مليا مغمى عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم أفاق، فسأل عما قلبه معلق به، رجل قلبه معلق بالمساجد، يشتاق، هناك أُناس قلوبهم معلقة بالمسارح، فعلا تجد أنه يذهب إلى بلد معين فيه مسارح ورقص ويحضر لمدة أسبوعين ثلاثه فإذا رجع جلس أسبوعين ثلاثه فما زال قلبه معلق، ويقول "يا أخي نحن ليس عندنا سينمات ومسارح سأذهب إلى ذلك البلد" فلا يزال قلبه معلق بتلك المسارح، من الناس من قلبه معلق بالملاعب الرياضيه ولا يكتفي بمتابعة المباراه عبر التلفاز، لا بل يذهب إلى الملاعب، قلبه معلق بالكوره، الناس قلوبهم معلقه بأشياء، النبي -صلى الله عليه وسلم - قلبه معلق بالمسجد فلما أفاق قال :{ أصلى الناس ؟_ قالوا :لا يارسول الله هم ينتظرونك } فنظر فإذا جسده ضعيف وحار، قال :{ضعوا لي ماء في المخضب، فوضعوا له ماءً آخر ، فأقبل -صلى الله عليه وآله وسلم- وتبرّد به ثم اتكأ ليقوم فأُغمي عليه } <وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الاجسام >فلبث مليا مغمى عليه وعائشه ومن حوله ينظرون إليه -عليه الصلاة والسلام- فلما أفاق سأل عما قلبه معلق به قال : {أصلى الناس؟} ماقال خرج وقت الصلاة! لا، الجماعه !، { أصلى الناس ؟_ قالوا: لا يارسول الله ينتظرونك_ قال : ضعوا لي ماءً في المخضب وصبوا علي الماء من أفواه سبع قرب لم تُحلى أفواههن } أحضروا سبع قرب يكون الماء قد طال مكثه فيها، فأحضروا إليه -صلى الله عليه وآله وسلم-القربة الأولى وصبوها عليه والثانيه وصبوها عليه والثالثه صبوها عليه حتى أكثروا عليه صب الماء قالت عائشه: {وجعل يشير بيده أن حسبكم حسبكم }لم يستطع أن يتكلم فأخذ يشير بيده، الآن نشيط فاتكأ على يديه ليقوم إلى ماقلبه معلق به فأُغمي عليه فلما أفاق -صلى الله عليه وسلم - فإذا القلب معلق لكن الجسد هنا ما استطاع أن يتصل الجسد بالقلب، فقال -صلى الله عليه وسلم -{ مروا أبا بكر فليصلي بالناس } اليوم لا يوجد صلاة جماعه قلبي معلق لكن ما استطعت أن أصلي، مروا أبا بكر فليصلي بالناس، ويصلي بهم أبا بكر صلاة العشاء من يوم الجمعه وصلوات يوم االسبت وصلوات يوم الأحد، فلما كانت صلاة العصر من يوم الإثنين شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- في جسده بنشاط، قلبه معلق ، فقال -صلى الله عليه وآله سلم - :{ ادعولي علياً والعباس رضي الله عنهما، فدعوهم ، قال: احملاني إلى المسجد }ارجعوا الجسد إلى القلب !{ احملاني إلى المسجد} فحملاه -صلى الله عليه وآله وسلم- يتهادى بينهما، يقول علي رضي الله عنها : {إن قدميه لتخُطاّن في الأرض}
عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام نزل به الموت فسمع الآذان يؤذن لصلاة المغرب قال :| احملوني، قالوا : سبحان الله وأنت على هذا الحال ؟ _ قال : نعم أسمع منادي اللهيقول حيّ على الصلاة حي على الفلاح ولا أجيبه احملوني إلى المسجد | قال فحملوه فركع ركعة مع الإمام في صلاة المغرب ثم مات في سجوده .
محمد بن خفيف رحمه الله من علماء الحنابله قالوا قد نزل به الفالج، الفالج هو مثل الجلطه شلل نصفي، يقولون فكان إذا أُذّن عليه للصلاه إذا سمع الآذان قال :| احملوني إلى المسجد _ قالوا : سبحان الله، إن الله قد عذرك _ قال: أعلم أن الله قد عذرني أعلم لكني لا أطيق | لا أصبر، ثم قال :| إذا سمعتم حيّ عل الصلاة حيّ على الفلاح ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبره | يعني إن لم تجدوني في المسجد اعلموا أني قد مت، أنا في المقبره، | فاطلبوني في المقبره |
رجل قلبه معلق، تجد أنه إذا كان يقود السياره وأذن للصلاة بدأ قلبه يأكله" يا أخي ابحث عن مخرج توقف عند مسجد، ألا يوجد مسجد قريب ! افتح النوافذ نسمع ربما هناك إقامه " قلبه معلق" لا تفوتنا الصلاه لاتفوتنا الصلاة " وأناس مع الأسف يكون على الطريق السريع ويؤذن ويقول سأتأخر وزحام سأصلي في البيت، الصلاه لاتساوي شيء عنده، أما الذي قلبه معلق بالمسجد والله العظيم منذ أن يؤذن عليه وقلبه يأكله يأكله لايصبر، يمكن لو معه هاتف ما ارتاح لو معه ناس أنهى الحديث معهم وقال" ياجماعه اتركوا الحديث الى وقت آخر أنا لست معكم، بالله ابحث عن مسجد، لايوجد منارة ! أدخل الشارع هذا لنبحث " قلبه معلق ينتفض حتى يدخل إلى المسجد، لكن مع الأسف بعض الناس الذين لايهمهم ذلك، هذا ينبغي أن ينظر في قلبه، أنت قلبك ليس معلق بالمسجد، إذا قلبك معلق بالمسجد العلامه في ذلك أنه منذ أن يؤذن وأنت قلبك ينتفض .
وقف الإمام مالك مرة مع ابن وهب، أحد تلاميذه، يتحدثان في الشارع فأُذّن للصلاة فانصرف ابن وهب يمشي فنظر الإمام مالك فإذا هو متوجه إلى بيته، قال : المسجد من هاهنا ! |أين تذهب |المسجد من هاهنا! فقال: أتوضأ للصلاة _ فقال الإمام مالك : سبحان الله رجل يطلب العلم يدخل عليه وقت الصلاة وهو على غير وضوء الله المستعان يقول رجل يطلب العلم يدخل عليه وقت الصلاة وهو على غير وضوء!!
ايفترض أن تتوضأت قبل أن يؤذن، لم ينتقد عليه فاتتك الصلاه، لا، لماذا تتوضأ بعد الآذان؟ المفروض أنك من قبل الآذان تكون حريص على ذلك، كانوا يؤدبون أولادهم على صلاة الجماعة .
عبد العزيز بن مروان غاب ولده مرة عن الصلاة ، وكان ولده في مدينة أخرى عند مؤدب، فالمؤدب هذا أرسل إلى أبيه قال : |ولدك غاب عن صلاة الجماعه فأرسل الأب إليه يا ولدي ماغيّبك عن صلاة الجماعة ؟ فردّ الولد إليه قال: |يا أبتي كانت مُرَجّلتي تسكّن شعري، الجارية أو الماشطة كانت تمشط شعري وفاتتني الصلاة فبعث إليه حلاقا بصحيفة معه قال : لا تسلمه إياها حتى تحلق شعره فوصل إليه الصحيفه معه حتى حلق شعره كله ، ثم أعطاه الصحيفة بما فيها من التوجيه .
