Translate

الجمعة، 11 مارس 2022

ج23.كتاب الإجارات المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي(الجزء الواحد والعشرون – كتاب الإجارات)

كتاب الإجارات المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي (الجزء الواحد والعشرون – كتاب الإجارات) 

 
 • كتاب الإجارات: o فصل: معنى الإجارة o فصل: الإجارة نوع من البيع o فصل: لا تصح الإجارة إلا من جائز التصرف o مسألة: أحكام الإجارة فصل: لا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد فصل: لا تتقدر أكثر مدة الإجارة فصل: أنواع الإجارة فصل: من اكترى دابة إلى العشاء فصل: إن اكترى فسطاطا إلى مكة فصل: يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما فصل: كل ما جاز ثمنا في البيع جاز عوضا في الإجارة فصل: لو استأجر رجلا ليسلخ له بهيمة بجلدها لم يجز فصل: لو استأجر راعيا لغنم ببعض درها ونسلها وصوفها وشعرها أو جميعه لم يجز فصل: امتلاك المستأجر المنافع المقود عليها مدة الإجارة فصل: المؤجر يملك الأجرة بمجرد العقد فصل: إذا شرط تأجيل الأجر فصل: إذا استوفى المستأجر المنافع استقر الأجر o مسألة: الإجارة على كل شهر فصل: الإجارة لأشهر محددة o مسألة: الإجارة عقد لازم يقتضي تمليك المؤجر الأجر فصل: إباحة إجارة العقار فصل: كراهة كراء الحمام o مسألة: المستأجر يملك المنافع بالعقد كما يملك المشتري المبيع بالبيع o مسألة: إذا حوله المالك قبل تقضِّي المدة فصل: فسخ الإجارة o مسألة: تعذر استيفاء المنفعة من العين المستأجرة فصل: إذا حدث للعين ما يمنع نفعها فصل: غصب العين المستأجرة فصل: تعذر استيفاء المنفعة من العين بفعل صدر منها فصل: إذا حدث خوف عام يمنع من الانتفاع بالعين المستأجرة فصل: إذا اكترى عينا فوجد بها عيبا فصل: يلزم المكري تمكين المكتري من الانتفاع فصل: لا يجوز أن يؤجر مدة لا يمكن الانتفاع في بعضها فصل: إذا شرط الإنفاق على العين النفقة الواجبة على المكري o مسألة: من استؤجر لعمل شيء بعينه فمرض فصل: جواز الاستئجار لحفر الآبار والأنهار والقني فصل: جواز الاستئجار لضرب اللبن فصل: جواز الاستئجار للبناء فصل: جواز الاستئجار لتطيين السطوح والحيطان وتجصيصها فصل: جواز استئجار ناسخ لينسخ له الكتب فصل: جواز الاستئجار لحصاد الزرع فصل: جواز الاستئجار لاستيفاء القصاص فصل: جواز استئجار رجل ليدله على الطريق فصل: جواز استئجار سمسار يشتري له ثيابا فصل: جواز استئجار سمسار ليبيع له ثيابا فصل: جواز الاستئجار للخدمة o مسألة: إذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها فصل: إذا مات المكتري ولم يكن له وارث فصل: إذا أجر الموقوف عليه الوقف مدة فمات في أثنائها فصل: إذا أجر الولي الصبي أو ماله مدة فبلغ في أثنائها فصل: إذا أجر عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها فصل: إذا أجر عينا ثم باعها فصل: إن اشترى المستأجر العين المؤجرة صح البيع فصل: إذا ورث المستأجر العين المستأجرة فصل: إذا اشترى المستأجر العين ثم وجدها معيبة فصل: إذا وقعت الإجارة على عين فتلفت o مسألة: من استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره إذا كان يقوم مقامه فصل: إذا اكترى دارا جاز إطلاق العقد فصل: إذا اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه فصل: إذا شرط أن لا يستوفى في المنفعة بمثله ولا بمن هو دونه فصل: يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها فصل: يجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجر وزيادة فصل: الرجل يتقبل العمل من الأعمال بأقل من أجره فصل: جواز استيفاء مثل المنفعة وما دونها فصل: إن اكترى دابة ليركبها في مسافة معلومة فأراد العدول بها إلى ناحية أخرى فصل: يجوز أن يكتري قميصا ليلبسه فصل: جواز استئجار الأرض فصل: كراء الأرض للغراس فصل: أقسام الأرض المستأجرة فصل: إذا اكترى أرضا غارقة بالماء لا يمكن زرعها قبل انحساره عنها فصل: متى هلك الزرع أو هلك بحريق أو جراد أو غيره فلا ضمان على المؤجر فصل: إذا استأجر أرضا للزراعة مدة فانقضت وفيها زرع لم يبلغ حصاده فصل: إذا اكترى الأرض لزرع مدة لا يكمل فيها فصل: الإجارة للغراس لمدة سنة o مسألة: استئجار الأجير بطعامه وكسوته فصل: إن شرط الأجير كسوة ونفقة معلومة فصل: إن استغنى الأجير عن طعام المؤجر فصل: إذا دفع إليه طعامه فأحب الأجير أن يستفضل بعضه فصل: إذا قدم إليه طعاما فنهب أو تلف قبل أكله فصل: إذا دفع إلى رجل ثوبا وقال: بعه بكذا فما ازددت فهو لك فصل: حصاد الزرع بسدس ما يخرج منه o مسألة: استئجار الظئر فصل: شروط عقد الرضاع فصل: المعقود عليه في الرضاع فصل: ما يجب على المرضعة فصل: يجوز للرجل أن يؤجر أمته فصل: يجوز للرجل استئجار أمه وأخته وابنته لرضاع ولده فصل: انفساخ الإجارة بموت المرضعة o مسألة: يستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو أمة o مسألة: من اكترى دابة إلى موضع فجاوزه أحدهما: الأجر الواجب وهو المسمى الفصل الثاني: الضمان فصل: لا يسقط الضمان بردها إلى المسافة o مسألة: إن اكترى لحمولة شيء فزاد عليه فصل: إن اكترى دابة إلى مسافة فسلك أشق منها فصل: إذا أكراه لحمل قفيزين فحملهما فوجدهما ثلاثة o مسألة: لا يجوز أن يكتري مدة غزاته o مسألة: من اكترى فرسا مدة غزوه فصل: إذا استأجر دابة في عشرة أيام بعشرة دراهم فإن حبسها أكثر من ذلك فله بكل يوم درهم فصل: إن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فصل: إن قال: إن خطته روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فصل: من استأجر من حمال إلى مصر بأربعين دينارا فصل: مسائل الصبرة o مسألة: كراء الإبل إلى مكة وغيرها فصل: ذكر قدر السير فصل: إن اشترط حمل زاد مقدر فصل: إذا اكترى جملا ليحج عليه فصل: ما يلزم المكري والمكتري للركوب فصل: إذا كان الراكب ممن لا يقدر على الركوب فصل: إذا اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزول والمشي فصل: إن هرب الجمال في بعض الطريق أو قبل الدخول فيها فصل: كراء العقبة o مسألة: إن رأى الراكبين أو وصفا له وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز فصل: جواز اكتراء الإبل والدواب للحمولة فصل: جواز كراء الدابة للعمل فصل: جواز استئجار بهيمة لإدارة الرحى فصل: إذا اكترى حيوانا لعمل لم يخلق له o مسألة: ضمان الصانع ما يحدث في السلعة فصل: الأجير المشترك يضمن إذا كان يعمل في ملك نفسه فصل: إذا كان المستأجر على حمله عبيدا صغارا أو كبارا فلا ضمان على المكاري فيما تلف فصل: الأجير الخاص فصل: إذا استأجر الأجير المشترك أجيرا خاصا فصل: إذا أتلف الصانع الثوب بعد عمله فصل: لا أجر في الزيادة على ما اتفق عليه فصل: إذا دفع إلى خياط ثوبا ليقطع قميصا فقال: هو يقطع وقطعه فلم يكف فصل:إن أمره أن يقطع الثوب قميص رجل ، فقطعه قميص امرأة فصل:اختلاف الخياط مع صاحب الثوب فصل: من استؤجر على عمل في عين o مسألة: إن تلفت من حرز فلا ضمان عليه ولا أجر له فيما عمل فيها فصل: إذا حبس الصانع الثوب بعد عمله على استيفاء الأجر فتلف ضمنه فصل: إذا أخطأ القصار ، فدفع الثوب إلى غير مالكه فصل: العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر فصل: إذا شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فصل: إذا كانت الإجارة فاسدة لم يضمن العين فصل: ضرب الدابة المستأجرة o مسألة: سقوط الضمان عن الحجام والختان والطبيب فصل: إن ختن صبيا بغير إذن وليه أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه فصل: جواز الاستئجار على الختان والمداواة وقطع السلعة فصل: استئجار الحجام فصل: استئجار الحجام لغير الحجامة فصل: استئجار الكحال فصل: إذا استأجره مدة فكحله فيها فلم تبرأ عينه فصل: استئجار الطبيب فصل: استئجار من يقلع ضرسه فصل: إذا بذل الأجير نفسه للعمل فلم يمكنه المستأجر o مسألة: لا ضمان على الراعي إذا لم يتعد فصل: لا يصح العقد في الرعي إلا على مدة معلومة o فصل: ما تجوز إجارته فصل: جواز إجارة الدراهم والدنانير فصل: يجوز أن يستأجر شجرا ونخيلا فصل: يجوز استئجار غنم لتدرس له طينا أو زرعا فصل: يجوز استئجار ما يبقى من الطيب فصل: تجوز إجارة الحائط فصل: يجوز استئجار دار يتخذها مسجدا يصلي فيه فصل: يجوز استئجار البئر ليستقي منها أياما معلومة فصل: يجوز استئجار الفهد والبازي والصقر للصيد في مدة معلومة o فصل: ما لا تجوز إجارته فصل: لا تجوز إجارة الفحل للضراب فصل: استئجار ما منفعته محرمة فصل: يكره أن يؤجر الرجل نفسه لكسح الكنف فصل: لا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة أو يتخذها لبيع الخمر أو القمار فصل: استئجار ما يحرم بيعه فصل: إجارة المصحف فصل: لا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته فصل: الرجل يكتري الديك يوقظه لوقت الصلاة فصل: القرب التي يختص فاعلها بكونه من أهل القربة فصل: إذا أعطي المعلم شيئا من غير شرط فصل: ما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فصل: إذا اختلفا في قدر الأجر فصل: إذا اختلفا في المدة فصل: إذا اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فصل: إذا دفع ثوبه إلى خياط من غير عقد ولا شرط ولا تعويض بأجر فصل: إذا استأجر رجلا ليحمل له كتابا

كتاب الإجارات: الأصل في جواز الإجارة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} وقال تعالى: {قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك} وروى ابن ماجه في " سننه " عن عتبة بن الندر, قال: (كنا عند رسول الله -ﷺ- فقرأ: طس حتى إذا بلغ قصة موسى قال: إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني حجج أو عشرا, على عفة فرجه وطعام بطنه) وقال الله تعالى: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا} وهذا يدل على جواز أخذ الأجر على إقامته وأما السنة فثبت (أن رسول الله -ﷺ- وأبا بكر, استأجرا رجلا من بني الديل هاديا خريتا) وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله -ﷺ- قال: قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه, ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره) والأخبار في هذا كثيرة وأجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة إلا ما يحكى عن عبد الرحمن بن الأصم أنه قال: لا يجوز ذلك لأنه غرر يعني أنه يعقد على منافع لم تخلق وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار وسار في الأمصار, والعبرة أيضا دالة عليها فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع, ولا يخفى ما بالناس من الحاجة إلى ذلك فإنه ليس لكل أحد دار يملكها ولا يقدر كل مسافر على بعير أو دابة يملكها, ولا يلزم أصحاب الأملاك إسكانهم وحملهم تطوعا وكذلك أصحاب الصنائع يعملون بأجر ولا يمكن كل أحد عمل ذلك, ولا يجد متطوعا به فلا بد من الإجارة لذلك بل ذلك مما جعله الله تعالى طريقا للرزق, حتى إن أكثر المكاسب بالصنائع وما ذكره من الغرر لا يلتفت إليه مع ما ذكرنا من الحاجة, فإن العقد على المنافع لا يمكن بعد وجودها لأنها تتلف بمضي الساعات فلا بد من العقد عليها قبل وجودها, كالسلم في الأعيان. فصل:


واشتقاق الإجارة من الأجر وهو العوض قال الله تعالى: {لو شئت لاتخذت عليه أجرا} ومنه سمي الثواب أجرا لأن الله تعالى يعوض العبد به على طاعته, أو صبره على مصيبته. فصل:


وهي نوع من البيع لأنها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه فهي بيع المنافع والمنافع بمنزلة الأعيان, لأنه يصح تمليكها في حال الحياة وبعد الموت وتضمن باليد والإتلاف, ويكون عوضها عينا ودينا وإنما اختصت باسم كما اختص بعض البيوع باسم كالصرف والسلم إذا ثبت هذا فإنها تنعقد بلفظ الإجارة والكراء لأنهما موضوعان لها وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان أحدهما, تنعقد به لأنها بيع فانعقدت بلفظه كالصرف والثاني لا تنعقد به لأن فيها معنى خاصا فافتقرت إلى لفظ يدل على ذلك المعنى, ولأن الإجارة تضاف إلى العين التي يضاف إليها البيع إضافة واحدة فاحتيج إلى لفظ يعرف ويفرق بينهما كالعقود المتباينة, ولأنه عقد يخالف البيع في الحكم والاسم فأشبه النكاح. فصل:


ولا تصح إلا من جائز التصرف لأنه عقد تمليك في الحياة فأشبه البيع. مسألة:


قال: [ وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة, بأجرة معلومة فقد ملك المستأجر المنافع وملكت عليه الأجرة كاملة, في وقت العقد إلا أن يشترطا أجلا ] هذه المسألة تدل على أحكام ستة أحدها أن المعقود عليه المنافع وهذا قول أكثر أهل العلم منهم: مالك وأبو حنيفة, وأكثر أصحاب الشافعي وذكر بعضهم أن المعقود عليه العين لأنها الموجودة والعقد يضاف إليها فيقول: أجرتك داري كما يقول: بعتكها ولنا أن المعقود عليه هو المستوفى بالعقد, وذلك هو المنافع دون الأعيان ولأن الأجر في مقابلة المنفعة ولهذا تضمن دون العين, وما كان العوض في مقابلته فهو المعقود عليه وإنما أضيف العقد إلى العين لأنها محل المنفعة ومنشؤها, كما يضاف عقد المساقاة إلى البستان والمعقود عليه الثمرة ولو قال: أجرتك منفعة داري جاز. الثاني أن الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومة كشهر وسنة ولا خلاف في هذا نعلمه لأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه المعرفة له, فوجب أن تكون معلومة كعدد المكيلات فيما بيع بالكيل فإن قدر المدة بسنة مطلقة حمل على سنة الأهلة لأنها المعهودة في الشرع, قال الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} فوجب أن يحمل العقد عليه فإن شرط هلالية كان تأكيدا وإن قال: عددية أو سنة بالأيام كان له ثلاثمائة وستون يوما لأن الشهر العددي يكون ثلاثين يوما وإن استأجر سنة هلالية أول الهلال, عد اثني عشر شهرا بالأهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصا لأن الشهر الهلالي ما بين الهلالين ينقص مرة ويزيد أخرى وإن كان العقد في أثناء شهر, عد ما بقي من الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوما لأنه تعذر إتمامه بالهلال, فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لأنه الأصل وحكي عن أحمد رواية أخرى, أنه يستوفي الجميع بالعدد لأنها مدة يستوفى بعضها بالعدد فوجب استيفاء جميعها به كما لو كانت المدة شهرا واحدا, ولأن الشهر الأول ينبغي أن يكمل من الشهر الذي يليه فيحصل ابتداء الشهر الثاني في أثنائه فكذلك كل شهر يأتي بعده ولأبي حنيفة والشافعي كالروايتين وهكذا إن كان العقد على أشهر دون السنة وإن جعلا المدة سنة رومية أو شمسية أو فارسية أو قبطية, وكانا يعلمان ذلك جاز وكان له ثلاثمائة وخمسة وستون يوما, فإن الشهور الرومية منها سبعة أحد وثلاثون يوما وأربعة ثلاثون يوما وشهر واحد ثمانية وعشرون يوما, وشهور القبط كلها ثلاثون ثلاثون وزادوها خمسة أيام لتساوي سنتهم السنة الرومية وإن كان أحدهما يجهل ذلك لم يصح لأن المدة مجهولة في حقه وإن أجره إلى العيد, انصرف إلى الذي يليه وتعلق بأول جزء منه لأنه جعله غاية فتنتهي مدة الإجارة بأوله وقال القاضي: لا بد من تعيين العيد فطرا أو أضحى, من هذه السنة أو سنة كذا وكذلك الحكم إن علقه بشهر يقع اسمه على شهرين كجمادى وربيع يجب على قوله أن يذكر الأول أو الثاني, من سنة كذا وإن علقه بشهر مفرد كرجب وشعبان فلا بد أن يبينه من أي سنة وإن علقه بيوم, فلا بد على قوله أن يبينه من أي أسبوع وإن علقه بعيد من أعياد الكفار صح إذا علماه وإلا لم يصح, وقد مضى نحو من هذا. فصل:


ولا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد بل لو أجره سنة خمس وهما في سنة ثلاث, أو شهر رجب في المحرم صح وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يصح إلا أن يستأجرها من هي في إجارته ففيه قولان لأنه عقد على ما لا يمكن تسليمه في الحال, فأشبه إجارة العين المغصوبة قال: ولا يجوز أن يكتري بعيرا بعينه إلا عند خروجه لذلك ولنا أن هذه مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز العقد عليها مفردة مع عموم الناس, كالتي تلي العقد وإنما تشترط القدرة على التسليم عند وجوب التسليم كالمسلم فيه ولا يشترط وجوده ولا القدرة عليه حال العقد, ولا فرق بين كونها مشغولة أو غير مشغولة لما ذكرناه وما ذكروه يبطل بما إذا أجرها من المكتري فإنه يصح مع ما ذكروه إذا ثبت هذا فإن الإجارة إن كانت على مدة تلي العقد, لم يحتج إلى ذكر ابتدائها من حين العقد وإن كانت لا تليه فلا بد من ذكر ابتدائها, لأنه أحد طرفي العقد فاحتيج إلى معرفته كالانتهاء وإن أطلق فقال: أجرتك سنة, أو شهرا صح وكان ابتداؤه من حين العقد وهذا قول مالك وأبي حنيفة وقال الشافعي وبعض أصحابنا: لا يصح حتى يسمي الشهر ويذكر أي سنة هي فإن أحمد قال في رواية إسماعيل بن سعيد: إذا استأجر أجيرا شهرا, فلا يجوز حتى يسمي الشهر ولنا قول الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام: {على أن تأجرني ثماني حجج} ولم يذكر ابتداءها ولأنه تقدير بمدة ليس فيها قربة فإذا أطلقها, وجب أن تلي السبب الموجب كمدة السلم والإيلاء وتفارق النذر فإنه قربة. فصل:


ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة, بل تجوز إجارة العين المدة التي تبقى فيها وإن كثرت وهذا قول كافة أهل العلم إلا أن أصحاب الشافعي اختلفوا في مذهبه فمنهم من قال: له قولان أحدهما كقول سائر أهل العلم وهو الصحيح الثاني لا يجوز أكثر من سنة لأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر منها ومنهم من قال: له قول ثالث, أنها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة لأن الغالب أن الأعيان لا تبقى أكثر منها وتتغير الأسعار والأجر ولنا قول الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام أنه قال: {على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك} وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل ولأن ما جاز العقد عليه سنة, جاز أكثر منها كالبيع والنكاح والمساقاة والتقدير بسنة وثلاثين, تحكم لا دليل عليه وليس ذلك أولى من التقدير بزيادة عليه أو نقصان منه وإذا استأجره سنين لم يحتج إلى تقسيط الأجر على كل سنة, في ظاهر كلام أحمد كما لو استأجر سنة لم يفتقر إلى تقسيط أجر كل شهر بالاتفاق ولو استأجر شهرا, لم يفتقر إلى تقسيط أجر كل يوم ولأن المنفعة كالأعيان في البيع ولو اشتملت الصفقة على أعيان لم يلزمه تقدير ثمن كل عين, كذلك ها هنا وقال الشافعي في أحد قوليه كقولنا وفي الآخر: يفتقر إلى تقسيط أجر كل سنة لأن المنافع تختلف باختلاف السنين, فلا يأمن أن ينفسخ العقد فلا يعلم بم يرجع وهذا يبطل بالشهور فإنه لا يفتقر إلى تقسيط الأجر عليها مع الاحتمال الذي ذكروه. فصل:


والإجارة على ضربين: أحدهما أن يعقدها على مدة والثاني أن يعقدها على عمل معلوم, كبناء حائط وخياطة قميص وحمل إلى موضع معين فإذا كان المستأجر مما له عمل كالحيوان, جاز فيه الوجهان لأن له عملا تتقدر منافعه به وإن لم يكن له عمل كالدار والأرض لم يجز إلا على مدة ومتى تقدرت المدة, لم يجز تقدير العمل وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأن الجمع بينهما يزيدها غررا لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة, فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما وقع عليه العقد وإن لم يعمل كان تاركا للعمل في بعض المدة وقد لا يفرغ من العمل في المدة, فإن أتمه عمل في غير المدة وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد وهذا غرر أمكن التحرز عنه, ولم يوجد مثله في محل الوفاق فلم يجز العقد معه وروي عن أحمد فيمن اكترى دابة إلى موضع, على أن يدخله في ثلاث فدخله في ست فقال: قد أضر به فقيل: يرجع عليه بالقيمة؟ قال: لا, يصالحه وهذا يدل على جواز تقديرهما جميعا وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن لأن الإجارة معقودة على العمل والمدة مذكورة للتعجيل فلا يمتنع ذلك فعلى هذا, إذا فرغ العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها لأنه وفي ما عليه قبل مدته فلم يلزمه شيء آخر, كما لو قضى الدين قبل أجله وإن مضت المدة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة لأن الأجير لم يف له بشرطه وإن رضي بالبقاء عليه, لم يملك الأجير الفسخ لأن الإخلال بالشرط منه فلا يكون ذلك وسيلة له إلى الفسخ, كما لو تعذر أداء المسلم فيه في وقته لم يملك المسلم إليه الفسخ ويملكه المسلم فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير, , كالمسلم إذا صبر عند تعذر المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه وإن فسخ العقد قبل عمل شيء من العمل سقط الأجر والعمل وإن كان بعد عمل شيء منه فله أجر مثله لأن العقد قد انفسخ, فسقط المسمى ورجع إلى أجر المثل. فصل:


ومن اكترى دابة إلى العشاء فآخر المدة إلى غروب الشمس وبهذا قال الشافعي, وقال أبو حنيفة وأبو ثور: آخرها زوال الشمس لأن العشاء آخر النهار وآخر النهار النصف الآخر من الزوال, ولذلك جاء في حديث ذي اليدين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى بنا النبي -ﷺ- إحدى صلاتي العشي يعني الظهر أو العصر) هكذا تفسيره ولنا قول الله تعالى: {من بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم} يعني العتمة وقال النبي -ﷺ-: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل) وإنما تعلق الحكم بغروب الشمس لأن هذه الصلاة تسمى العشاء الآخرة, فدل على أن الأولى المغرب وهو في العرف كذلك فوجب أن يتعلق الحكم به لأن المدة إذا جعلت إلى وقت تعلقت بأوله, كما لو جعلها إلى الليل وما ذكروه لا يصح لأن لفظ العشي غير لفظ العشاء فلا يجوز الاحتجاج بأحدهما على الآخر حتى يقوم دليل على أن معنى اللفظين واحد ثم لو ثبت أن معناهما واحد, غير أن أهل العرف لا يعرفونه فلا يتعلق به حكم وكذلك الحكم فيما إذا اكتراها إلى العشي لأن أهل العرف لا يعرفون غير ما ذكرناه وإن اكتراها إلى الليل فهو إلى أوله, وكذلك إن اكتراها إلى النهار فهو إلى أوله ويتخرج أن يدخل الليل في المدة الأولى والنهار في الثانية لما ذكرناه في مدة الخيار, والأول أصح وإن اكتراها نهارا فهو إلى غروب الشمس وإن اكتراها ليلة فهي إلى طلوع الفجر في قول الجميع لأن الله تعالى قال في ليلة القدر: {سلام هي حتى مطلع الفجر} وقال تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} ثم قال: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}. فصل:


وإن اكترى فسطاطا إلى مكة, ولم يقل متى أخرج فالكراء فاسد وبه قال أبو ثور وهو قياس قول الشافعي وقال أصحاب الرأي: يجوز استحسانا بخلاف القياس ولنا أنها مدة غير معلومة الابتداء, فلم يجز كما لو قال: أجرتك داري من حين يخرج الحاج إلى آخر السنة وقد اعترفوا بمخالفته للدليل وما ادعوه دليلا لا نسلم كونه دليلا. فصل:


الحكم الثالث أنه يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما لا نعلم في ذلك خلافا وذلك لأنه عوض في عقد معاوضة, فوجب أن يكون معلوما كالثمن في البيع وقد روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من استأجر أجيرا, فليعلمه أجره) ويعتبر العلم بالرؤية أو بالصفة كالبيع سواء فإن كان العوض معلوما بالمشاهدة دون القدر كالصبرة احتمل وجهين, أشبههما الجواز لأنه عوض معلوم يجوز به البيع فجازت به الإجارة كما لو علم قدره والثاني: لا يجوز لأنه قد ينفسخ العقد بعد تلف الصبرة, فلا يدري بكم يرجع فاشترط معرفة قدره كعوض المسلم فيه والأول أولى وظاهر كلام الخرقي أن العلم بالقدر في عوض السلم ليس بشرط ثم الفرق بينهما أن المنفعة ها هنا أجريت مجرى الأعيان لأنها متعلقة بعين حاضرة, والسلم يتعلق بمعدوم فافترقا وللشافعي نحو مما ذكرنا في هذا الفصل. فصل:


وكل ما جاز ثمنا في البيع, جاز عوضا في الإجارة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع فعلى هذا يجوز أن يكون العوض عينا ومنفعة أخرى سواء كان الجنس واحدا كمنفعة دار بمنفعة أخرى, أو مختلفا كمنفعة دار بمنفعة عبد قال أحمد: لا بأس أن يكتري بطعام موصوف معلوم وبهذا كله قال الشافعي, قال الله تعالى إخبارا عن شعيب أنه قال: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} فجعل النكاح عوض الإجارة وقال أبو حنيفة فيما حكي عنه: لا تجوز إجارة دار بسكنى أخرى ولا يجوز أن يختلف جنس المنفعة كسكنى دار بمنفعة بهيمة لأن الجنس الواحد عنده يحرم النساء وكره الثوري الإجارة بطعام موصوف والصحيح جوازه, وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي وقياس قول الشافعي لأنه عوض يجوز في البيع, فجاز في الإجارة كالذهب والفضة وما قاله أبو حنيفة لا يصح لأن المنافع في الإجارة ليست في تقدير النسيئة ولو كانت نسيئة ما جاز في جنسين لأنه يكون بيع دين بدين. فصل:


ولو استأجر رجلا ليسلخ له بهيمة بجلدها, لم يجز لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليما أو لا وهل هو ثخين أو رقيق ولأنه لا يجوز أن يكون ثمنا في البيع, فلا يجوز أن يكون عوضا في الإجارة كسائر المجهولات فإن سلخه بذلك فله أجر مثله وإن استأجره لطرح ميتة بجلدها, فهو أبلغ في الفساد لأن جلد الميتة نجس لا يجوز بيعه وقد خرج بموته عن كونه ملكا وإن فعل فله أجر مثله أيضا. فصل:


ولو استأجر راعيا لغنم بثلث درها ونسلها وصوفها وشعرها, أو نصفه أو جميعه لم يجز نص عليه أحمد, في رواية جعفر بن محمد النسائي لأن الأجر غير معلوم ولا يصلح عوضا في البيع وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى الرجل على أن يعلفها ويتحفظها, وما ولدت من ولد بينهما فقال: أكره ذلك وبه قال أبو أيوب وأبو خيثمة ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأن العوض مجهول معدوم ولا يدري أيوجد أم لا, والأصل عدمه ولا يصح أن يكون ثمنا فإن قيل: فقد جوزتم دفع الدابة إلى من يعمل عليها بنصف ربحها قلنا: إنما جاز ثم تشبيها بالمضاربة لأنها عين تنمى بالعمل فجاز اشتراط جزء من النماء, والمساقاة كالمضاربة وفي مسألتنا لا يمكن ذلك لأن النماء الحاصل في الغنم لا يقف حصوله على عمله فيها فلم يمكن إلحاقه بذلك وإن استأجره على رعايتها مدة معلومة, بنصفها أو جزء معلوم منها صح لأن العمل والأجر والمدة معلوم, فصح كما لو جعل الأجر دراهم ويكون النماء الحاصل بينهما بحكم الملك, لأنه ملك الجزء المجعول له منها في الحال فيكون له نماؤه كما لو اشتراه. فصل:


الحكم الرابع أن الإجارة إذا تمت, وكانت على مدة ملك المستأجر المنافع المعقود عليها إلى المدة ويكون حدوثها على ملكه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: تحدث على ملك المؤجر, ولا يملكها المستأجر بالعقد لأنها معدومة فلا تكون مملوكة كالثمرة والولد ولنا أن الملك عبارة عن حكم يحصل به تصرف مخصوص, وقد ثبت أن هذه المنفعة المستقبلة كان مالك العين يتصرف فيها كتصرفه في العين فلما أجرها صار المستأجر مالكا للتصرف فيها كما كان يملكه المؤجر, فثبت أنها كانت مملوكة لمالك العين ثم انتقلت إلى المستأجر بخلاف الولد والثمرة, فإن المستأجر لا يملك التصرف فيها وقولهم: إن المنافع معدومة قلنا: هي مقدرة الوجود لأنها جعلت موردا للعقد والعقد لا يرد إلا على موجود. فصل:


الحكم الخامس أن المؤجر يملك الأجرة بمجرد العقد, إذا أطلق ولم يشترط المستأجر أجلا كما يملك البائع الثمن بالبيع وبهذا قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة: لا يملكها بالعقد, فلا يستحق المطالبة بها إلا يوما بيوم إلا أن يشترط تعجيلها قال أبو حنيفة: إلا أن تكون معينة كالثوب والعبد والدار لأن الله تعالى قال: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} فأمر بإيتائهن بعد الإرضاع, وقال النبي -ﷺ-: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره) فتوعد على الامتناع من دفع الأجر بعد العمل فدل على أنها حالة الوجوب وروي عنه عليه السلام أنه قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجه ولأنه عوض لم يملك معوضه, فلم يجب تسليمه كالعوض في العقد الفاسد فإن المنافع معدومة لم تملك, ولو ملكت فلم يتسلمها لأنه يتسلمها شيئا فشيئا فلا يجب عليه العوض مع تعذر التسليم في العقد ولنا أنه عوض أطلق ذكره في عقد معاوضة فيستحق بمطلق العقد, كالثمن والصداق أو نقول عوض في عقد يتعجل بالشرط فوجب أن يتعجل بمطلق العقد كالذي ذكرنا فأما الآية فيحتمل أنه أراد الإيتاء عند الشروع في الإرضاع, أو تسليم نفسها كما قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} أي إذا أردت القراءة ولأن هذا تمسك بدليل الخطاب ولا يقولون به, وكذلك الحديث يحققه أن الأمر بالإيتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبله كقوله: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} والصداق يجب قبل الاستمتاع, وهذا هو الجواب عن الحديث ويدل عليه أنه إنما توعد على ترك الإيفاء بعد الفراغ من العمل وقد قلتم: تجب الأجرة شيئا فشيئا ويحتمل أنه توعده على ترك الإيفاء في الوقت الذي تتوجه المطالبة فيه عادة جواب آخر, أن الآية والأخبار إنما وردت في من استؤجر على عمل فأما ما وقعت الإجارة فيه على مدة فلا تعرض لها به, وأما إذا كانت الإجارة على عمل فإن الأجر يملك بالعقد أيضا لكن لا يستحق تسليمه إلا عند تسليم العمل قال ابن أبي موسى: من استؤجر لعمل معلوم, استحق الأجر عند إيفاء العمل وإن استؤجر في كل يوم بأجر معلوم فله أجر كل يوم عند تمامه وقال أبو الخطاب: الأجر يملك بالعقد, ويستحق بالتسليم ويستقر بمضي المدة وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل لأنه عوض, فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق والثمن في المبيع وفارق الإجارة على الأعيان لأن تسليمها جرى مجرى تسليم نفعها, ومتى كان على منفعة في الذمة لم يحصل تسليم المنفعة ولا ما يقوم مقامها, فتوقف استحقاق تسليم الأجر على تسليم العمل وقولهم: لم يملك المنافع قد سبق الجواب عنه فإن قيل: فإن المؤجر إذا قبض الأجر انتفع به كله بخلاف المستأجر, فإنه لا يحصل له استيفاء المنفعة كلها قلنا: لا يمتنع هذا كما لو شرطا التعجيل أو كان الثمن عينا. فصل:


الحكم السادس, أنه إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله وإن شرطه منجما يوما يوما, أو شهرا شهرا أو أقل من ذلك أو أكثر فهو على ما اتفقا عليه لأن إجارة العين كبيعها, وبيعها يصح بثمن حال أو مؤجل فكذلك إجارتها. فصل:


وإذا استوفى المستأجر المنافع استقر الأجر لأنه قبض المعقود عليه, فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع وإن سلمت إليه العين التي وقعت الإجارة عليها ومضت المدة, ولا حاجز له عن الانتفاع استقر الأجر وإن لم ينتفع لأن المعقود عليه تلف تحت يده وهي حقه, فاستقر عليه بدلها كثمن المبيع إذا تلف في يد المشتري وإن كانت الإجارة على عمل فتسلم المعقود عليه, ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها مثل أن يكتري دابة ليركبها إلى حمص فقبضها, ومضت مدة يمكن ركوبها فيها فقال أصحابنا: يستقر عليه الأجر وهو مذهب الشافعي لأن المنافع تلفت تحت يده باختياره فاستقر الضمان عليه, كما لو تلفت العين في يد المشتري وكما لو كانت الإجارة على مدة فمضت وقال أبو حنيفة: لا يستقر الأجر عليه حتى يستوفي المنفعة لأنه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر بدلها قبل استيفائها, كالأجر للأجير المشترك فإن بذل تسليم العين فلم يأخذها المستأجر حتى انقضت المدة استقر الأجر عليه لأن المنافع تلفت باختياره في مدة الإجارة فاستقر عليه الأجر, كما لو كانت في يده وإن بذل تسليم العين وكانت الإجارة على عمل فقال أصحابنا: إذا مضت مدة يمكن الاستيفاء فيها, استقر عليه الأجر وبهذا قال الشافعي لأن المنافع تلفت باختياره وقال أبو حنيفة: لا أجر عليه وهو أصح عندي لأنه عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه, ولأنه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر عوضها بالبذل كالصداق إذا بذلت تسليم نفسها وامتنع الزوج من أخذها وإن كان هذا في إجارة فاسدة, ففيما إذا عرضها على المستأجر فلم يأخذها لا أجر عليه لأنها لم تتلف تحت يده ولا في ملكه وإن قبضها ومضت المدة أو مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها أو لا يمكن, فعن أحمد روايتان إحداهما عليه أجر المثل لمدة بقائها في يده وهو قول الشافعي لأن المنافع تلفت تحت يده بعوض لم يسلم له فرجع إلى قيمتها, كما لو استوفاها والثانية لا شيء له وهو قول أبي حنيفة لأنه عقد فاسد على منافع لم يستوفها فلم يلزمه عوضها, كالنكاح الفاسد وإن استوفى المنفعة في العقد الفاسد فعليه أجر المثل وبه قال مالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: يجب أقل الأمرين من المسمى أو أجر المثل بناء منه على أن المنافع لا تضمن إلا بالعقد ولنا أن ما ضمن بالمسمى في العقد الصحيح وجب ضمانه بجميع القيمة في الفاسد, كالأعيان وما ذكره لا نسلمه والله أعلم. مسألة:


قال: [ وإذا وقعت الإجارة على كل شهر بشيء معلوم لم يكن لواحد منهما الفسخ إلا عند تقضِّي كل شهر ] وجملة ذلك أنه إذا قال: أجرتك هذا كل شهر بدرهم فاختلف أصحابنا, فذهب القاضي إلى أن الإجارة صحيحة وهو المنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور واختيار الخرقي, إلا أن الشهر الأول تلزم الإجارة فيه بإطلاق العقد لأنه معلوم يلي العقد وله أجر معلوم وما بعده من الشهور يلزم العقد فيه بالتلبس به, وهو السكنى في الدار إن كانت الإجارة على دار لأنه مجهول حال العقد فإذا تلبس به تعين بالدخول فيه فصح بالعقد الأول, وإن لم يتلبس به أو فسخ العقد عند انقضاء الأول انفسخ وكذلك حكم كل شهر يأتي وهذا مذهب أبي ثور وأصحاب الرأي وحكي عن مالك نحو هذا, إلا أن الإجارة لا تكون لازمة عنده لأن المنافع متقدرة بتقدير الأجر فلا يحتاج إلى ذكر المدة إلا في اللزوم واختار أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وأبو عبد الله بن حامد, أن العقد باطل وهو قول الثوري والصحيح من قولي الشافعي لأن كل اسم للعدد فإذا لم يقدره كان مبهما مجهولا, فيكون فاسدا كما لو قال: أجرتك مدة أو شهرا وحمل أبو بكر وابن حامد كلام أحمد في هذا على أن الإجارة وقعت على أشهر معينة ووجه الأول (أن عليا رضي الله عنه استقى لرجل من اليهود كل دلو بتمرة وجاء به إلى النبي -ﷺ- يأكل منه قال على: كنت أدلو الدلو بتمرة وأشترطها جلدة) وعن (رجل من الأنصار أنه قال ليهودي: أسقي نخلك؟ قال: نعم, كل دلو بتمرة واشترط الأنصاري أن لا يأخذها خدرة ولا تارزة ولا حشفة ولا يأخذ إلا جلدة فاستقى بنحو من صاعين فجاء به إلى النبي -ﷺ-) رواهما ابن ماجه في " سننه " وهو نظير مسألتنا ولأن شروعه في كل شهر مع ما تقدم في العقد من الاتفاق على تقدير أجره والرضى ببذله به جرى مجرى ابتداء العقد عليه, وصار كالبيع بالمعاطاة إذا جرى من المساومة ما دل على التراضي بها فعلى هذا متى ترك التلبس به في شهر, لم تثبت الإجارة فيه لعدم العقد وإن فسخ فكذلك وليس بفسخ في الحقيقة لأن العقد في الشهر الثاني ما ثبت فأما أبو حنيفة, فذهب إلى أنهما إذا تلبسا بالشهر الثاني فقد اتصل القبض بالعقد الفاسد وهو عذر غير صحيح لأن العقد الفاسد في الأعيان لا يلزم بالقبض ولا يضمن بالمسمى ثم لم يحصل القبض ها هنا إلا فيما استوفاه وقول مالك لا يصح لأن الإجارة من العقود اللازمة, فلا يجوز أن تكون جائزة. فصل:


إذا قال: أجرتك داري عشرين شهرا كل شهر بدرهم جاز بغير خلاف نعلمه لأن المدة معلومة, وأجرها معلوم وليس لواحد منهما فسخ بحال لأنها مدة واحدة فأشبه ما لو قال: آجرتك عشرين شهرا, بعشرين درهما وإن قال: أجرتكها شهرا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك صح في الشهر الأول لأنه أفرده بالعقد, وبطل في الزائد لأنه مجهول ويحتمل أن يصح في كل شهر تلبس به كما لو قال: أجرتكها كل شهر بدرهم لأن معناهما واحد ولو قال: أجرتكها هذا الشهر بدرهم وكل شهر بعد ذلك بدرهم أو قال: بدرهمين صح في الأول وفيما بعده وجهان. فصل: الإجارة عقد لازم من الطرفين والإجارة عقد لازم من الطرفين, ليس لواحد منهما فسخها وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنها عقد معاوضة, فكان لازما كالبيع ولأنها نوع من البيع, وإنما اختصت باسم كما اختص الصرف والسلم باسم وسواء كان له عذر أو لم يكن وبهذا قال مالك والشافعي, وأبو ثور وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز للمكتري فسخها لعذر في نفسه مثل أن يكتري جملا ليحج عليه, فيمرض فلا يتمكن من الخروج أو تضيع نفقته, أو يكتري دكانا للبز فيحترق متاعه وما أشبه هذا لأن العذر يتعذر معه استيفاء المنفعة المعقود عليها, فملك به الفسخ كما لو استأجر عبدا فأبق ولنا أنه عقد لا يجوز فسخه مع استيفاء المنفعة المعقود عليها لغير عذر فلم يجز لعذر في غير المعقود عليه كالبيع, ولأنه لو جاز فسخه لعذر المكتري لجاز لعذر المكري تسوية بين المتعاقدين ودفعا للضرر عن كل واحد من العاقدين, ولم يجز ثم فلا يجوز ها هنا ويفارق الإباق, فإنه عذر في المعقود عليه. مسألة:


قال: [ ومن استأجر عقارا مدة بعينها فبادله قبل تقضيها فقد لزمته الأجرة كاملة ] وجملته أن الإجارة عقد لازم يقتضي تمليك المؤجر الأجر, والمستأجر المنافع فإذا فسخ المستأجر الإجارة قبل انقضاء مدتها وترك الانتفاع اختيارا منه, لم تنفسخ الإجارة والأجر لازم له ولم يزل ملكه عن المنافع, كما لو اشترى شيئا وقبضه ثم تركه قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: رجل اكترى بعيرا فلما قدم المدينة قال له: فاسخني قال: ليس ذلك له, قد لزمه الكراء قلت: فإن مرض المستكري بالمدينة؟ فلم يجعل له فسخا وذلك لأنه عقد لازم بين الطرفين فلم يملك أحد المتعاقدين فسخه وإن فسخه لم يسقط العوض الواجب عليه, كالبيع. فصل:


ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة إجارة العقار قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استئجار المنازل والدواب جائز ولا تجوز إجارتها إلا في مدة معينة معلومة, ولا بد من مشاهدته وتحديده فإنه لا يصير معلوما إلا بذلك ولا يجوز إطلاقه, ولا وصفه وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور: إذا ضبط بالصفة أجزأ وقال أصحاب الرأي: له خيار الرؤية كقولهم في البيع ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على البيع, والخلاف ها هنا مبني على الخلاف في البيع ولم يكتف بالصفة لأنه لا يصير معلوما إلا بالرؤية كما لا يعلم في البيع إلا بذلك فإن كان دارا أو حماما, احتاج إلى مشاهدة البيوت لأن الغرض يختلف بصغرها وكبرها ومرافقها ومشاهدة قدر الحمام ليعلم كبرها من صغرها ومعرفة ماء الحمام إما من قناة أو بئر, فإن كان من بئر احتاج إلى مشاهدتها ليعلم عمقها ومؤنة استسقاء الماء منها ومشاهدة الأتون ومطرح الرماد, وموضع الزبل ومصرف ماء الحمام فمتى أخل بهذا أو بعضه, لم تصح للجهالة بما يختلف الغرض به. فصل:


وكره أحمد كراء الحمام وسئل عن كرائه فقال: أخشى فقيل له: إذا شرط على المكتري أن لا يدخله أحد بغير إزار فقال: ومن يضبط هذا؟ وكأنه لم يعجبه قال ابن حامد: هذا على طريق الكراهة تنزيها لا تحريما لأنه تبدو فيه عورات الناس فتحصل الإجارة على فعل محظور, فكرهه لذلك فأما العقد فصحيح وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن كراء الحمام جائز, إذا حدده وذكر جميع آلته شهورا مسماة وهذا قول مالك والشافعي, وأبي ثور وأصحاب الرأي لأن المكتري إنما يأخذ الأجر عوضا عن دخول الحمام والاغتسال بمائه وأحوال المسلمين محمولة على السلامة, وإن وقع من بعضهم فعل ما لا يجوز لم يحرم الأجر المأخوذ منه كما لو اكترى دارا ليسكنها, فشرب فيها خمرا. مسألة:


قال: [ ولا يتصرف مالك العقار فيه إلا عند تقضِّي المدة ] وجملته أن المستأجر يملك المنافع بالعقد كما يملك المشتري المبيع بالبيع ويزول ملك المؤجر عنها, كما يزول ملك البائع عن المبيع فلا يجوز له التصرف فيها لأنها صارت مملوكة لغيره كما لا يملك البائع التصرف في المبيع, فإن تصرف فيها نظرنا فإن كان ذلك في حال بدا للمستأجر قبل تقضي المدة مثل أن يكتري دارا سنة فيسكنها شهرا ويتركها فيسكنها المالك بقية السنة أو يؤجرها لغيره, احتمل أن ينفسخ العقد فيما استوفاه المالك لأنه يتصرف فيه قبل قبض المكتري له فأشبه ما لو تلف المكيل قبل تسليمه وسلم باقيه فعلى هذا, إن تصرف المالك في بعض المدة دون بعض انفسخ العقد في قدر ما تصرف فيه دون ما لم يتصرف فيه ويكون على المستأجر ما بقي, فلو سكن المستأجر شهرا وتركها شهرا وسكن المالك عشرة أشهر, لزم المستأجر أجر شهرين وإن سكنها شهرا وسكن المالك شهرين ثم تركها, فعلى المستأجر أجر عشرة أشهر ويحتمل أن يلزم المستأجر أجر جميع المدة وله على المالك أجر المثل لما سكن أو تصرف فيه بقسط ذلك مما على المستأجر من الأجر ويلزمه الباقي لأنه تصرف فيما ملكه المستأجر عليه غير إذنه, فأشبه ما لو تصرف في المبيع بعد قبض المشتري له وقبض الدار ها هنا قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يملك التصرف في المنافع بالسكنى والإجارة وغيرها فعلى هذا, لو كان أجر المثل الواجب على المالك بقدر المسمى في العقد لم يجب على المستأجر شيء وإن فضلت منه فضلة, لزم المالك أداؤها إلى المستأجر والأول أولى وهو ظاهر مذهب الشافعي, وإن تصرف المالك قبل تسليم العين أو امتنع من تسليمها حتى انقضت مدة الإجارة انفسخت الإجارة, وجها واحدا لأن العاقد قد أتلف المعقود عليه قبل تسليمه فانفسخ العقد كما لو باعه طعاما فأتلفه قبل تسليمه وإن سلمها إليه في أثناء المدة انفسخت فيما مضى, ويجب أجر الباقي بالحصة كالمبيع إذا سلم بعضه وأتلف بعضا. مسألة:


قال: [ فإن حوله المالك قبل تقضِّي المدة لم يكن له أجر لما سكن ] يعني إذا استأجر عقارا مدة, فسكنه بعض المدة ثم أخرجه المالك ومنعه تمام السكنى, فلا شيء له من الأجرة وقال أكثر الفقهاء: له أجر ما سكن لأنه استوفى ملك غيره على سبيل المعاوضة فلزمه عوضه كالمبيع إذا استوفى بعضه ومنعه المالك بقيته, كما لو تعذر استيفاء الباقي لأمر غالب ولنا أنه لم يسلم إليه ما عقد الإجارة عليه فلم يستحق شيئا كما لو استأجره ليحمل له كتابا إلى موضع, فحمله بعض الطريق أو استأجره ليحفر له عشرين ذراعا فحفر له عشرا وامتنع من حفر الباقي وقياس الإجارة على الإجارة أولى من قياسها على البيع ويفارق ما إذا امتنع لأمر غالب لأن له عذرا والحكم في من اكترى دابة, فامتنع المكري من تسليمها في بعض المدة أو أجر نفسه أو عبده للخدمة مدة وامتنع من إتمامها, أو أجر نفسه لبناء حائط أو خياطة أو حفر بئر, أو حمل شيء إلى مكان وامتنع من إتمام العمل كالحكم في العقار يمتنع من تسليمه, وأنه لا يستحق شيئا لما ذكرنا. فصل:


إذا هرب الأجير أو شردت الدابة أو أخذ المؤجر العين وهرب بها, أو منعه استيفاء المنفعة منها من غير هرب لم تنفسخ الإجارة لكن يثبت للمستأجر خيار الفسخ فإن فسخ, فلا كلام وإن لم يفسخ انفسخت الإجارة بمضي المدة يوما فيوما فإن عادت العين في أثناء المدة, استوفى ما بقي منها فإن انقضت المدة انفسخت الإجارة لفوات المعقود عليه وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة كخياطة ثوب, أو بناء حائط أو حمل إلى موضع معين استؤجر من ماله من يعمله, كما لو أسلم إليه في شيء فهرب ابتيع من ماله فإن لم يمكن ثبت للمستأجر الفسخ فإن فسخ, فلا كلام وإن لم يفسخ وصبر إلى أن يقدر عليه, فله مطالبته بالعمل لأن ما في الذمة لا يفوت بهربه وكل موضع امتنع الأجير من العمل فيه أو منع المؤجر المستأجر من الانتفاع إذا كان بعد عمل البعض فلا أجر له فيه على ما سبق, إلا أن يرد العين قبل انقضاء المدة أو يتم العمل إن لم يكن على مدة قبل فسخ المستأجر فيكون له أجر ما عمل فأما إن شردت الدابة, أو تعذر استيفاء المنفعة بغير فعل المؤجر فله من الأجر بقدر ما استوفى بكل حال. مسألة:


قال: [ فإن جاء أمر غالب يحجز المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد, لزمه من الأجر بمقدار مدة انتفاعه ] وجملته أن من استأجر عينا مدة فحيل بينه وبين الانتفاع بها لم يخل من أقسام ثلاثة: أحدها أن تتلف العين, كدابة تنفق أو عبد يموت فذلك على ثلاثة أضرب: أحدها أن تتلف قبل قبضها, فإن الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه فأشبه ما لو تلف الطعام المبيع قبل قبضه والثاني أن تتلف عقيب قبضها فإن الإجارة تنفسخ أيضا, ويسقط الأجر في قول عامة الفقهاء إلا أبا ثور حكي عنه أنه قال: يستقر الأجر لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه أشبه المبيع وهذا غلط لأن المعقود عليه المنافع, وقبضها باستيفائها أو التمكن من استيفائها ولم يحصل ذلك, فأشبه تلفها قبل قبض العين الثالث أن تتلف بعد مضي شيء من المدة فإن الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدة دون ما مضى ويكون للمؤجر من الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة قال أحمد, في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا اكترى بعيرا بعينه فنفق البعير يعطيه بحساب ما ركب وذلك لما ذكرنا من أن المعقود عليه المنافع, وقد تلف بعضها قبل قبضه فبطل العقد فيما تلف دون ما قبض كما لو اشترى صبرتين, فقبض إحداهما وتلفت الأخرى قبل قبضها ثم ننظر فإن كان أجر المدة متساويا, فعليه بقدر ما مضى إن كان قد مضى النصف فعليه نصف الأجر وإن كان قد مضى الثلث, فعليه الثلث كما يقسم الثمن على المبيع المتساوي وإن كان مختلفا كدار أجرها في الشتاء أكثر من أجرها في الصيف, وأرض أجرها في الصيف أكثر من الشتاء أو دار لها موسم كدور مكة, رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة ويقسط الأجر المسمى على حسب قيمة المنفعة كقسمة الثمن على الأعيان المختلفة في البيع وكذلك لو كان الأجر على قطع مسافة, كبعير استأجره على حمل شيء إلى مكان معين وكانت متساوية الأجزاء أو مختلفة وهذا ظاهر مذهب الشافعي. فصل:


القسم الثاني أن يحدث على العين ما يمنع نفعها كدار انهدمت, وأرض غرقت أو انقطع ماؤها فهذه ينظر فيها فإن لم يبق فيها نفع أصلا, فهي كالتالفة سواء وإن بقي فيها نفع غير ما استأجرها له مثل أن يمكن الانتفاع بعرصة الدار والأرض لوضع حطب فيها, أو نصب خيمة في الأرض التي استأجرها للزرع أو صيد السمك من الأرض التي غرقت انفسخت الإجارة أيضا لأن المنفعة التي وقع عليها العقد تلفت, فانفسخت الإجارة كما لو استأجر دابة ليركبها فزمنت بحيث لا تصلح إلا لتدور في الرحى وقال القاضي, في الأرض التي ينقطع ماؤها: لا تنفسخ الإجارة فيها وهو منصوص الشافعي لأن المنفعة لم تبطل جملة لأنه يمكن الانتفاع بعرصة الأرض بنصب خيمة أو جمع حطب فيها فأشبه ما لو نقص نفعها مع بقائه فعلى هذا يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء فإن فسخ فحكمه حكم العبد إذا مات, وإن اختار إمضاء العقد فعليه جميع الأجر لأن ذلك عيب فإذا رضي به, سقط حكمه فإن لم يختر الفسخ ولا الإمضاء إما لجهله بأن له الفسخ أو لغير ذلك, فله الفسخ بعد ذلك والأول أصح لأن بقاء غير المعقود عليه لا يمنع انفساخ العقد بتلف المعقود عليه كما في البيع ولو كان النفع الباقي في الأعيان مما لا يباح استيفاؤه بالعقد, كدابة استأجرها للركوب فصارت لا تصلح إلا للحمل أو بالعكس انفسخ العقد وجها واحدا لأن المنفعة الباقية لا يملك استيفاؤها مع سلامتها, فلا يملكها مع تعيبها كبيعها وأما إن أمكن الانتفاع بالعين فيما اكتراها له على نعت من القصور مثل أن يمكنه زرع الأرض بغير ماء, أو كان الماء ينحسر عن الأرض التي غرقت على وجه يمنع بعض الزراعة أو يسوء الزرع أو كان يمكنه سكنى ساحة الدار إما في خيمة أو غيرها, لم تنفسخ الإجارة لأن المنفعة المعقود عليها لم تزل بالكلية فأشبه ما لو تعيبت وللمستأجر خيار الفسخ على ما ذكرنا, إلا في الدار إذا انهدمت فإن فيها وجهين أحدهما لا تنفسخ الإجارة والثاني تنفسخ لأنه زال اسمها بهدمها, وذهبت المنفعة التي تقصد منها ولذلك لا يستأجر أحد عرصة دار ليسكنها فأما إن كان الحادث في العين لا يضرها كغرق الأرض بماء ينحسر في قرب من الزمان لا يمنع الزرع ولا يضره, وانقطاع الماء عنها إذا ساق المؤجر إليها ماء من مكان آخر أو كان انقطاعه في زمن لا يحتاج إليه فيه فليس للمستأجر الفسخ لأن هذا ليس بعيب وإن حدث الغرق المضر, أو انقطاع الماء أو انهدم بعض العين المستأجرة فلذلك البعض حكم نفسه في الفسخ أو ثبوت الخيار وللمكتري الخيار في تبقية العين لأن الصفقة تبعضت عليه فإن اختار الإمساك, أمسك بالحصة من الأجر كما إذا تلف أحد القفيزين من الطعام في يد البائع. فصل:


القسم الثالث أن تغصب العين المستأجرة فللمستأجر الفسخ لأن فيه تأخير حقه, فإن فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد بتلف العين سواء وإن لم يفسخ حتى انقضت مدة الإجارة, فله الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجر المثل لأن المعقود عليه لم يفت مطلقا بل إلى بدل, وهو القيمة فأشبه ما لو أتلف الثمرة المبيعة آدمي قبل قطعها ويتخرج انفساخ العقد بكل حال, على الرواية التي تقول: إن منافع الغصب لا تضمن وهو قول أصحاب الرأي ولأصحاب الشافعي في ذلك اختلاف وإن ردت العين في أثناء المدة ولم يكن فسخ استوفى ما بقي منها ويكون فيما مضى من المدة مخيرا, كما ذكرنا وإن كانت الإجارة على عمل كخياطة ثوب أو حمل شيء إلى موضع معين فغصب جمله الذي يحمل عليه, وعبده الذي يخيط له لم ينفسخ العقد وللمستأجر مطالبة الأجير بعوض المغصوب, وإقامة من يعمل العمل لأن العقد على ما في الذمة كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده, فإن تعذر البدل ثبت للمستأجر الخيار بين الفسخ أو الصبر إلى أن يقدر على العين المغصوبة فيستوفي منها. فصل:


القسم الرابع, أن يتعذر استيفاء المنفعة من العين بفعل صدر منها مثل أن يأبق العبد أو تشرد الدابة, وقد ذكرنا حكم ذلك فيما قبل هذا. فصل:


القسم الخامس أن يحدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة أو تحصر البلد, فيمتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع ونحو ذلك فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر استيفاء المنفعة, فأثبت الخيار كغصب العين ولو استأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها إلى مكان معين, فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق, فلكل واحد منهما فسخ الإجارة وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز لأن الحق لهما لا يعدوهما فأما إن كان الخوف خاصا بالمستأجر مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه من الموضع المستأجر, أو حلولهم في طريقه لم يملك الفسخ لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية, فأشبه مرضه وكذلك لو حبس أو مرض أو ضاعت نفقته, أو تلف متاعه لم يملك فسخ الإجارة لذلك لأنه ترك استيفاء المنافع لمعنى من جهته فلم يمنع ذلك وجوب أجرها عليه, كما لو تركها اختيارا. فصل:


وإذا اكترى عينا فوجد بها عيبا لم يكن علم به فله فسخ العقد, بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر: إذا اكترى دابة بعينها فوجدها جموحا أو عضوضا, أو نفورا أو بها عيب غير ذلك مما يفسد ركوبها فللمكتري الخيار, إن شاء ردها وفسخ الإجارة وإن شاء أخذها وهذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي, ولأنه عيب في المعقود عليه فأثبت الخيار كالعيب في بيوع الأعيان والعيب الذي يرد به ما تنقص به قيمة المنفعة كتعثر الظهر في المشي, والعرج الذي يتأخر به عن القافلة وربض البهيمة بالحمل وكونها جموحة أو عضوضة, وأشباه ذلك وفي المكتري للخدمة ضعف البصر والجنون والجذام, والبرص وفي الدار انهدام الحائط والخوف من سقوطها, وانقطاع الماء من بئرها أو تغيره بحيث يمتنع الشرب والوضوء وأشباه ذلك من النقائص, ومتى حدث شيء من هذه العيوب بعد العقد ثبت للمكتري خيار الفسخ لأن المنافع لا يحصل قبضها إلا شيئا فشيئا فإذا حدث العيب, فقد وجد قبل قبض الباقي من المعقود عليه فأثبت الفسخ فيما بقي منها ومتى فسخ, فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد بتلف العين وإن رضي المقام ولم يفسخ لزمه جميع العوض لأنه رضي به ناقصا فأشبه ما لو رضي بالمبيع معيبا وإن اختلفا في الموجود, هل هو عيب أو لا رجع فيه إلى أهل الخبرة فإن قالوا: ليس بعيب مثل أن تكون الدابة خشنة المشي أو أنها تتعب راكبها لكونها لا تركب كثيرا, فليس له فسخ وإن قالوا: هو عيب فله الفسخ هذا إذا كان العقد يتعلق بعينها فأما إن كانت موصوفة في الذمة لم ينفسخ العقد, وعلى المكري إبدالها لأن العقد لم يتعلق بعينها أشبه المسلم فيه إذا سلمه على غير صفته فإن عجز عن إبدالها أو امتنع منه, ولم يمكن إجباره عليه فللمكتري الفسخ أيضا. فصل:


وعلى المكري ما يتمكن به من الانتفاع كتسليم مفاتيح الدار والحمام لأن عليه التمكين من الانتفاع, وتسليم مفاتيحها تمكين من الانتفاع فوجب عليه فإن ضاعت بغير تفريط من المكتري فعلى المكري بدلها لأنها أمانة في يد المكتري, فأشبه ذلك حيطان الدار وأبوابها وعليه بناء حائط إن سقط وإبدال خشبه إن انكسر وعليه تبليط الحمام وعمل الأبواب والبزل ومجرى الماء لأنه بذلك يتمكن من الانتفاع, وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة فعلى المكتري وأما التحسين والتزويق, فلا يلزم واحدا منهما لأن الانتفاع ممكن بدونه وأما تنقية البالوعة والكنف فإن احتيج إلى ذلك عند الكراء فعلى المكري لأن ذلك مما يتمكن به من الانتفاع, وإن امتلأت بفعل المكتري فعليه تفريغها وهذا قول الشافعي وقال أبو ثور: هو على رب الدار لأن به يتمكن من الانتفاع فأشبه ما لو اكترى وهي ملأى وقال أبو حنيفة: القياس أنه على المكتري والاستحسان أنه على رب الدار لأن عادة الناس ذلك ولنا أن ذلك حصل بفعل المكتري, فكان عليه تنظيفه كما لو طرح فيها قماشا والقول في تفريغ جية الحمام التي هي مصرف مائه كالقول في بالوعة الدار وإن انقضت الإجارة وفي الدار زبل أو قمامة من فعل الساكن, فعليه نقله وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. فصل:


وإن شرط على مكتري الحمام, أو غيره أن مدة تعطيله عليه لم يجز لأنه لا يجوز أن يؤجر مدة لا يمكن الانتفاع في بعضها ولا يجوز أن يشترط أنه يستوفي بقدرها بعد انقضاء مدته لأنه يؤدي إلى أن يكون انتهاء مدة الإجارة مجهولا فإن أطلق وتعطل, فهو عيب حادث والمكتري بالخيار بين الإمساك بكل الأجر وبين الفسخ ويتخرج أن له أرش العيب قياسا على المبيع المعيب وإن لم يعلم بالعيب حتى انقضت مدة الإجارة, فعليه الأجر كله لأنه استوفى المعقود عليه فأشبه ما لو علم العيب بعد العقد فرضيه ويتخرج أن له أرش العيب, كما لو اشترى معيبا فلم يعلم عيبه حتى أكله أو تلف في يده. فصل:


وإن شرط الإنفاق على العين النفقة الواجبة على المكري, كعمارة الحمام إذا شرطها على المكتري فالشرط فاسد لأن العين ملك للمؤجر فنفقتها عليه وإذا أنفق بناء على هذا, احتسب به على المكري لأنه أنفقه على ملكه بشرط العوض فإن اختلفا في قدر ما أنفق فالقول قول المكري لأنه منكر فإن لم يشترط لكن أذن له في الإنفاق, ليحتسب له من الأجر ففعل ثم اختلفا فالقول قول المكري أيضا وإن أنفق من غير إذنه, لم يرجع بشيء لأنه أنفق على ماله بغير إذنه نفقة غير واجبة على المالك فأشبه ما لو عمر دارا له أخرى. مسألة:


قال: [ ومن استؤجر لعمل شيء بعينه فمرض, أقيم مقامه من يعمله والأجرة على المريض ] وجملة ذلك أنه يجوز استئجار الآدمي, بغير خلاف بين أهل العلم وقد آجر موسى عليه السلام نفسه لرعاية الغنم واستأجر النبي -ﷺ- وأبو بكر رجلا ليدلهما على الطريق (وذكر النبي -ﷺ- رجلا استأجر أجراء كل أجير بفرق من ذرة, وقال: إنما مثلكم ومثل أهل الكتاب كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى, وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا فقال: هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا: لا قال: فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء) ولأنه يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه فجازت إجارته كالدور ثم إجارته تقع على ضربين أحدهما استئجاره مدة بعينها, لعمل بعينه كإجارة موسى عليه السلام نفسه ثماني حجج واستئجار الأجراء المذكورين في الخبر والثاني, استئجاره على عمل معين في الذمة كاستئجار النبي -ﷺ- وأبي بكر دليلا يدلهما على الطريق واستئجار رجل لخياطة قميص أو بناء حائط, ويتنوع ذلك نوعين: أحدهما أن تقع الإجارة على عين كإجارة عبده لرعاية غنمه أو ولده لعمل معين والثاني أن تقع على عمل في الذمة كخياطة قميص وبناء حائط, فمتى كانت على عمل في ذمته فمرض وجب عليه أن يقيم مقامه من يعمله لأنه حق وجب في ذمته فوجب عليه إيفاؤه, كالمسلم فيه ولا يجب على المستأجر إنظاره لأن العقد بإطلاقه يقتضي التعجيل وفي التأخير إضرار به فأما إن كانت الإجارة على عبده في مدة أو غيرها, فمرض لم يقم غيره مقامه لأن الإجارة وقعت على عمله بعينه لا على شيء في ذمته وعمل غيره ليس معقودا عليه, وإنما وقع العقد على معين فأشبه ما لو اشترى معينا لم يجز أن يدفع إليه غيره, ولا يبدله بخلاف ما لو وقع في الذمة فإنه يجوز إبدال المعيب, ولا ينفسخ العقد بتلف ما تسلمه والمبيع المعين بخلافه فكذلك الإجارة وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة, لكنه لا يقوم غير الأجير مقامه كالنسخ فإنه يختلف القصد فيه باختلاف الخطوط, لم يكلف إقامة غيره مقامه ولا يلزم المستأجر قبول ذلك إن بذله الأجير لأن الغرض لا يحصل من غير الناسخ كحصوله منه, فأشبه ما لو أسلم إليه في نوع فسلم إليه غيره وهكذا كل ما يختلف باختلاف الأعيان. فصل:


يجوز الاستئجار لحفر الآبار والأنهار والقني لأنها منفعة معلومة يجوز أن يتطوع بها الرجل على غيره, فجاز عقد الإجارة عليه كالخدمة ولا بد من تقدير العمل بمدة أو عمل معين, فإن قيده بمدة نحو أن يقول: استأجرتك شهرا لتحفر لي بئرا أو نهرا لم يحتج إلى معرفة القدر وعليه أن يحفر ذلك الشهر قليلا حفر أو كثيرا ويحتاج إلى معرفة الأرض التي يحفر فيها وقال بعض أصحابنا: لا يحتاج إلى معرفتها لأن الغرض لا يختلف بذلك والأول أولى -إن شاء الله تعالى- لأن الأرض قد تكون صلبة فيكون الحفر عليه شاقا, وقد تكون سهلة فيسهل ذلك عليه وإن قدره بالعمل فلا بد من معرفة الموضع بالمشاهدة لأن المواضع تختلف بالسهولة والصلابة, ولا ينضبط ذلك بالصفة ويعرف دور البئر وعمقها وطول النهر, وعمقه وعرضه لأن العمل يختلف بذلك فإذا حفر بئرا فعليه شيل التراب لأنه لا يمكنه الحفر إلا بذلك, فقد تضمنه العقد فإن تهور تراب من جانبيها أو سقطت فيه بهيمة أو نحو ذلك لم يلزمه شيله, وكان على صاحب البئر لأنه سقط فيها من ملكه ولم يتضمن عقد الإجارة رفعه وإن وصل إلى صخرة أو جماد يمنع الحفر لم يلزمه حفره لأن ذلك مخالف لما شاهده من الأرض, وإنما اعتبرت مشاهدة الأرض لأنها تختلف فإذا ظهر فيها ما يخالف المشاهدة كان له الخيار في الفسخ, فإذا فسخ كان له من الأجر بحصة ما عمل فيقسط الأجر على ما بقي وما عمل فيقال: كم أجر ما عمل؟ وكم أجر ما بقي؟, ويقسط الأجر المسمى عليهما ولا يجوز تقسيطه على عدد الأذرع لأن أعلى البئر يسهل نقل التراب منه وأسفله يشق ذلك فيه وإن نبع ما يمنعه من الحفر فهو بمنزلة الصخرة على ما ذكرنا. فصل:


ويجوز الاستئجار لضرب اللبن لما ذكرنا, ويكون على مدة أو عمل فإن قدره بالعمل احتاج إلى تبيين عدده, وذكر قالبه وموضع الضرب لأن الأجر يختلف باختلافه لكون التراب في بعض الأماكن أسهل والماء أقرب فإن كان هناك قالب معروف لا يختلف جاز, كما إذا كان المكيال معروفا وإن قدره بالطول والعرض والسمك جاز ولا يكتفى بمشاهدة قالب الضرب إذا لم يكن معروفا لأن فيه غررا وقد يتلف القالب فلا يصح كما لو أسلم في مكيال بعينه. فصل:


ويجوز الاستئجار للبناء, وتقديره بالزمان أو العمل فإن قدره بالعمل فلا بد من معرفة موضعه لأنه يختلف أيضا بقرب الماء, وسهولة التراب ولا بد من ذكر طوله وعرضه وسمكه, وآلة البناء من لبن وطين أو حجر وطين أو شيد وآجر, أو غير ذلك قال ابن أبي موسى: وإذا استأجره لبناء ألف لبنة في حائطه أو استأجره يبني له فيه يوما فعمل ما استأجره عليه, ثم سقط الحائط فله أجره لأنه وفي العمل وإن قال: ارفع لي هذا الحائط عشرة أذرع فرفع بعضه, ثم سقط فعليه إعادة ما سقط وإتمام ما وقعت عليه الإجارة من الذرع وهذا إذا لم يكن سقوطه في الأول لأمر من جهة العامل فأما إن فرط, أو بناه محلولا أو نحو ذلك فسقط, فعليه إعادته وغرامة ما تلف منه. فصل:


ويجوز الاستئجار لتطيين السطوح والحيطان وتجصيصها ولا يجوز على عمل معين لأن الطين يختلف فمنه رقيق وثخين, وأرض السطح تختلف فمنها العالي ومنها النازل وكذلك الحيطان فلذلك لم يجز إلا على مدة. فصل:


ويجوز استئجار ناسخ لينسخ له كتب فقه أو حديث, أو شعرا مباحا أو سجلات نص عليه, في رواية مثنى بن جامع وسأله عن كتابة الحديث بالأجر فلم ير به بأسا ولا بد من التقدير بالمدة أو العمل, فإن قدره بالعمل ذكر عدد الأوراق وقدرها, وعدد السطور في كل ورقة وقدر الحواشي ودقة القلم وغلظه فإن عرف الخط بالمشاهدة, جاز وإن أمكن ضبطه بالصفة ضبطه وإلا فلا بد من مشاهدته لأن الأجر يختلف باختلافه ويجوز تقدير الأجر بأجزاء الفرع, ويجوز بأجزاء الأصل المنسوخ منه وإن قاطعه على نسخ الأصل بأجر واحد جاز وإذا أخطأ بالشيء اليسير الذي جرت العادة به, عفي عنه لأن ذلك لا يمكن التحرز منه وإن أسرف في الغلط بحيث يخرج عن العادة فهو عيب يرد به قال ابن عقيل: وليس له محادثة غيره حالة النسخ, ولا التشاغل بما يشغل سره ويوجب غلطه ولا لغيره تحديثه وشغله وكذلك كل الأعمال التي تختل بشغل السر والقلب كالقصارة والنساجة, ونحوهما. فصل:


ويجوز أن يستأجر لحصاد زرعه ولا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم وكان إبراهيم بن أدهم يؤجر نفسه لحصاد الزرع ويجوز أن يقدره بمدة وبعمل معين مثل أن يقاطعه على حصاد زرع معين ويجوز أن يستأجر رجلا لسقي زرعه, وتنقيته ودياسه ونقله إلى موضع معين ويجوز أن يستأجر رجلا ليحتطب له لأنه عمل مباح تدخله النيابة, أشبه حصاد الزرع قال أحمد في رجل استأجر أجيرا على أن يحتطب له على حمارين كل يوم فكان الرجل ينقل عليهما وعلى حمير لرجل آخر, ويأخذ منه الأجرة فإن كان يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة فظاهر هذا أن المستأجر يرجع على الأجير بقيمة ما استضر باشتغاله عن عمله لأنه قال: إن كان يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة فاعتبر الضرر وظاهر هذا أنه إذا لم يستضر, لا يرجع بشيء لأنه اكتراه لعمل فوفاه على التمام فلم يلزمه شيء, كما لو استأجره لعمل فكان يقرأ القرآن في حال عمله فإن ضر المستأجر, يرجع عليه بقيمة ما فوت عليه ويحتمل أنه أراد أنه يرجع عليه بقيمة ما عمله لغيره لأنه صرف منافعه المعقود عليها إلى عمل غير المستأجر فكان عليه قيمتها كما لو عمل لنفسه وقال القاضي: معناه أنه يرجع عليه بالأجر الذي أخذه من الآخر, لأن منافعه في هذه المدة مملوكة لغيره فما حصل في مقابلتها يكون للذي استأجره. فصل:


ويجوز الاستئجار لاستيفاء القصاص ، في النفس فما دونها . وبه قال مالك ، والشافعي ، وأبو ثور . وقال أبو حنيفة : لا يجوز في النفس ؛ لأن عدد الضربات تختلف ، وموضع الضربات غير متعين ، إذ يمكن أن يضرب مما يلي الرأس ومما يلي الكتف ، فكان مجهولا . ولنا أنه حق يجوز التوكيل في استيفائه ، لا يختص فاعله بكونه من أهل القربة ، فجاز الاستئجار عليه ، كالقصاص في الطرف . وقوله : إن عدد الضربات يختلف ، وهو مجهول . يبطل بخياطة الثوب ، فإن عدد الغرزات مجهول . وقوله : إن محله غير متعين قلنا : هو متقارب ، فلا يمنع ذلك صحته ، كموضع الخياطة من حاشية الثوب . والأجر على المقتص منه . وبهذا قال الشافعي ، وأبو ثور . وقال أبو حنيفة ، ومالك : هو على المستوفي ، لأنه غير متعين ، فليس على المقتص منه إلا التمكين ، كما لو اشترى ثمرة نخله . ولنا أنه أجر يجب لإيفاء حق ، فكان على الموفي ، كأجر الكيال والوزان . وما ذكروه غير صحيح ؛ فإن القطع مستحق عليه ، بخلاف الثمرة ، بدليل أنه لو مكنه من القطع فلم يقطع ، وقطعه آخر ، لم يسقط حق صاحب القصاص ، ولو كان التمكين تسليما ، لسقط حقه كالثمرة . فصل:


ويجوز استئجار رجل ليدله على طريق (فإن النبي -ﷺ- وأبا بكر استأجرا عبد الله بن أريقط هاديا خريتا, وهو الماهر بالهداية ليدلهما على طريق المدينة) ويجوز استئجار كيال ووزان, لعمل معلوم أو في مدة معلومة وبهذا قال مالك والثوري والشافعي, وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وقد روي في حديث سويد بن قيس: (أتانا رسول الله -ﷺ- فاشترى منا رجل سراويل وثم رجل يزن بأجر, فقال رسول الله -ﷺ-: زن وأرجح) رواه أبو داود ويجوز استئجار رجل ليلازم غريما يستحق ملازمته وسئل أحمد عن ذلك فقال: لا بأس قد شغله وقال في موضع آخر: غير هذا أعجب إلى كرهه لأنه يئول إلى الخصومة وفيه تضييق على مسلم, ولا يأمن أن يكون ظالما فيساعده على ظلمه لكنه جائز في الجملة لأن الظاهر أنه محق, فإن الظاهر أن الحاكم لا يحكم إلا بحق ولهذا أجزنا للموكل فعله. فصل:


ويجوز أن يستأجر سمسارا يشتري له ثيابا, ورخص فيه ابن سيرين وعطاء والنخعي وكرهه الثوري, وحماد ولنا أنها منفعة مباحة تجوز النيابة فيها فجاز الاستئجار عليها, كالبناء ويجوز على مدة معلومة مثل أن يستأجره عشرة أيام يشتري له فيها لأن المدة معلومة والعمل معلوم, أشبه الخياط والقصار فإن عين العمل دون الزمان فجعل له من كل ألف درهم شيئا معلوما صح أيضا وإن قال: كلما اشتريت ثوبا, فلك درهم أجرا وكانت الثياب معلومة بصفة أو مقدرة بثمن جاز وإن لم يكن كذلك, فظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز لأن الثياب تختلف باختلاف أثمانها والأجر يختلف باختلافها, فإن اشترى فله أجر مثله وهذا قول أبي ثور وابن المنذر لأنه عمل عملا بعوض لم يسلم له, فكان له أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة. فصل:


وإن استأجره ليبيع له ثيابا بعينها صح وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يصح لأن ذلك يتعذر عليه, فأشبه ضراب الفحل وحمل الحجر الكبير ولنا أنه عمل مباح تجوز النيابة فيه, وهو معلوم فجاز الاستئجار عليه كشراء الثياب ولأنه يجوز عقد الإجارة عليه مقدرا بزمن, فجاز مقدرا بعمل كالخياطة وقولهم: إنه غير ممكن لا يصح فإن الثياب لا تنفك عن راغب فيها ولذلك صحت المضاربة, ولا تكون إلا بالبيع والشراء بخلاف ما قاسوا عليه فإنه متعذر وإن استأجره على شراء ثياب معينة, احتمل أن لا يصح لأن ذلك لا يكون إلا من واحد وقد لا يبيع فيتعذر تحصيل العمل بحكم الظاهر, بخلاف البيع وإن استأجره في البيع لرجل بعينه فهو كما لو استأجره لشراء ثياب بعينها ويحتمل أن يصح لأنه ممكن في الجملة فإن حصل من ذلك شيء استحق الأجر وإلا بطلت الإجارة, كما لو لم يعين البائع ولا المشتري. فصل:


ويجوز أن يستأجر لخدمته من يخدمه كل شهر بشيء معلوم وسواء كان الأجير رجلا أو امرأة, حرا أو عبدا وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور لأنه تجوز النيابة فيه, ولا يختص عامله بكونه من أهل القربة قال أحمد: أجير المشاهرة يشهد الأعياد والجمعة ولا يشترط ذلك قيل له: فيتطوع بالركعتين؟ قال: ما لم يضر بصاحبه إنما أباح له ذلك لأن أوقات الصلاة مستثناة من الخدمة ولهذا وقعت مستثناة في حق المعتكف بترك معتكفه لها وقال ابن المبارك: لا بأس أن يصلي الأجير ركعات السنة وقال أبو ثور, وابن المنذر: ليس له منعه منها وقال أحمد: يجوز للرجل أن يستأجر الأمة والحرة للخدمة ولكن يصرف وجهه عن النظر ليست الأمة مثل الحرة ولا يخلو معها في بيت, ولا ينظر إليها متجردة ولا إلى شعرها إنما قال ذلك لأن حكم النظر بعد الإجارة كحكمه قبلها وفرق بين الأمة والحرة لأنهما يختلفان قبل الإجارة, فكذلك بعدها. مسألة:


قال: [ وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها ] هذا قول مالك, والشافعي وإسحاق والبتي, وأبي ثور وابن المنذر وقال الثوري وأصحاب الرأي, والليث: تنفسخ الإجارة بموت أحدهما لأن استيفاء المنفعة يتعذر بالموت لأنه استحق بالعقد استيفاءها على ملك المؤجر فإذا مات زال ملكه عن العين, فانتقلت إلى ورثته فالمنافع تحدث على ملك الوارث فلا يستحق المستأجر استيفاءها لأنه ما عقد مع الوارث, وإذا مات المستأجر لم يمكن إيجاب الأجر في تركته ولنا أنه عقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد, مع سلامة المعقود عليه كما لو زوج أمته ثم مات وما ذكروه لا يصح فإنا قد ذكرنا أن المستأجر قد ملك المنافع وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ثم يلزمهم ما لو زوج أمته ثم مات ولو صح ما ذكروه لكان وجوب الأجر ها هنا بسبب من المستأجر, فوجب في تركته بعد موته كما لو حفر بئرا فوقع فيها شيء بعد موته, ضمنه في ماله لأن سبب ذلك كان منه في حال الحياة كذا ها هنا. فصل:


وإن مات المكتري ولم يكن له وارث يقوم مقامه في استيفاء المنفعة, أو كان غائبا كمن يموت في طريق مكة ويخلف جمله الذي اكتراه, وليس له عليه شيء يحمله ولا وارث له حاضر يقوم مقامه فظاهر كلام أحمد أن الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدة لأنه قد جاء أمر غالب, يمنع المستأجر عن منفعة العين فأشبه ما لو غصبت ولأن بقاء العقد ضرر في حق المكتري والمكري لأن المكتري يجب عليه الكراء من غير نفع, والمكري يمتنع عليه التصرف في ماله مع ظهور امتناع الكراء عليه وقد نقل عن أحمد في رجل اكترى بعيرا, فمات المكتري في بعض الطريق فإن رجع البعير خاليا فعليه بقدر ما وجب له, وإن كان عليه ثقله ووطاؤه فله الكراء إلى الموضع وظاهر هذا أنه حكم بفسخ العقد فيما بقي من المدة إذا مات المستأجر, ولم يبق به انتفاع لأنه تعذر استيفاء المنفعة بأمر من الله تعالى فأشبه ما لو اكترى من يقلع له ضرسه فبرأ, أو انقلع قبل قلعه أو اكترى كحالا ليكحل عينه فبرأت, أو ذهبت ويجب أن يقدر أنه لم يكن ثم من ورثته من يقوم مقامه في الانتفاع لأن الوارث يقوم مقام الموروث وتأولها القاضي على أن المكري قبض البعير ومنع الورثة الانتفاع ولولا ذلك لما انفسخ العقد لأنه لا ينفسخ بعذر في المستأجر مع سلامة المعقود عليه, كما لو حبس مستأجر الدار ومنع من سكناها ولا يصح هذا لأنه لو منع الوارث الانتفاع لما استحق شيئا من الأجر ويفارق هذا ما لو حبس المستأجر لأن المعقود عليه انتفاعه, وهذا لا يؤيس منه بالحبس فإنه في كل وقت يمكن خروجه من الحبس وانتفاعه ويمكن أن يستنيب من يستوفي المنفعة إما بأجر أو غيره, بخلاف الميت فإنه قد فات انتفاعه بنفسه ونائبه فأشبه ما ذكرنا من الصور. فصل:


إذا أجر الموقوف عليه الوقف مدة, فمات في أثنائها وانتقل إلى من بعده ففيه وجهان أحدهما لا تنفسخ الإجارة لأنه أجر ملكه في زمن ولايته فلم يبطل بموته, كما لو أجر ملكه الطلق والثاني تنفسخ الإجارة فيما بقي من المدة لأنا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره فصح في ملكه دون ملك غيره, كما لو أجر دارين أحدهما له والأخرى لغيره وذلك لأن المنافع بعد الموت حق لغيره فلا ينفذ عقده عليها من غير ملك ولا ولاية, بخلاف الطلق فإن الوارث يملكه من جهة الموروث فلا يملك إلا ما خلفه, وما تصرف فيه في حياته لا ينتقل إلى الوارث والمنافع التي أجرها قد خرجت عن ملكه بالإجارة فلا تنتقل إلى الوارث والبطن الثاني في الوقف يملكون من جهة الواقف, فما حدث فيها بعد البطن الأول كان ملكا لهم فقد صادف تصرف المؤجر في ملكهم من غير إذنهم ولا ولاية له عليهم, فلم يصح ويتخرج أن تبطل الإجارة كلها بناء على تفريق الصفقة وهذا التفصيل مذهب الشافعي فعلى هذا إن كان المؤجر قبض الأجر كله وقلنا: تنفسخ الإجارة فلمن انتقل إليه الوقف أخذه ويرجع المستأجر على ورثة المؤجر بحصة الباقي من الأجر وإن قلنا: لا تنفسخ رجع من انتقل إليه الوقف على التركة بحصته. فصل:


وإن أجر الولي الصبي, أو ماله مدة فبلغ في أثنائها فقال أبو الخطاب: ليس له فسخ الإجارة لأنه عقد لازم, عقده بحق الولاية فلم يبطل بالبلوغ كما لو باع داره أو زوجه ويحتمل أن تبطل الإجارة فيما بعد زوال الولاية, على ما ذكرنا في إجارة الوقف ويحتمل أن يفرق بين ما إذا أجره مدة يتحقق بلوغه في أثنائها مثل إن أجره عامين وهو ابن أربع عشرة فتبطل في السادس عشر لأننا نتيقن أنه أجره فيها بعد بلوغه وهل تصح في الخامس عشر؟ على وجهين, بناء على تفريق الصفقة وبين ما إذا لم يتحقق بلوغه في أثنائها كالذي أجره في الخامس عشر وحده فبلغ في أثنائه, فيكون فيه ما قد ذكرنا في صدر الفصل لأننا لو قلنا: يلزم الصبي بعد البلوغ بعقد الولي مدة يتحقق بلوغه فيها أفضى إلى أن يعقد على جميع منافعه طول عمره وإلى أن يتصرف فيه في غير زمن ولايته عليه, ولا يشبه النكاح لأنه لا يمكن تقدير مدته فإنه إنما يعقد للأبد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: إذا بلغ الصبي فله الخيار لأنه عقد على منافعه في حال لا يملك التصرف في نفسه, فإذا ملك ثبت له الخيار كالأمة إذا أعتقت تحت زوج ولنا أنه عقد لازم, عقد عليه قبل أن يملك التصرف فإذا ملكه لم يثبت له الخيار كالأب إذا زوج ولده وما قاسوا عليه إنما يثبت لها الخيار إذا عتقت تحت عبد, لأجل العيب لا لما ذكره ولهذا لو عتقت تحت حر, لم يثبت لها الخيار وإن مات الولي المؤجر للصبي أو ماله أو عزل وانتقلت الولاية إلى غيره, لم يبطل عقده لأنه تصرف وهو من أهل التصرف في محل ولايته, فلم يبطل تصرفه بموته أو عزله كما لو مات ناظر الوقف أو عزل أو مات الحاكم بعد تصرفه فيما له النظر فيه ويفارق ما لو أجر الموقوف عليه الوقف مدة, ثم مات في أثنائها لأنه أجر ملك غيره بغير إذنه في مدة لا ولاية له فيها وها هنا إنما يثبت للولي الثاني الولاية في التصرف فيما لم يتصرف فيه الأول, وهذا العقد قد تصرف فيه الأول فلم تثبت للثاني ولاية على ما تناوله. فصل:


وإن أجر عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها, صح العتق ولم يبطل عقد الإجارة في قياس المذهب, ولا يرجع العبد على مولاه بشيء وهذا جديد قولي الشافعي وقال في القديم: يرجع على مولاه بأجر المثل لأن المنافع تستوفى منه بسبب كان من جهة السيد فرجع به عليه كما لو أكرهه بعد عتقه على ذلك العمل ولنا أنها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق, فلم يرجع ببدلها كما لو زوج أمته ثم أعتقها بعد دخول الزوج بها فإن ما يستوفيه السيد لا يرجع به عليه ويخالف المكره فإنه تعدى بذلك, وقال أبو حنيفة: للعبد الخيار في الفسخ أو الإمضاء كالصبي إذا بلغ للمعنى الذي ذكره ثم ولنا, أنه عقد لازم عقده على ما يملكه فلا ينفسخ بالعتق ولا يزول ملكه عنه, كما لو زوج أمته ثم باعها إذا ثبت هذا فإن نفقة العبد إن كانت مشروطة على المستأجر فهي عليه كما كانت وإن لم تكن مشروطة عليه, فهي على معتقه لأنه كالباقي على ملكه بدليل أنه يملك عوض نفعه ولأن العبد لا يقدر على نفقة نفسه لأنه مشغول بالإجارة ولا على المستأجر لأنه استحق منفعته بعوض غير نفقته, لم يبق إلا أنها على المولى. فصل:


إذا أجر عينا ثم باعها صح البيع, نص عليه أحمد سواء باعها للمستأجر أو لغيره وبهذا قال الشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر: إن باعها لغير المستأجر, لم يصح البيع لأن يد المستأجر حائلة تمنع التسليم إلى المشتري فمنعت الصحة كما في بيع المغصوب ولنا أن الإجارة عقد على المنافع, فلم تمنع الصحة كما لو زوج أمته ثم باعها وقولهم: يد المستأجر حائلة دون التسليم لا يصح لأن يد المستأجر إنما هي على المنافع, والبيع على الرقبة فلا يمنع ثبوت اليد على أحدهما تسليم الآخر كما لو باع الأمة المزوجة ولئن منعت التسليم في الحال, فلا تمنع في الوقت الذي يجب التسليم فيه وهو عند انقضاء الإجارة ويكفي القدرة على التسليم حينئذ, كالمسلم فيه وقال أبو حنيفة: البيع موقوف على إجازة المستأجر فإن أجازه جاز وبطلت الإجارة وإن رده بطل ولنا أن البيع على غير المعقود عليه في الإجارة, فلم تعتبر إجازته كبيع الأمة المزوجة إذا ثبت هذا فإن المشتري يملك المبيع مسلوب المنفعة إلى حين انقضاء الإجارة, ولا يستحق تسليم العين إلا حينئذ لأن تسليم العين إنما يراد لاستيفاء نفعها ونفعها إنما يستحقه إذا انقضت الإجارة فيصير هذا بمنزلة من اشترى عينا في مكان بعيد, فإنه لا يستحق تسليمها إلا بعد مضي مدة يمكن إحضارها فيها كالمسلم إلى وقت لا يستحق تسلم المسلم فيه إلا في وقته فإن لم يعلم المشتري بالإجارة فله الخيار بين الفسخ وإمضاء البيع بكل الثمن لأن ذلك عيب ونقص. فصل:


فإن اشتراها المستأجر, صح البيع أيضا لأنه يصح بيعها لغيره فله أولى لأن العين في يده وهل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان أحدهما, لا تبطل لأنه ملك المنفعة بعقد ثم ملك الرقبة المسلوبة بعقد آخر فلم يتنافيا, كما يملك الثمرة بعقد ثم يملك الأصل بعقد آخر ولو أجر الموصى له بالمنفعة مالك الرقبة صحت الإجارة, فدل على أن ملك المنفعة لا ينافي العقد على الرقبة وكذلك لو استأجر المالك العين المستأجرة من مستأجرها جاز فعلى هذا يكون الأجر باقيا على المشتري وعليه الثمن, ويجتمعان للبائع كما لو كان المشتري غيره والثاني تبطل الإجارة فيما بقي من المدة لأنه عقد على منفعة العين فبطل ملك العاقد للعين, كالنكاح فإنه لو تزوج أمة ثم اشتراها, بطل نكاحه ولأن ملك الرقبة يمنع ابتداء الإجارة فمنع استدامتها, كالنكاح فعلى هذا يسقط عن المشتري الأجر فيما بقي من مدة الإجارة كما لو بطلت الإجارة بتلف العين وإن كان المؤجر قد قبض الأجر كله, حسب عليه باقي الأجر من الثمن. فصل:


وإن ورث المستأجر العين المستأجرة فالحكم فيه كما لو اشتراها في بطلان الإجارة أو بقائها, إلا أنه لا فرق في الحكم بين فسخ الإجارة وبقائها فلو استأجر إنسان من أبيه دارا ثم مات أبوه, وخلف ابنين أحدهما هو المستأجر فإن الدار تكون بينهما نصفين, والمستأجر أحق بها لأن النصف الذي لأخيه الإجارة باقية فيه والنصف الذي ورثه يستحقه إما بحكم الملك, وإما بحكم الإجارة وما عليه من الأجر بينهما نصفين وإن كان أبوه قد قبض الأجر لم يرجع بشيء منه على أخيه ولا تركة أبيه ويكون ما خلفه أبوه بينهما نصفين لأنه لو رجع بشيء أفضى إلى أن يكون قد ورث النصف بمنفعته, وورث أخوه نصفا مسلوب المنفعة والله سبحانه قد سوى بينهما في الميراث ولأنه لو رجع بنصف أجر النصف الذي انتقضت الإجارة فيه لوجب أن يرجع أخوه بنصف المنفعة التي انتقضت الإجارة فيها إذ لا يمكن أن يجمع له بين المنفعة وأخذ عوضها من غيره. فصل:


وإن اشترى المستأجر العين, ثم وجدها معيبة فردها فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة بالبيع فهي باقية بعد رد العين كما كانت قبل البيع وإن قلنا: قد انفسخت فالحكم فيها كما لو انفسخت بتلف العين وإن كان المشتري أجنبيا, فرد المستأجر الإجارة لعيب فينبغي أن تعود المنفعة إلى البائع لأنه يستحق عوضها على المستأجر فإذا سقط العوض, عاد إليه المعوض ولأن المشتري ملك العين مسلوبة المنفعة مدة الإجارة فلا يرجع إليه, ما لم يملكه وقال بعض أصحاب الشافعي: يرجع إلى المشتري لأن المنفعة تابعة للرقبة وإنما استحقت بعقد الإجارة فإذا زالت عادت إليه, كما لو اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج ولا يصح هذا القياس فإن منفعة البضع قد استقر عوضها للبائع بمجرد دخول الزوج بها ولا ينقسم العوض على المدة, ولهذا لا يرجع الزوج بشيء من الصداق فيما إذا انفسخ النكاح أو وقع الطلاق بخلاف الأجر في الإجارة فإن المؤجر يستحق الأجر في مقابلة المنفعة مقسوما على مدتها فإذا كان له عوض المنفعة المستقبلة, فزال بالفسخ رجع إليه معوضها وهو المنفعة ولأن منفعة البضع لا يجوز أن تملك بغير ملك الرقبة أو النكاح, فلو رجعت إلى البائع لملكت بغيرهما ولأنها مما لا يجوز للزوج نقلها إلى غيره ولا المعاوضة عنها, ومنفعة البدن بخلافها. فصل:


وإذا وقعت الإجارة على عين مثل أن يستأجر عبدا للخدمة أو لرعاية الغنم, أو جملا للحمل أو للركوب فتلفت انفسخ العقد بتلفها وإن خرجت مستحقة, تبينا أن العقد باطل وإن وجد بها عيبا فردها انفسخ العقد ولم يملك إبدالها لأن العقد على معين, فثبتت هذه الأحكام كما لو اشترى عينا وإن وقعت على عين موصوفة في الذمة انعكست هذه الأحكام, فمتى سلم إليه عينا فتلفت لم تنفسخ الإجارة ولزم المؤجر إبدالها وإن خرجت مغصوبة, لم يبطل العقد ولزمه بدلها وإن وجد بها عيبا فردها فكذلك لأن المعقود عليه غير هذه العين, وهذه بدل عنه فلم يؤثر تلفها ولا غصبها, ولا ردها بعيب في إبطال العقد كما لو اشترى بثمن في الذمة على ما قرر في موضعه فإن قيل: فقد قلتم في من اكترى جملا ليركبه جاز أن يركبه من هو مثله ولو اكترى أرضا لزرع شيء بعينه, جاز له زرع ما هو مثله أو دونه في الضرر فلم قلتم: إذا اكترى جملا بعينه لا يجوز أن يبدله؟ قلنا: لأن المعقود عليه منفعة العين فلم يجز أن يدفع إليه غير المعقود عليه, كما لو اشترى عينا لا يجوز أن يأخذ غيرها والراكب غير معقود عليه إنما هو مستوف للمنفعة وإنما تشترط معرفته لتقدر به المنفعة, لا لكونه معقودا عليه وكذلك الزرع في الأرض فإنما يعين ليعرف به قدر المنفعة المستوفاة فيجوز الاستيفاء بغيرها, كما لو وكل المشتري غيره في استيفاء المبيع ألا ترى أنه لو تلف البعير أو الأرض انفسخت الإجارة, ولو مات الراكب أو تلف البذر لم تنفسخ الإجارة, وجاز أن يقوم غيره مقامه فافترقا. مسألة:


قال: [ ومن استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره إذا كان يقوم مقامه ] وجملته أن من استأجر عقارا للسكنى, فله أن يسكنه ويسكن فيه من شاء ممن يقوم مقامه في الضرر أو دونه, ويضع فيه ما جرت عادة الساكن به من الرحال والطعام ويخزن فيها الثياب وغيرها مما لا يضر بها, ولا يسكنها ما يضر بها مثل القصارين والحدادين لأن ذلك يضر بها ولا يجعل فيها الدواب لأنها تروث فيها وتفسدها ولا يجعل فيها السرجين ولا رحى ولا شيئا يضر بها ولا يجوز أن يجعل فيها شيئا ثقيلا فوق سقف لأنه يثقله ويكسر خشبه ولا يجعل فيها شيئا يضر بها, إلا أن يشترط ذلك وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وإنما كان كذلك لأن له استيفاء المعقود عليه بنفسه ونائبه والذي يسكنه نائب عنه في استيفاء المعقود عليه, فجاز كما لو وكل وكيلا في قبض المبيع أو دين له ولم يملك فعل ما يضر بها لأنه فوق المعقود عليه, فلم يكن له فعله كما لو اشترى شيئا لم يملك أخذ أكثر منه فأما أن يجعل الدار مخزنا للطعام فقد قال أصحابنا: يجوز ذلك لأنه يجوز أن يجعلها مخزنا لغيره ويحتمل أن لا يجوز لأن ذلك يفضي إلى تحريق النار أرضها وحيطانها, وذلك ضرر لا يرضى به صاحب الدار. فصل:


وإذا اكترى دارا جاز إطلاق العقد ولم يحتج إلى ذكر السكنى, ولا صفتها وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور: لا يجوز حتى يقول: أبيت تحتها أنا وعيالي لأن السكنى تختلف, ولو اكتراها ليسكنها فتزوج امرأة لم يكن له أن يسكنها معه ولنا أن الدار لا تكترى إلا للسكنى, فاستغنى عن ذكره كإطلاق الثمن في بلد فيه نقد معروف به والتفاوت في السكنى يسير, فلم يحتج إلى ضبطه وما ذكره لا يصح فإن الضرر لا يكاد يختلف بكثرة من يسكن وقلتهم ولا يمكن ضبط ذلك, فاجتزئ فيه بالعرف كما في دخول الحمام وشبهه ولو اشترط ما ذكره لوجب أن يذكر عدد السكان, وأن لا يبيت عنده ضيف ولا زائر ولا غير من ذكره ولكان ينبغي أن يعلم صفة الساكن, كما يعلم ذلك فيما إذا اكترى للركوب. فصل:


وإذا اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه, ولا يركبه من هو أثقل منه لأن العقد اقتضى استيفاء منفعة مقدرة بذلك الراكب فله أن يستوفي ذلك بنفسه ونائبه وله أن يستوفي أقل منه لأنه يستوفي بعض ما يستحقه, وليس له استيفاء أكثر منه لأنه لا يملك أكثر مما عقد عليه ولا يشترط التساوي في الطول والقصر ولا المعرفة بالركوب وقال القاضي: يشترط أن يكون مثله في هذه الأوصاف كلها لأن قلة المعرفة بالركوب تثقل على المركوب وتضر به قال الشاعر: لم يركبوا الخيل إلا بعد ما كبروا ** فهم ثقال على أعجازها عنف ولنا أن التفاوت في هذه الأمور بعد التساوي في الثقل يسير, فعفي عنه ولهذا لا يشترط ذكره في الإجارة ولو اعتبر ذلك لاشترطت معرفته في الإجارة, كالثقل والخفة. فصل:


فإن شرط أن لا يستوفى في المنفعة بمثله ولا بمن هو دونه فقياس قول أصحابنا صحة العقد, وبطلان الشرط فإن القاضي قال فيمن شرط أن يزرع في الأرض حنطة ولا يزرع غيرها: يبطل الشرط, ويصح العقد ويحتمل أن يصح الشرط وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به ولأنه قد يكون له غرض في تخصيصه باستيفاء هذه المنفعة, وقالوا في الوجه الآخر: يبطل الشرط لأنه ينافي موجب العقد إذ موجبه ملك المنفعة والتسلط على استيفائها بنفسه وبنائبه, واستيفاء بعضها بنفسه وبعضها بنائبه والشرط ينافي ذلك, فكان باطلا وهل يبطل به العقد؟ فيه وجهان أصحهما لا يبطله لأنه لا يؤثر في حق المؤجر نفعا ولا ضرا, فألغي وبقي العقد على مقتضاه والآخر يبطله لأنه ينافي مقتضاه فأشبه ما لو شرط أن لا يستوفي المنافع. فصل:


ويجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد وهو قول سعيد بن المسيب, وابن سيرين ومجاهد وعكرمة, وأبي سلمة بن عبد الرحمن والنخعي والشعبي, والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يجوز لأن النبي -ﷺ- نهى عن ربح ما لم يضمن والمنافع لم تدخل في ضمانه ولأنه عقد على ما لم يدخل في ضمانه, فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه والأول أصح لأن قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يجوز التصرف فيها, فجاز العقد عليها كبيع الثمرة على الشجرة ويبطل قياس الرواية الأخرى لهذا الأصل إذا ثبت هذا فإنه لا تجوز إجارته إلا لمن يقوم مقامه أو دونه في الضرر لما تقدم فأما إجارتها قبل قبضها فلا تجوز من غير المؤجر, في أحد الوجهين وهذا قول أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي لأن المنافع مملوكة بعقد معاوضة فاعتبر في جواز العقد عليها القبض, كالأعيان والآخر يجوز وهو قول بعض الشافعية لأن قبض العين لا ينتقل به الضمان إليه, فلم يقف جواز التصرف عليه فأما إجارتها قبل القبض من المؤجر فإذا قلنا: لا يجوز من غير المؤجر كان فيها ها هنا وجهان أحدهما لا يجوز لأنه عقد عليها قبل قبضها والثاني يجوز لأن القبض لا يتعذر عليه بخلاف الأجنبي وأصلهما بيع الطعام قبل قبضه لا يصح من غير بائعه, رواية واحدة وهل يصح من بائعه؟ على روايتين فأما إجارتها بعد قبضها من المؤجر فجائزة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأن ذلك يؤدي إلى تناقض الأحكام لأن التسليم مستحق على الكراء, فإذا اكتراها صار مستحقا له فيصير مستحقا لما يستحق عليه وهذا تناقض ولنا أن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز مع العاقد, كالبيع وما ذكروه لا يصح لأن التسليم قد حصل وهذا المستحق له تسليم آخر ثم يبطل بالبيع, فإنه يستحق عليه تسليم العين فإذا اشتراها استحق تسليمها فإن قيل: التسليم ها هنا مستحق في جميع المدة بخلاف البيع قلنا المستحق تسليم العين, وقد حصل وليس عليه تسليم آخر غير أن العين من ضمان المؤجر فإذا تعذرت المنافع بتلف الدار أو غصبها, رجع عليه لأنها تعذرت بسبب كان في ضمانه. فصل:


ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجر وزيادة نص عليه أحمد وروي ذلك عن عطاء والحسن, والزهري وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد, أنه إن أحدث في العين زيادة جاز له أن يكريها بزيادة وإلا لم تجز الزيادة, فإن فعل تصدق بالزيادة روى هذا الشعبي وبه قال الثوري وأبو حنيفة لأنه يربح بذلك فيما لم يضمن, وقد نهى النبي -ﷺ- عن ربح ما لم يضمن ولأنه يربح فيما لم يضمن فلم يجز كما لو ربح في الطعام قبل قبضه ويخالف ما إذا عمل عملا فيها لأن الربح في مقابلة العمل وعن أحمد, رواية ثالثة إن أذن له المالك في الزيادة جاز وإلا لم يجز وكره ابن المسيب, وأبو سلمة وابن سيرين ومجاهد, وعكرمة والشعبي والنخعي, الزيادة مطلقا لدخولها في ربح ما لم يضمن ولنا أنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه, وكما لو أحدث عمارة لا يقابلها جزء من الأجر وأما الخبر فإن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه, فإنها لو فاتت من غير استيفائه كانت من ضمانه ولا يصح القياس على بيع الطعام قبل قبضه فإن البيع ممنوع منه بالكلية سواء ربح أو لم يربح, وها هنا جائز في الجملة وتعليلهم بأن الربح في مقابلة عمله ملغي بما إذا كنس الدار ونظفها فإن ذلك يزيد في أجرها في العادة. فصل:


ونقل الأثرم عن أحمد أنه سأله عن الرجل يتقبل العمل من الأعمال, فيقبله بأقل من ذلك أيجوز له الفضل؟ قال: ما أدري هي مسألة فيها بعض الشيء قلت: أليس كان الخياط أسهل عندك, إذا قطع الثوب أو غيره إذا عمل في العمل شيئا؟ قال: إذا عمل عملا فهو أسهل قال النخعي: لا بأس أن يتقبل الخياط الثياب بأجر معلوم ثم يقبلها بعد ذلك بعد أن يعين فيها, أو يقطع أو يعطيه سلوكا أو إبرا أو يخيط فيها شيئا, فإن لم يعن فيها بشيء فلا يأخذن فضلا وهذا يحتمل أن يكون النخعي قاله مبنيا على مذهبه في أن من استأجر شيئا لا يؤجره بزيادة وقياس المذهب جواز ذلك سواء أعان فيها بشيء أو لم يعن لأنه إذا جاز أن يقبله بمثل الأجر الأول أو دونه, جاز بزيادة عليه كالبيع وكإجارة العين. فصل:


وكل عين استأجرها لمنفعة ، فله أن يستوفي مثل تلك المنفعة وما دونها في الضرر . وقال أحمد : إذا استأجر دابة ، ليحمل عليها تمرا . فحمل عليها حنطة ، أرجو أن لا يكون به بأس ، إذا كان الوزن واحدا . فإن كانت المنفعة التي يستوفيها أكثر ضررا ، أو مخالفة للمعقود عليها في الضرر ، لم يجز ؛ لأنه يستوفي أكثر من حقه ، أو غير ما يستحقه ، فإذا اكترى دابة ، ليحمل عليها حديدا ، لم يحمل عليها قطنا ، لأنه يتجافى ، وتهب فيه الريح ، فيتعب الظهر وإن اكتراها لحمل القطن ، لم يجز أن يحمل الحديد ؛ لأنه يجتمع في موضع واحد ، فيثقل عليه ، والقطن يتفرق ، فيقل ضرره . وإن اكتراه ليركبه ، لم يجز أن يحمل عليه ؛ لأن الراكب يعين الظهر بحركته . وإن اكتراه ليحمل عليه ، لم يجز أن يركبه ؛ لأن الراكب يقعد في موضع واحد ، فيشتد على الظهر ، والمتاع يتفرق على جنبيه وإن اكتراه ليركبه عريا ، لم يجز أن يركبه بسرج ؛ لأنه يحمل عليه أكثر مما عقد عليه . وإن اكتراه ليركبه بسرج ، لم يجز أن يركبه عريا ؛ لأنه إذا ركب عليه من غير سرج حمي ظهره ، فربما عقره . وإن اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه بأكثر منه . فلو اكترى حمارا بسرج لم يجز أن يركبه بسرج البرذون ، إذا كان أثقل من سرجه . وإن اكترى دابة بسرج ، فركبها بإكاف أثقل منه ، أو أضر ، لم يجز ، وإن كان أخف ، وأقل ضررا ، فلا بأس ومتى فعل ما ليس له فعله ، كان ضامنا ، وعليه الأجر . وهذا كله مذهب الشافعي ، وأبي ثور . فصل:


وإن اكترى دابة ليركبها في مسافة معلومة, أو يحمل عليها فيها فأراد العدول بها إلى ناحية أخرى مثلها في القدر أضر منها أو تخالف ضررها, بأن تكون إحداهما أحسن والأخرى أخوف لم يجز وإن كان مثلها في السهولة والحزونة والأمن أو التي يعدل إليها أقل ضررا, فذكر القاضي أنه يجوز وهو قول أصحاب الشافعي لأن المسافة عينت ليستوفي بها المنفعة ويعلم قدرها بها فلم تتعين, كنوع المحمول والراكب ويقوى عندي أنه متى كان للمكري غرض في تلك الجهة المعينة لم يجز العدول إلى غيرها, مثل من يكري جماله إلى مكة فيحج معها فلا يجوز له أن يذهب بها إلى غيرها ولو أكراها إلى بغداد لكون أهله بها, أو ببلد العراق لم يجز الذهاب بها إلى مصر ولو أكرى جماله جملة إلى بلد لم يجز للمستأجر التفريق بينها بالسفر ببعضها إلى جهة, وبباقيها إلى جهة أخرى وذلك لأنه عين المسافة لغرض في فواته ضرر فلم يجز تفويته كما في حق المكتري فإنه لو أراد حمله إلى غير المكان الذي اكترى إليه لم يجز, وكما لو عين طريقا سهلا أو آمنا فأراد سلوك ما يخالفه في ذلك. فصل:


ويجوز أن يكتري قميصا ليلبسه لأنه يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ويجوز بيعه, فجازت إجارته كالعقار ولا بد من تقدير المنفعة بالمدة وإن كانت عادة أهل بلده نزع ثيابهم عند النوم في الليل فعليه نزعه في ذلك لأن الإطلاق يحمل على المعتاد, وله لبسه فيما سوى ذلك وإن نام نهارا لم يكن عليه نزعه لأنه العرف ويلبس القميص على ما جرت العادة به ولا يجوز أن يتزر به لأنه يعتمد عليه فيشقه وفي اللبس لا يعتمد ويجوز أن يرتدي به لأنه أخف ومن ملك شيئا, ملك ما هو أخف منه وقيل فيه وجه آخر أنه لا يجوز لأنه استعمال لم تجر العادة به في القميص أشبه الاتزار به. فصل:


وإن استأجر أرضا صح لما تقدم, ولا يصح حتى يرى الأرض لأن المنفعة تختلف باختلافها ولا تعرف إلا بالرؤية لأنها لا تنضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر ما يكترى له من زرع أو غرس أو بناء لأن الأرض تصلح لهذا كله, وتأثيره في الأرض يختلف فوجب بيانه فإن قال: أجرتكها لتزرعها أو تغرسها لم يصح لأنه لم يعين أحدهما فأشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين, وإن قال: لتزرعها ما شئت أو تغرسها ما شئت صح وهذا منصوص الشافعي وخالفه أكثر أصحابه فقالوا: لا يجوز لأنه لا يدري كم يزرع ويغرس وقال بعضهم: يصح, ويزرع نصفها ويغرس نصفها ولنا أن العقد اقتضى إباحة هذين الشيئين فصح, كما لو قال: لتزرعها ما شئت ولأن اختلاف الجنسين كاختلاف النوعين وقوله: لتزرعها ما شئت إذن في نوعين وأنواع وقد صح, فكذلك في الجنسين وله أن يغرسها كلها وإن أحب زرعها, كلها كما لو أذن له في أنواع الزرع كله كان له زرع جميعها نوعا واحدا, وله زرعها من نوعين كذلك ها هنا وإن أكراها للزرع وحده ففيه أربع مسائل: إحداهن, أكراها للزرع مطلقا أو قال: لتزرعها ما شئت فإنه يصح وله زرع ما شاء وهذا مذهب الشافعي وحكي عن ابن سريج أنه لا يصح حتى يتبين الزرع لأن ضرره يختلف, فلم يصح بدون البيان كما لو لم يذكر ما يكترى له من زرع أو غرس أو بناء ولنا أنه يجوز استئجارها لأكثر الزرع ضررا ويباح له جميع الأنواع لأنها دونه, فإذا عمم أو أطلق تناول الأكثر وكان له ما دونه, ويخالف الأجناس المختلفة فإنه لا يدخل بعضها في بعض فإن قيل: فلو اكترى دابة للركوب لوجب تعيين الراكب قلنا: لأن إجارة المركوب لأكثر الركاب ضررا لا تجوز بخلاف المزروع, ولأن للحيوان حرمة في نفسه فلم يجز إطلاق ذلك فيه بخلاف الأرض فإن قيل: فلو استأجر دارا للسكنى مطلقا, لم يجز أن يسكنها من يضر بها كالقصار والحداد فلم قلتم إنه يجوز أن يزرعها ما يضر بها؟ قلنا السكنى لا تقتضي ضررا, فلذلك منع من إسكان من يضر بها لأن العقد لم يقتضه والزرع يقتضي الضرر فإذا أطلق كان راضيا بأكثره, فلهذا جاز وليس له أن يغرس في هذه الأرض ولا يبني لأن ضرره أكثر من المعقود عليه المسألة الثانية أكراها لزرع حنطة, أو نوع بعينه فإن له زرع ما يعينه وما ضرره كضرره أو دونه ولا يتعين ما عينه في قول عامة أهل العلم إلا داود وأهل الظاهر, فإنهم قالوا: لا يجوز له زرع غير ما عينه حتى لو وصف الحنطة بأنها سمراء لم يجز له أن يزرع بيضاء لأنه عينه بالعقد, فلم يجز العدول عنه كما لو عين المركوب أو عين الدراهم في الثمن ولنا أن المعقود عليه منفعة الأرض دون القمح ولهذا يستقر عليه العوض بمضي المدة, إذا تسلم الأرض وإن لم يزرعها وإنما ذكر القمح لتقدر به المنفعة فلم يتعين, كما لو استأجر دارا ليسكنها كان له أن يسكنها غيره وفارق المركوب والدراهم في الثمن فإنهما معقود عليهما, فتعينا والمعقود عليه ها هنا منفعة مقدرة وقد تعينت أيضا ولم يتعين ما قدرت به, كما لا يتعين المكيال والميزان في المكيل والموزون المسألة الثالثة قال: ليزرعها حنطة وما ضرره كضررها, أو دونه فهذه كالتي قبلها إلا أنه لا مخالف فيها لأنه شرط ما اقتضاه الإطلاق وبين ذلك تصريح نصه, فزال الإشكال المسألة الرابعة قال: ليزرعها حنطة ولا يزرع غيرها فذكر القاضي أن الشرط باطل لأنه ينافي مقتضى العقد لأنه يقتضي استيفاء المنفعة كيف شاء, فلم يصح الشرط كما لو شرط عليه استيفاء المبيع بنفسه والعقد صحيح لأنه لا ضرر فيه, ولا غرض لأحد المتعاقدين لأن ما ضرره مثله لا يختلف في غرض المؤجر, فلم يؤثر في العقد فأشبه شرط استيفاء المبيع أو الثمن بنفسه وقد ذكرنا فيما إذا شرط مكتري الدار أنه لا يسكنها غيره وجها في صحة الشرط, ووجها آخر في فساد العقد فيخرج ها هنا مثله. فصل:


وإن أكراها للغراس ففيه ما ذكرنا من المسائل إلا أن له أن يزرعها لأن ضرر الزرع أقل من ضرر الغراس, وهو من جنسه لأن كل واحد منهما يضر بباطن الأرض وليس له البناء لأن ضرره مخالف لضرره فإنه يضر بظاهر الأرض وإن أكراها للزرع, لم يكن له الغرس ولا البناء لأن ضرر الغرس أكثر وضرر البناء مخالف لضرره وإن أكراها للبناء لم يكن له الغرس ولا الزرع لأن ضررهما يخالف ضرره. فصل:


ولا تخلو الأرض من قسمين أحدهما أن يكون له ماء دائم, إما من نهر لم تجر العادة بانقطاعه أو لا ينقطع إلا مدة لا يؤثر في الزرع أو من عين نابعة, أو بركة من مياه الأمطار يجتمع فيها ثم يسقي به أو من بئر يقوم بكفايتها أو ما يشرب بعروقه لنداوة الأرض, وقرب الماء الذي تحت الأرض فهذا كله دائم ويصح استئجارها للغرس والزرع بغير خلاف علمناه وكذلك الأرض التي تشرب من مياه الأمطار ويكتفى بالمعتاد منه لأن ذلك بحكم العادة, ولا ينقطع إلا نادرا فهو كسائر الصور المذكورة الثاني أن لا يكون لها ماء دائم وهي نوعان أحدهما ما يشرب من زيادة معتادة تأتي في وقت الحاجة, كأرض مصر الشاربة من زيادة النيل وما يشرب من زيادة الفرات وأشباهه وأرض البصرة الشاربة من المد والجزر, وأرض دمشق الشاربة من زيادة بردي أو ما يشرب من الأودية الجارية من ماء المطر فهذه تصح إجارتها قبل وجود الماء الذي تسقى به وبعده وحكى ابن الصباغ ذلك مذهبا للشافعي وقال أصحابه: إن أكراها بعد الزيادة صح, ولا يصح قبلها لأنها معدومة لا نعلم هل يقدر عليها أم لا ولنا أن هذا معتاد الظاهر وجوده, فجازت إجارة الأرض الشاربة به كالشاربة من مياه الأمطار ولأن ظن القدرة على التسليم في وقته يكفي في صحة العقد, كالسلم في الفاكهة إلى أوانها النوع الثاني أن يكون مجيء الماء نادرا أو غير ظاهر كالأرض التي لا يكفيها إلا المطر الشديد الكثير, الذي يندر وجوده أو يكون شربها من فيض واد مجيئه نادر أو من زيادة نادرة في نهر أو عين غالبة فهذه إن أجرها بعد وجود ماء يسقيها به, صح أيضا لأنه أمكن الانتفاع بها وزرعها فجازت إجارتها كذات الماء الدائم وإن أجرها قبله للغرس أو الزرع, لم يصح لأنه يتعذر الزرع غالبا ويتعذر المعقود عليه في الظاهر, فلم تصح إجارتها كالآبق والمغصوب وإن اكتراها على أنها لا ماء لها جاز لأنه تمكن من الانتفاع بها بالنزول فيها, ووضع رحله وجمع الحطب فيها وله أن يزرعها رجاء الماء وإن حصل له ماء قبل زرعها, فله زرعها لأن ذلك من منافعها الممكن استيفاؤها وليس له أن يبني ولا يغرس لأن ذلك يراد للتأبيد وتقدير الإجارة بمدة تقتضي تفريغها عند انقضائها فإن قيل: فلو استأجرها للغراس والبناء صح مع تقدير المدة قلنا: التصريح بالبناء والغراس صرف التقدير عن مقتضاه بظاهره في التفريغ عند انقضاء المدة, إلا أن يشترط قلع ذلك عند انقضاء المدة فيصرف الغراس والبناء عما يراد له بظاهره بخلاف مسألتنا وإن أطلق إجارة هذه الأرض, مع العلم بحالها وعدم مائها صح لأنهما دخلا في العقد على أنها لا ماء لها, فأشبه ما لو شرطاه وإن لم يعلم عدم مائها أو ظن المكتري أنه يمكن تحصيل ماء لها بوجه من الوجوه لم يصح العقد, ولأنه ربما دخل في العقد بناء على أن المالك لها يحصل لها ماء وأنه يكتريها للزراعة مع تعذرها وقيل: لا يصح العقد مع الإطلاق وإن علم حالها لأن إطلاق كراء الأرض يقتضي الزراعة والأولى صحته لأن العلم بالحال يقوم مقام الاشتراط كالعلم بالعيب يقوم مقام شرطه, ومتى كان لها ماء غير دائم أو الظاهر انقطاعه قبل الزرع أو لا يكفي الزرع فهي كالتي لا ماء لها, ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا. فصل:


وإن اكترى أرضا غارقة بالماء لا يمكن زرعها قبل انحساره عنها وقد ينحسر ولا ينحسر, فالعقد باطل لأن الانتفاع بها في الحال غير ممكن ولا يزول المانع غالبا وإن كان ينحسر عنها وقت الحاجة إلى الزراعة كأرض مصر في وقت مد النيل, صح العقد لأن المقصود متحقق بحكم العادة المستمرة وإن كانت الزراعة فيها ممكنة ويخاف غرقها والعادة غرقها, لم يجز إجارتها لأنها في حكم الغارقة بحكم العادة المستمرة. فصل:


ومتى غرق الزرع أو هلك ، بحريق أو جراد أو برد ، أو غيره ، فلا ضمان على المؤجر ، ولا خيار للمكتري . نص عليه أحمد . ولا نعلم فيه خلافا . وهو مذهب الشافعي ؛ لأن التالف غير المعقود عليه ، وإنما تلف مال المكتري فيه ، فأشبه من اشترى دكانا فاحترق متاعه فيه . ثم إن أمكن المكتري الانتفاع بالأرض بغير الزرع ، أو بالزرع في بقية المدة ، فله ذلك ، وإن تعذر ذلك ، فالأجر لازم له ؛ لأن تعذره لفوات وقت الزراعة بسبب غير مضمون على المؤجر ، لا لمعنى في العين وإن تعذر الزرع بسبب غرق الأرض ، أو انقطاع مائها ، فللمستأجر الخيار ؛ لأنه لمعنى في العين . وإن تلف الزرع بذلك ، فليس على المؤجر ضمانه ؛ لأنه لم يتلفه بمباشرة ولا بسبب . وإن قل الماء بحيث لا يكفي الزرع ، فله الفسخ ؛ لأنه عيب . فإن كان ذلك بعد الزرع ، فله الفسخ أيضا ، ويبقى الزرع في الأرض إلى أن يستحصد ، وعليه من المسمى بحصته إلى حين الفسخ ، وأجر المثل لما بقي من المدة لأرض لها مثل ذلك الماء وكذلك إن انقطع الماء بالكلية ، أو حدث بها عيب من غرق يهلك بعض الزرع ، أو يسوء حاله به . فصل:


وإذا استأجر أرضا للزراعة مدة فانقضت وفيها زرع لم يبلغ حصاده, لم يخل من حالين: أحدهما أن يكون لتفريط من المستأجر مثل أن يزرع زرعا لم تجر العادة بكماله قبل انقضاء المدة فحكمه حكم زرع الغاصب, يخير المالك بعد المدة بين أخذه بالقيمة أو تركه بالأجر لما زاد على المدة لأنه أبقى زرعه في أرض غيره بعدوانه وإن اختار المستأجر قطع زرعه في الحال وتفريغ الأرض, فله ذلك لأنه يزيل الضرر ويسلم الأرض على الوجه الذي اقتضاه العقد وذكر القاضي أن على المستأجر نقل الزرع وتفريغ الأرض, وإن اتفقا على تركه بعوض أو غيره جاز وهذا مذهب الشافعي بناء على قوله في الغاصب وقياس مذهبنا ما ذكرناه الحال الثاني أن يكون بقاؤه بغير تفريط, مثل أن يزرع زرعا ينتهي في المدة عادة فأبطأ لبرد أو غيره فإنه يلزم المؤجر تركه إلى أن ينتهي, وله المسمى وأجر المثل لما زاد وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الثاني قالوا: يلزمه نقله لأن المدة ضربت لنقل الزرع, فيلزم العمل بموجبه وقد وجد منه تفريط لأنه كان يمكنه أن يستظهر في المدة فلم يفعل ولنا أنه حصل الزرع في أرض غيره بإذنه, من غير تفريط فلزم تركه كما لو أعاره أرضا فزرعها, ثم رجع المالك قبل كمال الزرع وقولهم: إنه مفرط غير صحيح لأن هذه المدة التي جرت العادة بكمال الزرع فيها وفي زيادة المدة تفويت زيادة الأجر بغير فائدة وتضييع زيادة متيقنة لتحصيل شيء متوهم على خلاف العادة هو التفريط, فلم يكن تركه تفريطا ومتى أراد المستأجر زرع شيء لا يدرك مثله في مدة الإجارة فللمالك منعه لأنه سبب لوجود زرعه في أرضه بغير حق فملك منعه منه فإن زرع, لم يملك مطالبته بقلعه قبل المدة لأنه في أرض يملك نفعها ولأنه لا يملك ذلك بعد المدة فقبلها أولى ومن أوجب عليه قطعه بعد المدة قال: إذا لم يكن بد من المطالبة بالنقل, فليكن عند المدة التي يستحق تسليمها إلى المؤجر فارغة. فصل:


وإذا اكترى الأرض لزرع مدة لا يكمل فيها مثل أن يكتري خمسة أشهر لزرع لا يكمل إلا في سنة نظرنا فإن شرط تفريغها عند انقضاء المدة ونقله عنها, صح لأنه لا يفضي إلى الزيادة على مدته وقد يكون له غرض في ذلك لأخذه إياه قصيلا أو غيره, ويلزمه ما التزم وإن أطلق العقد ولم يشترط شيئا, احتمل أن يصح لأن الانتفاع بالزرع في هذه المدة ممكن واحتمل أنه إن أمكن أن ينتفع بالأرض في زرع ضرره كضرر الزرع المشروط أو دونه, مثل أن يزرعها شعيرا يأخذه قصيلا صح العقد لأن الانتفاع بها في بعض ما اقتضاه العقد ممكن وإن لم يكن كذلك لم يصح لأنه اكترى للزرع ما لا ينتفع بالزرع فيه, أشبه إجارة السبخة له فإن قلنا: يصح فإن انقضت المدة ففيه وجهان أحدهما حكمه حكم زرع المستأجر لما لا يكمل في مدته لأنه ها هنا مفرط واحتمل أن يلزم المكري تركه بالأجر لأن التفريط منه حيث أكراه مدة لزرع لا يكمل فيها وإن شرط تبقيته حتى يكمل فالعقد فاسد لأنه جمع بين متضادين فإن تقدير المدة يقتضي النقل فيها, وشرط التبقية يخالفه ولأن مدة التبقية مجهولة فإن زرع لم يطالب بنقله, كالتي تقدمت. فصل:


إذا أجره للغراس سنة صح لأنه يمكنه تسليم منفعتها المباحة المقصودة فأشبهت سائر المنافع, وسواء شرط قلع الغراس عند انقضاء المدة أو أطلق وله أن يغرس قبل انقضاء المدة فإذا انقضت, لم يكن له أن يغرس لزوال عقده فإذا انقضت السنة وكان قد شرط القلع عند انقضائها لزمه ذلك وفاء بموجب شرطه, وليس على صاحب الأرض غرامة نقصه ولا على المكتري تسوية الحفر وإصلاح الأرض لأنهما دخلا على هذا لرضاهما بالقلع, واشتراطهما عليه وإن اتفقا على إبقائه بأجر أو غيره جاز إذا شرطا مدة معلومة وكذلك لو اكترى الأرض سنة بعد سنة كلما انقضى عقد جدد آخر, جاز وإن أطلق العقد فللمكتري القلع لأن الغرس ملكه فله أخذه, كطعامه من الدار التي باعها وإذا قلع فعليه تسوية الحفر لأنه نقص دخل على ملك غيره بغير إذنه وهكذا إن قلعه قبل انقضاء المدة ها هنا وفي التي قبلها لأن القلع قبل الوقت لم يأذن فيه المالك, ولأنه تصرف في الأرض تصرفا نقصها لم يقتضه عقد الإجارة وإن أبى القلع لم يجبر عليه, إلا أن يضمن له المالك نقص غرسه فيجبر حينئذ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: عليه القلع من غير ضمان النقص له لأن تقدير المدة في الإجارة يقتضي التفريغ عند انقضائها, كما لو استأجرها للزرع ولنا قول النبي -ﷺ-: (ليس لعرق ظالم حق) مفهومه أن ما ليس بظالم له حق وهذا ليس بظالم ولأنه غرس بإذن المالك, ولم يشرط قلعه فلم يجبر على القلع من غير ضمان النقص كما لو استعار منه أرضا للغرس مدة فرجع قبل انقضائها, ويخالف الزرع فإنه لا يقتضي التأبيد فإن قيل: فإن كان إطلاق العقد في الغراس يقتضي التأبيد فشرط القلع ينافي مقتضى العقد فينبغي أن يفسده قلنا: إنما اقتضى التأبيد من حيث إن العادة في الغراس التبقية, فإذا أطلقه حمل على العادة وإذا شرط خلافه جاز, كما إذا باع بغير نقد البلد أو شرط في الإجارة شرطا يخالف العادة إذا ثبت هذا فإن رب الأرض يخير بين ثلاثة أشياء أحدها أن يدفع قيمة الغراس والبناء, فيملكه مع أرضه والثاني أن يقلع الغراس والبناء ويضمن أرش نقصه والثالث أن يقر الغراس والبناء, ويأخذ منه أجر المثل وبهذا قال الشافعي وقال مالك: يخير بين دفع قيمته فيملكه وبين مطالبته بالقلع من غير ضمان وبين تركه, فيكونان شريكين وليس بصحيح لأن الغراس ملك لغارسه لم يدفع إليه عنه عوض ولا رضي بزوال ملكه عنه فلا يزول عنه, كسائر الغرس وإن اتفقا على بيع الغراس والبناء للمالك جاز وإن باعهما صاحبهما لغير مالك الأرض جاز, ومشتريهما يقوم فيهما مقام البائع وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين: ليس له بيعهما لغير مالك الأرض لأن ملكه ضعيف بدليل أن لصاحب الأرض تملكه عليه بالقيمة من غير إذنه ولنا أنه مملوك له, يجوز بيعه لمالك الأرض فجاز لغيره كشقص مشفوع, وبهذا يبطل ما ذكروه فإن للشفيع تملك الشقص وشراءه ويجوز بيعه لغيره فأما إن شرط في العقد تبقية الغراس فذكر القاضي أنه صحيح, وحكمه حكم ما لو أطلق العقد سواء وهو قول أصحاب الشافعي ويحتمل أن يبطل العقد لأنه شرط ما ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في الزرع الذي لا يكمل قبل انقضاء المدة, ولأن الشرط باطل بدليل أنه لا يجب الوفاء به وهو مؤثر, فأبطله كشرط تبقية الزرع بعد مدة الإجارة. مسألة:


قال: [ ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته ] اختلفت الرواية عن أحمد في من استأجر أجيرا بطعامه وكسوته, أو جعل له أجرا وشرط طعامه وكسوته فروي عنه جواز ذلك وهو مذهب مالك, وإسحاق وروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى رضي الله عنهم أنهم استأجروا الأجراء بطعامهم وكسوتهم وروي عنه أن ذلك جائز في الظئر دون غيرها اختارها القاضي وهذا مذهب أبي حنيفة لأن ذلك مجهول وإنما جاز في الظئر, لقول الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فأوجب لهن النفقة والكسوة على الرضاع ولم يفرق بين المطلقة وغيرها بل في الآية قرينة تدل على طلاقها لأن الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية وإن لم ترضع لأن الله تعالى قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} والوارث ليس بزوج, ولأن المنفعة في الحضانة والرضاع غير معلومة فجاز أن يكون عوضها كذلك وروي عنه رواية ثالثة: لا يجوز ذلك بحال لا في الظئر ولا في غيرها وبه قال الشافعي وأبو يوسف, ومحمد وأبو ثور وابن المنذر لأن ذلك يختلف اختلافا كثيرا متباينا, فيكون مجهولا والأجر من شرطه أن يكون معلوما ولنا: ما روى ابن ماجه عن عتبة بن الندر, قال: (كنا عند رسول الله -ﷺ- فقرأ طس حتى بلغ قصة موسى قال: إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه, وطعام بطنه) وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي, أحطب لهم إذا نزلوا وأحدو بهم إذا ركبوا ولأن من ذكرنا من الصحابة وغيرهم فعلوه فلم يظهر له نكير, فكان إجماعا ولأنه قد ثبت في الظئر بالآية فيثبت في غيرها بالقياس عليها, ولأنه عوض منفعة فقام العرف فيه مقام التسمية كنفقة الزوجة, ولأن للكسوة عرفا وهي كسوة الزوجات وللإطعام عرف, وهو الإطعام في الكفارات فجاز إطلاقه كنقد البلد ونخص أبا حنيفة بأن ما كان عوضا في الرضاع جاز في الخدمة كالأثمان إذا ثبت هذا, فإنهما إن تشاحا في مقدار الطعام والكسوة رجع في القوت إلى الإطعام في الكفارة وفي الكسوة إلى أقل ملبوس مثله قال أحمد: إذا تشاحا في الطعام, يحكم له بمد كل يوم ذهب إلى ظاهر ما أمر الله تعالى من إطعام المساكين ففسرت ذلك السنة بأنه مد لكل مسكين ولأن الإطعام مطلق في الموضعين فما فسر به أحدهما يفسر به الآخر وليس له إطعام الأجير إلا ما يوافقه من الأغذية لأن عليه ضررا, ولا يمكنه استيفاء الواجب له منه. فصل:


وإن شرط الأجير كسوة ونفقة معلومة موصوفة كما يوصف في السلم جاز ذلك عند الجميع وإن لم يشترط طعاما ولا كسوة, فنفقته وكسوته على نفسه وكذلك الظئر قال ابن المنذر: لا أعلم عن أحد خلافا فيما ذكرت وإن شرط للأجير طعام غيره وكسوته موصوفا جاز لأنه معلوم أشبه ما لو شرط دراهم معلومة ويكون ذلك للأجير, إن شاء أطعمه وإن شاء تركه وإن لم يكن موصوفا لم يجز لأن ذلك مجهول, احتمل فيما إذا شرطه للأجير للحاجة إليه وجرت العادة به فلا يلزمه احتمالها مع عدم ذلك. ولو استأجر دابة بعلفها, أو بأجر مسمى وعلفها لم يجز لأنه مجهول ولا عرف له يرجع إليه, ولا نعلم أحدا قال بجوازه إلا أن يشترطه موصوفا فيجوز. فصل:


وإن استغنى الأجير عن طعام المؤجر بطعام نفسه, أو غيره أو عجز عن الأكل لمرض أو غيره لم تسقط نفقته, وكان له المطالبة بها لأنها عوض فلا تسقط بالغنى عنه كالدرهم وإن احتاج لدواء لمرضه, لم يلزم المستأجر ذلك لأنه لم يشرط له الإطعام إلا صحيحا لكن يلزمه له بقدر طعام الصحيح يشتري له الأجير ما يصلح له لأن ما زاد على طعام الصحيح لم يقع العقد عليه فلا يلزم به, كالزائد في القدر. فصل:


إذا دفع إليه طعامه فأحب الأجير أن يستفضل بعضه لنفسه نظرت فإن كان المؤجر دفع إليه أكثر من الواجب, ليأكل قدر حاجته ويفضل الباقي أو كان في تركه لأكله كله ضرر على المؤجر, بأن يضعف عن العمل أو يقل لبن الظئر منع منه لأنه في الصورة الأولى لم يملكه إياه, وإنما أباحه أكل قدر حاجته وفي الثانية على المؤجر ضرر بتفويت بعض ماله من منفعته فمنع منه, كالجمال إذا امتنع من علف الجمال وإن دفع إليه قدر الواجب من غير زيادة أو دفع إليه أكثر وملكه إياه, ولم يكن في تفضيله لبعضه ضرر بالمؤجر جاز لأنه حق لا ضرر على المؤجر فيه فأشبه الدراهم. فصل:


وإن قدم إليه طعاما, فنهب أو تلف قبل أكله نظرت فإن كان على مائدة لا يخصه فيها بطعامه فهو من ضمان المستأجر لأنه لم يسلمه إليه, فكان تلفه من ماله وإن خصه بذلك وسلمه إليه, فهو من ضمان الأجير لأنه تسليم عوض على وجه التمليك أشبه البيع. فصل:


إذا دفع إلى رجل ثوبا وقال: بعه بكذا, فما ازددت فهو لك صح نص عليه أحمد في رواية أحمد بن سعيد وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال ابن سيرين, وإسحاق وكرهه النخعي وحماد وأبو حنيفة, والثوري والشافعي وابن المنذر لأنه أجر مجهول, يحتمل الوجود والعدم ولنا ما روى عطاء عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل الرجل الثوب أو غير ذلك, فيقول: بعه بكذا وكذا فما ازددت فهو لك ولا يعرف له في عصره مخالف ولأنها عين تنمى بالعمل فيها أشبه دفع مال المضاربة إذا ثبت هذا, فإن باعه بزيادة فهي له لأنه جعلها أجرة وإن باعه بالقدر المسمى من غير زيادة, فلا شيء له لأنه جعل له الزيادة ولا زيادة ها هنا فهو كالمضارب إذا لم يربح وإن باعه بنقص عنه, لم يصح البيع لأنه وكيل مخالف وإن تعذر رده ضمن النقص وقد قال أحمد: يضمن النقصان مطلقا وهذا قد مضى مثله في الوكالة وإن باعه نسيئة لم يصح البيع لأن إطلاق البيع يقتضي النقد, لما في النسيئة من ضرر التأخير والخطر بالمال ليحصل له نفع الربح ويفارق المضارب على رواية حيث يجوز له البيع نساء لأنه يحصل لرب المال نفع بما يحصل من الربح في مقابلة ضرره بالنسيئة, وها هنا لا فائدة لرب المال في الربح بحال ولأن مقصود المضاربة تحصيل الربح وهو في النسيئة أكثر, وها هنا ليس مقصود رب المال الربح ولا حظ له فيه فلا فائدة له في النسيئة وقال أحمد, في رواية الأثرم: ليس له شيء يعني إذا زاد على العشرة لأن الإطلاق إنما اقتضى بيعها حالا فإذا باع نسيئة فلم يمتثل الأمر, فلم يستحق شيئا. فصل:


قال أحمد في رواية مهنا: لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل, بسدس ما يخرج منه وهو أحب إلى من المقاطعة إنما جاز ها هنا لأنه إذا شاهده فقد علمه بالرؤية وهي أعلى طرق العلم, ومن علم شيئا علم جزأه المشاع فيكون أجرا معلوما واختاره أحمد على المقاطعة مع أنها جائزة لأنه ربما لم يخرج من الزرع مثل الذي قاطعه عليه وها هنا يكون أقل منه ضرورة. مسألة: قال: [ وكذلك الظئر ] يعني أنه يجوز استئجارها بطعامها وكسوتها وقد ذكرنا ذلك, والخلاف فيه وأجمع أهل العلم على جواز استئجار الظئر وهي: المرضعة وهو في كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} واسترضع النبي -ﷺ- لولده إبراهيم ولأن الحاجة تدعو إليه فوق دعائها إلى غيره, فإن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاع وقد يتعذر رضاعه من أمه فجاز ذلك كالإجارة في سائر المنافع, ثم ننظر فإن استأجرها للرضاع دون الحضانة أو للحضانة دون الرضاع أو لهما, جاز وإن أطلق العقد على الرضاع فهل تدخل فيه الحضانة؟ فيه وجهان أحدهما لا تدخل وهو قول أبي ثور وابن المنذر لأن العقد ما تناولها والثاني: تدخل وهو قول أصحاب الرأي لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبي, فحمل الإطلاق على ما جرى به العرف والعادة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين والحضانة: تربية الصبي وحفظه, وجعله في سريره وربطه ودهنه, وكحله وتنظيفه وغسل خرقه, وأشباه ذلك واشتقاقه من الحضن وهو ما تحت الإبط وما يليه وسميت التربية حضانة تجوزا, من حضانة الظئر لبيضه وفراخه لأنه يجعلها تحت جناحيه فسميت تربية الصبي بذلك أخذا من فعل الطائر. فصل:


ويشترط لهذا العقد أربعة شروط أحدها أن تكون مدة الرضاع معلومة لأنه لا يمكن تقديره إلا بها فإن السقي والعمل فيها يختلف الثاني معرفة الصبي بالمشاهدة لأن الرضاع يختلف باختلاف الصبي, في كبره وصغره ونهمته وقناعته وقال القاضي: يعرف بالصفة كالراكب الثالث, موضع الرضاع لأنه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل عليها في بيتها الرابع, معرفة العوض وكونه معلوما كما سبق. فصل:


واختلف في المعقود عليه في الرضاع, فقيل: هو خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فمه واللبن تبع كالصبغ في إجارة الصباغ وماء البئر في الدار لأن اللبن عين من الأعيان, فلا يعقد عليه في الإجارة كلبن غير الآدمي وقيل: هو اللبن قال القاضي: هو أشبه لأنه المقصود دون الخدمة ولهذا لو أرضعته دون أن تخدمه, استحقت الأجرة ولو خدمته بدون الرضاع لم تستحق شيئا, ولأن الله تعالى قال: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} فجعل الأجر مرتبا على الإرضاع فيدل على أنه المعقود عليه ولأن العقد لو كان على الخدمة لما لزمها سقيه لبنها وأما كونه عينا, فإنما جاز العقد عليه في الإجارة رخصة لأن غيره لا يقوم مقامه والضرورة تدعو إلى استيفائه وإنما جاز هذا في الآدميين دون سائر الحيوان, للضرورة إلى حفظ الآدمي والحاجة إلى إبقائه. فصل:


وعلى المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر به لبنها ويصلح به, وللمكتري مطالبتها بذلك لأنه من تمام التمكين من الرضاع وفي تركه إضرار بالصبي ومتى لم ترضعه وإنما أسقته لبن الغنم, أو أطعمته فلا أجر لها لأنها لم توف المعقود عليه فأشبه ما لو اكتراها لخياطة ثوب, فلم تخطه وإن دفعته إلى خادمتها فأرضعته فكذلك وبه قال أبو ثور وقال أصحاب الرأي: لها أجرها لأن رضاعه حصل بفعلها ولنا أنها لم ترضعه فأشبه ما لو سقته لبن الغنم وإن اختلفا, فقالت: أرضعته فأنكر المسترضع فالقول قولها لأنها مؤتمنة. فصل:


ويجوز للرجل أن يؤجر أمته ومدبرته, وأم ولده ومن علق عتقها بصفة والمأذون لها في التجارة, للإرضاع لأنه عقد على منفعتها أشبه إجارتها للخدمة وليس لواحدة منهن إجارة نفسها لأن نفعها لسيدها وإن كان لها ولد لم تجز إجارتها للإرضاع, إلا أن يكون لبنها فضل عن ريه لأن الحق لولدها وليس لسيدها إلا ما فضل عنه وإن كانت مزوجة لم تجز إجارتها لذلك إلا بإذنه لأنه يفوت حق الزوج, لاشتغالها عنه بإرضاع الصبي وحضانته فإن أجرها للرضاع ثم زوجها صح النكاح, ولا ينفسخ عقد الإجارة ويكون للزوج أن يستمتع بها في حال فراغها من الرضاع والحضانة وقال مالك: ليس لزوجها وطؤها إلا برضى المستأجر لأنه ينقص اللبن وقد يقطعه ولنا أن وطء الزوج مستحق, فلا يسقط لأمر مشكوك فيه وليس للسيد إجارة مكاتبته لأن منافعها إليها ولذلك لم يملك سيدها تزويجها ولا وطأها, ولا إجارتها في غير الرضاع ولها أن تؤجر نفسها لأنه من جهات الاكتساب. فصل:


ويجوز للرجل استئجار أمه وأخته وابنته, لرضاع ولده وكذلك سائر أقاربه بغير خلاف وإن استأجر امرأته لرضاع ولده منها, جاز هذا الصحيح من مذهب أحمد وذكره الخرقي فقال: وإن أرادت الأم أن ترضعه بأجر مثلها فهي أحق به من غيرها, سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقته وقال القاضي: ليس لها ذلك وتأول كلام الخرقي على أنها في حبال زوج آخر وهذا قول أصحاب الرأي وحكي عن الشافعي لأنه قد استحق حبسها والاستمتاع بها بعوض فلا يجوز أن يلزمه عوض آخر لذلك ولنا أن كل عقد يصح أن تعقده مع غير الزوج يصح أن تعقده معه, كالبيع ولأن منافعها في الرضاع والحضانة غير مستحقة للزوج بدليل أنه لا يملك إجبارها على حضانة ولدها, ويجوز لها أن تأخذ عليها العوض من غيره فجاز لها أخذه منه كثمن مالها وقولهم: إنها استحقت عوض الحبس والاستمتاع قلنا: هذا غير الحضانة, واستحقاق منفعة من وجه لا يمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر كما لو استأجرها أولا ثم تزوجها وتأويل القاضي كلام الخرقي, يخالف الظاهر من وجهين أحدهما أن الألف واللام في الزوج للمعهود وهو زوجها أبو الطفل والثاني أنها إذا كانت في حبال زوج آخر لا تكون أحق به, بل يسقط حقها من الحضانة ثم ليس لها أن ترضع إلا بإذن زوجها ففسد التأويل. فصل:


وتنفسخ الإجارة بموت المرضعة لفوات المنفعة بهلاك محلها وحكي عن أبي بكر: أنها لا تنفسخ, ويجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لأنه كالدين ولنا أنه هلك المعقود عليه أشبه ما لو هلكت البهيمة المستأجرة وإن مات الطفل انفسخ العقد لأنه يتعذر استيفاء المعقود عليه لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه, لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم فإنه قد يدر على أحد الولدين دون الآخر وهذا منصوص الشافعي وإذا انفسخ العقد عقيبه, بطلت الإجارة من أصلها ورجع المستأجر بالأجر كله وإن كان في أثناء المدة, رجع بحصة ما بقي. مسألة:


قال: [ ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو أمة كما جاء في الخبر إذا كان المسترضع موسرا ] يعني بالخبر, ما روى أبو داود بإسناده عن هشام بن عروة, عن أبيه عن حجاج بن حجاج الأسلمي عن أبيه, قال: (قلت: يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: الغرة العبد أو الأمة) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح قال ابن الجوزي: المذمة بكسر الذال, من الذمام وبفتحها من الذم قال ابن عقيل: إنما خص الرقبة بالمجازاة بها دون غيرها لأن فعلها في إرضاعه وحضانته سبب حياته وبقائه وحفظ رقبته, فاستحب جعل الجزاء هبتها رقبة ليناسب ما بين النعمة والشكر ولهذا جعل الله تعالى المرضعة أما, فقال تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} وقال النبي -ﷺ-: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيعتقه) وإن كانت المرضعة مملوكة استحب إعتاقها لأنه يحصل أخص الرقاب بها, وتحصل به المجازاة التي جعلها النبي -ﷺ- مجازاة للوالد من النسب. مسألة:


قال: [ ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوزه فعليه الأجرة المذكورة, وأجرة المثل لما جاوزه وإن تلفت فعليه أيضا قيمتها ] الكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما:


في الأجر الواجب وهو المسمى, وأجر المثل للزائد نص عليه أحمد ولا خلاف فيه بين أصحابنا ذكر القاضي ذلك وروى الأثرم بإسناده عن أبي الزناد أنه ذكر فقهاء المدينة السبعة, وقال: ربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا فكان الذي وعيت عنهم على هذه الصفة, أن من اكترى دابة إلى بلد ثم جاوز ذلك إلى بلد سواه فإن الدابة إن سلمت في ذلك كله, أدى كراءها وكراء ما بعدها وإن تلفت في تعديه بها ضمنها وأدى كراءها الذي تكاراها به وهذا قول الحكم, وابن شبرمة والشافعي وقال الثوري وأبو حنيفة: لا أجر عليه لما زاد لأن المنافع عندهما لا تضمن في الغصب وحكي عن مالك أنه إذا تجاوز بها إلى مسافة بعيدة, يخير صاحبها بين أجر المثل وبين المطالبة بقيمتها يوم التعدي لأنه متعد بإمساكها حابس لها عن أسواقها فكان لصاحبها تضمينها إياه ولنا أن العين باقية بحالها, يمكن أخذها فلم تجب قيمتها كما لو كانت المسافة قريبة وما ذكره تحكم لا دليل عليه, ولا نظير له فلا يجوز المصير إليه وقد مضى الكلام مع أبي حنيفة في الغصب الفصل الثاني:


في الضمان ظاهر كلام الخرقي وجوب قيمتها إذا تلفت به, سواء تلفت في الزيادة أو بعد ردها إلى المسافة وسواء كان صاحبها مع المكتري, أو لم يكن وهذا ظاهر مذهب الفقهاء السبعة إذا تلفت حال التعدي لما حكينا عنهم وقال القاضي: إن كان المكتري نزل عنها وسلمها إلى صاحبها ليمسكها أو يسقيها, فتلفت فلا ضمان على المكتري وإن هلكت والمكتري راكب عليها, أو حمله عليها فعليه ضمانها وقال أبو الخطاب: إن كانت يد صاحبها عليها احتمل أن يلزم المكتري جميع قيمتها, واحتمل أن يلزمه نصف قيمتها وقال أصحاب الشافعي: إن لم يكن صاحبها معها لزم المكتري قيمتها كلها وإن كان معها فتلفت في يد صاحبها لم يضمنها المكتري لأنها تلفت في يد صاحبها, أشبه ما لو تلفت بعد مدة التعدي وإن تلفت تحت الراكب ففيه قولان أحدهما يلزمه نصف قيمتها لأنها تلفت بفعل مضمون وغير مضمون أشبه ما لو تلفت بجراحته وجراحة مالكها والثاني تقسط القيمة على المسافتين فما قابل مسافة الإجارة سقط, ووجب الباقي ونحو هذا قول أبي حنيفة فإنه قال: من اكترى جملا لحمل تسعة فحمل عشرة, فتلف فعلى المكتري عشر قيمته وموضع الخلاف في لزوم كمال القيمة إذا كان صاحبها مع راكبها أو تلفت في يد صاحبها فأما إذا تلفت حال التعدي, ولم يكن صاحبها مع راكبها فلا خلاف في ضمانها بكمال قيمتها لأنها تلفت في يد عادية فوجب ضمانها كالمغصوبة وكذلك إذا تلفت تحت الراكب, أو تحت حمله وصاحبها معها لأن اليد للراكب وصاحب الحمل بدليل أنهما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها, أو له عليها حمل والآخر آخذ بزمامها لكانت للراكب ولصاحب الحمل ولأن الراكب متعد بالزيادة, وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان كمن جلس إلى إنسان فحرق ثيابه وهو ساكت ولأنها إن تلفت بسبب تعبها فالضمان على المتعدي, كمن ألقى حجرا في سفينة موقرة فغرقها فأما إن تلفت في يد صاحبها بعد نزول الراكب عنها فينظر فإن كان تلفها بسبب تعبها بالحمل والسير فهو كما لو تلفت تحت الحمل والراكب, وإن تلفت بسبب آخر من افتراس سبع أو سقوط في هوة ونحو ذلك فلا ضمان فيها لأنها لم تتلف في يد عادية ولا بسبب عدوان وقولهم: تلفت بفعل مضمون وغير مضمون, أشبه ما لو تلفت بجراحتين يبطل بما إذا قطع السارق ثم قطع آخر يده عدوانا فمات منهما, وفارق ما إذا جرح نفسه وجرحه غيره لأن الفعلين عدوان فقسم الضمان عليهما. فصل:


ولا يسقط الضمان بردها إلى المسافة وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف, والشافعي وقال محمد: يسقط كما لو تعدى في الوديعة ثم ردها ولنا أنها يد ضامنة, فلا يزول الضمان عنها إلا بإذن جديد ولم يوجد وما ذكروه في الوديعة لا نسلمه إلا أن يردها إلى مالكها أو يجدد له إذنا. مسألة:


قال: [ وكذلك إن اكترى لحمولة شيء, فزاد عليه ] وجملة ذلك أن من اكترى لحمل شيء فزاد عليه مثل أن يكتريها لحمل قفيزين, فحمل ثلاثة فحكمه حكم من اكترى إلى موضع فجاوزه في وجوب الأجر, وأجر المثل لما زاد ولزوم الضمان إن تلفت هذا قول الشافعي وحكى القاضي أن قول أبي بكر في هذه المسألة وجوب أجر المثل في الجميع وأخذه من قوله في من استأجر أرضا ليزرعها شعيرا, فزرعها حنطة قال عليه أجر المثل للجميع لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره فأشبه ما لو استأجر أرضا, فزرع أخرى فجمع القاضي بين مسألة الخرقي ومسألة أبي بكر وقال: ينقل قول كل واحد من إحدى المسألتين إلى الأخرى لتساويهما في أن الزيادة لا تتميز, فيكون في المسألتين وجهان وليس الأمر كذلك فإن بين المسألتين فرقا ظاهرا فإن الذي حصل التعدي فيه في الحمل متميز عن المعقود عليه, وهو القفيز الزائد بخلاف الزرع ولأنه في مسألة الحمل استوفى المنفعة المعقود عليها وزاد, وفي الزرع لم يزرع ما وقع العقد عليه ولهذا علله أبو بكر بأنه عدل عن المعقود عليه ولا يصح هذا القول في مسألة الحمل, فإنه قد حمل المعقود عليه وزاد عليه بل إلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى مسافة فزاد عليها أشد وشبهها بها أشد, ولأنه في مسألة الحمل متعد بالزيادة وحدها وفي مسألة الزرع متعد بالزرع كله فأشبه الغاصب فأما مسألة الزرع فيما إذا اكترى أرضا ليزرع الشعير, فزرع حنطة فقد نص أحمد في رواية عبد الله, فقال: ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير فيعطي رب الأرض فجعل هذه المسألة كمسألتي الخرقي في إيجاب المسمى وأجر المثل للزائد ووجهه أنه لما عين الشعير, لم يتعين ولم يتعلق العقد بعينه كما سبق ذكره, ولهذا قلنا: له زرع مثله وما هو دونه في الضرر فإذا زرع حنطة فقد استوفى حقه وزيادة, أشبه ما لو اكتراها إلى موضع فجاوزه وقال أبو بكر: له أجر المثل وعلله بأنه عدل عن المعقود عليه فإن الحنطة ليست شعيرا وزيادة وإن قلنا: إنه قد استوفى المعقود عليه وزيادة غير أن الزيادة ليست متميزة عن المعقود عليه بخلاف مسألتي الخرقي وقال الشافعي: المكتري يخير بين أخذ الكراء وما نقصت الأرض عما ينقصها الشعير, وبين أخذ كراء مثلها للجميع لأن هذه المسألة أخذت شبها من أصلين: أحدهما إذا ركب دابة فجاز بها المسافة المشروطة لكونه استوفى المعقود عليه وزيادة والثاني إذا استأجر أرضا فزرع غيرها لأنه زرع متعديا فلهذا خيره بينهما ولأنه وجد سبب يقتضي كل واحد من الحكمين, وتعذر الجمع بينهما فكان له أوفرهما وفوض اختياره إلى المستحق كقتل العمد ومن نصر أبا بكر, قال: هذا متعد بالزرع كله فكان عليه أجر المثل كالغاصب, ولهذا يملك رب الأرض منعه من زرعه ويملك أخذه بنفقته إذا زرعه ويفارق من زاد على حقه زيادة متميزة فإنه غير متعد بالجميع, إنما تعدى بالزيادة وحدها ولهذا لا يملك المكري منعه من الجميع ونظير هاتين المسألتين من اكترى غرفة ليجعل فيها أقفزة حنطة, فترك فيها أكثر منها ومن اكتراها ليجعل فيها قنطارا من القطن فجعل فيها قنطارا من حديد, ففي الأولى له المسمى وأجر الزيادة وفي الثانية يخرج فيها من الخلاف مثل ما قلنا في مسألة الزرع وحكم المستأجر الذي يزرع أضر مما اكترى له حكم الغاصب, لرب الأرض منعه في الابتداء لما يلحقه من الضرر فإن زرع فرب الأرض مخير بين ترك الزرع بالأجر, وبين أخذه ودفع النفقة وإن لم يعلم حتى أخذ المستأجر زرعه فله الأجرة لا غير, على ما ذكرنا في باب الغصب. فصل:


وإن اكترى دابة إلى مسافة ، فسلك أشق منها ، فهي مثل مسألة الزرع ، يخرج فيها وجهان ، قياس المنصوص عن أحمد ، أن له الأجر المسمى وزيادة ، لكون المسافة لا تتعين على قول أصحابنا ، وقياس قول أبي بكر ، أن له أجر المثل ؛ لأن الزيادة غير متميزة ، ولأنه متعد بالجميع ، بدليل أن لرب الدابة منعه من سلوك تلك الطريق كلها ، بخلاف من سلك تلك الطريق وجاوز ، فإنه إنما يمنعه الزيادة لا غير . وإن اكترى لحمل قطن فحمل بوزنه حديدا ، أو لحمل حديد فحمل قطنا ، فالصحيح أن عليه أجر المثل هاهنا ؛ لأن ضرر أحدهما مخالف لضرر الآخر ، فلم يتحقق كون المحمول مشتملا على المستحق بعقد الإجارة وزيادة عليه ، بخلاف ما قبلها من المسائل . وسائر مسائل العدوان في الإجارة يقاس على ما ذكرنا من المسائل ما كان متميزا ، وما لم يكن متميزا فتلحق كل مسألة بنظيرتها والله أعلم. فصل:


إذا أكراه لحمل قفيزين فحملهما فوجدهما ثلاثة, فإن كان المكتري تولى الكيل ولم يعلم المكري بذلك فحكمه حكم من اكترى لحمولة شيء فزاد عليه وإن كان المكري تولى كيله وتعبئته ولم يعلم المكتري, فهو غاصب لا أجر له في حمل الزائد وإن تلفت دابته فلا ضمان لها لأنها تلفت بعدوان صاحبها وحكمه في ضمان الطعام, حكم من غصب طعام غيره وإن تولى ذلك أجنبي ولم يعلم المكري والمكتري فهو متعد عليهما, يلزمه لصاحب الدابة الأجر ويتعلق به الضمان ويلزمه لصاحب الطعام ضمان طعامه, وسواء كاله أحدهما ووضعه الآخر على ظهر الدابة أو كان الذي كاله وعبأه وضعه على ظهرها وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين: إذا كاله المكتري ووضعه المكري على ظهر البهيمة, لا ضمان على المكتري لأن المكري مفرط في حمله ولنا أن التدليس من المكتري إذ أخبره بكيلها على خلاف ما هو به فلزمه الضمان, كما لو أمر أجنبيا بتحميلها فأما إن كالها المكتري ورفعها المكري على الدابة عالما بكيلها لم يضمن المكتري دابته إذا تلفت لأنه فعل ذلك من غير تدليس ولا تغرير وهل له أجر القفيز الزائد؟ يحتمل وجهين أحدهما لا أجر له لأن المكتري لم يجعل له على ذلك أجرا والثاني له أجر الزائد, لأنهما اتفقا على حمله على سبيل الإجارة فجرى مجرى المعاطاة في البيع ودخول الحمام من غير تقدير أجره وإن كاله المكري وحمله المكتري على الدابة عالما بذلك من غير أن يأمره بحمله عليها, فعليه أجر القفيز الزائد وإن أمره بحمله عليها ففي وجوب الأجر وجهان كما لو حمله المكري عليها لأنه إذا أمر به كان ذلك كفعله, وإن كاله أحدهما وحمله أجنبي بأمره فهو كما لو حمله الذي كاله وإن كان بأمر الآخر, فهو كما لو حمله الآخر وإن حمله بغير أمرهما فهو كما لو كاله ثم حمله. مسألة:


قال: [ ولا يجوز أن يكتري مدة غزاته ] هذا قول أكثر أهل العلم, منهم الأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك: قد عرف وجه ذلك, وأرجو أن يكون حقيقا ولنا أن هذه إجارة في مدة مجهولة وعمل مجهول, فلم يجز كما لو اكتراها لمدة سفره في تجارته ولأن مدة الغزاة تطول وتقصر, ولا حد لها تعرف به والعمل فيها يقل ويكثر ونهاية سفرهم تقرب وتبعد, فلم يجز التقدير بها كغيرها من الأسفار المجهولة فإن فعل ذلك فله أجر المثل لأنه عقد على عوض لم يسلم له, لفساد العقد فوجب أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة. مسألة:


قال: [ فإن سمى لكل يوم شيئا معلوما, فجائز ] وجملته أن من اكترى فرسا مدة غزوه كل يوم بدرهم فالمنصوص عن أحمد صحته وقال الشافعي: هذا فاسد لأن مدة الإجارة مجهولة، ولنا أن عليا رضي الله عنه أجر نفسه كل دلو بتمرة وكذلك الأنصاري, ولم ينكره النبي -ﷺ- ولأن كل يوم معلوم مدته وأجرته فصح كما لو قال: أجرتكها شهرا, كل يوم بدرهم أو قال: استأجرتك لنقل هذه الصبرة كل قفيز بدرهم ولا بد من تعيين ما يستأجر له إما لركوب, أو حمل معلوم ويستحق الأجر المسمى لكل يوم سواء كانت مقيمة أو سائرة لأن المنافع ذهبت في مدته فأشبه ما لو اكترى دارا, فأغلقها ولم يسكنها وإن أجر نفسه لسقي نخل كل دلو بتمرة أو بفلس أو أجر معلوم جاز للأثر الوارد فيه ولأن كل عمل معلوم له عوض معلوم فجاز كما لو سمى دلاء معروفة، ولا بد من معرفة الدلو والبئر وما يستسقى به لأن العمل يختلف به. فصل:


ونقل أبو الحارث عن أحمد في رجل استأجر دابة في عشرة أيام, بعشرة دراهم فإن حبسها أكثر من ذلك فله بكل يوم درهم, فهو جائز ونقل ابن منصور عنه في من اكترى دابة من مكة إلى جدة بكذا فإن ذهب إلى عرفات بكذا, فلا بأس ونقل عبد الله عنه لو قال: أكريتكها بعشرة فما حبسها فعليه كل يوم عشرة وهذه الروايات تدل على أن مذهبه أنه متى قدر لكل عمل معلوم أجرا معلوما صح وتأول القاضي هذا كله على أنه يصح في الأول ويفسد في الثاني لأن مدته غير معلومة, فلم يصح العقد فيه كما لو قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة, بدرهم وما زاد فبحسبان ذلك والظاهر خلاف هذا فإن قوله: فهو جائز عاد إلى جميع ما ذكر قبله وكذلك قوله: لا بأس ولأن لكل عمل عوضا معلوما, فصح كما لو استقى له كل دلو بتمرة وقد ثبت الأصل بالخبر الوارد فيه, ومسألة الصبرة لا نص فيها عن الإمام وقياس نصوصه صحة الإجارة وإن سلم فسادها فلأن القفزان التي شرط حملها غير معلومة بتعيين ولا صفة, وهي مختلفة فلم يصح العقد لجهالتها بخلاف الأيام, فإنها معلومة. فصل:


وإن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فعن أحمد فيه روايتان إحداهما لا يصح, وله أجر المثل نقلها أبو الحارث عن أحمد وهذا مذهب مالك والثوري, والشافعي وإسحاق وأبي ثور لأنه عقد واحد, اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير فلم يصح كما لو قال: بعتك نقدا بدرهم أو بدرهمين نسيئة والثانية يصح وهو قول الحارث العكلي, وأبي يوسف ومحمد لأنه سمى لكل عمل عوضا معلوما فصح, كما لو قال: كل دلو بتمرة وقال أبو حنيفة: إن خاطه اليوم فله درهم وإن خاطه غدا لا يزاد على درهم ولا ينقص عن نصف درهم لأن المؤجر قد جعل له نصف درهم, فلا ينقص منه وهو قد رضي في أكثر العملين بدرهم فلا يزاد عنه وهذا لا يصح لأنه إن صح العقد فله المسمى, وإن فسد فوجوده كالعدم ويجب أجر المثل كسائر العقود الفاسدة. فصل:


وإن قال: إن خطته روميا فلك درهم, وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم ففيها وجهان بناء على التي قبلها والخلاف فيها كالتي قبلها إلا أن أبا حنيفة وافق صاحبيه في الصحة ها هنا ولنا أنه عقد معاوضة لم يتعين فيه العوض ولا المعوض فلم يصح كما لو قال: بعتك هذا بدرهم, أو هذا بدرهمين وفارق هذا " كل دلو بتمرة " من وجهين أحدهما أن العمل الثاني ينضم إلى العمل الأول ولكل واحد منهما عوض مقدر, فأشبه ما لو قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وها هنا الخياطة واحدة شرط فيها عوضا إن وجدت على صفة وعوضا آخر إن وجدت على أخرى, فأشبه ما لو باعه بعشرة صحاح أو أحد عشر مكسرة والثاني أنه وقف الإجارة على شرط بقوله: إن خطته كذا فلك كذا, وإن خطته كذا فلك كذا بخلاف قوله: كل دلو بتمرة. فصل:


فصل : ونقل مهنا ، عن أحمد في من استأجر من حمال إلى مصر بأربعين دينارا ، فإن نزل دمشق فكراؤه ثلاثون ، فإن نزل الرقة فكراؤه عشرون . فقال إذا اكترى إلى الرقة بعشرين ، واكترى إلى دمشق بعشرة ، واكترى إلى مصر بعشرة ، جاز ، ولم يكن للحمال أن يرجع . فظاهر هذا ، أنه لم يحكم بصحة العقد الأول ؛ لأنه في معنى بيعتين في بيعة ، لكونه خيره بين ثلاثة عقود . ويخرج فيه أن يصح بناء على المسألتين قبل هذا ونقل البرزاطي ، عن أحمد ، في رجل استأجر رجلا يحمل له كتابا إلى الكوفة ، وقال : إن وصلت الكتاب يوم كذا وكذا فلك عشرون ، وإن تأخرت بعد ذلك بيوم فلك عشرة . فالإجارة فاسدة ، وله أجر مثله . وهذا مثل الذي قبله . ونقل عبد الله ، في من اكترى دابة ، وقال : إن رددتها غدا فكراؤها عشرة ، وإن رددتها اليوم فكراؤها خمسة . فلا بأس . وهذه الرواية تدل على صحة الإجارة ، والظاهر عن أحمد ، في رواية الجماعة ، فيما ذكرنا ، فساد العقد ، وهو قياس بيعتين في بيعة . والله أعلم . فصل:


في مسائل الصبرة وفيها عشر مسائل أحدها, قال استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة إلى مصر بعشرة فالإجارة صحيحة بغير خلاف نعلمه لأن الصبرة معلومة بالمشاهدة التي يجوز بيعها بها فجاز الاستئجار عليها, كما لو علم كيلها الثانية قال: استأجرتك لتحملها لي كل قفيز بدرهم فيصح أيضا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يصح في قفيز ويبطل فيما زاد ومبنى الخلاف على الخلاف في بيعها, وقد ذكرناه الثالثة قال: لتحملها لي قفيزا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك فيجوز, كما لو قال: كل قفيز بدرهم وكذلك كل لفظ يدل على إرادة حمل جميعها كقوله: لتحمل منها قفيزا بدرهم وسائرها أو باقيها بحساب ذلك أو قال: وما زاد بحساب ذلك يريد به باقيها كله, إذا فهما ذلك من اللفظ لدلالته عندهما عليه أو لقرينة صرفت إليه الرابعة, قال: لتحمل منها قفيزا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك يريد مهما حملت من باقيها فلا يصح ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن المعقود عليه بعضها, وهو مجهول ويحتمل أن يصح لأنه في معنى كل دلو بتمرة الخامسة قال: لتنقل لي منها كل قفيز بدرهم فهي كالرابعة سواء السادسة قال: لتحمل منها قفيزا بدرهم, على أن تحمل الباقي بحساب ذلك فلا يصح لأنه في معنى بيعتين في بيعة ويحتمل أن يصح لأن معناه لتحمل لي كل قفيز منها بدرهم السابعة قال: لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وتنقل لي صبرة أخرى في البيت بحساب ذلك فإن كانا يعلمان الصبرة التي في البيت بالمشاهدة صح فيهما لأنهما كالصبرة الواحدة, وإن جهلها أحدهما صح في الأولى وبطل في الثانية لأنهما عقدان أحدهما على معلوم والثاني على مجهول, فصح في المعلوم وبطل في المجهول كما لو قال: بعتك عبدي هذا بعشرة وعبدي الذي في البيت بعشرة الثامنة, قال: لتحمل لي هذه الصبرة والتي في البيت بعشرة فإن كانا يعلمان التي في البيت صح فيهما وإن جهلاها, بطل فيهما لأنه عقد واحد بعوض واحد على معلوم ومجهول, بخلاف التي قبلها فإن كانا يعلمان التي في البيت لكنها مغصوبة أو امتنع تصحيح العقد فيها لمانع اختص بها, بطل العقد فيها وفي صحته في الأخرى وجهان بناء على تفريق الصفقة إلا أنهما إن كانت قفزانهما معلومة, أو قدر أحدهما معلوما من الأخرى فالأولى صحته لأن قسط الأجر فيها معلوم وإن لم يكن كذلك, فالأولى بطلانه لجهالة العوض فيها التاسعة قال: لتحمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة, بدرهم فإن زادت على ذلك فالزائد بحساب ذلك صح في العشرة لأنها معلومة, ولم يصح في الزيادة لأنها مشكوك فيها ولا يجوز العقد على ما يشك فيه العاشرة قال: لتحمل لي هذه الصبرة, كل قفيز بدرهم فإن قدم لي طعام فحملته فبحساب ذلك صح أيضا في الصبرة, وفسد في الزيادة لما ذكرناه. مسألة:


قال: [ ومن اكترى إلى مكة فلم ير الجمال الراكبين والمحامل, والأغطية والأوطئة لم يجز الكراء ] أجمع أهل العلم على إجازة كراء الإبل إلى مكة وغيرها, وقد قال الله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} ولم يفرق بين المملوكة والمكتراة وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}: أن تحج وتكري ونحوه عن ابن عمر ولأن بالناس حاجة إلى السفر, وقد فرض الله تعالى عليهم الحج وأخبر أنهم يأتون رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق وليس لكل أحد بهيمة يملكها ولا يقدر على معاناتها, والقيام بها والشد عليها فدعت الحاجة إلى استئجارها, فجاز دفعا للحاجة إذا ثبت هذا فمن شرط صحة العقد معرفة المتعاقدين ما عقدا عليه لأنه عقد معاوضة محضة, فكان من شرطه المعرفة للمعقود عليه كالبيع فأما الجمال فيحتاج إلى معرفة الراكبين والآلة التي يركبون فيها, من محمل أو محارة وغيرها وإن كان مقتبا ذكره وهل يكون مغطى أو مكشوفا, فإن كان مغطى احتيج إلى معرفة الغطاء ويحتاج إلى معرفة الوطاء الذي يوطأ به المحمل والمعاليق التي معه من قربة وسطيحة وسفرة ونحوها, وذكر سائر ما يحمل معه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر, إلا أن الشافعي قال: يجوز إطلاق غطاء المحمل لأنه لا يختلف اختلافا متباينا وحكي عنه في المعاليق قول أنه يجوز إطلاقها وتحمل على العرف وحكي عن مالك, أنه يجوز إطلاق الراكبين لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب وقال أبو حنيفة: إذا قال: في المحمل رجلان وما يصلحهما من الوطاء والدثر جاز استحسانا لأن ذلك يتقارب في العادة فحمل على العادة, كالمعاليق وقال القاضي في غطاء المحمل كقول الشافعي ولنا أن هذا يختلف ويتباين كثيرا فاشترطت معرفته, كالطعام الذي يحمل معه وقولهم: إن أجسام الناس متقاربة لا يصح فإن منهم الكبير والصغير والطويل والقصير والسمين والهزيل, والذكر والأنثى ويختلفون بذلك ويتباينون كثيرا, ويتفاوتون أيضا في المعاليق فمنهم من يكثر الزاد والحوائج ومنهم من يقنع باليسير, ولا عرف له يرجع إليه فاشترطت معرفته كالمحمل والأوطئة وكذلك غطاء المحمل, من الناس من يختار الواسع الثقيل الذي يشتد على الحمل في الهواء ومنهم من يقنع بالضيق الخفيف فتجب معرفته, كسائر ما ذكرنا وأما المستأجر فيحتاج إلى معرفة الدابة التي يركب عليها لأن الغرض يختلف بذلك وتحصل بأحد أمرين إما بالرؤية, فيكتفى بها لأنها أعلى طرق العلم إلا أن يكون مما يحتاج إلى معرفة صفة المسمى فيه كالراهول وغيره, فإما أن يجربه فيعلم ذلك برؤيته وإما أن يصفه وإما بالصفة, فإذا وجدت اكتفى بها لأنه يمكن ضبطه بالصفة فجاز العقد عليه كالبيع. وإذا استأجر بالصفة للركوب, احتاج إلى ذكر الجنس فيقول: إبل أو خيل, أو بغال أو حمير والنوع فيقول: بختي أو عربي وفي الخيل: عربي أو برذون وفي الحمير: مصري أو شامي وإن كان في النوع ما يختلف, كالمهملج من الخيل والقطوف احتيج إلى ذكره وذكر القاضي أنه يحتاج إلى معرفة الذكورية والأنوثية وهو مذهب الشافعي لأن الغرض يختلف بذلك, فإن الأنثى أسهل والذكر أقوى ويحتمل أنه لا يحتاج إلى معرفة ذلك لأن التفاوت فيه يسير ومتى كان الكراء إلى مكة فالصحيح أنه لا يحتاج إلى ذكر الجنس ولا النوع لأن العادة أن الذي يحمل عليه في طريق مكة إنما هو الجمال العراب, دون البخاتي. فصل:


وإذا كان الكراء إلى مكة أو طريق لا يكون السير فيه إلى اختيار المتكاريين فلا وجه لذكر تقدير السير فيه لأن ذلك ليس إليهما, ولا مقدورا عليه لهما وإن كان في طريق السير فيه إليهما استحب ذكر قدر السير في كل يوم فإن أطلق وللطريق منازل معروفة جاز العقد عليه مطلقا لأنه معلوم بالعرف ومتى اختلفا في ذلك, وفي ميقات السير ليلا أو نهارا أو في موضع المنزل إما في داخل البلد أو خارج منه, حملا على العرف كما لو أطلقا الثمن في بلد فيه نقد معروف وإن لم يكن للطريق عرف وأطلقا العقد, فقال القاضي: لا يصح كما لو أطلقا الثمن في بلد لا عرف فيه والأولى أن هذا ليس بشرط لأنه لو كان شرطا لما صح العقد بدونه في الطريق المخوف ولأنه لم تجر العادة بتقدير السير في طريق, ومتى اختلفا رجع إلى العرف في غير تلك الطريق. فصل:


وإن اشترط حمل زاد مقدر كمائة رطل, نظرنا فإن شرط أنه يبدل منها ما نقص بالأكل أو غيره فله ذلك وإن شرط أن ما نقص بالأكل لا يبدله, لم يكن له إبداله فإن ذهب بغير الأكل كسرقة أو سقوط فله إبداله لأن ذلك لم يدخل في شرطه وإن أطلق العقد, فله إبدال ما ذهب بسرقة أو سقوط أو أكل غير معتاد بغير خلاف وإن نقص بالأكل المعتاد فله إبداله أيضا لأنه استحق حمل مقدار معلوم, فملك إبدال ما نقص منه كما لو نقص بسرقة ويحتمل أنه لا يملك إبداله لأن العرف جار بأن الزاد ينقص فلا يبدل, فحمل العقد عند الإطلاق على العرف وصار كالمصرح به وقال الشافعي: القياس أن له إبداله ولو قيل: ليس له إبداله كان مذهبا لأن العادة أن الزاد لا يبقى جميع المسافة ولذلك يقل أجره عن أجر المتاع. فصل:


وإذا اكترى جملا ليحج عليه, فله الركوب عليه إلى مكة ومن مكة إلى عرفة والخروج عليه إلى منى لأنه من تمام الحج وقيل: ليس له الركوب إلى منى لأنه بعد التحلل من الحج والأولى أن له ذلك لأنه من تمام الحج وتوابعه, ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل في قول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ومن اكترى إلى مكة فقط فليس له الركوب إلى الحج لأنها زيادة ويحتمل أن له ذلك لأن الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء للحج, لكونها لا يكترى إليها إلا للحج غالبا فكان بمنزلة المكتري للحج. فصل:


فيما يلزم المكري والمكتري للركوب: يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطأ به المركوب للراكب, من الحداجة للجمل والقتب والزمام الذي يقاد به البعير, والبرة التي في أنف البعير إن كانت العادة جارية بينهم بها وإن كان فرسا فاللجام والسرج وإن كان بغلا أو حمارا فالبرذعة والإكاف لأن هذا هو العرف, فحمل الإطلاق عليه وعلى المكتري ما يزيد على ذلك كالمحمل والمحارة, والحبل الذي يشد به بين المحملين أو المحارتين لأن ذلك من مصلحة المحمل والوطاء الذي يشد فوق الحداجة تحت المحمل وعلى المكري رفع المحمل وحطه, وشده على الجمل ورفع الأحمال وشدها وحطها لأن هذا هو العرف وبه يتمكن من الركوب ويلزمه القائد والسائق, هذا إذا كان الكراء على أن يذهب مع المكتري وإن كان على أن يتسلم الراكب البهيمة يركبها لنفسه فكل ذلك عليه لأن الذي على المكري تسليم البهيمة, وقد سلمها إليه فأما الدليل فهو على المكتري لأن ذلك خارج عن البهيمة المكتراة وآلتها فلم يلزمه كالزاد وقيل: إن كان اكترى منه بهيمة بعينها, فأجرة الدليل على المكتري لأنه الذي عليه أن يسلم الظهر وقد سلمه وإن كانت على حمله إلى مكان معين في الذمة, فهو على المكري لأنه من مؤنة إيصاله إليه وتحصيله فيه. فصل:


وإذا كان الراكب ممن لا يقدر على الركوب والبعير قائم كالمرأة والشيخ والضعيف والسمين وشبههم, فعلى الجمال أن يبرك الجمل لركوبه ونزوله لأنه لا يتمكن من الركوب والنزول إلا به وإن كان ممن يمكنه الركوب والنزول والبعير قائم لم يلزم الجمال أن يبرك له الجمل لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه بدون هذه الكلفة وإن كان قويا حال العقد فضعف في أثنائه, أو ضعيفا فقوي فالاعتبار بحال الركوب لأن العقد اقتضى ركوبه بحسب العادة ويلزم الجمال أن يوقف البعير لينزل لصلاة الفريضة وقضاء حاجة الإنسان وطهارته, ويدع البعير واقفا حتى يفعل ذلك لأنه لا يمكنه فعل شيء من هذا على ظهر البعير وما أمكنه فعله عليه من الأكل والشرب وصلاة النافلة من السنن وغيرها لم يلزمه أن يبركه له, ولا يقف عليه من أجله وإن أراد المكتري إتمام الصلاة وطالبه الجمال بقصرها لم يلزمه ذلك بل تكون خفيفة في تمام. ومن اكترى بعيرا لإنسان يركبه لنفسه, وسلمه إليه لم يلزمه سوى ذلك لأنه وفي له بما عقد عليه فلم يلزمه شيء سواه. فصل:


وإذا اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزول والمشي عند اقتراب المنزل والمكتري امرأة أو ضعيف, لم يلزمه النزول لأنه اكتراه جميع الطريق ولم تجر له عادة بالمشي فلزم حمله في جميع الطريق, كالمتاع وإن كان جلدا قويا ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه النزول أيضا لأنه عقد على جميع الطريق, فلا يلزمه تركه في بعضها كالضعيف والثاني يلزمه لأنه متعارف والمتعارف كالمشروط. فصل:


وإن هرب الجمال في بعض الطريق أو قبل الدخول فيها, لم يخل من حالين أحدهما أن يهرب بجماله فينظر فإن لم يجد المستأجر حاكما, أو وجد حاكما ولم يمكن إثبات الحال عنده أو أمكن الإثبات عنده ولا يحصل له ما يكتري به ما يستوفي حقه منه فللمستأجر فسخ الإجارة لأنه تعذر عليه قبض المعقود عليه, فأشبه ما لو أفلس المشتري أو انقطع المسلم فيه عند محله فإن فسخ العقد وكان الجمال قد قبض الأجر, كان دينا في ذمته وإن اختار المقام على العقد وكانت الإجارة على عمل في الذمة, فله ذلك ومتى قدر على الجمال طالبه به وإن كان العقد على مدة انقضت في هربه, انفسخ العقد بذلك وإن أمكنه إثبات الحال عند الحاكم وكان العقد على موصوف غير معين لم ينفسخ العقد, ويرفع الأمر إلى الحاكم ويثبت عنده فينظر الحاكم, فإن وجد للجمال مالا اكترى به له وإن لم يجد له مالا وأمكنه أن يقترض على الجمال من بيت المال, أو من غيره ما يكتري له به فعل فإن دفع الحاكم المال إلى المكتري ليكتري لنفسه به, جاز في ظاهر كلام أحمد وإن اقترض عليه من المكتري ما يكري به جاز وصار دينا في ذمة الجمال وإن كان العقد على معين, لم يجز إبداله ولا اكتراء غيره لأن العقد تعلق بعينه فيتخير المكتري بين الفسخ أو البقاء إلى أن يقدر عليه, فيطالبه بالعمل الحال الثاني إذا هرب الجمال وترك جماله فإن المكتري يرفع الأمر إلى الحاكم, فإن وجد للجمال مالا استأجر به من يقوم مقام الجمال في الإنفاق على الجمال والشد عليها, وحفظها وفعل ما يلزم الجمال فعله فإن لم يجد له غير الجمال وكان فيها فضلة عن الكراء, باع بقدر ذلك وإن لم يكن فيها فضل أو لم يمكن بيعه, اقترض عليه الحاكم كما قلنا وإن ادان من المكتري وأنفق جاز وإن أذن للمكتري في الإنفاق من ماله بالمعروف, ليكون دينا على الجمال جاز لأنه في موضع حاجة وإذا رجع الجمال واختلفا فيما أنفق, نظرنا فإن كان الحاكم قدر له ما ينفق قبل قوله في قدر ذلك وما زاد لا يحتسب له, وإن لم يقدر له قبل قوله في قدر النفقة بالمعروف لأنه أمين وما زاد لا يرجع به لأنه متطوع به وإذا وصل المكتري, رفع الأمر إلى الحاكم ففعل ما يرى الحظ فيه من بيع الجمال, فيوفي عن الجمال ما لزمه من الدين للمكتري أو لغيره ويحفظ باقي الثمن له وإن رأى بيع بعضها وحفظ باقيها, والإنفاق على الباقي من ثمن ما باع جاز وإن لم يجد حاكما أو عجز عن استدانة, فله أن ينفق عليها ويقيم مقام الجمال فيما يلزمه فإن فعل ذلك متبرعا, لم يرجع بشيء وإن نوى الرجوع وأشهد على ذلك رجع به لأنه حال ضرورة وهذا أحد الوجهين للشافعي وإن لم يشهد, ونوى الرجوع ففي الرجوع وجهان أحدهما يرجع به لأن ترك الجمال مع العلم بأنها لا بد لها من نفقة إذن في الإنفاق والثاني لا يرجع به لأنه يثبت لنفسه حقا على غيره وكذلك إن لم يجد من يشهده فأنفق محتسبا بالرجوع وقياس المذهب أن له الرجوع لقولنا: يرجع بما أنفق على الآبق, وعلى عيال الغائب وزوجاته والدابة المرهونة ولو قدر على استئذان الحاكم فأنفق من غير استئذانه, وأشهد على ذلك ففي رجوعه وجهان أيضا وحكم موت الجمال حكم هربه وقال أبو بكر: مذهب أحمد, أن الموت لا يفسخ الإجارة وله أن يركبها ولا يسرف في علفها, ولا يقصر ويرجع بذلك في مال المتوفى فإن لم يكن في يد المستأجر ما ينفقه, لم يجز أن يبيع منها شيئا لأن البيع إنما يجوز من المالك أو من نائبه أو ممن له ولاية عليه. فصل:


قال أصحابنا: يصح كراء العقبة وهو مذهب الشافعي, ومعناها: الركوب في بعض الطريق يركب شيئا ويمشي شيئا لأنه إذا جاز اكتراؤها في الجميع جاز اكتراؤها في البعض ولا بد من كونها معلومة, إما أن يقدرها بفراسخ معلومة وإما بالزمان مثل أن يركب ليلا ويمشي نهارا, ويعتبر في هذا زمان السير دون زمان النزول وإن اتفقا على أن يركب يوما ويمشي يوما جاز فإن اكترى عقبة وأطلق, احتمل أن يجوز ويحمل على العرف ويحتمل أن لا يصح لأن ذلك يختلف وليس له ضابط, فيكون مجهولا وإن اتفقا على أن يركب ثلاثة أيام ويمشي ثلاثة أيام أو ما زاد ونقص, جاز وإن اختلفا لم يجبر الممتنع منهما لأن فيه ضررا على كل واحد منهما الماشي لدوام المشي عليه وعلى الجمل لدوام الركوب عليه, ولأنه إذا ركب بعد شدة تعبه كان أثقل على البعير. وإن اكترى اثنان جملا يركبانه عقبة وعقبة جاز ويكون كراؤهما طول الطريق, والاستيفاء بينهما على ما يتفقان عليه وإن تشاحا قسم بينهما لكل واحد منهما فراسخ معلومة أو لأحدهما الليل وللآخر النهار وإن كان لذلك عرف, رجع إليه وإن اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما ويحتمل أن لا يصح كراؤهما إلا أن يتفقا على ركوب معلوم لكل واحد منهما لأنه عقد على مجهول بالنسبة إلى كل واحد منهما, فلم يصح كما لو اشتريا عبدين على أن لكل واحد منهما عبدا معينا منهما. مسألة:


قال: [ فإن رأى الراكبين أو وصفا له, وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز ] وجملته أن المعرفة بالوصف تقوم مقام الرؤية في الراكبين إذا وصفهما بما يختلفان به, في الطول والقصر والهزال والسمن والصحة والمرض, والصغر والكبر والذكورية والأنوثية والباقي يكفي فيه ذكر الوزن وقال الشريف أبو جعفر, وأبو الخطاب: لا بد من معرفة الراكبين بالرؤية لأنه يختلف بثقله وخفته وسكونه وحركته ولا ينضبط بالوصف, فيجب تعيينه وهذا مذهب الشافعي ولهم في المحمل وجه أنه لا تكفي فيه الصفة ويجب تعيينه ولنا أنه عقد معاوضة مضاف إلى حيوان, فاكتفي فيه بالصفة كالبيع وكالمركوب في الإجارة, ولأنه لو لم يكتف فيه بالصفة لما جاز للراكب أن يقيم غيره مقامه لأنه إنما يعلم كونه مثله لتساويهما في الصفات فما لا تأتي عليه الصفات لا يعلم التساوي فيه, ولأن الوصف يكتفى به في البيع فاكتفي به في الإجارة كالرؤية, والتفاوت بعد ذكر الصفات الظاهرة يسير تجري المسامحة فيه كالمسلم فيه. فصل:


ويجوز اكتراء الإبل والدواب للحمولة قال الله تعالى: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} والحمولة بالضم: الأحمال والحمولة بالفتح: التي يحمل عليها قال الله تعالى: {ومن الأنعام حمولة وفرشا} الحمولة: الكبار والفرش: الصغار وقيل الحمولة: الإبل والفرش: الغنم لأنها لا تحمل, ولا يحتاج إلى معرفة الحمولة لأن الغرض حمل المتاع دون ما يحمله بخلاف الركوب, فإن للراكب غرضا في المركوب من سهولته وحاله وسرعته وإن اتفق وجود غرض في الحمولة مثل أن يكون المحمول شيئا يضره كثرة الحركة, كالفاكهة والزجاج أو كون الطريق مما يعسر على بعضها دون بعض فينبغي أن يذكر في الإجارة وأما الأحمال, فلا بد من معرفتها فإن لم يعرفها لم يجز لأن ذلك يتفاوت كثيرا, ويختلف الغرض به فإن شرط أن تحمل ما شاء بطل لأن ذلك لا يمكن الوفاء به ويدخل فيه ما يقتل البهيمة وإن قال: احتمل عليها طاقتها لم يجز أيضا لأن ذلك لا ضابط له وتحصل المعرفة بطريقين: المشاهدة لأنها من أعلى طرق العلم, والصفة ويشترط في الصفة معرفة شيئين: القدر والجنس لأن الجنس يختلف تعب البهيمة باختلافه مع التساوي في القدر فإن القطن يضر بها من وجه, وهو أنه ينتفخ على البهيمة فيدخل فيه الريح فيثقل ومثله من الحديد يؤذي من جهة أخرى وهو أنه يجتمع على موضع من البهيمة, فربما عقرها فلا بد من بيانه وأما الظروف فإن دخلت في الوزن, لم يحتج إلى ذكرها وإن لم توزن فإن كانت ظروفا معروفة, لا تختلف كغرائر الصوف والشعر ونحوها جاز العقد عليها من غير تعيين لأنها قلما تتفاوت تفاوتا كثيرا فتسميتها تكفي, وإن كانت تختلف فلا بد من معرفتها بالتعيين أو الصفة وذكر ابن عقيل أنه إذا قال: أكريتكها لتحمل عليها ثلاثمائة رطل مما شئت جاز, وملك ذلك لكن لا يحمله حملا يضر بالحيوان مثل ما لو أراد حمل حديد أو زئبق, ينبغي أن يفرقه على ظهر الحيوان فلا يجتمع في موضع واحد من ظهره ولا يجعله في وعاء يتموج فيه, فيكد البهيمة ويتعبها وإن اكترى ظهرا للحمل موصوفا بجنس فأراد حمله على غير ذلك الجنس وكان الطالب لذلك المستأجر, لم يقبل منه لأنه لا يملك المطالبة بما لم يعقد عليه وإن طلبه المؤجر وكان يفوت به غرض للمستأجر, مثل أن يكون غرضه الاستعجال في السير أو أن لا ينقطع عن القافلة فيتعين الخيل أو البغال, أو يكون غرضه سكون الحمولة لكون الحمولة مما يضرها الهز أو قوتها وصبرها لطول الطريق وثقل الحمولة فيعين الإبل لم يجز العدول عنه لأنه يفوت غرض المستأجر, فلم يجز ذلك كما في المركوب وإن لم يفوت غرضا جاز, كما يجوز لمن اكترى على حمل شيء حمل مثله أو أقل ضررا منه. فصل:


ويجوز كراء الدابة للعمل لأنها منفعة مباحة خلقت الدابة لها, فجاز الكراء لها كالركوب. وإن اكترى بقرا للحرث جاز لأن البقر خلقت للحرث, ولذلك قال النبي -ﷺ-: (بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها فقالت: إني لم أخلق لهذا, إنما خلقت للحرث) متفق عليه ويحتاج إلى شرطين: معرفة الأرض وتقدير العمل فأما الأرض فلا تعرف إلا بالمشاهدة لأنها تختلف, فتكون صلبة تتعب البقر والحراث وقد يكون فيها حجارة تتعلق بالسكة وتكون رخوة سهلة يسهل حرثها, ولا تأتي الصفة عليها فيحتاج إلى رؤيتها وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين إما بالمدة, كيوم ويومين وإما الأرض كهذه القطعة, أو من هذا المكان إلى هذا المكان أو بالمساحة كمدي أو مديين, ونحو ذلك كل ذلك جائز لأن العلم يحصل به فإن قدره بالمدة فلا بد من معرفة البقر التي يعمل عليها لأن الغرض يختلف باختلافها في القوة والضعف ويجوز أن يستأجر البقر مفردة ليتولى رب الأرض الحرث بها ويجوز أن يستأجرها مع صاحبها ليتولى الحرث بها ويجوز استئجارها بآلتها من الفدان والنير, واستئجارها بدون آلتها وتكون الآلة من عند صاحب الأرض. ويجوز استئجار البقر وغيرها لدراس الزرع لأنها منفعة مباحة مقصودة فأشبهت الحرث ويجوز على مدة أو زرع معين, أو موصوف كما ذكرناه في الحرث ومتى كان على مدة احتيج إلى معرفة الحيوان الذي يعمل عليه ليعرف قوته أو ضعفه, وإن كان على عمل غير مقدر بالمدة احتاج إلى معرفة جنس الحيوان لأن الغرض يختلف به فمنه ما روثه طاهر ومنه ما روثه نجس, ولا يحتاج إلى معرفة عين الحيوان ويجوز أن يستأجر الحيوان بآلته وبغير آلته مع صاحبه, ومنفردا عنه كما ذكرنا في الحرث. فصل:


ويجوز استئجار بهيمة لإدارة الرحى ويفتقر إلى شيئين معرفة الحجر إما بمشاهدة, وإما بصفة تحصل بها معرفته لأن عمل البهيمة يختلف فيه بثقله وخفته فيحتاج صاحبها إلى معرفته وتقدير العمل إما بالزمان, فيقول: يوما أو يومين أو بالطعام فيقول: قفيزا أو قفيزين ويذكر جنس المطحون إن كان يختلف لأن منه ما يسهل طحنه ومنه ما يصعب وكذلك إن اكتراها لإدارة دولاب فلا بد من مشاهدته, ومشاهدة دولابه لاختلافها وتقدير ذلك بالزمان, أو ملء هذا الحوض أو هذه البركة وكذلك إن اكتراها للاستقاء بالغرب فلا بد من معرفته لأنه يختلف بكبره وصغره, ويقدر بالزمان أو بعدد الغروب أو بملء بركة أو حوض ولا يجوز تقدير ذلك بسقي أرض لأن ذلك يختلف, فقد تكون الأرض عطشانة لا يرويها القليل وتكون قريبة العهد بالماء فيكفيها القليل فيكون ذلك مجهولا وإن قدره بسقي ماشية, احتمل أن لا يجوز لذلك ويحتمل أن يجوز لأن شربها يتقارب في الغالب. ويجوز استئجار دابة ليستقي عليها ماء ولا بد من معرفة الآلة التي يستقي بها من راوية, أو قرب أو جرار ومعرفة ذلك إما بالرؤية وإما بالصفة, ويقدر العمل إما بالزمان وإما بعدد المرات وإما بملء شيء معين, فإن قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة الموضع الذي يستقي منه والذي يذهب إليه لأن ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونة, وإن قدره بملء شيء معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقي منه ويجوز أن يكتري البهيمة بآلتها وبدونها, مع صاحبه ووحدها وإن اكتراها لبل تراب معروف جاز لأن ذلك معلوم بالعرف وكل موضع وقع العقد على مدة فلا بد من معرفة الظهر الذي يعمل عليه لأن الغرض يختلف باختلافها في القوة والضعف وإن وقع على عمل معين لم يحتج إلى معرفتها لأنه لا يختلف ويحتمل أن يحتاج إلى ذلك في استيفاء الماء عليه لأن منه ما روثه طاهر وجسمه طاهر بغير خلاف, كالخيل والبقر ومنه ما روثه نجس ويختلف في نجاسة جسمه كالبغال والحمير فربما نجس به المستقي أو دلوه, فيتنجس الماء به فيختلف الغرض بذلك فتجب معرفته. فصل:


وإذا اكترى حيوانا لعمل لم يخلق له, مثل أن اكترى البقر للركوب أو الحمل عليها أو اكترى الإبل والحمر للحرث جاز لأنها منفعة مقصودة, أمكن استيفاؤها من الحيوان لم يرد الشرع بتحريمها فجاز, كالذي خلقت له ولأن مقتضى الملك جواز التصرف بكل ما تصلح له العين المملوكة ويمكن تحصيله منها, ولا يمتنع ذلك إلا بمعارض راجح إما ورود نص بتحريمه أو قياس صحيح, أو رجحان مضرته على منفعته وليس ها هنا واحد منها وكثير من الناس من الأكراد وغيرهم يحملون على البقر ويركبونها وفي بعض البلدان يحرثون على الإبل والبغال والحمير, فيكون معنى خلقها للحرث إن شاء الله أن معظم الانتفاع بها فيه ولا يمنع ذلك الانتفاع بها في شيء آخر, كما أن الخيل خلقت للركوب والزينة ويباح أكلها واللؤلؤ خلق للحلية, ويجوز استعماله في الأدوية وغيرها والله أعلم. مسألة:


وقال: [ وما حدث في السلعة من يد الصانع ضمن ] وجملته أن الأجير على ضربين خاص ومشترك, فالخاص: هو الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها كرجل استؤجر لخدمة, أو عمل في بناء أو خياطة أو رعاية يوما أو شهرا, سمي خاصا لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس والمشترك: الذي يقع العقد معه على عمل معين كخياطة ثوب وبناء حائط, وحمل شيء إلى مكان معين أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها كالكحال, والطبيب سمي مشتركا لأنه يتقبل أعمالا لاثنين وثلاثة وأكثر في وقت واحد ويعمل لهم فيشتركون في منفعته واستحقاقها, فسمي مشتركا لاشتراكهم في منفعته فالأجير المشترك هو الصانع الذي ذكره الخرقي وهو ضامن لما جنت يده فالحائك إذا أفسد حياكته ضامن لما أفسد نص أحمد على هذه المسألة, في رواية ابن منصور والقصار ضامن لما يتخرق من دقه أو مده أو عصره أو بسطه والطباخ ضامن لما أفسد من طبيخه والخباز ضامن لما أفسد من خبزه والحمال يضمن ما يسقط من حمله عن رأسه أو تلف من عثرته والجمال يضمن ما تلف بقوده, وسوقه وانقطاع حبله الذي يشد به حمله والملاح يضمن ما تلف من يده أو جذفه, أو ما يعالج به السفينة وروي ذلك عن عمر وعلي وعبد الله بن عتبة, وشريح والحسن والحكم وهو قول أبي حنيفة, ومالك وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر: لا يضمن, ما لم يتعد قال الربيع: هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به وروي ذلك عن عطاء وطاوس, وزفر لأنها عين مقبوضة بعقد الإجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة ولنا ما روى جعفر بن محمد, عن أبيه عن علي أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك وروى الشافعي في " مسنده ", بإسناده عن علي أنه كان يضمن الأجراء ويقول: لا يصلح الناس إلا هذا ولأن عمل الأجير المشترك مضمون عليه, فما تولد منه يجب أن يكون مضمونا كالعدوان بقطع عضو بخلاف الأجير الخاص والدليل على أن عمله مضمون عليه, أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجر فيما عمل فيه, وكان ذهاب عمله من ضمانه بخلاف الخاص فإنه إذا أمكن المستأجر من استعماله, استحق العوض بمضي المدة وإن لم يعمل وما عمل فيه من شيء فتلف من حرزه لم يسقط أجره بتلفه. فصل:


ذكر القاضي أن الأجير المشترك إنما يضمن إذا كان يعمل في ملك نفسه, مثل الخباز يخبز في تنوره وملكه والقصار والخياط في دكانيهما قال: ولو دعا الرجل خبازا, فخبز له في داره أو خياطا أو قصارا ليقصر ويخيط عنده لا ضمان عليه فيما أتلف, ما لم يفرط لأنه سلم نفسه إلى المستأجر فيصير كالأجير الخاص قال: ولو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة أو راكبا على الدابة فوق حمله, فعطب الحمل لا ضمان على الملاح والمكاري لأن يد صاحب المتاع لم تزل ولو كان رب المتاع والجمال راكبين على الحمل فتلف حمله, لم يضمنه الجمال لأن رب المتاع لم يسلمه إليه ومذهب مالك والشافعي نحو هذا قال أصحاب الشافعي: لو كان العمل في دكان الأجير والمستأجر حاضر أو اكتراه ليعمل له شيئا, وهو معه لم يضمن لأن يده عليه فلم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله لأن يده عليه, فكلما عمل شيئا صار مسلما إليه فظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب العمل حاضرا عنده أو غائبا عنه, أو كونه مع الملاح أو الجمال أو لا وكذلك قال ابن عقيل: ما تلف بجناية الملاح بجذفه أو بجناية المكاري بشده المتاع ونحوه, فهو مضمون عليه سواء كان صاحب المتاع معه أو لم يكن لأن وجوب الضمان عليه لجناية يده, فلا فرق بين حضور المالك وغيبته كالعدوان ولأن جناية الجمال والملاح, إذا كان صاحب المتاع راكبا معه يعم المتاع وصاحبه وتفريطه يعمهما, فلم يسقط ذلك الضمان كما لو رمى إنسانا متترسا فكسر ترسه وقتله, ولأن الطبيب والختان إذا جنت يداهما ضمنا مع حضور المطبب والمختون وقد ذكر القاضي أنه لو كان جمال يحمل على رأسه ورب المتاع معه فعثر فسقط المتاع, فتلف ضمن وإن سرق, لم يضمن لأنه في العثار تلف بجنايته والسرقة ليست من جنايته ورب المال لم يحل بينه وبينه وهذا يقتضي أن تلفه بجنايته مضمون عليه سواء حضر رب المال أو غاب, بل وجوب الضمان في محل النزاع أولى لأن الفعل في ذلك إلى الموضع مقصود لفاعله والسقطة من الحمال غير مقصودة له فإذا وجب الضمان ها هنا, فثم أولى. فصل:


وذكر القاضي أنه إذا كان المستأجر على حمله عبيدا صغارا أو كبارا فلا ضمان على المكاري فيما تلف من سوقه وقوده إذ لا يضمن بني آدم من جهة الإجارة لأنه عقد على منفعة والأولى وجوب الضمان لأن الضمان ها هنا من جهة الجناية, فوجب أن يعم بني آدم وغيرهم كسائر الجنايات وما ذكره ينتقض بجناية الطبيب والختان. فصل:


فأما الأجير الخاص فهو الذي يستأجر مدة فلا ضمان عليه, ما لم يتعد قال أحمد في رواية مهنا في رجل أمر غلامه يكيل لرجل بزرا, فسقط الرطل من يده فانكسر: لا ضمان عليه فقيل: أليس هو بمنزلة القصار؟ قال: لا القصار مشترك قيل: فرجل اكترى رجلا يستقي ماء, فكسر الجرة؟ فقال: لا ضمان عليه قيل له: فإن اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذي يحرث به قال: فلا ضمان عليه وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه وظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر: أن جميع الأجراء يضمنون وروى في مسنده, عن علي رضي الله عنه أنه كان يضمن الأجراء ويقول: لا يصلح الناس إلا هذا ولنا أن عمله غير مضمون عليه فلم يضمن ما تلف به, كالقصاص وقطع يد السارق وخبر علي مرسل والصحيح فيه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وإن روي مطلقا, حمل على هذا فإن المطلق يحمل على المقيد ولأن الأجير الخاص نائب عن المالك في صرف منافعه إلى ما أمره به فلم يضمن من غير تعد كالوكيل والمضارب فأما ما يتلف بتعديه, فيجب ضمانه مثل الخباز الذي يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته, أو يتركه بعد وقته حتى يحترق لأنه تلف بتعديه فضمنه كغير الأجير. فصل:


وإذا استأجر الأجير المشترك أجيرا خاصا, كالخياط في دكان يستأجر أجيرا مدة يستعمله فيها فتقبل صاحب الدكان خياطة ثوب, ودفعه إلى أجيره فخرقه أو أفسده لم يضمنه لأنه أجير خاص, ويضمنه صاحب الدكان لأنه أجير مشترك. فصل:


إذا أتلف الصانع الثوب بعد عمله فصاحبه مخير بين تضمينه إياه غير معمول ولا أجر له وبين تضمينه إياه معمولا ويدفع إليه أجره ولو وجب عليه ضمان المتاع المحمول, فصاحبه مخير بين تضمينه قيمته في الموضع الذي سلمه إليه ولا أجر له وبين تضمينه إياه في الموضع الذي أفسده ويعطيه الأجر إلى ذلك المكان وإنما كان كذلك لأنه إذا أحب تضمينه معمولا أو في المكان الذي أفسده فيه, فله ذلك لأنه ملكه في ذلك الموضع على تلك الصفة فملك المطالبة بعوضه حينئذ وإن أحب تضمينه قبل ذلك, فلأن أجر العمل لا يلزمه قبل تسليمه إليه وما سلم إليه فلا يلزمه. فصل:


إذا دفع إلى حائك غزلا, فقال: انسجه لي عشرة أذرع في عرض ذراع فنسجه زائدا على ما قدر له في الطول والعرض فلا أجر له في الزيادة لأنه غير مأمور بها وعليه ضمان نقص الغزل المنسوج فيها, فأما ما عدا الزائد فينظر فيه فإن كان جاء به زائدا في الطول وحده ولم ينقص الأصل بالزيادة فله ما سمى له من الأجر كما لو استأجره على أن يضرب له مائة لبنة, فضرب له مائتين إن جاء به زائدا في العرض وحده أو فيهما, ففيه وجهان أحدهما: لا أجر له لأنه مخالف لأمر المستأجر فلم يستحق شيئا كما لو استأجره على بناء حائط عرض ذراع, فبناه عرض ذراعين والثاني له المسمى لأنه زاد على ما أمر به فأشبه زيادة الطول ومن قال بالوجه الأول فرق بين الطول والعرض, بأنه يمكن قطع الزائد في الطول ويبقى الثوب على ما أراد ولا يمكن ذلك في العرض وأما إن جاء به ناقصا في الطول والعرض, أو في أحدهما ففيه أيضا وجهان أحدهما لا أجر له, وعليه ضمان نقص الغزل لأنه مخالف لما أمر به فأشبه ما لو استأجره على بناء حائط عرض ذراع فبناه عرض نصف ذراع والثاني له بحصته من المسمى, كمن استؤجر على ضرب لبن فضرب بعضه ويحتمل أنه إن جاء به ناقصا في العرض فلا شيء له وإن كان ناقصا في الطول, فله بحصته من المسمى لما ذكرنا من الفرق بين الطول والعرض وإن جاء به زائدا في أحدهما ناقصا في الآخر فلا أجر له في الزائد, وهو في الناقص على ما ذكرنا من التفصيل فيه وقال محمد بن الحسن في الموضعين: يخير صاحب الثوب بين دفع الثوب إلى النساج ومطالبته بثمن غزله وبين أن يأخذه ويدفع إليه المسمى في الزائد أو بحصة المنسوج في الناقص لأن غرضه لم يسلم له, لأنه ينتفع بالطويل ما لا ينتفع بالقصير وينتفع بالقصير ما لا ينتفع بالطويل فكأنه أتلف عليه غزله ولنا أنه وجد عين ماله, فلم يكن له المطالبة بعوضه كما لو جاء به زائدا في الطول وحده فأما إن أثرت الزيادة أو النقص في الأصل مثل أن يأمره بنسج عشرة أذرع ليكون الثوب خفيفا, فنسجه خمسة عشر فصار صفيقا أو أمره بنسجه خمسة عشر ليكون صفيقا, فنسجه عشرة فصار خفيفا فلا أجر له بحال, وعليه ضمان نقص الغزل لأنه لم يأت بشيء مما أمر به. فصل:


إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن كان يقطع قميصا فاقطعه فقال: هو يقطع وقطعه فلم يكف, فعليه ضمانه وإن قال: انظر هذا يكفيني قميصا؟ قال: نعم قال: اقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمن وبهذا قال الشافعي, وأصحاب الرأي وقال أبو ثور: لا ضمان عليه في المسألتين لأنه لو كان غره في الأولى لكان قد غره في الثانية ولنا أنه إنما أذن له في الأولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه, وفي الثانية أذن له من غير شرط فافترقا ولم يجب عليه الضمان في الأولى لتغريره, بل لعدم الإذن في قطعه لأن إذنه مقيد بشرط كفايته فلا يكون إذنا في غير ما وجد فيه الشرط بخلاف الثانية. فصل:


فإن أمره أن يقطع الثوب قميص رجل ، فقطعه قميص امرأة ، فعليه غرم ما بين قيمته صحيحا ومقطوعا ؛ لأن هذا قطع غير مأذون فيه ، فأشبه ما لو قطعه من غير إذن . وقيل : يغرم ما بين قميص امرأة وقميص رجل ؛ لأنه مأذون في قميص في الجملة . والأول أصح ؛ لأن المأذون فيه قميص موصوف بصفة ، فإذا قطع قميصا غيره ، لم يكن فاعلا لما أذن فيه ، فكان متعديا بابتداء القطع ، ولذلك لا يستحق على القطع أجرا ، ولو فعل ما أمر به ، لاستحق أجره . فصل:


وإن اختلفا ، فقال : أذنت لي في قطعه قميص امرأة . وقال : بل أذنت لك في قطعه قميص رجل . أو قال : أذنت لي في قطعه قميصا . قال : بل قباء . أو قال الصباغ : أمرتني بصبغه أحمر . قال : بل أسود . فالقول قول الخياط والصباغ . نص عليه أحمد ، في رواية ابن منصور . وهذا قول ابن أبي ليلى . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور : القول قول رب الثوب . واختلف أصحاب الشافعي ، فمنهم من قال : له قولان ، كالمذهبين ومنهم من قال : له قول ثالث أنهما يتحالفان ، كالمتبايعين يختلفان في الثمن . ومنهم من قال : الصحيح أن القول قول رب الثوب ؛ لأنهما اختلفا في صفة إذنه ، والقول قوله في أصل الإذن ، فكذلك في صفته ، ولأن الأصل عدم الإذن المختلف فيه ، فالقول قول من ينفيه . ولنا أنهما اتفقا على الإذن واختلفا في صفته ، فكان القول قول المأذون له ، كالمضارب إذا قال : أذنت لي في البيع نساء . ولأنهما اتفقا على ملك الخياط القطع ، والصباغ الصبغ والظاهر أنه فعل ما ملكه ، واختلفا في لزوم الغرم له ، والأصل عدمه . فعلى هذا يحلف الخياط والصباغ بالله لقد أذنت لي في قطعه قباء ، وصبغه أحمر . ويسقط عنه الغرم ، ويكون له أجر مثله ؛ لأنه ثبت وجود فعله المأذون فيه بعوض ، ولا يستحق المسمى ؛ لأن المسمى ثبت بقوله ودعواه ، فلا يحنث بيمينه ، ولأن النبي ﷺ قال : (لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه) . أخرجه مسلم فأما المسمى في العقد ، فإنما يعترف رب الثوب بتسميته أجرا ، وقطعه قميصا ، وصبغه أسود . فأما من قال : القول قول رب الثوب . فإنه يحلف بالله : ما أذنت في قطعه قباء ، ولا صبغه أحمر . ويسقط عنه المسمى . ولا يجب للخياط والصباغ شيء ؛ لأنهما فعلا غير ما أذن لهما فيه . وذكر ابن أبي موسى ، عن أحمد ، رواية أخرى ، أن صاحب الثوب إذا لم يكن ممن يلبس الأقبية والسواد ، فالقول قوله وعلى الصانع غرم ما نقص بالقطع ، وضمان ما أفسد ، ولا أجر له ؛ لأن قرينة حال رب الثوب تدل على صدقه ، فتترجح دعواه بهما ، كما لو اختلفا في حائط لأحدهما عليه عقد أو أزج ، رجحنا دعواه بذلك . وإن اختلف الزوجان في متاع البيت ، رجحنا دعوى كل واحد منهما فيما يصلح له . ولو اختلف صانعان في الآلة التي في دكانهما ، رجحنا قول كل واحد منهما في آلة صناعته . فعلى هذا يحلف رب الثوب : ما أذنت لك في قطعه قباء ويكفي هذا لأنه ينتفي به الإذن ، فيصير قاطعا لغير ما أذن فيه . فإن كان القباء مخيطا بخيوط لمالكه ، لم يملك الخياط فتقه ، وكان لمالكه أخذه مخيطا بلا عوض ؛ لأنه عمل في ملك غيره عملا مجردا عن عين مملوكة له ، فلم يكن له إزالته ، كما لو نقل ملك غيره من موضع إلى موضع ، لم يكن له رده إذا رضي صاحبه بتركه فيه . وإن كانت الخيوط للخياط ، فله نزعها ؛ لأنها عين ماله ، ولا يلزمه أخذ قيمتها ؛ لأنها ملكه ، ولا يتلف بأخذها ما له حرمة . فإن اتفقا على تعويضه عنها جاز ؛ لأن الحق لهما . وإن قال رب الثوب : أنا أشد في كل خيط خيطا . حتى إذا سله عاد خيط رب الثوب في مكانه ، لم يلزم الخياط الإجابة إلى ذلك ؛ لأنه انتفاع بملكه . وحكم الصباغ في قلع الصبغ إن أحبه ، وفي غير ذلك من أحكامه حكم صبغ الغاصب على ما مضى في بابه . والذي يقوى عندي ، أن القول قول رب الثوب ؛ لما ذكرنا في دليلهم . فصل:


وكل من استؤجر على عمل في عين, فلا يخلو إما أن يوقعه وهي في يد الأجير كالصباغ يصبغ في حانوته والخياط في دكانه, فلا يبرأ من العمل حتى يسلمها إلى المستأجر ولا يستحق الأجر حتى يسلمه مفروغا منه لأن المعقود عليه في مدة فلا يبرأ منه ما لم يسلمه إلى العاقد, كالمبيع من الطعام لا يبرأ منه قبل تسليمه إلى المشتري وأما إن كان يوقع العمل في ملك المستأجر مثل أن يحضره المستأجر إلى داره ليخيط فيها, أو يصبغ فيها فإنه يبرأ من العمل ويستحق أجره بمجرد عمله لأنه في يد المستأجر, فيصير مسلما للعمل حالا فحالا ولو استأجر رجلا يبني له حائطا في داره أو يحفر فيها بئرا لبرئ من العمل, واستحق أجره بمجرد عمله ولو كانت البئر في الصحراء أو الحائط لم يبرأ بمجرد العمل ولو انهارت عقيب الحفر, أو الحائط بعد بنائه وقبل تسليمه لم يبرأ من العمل نص عليه أحمد في رواية ابن منصور فإنه إذا قال: استعمل ألف لبنة في كذا وكذا فعمل, ثم سقط فله الكراء وأما الأجير الخاص فيستحق أجره بمضي المدة سواء تلف ما عمله أو لم يتلف نص عليه أحمد, فقال: إذا استأجره يوما فعمل وسقط عند الليل ما عمل, فله الكراء وذلك لأنه إنما يلزمه تسليم نفسه وعمل ما يستعمل فيه وقد وجد ذلك منه, بخلاف الأجير المشترك ولو استأجر أجيرا ليبني له حائطا طوله عشرة أذرع فبنى بعضه فسقط, لم يستحق شيئا حتى يتممه سواء كان في ملك المستأجر أو في غيره لأن الاستحقاق مشروط بإتمامه ولم يوجد قال أحمد: إذا قيل له: ارفع حائطا كذا وكذا ذراعا فعليه أن يوفيه, فإن سقط فعليه التمام وكذا لو استأجره ليحفر له بئرا عمقها عشرة أذرع فحفر منها خمسة, وانهار فيها تراب من جوانبها لم يستحق شيئا حتى يتمم حفرها. مسألة:


قال: [ وإن تلفت من حرز فلا ضمان عليه, ولا أجر له فيما عمل فيها ] اختلفت الرواية عن أحمد في الأجير المشترك إذا تلفت العين من حرزه من غير تعد منه ولا تفريط, فروي عنه: لا يضمن نص عليه في رواية ابن منصور وهو قول طاوس وعطاء, وأبي حنيفة وزفر وقول الشافعي وروي عن أحمد, إن كان هلاكه بما استطاع ضمنه وإن كان غرقا أو عدوا غالبا, فلا ضمان قال أحمد في رواية أبي طالب: إذا جنت يده أو ضاع من بين متاعه, ضمنه وإن كان عدوا أو غرقا فلا ضمان ونحو هذا قال أبو يوسف والصحيح في المذهب الأول وهذه الرواية تحتمل أنه إنما أوجب عليه الضمان إذا تلف من بين متاعه خاصة لأنه يتهم ولهذا قال في الوديعة, في رواية: إنها تضمن إذا ذهبت من بين ماله فأما غير ذلك فلا ضمان عليه لأن تخصيصه التضمين بما إذا تلف من بين متاعه يدل على أنه لا يضمن إذا تلف مع متاعه, ولأنه إذا لم يكن منه تفريط ولا عدوان فلا يجب عليه الضمان كما لو تلفت بأمر غالب وقال مالك, وابن أبي ليلى: يضمن بكل حال لقول النبي -ﷺ-: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ولأنه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق فلزمه ضمانها كالمستعير ولنا أنها عين مقبوضة بعقد الإجارة, لم يتلفها بفعله فلم يضمنها كالعين المستأجرة, ولأنه قبضها بإذن مالكها لنفع يعود إليهما فلم يضمنها كالمضارب والشريك والمستأجر, وكما لو تلفت بأمر غالب ويخالف العارية فإنه ينفرد بنفعها والخبر مخصوص بما ذكرنا من الأصول فيخص محل النزاع بالقياس عليها إذا ثبت هذا, فإنه لا أجر له فيما عمل فيها لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر فلم يستحق عوضه كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه. فصل:


وإذا حبس الصانع الثوب بعد عمله, على استيفاء الأجر فتلف ضمنه لأنه لم يرهنه عنده, ولا أذن له في إمساكه فلزمه الضمان كالغاصب. فصل:


إذا أخطأ القصار ، فدفع الثوب إلى غير مالكه ، فعليه ضمانه ؛ لأنه فوته على مالكه . قال أحمد : يغرم القصار ، ولا يسع المدفوع إليه لبسه إذا علم أنه ليس ثوبه ، وعليه رده إلى القصار ، ويطالبه بثوبه . فإن لم يعلم القابض حتى قطعه ولبسه ، ثم علم ، رده مقطوعا ، وضمن أرش القطع ، وله مطالبته بثوبه إن كان موجودا . وإن هلك عند القصار ، فهل يضمنه ؟ فيه روايتان ؛ إحداهما ، يضمنه ؛ لأنه أمسكه بغير إذن صاحبه بعد طلبه ، فضمنه ، كما لو علم . والثانية لا يضمنه ؛ لأنه لم يمكنه رده ، فأشبه ما لو عجز عن دفعه لمرض . فصل:


والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر, إن تلفت بغير تفريط لم يضمنها قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الذين يكرون المظل أو الخيمة إلى مكة فيذهب من المكتري بسرق أو بذهاب, هل يضمن؟ قال: أرجو أن لا يضمن وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن ولا نعلم في هذا خلافا وذلك لأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها فكانت أمانة, كما لو قبض العبد الموصى له بخدمته سنة أو قبض الزوج امرأته الأمة ويخالف العارية فإنه لا يستحق منفعتها وإذا انقضت المدة, فعليه رفع يده وليس عليه الرد أومأ إليه في رواية ابن منصور, فقيل له: إذا اكترى دابة أو استعار أو استودع, فليس عليه أن يحمله؟ فقال أحمد: من استعار شيئا فعليه رده من حيث أخذه فأوجب الرد في العارية ولم يوجبه في الإجارة الوديعة ووجهه أنه عقد لا يقتضي الضمان, فلا يقتضي رده ومؤنته كالوديعة وفارق العارية فإن ضمانها يجب فكذلك ردها وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة, كالوديعة إن تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه, وهذا قول بعض الشافعية وقال بعضهم: يضمن لأنه بعد انقضاء الإجارة غير مأذون له في إمساكها أشبه العارية المؤقتة بعد وقتها ولنا أنها أمانة أشبهت الوديعة ولأنه لو وجب ضمانها لوجب ردها وأما العارية فإنها مضمونة في كل حال, بخلاف مسألتنا ولأنه يجب ردها وعلى كل حال متى طلبها صاحبها وجب تسليمها إليه, فإن امتنع من ردها لغير عذر صارت مضمونة كالمغصوبة. فصل:


فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين, فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى العقد وهل تفسد الإجارة به؟ فيه وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع قال أحمد فيما إذا شرط ضمان العين: الكراء والضمان مكروه وروى الأثرم, بإسناده عن ابن عمر قال: لا يصلح الكراء بالضمان وعن فقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون: لا نكتري بضمان, إلا أنه من شرط على كرى أنه لا ينزل متاعه بطن واد أو لا يسير به ليلا مع أشباه هذه الشروط, فتعدى ذلك فتلف شيء مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن, فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان فيه وإن شرطه لم يصح الشرط لأن ما لا يجب ضمانه لا يصيره الشرط مضمونا, وما يجب ضمانه لا ينتفي ضمانه بشرط نفيه وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه, ووجوبه بشرطه (لقوله -ﷺ-: المسلمون على شروطهم) فأما إن أكراه عينا وشرط عليه أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة, أو لا يتأخر بها عن القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها أو لا يسلك بها الطريق الفلانية وأشباه هذا مما له فيه غرض مخالف, ضمن لأنه متعد لشرط كريه فضمن ما تلف به كما لو شرط عليه أن لا يحمل عليها إلا قفيزا, فحمل اثنين. فصل:


وإن كانت الإجارة فاسدة لم يضمن العين أيضا إذا تلفت بغير تفريط ولا تعد لأنه عقد لا يقتضي الضمان صحيحه فلا يقتضيه فاسده, كالوكالة والمضاربة وحكم كل عقد فاسد في وجوب الضمان حكم صحيحه فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده, وما لم يجب في صحيحه لم يجب في فاسده. فصل:


وللمستأجر ضرب الدابة بقدر ما جرت به العادة ويكبحها باللجام للاستصلاح ويحثها على السير ليلحق القافلة, وقد صح أن النبي -ﷺ- نخس بعير جابر وضربه وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرش بعيره بمحجنه وللرائض ضرب الدابة للتأديب وترتيب المشي, والعدو والسير وللمعلم ضرب الصبيان للتأديب قال الأثرم: سئل أحمد عن ضرب المعلم الصبيان قال: على قدر ذنوبهم, ويتوقى بجهده الضرب وإذا كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه ومن ضرب من هؤلاء كلهم الضرب المأذون فيه لم يضمن ما تلف وبهذا في الدابة, قال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور, وأبو يوسف ومحمد وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمن لأنه تلف بجنايته, فضمنه كغير المستأجر وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبي لأنه يمكنه تأدبيه بغير الضرب ولنا أنه تلف من فعل مستحق, فلم يضمن كما لو تلف تحت الحمل ولأن الضرب معنى تضمنه عقد الإجارة, فإذا تلف منه لم يضمن كالركوب وفارق غير المستأجر لأنه متعد وقول الشافعي: يمكن التأديب بغير الضرب لا يصح فإن العادة خلافه ولو أمكن التأديب بدون الضرب, لما جاز الضرب إذ فيه ضرر وإيلام مستغنى عنه وإن أسرف في هذا كله أو زاد على ما يحصل الغنى به, أو ضرب من لا عقل له من الصبيان فعليه الضمان لأنه متعد حصل التلف بعدوانه. مسألة:


قال: [ ولا ضمان على حجام ، ولا ختان ، ولا متطبب ، إذا عرف منهم حذق الصنعة ، ولم تجن أيديهم ] وجملته أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به ، لم يضمنوا بشرطين : أحدهما أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ، ولهم بها بصارة ومعرفة ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع ، وإذا قطع مع هذا كان فعلا محرما ، فيضمن سرايته ، كالقطع ابتداء . الثاني أن لا تجني أيديهم ، فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع فإذا وجد هذان الشرطان . لم يضمنوا ؛ لأنهم قطعوا قطعا مأذونا فيه ، فلم يضمنوا ؛ سرايته ، كقطع الإمام يد السارق ، أو فعل فعلا مباحا مأذونا في فعله ، أشبه ما ذكرنا . فأما إن كان حاذقا وجنت يده ، مثل أن تجاوز قطع الختان إلى الحشفة ، أو إلى بعضها ، أو قطع في غير محل القطع ، أو يقطع الطبيب سلعة من إنسان ، فيتجاوزها ، أو يقطع بآلة كالة يكثر ألمها ، أو في وقت لا يصلح القطع فيه ، وأشباه هذا ، ضمن فيه كله ؛ لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ ، فأشبه إتلاف المال ، ولأن هذا فعل محرم ، فيضمن سرايته ، كالقطع ابتداء وكذلك الحكم في النزاع ، والقاطع في القصاص ، وقاطع يد السارق . وهذا مذهب الشافعي ، وأصحاب الرأي ، ولا نعلم فيه خلافا . فصل:


وإن ختن صبيا بغير إذن وليه أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه, أو من صبي بغير إذن وليه فسرت جنايته ضمن لأنه قطع غير مأذون فيه, وإن فعل ذلك الحاكم أو من له ولاية عليه أو فعله من أذنا له, لم يضمن لأنه مأذون فيه شرعا. فصل:


ويجوز الاستئجار على الختان والمداواة وقطع السلعة لا نعلم فيه خلافا ولأنه فعل يحتاج إليه, مأذون فيه شرعا فجاز الاستئجار عليه كسائر الأفعال المباحة. فصل:


ويجوز أن يستأجر حجاما ليحجمه, وأجره مباح وهذا اختيار أبي الخطاب وهذا قول ابن عباس قال: أنا آكله وبه قال عكرمة والقاسم, وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين وربيعة ويحيى الأنصاري, ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال القاضي: لا يباح أجر الحجام وذكر أن أحمد نص عليه في مواضع, وقال: وإن أعطى شيئا من غير عقد ولا شرط فله أخذه ويصرفه في علف دوابه, وطعمة عبيده ومؤنة صناعته ولا يحل, له أكله وممن كره كسب الحجام عثمان وأبو هريرة والحسن, والنخعي وذلك لأن النبي -ﷺ- قال: (كسب الحجام خبيث) رواه مسلم وقال: أطعمه ناضحك ورقيقك " ولنا ما روى ابن عباس قال: (احتجم النبي -ﷺ- وأعطى الحجام أجره ولو علمه حراما لم يعطه) متفق عليه وفي لفظ: لو علمه خبيثا لم يعطه ولأنها منفعة مباحة, لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار عليها كالبناء والخياطة, ولأن بالناس حاجة إليها ولا نجد كل أحد متبرعا بها فجاز الاستئجار عليها, كالرضاع وقول النبي -ﷺ- في كسب الحجام: (أطعمه رقيقك) دليل على إباحة كسبه إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله فإن الرقيق آدميون, يحرم عليهم ما حرمه الله تعالى كما يحرم على الأحرار وتخصيص ذلك بما أعطيه من غير استئجار تحكم لا دليل عليه, وتسميته كسبا خبيثا لا يلزم منه التحريم فقد سمى النبي -ﷺ- الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما وإنما كره النبي -ﷺ- ذلك للحر تنزيها له لدناءة هذه الصناعة وليس عن أحمد نص في تحريم كسب الحجام, ولا الاستئجار عليها وإنما قال: نحن نعطيه كما أعطى النبي -ﷺ- ونقول له كما قال النبي -ﷺ- لما سئل عن أكله نهاه وقال: " اعلفه الناضح والرقيق " وهذا معنى كلامه في جميع الروايات, وليس هذا صريحا في تحريمه بل فيه دليل على إباحته كما في قول النبي -ﷺ- وفعله, على ما بينا وأن إعطاءه للحجام دليل على إباحته إذ لا يعطيه ما يحرم عليه وهو عليه السلام يعلم الناس وينهاهم عن المحرمات, فكيف يعطيهم إياها ويمكنهم منها وأمره بإطعام الرقيق منها دليل على الإباحة, فيتعين حمل نهيه عن أكلها على الكراهة دون التحريم وكذلك قول الإمام أحمد فإنه لم يخرج عن قول النبي -ﷺ- وفعله وإنما قصد اتباعه -ﷺ- وكذلك سائر من كرهه من الأئمة, يتعين حمل كلامهم على هذا ولا يكون في المسألة قائل بالتحريم وإذا ثبت هذا فإنه يكره للحر أكل كسب الحجام, ويكره تعلم صناعة الحجامة وإجارة نفسه لها لما فيها من الأخبار ولأن فيها دناءة, فكره الدخول فيها كالكسح وعلى هذا يحمل قول الأئمة الذين ذكرنا عنهم كراهتها جمعا بين الأخبار الواردة فيها, وتوفيقا بين الأدلة الدالة عليها والله أعلم. فصل:


فأما استئجار الحجام لغير الحجامة كالفصد وحلق الشعر, وتقصيره والختان وقطع شيء من الجسد للحاجة إليه, فجائز لأن قول النبي -ﷺ-: (كسب الحجام خبيث) يعني بالحجامة كما نهى عن مهر البغي أي في البغاء وكذلك لو كسب بصناعة أخرى, لم يكن خبيثا بغير خلاف وهذا النهي مخالف للقياس فيختص بالمحل الذي ورد فيه ولأن هذه الأمور تدعو الحاجة إليها, ولا تحريم فيها فجازت الإجارة فيها وأخذ الأجر عليها, كسائر المنافع المباحة. فصل:


ويجوز أن يستأجر كحالا ليكحل عينه لأنه عمل جائز ويمكن تسليمه ويحتاج أن يقدر ذلك بالمدة لأن العمل غير مضبوط, فيقدر به ويحتاج إلى بيان قدر ما يكحله مرة في كل يوم أو مرتين فأما إن قدرها بالبرء فقال القاضي: لا يجوز لأنه غير معلوم وقال ابن أبي موسى: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء لأن أبا سعيد حين رقى الرجل, شارطه على البرء والصحيح إن شاء الله أن هذا يجوز لكن يكون جعالة لا إجارة فإن الإجارة لا بد فيها من مدة, أو عمل معلوم فأما الجعالة فتجوز على عمل مجهول, كرد اللقطة والآبق وحديث أبي سعيد في الرقية إنما كان جعالة فيجوز ها هنا مثله إذا ثبت هذا, فإن الكحل إن كان من العليل جاز لأن آلات العمل تكون من المستأجر كاللبن في البناء والطين والآجر ونحوها وإن شارطه على الكحل جاز وقال القاضي: يحتمل أن لا يجوز لأن الأعيان لا تملك بعقد الإجارة, فلا يصح اشتراطه على العامل كلبن الحائط ولنا أن العادة جارية به ويشق على العليل تحصيله, وقد يعجز عنه بالكلية فجاز ذلك كالصبغ من الصباغ, واللبن في الرضاع والحبر والأقلام من الوراق وما ذكروه ينتقض بهذه الأصول وفارق لبن الحائط لأن العادة تحصيل المستأجر له ولا يشق ذلك, بخلاف مسألتنا وقال أصحاب مالك: يجوز أن يستأجره ليبني له حائطا والآجر من عنده لأنه اشترط ما تتم به الصنعة التي عقد عليها فإذا كان مباحا معروفا جاز, كما لو استأجره ليصبغ ثوبا والصبغ من عنده ولنا أن عقد الإجارة عقد على المنفعة فإذا شرط فيه بيع العين, صار كبيعتين في بيعة ويفارق الصبغ وما ذكرنا من الصورة التي جاز فيها ذلك من حيث إن الحاجة داعية إليه لأن تحصيل الصبغ يشق على صاحب الثوب, وقد يكون الصبغ لا يحصل إلا في حيث يحتاج إلى مؤنة كثيرة لا يحتاج إليها في صبغ هذا الثوب فجاز لمسيس الحاجة إليه, بخلاف مسألتنا. فصل:


وإذا استأجره مدة ، فكحله فيها ، فلم تبرأ عينه ، استحق الأجر . وبه قال الجماعة . وحكي عن مالك ، أنه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه ، ولم يحك ذلك أصحابه ، وهو فاسد ؛ لأن المستأجر قد وفى العمل الذي وقع العقد عليه ، فوجب له الأجر ، وإن لم يحصل الغرض ، كما لو استأجره لبناء حائط يوما ، أو لخياطة قميص ، فلم يتمه فيه . وإن برئت عينه في أثناء المدة ، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة ؛ لأنه قد تعذر العمل ، فأشبه ما لو حجز عنه أمر غالب ، وكذلك لو مات فإن امتنع من الاكتحال مع بقاء المرض ، استحق الكحال الأجر بمضي المدة ، كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعمله فيه . فأما إن شارطه على البرء ، فإنه يكون جعالة ، فلا يستحق شيئا حتى يوجد البرء ، سواء وجد قريبا أو بعيدا ، فإن برئ بغير كحله ، أو تعذر الكحل لموته ، أو غير ذلك من الموانع التي من جهة المستأجر ، فله أجر مثله ، كما لو عمل العامل في الجعالة ، ثم فسخ العقد . وإن امتنع لأمر من جهة الكحال أو غير الجاعل ، فلا شيء له . وإن فسخ الجاعل الجعالة بعد عمل الكحال ، فعليه أجر عمله ، فإن فسخ الكحال فلا شيء له ؛ لأنها جعالة ؛ فثبت فيها ما ذكرناه . فصل:


ويجوز أن يستأجر طبيبا ليداويه والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء إلا أنه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب لأن ذلك إنما جاز في الكحال على خلاف الأصل, للحاجة إليه وجرى العادة به فلم يوجد ذلك المعنى ها هنا, فثبت الحكم فيه على وفق الأصل والله أعلم. فصل:


ويجوز أن يستأجر من يقلع ضرسه لأنها منفعة مباحة مقصودة فجاز الاستئجار على فعلها كالختان فإن أخطأ فقلع غير ما أمر بقلعه, ضمنه لأنه من جنايته وإن برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الإجارة لأن قلعه لا يجوز وإن لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه, لم يجبر عليه لأن إتلاف جزء من الآدمي محرم في الأصل وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضررا وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه, إذا كان أهلا لذلك وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته, وقدر ألمه. فصل:


ومن استؤجر على عمل موصوف في الذمة كخياطة أو بناء أو قلع ضرس, فبذل الأجير نفسه للعمل فلم يمكنه المستأجر لم تستقر الأجرة بذلك لأنه عقد على المنفعة من غير تقدير, فلم يستقر بدلها بالبذل كالصداق لا يستقر ببذل المرأة نفسها ويفارق حبس الدابة مدة الإجارة لأن المنافع تلفت تحت يده بخلاف مسألتنا. مسألة:


قال: [ ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد ] لا نعلم خلافا في صحة استئجار الراعي, وقد دل عليه قول الله تعالى مخبرا عن شعيب أنه قال: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} وقد علم أن موسى عليه السلام إنما آجر نفسه لرعاية الغنم إذا ثبت هذا, فإنه لا ضمان على الراعي فيما تلف من الماشية ما لم يتعد ولا نعلم فيه خلافا إلا عن الشعبي فإنه روي عنه أنه ضمن الراعي ولنا أنه مؤتمن على حفظها, فلم يضمن من غير تعد كالمودع ولأنها عين قبضها بحكم الإجارة, فلم يضمنها من غير تعد كالعين المستأجرة فأما ما تلف بتعديه فيضمنه بغير خلاف, مثل أن ينام عن السائمة أو يغفل عنها أو يتركها تتباعد منه, أو تغيب عن نظره وحفظه أو يضربها ضربا يسرف فيه أو في غير موضع الضرب, أو من غير حاجة إليه أو سلك بها موضعا تتعرض فيه للتلف وأشباه هذا مما يعد تفريطا وتعديا, فتتلف به فعليه ضمانها لأنها تلفت بعدوانه فضمنها كالمودع إذا تعدى, وإن اختلفا في التعدي وعدمه فالقول قول الراعي لأنه أمين وإن فعل فعلا اختلفا في كونه تعديا رجع إلى أهل الخبرة ولو جاء بجلد شاة, وقال: ماتت قبل قوله ولم يضمن وعن أحمد أنه يضمن, ولا يقبل قوله والصحيح الأول لأن الأمناء تقبل أقوالهم كالمودع ولأنه يتعذر عليه إقامة البينة في الغالب, فأشبه المودع وكذلك لو ادعى موتها من غير أن يأتي بجلدها. فصل:


ولا يصح العقد في الرعي إلا على مدة معلومة لأن العمل لا ينحصر ويجوز العقد على رعي ماشية معينة وعلى جنس في الذمة فإن عقد على ماشية معينة, فذكر أصحابنا أنه يتعلق بأعيانها كما لو استأجره لخياطة ثوب بعينه فلا يجوز إبداله, ويبطل العقد بتلفها وإن تلف بعضها بطل عقد الإجارة فيه وله أجر ما بقي منها بالحصة وإن ولدت سخالا, لم يكن عليه رعيها لأنها زيادة لم يتناولها العقد ويحتمل أن لا يتعلق بأعيانها لأنها ليست المعقود عليها وإنما يستوفي المنفعة بها فأشبه ما لو استأجر ظهرا ليركبه, جاز أن يركب غيره مكانه ولو استأجر دارا ليسكنها جاز أن يسكنها مثله, ولو استأجر أرضا ليزرعها حنطة جاز أن يزرعها ما هو مثلها في الضرر أو أدنى منها, وإنما المعقود عليه منفعة الراعي ولهذا يجب له الأجر إذا سلم نفسه وإن لم يرع ويفارق الثوب في الخياطة لأن الثياب في مظنة الاختلاف في سهولة خياطتها ومشقتها, بخلاف الرعي فعلى هذا له إبدالها بمثلها وإن تلف بعضها لم ينفسخ العقد فيه, وكان له إبداله وإن وقع العقد على موصوف في الذمة فلا بد من ذكر جنس الحيوان ونوعه إبلا, أو بقرا أو غنما أو ضأنا, أو معزا وإن أطلق ذكر البقر والإبل لم يتناول الجواميس والبخاتي لأن إطلاق الاسم لا يتناولها عرفا وإن وقع العقد في مكان يتناولها إطلاق الاسم احتاج إلى ذكر نوع ما يراه منها, كالغنم لأن كل نوع له أثر في إتعاب الراعي ويذكر الكبر والصغر فيقول: كبارا أو سخالا, أو عجاجيل أو فصلانا إلا أن يكون ثم قرينة أو عرف صارف إلى بعضها, فيغني عن الذكر وإذا عقد على عدد موصوف كالمائة لم يجب عليه رعي زيادة عليها لا من سخالها ولا من غيرها وإن أطلق العقد ولم يذكر عددا, لم يجز وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال القاضي: يصح ويحمل على ما جرت به العادة كالمائة من الغنم ونحوها وهو قول بعض أصحاب الشافعي والأول أصح لأن العادة في ذلك تختلف وتتباين كثيرا, إذ العمل يختلف باختلافه. فصل:


فيما تجوز إجارته تجوز إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها بحكم الأصل, كالأرض والدار والعبد, والبهيمة والثياب والفساطيط, والحبال والخيام والمحامل, والسرج واللجام والسيف, والرمح وأشباه ذلك وقد ذكرنا كثيرا مما تجوز إجارته في مواضعه وتجوز إجارة الحلي نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله وبهذا قال الثوري, والشافعي وإسحاق وأبو ثور, وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنه قال في إجارة الحلي: ما أدري ما هو؟ قال القاضي: هذا محمول على إجارته بأجرة من جنسه فأما بغير جنسه, فلا بأس به لتصريح أحمد بجوازه وقال مالك في إجارة الحلي والثياب: هو من المشتبهات ولعله يذهب إلى أن المقصود بذلك الزينة, وليس ذلك من المقاصد الأصلية ومن منع ذلك بأجر من جنسه فقد احتج له بأنها تحتك بالاستعمال فيذهب منها أجزاء وإن كانت يسيرة, فيحصل الأجر في مقابلتها ومقابلة الانتفاع بها فيفضي إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر ولنا أنها عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة, مع بقاء عينها فأشبهت سائر ما تجوز إجارته والزينة من المقاصد الأصلية فإن الله تعالى امتن بها علينا بقوله تعالى: {لتركبوها وزينة} وقال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} وأباح الله تعالى من التحلي واللباس للنساء ما حرمه على الرجال, لحاجتهن إلى التزين للأزواج وأسقط الزكاة عن حليهن معونة لهن على اقتنائه وما ذكروه من نقصها بالاحتكاك لا يصح لأن ذلك يسير لا يقابل بعوض, ولا يكاد يظهر في وزن ولو ظهر فالأجر في مقابلة الانتفاع لا في مقابلة الأجزاء لأن الأجر في الإجارة, إنما هو عوض المنفعة كما في سائر المواضع ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب, لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر لإفضائه إلى الفرق في معاوضة أحدهما بالآخر قبل القبض والله أعلم. فصل:


وتجوز إجارة الدراهم والدنانير للوزن والتحلي في مدة معلومة وبه قال أبو حنيفة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي, والوجه الآخر أنها لا تجوز إجارتها لأن هذه المنفعة ليست المقصودة منها ولذلك لا تضمن منفعتها بغصبها, فأشبهت الشمع ولنا أنها عين أمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها منفعة مباحة فأشبهت الحلي وفارقت الشمع فإنه لا ينتفع به إلا بما أتلف عينه إذا ثبت هذا, فإنه إن ذكر ما يستأجره له وعينه فحسن, وإن أطلق الإجارة فقال أبو الخطاب: تصح الإجارة وينتفع بها فيما شاء منهما لأن منفعتهما في الإجارة متعينة في التحلي والوزن, وهما متقاربان فوجب أن تحمل الإجارة عند الإطلاق عليهما كاستئجار الدار مطلقا, فإنه يتناول السكنى ووضع المتاع فيها وقال القاضي: لا تصح الإجارة وتكون قرضا وهذا مذهب أبي حنيفة لأن الإجارة تقتضي الانتفاع, والانتفاع المعتاد بالدراهم والدنانير إنما هو بأعيانها فإذا أطلق الانتفاع حمل على الانتفاع المعتاد وقال أصحاب الشافعي: لا تصح الإجارة, ولا تكون قرضا لأن التحلي ينقصها والوزن لا ينقصها فقد اختلفت جهة الانتفاع, فلم يجز إطلاقها ولا يجوز أن يعبر بها عن القرض لأن القرض تمليك للغير والإجارة تقتضي الانتفاع مع بقاء العين فلم يجز التعبير بأحدهما عن الآخر ولأن التسمية والألفاظ تؤخذ نقلا, ولم يعهد في اللسان التعبير بالإجارة عن القرض وقول أبي الخطاب أصح -إن شاء الله تعالى- لأن العقد متى أمكن حمله على الصحة كان أولى من إفساده, وقد أمكن حمله على إجارتها للجهة التي تجوز إجارتها فيها وقول القاضي لا يصح لأن الإجارة إنما تقتضي انتفاعا مع بقاء العين فلا تحمل على غير ذلك وما ذكر الآخرون من نقص العين بالاستعمال في التحلي فبعيد فإن ذلك يسير لا أثر له فوجوده كعدمه. فصل:


ويجوز أن يستأجر شجرا ونخيلا, ليجفف عليها الثياب أو يبسطها عليها ليستظل بظلها ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان لما ذكروه في الأثمان ولنا أنها لو كانت مقطوعة, لجاز استئجارها لذلك فكذلك إذا كانت ثابتة وذلك لأن الانتفاع يحصل بهما على السواء في الحالتين فما جاز في إحداهما يجوز في الأخرى, ولأنها شجرة فجاز استئجارها لذلك كالمقطوعة ولأنها منفعة مقصودة, يمكن استيفاؤها مع بقاء العين فجاز العقد عليها كما لو كانت مقطوعة, ولأنها عين يمكن استيفاء هذه المنفعة منها فجاز استئجارها لها, كالحبال والخشب والشجر المقطوع. فصل:


ويجوز استئجار غنم لتدرس له طينا أو زرعا ولأصحاب الشافعي فيه وجهان لأنها منفعة غير مقصودة من هذا الحيوان فأشبهت النخيل ولنا أنها منفعة مباحة, يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فأشبهت استئجار البقر لدياس الزرع. فصل:


ويجوز استئجار ما يبقى من الطيب والصندل وأقطاع الكافور والند لتشمه المرضى وغيرهم مدة, ثم يرده لأنها منفعة مباحة فأشبهت الوزن والتحلي مع أنه لا ينفك من إخلاق وبلى. فصل:


وتجوز إجارة الحائط, ليضع عليها خشبا معلوما مدة معلومة وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يجوز ولنا أن هذه منفعة مقصودة مقدور على تسليمها واستيفائها, فجاز عقد الإجارة عليها كاستئجار السطح للنوم عليه. فصل:


ويجوز استئجار دار يتخذها مسجدا يصلي فيه وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: لا يصح لأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد إجارة بحال, فلا تجوز الإجارة لذلك ولنا أن هذه منفعة مباحة يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فجاز استئجار العين لها, كالسكنى ويفارق الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة, بخلاف بناء المساجد. فصل:


وذكر ابن عقيل أنه يجوز استئجار البئر ليستقي منها أياما معلومة لأن هواء البئر وعمقها فيه نوع انتفاع بمرور الدلو فيه, وأما نفس الماء فيؤخذ على أصل الإباحة والله الموفق. فصل:


ويجوز استئجار الفهد والبازي والصقر للصيد في مدة معلومة لأن فيه نفعا مباحا تجوز إعارته له, فجازت إجارته له كالدابة وتجوز إجارة كتب العلم التي يجوز بيعها للانتفاع بها في القراءة فيها, والنسخ منها لما ذكرناه وتجوز إجارة درج فيه خط حسن يكتب عليه ويتمثل منه لذلك.

فصل: وما لا تجوز إجارته أقسام: أحدها ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه, كالمطعوم والمشروب والشمع ليشعله لأن الإجارة عقد على المنافع وهذه لا ينتفع بها إلا بإتلاف عينها, فإن استأجر شمعة يسرجها ويرد بقيتها وثمن ما ذهب, وأجر الباقي كان فاسدا لأنه يشمل بيعا وإجارة وما وقع عليه البيع مجهول, وإذا جهل المبيع جهل المستأجر أيضا فيفسد العقدان ولو استأجر شمعا ليتجمل به, ويرده من غير أن يشعل منه شيئا لم يجز لأن ذلك ليس بمنفعة مرعية في الشرع فبذل المال فيه سفه, وأخذه أكل مال بالباطل فلم يجز كما لو استأجر خبزا لينظر إليه, وكذلك لو استأجر طعاما ليتجمل به على مائدته ثم يرده لم يجز لما ذكرنا وهكذا سائر الأشياء, ولا يصح استئجار ما لا يبقى من الرياحين كالورد والبنفسج والريحان الفارسي وأشباهه, لشمها لأنها تتلف عن قرب فأشبهت المطعومات ولا يجوز استئجار الغنم ولا الإبل والبقر, ليأخذ لبنها ولا ليسترضعها لسخالة ونحوها ولا استئجارها ليأخذ صوفها, ولا شعرها ولا وبرها ولا استئجار شجرة, ليأخذ ثمرتها أو شيئا من عينها.

فصل: ولا تجوز إجارة الفحل للضراب وهذا ظاهر مذهب الشافعي وأصحاب الرأي, وأبي ثور وابن المنذر وخرج أبو الخطاب وجها في جوازه لأنه انتفاع مباح والحاجة تدعو إليه, فجاز كإجارة الظئر للرضاع والبئر ليستقي منها الماء ولأنها منفعة تستباح بالإعارة, فتستباح بالإجارة كسائر المنافع وهذا مذهب الحسن وابن سيرين ولنا (أن النبي -ﷺ- نهى عن عسب الفحل): متفق عليه, وفي لفظ: (نهى عن ضراب الجمل) ولأن المقصود الماء الذي يخلق منه الولد فيكون عقد الإجارة لاستيفاء عين غائبة فلم يجز, كإجارة الغنم لأخذ لبنها وهذا أولى فإن هذا الماء محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عنه, كالميتة والدم وهو مجهول فأشبه اللبن في الضرع فأما من أجازه, فينبغي أن يوقع العقد على العمل ويقدره بمرة أو مرتين أو أكثر وقيل: يقع العقد على مدة وهذا بعيد لأن من أراد إطراق فرسه مرة فقدره بمدة تزيد على قدر الفعل, لم يمكن استيعابها به وإن اقتصر على مقداره فربما لا يحصل الفعل فيه, ويتعذر أيضا ضبط مقدار الفعل فيتعين التقدير بالفعل إلا أن يكتري فحلا لإطراق ماشية كثيرة, كفحل يتركه في إبله أو تيس في غنمه فإن هذا إنما يكتري مدة معلومة والمذهب أنه لا يجوز إجارته, فإن احتاج إنسان إلى ذلك ولم يجد من يطرق له جاز له أن يبذل الكراء, وليس للمطرق أخذه قال عطاء: لا يأخذ عليه شيئا ولا بأس أن يعطيه إذا لم يجد من يطرق له ولأن ذلك بذل مال لتحصيل منفعة مباحة تدعو الحاجة إليها فجاز, كشراء الأسير ورشوة الظالم ليدفع ظلمه وإن أطرق إنسان فحله بغير إجارة ولا شرط فأهديت له هدية, أو أكرم بكرامة لذلك فلا بأس به لأنه فعل معروفا فجازت مجازاته عليه, كما لو أهدى هدية.

فصل: القسم الثاني ما منفعته محرمة كالزنى والزمر والنوح والغناء, فلا يجوز الاستئجار لفعله وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة, وصاحباه وأبو ثور وكره ذلك الشعبي والنخعي لأنه محرم, فلم يجز الاستئجار عليه كإجارة أمته للزنى ولا يجوز استئجار كاتب ليكتب له غناء ونوحا وقال أبو حنيفة: يجوز ولنا أنه انتفاع بمحرم فأشبه ما ذكرنا ولا يجوز الاستئجار على كتابة شعر محرم, ولا بدعة ولا شيء محرم لذلك ولا يجوز الاستئجار على حمل الخمر لمن يشربها ولا على حمل خنزير ولا ميتة لذلك وبهذا قال أبو يوسف, ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة: يجوز لأن العمل لا يتعين عليه بدليل أنه لو حمله مثله جاز, ولأنه لو قصد إراقته أو طرح الميتة جاز وقد روي عن أحمد في من حمل خنزيرا أو ميتة أو خمرا لنصراني: أكره أكل كرائه, ولكن يقضى للحمال بالكراء فإذا كان لمسلم فهو أشد قال القاضي: هذا محمول على أنه استأجره ليريقها فأما للشرب فمحظور, ولا يحل أخذ الأجرة عليه وهذا التأويل بعيد لقوله: أكره أكل كرائه وإذا كان لمسلم فهو أشد ولكن المذهب خلاف هذه الرواية لأنه استئجار لفعل محرم فلم يصح, كالزنى ولأن النبي -ﷺ- لعن حاملها والمحمولة إليه وقوله: لا يتعين يبطل باستئجار أرض ليتخذها مسجدا وأما حمل هذه لإراقتها والميتة لطرحها والاستئجار للكنف, فجائز لأن ذلك كله مباح وقد استأجر النبي -ﷺ- أبا طيبة فحجمه وقال أحمد في رواية ابن منصور, في الرجل يؤجر نفسه لنظارة كرم النصراني: يكره ذلك لأن الأصل في ذلك راجع إلى الخمر.

فصل: ويكره أن يؤجر الرجل نفسه لكسح الكنف ويكره له أكل أجره لأن النبي -ﷺ- قال: (كسب الحجام خبيث) ونهى الحر عن أكله فهذا أولى وقد روى عن ابن عباس, أن رجلا حج ثم أتاه فقال له: إني رجل أكنس, فما ترى في مكسبي؟ قال: أي شيء تكنس؟ قال: العذرة قال: ومنه حججت ومنه تزوجت؟ قال: نعم, قال: أنت خبيث وحجك خبيث وما تزوجت خبيث أو نحو هذا, ذكره سعيد بن منصور في " سننه " بمعناه ولأن فيه دناءة, فكره كالحجامة فأما الإجارة في الجملة, فجائزة لأن الحاجة داعية إليها فلا تندفع بدون إباحة الإجارة فوجب إباحتها, كالحجامة.

فصل: ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة أو يتخذها لبيع الخمر أو القمار وبه قال الجماعة وقال أبو حنيفة: إن كان بيتك في السواد, فلا بأس أن تؤجره لذلك وخالفه صاحباه واختلف أصحابه في تأويل قوله ولنا أنه فعل محرم فلم تجز الإجارة عليه, كإجارة عبده للفجور ولو اكترى ذمي من مسلم داره فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه وبذلك قال الثوري وقال أصحاب الرأي: إن كان بيته في السواد والجبل, فله أن يفعل ما شاء ولنا أنه فعل محرم جاز المنع منه في المصر فجاز في السواد, كقتل النفس المحرمة.

فصل: القسم الثالث ما يحرم بيعه إلا الحر والوقف وأم الولد والمدبر, فإنه يجوز إجارتها وإن حرم بيعها وما عدا ذلك فلا تجوز إجارته, سواء كان ممن لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والجمل الناد, والبهيمة الشاردة والمغصوب من غير غاصبه ممن لا يقدر على انتزاعه منه فإنه لا تجوز إجارته لأنه لا يمكن تسليم المعقود عليه وإن كان مما تجهل صفته, فإنه لا تجوز إجارته في ظاهر المذهب أو كان ممن لا نفع فيه كسباع البهائم, أو الطير التي لا تصلح للاصطياد ولا تجوز إجارة الكلب ولا الخنزير بحال ويتخرج جواز إجارة الكلب الذي يباح اقتناؤه لأن فيه نفعا مباحا تجوز له إعارته, فجازت إجارته له كغيره ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولا تجوز إجارة ما لا يقدر على تسليم منفعته سواء جاز بيعه أو لم يجز, مثل أن يغصب منفعته بأن يدعي إنسان أن هذه الدار في إجارته عاما ويغلب صاحبها عليها, فإنه لا تجوز إجارتها في هذا العام إلا من غاصبها أو ممن يقدر على أخذها منه قال أصحابنا: ولا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجر الشريكان معا وهذا قول أبي حنيفة, وزفر لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته كالمغصوب وذلك لأنه لا يقدر على تسليمه إلا بتسليم نصيب شريكه ولا ولاية له على مال شريكه واختار أبو حفص العكبري جواز ذلك وقد أومأ إليه أحمد, وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف, ومحمد لأنه معلوم يجوز بيعه فجازت إجارته كالمفرد ولأنه عقد في ملكه, يجوز مع شريكه فجاز مع غيره كالبيع ولأنه يجوز إذا فعله الشريكان معا, فجاز لأحدهما فعله في نصيبه مفردا كالبيع ومن نصر الأول فرق بين محل النزاع وبين ما إذا آجره الشريكان أو آجره لشريكه, بأنه يمكن التسليم إلى المستأجر فأشبه إجارة المغصوب من غاصبه دون غيره وإن كانت الدار لواحد فآجر نصفها, صح لأنه يمكنه تسليمه ثم إن آجر نصفها الآخر للمستأجر الأول صح فإنه يمكنه تسليمه إليه وإن آجره لغيره, ففيه وجهان بناء على المسألة التي قبلها لأنه لا يمكنه تسليم ما آجره إليه وإن آجر الدار لاثنين لكل واحد منهما نصفها فكذلك لأنه لا يمكنه تسليم نصيب كل واحد منهما إليه.

فصل: وفي إجارة المصحف وجهان أحدهما لا تصح إجارته, مبنيا على أنه لا يصح بيعه وعلة ذلك إجلال كلام الله وكتابه عن المعاوضة به وابتذاله بالثمن في البيع, والأجر في الإجارة والثاني تجوز إجارته وهو مذهب الشافعي لأنه انتفاع مباح تجوز الإعارة من أجله, فجازت فيه الإجارة كسائر الكتب فأما سائر الكتب الجائز بيعها, فتجوز إجارتها ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنها لا تجوز إجارتها لأنه علل منع إجارة المصحف بأنه ليس في ذلك أكثر من النظر إليه ولا تجوز الإجارة لمثل ذلك بدليل أنه لا يجوز أن يستأجر سقفا لينظر إلى عمله وتصاويره, أو شمعا ليتجمل به ولنا أنه انتفاع مباح يحتاج إليه وتجوز الإعارة له فجازت إجارته كسائر المنافع وفارق النظر إلى السقف فإنه لا حاجة إليه, ولا جرت العادة بالإعارة من أجله وفي مسألتنا يحتاج إلى القراءة في الكتب والتحفظ منها والنسخ والسماع منها والرواية, وغير ذلك من الانتفاع المقصود المحتاج إليه.

فصل: ولا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته نص عليه أحمد في رواية الأثرم فقال: إن آجر نفسه من الذمي في خدمته, لم يجز وإن كان في عمل شيء جاز وهذا أحد قولي الشافعي, وقال في الآخر: تجوز لأنه تجوز له إجارة نفسه في غير الخدمة فجاز فيها كإجارته من المسلم ولنا أنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر, وإذلاله له واستخدامه أشبه البيع, يحققه أن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه والبيع لا يتعين فيه ذلك فإذا منع منه, فلأن يمنع من الإجارة أولى فأما إن آجر نفسه منه في عمل معين في الذمة كخياطة ثوب وقصارته, جاز بغير خلاف نعلمه لأن عليا رضي الله عنه آجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبي -ﷺ- بذلك, فلم ينكره وكذلك الأنصاري ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم ولا استخدامه أشبه مبايعته وإن آجر نفسه منه لعمل غير الخدمة, مدة معلومة جاز أيضا في ظاهر كلام أحمد لقوله, في رواية الأثرم: وإن كان في عمل شيء جاز ونقل عنه أحمد بن سعيد: لا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي وهذا مطلق في نوعي الإجارة وذكر بعض أصحابنا أن ظاهر كلام أحمد منع ذلك, وأشار إلى ما رواه الأثرم واحتج بأنه عقد يتضمن حبس المسلم أشبه البيع والصحيح ما ذكرنا, وكلام أحمد إنما يدل على خلاف ما قاله فإنه خص المنع بالإجارة للخدمة وأجاز إجارته للعمل وهذا إجارة للعمل ويفارق البيع, فإن فيه إثبات الملك على المسلم ويفارق إجارته للخدمة لتضمنها الإذلال.

فصل: نقل إبراهيم الحربي, عن أحمد أنه سئل عن الرجل يكتري الديك يوقظه لوقت الصلاة: لا يجوز وذلك لأن ذلك يقف على فعل الديك ولا يمكن استخراج ذلك منه بضرب ولا غيره, وقد يصيح وقد لا يصيح وربما صاح بعد الوقت.

فصل: القسم الرابع, القرب التي يختص فاعلها بكونه من أهل القربة يعني أنه يشترط كونه مسلما كالإمامة, والأذان والحج وتعليم القرآن نص عليه أحمد وبه قال عطاء, والضحاك بن قيس وأبو حنيفة والزهري وكره الزهري, وإسحاق تعليم القرآن بأجر وقال عبد الله بن شقيق: هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت وممن كره أجرة التعليم مع الشرط: الحسن وابن سيرين وطاوس, والشعبي والنخعي وعن أحمد رواية أخرى, يجوز ذلك حكاها أبو الخطاب ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: التعليم أحب إلى من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين, ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء, فيلقى الله تعالى بأمانات الناس التعليم أحب إلي وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم وممن أجاز ذلك مالك, والشافعي ورخص في أجور المعلمين أبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر لأن رسول الله -ﷺ- زوج رجلا بما معه من القرآن متفق عليه وإذا جاز تعليم القرآن عوضا في باب النكاح وقام مقام المهر, جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة وقد قال رسول الله -ﷺ-: (أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) حديث صحيح وثبت (أن أبا سعيد رقى رجلا بفاتحة الكتاب على جعل فبرأ وأخذ أصحابه الجعل, فأتوا به رسول الله -ﷺ- فأخبروه وسألوه فقال: لعمري لمن أكل برقية باطل, لقد أكلت برقية حق كلوا واضربوا لي معكم بسهم) ولذا جاز أخذ الأجر لأنه في معناه ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال, فجاز أخذ الأجر عليه كبناء المساجد والقناطر ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك, فإنه يحتاج إلى الاستنابة في الحج عمن وجب عليه الحج وعجز عن فعله ولا يكاد يوجد متبرع بذلك فيحتاج إلى بذل الأجر فيه ووجه الرواية الأولى, ما روى عثمان بن أبي العاص قال: (إن آخر ما عهد إلى النبي -ﷺ- أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) قال الترمذي: هذا حديث حسن وروى عبادة بن الصامت قال: علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة, فأهدى إلي رجل منهم قوسا قال: قلت: قوس وليست بمال قال: قلت أتقلدها في سبيل الله فذكرت ذلك للنبي -ﷺ- وقص عليه القصة قال: (إن سرك أن يقلدك الله قوسا من نار, فاقبلها) وعن أبي بن كعب أنه (علم رجلا سورة من القرآن فأهدى إليه خميصة أو ثوبا, فذكر ذلك للنبي -ﷺ- فقال: لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار) وعن أبي, قال: (كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن, فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له: هلمي بطعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة فحاك في نفسي منه شيء فذكرته للنبي -ﷺ- فقال: إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله, فكل منه وإن كان يتحفك به فلا تأكله) وعن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري, قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه, ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به) روى هذه الأحاديث كلها الأثرم في " سننه " ولأن من شرط صحة هذه الأفعال, كونها قربة إلى الله تعالى فلم يجز أخذ الأجر عليها كما لو استأجر قوما يصلون خلفه الجمعة أو التراويح فأما الأخذ على الرقية, فإن أحمد اختار جوازه وقال: لا بأس وذكر حديث أبي سعيد والفرق بينه وبين ما اختلف فيه أن الرقية نوع مداواة, والمأخوذ عليها جعل والمداواة يباح أخذ الأجر عليها والجعالة أوسع من الإجارة, ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة وقوله عليه السلام: (أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) يعني به الجعل أيضا في الرقية لأنه ذكر ذلك في سياق خبر الرقية وأما جعل التعليم صداقا فعنه فيه اختلاف وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق إنما قال -ﷺ-: (زوجتكها على ما معك من القرآن) فيحتمل أنه زوجه إياها بغير صداق, إكراما له كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه ونقل عنه جوازه والفرق بين المهر والأجر, أن المهر ليس بعوض محض وإنما وجب نحلة ووصلة ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته, وصح مع فساده بخلاف الأجر في غيره فأما الرزق من بيت المال, فيجوز على ما يتعدى نفعه من هذه الأمور لأن بيت المال لمصالح المسلمين فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجا إليه كان من المصالح, وكان للآخذ له أخذه لأنه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح بخلاف الأجر.