هشام بن عبد الملك صلى مرة الجمعة ثم التفت ففقد أحد أولاده فبعث إليه قال : أين أنت !غبت عن صلاة الجمعه _ قال : يا أبتي عجزت بغلتي عن حملي الولد ثقيل وبغلته مريضة ذلك اليوم فركبها وعجزت عن حمله فترك صلاة الجمعة، فقال : سبحان الله وإذا عجزت بغلتك عن حملك تغيب عن الصلاة أقسمت عليك ألا تركب دابة سنة كامله أنظر إلى التشديد عليه، سنة كاملة لا تركب دابة، لكي تتأدب ولاتغيب عن الصلاة أقسمت عليك ألا تركب دابه سنة كاملة إذا كان هؤلاء يُنشّؤون على مثل ذلك من صغرهم اعلم أنه سيزداد حرصا إذا كبر، إذا كان منذ صغره معلق قلبه بالمسجد اعلم أنه سيكبر ولا يزال قلبه معلق بالمسجد.
===8=
الرزق و الأسباب الجالبة له
عبدالرحمن بن عبدالله الطريف
@Alturaif_A
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
شُغل بعض الناس بطلب الرزق، وبالغ البعض في بذل الأسباب المشروعة وغير المشروعة ، وتشاغلوا عما خلقوا من أجله.قال جلّ في علاه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون) ]الذاريات:56[.
وعبادة الله قد تكون في طلب الرزق شريطة أن تكون الأسباب مشروعة والوسائل مباحة.
قال تعالى : (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)] الملك:15[.
«فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»
وقد قال صلى الله عليه وسلم " ... اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما مَنَعْتَ ... " . رواه مسلم
وقد "تكفّل الحق سبحانه للإنسان برزقه، و جعل للرزق أسباباً وكل ما على الإنسان هو أنْ يأخذ بهذه الأسباب ثم لا يشغل باله هماً في موضوعه، ولا يظن أن سَّعْيه هو مصدر الرزق، لأن السعي سبب، و الرزق من الله، وما على الإنسان إلا أنْ يتحرى الأسباب، فإنْ أبطأ رزقه فاليرح نفسه؛ لأنه لا يعرف عنوانه، أمّا الرزق فيعرف عنوان الإنسان وسوف يَأتيه يطرق عليه الباب".
قال تعالى:(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُون )]الذاريات:22-23[.
ولما سع أعرابي هذه الآية صاح بأعلى صوته وقال :"يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف" .
قال الحسن البصري-رحمه الله- : كثيراً ما وجدنا من طلب الآخرة وأتته الدنيا ولكننا لم نجد من طلب الدنيا وأتته الآخرة .
قال صلى الله عليه وسلم"((لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهَرَبُ مِنَ الْمَوْتِ؛ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ))" صحيح الجامع5240
فلو وعى الإنسان هذه الحقيقة لطابت نفسه وسكن قلبه ولم تذهب حياته حسرات على فوات نصيب من الدنيا.فإن أعطي بعد أخذ الأسباب شكر وإن منع حمد الله و صبر .
و لعلي في هذا المقال أشير إلى بعض الأسباب المشروعة الجالبة للرزق وهي:
١ - تحقيق التوحيد قال تعالى :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون ) [الأعراف:96[.
2- الصلاة وأمر الأهل بها قال تعالى ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى )]طه:132[.
قال سفيان الثوري :في قوله: {لا نسألك رزقًا} قال: لا نكلفك الطلب .
يقول أحد السلف : ما افتقر ولا احتاج للبشر من عمل بهذه الآية
3 - تقوى الله عز وجل قال تعالى :( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3-2[
4 - الاستغفار قال تعالى :(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12[ .
وقال : النبي -صلى الله عليهم وسلم-: " مَن أكثر الاستغفار جعل الله له من كل همَّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب " أخرجه أحمد في المسند صححه أحمد شاكر
5 - التوكل على الله قال تعالى :(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )[الطلاق:3[.
و قال النبي -صلى الله عليهم وسلم-: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً ". رواه الترمذي، وقال: حديث حسن
6 - صلة الرحم قال النبي -صلى الله عليهم وسلم-: " مَنْ سَرَّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه " رواه البخاري
7 - الإنفاق ( الصدقة ) قال تعالى:( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين ) [سبأ:39[ .
8 - المتابعة بين الحج والعمرة قال النبي-صلى الله عليه وسلم- : " تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ". رواه الترمذي وصححه
9 - الزواج قال تعالى:( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم) [النور:32]. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "عجباً لمن لم يلتمس الغنى في النكاح، و الله يقول: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه)]النور:32[.
10 - الدعاء قال النبي –صلى الله عليه وسلم- لأبي أمامة-رضي الله عنه: "ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحت وأمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي". رواه أبو داود
قال أحد السلف :"ما افتقر ولا احتاج للبشر من عمل بهذه الآية".
١١ - شكر النعم قال تعالى: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد) [إبراهيم:7]، قال عمر بن عبدالعزيز-رحمه الله-": قيَّدوا نعم الله بشكر الله، فالشكر قيد النعم .
كتبه : عبدالرحمن بن عبدالله الطريف
تويتر: @Alturaif_A
البريد الألكتروني a.traif@hotmail.com
==============9=
" ففروا إلى الله "
عبدالرحمن بن عبدالله الطريف
@Alturaif_A
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
دائما ما تطرق أقدار الله القلب البشري لتقتلع منه دواعي الشرك والتعلق بغيره، و تغرس فيه بذرة الإيمان والتوكل على الله .
لا يغرنك مساء ساكن ... قد يوافي بالمنيات السحر
قال تعالى: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " الأعراف آية:( 34 )
- لكل منا أجل محدود ينتهي إليه، فلا الإقدام يُدنيه, ولا الإحجام يُقصيه .
فكم من صحيح مات من غير علة
وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
- كل منا يسير نحو نهايته بطريقة ما، وهو يظن أنه يتحاشاها وينجو منها، بينما يركض حثيثا مسرعا نحوها .
- كل منا يعلم أن شدة الحذر والحيطة لا تمنع القدر! فعلام الجزع والخوف؟ و جميعنا على موعد لن يخلفه، في مكان لن يخطئه .
" إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر " نوح آية:( 4)
-ما قدّره الله تعالى من كيفية الموت، وتوقيته، سيكون كما قدّره، دون زيادة ولا نقصان ! .
فعلام الجزع والخوف من الأمراض !؟
- ليست الدنيا هي الحياة الحقّة، و إنما الحياة الحقيقية دار الخلود والبقاء، تلك الدار التي يسعى لها الصالحون، والعقلاء، و الحكماء ... لأن فيها الإقامة الأبدية، والنعيم المطلق للمؤمنين .
- الحياة الدنيا غرور، والمستغرق في اتباع الغرور سخيف الاختيار، ضعيف العقل، فاسد التمييز، هائم فى بيداء الحياة، ذاهل بالركض وراء مطالب العيش، مستغرق المشاعر بين شتى المظاهر ، لا يكاد يتصل بسر الوجود أو يتمحض لرب العالمين .
- علينا التأمل و التفكر في الأحداث التي تصيب أمتنا لنشعر بعظمة الله، و نخشى من عقابه، ونفر من المعاصي و نلجأ إلى الله تعالى.
" ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء آية:( 76 )
- الحياة لا تستحق أن تخور لأجلها عزيمة المسلم، أو يجبن لحظة إقدام، أو يبخل ساعة عطاء.
لأن الآجال قد فرغ منها، و أن الموت لا بد أن يلاقيه كل حي، و أن الأرزاق مكتوبة لا يزيدها البخل و لا ينقصها العطاء .
فعلينا أن نتقي الله عزّ وجلّ، و نفر إليه بضعفنا وافتقارنا، عَلّه يغفر لنا ذنوبنا قبل لقائه، ولا ندري متى يكون اللقاء ؟
كتبه : عبدالرحمن بن عبدالله الطريف
تويتر: @Alturaif_A
البريد الألكتروني a.traif@hotmail.com
=============10===
تفجير (القديح) .. وأقلام الفتنة
بندر الشويقي
@Drbandarsh
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أياً كانت الجهة التي تقف وراء عملية التفجير ببلدة القديح.
ثمة أمرٌ واحدٌ يجب ألا يُغفَل عنه ..
العملية ليست موجهةً ضد جيشٍ، ولا أفرادٍ عسكريين، ولا إلى طائفةٍ دون أخرى.
حتى الضَّحايا المباشرين لتلك العمليَّة، لم يكونوا قطعاً مقصودين لذواتهم، ولا لمذهبهم.
العملية –كما هو واضحٌ- رسالة شقاقٍ، لبلدٍ يعيش حالة حربٍ.
وغرضُ العملية تفكيك الداخل، وتكرار الصُّورة التي نراها عياناً في العراق وفي اليمن.
قد لا يكون في هذا الكلام جديدٌ يذكرُ، غير أن ما أريدُ إضافته أمرٌ آخر:
قرأتُ كتاباتٍ وتعليقاتٍ مريضةً عاجزةً عن فهم الصُّورة الواضحة التي أمامها. أو لنَقُل: لا تريد أن تفهمها، في ظل غرقها في خصوماتها الخاصة وأدوائها المزمنة.
كتابات تتناول حادثة التفجير بطريقةٍ تنسجم تماماً مع غرض المفجِّرين وهدفهم. قصد الكاتبون ذلك أو لم يقصدوه.
هناك تعليقات سُنيةٌ، وأخرى شيعيةٌ .. تحاول ربط الحدث بأسبابٍ معزولةٍ عن محرِّكه الأساس الواضح الذي يفترض ألا تخطئه عين كُلِّ عاقلٍ يعي ويفهم.
كتاباتٌ ترسل للشيعة رسالة حربٍ لا لبس فيها .. رسالةً تقولُ لهم:
"لا تصدقوا هذه البيانات، ولا الاستنكارات"
"وإياكم أن تُخدَعوا .. فليست داعشٌ من فجَّر مسجدكم!!"
هذه الكتابات -من الناحية العمليَّة- توظفُ الحادثة وفق الخطة التي أرادتها الجهة التي تقفُ وراءها .. تلك الجهة لا تريد الخير لأيٍّ من الطائفتين؛ لا السُّنةَ ولا الشِّيعة.
أصحابُ هذه التعليقات يقومون بتنفيذ الخطوة الثانية لعملية التفجير، بعدما نفَّذ المفجِّرُ الجَهُولُ خطوتها الأولى.
أيُّ تعليقٍ على الحادثة يحاول استثماره من خلال توجيه اللوم والتقريع لأيِّ جهةٍ داخل البلد لا ترتضي ما جرى وترفضُه، فهو في النتيجة والمحصل: ينفِّذُ الاستجابة المطلوبة التي يريدها من خطَّط للعمليَّة ورسمها.
حتى لو فرضنا (جدلاً) صحة ذاك الربط البليد الذي يحاوله بعض الناس، فالنصح والصدق والعقل يقتضي الإمساك الآن –على الأقلِّ- عن مثل هذا الكلام في ظلِّ أجواء التوتر والهيجان التي يسعى منفذو العمليَّة لخلقها وتصعيدها.
هذا الكلامُ لا أخصُّ به طرفاً دون طرفٍ، ولا جهةً دون أخرى.
يستوي في ذلك الشِّيعيُّ الذي يعلِّق على الحدَثِ من خلال شتم السُّنة أجمع.
أو السُّنيُّ الذي يبررُ ويعلِّق على العمليَّة من خلال الحديث عن جناياتٍ وسوابق شيعيَّة.
ولا يختلفُ عن هذين ذاك المتعالي الذي يجدُ في منظر تلك الدِّماء والأشلاء فرصته للحديث -صراحةً أو تلميحاً- عن وسطيته المتفرِّدة.
لستُ من الحالمين الذين يتجاهلون عمق الخلاف العقديِّ بين الطائفتين. لكن يجب ألا نغفل عن حقيقة أن المحرِّك للعملية أمرٌ آخرٌ، يكادُ يبصره أقلُّ الناس إدراكاً.
حديثي كلُّه عن حدثٍ قائمٍ، يأتي في سياق معركةٍ مشتعلةٍ موجَّهةٍ من الخارج لها هدفٌ واضحٌ لا خفاء فيه.
هذا الحدث أسبابه وسياقاته الجليَّة تختلف عن السِّياق الأقدم للنزاع العقديِّ التاريخي السُّنيِّ الشيعيِّ.
والجهة التي تقف وراء العمليَّة إن كانت سُنيَّةً خالصةً فهي قطعاً لم تقصد الانتقام من الشِّيعة لأنهم شيعةٌ، بل لم تقصد بفعلها الشِّيعة وحدَهم.
ومن الحمق الراسخ رفع الصوت بأن هذا التفجير ثمرة النظرة السُّنيَّة للشيعة.
الشِّيعة يعيشون في البلد منذ تأسيسه، ولم يتعرضوا قطُّ لمثل هذا العمل، رُغم حالة التوتر المستمرة بين الطائفتَين
والجهة التي تقف وراء العمليَّة لا مانع لديها من تنفيذ مثلها مع أهل السُّنةِ متى احتاجت، ولن تعدم مبرراتها لذلك لو أرادت.
المحرِّكُ لهذا العمل واضحٌ
وغرضه ظاهرٌ كالشِّمس
ومن يريدُ الخير للبلد وأهلهِ
بل حتى من يريدُ الخير لطائفته فقط
عليه أن يمسك عن كلِّ ما يخدمُ هذا الغرض
وصاحب الفتنة: ليس سوى ذاك الذي يسير في الاتجاه المعاكس لاتجاه من يسعون في إطفائها وتسكينها.
صاحب الفتنة الأثيم ذاك الذي جنَّد قلمه في خدمة الحزام الناسف.
بندر الشويقي
4/8/1436ه
=======11=========
مصادر التشكيك في الاحاديث..!
د.حمزة بن فايع الفتحي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
من بلايا السياق التخلفي، والمرحلة التراجعية في حياة الأمة، ان يُلحق بالدين النقيصة، وان يُنسب للشرع المجيد، كل تراجع وهوان،،،! وكما تحررت أوربا من سيطرة الدين عليها، وتبينت الحق،، كذلك يجب على أمتنا قفو ذلك، كما تقول جمهرة العقلانيين والتنويريين الصحافيين والمهرجبن والفنيين، هذه الأيام وقبلها،،،!!
(( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا )) سورة الكهف .
وبات جهالُ أمتنا (أوصياء) على إسلامنا، ومنظّرين لخطوط نهضتنا ومقوماتها،،،،!
ومن ذلك حملتهم على السنة وبعض القضايا الحديثية، وضرورة إخضاعها للعقل و(المكتشفات) الحديثة ،،،!
وتجاهلوا(( من يطع الرسول فقد أطاع الله )) سورة النساء.
وقوله(( وما اتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا )) سورة الحشر .
وصح قوله عليه الصلاة والسلام : (( ألا إني أوتيت القران ومثله معه )) أي السنة ،،،!
ومدرسة التشكيك، امتداد لمدرسة عقلانية قديمة، ابتدأت بطوائف (المعتزلة)، وانتهت او تطورت برفاعة طهطاوي والأفغاني ومحمد عبده في العصر الحديث،،،! ولا يزال تتوالد من حين لآخر،،،!!كالداعية الغزالي والترابي ود. عدنان ابراهيم واشباههم ،،،؟
وليس اهل السنة ضد العقل، أو أنهم (متحجّرون)، كلا،،! بل إنهم عقلانيون بحدود، فهم لا يطلقون له العنان، ولا يجعلونه يستقل بنفسه عن نور النص، وسطوع النقل، لعلمهم (بانعدام) التعارض بينهما، وآيات العقل والتفكر والتأمل مشهورة في القران بجلاء عجيب،،،!