فصل: فإن أعطي المعلم شيئا من غير شرط, فظاهر كلام أحمد جوازه وقال فيما نقل عنه أيوب بن سافري: لا يطلب ولا يشارط, فإن أعطي شيئا أخذه وقال في رواية أحمد بن سعيد: أكره أجر المعلم إذا شرط وقال: إذا كان المعلم لا يشارط ولا يطلب من أحد شيئا, إن أتاه شيء قبله كأنه يراه أهون وكرهه طائفة من أهل العلم لما تقدم من حديث القوس والخميصة اللتين أعطيهما أبي وعبادة من غير شرط ولأن ذلك قربة فلم يجز أخذ العوض عنها لا بشرط ولا بغيره, كالصلاة والصيام ووجه الأول قول النبي -ﷺ-: (ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه, وتموله فإنه رزق ساقه الله إليك) وقد أرخص النبي -ﷺ- لأبي في أكل طعام الذي كان يعلمه إذا كان طعامه وطعام أهله ولأنه إذا كان بغير شرط كان هبة مجردة, فجاز كما لو لم يعلمه شيئا فأما حديث القوس والخميصة فقضيتان في عين, فيحتمل أن النبي -ﷺ- علم أنهما فعلا ذلك لله خالصا فكره أخذ العوض عنه من غير الله تعالى ويحتمل غير ذلك وإن أعطي المعلم أجرا على تعليم الصبي الخط وحفظه جاز نص عليه أحمد, فقال: إن كان المعطي ينوي أن يعطيه لحفظ الصبي وتعليمه فأرجو إذا كان كذا ولأن هذا مما يجوز أخذ الأجر عليه مفردا فجاز مع غيره, كسائر ما يجوز الاستئجار عليه وهكذا لو كان إمام المسجد قيما له يسرج قناديله ويكنسه, ويغلق بابه ويفتحه فأخذ أجرا على خدمته أو كان النائب في الحج يخدم المستنيب له في طريق الحج, ويشد له ويرفع حمله ويحج عن أبيه, فدفع له أجرا لخدمته لم يمتنع ذلك -إن شاء الله تعالى-.

فصل: وما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة, كتعليم الخط والحساب والشعر المباح وأشباهه وبناء المساجد والقناطر, جاز أخذ الأجر عليه لأنه يقع تارة قربة وتارة غير قربة فلم يمنع من الاستئجار لفعله, كغرس الأشجار وبناء البيوت وكذلك في تعليم الفقه والحديث وأما ما لا يتعدى نفعه فاعله من العبادات المحضة كالصيام, وصلاة الإنسان لنفسه وحجه عن نفسه وأداء زكاة نفسه, فلا يجوز أخذ الأجر عليها بغير خلاف لأن الأجر عوض الانتفاع ولم يحصل لغيره ها هنا انتفاع, فأشبه إجارة الأعيان التي لا نفع فيها.

فصل: إذا اختلفا في قدر الأجر فقال: آجرتنيها سنة بدينار قال: بل بدينارين تحالفا ويبدأ بيمين الآجر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي لأن الإجارة نوع من البيع, فإذا تحالفا قبل مضي شيء من المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله وإن رضي أحدهما بما حلف عليه الآخر قر العقد وإن فسخا العقد بعد المدة أو شيء منها, سقط المسمى ووجب أجر المثل كما لو اختلفا في المبيع بعد تلفه وهذا قول الشافعي وبه قال أبو حنيفة إن لم يكن عمل العمل وإن كان عمله فالقول قول المستأجر فيما بينه وبين أجر مثله وقال أبو ثور: القول قول المستأجر لأنه منكر للزيادة في الأجر, والقول قول المنكر ولنا أن الإجارة نوع من البيع فيتحالفان عند اختلافهما في عوضها كالبيع, وكما قبل أن يعمل العمل عند أبي حنيفة وقال ابن أبي موسى: القول قول المالك لقول النبي -ﷺ-: (إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع) وهذا يحتمل أن يريد به إذا اختلفا في المدة وأما إذا اختلفا في العوض, فالصحيح أنهما يتحالفان لما ذكرناه.

فصل: وإن اختلفا في المدة فقال: أجرتكها سنة بدينار قال: بل سنتين بدينارين فالقول قول المالك لأنه منكر للزيادة فكان القول قوله فيما أنكره, كما لو قال: بعتك هذا العبد بمائة قال: بل هذين العبدين. وإن قال: أجرتكها سنة بدينار قال: بل سنتين بدينار فهاهنا قد اختلفا في قدر العوض والمدة جميعا فيتحالفان لأنه لم يوجد الاتفاق منهما على مدة بعوض فصار كما لو اختلفا في العوض مع اتفاق المدة. وإن قال المالك: أجرتكها سنة بدينار فقال الساكن: بل استأجرتني على حفظها بدينار فقال أحمد: القول قول رب الدار, إلا أن تكون للساكن بينة وذلك لأن سكنى الدار قد وجد من الساكن واستيفاء منفعتها وهي ملك صاحبها والقول قوله في ملكه, والأصل عدم استئجار الساكن في الحفظ فكان القول قول من ينفيه.

فصل: وإن اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فالقول قول المستأجر لأنه مؤتمن عليها, فأشبه المودع ولأن الأصل عدم العدوان والبراءة من الضمان. وإن ادعى أن العبد أبق من يده, وأن الدابة شردت أو نفقت وأنكر المؤجر فعن أحمد روايتان إحداهما أن القول قول المستأجر لما ذكرنا, ولا أجر عليه إذا حلف أنه ما انتفع بها لأن الأصل عدم الانتفاع والثانية القول قول المؤجر لأن الأصل السلامة فأما إن ادعى أن العبد مرض في يده نظرنا فإن جاء به صحيحا فالقول قول المالك, سواء وافقه العبد أو خالفه نص عليه أحمد وإن جاء به مريضا فالقول قول المستأجر وهذا قول أبي حنيفة لأنه إذا جاء به صحيحا فقد ادعى ما يخالف الأصل وليس معه دليل عليه, وإن جاء به مريضا فقد وجد ما يخالف الأصل يقينا فكان القول قوله في مدة المرض لأنه أعلم بذلك, لكونه في يده وكذلك إن ادعى إباقه في حال إباقه أو جاء به غير آبق ونقل إسحاق بن منصور عن أحمد, أنه يقبل قوله في إباق العبد دون مرضه وبه قال الثوري وإسحاق قال أبو بكر: وبالأول أقول لأنهما سواء في تفويت منفعته, فكانا سواء في دعوى ذلك وإن هلكت العين فاختلفا في وقت هلاكها أو أبق العبد, أو مرض فاختلفا في وقت ذلك فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العمل ولأن ذلك حصل في يده وهو أعلم به.

فصل: إذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليخيطه أو يقصره, من غير عقد ولا شرط ولا تعويض بأجر مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله, وأنا أعلم أنك إنما تعمل بأجر وكان الخياط والقصار منتصبين لذلك ففعلا ذلك فلهما الأجر وقال أصحاب الشافعي: لا أجر لهما لأنهما فعلا ذلك من غير عوض جعل لهما, فأشبه ما لو تبرعا بعمله ولنا أن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول فصار كنقد البلد وكما لو دخل حماما, أو جلس في سفينة مع ملاح ولأن شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعويض فأما إن لم يكونا منتصبين لذلك, لم يستحقا أجرا إلا بعقد أو شرط العوض أو تعويض به لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد فصار كما لو تبرع به, أو عمله بغير إذن مالكه ولو دفع ثوبا إلى رجل ليبيعه فالحكم فيه كالحكم في القصار والخياط إن كان منتصبا يبيع للناس بأجر, فله أجر مثله نص عليه أحمد وإن لم يكن كذلك فلا شيء لما تقدم ومتى دفع ثوبه إلى أحد هؤلاء, ولم يقاطعه على أجر فله أجر المثل لأن الثياب تختلف أجرتها ولم يعين شيئا, فجرى مجرى الإجارة الفاسدة فإن تلف الثوب من حرزه أو بغير فعله فلا ضمان عليه لأن ما لا يضمن في العقد الصحيح, لا يضمن في فاسده وإن تلف من فعله بتخريقه أو دقه ضمنه لأنه إذا ضمنه بذلك في العقد الصحيح, ففي الفاسد أولى وقال أحمد في من دفع ثوبا إلى قصار ليقصره ولم يقطع له أجرا, بل قال: أنا أعطيك كما تعطى وهلك الثوب فإن كان بخرق أو نحوه مما لا تجنيه يده فلا ضمان عليه, بين الكراء أو لم يبين والعلة في ذلك ما ذكرناه. فصل: إذا استأجر رجلا ليحمل له كتابا إلى مكة أو غيرها إلى صاحب له, فحمله فوجد صاحبه غائبا فرده, استحق الأجر بحمله في الذهاب والرد لأنه حمله في الذهاب بإذن صاحبه صريحا وفي الرد تضمينا لأن تقدير كلامه: وإن لم تجد صاحبه فرده إذ ليس سوى رده إلا تضييعه فقد علم أنه لا يرضى تضييعه فتعين رده والله أعلم.


=======

ج22.كتاب المساقاة والمزارعة المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي(الجزء العشرون – كتاب المساقاة والمزارعة)

المغني - كتاب المساقاة والمزارعة المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

(الجزء العشرون – كتاب المساقاة والمزارعة)
 
  • كتاب المساقاة
 
 o مسألة: جواز المساقاة في جميع الشجر المثمر فصل: مساقاة ما لا ثمر له من الشجر فصل: المساقاه على ثمرة موجودة فصل: قول الخرقي: بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر فصل: إذا تعددت أجناس الشجر في البستان فصل: إن كان بستان لاثنين فساقيا عاملا واحدا فصل: ولو ساقاه ثلاث سنين على أن له في سنة قدر معين مختلف عن قدر السنة التي قبلها فصل: لو دفع إلى رجل بستانا فقال: ما زرعت فيه من حنطة فلى ربعه فصل: وإن ساقاه على أنه إن سقى سيحا فله الثلث فصل: إن ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه فصل: المساقاة على البعل من الشجر فصل: لا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية فصل: المساقاة بلفظ المساقاة وما يؤدي معناها من الألفاظ فصل: يلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها فصل: الجذاذ والحصاد واللقاط على العامل فصل: إن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فصل: إن شرط العامل أن أجر الأجراء الذين يحتاجهم من الثمرة وقدر الأجرة فصل: المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة فصل: لا يثبت في المساقاة خيار الشرط فصل: المساقاة لا تفتقر إلى ضرب مدة على القول بجوازها فصل: هرب العامل فصل: العامل أمين والقول قوله فيما يدعيه من هلاك فصل: إن اختلفا في الجزء المشروط للعامل فصل: يملك العامل حصته من الثمرة بظهورها فصل: إن ساقاه على أرض خراجية o مسألة: اشتراط دراهم معلومة مع جزء من الثمرة فصل: إذا ساقى رجلا أو زارعه فعامل العامل غيره على الأرض فصل: إذا ساقاه على ودي النخل أو صغار الشجر إلى مدة فصل: إن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل فيه حتى يحمل فصل: إذا ساقاه على شجر فبان مستحقا بعد العمل أخذه ربه وثمرته • باب المزارعة o مسألة: المزارعة والمخابرة ومعناهما فصل: جواز المزارعة على أرض فيها شجر ساقاه عليه فصل: المزارعة على أرض فيها شجرات يسيرة فصل: وإن آجره بياض أرض وساقاه على الشجر الذي فيها o مسألة: إذا كان البذر من رب الأرض فصل: إن كان البذر منهما نصفين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فصل: قال صاحب الأرض: أجرتك نصف أرضي هذه بنصف بذرك o مسألة: الشروط التي تمنع في المزارعة فصل: إن زارعه على أن لرب الأرض زرعا بعينه وللعامل زرعا بعينه فصل: الشروط الفاسدة في المساقاة والمزارعة فصل: إن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ، ليزرعه في أرضه فصل: إن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر فصل: حكم الحب الساقط إذا نبت في الأرض عاما آخر فصل: في إجارة الأرض

كتاب المساقاة 
 
 المساقاة أن يدفع الرجل شجره إلى آخر, ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره وإنما سميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي لأن أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي, لأنهم يستقون من الآبار فسميت بذلك والأصل في جوازها السنة والإجماع أما السنة فما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (عامل رسول الله -ﷺ- أهل خيبر بشطر ما يخرج منها, من ثمر أو زرع حديث صحيح) متفق عليه وأما الإجماع فقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن آبائه: (عامل رسول الله -ﷺ- أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي, ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع وهذا عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم) واشتهر ذلك فلم ينكره منكر فكان إجماعا فإن قيل: لا نسلم أنه لم ينكره منكر, فإن عبد الله بن عمر راوى حديث معاملة أهل خيبر قد رجع عنه وقال: كنا نخابر أربعين سنة, حتى حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله -ﷺ- نهى عن المخابرة وهذا يمنع انعقاد الإجماع ويدل على نسخ حديث ابن عمر لرجوعه عن العمل به إلى حديث رافع بن خديج قلنا: لا يجوز حمل حديث رافع على ما يخالف الإجماع, ولا حديث ابن عمر لأن النبي -ﷺ- لم يزل يعامل أهل خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء بعده ثم من بعدهم, فكيف يتصور نهي النبي -ﷺ- عن شيء يخالفه؟ أم كيف يعمل بذلك في عصر الخلفاء ولم يخبرهم من سمع النهي عن النبي -ﷺ- وهو حاضر معهم وعالم بفعلهم فلم يخبرهم, فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة والإجماع على أنه قد روى في تفسير خبر رافع عنه ما يدل على صحة قولنا فروى البخاري بإسناده قال: كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض, فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا, فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ وروي تفسيره أيضا بشيء غير هذا من أنواع الفساد وهو مضطرب جدا قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث رافع بن خديج نهى رسول الله -ﷺ- عن المزارعة فقال: رافع روي عنه في هذا ضروب كأنه يريد أن اختلاف الروايات عنه يوهن حديثه وقال طاوس: إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني, أن النبي -ﷺ- لم ينه عنه ولكن قال: (لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما) رواه البخاري ومسلم وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع عليه فكيف يجوز نسخ أمر فعله النبي -ﷺ- حتى مات وهو يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعده, بخبر لا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره ورجوع ابن عمر إليه يحتمل أنه رجع عن شيء من المعاملات الفاسدة التي فسرها رافع في حديثه وأما غير ابن عمر فقد أنكر على رافع, ولم يقبل حديثه وحمله على أنه غلط في روايته والمعنى يدل على ذلك فإن كثيرا من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الاستئجار عليه, وكثير من الناس لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر ففي تجويز المساقاة دفع للحاجتين, وتحصيل لمصلحة الفئتين فجاز ذلك كالمضاربة بالأثمان. مسألة قال أبو القاسم: [وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم بجزء معلوم, يجعل للعامل من الثمر] وجملة ذلك أن المساقاة جائزة في جميع الشجر المثمر هذا قول الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسالم ومالك, والثوري والأوزاعي وأبو يوسف, ومحمد وإسحاق وأبو ثور وقال داود: لا يجوز إلا في النخيل لأن الخبر إنما ورد بها فيه وقال الشافعي لا يجوز إلا في النخيل والكرم لأن الزكاة تجب في ثمرتهما, وفي سائر الشجر قولان: أحدهما لا يجوز فيه لأن الزكاة لا تجب في نمائه فأشبه ما لا ثمرة له وقال أبو حنيفة وزفر: لا تجوز بحال لأنها إجارة بثمرة لم تخلق, أو إجارة بثمرة مجهولة أشبه إجارة نفسه بثمرة غير الشجر الذي يسقيه ولنا السنة والإجماع ولا يجوز التعويل على ما خالفهما وقولهم: إنها إجارة غير صحيح, إنما هو عقد على العمل في المال ببعض نمائه فهي كالمضاربة وينكسر ما ذكروه بالمضاربة فإنه يعمل في المال بنمائه, وهو معدوم مجهول وقد جاز بالإجماع وهذا في معناه ثم قد جوز الشارع العقد في الإجارة على المنافع المعدومة للحاجة, فلم لا يجوز على الثمرة المعدومة للحاجة مع أن القياس إنما يكون في إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه أو المجمع عليه, فأما في إبطال نص وخرق إجماع بقياس نص آخر فلا سبيل إليه وأما تخصيص ذلك بالنخيل, أو به وبالكرم فيخالف عموم قوله: (عامل رسول الله -ﷺ- أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر) وهذا عام في كل ثمر ولا تكاد بلدة ذات أشجار تخلو من شجر غير النخيل, وقد جاء في لفظ بعض الأخبار أن النبي -ﷺ- (عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر) ولأنه شجر يثمر كل حول فأشبه النخيل والكرم, ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة عليه كالنخل وأكثر لكثرته فجازت المساقاة عليه كالنخل, ووجوب الزكاة ليس من العلة المجوزة للمساقاة ولا أثر له فيها وإنما العلة في ما ذكرناه. فصل وأما ما لا ثمر له من الشجر, كالصفصاف والجوز ونحوهما أو له ثمر غير مقصود كالصنوبر والأرز, فلا تجوز المساقاة عليه وبه قال مالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص, , ولأن المساقاة إنما تكون بجزء من الثمرة وهذا لا ثمرة له إلا أن يكون مما يقصد ورقه أو زهره كالتوت والورد, فالقياس يقتضي جواز المساقاة عليه لأنه في معنى الثمر لأنه نماء يتكرر كل عام ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه, فيثبت له مثل حكمه. فصل وإن ساقاه على ثمرة موجودة فذكر أبو الخطاب فيها روايتين إحداهما تجوز وهو اختيار أبى بكر, وقول مالك وأبى يوسف ومحمد, وأبى ثور وأحد قولي الشافعي لأنها إذا جازت في المعدومة مع كثرة الغرر فيها فمع وجودها وقلة الغرر فيها أولى وإنما تصح إذا بقي من العمل ما يستزاد به الثمرة, كالتأبير والسقى وإصلاح الثمرة فإن بقي ما لا تزيد به الثمرة, كالجذاذ ونحوه لم يجز بغير خلاف والثانية لا تجوز وهو القول الثاني للشافعي لأنه ليس بمنصوص عليه, ولا في معنى المنصوص فإن النبي -ﷺ- عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر أو زرع ولأن هذا يفضي إلى أن يستحق بالعقد عوضا موجودا ينتقل الملك فيه عن رب المال إلى المساقي فلم يصح, كما لو بدا صلاح الثمرة ولأنه عقد على العمل في المال ببعض نمائه فلم يجز بعد ظهور النماء, كالمضاربة ولأن هذا يجعل العقد إجارة بمعلوم ومجهول فلم يصح, كما لو استأجره على العمل بذلك وقولهم: إنه أقل غررا قلنا: قلة الغرر ليست من المقتضى للجواز ولا كثرته الموجودة في محل النص مانعة فلا تؤثر قلته شيئا, والشرع ورد به على وجه لا يستحق العامل فيه عوضا موجودا ولا ينتقل إليه من ملك رب المال شيء وإنما يحدث النماء الموجود على ملكهما على ما شرطاه فلم تجز مخالفة هذا الموضوع, ولا إثبات عقد ليس في معناه إلحاقا به كما لو بدا صلاح الثمرة كالمضاربة بعد ظهور الربح. فصل فأما قول الخرقي: [بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر] فيدل على شيئين: أحدهما أن المساقاة لا تصح إلا على جزء معلوم من الثمرة مشاع, كالنصف والثلث لحديث ابن عمر: عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها وسواء قل الجزء أو كثر, فلو شرط للعامل جزءا من مائة جزء وجعل جزءا منها لنفسه والباقي للعامل جاز ما لم يفعل ذلك حيلة, وكذلك إن عقده على أجزاء معلومة كالخمسين وثلاثة أثمان أو سدس ونصف سبع, ونحو ذلك جاز وإن عقد على جزء مبهم كالسهم والجزء والنصيب والحظ ونحوه لم تجز لأنه إذا لم يكن معلوما لم تمكن القسمة بينهما ولو ساقاه على آصع معلومة أو جعل مع الجزء المعلوم آصعا, لم تجز لأنه ربما لم يحصل ذلك أو لم يحصل غيره فيستضر رب الشجر أو ربما كثر الحاصل فيستضر العامل وإن شرط له ثمر نخلات بعينها, لم يجز لأنها قد لا تحمل فتكون الثمرة كلها لرب المال وقد لا تحمل غيرها, فتكون الثمرة كلها للعامل ولهذه العلة (نهى النبي -ﷺ- عن المزارعة التي يجعل فيها لرب الأرض مكانا معينا وللعامل مكانا معينا) (قال رافع: كنا نكري الأرض, على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك, فأما الذهب والورق فلم ينهنا) متفق عليه فمتى شرط شيئا من هذه الشروط الفاسدة فسدت المساقاة والثمرة كلها لرب المال لأنها نماء ملكه وللعامل أجر مثله, كالمضاربة الفاسدة الثاني أن الشرط للعامل لأنه إنما يأخذ بالشرط فالشرط يراد لأجله ورب المال يأخذ بماله لا بالشرط, فإذا قال: ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة صح وكان الباقي لرب المال وإن قال: على أن لي ثلث الثمرة فقال ابن حامد: يصح, والباقي للعامل وقيل: لا يصح وقد ذكرنا تعليل ذلك في المضاربة وإن اختلفا في الجزء المشروط لمن هو منهما فهو للعامل لأن الشرط يراد لأجله كما ذكرنا. فصل وإذا كان في البستان شجر من أجناس, كالتين والزيتون والكرم, والرمان فشرط للعامل من كل جنس قدرا كنصف ثمر التين, وثلث الزيتون وربع الكرم وخمس الرمان, أو كان فيه أنواع من جنس فشرط من كل نوع قدرا وهما يعلمان قدر كل نوع, صح لأن ذلك كأربعة بساتين ساقاه على كل بستان بقدر مخالف للقدر المشروط من الآخر وإن لم يعلما قدره أو لم يعلم أحدهما, لم يجز لأنه قد يكون أكثر ما في البستان من النوع الذي شرط فيه القليل أو أكثره مما شرط فيه الكثير ولو قال ساقيتك على هذين البستانين بالنصف من هذا والثلث من هذا صح لأنها صفقة واحدة جمعت عوضين, فصار كأنه قال: بعتك دارى هاتين هذه بألف وهذه بمائة وإن قال: بالنصف من أحدهما, والثلث من الآخر لم يصح لأنه مجهول لا يدرى أيهما الذي يستحق نصفه ولا الذي يستحق ثلثه ولو ساقاه على بستان واحد, نصفه هذا بالنصف ونصفه هذا بالثلث وهما متميزان صح لأنهما كبستانين. فصل وإن كان البستان لاثنين فساقيا عاملا واحدا, على أن له نصف نصيب أحدهما وثلث نصيب الآخر والعامل عالم بنصيب كل واحد منهما, جاز لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان ولو أفرد كل واحد منهما بعقد كان له أن يشرط ما اتفقا عليه وإن جهل نصيب كل واحد منهما لم يجز لأنه غرر فإنه قد يقل نصيب من شرط النصف, فيقل حظه وقد يكثر فيتوفر حظه فأما إن شرطا قدرا واحدا من مالهما جاز, وإن لم يعلم قدر ما لكل واحد منهما لأنها جهالة لا غرر فيها ولا ضرر فصار كما لو قالا: بعناك دارنا هذه بألف ولم يعلم نصيب كل واحد منهما جاز لأنه أي نصيب كان فقد علم عوضه, وعلم جملة المبيع فصح كذلك ها هنا ولو ساقى واحد اثنين جاز, ويجوز أن يشرط لهما التساوى في النصيب ويجوز أن يشرط لأحدهما أكثر من الآخر. فصل ولو ساقاه ثلاث سنين على أن له في الأولى النصف, وفي الثانية الثلث وفي الثالثة الربع جاز لأن قدر ما له في كل سنة معلوم فصح, كما لو شرط له من كل نوع قدرا. فصل ولو دفع إلى رجل بستانا فقال: ما زرعت فيه من حنطة فلى ربعه وما زرعت من شعير فلى ثلثه وما زرعت من باقلا فلى نصفه لم يصح لأن ما يزرعه من كل واحد من هذه الأصناف مجهول القدر, فجرى مجرى ما لو شرط له في المساقاة ثلث هذا النوع ونصف هذا النوع الآخر وهو جاهل بما فيه منهما وإن قال: إن زرعتها حنطة فلى ربعها, وإن زرعتها شعيرا فلى ثلثه وإن زرعتها باقلا فلى نصفه لم يصح أيضا لأنه لا يدرى ما يزرعه فأشبه ما لو قال: بعتك بعشرة صحاح, أو أحد عشرة مكسرة وفيه وجه آخر أنه يصح بناء على قوله في الإجارة: إن خطته روميا فلك درهم, وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإنه يصح في المنصوص عنه فيخرج ها هنا مثله وإن قال: ما زرعتها من شيء فلى نصفه صح (لأن النبي -ﷺ- ساقى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ولو جعل له في المزارعة ثلث الحنطة, ونصف الشعير وثلثى الباقلا وبينا قدر ما يزرع من كل واحد من هذه الأنواع, إما بتقدير البذر وإما بتقدير المكان وتعيينه أو بمساحته, مثل أن قال: تزرع هذا المكان حنطة وهذا شعيرا أو تزرع مدين حنطة, ومدين شعيرا أو تزرع قفيزا حنطة وقفيزين شعيرا جاز لأن كل واحد من هذه طريق إلى العلم فاكتفى به. فصل وإن ساقاه على أنه إن سقى سيحا فله الثلث, وإن سقى بكلفة فله النصف لم يصح لأن العمل مجهول والنصيب مجهول, وهو في معنى بيعتين في بيعة ويتخرج أن يصح قياسا على مسألة الإجارة ولو قال: لك الخمسان إن كانت عليك خسارة, وإن لم يكن عليك خسارة فلك الربع لم يصح نص عليه أحمد وقال: هذا شرطان في شرط وكرهه وهذا في معنى المسألة التي قبلها ويخرج فيها مثل ما خرج فيها ولو ساقاه في هذا الحائط بالثلث, على أن يساقيه في الحائط الآخر بجزء معلوم لم يصح لأنه شرط عقدا في عقد فصار في معنى بيعتين في بيعة, كقوله: بعتك ثوبى على أن تبيعنى ثوبك وإنما فسد لمعنيين: أحدهما أنه شرط في العقد عقدا آخر والنفع الحاصل بذلك مجهول, فكأنه شرط العوض في مقابلة معلوم ومجهول الثاني أن العقد الآخر لا يلزمه بالشرط فيسقط الشرط وإذا سقط وجب رد الجزء الذي تركه من العوض لأجله, وذلك مجهول فيصير الكل مجهولا. فصل وإن ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه, مثل أن يكون الأصل بينهما نصفين فجعل له الثلثين من الثمرة صح, وكان السدس حصته من المساقاة فصار كأنه قال: ساقيتك على نصيبى بالثلث وإن ساقاه على أن تكون الثمرة بينهما نصفين أو على أن يكون للعامل الثلث, فهي مساقاة فاسدة لأن العامل يستحق نصفها بملكه فلم يجعل له في مقابلة عمله شيئا وإذا شرط له الثلث فقد شرط أن غير العامل يأخذ من نصيب العامل ثلثه, ويستعمله بلا عوض فلا يصح فإذا عمل في الشجر بناء على هذا كانت الثمرة بينهما نصفين بحكم الملك, ولا يستحق العامل بعمله شيئا لأنه تبرع به برضاه بالعمل بغير عوض فأشبه ما لو قال له: أنا أعمل فيه بغير شيء وذكر أصحابنا وجها آخر أنه يستحق أجر مثله لأن المساقاة تقتضى عوضا, فلا تسقط برضاه بإسقاطه كالنكاح ولم يسلم له العوض, فيكون له أجر مثله ولنا أنه عمل في مال غيره متبرعا فلم يستحق عوضا كما لو لم يعقد المساقاة ويفارق النكاح لوجهين: أحدهما أن عقد النكاح صحيح فوجب به العوض لصحته, وهذا فاسد لا يوجب شيئا والثاني أن الأبضاع لا تستباح بالبذل والإباحة والعمل ها هنا يستباح بذلك, ولأن المهر في النكاح لا يخلو من أن يكون واجبا بالعقد أو بالإصابة أو بهما, فإن وجب بالعقد لم يصح قياس هذا عليه لوجهين: أحدهما أن النكاح صحيح, وهذا فاسد والثاني أن العقد ها هنا لا يوجب ولو أوجب لأوجب قبل العمل ولا خلاف أن هذا لا يوجب قبل العمل شيئا وإن أوجب بالإصابة, لم يصح القياس عليها لوجهين: أحدهما أن الإصابة لا تستباح بالإباحة والبذل بخلاف العمل والثاني أن الإصابة لو خلت عن العقد لأوجبت, وهذا بخلافه وإن وجب بهما امتنع القياس لهذه الوجوه كلها فأما إن ساقى أحدهما شريكه على أن يعملا معا فالمساقاة فاسدة والثمرة بينهما على قدر ملكيهما, ويتقاصان العمل إن تساويا فيه وإن كان لأحدهما فضل نظرت فإن كان قد شرط له فضل ما في مقابلة عمله استحق ما فضل له من أجر المثل, وإن لم يشرط له شيء فلا شيء له إلا على الوجه الذي ذكره أصحابنا وتكلمنا عليه. فصل وتصح المساقاة على البعل من الشجر كما تجوز فيما يحتاج إلى سقي وبهذا قال مالك ولا نعلم فيه خلافا عند من يجوز المساقاة لأن الحاجة تدعوا إلى المعاملة في ذلك كدعائها إلى المعاملة في غيره فيقاس عليه وكذلك الحكم في المزارعة فصل ولا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية, أو بالصفة التي لا يختلف معها كالبيع فإن ساقاه على بستان بغير رؤية ولا صفة لم يصح لأنه عقد على مجهول فلم يصح, كالبيع وإن ساقاه على أحد هذين الحائطين لم يصح لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان فلم يجز على غير معين, كالبيع. فصل وتصح المساقاة بلفظ المساقاة وما يؤدي معناها من الألفاظ نحو: عاملتك, وفالحتك واعمل في بستاني هذا حتى تكمل ثمرته وما أشبه هذا لأن القصد المعنى, فإذا أتى به بأي لفظ دل عليه صح كالبيع وإن قال: استأجرتك لتعمل لي في هذا الحائط حتى تكمل ثمرته, بنصف ثمرته ففيه وجهان: أحدهما لا يصح ذكره أبو الخطاب لأن الإجارة يشترط لها كون العوض معلوما والعمل معلوما وتكون لازمة, والمساقاة بخلافه والثاني يصح وهو أقيس لأنه مؤد للمعنى فصح به العقد كسائر الألفاظ المتفق عليها وقد ذكر أبو الخطاب أن معنى قول أحمد: تجوز إجارة الأرض ببعض الخارج منها المزارعة, على أن البذر والعمل من العامل وما ذكر من شروط الإجارة إنما يعتبر في الإجارة الحقيقية أما إذا أريد بالإجارة المزارعة, فلا يشترط لها غير شرط المزارعة. فصل ويلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها مثل حرث الأرض تحت الشجر والبقر التي تحرث, وآلة الحرث وسقى الشجر واستقاء الماء, وإصلاح طرق الماء وتنقيتها وقطع الحشيش المضر والشوك وقطع الشجر اليابس, وزبار الكرم وقطع ما يحتاج إلى قطعه وتسوية الثمرة, وإصلاح الأجاجين وهي الحفر التي يجتمع فيها الماء على أصول النخل وإدارة الدولاب, والحفظ للثمر في الشجر وبعده حتى يقسم وإن كان مما يشمس فعليه تشميسه وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل, كسد الحيطان وإنشاء الأنهار وعمل الدولاب, وحفر بئره وشراء ما يلقح به وعبر بعض أهل العلم عن هذا بعبارة أخرى فقال: كل ما يتكرر كل عام فهو على العامل, وما لا يتكرر فهو على رب المال وهذا صحيح في العمل فأما شراء ما يلقح به فهو على رب المال وإن تكرر لأن هذا ليس من العمل فأما البقرة التي تدير الدولاب فقال أصحابنا: هي على رب المال لأنها ليست من العمل, فأشبهت ما يلقح به والأولى أنها على العامل لأنها تراد للعمل فأشبهت بقر الحرث ولأن استقاء الماء على العامل إذا لم يحتج إلى بهيمة فكان عليه, وإن احتاج إلى بهيمة كغيره من الأعمال وقال بعض أصحاب الشافعي: ما يتعلق بصلاح الأصول والثمرة معا كالكسح للنهر والثور هو على من شرط عليه منهما, وإن أهمل شرط ذلك على أحدهما لم تصح المساقاة وقد ذكرنا ما يدل على أنه على العامل فأما تسميد الأرض بالزبل إن احتاجت إليه فشراء ذلك على رب المال لأنه ليس من العمل, فجرى مجرى ما يلقح به وتفريق ذلك في الأرض على العامل كالتلقيح وإن أطلقا العقد, ولم يبينا ما على كل واحد منهما فعلى كل واحد منهما ما ذكرنا أنه عليه وإن شرطا ذلك كان تأكيدا وإن شرطا على أحدهما شيئا مما يلزم الآخر, فقال القاضي وأبو الخطاب: لا يجوز ذلك فعلى هذا تفسد المساقاة وهو مذهب الشافعي لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده, كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال وقد روى عن أحمد ما يدل على صحة ذلك فإنه ذكر أن الجذاذ عليهما فإن شرطه على العامل جاز وهذا مقتضى كلام الخرقي في المضاربة لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد, ولا مفسدة فيه فصح كتأجيل الثمن في المبيع, وشرط الرهن والضمين والخيار فيه لكن يشترط أن يكون ما يلزم كل واحد من العمل معلوما لئلا يفضي إلى التنازع والتواكل, فيختل العمل وأن لا يكون ما على رب المال أكثر العمل لأن العامل يستحق بعمله فإذا لم يعمل أكثر العمل, كان وجود عمله كعدمه فلا يستحق شيئا. فصل فأما الجذاذ والحصاد واللقاط فهو على العامل نص أحمد عليه في الحصاد, وهو مذهب الشافعي لأنه من العمل فكان على العامل كالتشميس وروى عن أحمد في الجذاذ أنه إذا شرط على العامل فجائز لأن العمل عليه, وإن لم يشرطه فعلى رب المال بحصته ما يصير إليه فظاهر هذا أنه جعل الجذاذ عليهما وأجاز اشتراطه على العامل وهو قول بعض الشافعية وقال محمد بن الحسن: تفسد المساقاة بشرطه على العامل لأنه شرط ينافى مقتضى العقد واحتج من جعله عليهما بأنه يكون بعد تكامل الثمرة, وانقضاء المعاملة فأشبه نقله إلى منزله ولنا أن النبي -ﷺ- دفع خيبر إلى يهود على أن يعملوها من أموالهم, ولأن هذا من العمل فيكون عليه كالتشميس, وما ذكروه يبطل بالتشميس ويفارق النقل إلى المنزل فإنه يكون بعد القسمة, وزوال العقد فأشبه المخزن. فصل وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فهو كشرط عمل رب المال لأن عملهم كعمله, فإن يد الغلام كيد مولاه وقال أبو الخطاب: فيه وجهان: أحدهما كما ذكرنا والثاني يجوز لأن غلمانه ماله فجاز أن تعمل تبعا لماله كثور الدولاب, وكما يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل عليها وأما رب المال لا يجوز جعله تبعا وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن فإذا شرط غلمانا يعملون معه, فنفقتهم على ما يشترطان عليه فإن أطلقا ولم يذكرا نفقتهم فهي على رب المال وبهذا قال الشافعي وقال مالك: نفقتهم على المساقي, ولا ينبغي أن يشرطها على رب المال لأن العمل على المساقي فمؤنة من يعمله عليه كمؤنة غلمانه ولنا أنه مملوك رب المال, فكانت نفقته عليه عند الإطلاق كما لو أجره فإن شرطها على العامل جاز, ولا يشترط تقديرها وبه قال الشافعي وقال محمد بن الحسن: يشترط تقديرها لأنه اشترط عليه ما لا يلزمه فوجب أن يكون معلوما كسائر الشروط ولنا أنه لو وجب تقديرها لوجب ذكر صفاتها, ولا يجب ذكر صفاتها فلم يجب تقديرها ولا بد من معرفة الغلمان المشترط عملهم برؤية أو صفة تحصل بها معرفتهم كما في عقد الإجارة. فصل وإن شرط العامل أن أجر الأجراء الذين يحتاج إلى الاستعانة بهم من الثمرة وقدر الأجرة, لم يصح لأن العمل عليه فإذا شرط أجره من المال لم يصح, كما لو شرط لنفسه أجر عمله وإن لم يقدره فسد لذلك ولأنه مجهول ويفارق هذا ما إذا شرط المضارب أجر ما يحتاج إليهم من الحمالين ونحوهم لأن ذلك لا يلزم العامل فكان على المال ولو شرط أجر ما يلزمه عمله بنفسه, لم يصح كمسألتنا. فصل ظاهر كلام أحمد أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة أومأ إليه في رواية الأثرم, وسئل عن الأكار يخرج نفسه من غير أن يخرجه صاحب الضيعة فلم يمنعه من ذلك ذكره الشيخ أبو عبد الله بن حامد وهو قول بعض أصحاب الحديث وقال بعض أصحابنا: هو عقد لازم وهو قول أكثر الفقهاء لأنه عقد معاوضة, فكان لازما كالإجارة ولأنه لو كان جائزا, جاز لرب المال فسخه إذا أدركت الثمرة فيسقط حق العامل فيستضر ولنا ما روى مسلم بإسناده عن ابن عمر (أن اليهود سألوا رسول الله -ﷺ- أن يقرهم بخيبر, على أن يعملوها ويكون لرسول الله -ﷺ- شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع فقال رسول الله -ﷺ-: نقركم على ذلك ما شئنا) ولو كان لازما لم يجز بغير تقدير مدة, ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم ولأن النبي -ﷺ- لم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة ولو قدر لم يترك نقله, لأن هذا مما يحتاج إليه فلا يجوز الإخلال بنقله وعمر رضي الله عنه أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر, ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم منها ولأنه عقد على جزء من نماء المال فكان جائزا, كالمضاربة أو عقد على المال بجزء من نمائه أشبه المضاربة, وفارق الإجارة لأنها بيع فكانت لازمة كبيع الأعيان, ولأن عوضها مقدر معلوم فأشبهت البيع وقياسهم ينتقض بالمضاربة وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة, فقياسها عليها أولى وقولهم: إنه يفضي إلى أن رب المال يفسخ بعد إدراك الثمرة قلنا: إذا ظهرت الثمرة فهي تظهر على ملكهما فلا يسقط حق العامل منها بفسخ ولا غيره, كما لو فسخ المضاربة بعد ظهور الربح فعلى هذا لا يفتقر إلى ضرب مدة ولذلك لم يضرب النبي -ﷺ- ولا خلفاؤه رضي الله عنهم لأهل خيبر مدة معلومة حين عاملوهم ولأنه عقد جائز, فلم يفتقر إلى ضرب مدة كالمضاربة وسائر العقود الجائزة ومتى فسخ أحدهما بعد ظهور الثمرة فهي بينهما على ما شرطاه, وعلى العامل تمام العمل كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد ظهور الربح وإن فسخ العامل قبل ذلك فلا شيء له لأنه رضي بإسقاط حقه, فصار كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح وعامل الجعالة إذا فسخ قبل إتمام عمله وإن فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة فعليه أجر المثل للعامل لأنه منعه إتمام عمله الذي يستحق به العوض, فأشبه ما لو فسخ الجاعل قبل إتمام عمل الجعالة وفارق رب المال في المضاربة إذا فسخها قبل ظهور الربح لأن عمل هذا مفض إلى ظهور الثمرة غالبا فلولا الفسخ لظهرت الثمرة فملك نصيبه منها, وقد قطع ذلك بفسخه فأشبه فسخ الجعالة بخلاف المضاربة, فإنه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح ولأن الثمرة إذا ظهرت في الشجر كان العمل عليها في الابتداء من أسباب ظهورها, والربح إذا ظهر في المضاربة قد لا يكون للعمل الأول فيه أثر أصلا فأما إن قلنا: إنه عقد لازم فلا يصح إلا على مدة معلومة وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور: تصح من غير ذكر مدة ويقع على سنة واحدة وأجازه بعض أهل الكوفة استحسانا لأنه لما شرط له جزءا من الثمرة كان ذلك دليلا على أنه أراد مدة تحصل الثمرة فيها ولنا أنه عقد لازم, فوجب تقديره بمدة كالإجارة ولأن المساقاة أشبه بالإجارة, لأنها تقتضى العمل على العين مع بقائها ولأنها إذا وقعت مطلقة لم يمكن حملها على إطلاقها مع لزومها لأنه يفضي إلى أن العامل يستبد بالشجر كل مدته, فيصير كالمالك ولا يمكن تقديره بالسنة لأنه تحكم وقد تكمل الثمرة في أقل من السنة, فعلى هذا لا تتقدر أكثر المدة بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وإن طالت وقد قيل: لا يجوز أكثر من ثلاثين سنة وهذا تحكم وتوقيت لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع فأما أقل المدة, فيتقدر بمدة تكمل الثمرة فيها فلا يجوز على أقل منها لأن المقصود أن يشتركا في الثمرة ولا يوجد في أقل من هذه المدة. فإن ساقاه على مدة لا تكمل فيها الثمرة, فالمساقاة فاسدة فإذا عمل فيها فظهرت الثمرة ولم تكمل فله أجر مثله, في أحد الوجهين وفي الآخر لا شيء له لأنه رضي بالعمل بغير عوض, فهو كالمتبرع والأول أصح لأن هذا لم يرض إلا بعوض وهو جزء من الثمرة وذلك الجزء موجود, غير أنه لا يمكن تسليمه إليه فلما تعذر دفع العوض الذي اتفقا عليه إليه كان له أجر مثله, كما في الإجارة الفاسدة وفارق المتبرع فإنه رضي بغير شيء وإن لم تظهر الثمرة فلا شيء له في أصح الوجهين لأنه رضي بالعمل بغير عوض وإن ساقاه إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالبا فلم يحمل تلك السنة, فلا شيء للعامل لأنه عقد صحيح لم يظهر فيه النماء الذي اشترط جزؤه فأشبه المضاربة إذا لم يربح فيها وإن ظهرت الثمرة, ولم تكمل فله نصيبه منها وعليه إتمام العمل فيها, كما لو انفسخت قبل كمالها وإن ساقاه إلى مدة يحتمل أن يكون للشجر ثمرة ويحتمل أن لا يكون ففي صحة المساقاة وجهان: أحدهما تصح لأن الشجر يحتمل أن يحمل ويحتمل أن لا يحمل, والمساقاة جائزة فيه والثاني لا يصح لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده فلم تصح, كالسلم في مثل ذلك ولأن ذلك غرر أمكن التحرز عنه فلم يجز العقد معه, كما لو شرط ثمر نخلة بعينها وفارق ما إذا شرط مدة تكمل فيها الثمرة فإن الغالب أن الشجر يحمل واحتمال أن لا يحمل نادر, لم يمكن التحرز عنه فإن قلنا: العقد صحيح فله حصته من الثمر فإن لم يحمل فلا شيء له وإن قلنا: هو فاسد استحق أجر المثل سواء حمل أو لم يحمل لأنه لم يرض بغير عوض, ولم يسلم له العوض فكان له العوض وجها واحدا, بخلاف ما لو جعل الأجل إلى مدة لا يحمل في مثلها غالبا ومتى خرجت الثمرة قبل انقضاء الأجل فله حقه منها إذا قلنا بصحة العقد وإن خرجت بعده, فلا حق له فيها ومذهب الشافعي في هذا قريب مما ذكرنا. فصل ولا يثبت في المساقاة خيار الشرط لأنها إن كانت جائزة فالجائز مستغن بنفسه عن الخيار فيه وإن كانت لازمة فإذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه, وهو العمل فيها وأما خيار المجلس فلا يثبت إن كانت جائزة لما تقدم وإن كانت لازمة فعلى وجهين أحدهما لا يثبت لأنها عقد لا يشترط فيه قبض العوض ولا يثبت فيه خيار الشرط, فلا يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح والثاني يثبت لأنه عقد لازم يقصد به المال أشبه البيع. فصل ومتى قلنا بجوازها, لم يفتقر إلى ضرب مدة لأن إبقاءها إليهما وفسخها جائز لكل واحد منهما متى شاء فلم تحتج إلى مدة, كالمضاربة وإن قدرها بمدة جاز لأنه لا ضرر في التقدير وقد بينا جواز ذلك في المضاربة والمساقاة مثلها وتنفسخ بموت كل واحد منهما وجنونه والحجر عليه لسفه, كقولنا في المضاربة فإذا مات العامل أو رب المال انفسخت المساقاة فكان الحكم فيها كما لو فسخها أحدهما على ما أسلفناه وإن قلنا بلزومها, لم ينفسخ العقد ويقوم الوارث مقام الميت منهما لأنه عقد لازم فأشبه الإجارة ولكن إن كان الميت العامل, فأبى وارثه القيام مقامه لم يجبر لأن الوارث لا يلزمه من الحقوق التي على موروثه إلا ما أمكن دفعه من تركته والعمل ليس مما يمكن ذلك فيه فعلى هذا يستأجر الحاكم من التركة من يعمل العمل, فإن لم تكن له تركة أو تعذر الاستئجار منها فلرب المال الفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه, فيثبت الفسخ كما لو تعذر ثمن المبيع قبل قبضه ثم إن كانت الثمرة قد ظهرت, بيع من نصيب العامل ما يحتاج إليه لأجر ما بقي من العمل واستؤجر من يعمل ذلك وإن احتيج إلى بيع الجميع بيع ثم لا يخلو إما أن تكون الثمرة قد بدا صلاحها أو لم يبد, فإن كانت قد بدا صلاحها خير المالك بين البيع والشراء فإن اشترى نصيب العامل جاز, وإن اختار بيع نصيبه أيضا باعه وباع الحاكم نصيب العامل وإن أبى البيع والشراء, باع الحاكم نصيب العامل وحده وما بقي على العامل من العمل يكترى عليه من يعمله وما فضل لورثته, وإن كان لم يبد صلاحها خير المالك أيضا فإن بيع لأجنبى لم يجز إلا بشرط القطع ولا يجوز بيع نصيب العامل وحده, لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع نصيب المالك فيقف إمكان قطعه على قطع ملك غيره وهل يجوز شراء المالك لها؟ على وجهين وهكذا الحكم إذا انفسخت المساقاة بموت العامل, لقولنا بجوازها وأبى الوارث العمل وإن اختار رب المال البقاء على المساقاة لم تنفسخ إذا قلنا بلزومها ويستأذن الحاكم في الإنفاق على الثمرة, ويرجع بما أنفق فإن عجز عن استئذان الحاكم فأنفق محتسبا بالرجوع, وأشهد على الإنفاق بشرط الرجوع رجع بما أنفق وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه مضطر وإن أمكنه استئذان الحاكم فأنفق بنية الرجوع من غير استئذانه, فهل يرجع بذلك؟ على وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه وإن تبرع بالإنفاق لم يرجع بشيء, كما لو تبرع بالصدقة والحكم فيما إذا أنفق على الثمرة بعد فسخ العقد إذا تعذر بيعها كالحكم ها هنا سواء. فصل وإن هرب العامل فلرب المال الفسخ لأنه عقد جائز وإن قلنا بلزومه فحكمه حكم ما لو مات وأبى وارثه أن يقوم مقامه, إلا أنه إن لم يجد الحاكم له مالا وأمكنه الاقتراض عليه من بيت المال أو غيره فعل وإن لم يمكنه, ووجد من يعمل بأجرة مؤجلة إلى وقت إدراك الثمرة فعل فإن لم يجد, فلرب المال الفسخ أما الميت فلا يقترض عليه لأنه لا ذمة له. فصل والعامل أمين والقول قوله فيما يدعيه من هلاك وما يدعى عليه من خيانة لأن رب المال ائتمنه بدفع ماله إليه, فهو كالمضارب فإن اتهم حلف فإن ثبتت خيانته بإقرار أو ببينة أو نكوله, ضم إليه من يشرف عليه فإن لم يمكن حفظه استؤجر من ماله من يعمل عمله وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب مالك: لا يقام غيره مقامه, بل يحفظ منه لأن فسقه لا يمنع استيفاء المنافع المقصودة منه فأشبه ما لو فسق بغير الخيانة ولنا أنه تعذر استيفاء المنافع المقصودة منه فاستوفيت بغيره, كما لو هرب ولا نسلم إمكان استيفاء المنافع منه لأنه لا يؤمن منه تركها ولا يوثق منه بفعلها ولا نقول إن له فسخ المساقاة, وإنما لم يمكن حفظها من خيانتك أقم غيرك يعمل ذلك وارفع يدك عنها لأن الأمانة قد تعذرت في حقك, فلا يلزم رب المال ائتمانك وفارق فسخه بغير الخيانة فإنه لا ضرر على رب المال وها هنا يفوت ماله. فصل وإن اختلفا في الجزء المشروط للعامل فالقول قول رب المال ذكره ابن حامد وقال مالك: القول قول العامل, إذا ادعى ما يشبه لأنه أقوى سببا لتسلمه للحائط والعمل وقال الشافعي: يتحالفان وكذلك إن اختلفا فيما تناولته المساقاة من الشجر ولنا أن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل, فيكون القول قوله لقوله عليه السلام: (البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه) فإن كان مع أحدهما بينة حكم بها, وإن كان مع كل واحد منهما بينة ففي أيهما تقدم بينته؟ وجهان بناء على بينة الداخل والخارج فإن كان الشجر لاثنين, فصدق أحدهما العامل وكذبه الآخر أخذ نصيبه من مال المصدق فإن شهد على المنكر, قبلت شهادته إذا كان عدلا لأنه لا يجر إلى نفسه نفعا ولا يدفع ضررا ويحلف مع شاهده, وإن لم يكن عدلا كانت شهادته كعدمها ولو كان العامل اثنين ورب المال واحدا, فشهد أحدهما على صاحبه قبلت شهادته أيضا لما ذكرنا. فصل ويملك العامل حصته من الثمرة بظهورها فلو تلفت كلها إلا واحدة, كانت بينهما وهذا أحد قولي الشافعي والثاني يملكه بالمقاسمة كالقراض ولنا أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه, كسائر الشروط الصحيحة ومقتضاه كون الثمرة بينهما على كل حال لأنه لو لم يملكها قبل القسمة لما وجبت القسمة, ولا ملكها كالأصول وأما القراض فإنه يملك الربح فيه بالظهور كمسألتنا, ثم الفرق بينهما أن الربح وقاية لرأس المال فلم يملك حتى يسلم رأس المال لربه وهذا ليس بوقاية لشيء, ولذلك لو تلفت الأصول كلها كانت الثمرة بينهما فإذ ثبت هذا فإنه يلزم كل واحد منهما زكاة نصيبه إذا بلغت حصته نصابا نص عليه أحمد في المزارعة وإن لم تبلغ النصاب إلا بجمعهما, لم تجب لأن الخلطة لا تؤثر في غير المواشى في الصحيح وعنه أنها تؤثر فتؤثر ها هنا فيبدأ بإخراج الزكاة ثم يقسمان ما بقي وإن كانت حصة أحدهما تبلغ نصابا دون الآخر, فعلى من بلغت حصته نصابا الزكاة دون الآخر يخرجها بعد المقاسمة إلا أن يكون لمن لم تبلغ حصته نصابا ما يتم به النصاب من مواضع أخر, فتجب عليهما جميعا الزكاة وكذلك إن كان لأحدهما ثمر من جنس حصته يبلغان بمجموعهما نصابا فعليه الزكاة في حصته وإن كان أحد الشريكين ممن لا زكاة عليه, كالمكاتب والذمى فعلى الآخر زكاة حصته إن بلغت نصابا وبهذا كله قال مالك, والشافعي وقال الليث: إن كان شريكه نصرانيا أعلمه أن الزكاة مؤداة في الحائط ثم يقاسمه بعد الزكاة ما بقي ولنا أن النصرانى لا زكاة عليه, فلا يخرج من حصته شيء كما لو انفرد بها وقد روى أبو داود, في " السنن " عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله -ﷺ- يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب, قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود خيبر أيأخذونه بذلك الخرص, أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكى تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق قال جابر: خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق وزعم أن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق). فصل وإن ساقاه على أرض خراجية, فالخراج على رب المال لأنه يجب على الرقبة بدليل أنه يجب سواء أثمرت الشجرة أو لم تثمر ولأن الخراج يجب أجرة للأرض فكان على رب الأرض, كما لو استأجر أرضا وزارع غيره فيها وبهذا قال الشافعي وقد نقل عن أحمد في الذي يتقبل الأرض البيضاء ليعمل عليها وهي من أرض السواد يتقبلها من السلطان, فعلى من يقبلها أن يؤدى وظيفة عمر رضي الله عنه ويؤدى العشر بعد وظيفة عمر وهذا معناه والله أعلم إذا دفع السلطان أرض الخراج إلى رجل يعملها ويؤدى خراجها فإنه يبدأ فيؤدى خراجها ثم يزكى ما بقي كما ذكره الخرقي في باب الزكاة ولا تنافى بين ذلك وبين ما ذكرنا ها هنا, -إن شاء الله تعالى-. مسألة قال: [ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم] يعني إذا شرط جزءا معلوما من الثمرة ودراهم معلومة كعشرة ونحوها, لم يجز بغير خلاف لأنه ربما لم يحدث من النماء ما يساوى تلك الدراهم فيتضرر رب المال ولذلك منعنا من اشتراط أقفزة معلومة ولو شرط له دراهم منفردة عن الجزء, لم يجز لذلك ولو جعل له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه فيها أو ثمر شجر غير الشجر الذي ساقاه عليه أو شرط عليه عملا في غير الشجر الذي ساقاه عليه, أو عملا في غير السنة فسد العقد سواء جعل ذلك كل حقه أو بعضه أو جميع العمل, أو بعضه لأنه يخالف موضوع المساقاة إذ موضوعها أن يعمل في شجر معين بجزء مشاع من ثمرته في ذلك الوقت الذي يستحق عليه فيه العمل. فصل