لكن المجازفين هنا، تمادوا به وقدسوه، الى درجة محاكمة النصوص النقلية، والتعويل على العقل بلا ضوابط دقيقة، فوقعوا في الحرج، من حيث رد النصوص، أو الاضطراب المنهجي المسيئ،،،!
ولذلك اذا تأملتَ مصادرَهم وصنوفَهم، وجدتهم كالآتي :
1/ عقلانيون مبالغون: يقدسون العقل تقديسا مطلقا، يجعلهم يرفعونه فوق حده، متجاوزين به النقل والنص، فإن عارضه شئ، احتكموا اليه وليس الى النقل، وتلك جناية كبرى، أنى لها ان تكون،،؟!
لأنه بالبساطة، ربنا خالق العقل، والموحي بالنقل، فكيف يتعارضان،،؟! إنما التعارض في عقول البشر، وسوء الحكم والتفقه،،،!!
لانه لا يمكن لنص صحيح، أن يتعارض مع عقل صريح، وعلى هذه المسالة، بنى شيخ الاسلام ابن تيمية، وألف كتابه الذائع ( درء تعارض العقل والنقل )
وفيه قال تلميذه شمس الدين ابن القيم رحمه الله، في الكافية الشافية :
واقرأ كتابَ العقل والنقل الذي// ما في الوجود له شبيه ثاني !!
وممن تورط في هذا المسلك بعض أئمة الكلام، كالفخر الرازي والغزالي والجويني، قبل ان يتوب بعضهم، فمثلا الرازي كان يقدم العقل على النقل، ووضع شروطا تعجيزية في قبول الأدلة النقلية،
وهو من اشتهر قوله:
نهايــــةُ إقــــــدام العقـــول عقالُ // وأكثر سعي العالمين ضـــلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا// وحاصل دنيانــــــا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طولَ عمرنا// سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا !!
وفيه قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (لسان الميزان 4/426)، لما احتفى بالعقل حفاوة، تجاوز بها منهج الاعتدال ( ( له تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة، وكان يورد شبه الخصم بدقة ثم يورد مذهب أهل السنة على غاية من الوَهاء )!!
2/ تجديديون منحرفون: يزعمون تجديد علوم الشريعة والارتقاء بها، فضلوا السبيل، ووقعوا في المحاذير، من ليّ النصوص او ردها، او مصادمة ظواهرها القاطعة، او التوسع في المصالح والاستحسانات،،،،! نحو: جمال البنا، وتخريفاته التجديدية المشهورة،،،،!
من نحو: تجويزه نكاح المسلمة للمسيحي، تجسيدا لمبدأ المواطنة، واباحته القبلات بين الجنسين، وزعمه أن الحجاب خاص بمنطقة الجيب والصدر فحسب، في تخريفات متنوعة،،،!!
3/ صحفيون مخلطون: بدراية وبغير دراية، يحاكمون الأفكار، ويجعلون من أنفسهم سلطة تحكم وتقرر، تبيح وتمنع، وأكثر طروحاتهم قص ولصق، لا تنتمي الى ميادين الأفكار، والتأصيل العلمي المتين،،،! وإنما تخليط، وشئ من التهويل والتخويف والتخريف والتدجيل، حتى تصيب أهدافهم، من نحو محاكمة النصوص، ونقد الأحاديث، وليس فيهم مشتغل بالعلم، فضلا عن ان يكون من منسوبي السنة والآثار،،،! بل هو الانتفاخ الصحفي،،،!
وإنه لمن عجائب الحياة، ان تصبح السنن كالكلأ المباح، والمتاع المشاع، لكل ناطق وناعق،،،!! ولذلك لا يؤمن هؤلاء الا بما يمليه سادتهم من فلاسفة الغرب وعلمائه، فان صادقوا على صحة الأحاديث بالمعامل التجريبية، صدقوا وأذعنوا، والا عاندوا واستهزأوا،،،! ومن اعتراضاتهم: احاديث الذباب، وشرب ألبان الإبل وابوالها،،! وبرغم مصادقة بعض المعامل عليها، إلا أن بعضهم لا يزال في ريبة،،،!
4/ إسلاميون منهزمون : خدرتهم المنجزات الغربية، واحسوا بالهزيمة الفكرية والذاتية، فأرادوا مواصلة الدعوة متكيفين، بتجديد منهزم، وسلوك فاتر، وحَراك سقيم، يتنافى وعزة الاسلام، وأنف العقيدة والكرامة،،،! من نحو من يسمونه رائد التنوير، رفاعة الطهطاوي واتباعه، الذين انماعوا في التسويغ والترويج للفكر الغربي، بطريق انهزامية ومسفة،،،،!
5/ كتاب متحاملون: ذوو انحراف خطير، او تلقٍ مشوش، او فكر هابط، او قراءات مسبقة، اعتمدت على الفكر الشيوعي او العلماني او القومي ، او أخدان لروايات ساقطة، وقصص ماجنة، صنعت منهم أضدادا لدينهم ولأمتهم ، فيأتون ليجعلوا من أقلامهم حكما على الأحاديث، وان لهم القدرة في النقد والتحليل،،،! وينضاف الى ذلك معاداتهم لبعض الاسلاميين، الذي يجعلهم ينظرون بعين العمى او الغشاوة امام ما يطرح،،،!!
ومقدماتهم فنية او سياسية او تربوية، او تهريجية، ولا علاقة لهم بالعلم الشرعي ومسائله، وتحقيقه،،،!
6/ متحدثون مأجورون: من خلال قنواتهم وبرامجهم، التي أخذت على عاتقها إقصاء الاسلام والفضائل، ونشر السفه والرذائل، وبث السموم والشبهات المزعزعة للإيمان والعقائد من نحو معارضة بعض الأحاديث للعقل البشري، وعدم ذكر ذلك في القران، او الترويج أن الايمان بالقران كاف،،،!!
متجاهلين جل احكام الشريعة التفصيلية كانت في السنن، وليس في القران كصفة الصلاة والزكاة والحج والصيام والمعاملات ودقائق الحدود وشبهها ،،،!
ومن المؤسف كل هذه الأصناف تحتضنهم قنوات فضائية معروفة، تغذيهم وتشتريهم، ليمارسوا عملية الهدم والتضليل والتلبيس، بسم الاسلام والعدالة، وفقه الشريعة،،! والحقيقة أنه لا عدل ولا فقه ولا شريعة، فهم يختارون ما يريدون، ويثبتون ما يريدون، إلى أن يبتكروا إسلاماً جديدا، يتناغم والهوى الغربي،،،!!
وهذه الأصناف قد حذر وتنبأ صلى الله عليه وسلم بهم في قوله(( ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني، وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله )). رواه الترمذي وغيره.
وقوله (( ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه )).. والله الموفق،...
كفانا الله شرهم، ورد كيدهم في نحورهم،،،
إضاءة : مَن رام جنة من غير نهلهِ// فهو أضل من حمار أهلهِ !
=======
هولوكوست العرب السنة..!
د.حمزة بن فايع الفتحي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أثبت التاريخ القديم والحديث، أنهم أصدق الناس حملا للإسلام، ودفاعا عنه، وذباً عن عقيدته، وحفاظا على هُويته،،،!
ولم تزل موازين القوى العالمية تحسب حسابهم، وتتيقن أنهم( الورقة الصعبة)، والعنصر الأخطر والأمنع، !! فإن غاب العِرق، لم يغب الفكر والمنهج، فصينت الامة، وحُفظت مقدراتها، حتى في أزمنة الضعف والهوان،،!
لكن ما يجري في العصر الحديث، وفي اللحظة التاريخية المعيشة، حالة من الوهن الشديد، أدت بالتالي الى (محرقة) للجسد السني العربي، ابتدأها الأمريكان من حصار العراق في أوائل التسعينيات،بعد غزو الكويت المدبر، ومهلك اكثر من مليون ونصف، طفل عراقي، ثم مرورا باحتلاله وتدميره، وتهجير أهله سنة 2003م،،، وهي اكبر عملية تهجير وقتل في العصر الحديث، فانتهاء بالعدوان النصيري في الشام، والقتل العشوائي الانتقامي المقزز،،،! وأنكى وأغلظ أدواته الترسانة الإيرانية التي يُراد جعلها شرطي الخليج، وراعيته و(مرشدته)،،،!
وربط كل تنظيمات التطرف بالعرب والمناطق السنية، حتى باتت الصورة الذهنية عنهم، أنهم قتلة سفاحون، لا وعي ولا حوار ولا رحمة ولا إنسانية كما يقولون،،،! وفي نفس الظرف يُتغاضى عن جرائم ايران والمالكي، ومجازر الإبادة المخفية ،،،!!
فليس سراً ان بشار النعجة، قد قضى نحبه، ونفق عسكريا ونفسيا من الأشهر الاولى للثورة السورية، ولكن وقفة المارد الصفوي، ودخولهم عسكريا وفي نطاق حرب مقدسة، يُحشر لها (الشباب الإيراني)، والدعم الروسي والصيني، ثبته الى اخر رمق، ولا يزال يترنح رغم الدمار والانفلات، وضياع الدولة،،،!!
يقابل ذلك (تقصير عربي) تجاه ما يحصل، وكأنه لا يعنينا،،!
رغم انه يعنينا إقليميا وعقديا وثقافيا وأمنيا ،،،!
فيا ليت قومي يعلمون، ويتفكرون،،! لأن من جرّهم لبيع العراق،،،،، ولم يتعظوا، استخدمهم مرةً اخرى (لبيع) سوريا،،،!
وها هم العرب، يصطلون بنيار حزب اللات في لبنان، وتدخله في سوريا، وتعاني المنطقة من (هلال شيعي) يكتمل بالحراك الحوثي في اليمن، وتُحاصر من كل جهة، عبر (مخطط صفوي) إيراني منظم،،،! يقابله تفكك سني بارز، وعدم المبالاة بما يحصل،،،،، مع حيف عالمي مقصود تجاههم، حيث انهم الجبهة الاسلامية الرافضة لهيمنة الغرب وابتزازاتهم،،،!
فمنطق العربي السني:
لأدفع عن مكارم صالحات// واحمي بعدُ عن عرض صحيحِ
فالأراضي السنية في خطر، وأهلها ما بين مشرد وهالك ومطارد، فهم يتعرضون لمحرقة تديرها ايران وأذنابها، مع الترحاب العالمي بذلك،،،!
واليوم (عرسال) السنية في لبنان تتعرض لهجمات حزب اللات والجيش اللبناني العنصري، وقبلها يتآمر العالم اجمع على غزة فلسطين وعزتها، ليسوغوا قتل وإبادة ما يقارب الألفين نفسا، أكثرهم أطفال ونساء،،،! لينزعوا سلاح المقاومة، ويجردوها من كل شرف وغيرة، ويشارك عرب في هذه الجريمة، حتى بتنا نسمع مصطلح (العرب المتصهينة)..!!!
فمتى يستيقظ أهل السنة ويخشون الخطر، الذي يدفعهم للعمل والتحرك بكل حزم وصرامة،،،!
وأن مشروع الوحدة الاسلامي خير من الإيغال في التفكك، قال تعالى: (( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا )) سورة الأنفال .
يحاصر الوعي العربي، وتطعن الوثبة، ويتقارب مع الأعادي، في حين تم عزل مصر واشغالها بانقلاب فاشل، يتألم من ملصقات دينية، والمغاربة أغراب، والأيدي التركية والباكستانية معطلة،،،،! رغم توجههم السني،،!
فمن للسنة الآن،،،؟!
ومن يلم شعثهم،،،؟!
ويبحث لهم عن محضن صادق،،،؟!
بعد أن غص بهم المنافقون، وعملوا على تفريقهم وتحزيبهم،،،؟!
والسؤال المطروح هنا:
ما السبب في استهداف القوى الغربية والمعادية للعرب السنة، في هذه الفترة من التاريخ؟!
هنا عدة أسباب :
1/ سلامة منهجهم وعقيدتهم، وتباعدهم عن البدع الشاغلة، والمخالفات المجانبة، لا سيما أرباب الاتجاه السلفي الصحيح، وليس التلفي المبدل، او السخيف المحرف، الذي يرحب بالبدعة والاستبداد، ويداهن المحتل،،،،!
ويحفل بهزيمة المسلمين، او يحرض عليهم الصهاينة، كما في انكشافات حرب غزة الاخيرة ،،،!!
ولذلك لا تتعجبوا من الحملات الممنهجة على التيارات السلفية العزيزة، لا سيما دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
2/ عدم مداهنتهم المحتل، واتكاؤهم على مشروع الدفع والارغام للغازي المستعمر، وانه لا مقام للحل السلمي مع الغزاة الكفرة، كما يقول السستاتي، ودعواه للمقاومة السلمية تجاه الأمريكان، بخلاف الطيف السني، قرر الجهاد وردع المحتل ، فكبده خسائر في معركة (الفلوجة) الاولى والثانية،،،! برغم ضعف الإمكانات، ولكنها هي عزة العرب ووفاؤهم لدينهم وامتهم،،!
لا نقول ذلك عصبية، ولكن هم أفضل الأجناس إجمالا، كما يقول ابن تيمية رحمه الله، وهم اولى الناس به غضباً وانتصارا ،،!
3/ تضجر الغرب منهم، واقصد شعوبهم، وتجرعهم المرار منهم في أفغانستان، ثم العراق وسوريا، وفلسطين قبل، وأماكن اخرى، فهم دائماً في حالة حضور وتيقظ، جراء ما يحصل في أمتهم، وان كان اختُرقوا بتنظيمات منحرفة، كداعش وغيرها، ،،!! لكنهم في النهاية مصدر ازعاج لطغاة الغرب، وصانعي قانون الغاب الدولي،،! وتلاين أنظمتهم لم يحل الاشكال، وتبقى المعادلة في غاية الصعوبة،،،!
4/ نهضوية العرب السنة، وسموهم الى عودة مجد الاسلام، فهم لا يريدون عز العرب، او الدفاع عن أنسابها واحسابها، كلا، بل المهم المؤكد في حسهم وحراكهم، هو استيقاظ همة الامة للدور التاريخي لها، وأن العالم قد خسر كثيراً بانحطاط المسلمين، وصيرورتهم اتباعا للغرب والصهاينة،،،!
لو لامست اذنَ الفاروق خيبتُهم// لكدر الصفوَ في جناته الكمدُ
او كان يدري صلاح الدين ما اقترفت تلك العلوج لضج الفاتح النجِدُ !!
فكان لزاما التحرك، واعتقادا المضاء، وأمانة النهوص، واباءً الغيرة،،، ! حتى لا يطول الرقاد، وتطغى الشهوات، ويهلك الانسان، ونتحمل نحن جريرة ضياع هؤلاء وانغماسهم في مستنقع الشهوة والتعاسة والمهانة ، ثم هو تحقيق لسنة التدافع والصراع، التي يتمخض من خلالها ظهور الحق وانتصار الاسلام، (( كتب الله لاغلبن انا ورسلي ان الله قوي عزيز )) سورة المجادلة.