وإذا ساقى رجلا, أو زارعه فعامل العامل غيره على الأرض والشجر لم يجز ذلك وبهذا قال أبو يوسف, وأبو ثور وأجازه مالك إذا جاء برجل أمين ولنا أنه عامل في المال بجزء من نمائه فلم يجز أن يعامل غيره فيه, كالمضارب ولأنه إنما أذن له في العمل فيه فلم يجز أن يأذن لغيره, كالوكيل فأما إن استأجر أرضا فله أن يزارع غيره فيها لأنها صارت منافعها مستحقة له فملك المزارعة فيها, كالمالك والأجرة على المستأجر دون المزارع كما ذكرنا في الخراج وكذلك يجوز لمن في يده أرض خراجية أن يزارع فيها لأنه بمنزلة المستأجر لها وللموقوف عليه أن يزارع في الوقف, ويساقى على شجره لأنه إما مالك لرقبة ذلك أو بمنزلة المالك ولا نعلم في هذا خلافا عند من أجاز المساقاة والمزارعة والله أعلم. فصل


وإذا ساقاه على ودى النخل أو صغار الشجر, إلى مدة يحمل فيها غالبا ويكون له فيها جزء من الثمرة معلوم صح لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر, ونصيبه يقل وهذا لا يمنع صحتها كما لو جعل له سهما من ألف سهم وفيه الأقسام التي ذكرنا في كبار النخل والشجر, وهي أننا إن قلنا: المساقاة عقد جائز لم نحتج إلى ذكر مدة وإن قلنا: هو لازم ففيه ثلاثة أقسام: أحدها أن يجعل المدة زمنا يحمل فيه غالبا فيصح فإن حمل فيها فله ما شرط له, وإن لم يحمل فيها فلا شيء له والثاني أن يجعلها إلى زمن لا يحمل فيه غالبا فلا يصح وإن عمل فيها فهل يستحق الأجر؟ على وجهين وإن حمل في المدة, لم يستحق ما جعل له لأن العقد وقع فاسدا فلم يستحق ما شرط فيه والثالث أن يجعل المدة زمنا يحتمل أن يحمل فيها ويحتمل أن لا يحمل فهل يصح؟ على وجهين فإن قلنا: لا يصح استحق الأجر وإن قلنا: يصح فحمل في المدة, استحق ما شرط له وإن لم يحمل فيها لم يستحق شيئا وإن شرط نصف الثمرة ونصف الأصل, لم يصح لأن موضوع المساقاة أن يشتركا في النماء والفائدة فإذا شرط اشتراكهما في الأصل لم يجز, كما لو شرط في المضاربة اشتراكهما في رأس المال فعلى هذا يكون له أجر مثله وكذلك لو جعل له جزءا من ثمرتها مدة بقائها لم يجز وإن جعل له ثمرة عام بعد مدة المساقاة, لم يجز لأنه يخالف موضوع المساقاة. فصل


وإن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل فيه حتى يحمل ويكون له جزء من الثمرة معلوم, صح أيضا والحكم فيه كما لو ساقاه على صغار الشجر على ما بيناه وقد قال أحمد في رواية المروذي, في رجل قال لرجل: اغرس في أرضى هذه شجرا أو نخلا فما كان من غلة فلك بعمل كذا وكذا سهما من كذا وكذا فأجازه واحتج بحديث خيبر في الزرع والنخيل, لكن بشرط أن يكون الغرس من رب الأرض كما يشترط في المزارعة كون البذر من رب الأرض فإن كان من العامل, خرج على الروايتين فيما إذا اشترط البذر في المزارعة من العامل وقال القاضي: المعاملة باطلة وصاحب الأرض بالخيار بين تكليفه قلعها, ويضمن له أرش نقصها وبين إقرارها في أرضه ويدفع إليه قيمتها, كالمشترى إذا غرس في الأرض التي اشتراها ثم جاء الشفيع فأخذها وإن اختار العامل قلع شجره فله ذلك, سواء بذل له القيمة أو لم يبذلها لأنه ملكه فلم يمنع تحويله وإن اتفقا على إبقاء الغراس ودفع أجر الأرض, جاز ولو دفع أرضه إلى رجل يغرسها على أن الشجر بينهما لم يجز, على ما سبق ويحتمل الجواز بناء على المزارعة فإن المزارع يبذر في الأرض, فيكون الزرع بينه وبين صاحب الأرض وهذا نظيره وإن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما فالمعاملة فاسدة, وجها واحدا وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف, ومحمد ولا نعلم فيه مخالفا لأنه شرط اشتراكهما في الأصل ففسد كما لو دفع إليه الشجر والنخيل ليكون الأصل والثمرة بينهما, أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما. فصل


وإذا ساقاه على شجر فبان مستحقا بعد العمل أخذه ربه وثمرته لأنه عين ماله, ولا حق للعامل في ثمرته لأنه عمل فيها بغير إذن مالكها ولا أجر له عليه لذلك وله أجر مثله على الغاصب لأنه غره واستعمله, فلزمه الأجر كما لو غصب نقرة فاستأجر من ضربها دراهم وإن شمس الثمرة فلم تنقص أخذها ربها, وإن نقصت فلربها أرش نقصها ويرجع به على من شاء منهما, ويستقر ذلك على الغاصب وإن استحقت بعد أن اقتسماها وأكلاها فلربها تضمين من شاء منهما, فإن ضمن الغاصب فله تضمينه الكل وله تضمينه قدر نصيبه, ويضمن العامل قدر نصيبه لأن الغاصب سبب يد العامل فلزمه ضمان الجميع فإن ضمنه الكل رجع على العامل بقدر نصيبه لأن التلف وجد في يده, فاستقر الضمان عليه ويرجع العامل على الغاصب بأجر مثله ويحتمل أن لا يرجع الغاصب على العامل بشيء لأنه غره فلم يرجع عليه, كما لو أطعم إنسانا شيئا وقال له: كله فإنه طعامى ثم تبين أنه مغصوب وإن ضمن العامل, احتمل أنه لا يضمنه إلا نصيبه خاصة لأنه ما قبض الثمرة كلها وإنما كان مراعيا لها وحافظا فلا يلزمه ضمانها ما لم يقبضها ويحتمل أن يضمنه الكل لأن يده ثبتت على الكل مشاهدة بغير حق فإن ضمنه الكل, رجع العامل على الغاصب ببدل نصيبه منها وأجر مثله وإن ضمن كل واحد منهما ما صار إليه رجع العامل على الغاصب بأجر مثله لا غير وإن تلفت الثمرة في شجرها, أو بعد الجذاذ قبل القسمة فمن جعل العامل قابضا لها بثبوت يده على حائطها قال: يلزمه ضمانها ومن لا يكون قابضا إلا بأخذ نصيبه منها قال: لا يلزمه الضمان ويكون على الغاصب. باب المزارعة مسألة


قال: [وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض] معنى المزارعة: دفع الأرض إلى من يزرعها ويعمل عليها, والزرع بينهما وهي جائزة في قول كثير من أهل العلم قال البخاري: قال أبو جعفر: ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع وزارع على وسعد, وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم, وعروة وآل أبى بكر وآل علي, وابن سيرين وممن رأى ذلك سعيد بن المسيب وطاوس وعبد الرحمن بن الأسود, وموسى بن طلحة والزهري وعبد الرحمن بن أبي ليلى, وابنه وأبو يوسف ومحمد وروى ذلك عن معاذ, والحسن وعبد الرحمن بن يزيد قال البخاري: وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر, وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكرهها عكرمة ومجاهد, والنخعي وأبو حنيفة وروى عن ابن عباس الأمران جميعا وأجازها الشافعي في الأرض بين النخيل إذا كان بياض الأرض أقل, فإن كان أكثر فعلى وجهين ومنعها في الأرض البيضاء لما روى (رافع بن خديج قال: كنا نخابر على عهد رسول الله -ﷺ- فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله -ﷺ- عن أمر كان لنا نافعا وطواعية رسول الله -ﷺ- أنفع قال قلنا: ما ذاك؟ قال: قال رسول الله -ﷺ-: من كانت له أرض فليزرعها, ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى) وعن ابن عمر قال: (ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعت رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله -ﷺ- عنها) وقال جابر: (نهى رسول الله -ﷺ- عن المخابرة) وهذه كلها أحاديث صحاح, متفق عليها والمخابرة: المزارعة واشتقاقها من الخبار وهي الأرض اللينة والخبير: الأكار وقيل: المخابرة معاملة أهل خيبر وقد جاء حديث جابر مفسرا, فروى البخاري عن جابر قال: كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف, فقال النبي -ﷺ-: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن لم يفعل فليمسك أرضه) وروي تفسيرها عن زيد بن ثابت فروى أبو داود بإسناده عن زيد قال: (نهى رسول الله -ﷺ- عن المخابرة قلت: وما المخابرة؟ قال: أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع) ولنا ما روى ابن عمر, قال: (إن رسول الله -ﷺ- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر) متفق عليه وقد روى ذلك ابن عباس وجابر بن عبد الله -ﷺ- وقال أبو جعفر: (عامل رسول الله -ﷺ- أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر, ثم عمر وعثمان وعلي, ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع) وهذا أمر صحيح مشهور عمل به رسول الله -ﷺ- حتى مات ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا ثم أهلوهم من بعدهم, ولم يبق بالمدينة أهل بيت إلا وعمل به وعمل به أزواج رسول الله -ﷺ- من بعده فروى البخاري عن ابن عمر, أن النبي -ﷺ- (عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر فكان يعطى أزواجه مائة وسق, ثمانون وسقا تمرا وعشرون وسقا شعيرا فقسم عمر خيبر, فخير أزواج النبي -ﷺ- أن يقطع لهن من الأرض والماء أو يمضى لهن الأوسق فمنهن من اختار الأرض, ومنهن من اختار الأوسق فكانت عائشة اختارت الأرض) ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله -ﷺ- فأما شيء عمل به إلى أن مات ثم عمل به خلفاؤه بعده, وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد, فكيف يجوز نسخه ومتى كان نسخه؟ فإن كان نسخ في حياة رسول الله -ﷺ- فكيف عمل به بعد نسخه وكيف خفي نسخه, فلم يبلغ خلفاءه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها؟ فأين كان راوى النسخ, حتى لم يذكره ولم يخبرهم به؟ فأما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة أوجه: أحدها أنه قد فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده, فإنه قال: كنا من أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه, فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالذهب والورق, فلم ينهنا متفق عليه وفي لفظ: فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس وهذا خارج عن محل الخلاف, فلا دليل فيه عليه ولا تعارض بين الحديثين الثاني أن خبره ورد في الكراء بثلث أو ربع والنزاع في المزارعة, ولم يدل حديثه عليها أصلا وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضا لأن القصة واحدة رويت بألفاظ مختلفة, فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر الثالث أن أحاديث رافع مضطربة جدا مختلفة اختلافا كثيرا يوجب ترك العمل بها لو انفردت فكيف يقدم على مثل حديثنا؟ قال الإمام أحمد: حديث رافع ألوان وقال أيضا: حديث رافع ضروب وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لذلك, منها الذي ذكرناه ومنها خمس أخرى وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس قال زيد بن ثابت: أنا أعلم بذلك منه, وإنما سمع النبي -ﷺ- رجلين قد اقتتلا فقال: " إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع " رواه أبو داود والأثرم وروى البخاري, عن عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي -ﷺ- نهى عنها قال: إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرنى أن النبي -ﷺ- لم ينه عنها, ولكن قال: " أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجا معلوما " ثم إن أحاديث رافع منها ما يخالف الإجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق ومنها ما لا يختلف في فساده, كما قد بينا وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعه, وتارة عن ظهير بن رافع وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب إخراجها واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر, الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها وبها عمل الخلفاء الراشدون وغيرهم, فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية الجواب الرابع أنه لو قدر صحة خبر رافع وامتنع تأويله وتعذر الجمع, لوجب حمله على أنه منسوخ لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين ويستحيل القول بنسخ حديث خيبر لكونه معمولا به من جهة النبي -ﷺ- إلى حين موته ثم من بعده إلى عصر التابعين, فمتى كان نسخه؟ وأما حديث جابر في النهي عن المخابرة فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع فإنه قد روى حديث خيبر أيضا فيجب الجمع بين حديثيه, مهما أمكن ثم لو حمل على المزارعة لكان منسوخا بقصة خيبر لاستحالة نسخها كما ذكرنا, وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت فإن قال أصحاب الشافعي: تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل وأحاديث النهي عن الأرض البيضاء جمعا بينهما قلنا: هذا بعيد لوجوه خمسة: أحدها أنه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأتى منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرض بيضاء, ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض فينقل الرواة كلهم القصة على العموم من غير تفصيل مع الحاجة إليه الثاني أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه, وما ذكرناه دلت عليه بعض الروايات وفسره الراوى له بما ذكرناه وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث, والجمع بينهما بحمل بعضها على ما فسره رواية به أولى من التحكم بما لا دليل عليه الثالث أن قولهم يفضي إلى تقييد كل واحد من الحديثين وما ذكرناه حمل لأحدهما وحده الرابع أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم, وفقهاء الصحابة وهم أعلم بحديث رسول الله -ﷺ- وسنته ومعانيها وهو أولى من قول من خالفهم الخامس, أن ما ذهبنا إليه مجمع عليه فإن أبا جعفر روى ذلك عن كل أهل بيت بالمدينة وعن الخلفاء الأربعة وأهليهم, وفقهاء الصحابة واستمرار ذلك وهذا مما لا يجوز خفاؤه ولم ينكره من الصحابة منكر, فكان إجماعا وما روى في مخالفته فقد بينا فساده فيكون هذا إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم, لا يسوغ لأحد خلافه والقياس يقتضيه فإن الأرض عين تنمى بالعمل فيها فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها, كالأثمان في المضاربة والنخل في المساقاة أو نقول: أرض, فجازت المزارعة عليها كالأرض بين النخيل ولأن الحاجة داعية إلى المزارعة لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها والعمل عليها, والأكرة يحتاجون إلى الزرع ولا أرض لهم فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة بل الحاجة ها هنا آكد لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره, لكونه مقتاتا ولكون الأرض لا ينتفع بها إلا بالعمل عليها بخلاف المال, ويدل على ذلك قول راوى حديثهم: نهانا رسول الله -ﷺ- عن أمر كان لنا نافعا والشارع لا ينهى عن المنافع وإنما ينهى عن المضار والمفاسد فيدل ذلك على غلط الراوى في النهي عنه, وحصول المنفعة فيما ظنه منهيا عنه إذا ثبت هذا فإن حكم المزارعة حكم المساقاة في أنها إنما تجوز بجزء للعامل من الزرع, وفي جوازها ولزومها وما يلزم العامل ورب الأرض, وغير ذلك من أحكامها. فصل


وإذا كان في الأرض شجر وبينه بياض أرض فساقاه على الشجر, وزارعه الأرض التي بين الشجر جاز سواء قل بياض الأرض أو كثر نص عليه أحمد, وقال: قد دفع النبي -ﷺ- خيبر على هذا وبهذا قال كل من أجاز المزارعة في الأرض المفردة فإذا قال: ساقيتك على الشجر وزارعتك على الأرض بالنصف جاز وإن قال: عاملتك على الأرض والشجر على النصف جاز لأن المعاملة تشملهما وإن قال: زارعتك: الأرض بالنصف, وساقيتك على الشجر بالربع جاز كما يجوز أن يساقيه على أنواع من الشجر ويجعل له في كل نوع قدرا وإن قال: ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف جاز لأن المزارعة مساقاة من حيث إنها تحتاج إلى السقي فيها لحاجة الشجر إليه وقال أصحاب الشافعي: لا يصح لأن المساقاة لا تتناول الأرض, وتصح في النخل وحده وقيل: ينبنى على تفريق الصفقة ولنا أنه عبر عن عقد بلفظ عقد يشاركه في المعنى المشهور به في الاشتقاق فصح كما لو عبر بلفظ البيع في السلم, ولأن المقصود المعنى وقد علم بقرائن أحواله وهكذا إن قال في الأرض البيضاء: ساقيتك على هذه الأرض بنصف ما يزرع فيها فأما إن قال: ساقيتك على الشجر بالنصف ولم يذكر الأرض لم تدخل في العقد, وليس للعامل أن يزرع وبهذا قال الشافعي وقال مالك وأبو يوسف: للداخل زرع البياض فإن تشارطا أن ذلك بينهما, فهو جائز وإن اشترط صاحب الأرض أنه يزرع البياض لم يصح لأن الداخل يسقى لرب الأرض, فتلك زيادة ازدادها عليه ولنا أن هذا لم يتناوله العقد فلم يدخل فيه كما لو كانت أرضا منفردة. فصل


وإن زارعه أرضا فيها شجرات يسيرة لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها, وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وأجازه مالك إذا كان الشجر بقدر الثلث أو أقل لأنه يسير, فيدخل تبعا ولنا أنه اشترط الثمرة كلها فلم يجز كما لو كان الشجر أكثر من الثلث. فصل


وإن آجره بياض أرض, وساقاه على الشجر الذي فيها جاز لأنهما عقدان يجوز إفراد كل واحد منهما فجاز الجمع بينهما كالبيع, والإجارة ويحتمل أن لا يجوز بناء على الوجه الذي لا يجوز الجمع بينهما في الأصل والأول أولى إلا أن يفعلا ذلك حيلة على شراء الثمرة قبل وجودها, أو قبل بدو صلاحها فلا يجوز سواء جمعا بين العقدين, أو عقدا أحدهما بعد الآخر لما ذكرنا في إبطال الحيل. مسألة


قال [إذا كان البذر من رب الأرض] ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصح إذا كان البذر من رب الأرض والعمل من العامل نص عليه أحمد في رواية جماعة واختار عامة الأصحاب وهو مذهب ابن سيرين والشافعي واسحاق لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة. وقد روي عن أحمد ما يدل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل فإنه قال في رواية مهنا في الرجل يكون له الأرض فيها نخل وشجر يدفعها إلى قوم يزرعون الأرض ويقومون على الشجر على أن له النصف فلا بأس بذلك، وقد دفع النبي ﷺ خيبر على هذا، فأجاز دفع الأرض لزرعها عنه وهو قول أبي يوسف وطائفة من اهل الحديث وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وروي عن سعد وابن مسعود وابن عمر أن البذر من العامل ولعلهم أرادوا أنه يجوز أن يكون من العامل فيكون كقول عمر ولا يكون قولا ثالثا. والدليل على صحة ما ذكرنا قول ابن عمر دفع رسول الله ﷺ إلى يهود خيبر نخل خيبر وارضها على أن يعملوها من اموالهم ولرسول الله ﷺ شطر ثمرتها. وفي لفظ على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها. أخرجهما البخاري فجعل عملها من أموالهم وزرعها عليهم ولم يذكر شيئا آخر، وظاهره أن البذر من أهل خيبر، والأصل المعول عليه في المزارعة قصة خيبر ولم يذكر النبي ﷺ أن البذر على المسلمين ولو كان شرطا لما أخل بذكره ولو فعله النبي ﷺ وأصحابه لنقل ولم يجز الاخلال بنقله، ولأن عمر رضي الله عنه فعل الأمرين جميعا فإن البخاري روى عنه أنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا فظاهر هذا أن ذلك اشتهر فلم ينكر فكان إجماعا، فإن قيل هذا بمنزلة بيعتين في بيعة فكيف يفعله عمر رضي الله عنه؟ قلنا يحتمل أنه قال ذلك ليخبرهم في أي العقدين شاءوا فمن اختار عقدا عقده معينا كما لو قال في البيع إن شئت بعتكه بعشرة صحاح، وإن شئت بأحد عشر مكسورة فاختار أحدهما فعقد البيع معه عليه معينا، ويجوز أن يكون مجيئه بالبذر أو شروعه في العمل بغير بذر مع إقرار عمر له على ذلك وعلمه به جرى مجرى العقد ولهذا روي عن أحمد رحمه الله صحة الإجارة فيما إذا قال إن خطته روميا فلك درهم وإ ن خطته فارسيا فلك نصف درهم، وما ذكره أصحابنا من القياس يخالف ظاهر النص والإجماع الذين ذكرناهما فكيف يعمل به؛ ثم هو منتقض بما إذا اشترك مالان وبدن صاحب أحدهما. فصل


فإن كان البذر منهما نصفين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فهو بينهما, سواء قلنا بصحة المزارعة أو فسادها لأنها إن كانت صحيحة فالزرع بينهما على ما شرطاه وإن كانت فاسدة فلكل واحد منهما بقدر بذره, لكن إن حكمنا بصحتها لم يرجع أحدهما على صاحبه بشيء وإن قلنا: من شرط صحتها إخراج رب المال البذر فهي فاسدة فعلى العامل نصف أجر الأرض, وله على رب الأرض نصف أجر عمله فيتقاصان بقدر الأقل منهما ويرجع أحدهما على صاحبه بالفضل وإن شرطا التفاضل في الزرع, وقلنا بصحتها فالزرع بينهما على ما شرطاه ولا تراجع بينهما وإن قلنا بفسادها, فالزرع بينهما على قدر بذرهما ويتراجعان كما ذكرنا وكذلك إن تفاضلا في البذر, وشرطا التساوى في الزرع أو شرطا لأحدهما أكثر من قدر بذره أو أقل. فصل


فإن قال صاحب الأرض: أجرتك نصف أرضى هذه بنصف بذرك ونصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرج المزارع البذر كله, لم يصح لأن المنفعة غير معلومة وكذلك لو جعلها أجرة لأرض أخرى أو دار لم يجز, ويكون الزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه ومعرفة البذر, جاز وكان الزرع بينهما ويحتمل أن لا يصح لأن البذر عوض فيشترط قبضه, كما لو كان مبيعا وما حصل فيه قبض وإن قال: أجرتك نصف أرضى بنصف منفعتك, ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر, فهي كالتى قبلها إلا أن الزرع يكون بينهما على كل حال. مسألة


قال: [فإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي, لم يجز] وكانت للمزارع أجرة مثله وكذلك يبطل إن أخرج المزارع البذر ويصير الزرع للمزارع وعليه أجرة الأرض أما إذا اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره, فلا يصح لأنه كأنه اشترط لنفسه قفزانا معلومة وذلك شرط فاسد تفسد به المزارعة, لأن الأرض ربما لا يخرج منها إلا تلك القفزان فيختص رب المال بها وربما لا تخرجها الأرض وأما إذا أخرج المزارع البذر, فهو مبنى على الروايتين في صحة هذا الشرط وقد ذكر الخرقي أنه فاسد فإذا أخرج المزارع البذر فسدت كما لو أخرج العامل في المضاربة رأس المال من عنده ومتى فسدت المزارعة, فالزرع لصاحب البذر لأنه عين ما له ينقلب من حال إلى حال وينمو, فصار كصغار الشجر إذا غرس فطال والبيضة إذا حضنت فصارت فرخا والبذر ها هنا من المزارع, فكان الزرع له وعليه أجر الأرض لأن ربها إنما بذلها له بعوض لم يسلم له فرجع إلى عوض منافعها النابتة بزرعها على صاحب الزرع ولو فسدت, والبذر من رب الأرض كان الزرع له وعليه أجر مثل العامل لذلك, وإن كان البذر منهما فالزرع بينهما ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على صاحبه من أجر مثل الأرض التي فيها نصيب العامل, وأجر العامل بقدر عمله في نصيب صاحب الأرض. فصل


وإن زارعه على أن لرب الأرض زرعا بعينه وللعامل زرعا بعينه مثل أن يشترط لأحدهما زرع ناحية, وللآخر زرع أخرى أو يشترط أحدهما ما على السواقى والجداول إما منفردا, أو مع نصيبه فهو فاسد بإجماع العلماء لأن الخبر صحيح في النهي عنه غير معارض ولا منسوخ, ولأنه يؤدى إلى تلف ما عين لأحدهما دون الآخر فينفرد أحدهما بالغلة دون صاحبه. فصل


والشروط الفاسدة في المساقاة والمزارعة تنقسم قسمين أحدهما ما يعود بجهالة نصيب كل واحد منهما مثل ما ذكرنا ها هنا, أو أن يشترط أحدهما نصيبا مجهولا أو دراهم معلومة أو أقفزة معينة, أو أنه إن سقى سيحا فله كذا وإن سقى بكلفة فله كذا فهذا يفسدها لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه فأشبه البيع بثمن مجهول, والمضاربة مع جهالة نصيب أحدهما وإن شرط البذر من العامل فالمنصوص عن أحمد فساد العقد لأن الشرط إذا فسد لزم كون الزرع لرب البذر, لكونه نماء ماله فلا يحصل لرب الأرض شيء منه ويستحق الأجر, وهذا معنى الفساد فأما إن شرط ما لا يفضي إلى جهالة الربح كعمل رب المال معه أو عمل العامل في شيء آخر, فهل تفسد المساقاة والمزارعة؟ يخرج على روايتين بناء على الشرط الفاسد في البيع والمضاربة. فصل


وإن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ، ليزرعه في أرضه ، ويكون ما يخرج بينهما ، فهو فاسد أيضا ؛ لأن البذر ليس من رب الأرض ، ولا من العامل ، ويكون الزرع لصاحب البذر ، وعليه أجر الأرض والعمل . وإن قال صاحب الأرض لرجل : أنا أزرع الأرض ببذري وعواملي ، ويكون سقيها من مائك ، والزرع بيننا . ففيها روايتان : إحداهما لا يصح . اختارها القاضي ؛ لأن موضوع المزارعة على أن يكون من أحدهما الأرض ، ومن الآخر العمل ، وليس من صاحب الماء أرض ولا عمل ولا بذر ، لأن الماء لا يباع ولا يستأجر ، فكيف تصح المزارعة به ؟ والثانية ، يصح اختارها أبو بكر ، ونقلها عن أحمد يعقوب بن بختان ، وحرب ؛ لأن الماء أحد ما يحتاج إليه في الزرع ، فجاز أن يكون من أحدهما ، كالأرض والعمل . والأول أصح ؛ لأن هذا ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص ؛ لما ذكرناه فصل


وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض, ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على أن ما رزق الله بينهم فعملوا, فهذا عقد فاسد نص عليه في رواية أبى داود ومهنا, وأحمد بن القاسم وذكر حديث مجاهد (, في أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله -ﷺ- فقال أحدهم: على الفدان وقال الآخر: قبلي الأرض وقال الآخر: قبلي البذر وقال الآخر: قبلي العمل فجعل النبي -ﷺ- الزرع لصاحب البذر وألغى صاحب الأرض, وجعل لصاحب العمل كل يوم درهما ولصاحب الفدان شيئا معلوما) فقال أحمد: لا يصح والعمل على غيره وذكر هذا الحديث سعيد بن منصور, عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي وعن واصل بن أبي جميل, عن مجاهد وقال في آخره: فحدثت به مكحولا فقال: ما يسرنى بهذا الحديث وصيفا وحكم هذه المسألة حكم المسألة التي ذكرناها في صدر الفصل, وهما فاسدان لأن موضوع المزارعة على أن البذر من رب الأرض أو من العامل وليس هو ها هنا من واحد منهما وليست شركة لأن الشركة تكون بالأثمان, وإن كانت بالعروض اعتبر كونها معلومة ولم يوجد شيء من ذلك ها هنا وليست إجارة لأن الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة, وعوض معلوم وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله, ولصاحبيه عليه أجر مثلهما لأنهما دخلا على أن يسلم لهما المسمى فإذا لم يسلم عاد إلى بدله وبهذا قال الشافعي, وأبو ثور وقال أصحاب الرأي: يتصدق بالفضل والصحيح أن النماء لصاحب البذر ولا تلزمه الصدقة به كسائر ماله ولو كانت الأرض لثلاثة, فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم ودوابهم وأعوانهم على أن ما أخرج الله بينهم على قدر مالهم فهو جائز وبهذا قال مالك, والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا لأن أحدهم لا يفضل صاحبيه بشيء. فصل


وإذا زارع رجلا, وآجره أرضه فزرعها وسقط من الحب شيء فنبت في تلك الأرض عاما آخر, فهو لصاحب الأرض نص عليه أحمد في رواية أبى داود ومحمد بن الحارث وقال الشافعي: هو لصاحب الحب لأنه عين ما له, فهو كما لو بذره قصدا ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف وزال ملكه عنه لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه ولهذا أبيح التقاطه ورعيه ولا نعلم خلافا في إباحة التقاط ما خلفه الحصادون من سنبل وحب وغيرهما, فجرى ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك له وصار كالشيء التافه يسقط منه كالثمرة واللقمة ونحوهما والنوى لو التقطه إنسان, فغرسه كان له دون من سقط منه كذا ها هنا. فصل


في إجارة الأرض, تجوز إجارتها بالورق والذهب وسائر العروض, سوى المطعوم في قول أكثر العلم قال أحمد: فلما اختلفوا في الذهب والورق وقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن اكتراء الأرض وقتا معلوما جائز بالذهب والفضة روينا هذا القول عن سعد ورافع بن خديج, وابن عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة, والقاسم وسالم وعبد الله بن الحارث, ومالك والليث والشافعي, وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وروى عن طاوس, والحسن كراهة ذلك لما روى رافع أن النبي -ﷺ- (نهى عن كراء المزارع) متفق عليه ولنا (أن رافعا قال: أما بالذهب والورق فلم ينهنا) يعني النبي -ﷺ- متفق عليه ولمسلم (أما بشيء معلوم مضمون فلا بأس) وعن حنظلة بن قيس أنه (سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: نهى رسول الله -ﷺ- عن كراء الأرض قال فقلت: بالذهب والفضة؟ قال: إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها أما بالذهب والفضة فلا بأس) متفق عليه, وعن سعد قال: (كنا نكري الأرض بما على السواقى وما صعد بالماء منها فنهانا رسول الله -ﷺ- عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة) رواه أبو داود, ولأنها عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها فجازت إجارتها بالأثمان ونحوها كالدور والحكم في العروض كالحكم في الأثمان وأما حديثهم, فقد فسره الراوى بما ذكرناه عنه فلا يجوز الاحتجاج به على غيره وحديثنا مفسر لحديثهم فإن راويهما واحد, وقد رواه عاما وخاصا فيحمل العام على الخاص مع موافقة الخاص لسائر الأحاديث والقياس وقول أكثر أهل العلم. فأما إجارتها بطعام, فتنقسم ثلاثة أقسام أحدها أن يؤجرها بمطعوم غير الخارج منها معلوم فيجوز نص عليه أحمد, في رواية الحسن بن ثواب وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ومنع منه مالك, حتى منع إجارتها باللبن والعسل وقد روى عن أحمد أنه قال: ربما تهيبته قال القاضي: هذا من أحمد على سبيل الورع ومذهبه الجواز والحجة لمالك, ما روى رافع بن خديج عن بعض عمومته قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من كانت له أرض فلا يكريها بطعام مسمى) رواه أبو داود وابن ماجه وروى ظهير بن رافع قال: (دعاني رسول الله -ﷺ- فقال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال: لا تفعلوا ازرعوها أو أمسكوها) متفق عليه وروى أبو سعيد قال: (نهى رسول الله -ﷺ- عن المحاقلة) والمحاقلة: استكراء الأرض بالحنطة ولنا قول رافع: فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به ولأنه عوض معلوم مضمون, لا يتخذ وسيلة إلى الربا فجازت إجارتها به كالأثمان وحديث ظهير بن رافع قد سبق الكلام عليه في المزارعة, على أنه يحتمل النهي عن إجارتها بذلك إذا كان خارجا منها ويحتمل النهي عنه إذا آجرها بالربع والأوسق وحديث أبى سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا اكتراها لزرع الحنطة. القسم الثاني, إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها كإجارتها بقفزان حنطة لزرعها, فقال أبو الخطاب: فيها روايتان إحداهما المنع وهي التي ذكرها القاضي مذهبا وهي قول مالك لما تقدم من الأحاديث ولأنها ذريعة إلى المزارعة عليها بشيء معلوم من الخارج منها, لأنه يجعل مكان قوله زارعتك آجرتك فتصير مزارعة بلفظ الإجارة, والذرائع معتبرة والثانية جواز ذلك اختارها أبو الخطاب وهو قول أبى حنيفة والشافعي لما ذكرنا في القسم الأول ولأن ما جازت إجارته بغير المطعوم, جازت به كالدور. القسم الثالث إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها, كنصف وثلث وربع, فالمنصوص عن أحمد جوازه وهو قول أكثر الأصحاب واختار أبو الخطاب أنها لا تصح وهو قول أبى حنيفة والشافعي وهو الصحيح إن شاء الله لما تقدم من الأحاديث في النهي, من غير معارض لها ولأنها إجارة بعوض مجهول فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى, ولأنها إجارة لعين ببعض نمائها فلم تجز كسائر الأعيان, ولأنه لا نص في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص فإن النصوص إنما وردت بالنهى عن إجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصا, والمنصوص على جوازه إجارتها بذهب أو فضة أو شيء مضمون معلوم وليست هذه كذلك فأما نص أحمد في الجواز, فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة فيكون حكمها حكم المزارعة في جوازها ولزومها, وفيما يلزم العامل ورب الأرض وسائر أحكامها والله أعلم.

================

القرآن الكريم : {المصحف كله وورد}

الرابط https://archive.org/download/sunnahandhadith/UthmanicHafs1-Ex1-Ver12-browser.zip  سورة الفاتحة     القرآن الكريم : بِسْمِ اللَ...