واعتقد أنه لم يعد ثمة وقت للانتظار والتراخي وافتعال المشكلات، في ظل حرب دامية مستمرة، فالواجب التوحد والتناصر ونبذ الفرقة والنزاع، والاستعداد والتأهب (( يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم )) سورة النساء.
ومضة : (هولوكوست) مشتقة من كلمة يونانية، تعني الحرق الكامل للقرابين المقدمة للإله، ثم باتت مصطلحا لجرائم الإبادة الجماعية، وأول ما استعملت سنة 42 م لاعمال هتلر النازي تجاه اليهود، وانتشرت في العقد الأخير في ميادين السياسة والصحافة كوصف لكل عملية تدمير كلي،،!
============12=====
دور الغرب في القضاء على الخلافة الاسلامية وتقسيمها إلى دويلات
محمد سلامة الغنيمي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الاختلاف والتفرق حالة مرضية كانت في الامم السابقة، لاسيما اليهود والنصارى، الذين حذرت منهم نصوص التشريع الاسلامي، قرآناً وسنة، قال تعالي " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ "[i] .
بيد أن متأخروهم قد استفادوا من دروس سابقيهم، فعملوا علي الوحدة والاجتماع رغم شدة ما بينهم من عداوة وبغضاء، لا لشيء إلا لقهر المسلمين واستدامة سيطرتهم علي مقدرات الامم والشعوب، حتي وصل الامر إلي أن يسعي بابا الفاتيكان إلي تبرأة اليهود من جريمتهم التاريخية في سفك دم المسيح ( علي حد زعمهم )، يبدوا أنهم يريدون أن يزيلوا كل ما من شأنه أن يكون عائقاً دون الاجتماع والتعاون، حتي لو كانت عقيدة دينية لدي الطرفين تطاولت عليها الفرق وآمنت بها الاجيال.
وبذلك تتحقق نبوءة النبي صلى الله علية وسلم في قوله:" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فَقَال قَائِل وَمَنّ قِلَّة نَحْن يَوْمئِذ قَال بَل أَنْتُم يَوْمئِذ كَثِير وَلَكِنَّكُم غُثَاء كَغُثَاء السَّيْل ولينزعن اللَّه مَن صُدُور عَدُوَّكُم الْمَهَابَة مِنْكُم وليقذفن اللَّه فِي قُلُوبَكُم الْوَهْن فَقَال قَائِل يَا رَسُول اللَّه وما الْوَهْن قَال حُبّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَة الْمَوْت "[ii] فَهُم قَد يَخْتَلِفُون فِي كَلّ شَيْء لَكِنَّهُم يَجْتَمِعُون عَلَيّ قَمْع النَّهْضَة الاسلامية وَتَمْزِيق الامة الاسلامية وواد أَي يَقَظَة قَد تَقُوم ، لِتَدُوم لَهُم السَّيْطَرَة عَلَيّ الْعَالِم أَطْوَل فَتْرَة مُمْكِنَة ، فَعَقَدُوا المؤتمرات وشكلوا الْهَيْئَات وَكُونُوا المنظمات الَّتِي تَعْمَل عَلَيّ ذَلِك الْغَرَض الْمُوَحِّد .
فانتهجوا فِي سَبِيل تَحْقِيق ذَلِك سِيَاسَة فَرَّق تَسُدّ وَأَن الشَّجَرَة إِنَّمَا يَقْطَعُهَا أَحَد أَغْصَانِهَا ، فَيَكُون الْمُسْلِمِين كَاَلَّذِين يُخْرِبُون بُيُوتِهِم بِأَيْدِيهِم ، وينوبون عَن أَعْدَائِهِم فِي مهمتهم، وَبُعْد مَا فَشُلَّت كَلّ محاولاتهم الْقَدِيمَة فِي السَّيْطَرَة عَلَيّ بِلَاد الاسلام بِقُوَّة السِّلَاح فَأَيْقَنُوا أن الْمُسْلِمِين لا يَهْزِمُون أبداً فِي مَعَارِك السِّلَاح ، فاستفادوا مَن وَصِيَّة لويس التَّاسِع وَمَنّ أَفْكَار المنصرين والمستشرقين.
وَقَد اقبسوا هَذِه السِّيَاسَة الْمَعْنِيَّة بِتَفْرِيق الشُّعُوب الاسلامية مَن تعاليم دِينِهِم المحرفة، فَالرَّبّ عَلَيّ حَدّ زَعْمِهِم لا يَسْتَطِيع أن يَنْتَظِر حتي يَبْنُوا مَدِينَتِهِم وينافسوه فِي مَلَكُوتِه .... وَكَأَنَّمَا هُو مستعمر أوروبي يَسِير وَفْق سِيَاسَة فَرَّق تَسُدّ ، فَفَرَّق الْبَشَر ، حَتَّى يَحْكُم قَبَضْته عَلَيْهِم .
جَاء فِي سَفَر التَّكْوِين أن الرَّبّ الاله خَشِي عَلَيّ مَمْلَكَتِه مَن الزَّوَال وَحُكْمَه مَن الِانْهِيَار ، عِنْدَمَا رَأَى الْبَشَر مُتَّحِدَيْن ومتحابين، يَبْنُون مَدِينَة كَبِيرَة وبرجها فِي السَّمَاء ، فَدَعَا مَلَائِكَتَه وَنَزَّل وَحَطْم مَدِينَتِهِم ، وَبُلْبُل أَلْسِنَتِهِم وَفَرَّقَهُم فِي الارض ، حتي لا ينافسوه فِي مِلْكِه وَمَلَكُوتِه ، تَعَالِي اللَّه عَن ذَلِك علواً كبيراً[iii] .
وَمَنّ هُنَا بدأوا فِي إضْعَاف الْخِلَافَة الاسلامية أولاً، بِالْحُرُوب الداخلية، وَنَزْع رُوح الاسلام وَرَوَابِطِه مَن نُفُوس الْمُسْلِمِين ، وَبَثّ النزاعات الْعِرْقِيَّة ، وَمَنّ ثُمّ هَدَم الْخِلَافَة الاسلامية تماماً، الْيَهُود بِأَمْوَالِهِم والنصارى بسلطانهم، رَغِم مَا بَيْنَهُم مَن عَدَاوَة وبغضاء.
شجعوا حُكَّام الاقاليم التَّابِعَة لدولة الْخِلَافَة عَلَيّ الْعِصْيَان وَالِانْقِلَاب عَلَيّ دُولَة الْخِلَافَة وَكَسَر عَصًا الطَّاعَة ، مِثْلَمَا فَعَلُوا مَع مُحَمَّد عَلَيّ ، فَقَد عَمِلُوا عَلَيّ تَقْوِيَة شَوْكَتُه ، وَبَسْط سُلْطَانِه عَلَيّ مِصْر وما حَوْلَهَا ، وساندوه فِي حُرُوبِه ضِدّ جَيْش الْخِلَافَة الْعُثْمَانِيَّة ، وَلَمًّا كَاد مُحَمَّد عَلَيّ أن يَقْضِي عَلَيّ الْخِلَافَة ، سَارِعُوا بصده وَإِيقَاف تَوَغُّلِه ، خوفاً مَن الْقَضَاء عَلَيّ الْخِلَافَة الْعُثْمَانِيَّة وَإِنْشَاء خِلَافَة بديلة عَنْهَا ، فَهُم دَائِمًا يَعْمَلُون عَلَيّ توازان دَوَائِر الصِّرَاع ، لِاسْتِنْفَاذ الْقُوَى .
وَمَنّ أَجَل تَنْفِيذ هَذَا الْفِكْر الْخَبِيث تَمّ انْعِقَاد مُؤْتَمِر كامبل، الَّذِي دَعَا إلَيْه حِزْب الْمُحَافِظِين البريطاني، وَاسْتَمِرّ جِلْسَات هَذَا الْمُؤْتَمَر مَن 1905 إلَيّ 1907 فِي لندن، بِدَعْوَة سَرِيَّة مَن حِزْب الْمُحَافِظِين البريطاني بِهَدَف إيجَاد آلِيَّة تُحَافِظ عَلَيّ تَفُوق ومكاسب الدُّوَل الاستعمارية، وانعقد الْمُؤْتَمَر بِحُضُور كلاً مَن فرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا، وَقَد حَضَر الِاجْتِمَاعَات كِبَار عُلَمَاء التَّارِيخ وَالِاجْتِمَاع وَالِاقْتِصَاد وَالزِّرَاعَة والجغرافيا والبترول.
ولقد تَوَصَّل الْمُجْتَمِعُون إلَيّ نَتِيجَة مُفَادُهَا :" إن الْبَحْر الْمُتَوَسِّط هُو الشِّرْيَان الْحَيْوِيّ للاستعمار، لأَنَّه الْجِسْر الَّذِي يَصِل الشَّرْق بِالْغَرْب وَالْمَمَرّ الطَّبِيعِيّ إِلَى القارتين الاسيوية والافريقية وَمُلْتَقَى طَرَق الْعَالِم ، وأيضاً هُو مَهَّد الاديان والحضارات، والاشكالية فِي هَذَا الشِّرْيَان أَنَّه يَعِيش عَلَيّ شواطئه الجنوبية وَالشَّرْقِيَّة بِوَجْه خَاصّ شُعَب وَاحِد مُتَوَفِّر لَه وَحِدَّة التَّارِيخ وَالدِّين وَاللِّسَان .
وَأَبْرَز مَا جَاء فِي توصيات هَذَا الْمُؤْتَمَر :
* الابقاء عَلَيّ شَعُوب هَذِه الْمِنْطَقَة مُفَكَّكَة جَاهِلَة مُتَأَخِّرَة :
وَعَلِيّ هَذَا الاساس قاموا يَتَقَسَّم الْعَالِم بِالنِّسْبَة إلَيْهِم إلَيّ ثَلَاث فِئَات
* الْفِئَة الاولي:
دُوَل الْحَضَارَة الْغَرْبِيَّة المسيحية ( دُوَل أوروبا وأمريكا الشَّمَالِيَّة وأستراليا ) وَالْوَاجِب تُجَاه هَذِه الدُّوَل هُو دَعِّم هَذِه الدُّوَل مادياً وتقنيا لِتَصِل إلَيّ أَعَلَيّ مُسْتَوِي مَن التَّقَدُّم والازدهار.
* الْفِئَة الثَّانِيَة :
دُوَل لا تَقَع ضَمِن الْحَضَارَة الْغَرْبِيَّة المسيحية وَلَكِن لا يُوجَد تَصَادُم حضاري مَعَهَا ولا تُشْكِل تهديداً عَلَيْهَا ( كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وَغَيْرهَا ) وَالْوَاجِب تُجَاه هَذِه الدُّوَل هُو احْتِوَائِهَا وإمكانية دعمها بِالْقَدْر الذى لا يُشْكِل تهديداً عَلَيْهَا وَعَلِيّ تَفَوُّقِهَا .
* الْفِئَة الثَّالِثَة :
دُوَل تَقَع ضَمِن الْحَضَارَة الْغَرْبِيَّة المسيحية وَيُوجَد تَصَادُم حضاري مَعَهَا وَتُشْكِل تهديداً لتفوقها ( وَهَى الدُّوَل الاسلامية بِشَكْل عَامّ ، وَالْعَرَبِيَّة بِشَكْل خَاصّ ) وَالْوَاجِب تُجَاه هَذِه الدُّوَل هُو حِرْمَانِهَا مَن الدعم وَاكْتِسَاب الْعُلُوم وَالْمَعَارِف التَّثْنِيَة وَعُدِم دعمها فِي هَذَا الْمَجَال وَمُحَارَبَة أَي اتِّجَاه مَن هَذِه الدُّوَل لامتلاك الْعُلُوم التقنية.
* مُحَارَبَة أَي تَوَجَّه وصولي فِيهَا :
وَلِتَحْقِيق ذَلِك دَعَا المؤتمرون إلَيّ إقَامَة دُولَة فِي فِلَسْطِين تَكُون بِمَثَابَة حَاجِز بُشْرَى قُوَى وَغَرِيب ومعادى، يَفْصِل الْجُزْء الْأَفْرِيقِيّ مَن هَذِه الْمِنْطَقَة عَن الْقِسْم الأسيوي، وَاَلَّذِي يَحُول دُوْن تَحْقِيق وَحِدَّة هَذِه الشُّعُوب ، وَتَكُون لِهَذَا الْجِسْم أَدْوَار ثَلاَثَة :
1- يَفْصِل الْمَشْرِق الْعَرَبِيّ عَن الْمَغْرِب الْعَرَبِيّ .
2- ولاءة لِلْغَرْب .
3- يُعَطِّل نَهْضَة هَذِه الْمِنْطَقَة .
فَتَوَجَّه الْيَهُود بقيادة حاييم وايزمان- أَشْهُر شَخْصِيَّة صهيونية بَعْد تيودور هيرتزل – إِلَى تِلْك الدُّوَل يَعْرِضُون أَنْفُسِهِم ، أن يَكُونُوا هُم هَذَا الْجِسْم الْغَرِيب ، وَبِالْفِعْل اسْتَطَاع حاييم وايزمان أن يَحْصُل عَلَيّ وَعَدّ بلفور، وكان لَه الدُّور الاساسي فِي ذَلِك .
وَعَلِيّ ذَلِك فَقَد شَكْل هَذَا الْمُؤْتَمَر النَّوَاة الاساسية الَّتِي انْبَثَق عَنْهَا كَلّ المخططات والمؤامرات الهادفة إلَيّ تَقْسِيم دُوَل الْخِلَافَة الاسلامية، وَتَقْسِيمُهَا إلَيّ دويلات ذَات حُدُود حُرَّة حيادية لِتَكُون بِمَثَابَة بُؤْرَة لِلْخِلَاف وسبباً لِلنِّزَاع .
وَقَد ارتكزوا فِي مُهِمَّة إسْقَاط دُولَة الْخِلَافَة إلَيّ عِدَّة اتجاهات، تَكْمُل بَعْضُهَا بعضاً لِتَحْقِيق الْغَرَض الْمَعْنِيّ .
* خَلَق طَبَقَة مَن أَبْنَاء الْمُسْلِمِين تتبني مَذَاهِب وَأَفْكَار هدامة، تنخر فِي عِظَام الدّيْن الاسلامي، وَتَعْمَل عَلَيّ زَلْزَلَة عَقِيدَة الْمُجْتَمَعَات الاسلامية، فيتفرغون لِلْجَدَل وينشغلون بالنزاعات الْفِكْرِيَّة والطائفية.
* تَشْوِيه صُورَة الْخِلَافَة الْعُثْمَانِيَّة ، خَاصَّة السُّلْطَان عَبْد الْحَمِيد ، وَتَشْبِيهِهَا بالاستعمار والاحتلال، وُفِّي الْمُقَابِل تلميع بَعْض الرُّمُوز العميلة لَهُم .
* إحْيَاء النعرات القومية كالطورانية فِي تُرْكِيًّا والفرعونية فِي مِصْر والبابلية فِي الْعِرَاق والاشورية والفينيقية فِي الشَّام ، والبربرية فِي شِمَال أفريقيا.
وَقَد عززوا مَن شَأْن القومية الْعَرَبِيَّة لِتَكُون فِي مُقَابِل النَّزَعَة الطورانية التُّرْكِيَّة ، لِيُحْدِث بِذَلِك انشقاقا كبيراً غَيّ دُولَة الْخِلَافَة ، فتنشغل الامة بِتَمْجِيد تِلْك النزاعات وَالِافْتِخَار بِهَا ، مَع تَجْهِيل الْمُسْلِمِين بِتَارِيخِهِم الاسلامي الْمَجِيد .
* لتَّنْصِير والاستشراق وَسِيلَتَان تكيدان لِلْإِسْلَام تَحْت سِتَار خَفِي مُقْنِع .... الاصلاح وَالتَّعْلِيم وَالطِّبّ وَالْمَعُونَات ......
* الاحزاب العلمانية والماسونية، مِثْل الِاتِّحَاد وَالتَّرَقِّي أَوَّل حِزْب سِيَاسِيّ جَلّ أَعْضَائِه مَن الماسون، وَزَرَعُوا فِي مُعْظَم الاقطار والاقاليم الاسلامية مِثْل هَذَا الْحِزْب .
عَمِلْت كَلّ هَذِه الْوَسَائِل وَغَيْرهَا عَلَيّ إضْعَاف الدَّوْلَة الاسلامية وَبَثّ سَمُوم الْخِلَاف وَالنِّزَاع بَيْن أَرْكَانِهَا وَعَلِيّ تَهْوِين الْعَقِيدَة الاسلامية فِي قُلُوب الشُّعُوب الاسلامية، فهيئت الدَّوْلَة الاسلامية لِلزَّوَال وَتَحْوِيلَهَا إلَيّ أَقَالِيم مُتَفَرِّقَة .
وَمَع ذَلِك كَان لابد مَن اتِّخَاذ خُطُوَات عَمَلِيَّة تَقْضِي عَلَيّ مَا تُبْقِي مَن قُوَّة لَدَيّ الْخِلَافَة ، وَمَحْو الِاسْم مَن الْوَاقِع ، فَدَفَعُوا الْخِلَافَة الْعُثْمَانِيَّة لِلدُّخُول فِي الْحَرْب الْعَالَمِيَّة الاولي، فَدَمَّرَت عَلَيّ أَثَرُهَا الْقُوَّة الْعَسْكَرِيَّة الْعُثْمَانِيَّة تماماً.
وَقَد أَخَذُوا فِي تلميع مصطفي كَامِل شَدِيد الْعَدَاوَة لِلْإِسْلَام (ماسوني) لِيَحِلّ مَحَلّ الْخَلِيفَة ، وُفِّي نَفْس التَّوْقِيت عَمِلُوا عَلَيّ تلميع شَخْصِيَّة عَرَبِيَّة ، تعشق الزَّعَامَة وَتَقْدِيس السُّلْطَة فَكَان الشَّرِيف حُسَيْن وَالِي مَكَّة ، فَأَغْرَاه الْغَرْب عَن طَرِيق لورانس الْعَرَب ضَابِط المخابرات الإنجليزي، وكان هُو الْوَسِيط بَيْن الشَّرِيف حُسَيْن ومكماهون عَلَيّ أن يَقُوم الشَّرِيف سِين بِضَرْب الدَّوْلَة الْعُثْمَانِيَّة مَن الْخَلَف ويحتل مِينَاء الْعَقَبَة وَيَفْتَح الْمَجَال لِلْجَيْش الإنجليزي لِدُخُول فِلَسْطِين ، فِي مُقَابِل أن يُعْطِي الشَّرِيف حُسَيْن مَمْلَكَة الْعَرَب .
وُفِّي سِيَاق قُلِب الْحَقَائِق اطلقوا عَلَيّ هَذِه الْخِيَانَة الْكُبْرَى لَقَب الثورة الْعَرَبِيَّة الْكُبْرَى عَلَيّ الاحتلال التُّرْكِيّ .
وَنَجَحَت خُطَّة لورانس ومكماهون، حَيْث لَم يَكُن العثمانيون يَتَوَقَّعُون خِيَانَة الشَّرِيف حُسَيْن فَكَانُوا يَتَوَقَّعُون أن تَأْتِيهِم الضَّرْبَة مَن قُبُل الإنجليز فَقَط .
وُفِّي نَفْس التزامن الَّذِي حَرَّك فِيْه الْغَرْب الْقِيَادَة الْعَرَبِيَّة الْخَائِنَة لِلِانْقِلَاب عَلَيّ الْخِلَافَة الْعُثْمَانِيَّة ، بِوُعُود واتفاقات كَاذِبَة ظَهَرَت اتِّفَاقِيَّة سايكس بيكو 1916 وَالَّتِي انْعَقَدَت بَيْن بريطانيا وفرنسا بمصادقة روسيا عَلَيّ تَقْسِيم ممتلكات الدَّوْلَة الْعُثْمَانِيَّة .
بِمُوجِب هَذَا الِاتِّفَاق حَصَلَت فرنسا عَلَيّ سوريا وَلُبْنَان وَمِنْطَقَة الْمَوْصِل ، أَمَّا بريطانيا فَامْتَدَّت مَنَاطِق سيطرتها مَن طَرْف بِلَاد الشَّام الْجَنُوبِيّ متوسعاً بِالِاتِّجَاه شرقاً لتضم الْعِرَاق والاردن، كَمَا تَقَرَّر وَضَع فِلَسْطِين تَحْت إدَارَة دولية يَتِمّ الِاتِّفَاق عَلَيْهَا بالتشاور بَيْن بريطانيا وفرنسا وروسيا.
وَانْعَقَدَت عِدَّة مؤتمرات واتفاقيات أَخِّرِي تَمّ بِمُوجِبِهَا الْقَضَاء التَّامّ عَلَيّ الْخِلَافَة الْعُثْمَانِيَّة وَتَقْسِيم الدَّوْلَة إلَيّ دويلات بِالشَّكْل الْحَدِيث مِثْل مُؤْتَمِر وَمُعَاهَدَة فرساي الَّتِي خَسِرْت الدَّوْلَة الْعُثْمَانِيَّة خِلَالِهَا أَرَاضِي وَاسِعَة فِي أوروبا وأسيا وَانْتَهَت كإمبراطورية، ومؤتمر سَان ريموا الَّذِي قَسَمْت فِيْه الشَّام الْوَاحِدَة إلَيّ أَرْبَعَة دُوَل ( سوريا وَلُبْنَان والاردن وَفِلَسْطِين ).
وَمُعَاهَدَة لوزان الَّتِي اُشْتُرِطَت فِيهَا انجلترا عَلَيّ تُرْكِيًّا عَدَم انْسِحَابِهَا مَن اراضيها الا بَعْد تَنْفِيذ الشُّرُوط الاتية:
1- إلْغَاء الْخِلَافَة الاسلامية، وَطَرَد الْخَلِيفَة مَن تُرْكِيًّا وَمُصَادَرَة أَمْوَالِه .
2- أن تتعهد تُرْكِيًّا بإخماد كَلّ حَرَكَة يَقُوم بِهَا أَنْصَار الْخِلَافَة .
3- ان تُقْطَع تُرْكِيًّا صِلَتُهَا بِالْإِسْلَام .
4- ان تَخْتَار لَهَا دستوراً مدنياً بدلاً مَن دستورها الْمُسْتَمَدّ مَن أَحْكَام الاسلام.
------------------------------------
[i] [ سورة آل عمران: 105 ]
[ii] [أبو داود في السنن 4/111 ]
[iii] [ سفر التكوين الاصحاح 11 ، 1 إلي 9 ]
================

القرآن الكريم : {المصحف كله وورد}

الرابط https://archive.org/download/sunnahandhadith/UthmanicHafs1-Ex1-Ver12-browser.zip  سورة الفاتحة     القرآن الكريم : بِسْمِ اللَ...