(الجزء السادس عشر – كتاب الإقرار بالحقوق)
• كتاب الإقرار بالحقوق فصل: لا يصح الإقرار إلا من عاقل فصل: يصح الإقرار لكل من يثبت له الحق فصل: إن أقر لحمل امرأة بمال وعزاه إلى إرث أو وصية o مسألة: أحكام الاستثناء في الإقرار وأنواعه فصل: لو ذكر نوعا من جنس واستثنى نوعا آخر فصل: جواز استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه فصل: حكم الاستثناء بسائر أدواته كالإستثناء بإلا فصل: لا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلا بالكلام فصل: ولا يصح استثناء الكل بغير خلاف فصل: إن استثنى استثناء بعد استثناء وعطف الثاني على الأول فصل: فروع في الإبدال من المقر به o مسألة: الإخبار بقضاء الدين لا يكون إقرارا به فصل: إن قال له على مائة وقضيته منها خمسين فصل: وإن قال: كان له علي ألف وسكت لزمه الألف فصل: وإن قال له على ألف قضيته إياها لزمه الألف ولم تقبل دعوى القضاء فصل: إن وصل إقراره بما يسقطه فصل: لا يقبل رجوع المقر عن إقراره إلا فيما كان حدا لله تعالى يدرأ بالشبهات فصل: إن قال غصبت هذه الدار من زيد وملكها لعمرو لزمه دفعها إلى زيد فصل: إن قال غصبتها من أحدهما أو هي لأحدهما صح الإقرار فصل: إن كان في يده عبدان فقال أحد هذين لزيد فصل: لو أقر لرجل بعبد ثم جاءه به o مسألة: الإقرار بالدراهم مطلقا ينصرف إلى الجياد الوافية الحالة فصل: وإن أقر بدراهم وأطلق في بلد أوزانهم ناقصة فصل: وإن أقر بدراهم وأطلق ثم فسرها بسكة البلد الذي أقر بها فصل: إن قال له على درهم كبير لزمه فصل: وإذا أقر بدرهم ثم أقر بدرهم لزمه درهم واحد فصل: تكرار المقرر به واتباعه بمثله فصل: إن قال له على درهم بل درهمان فصل: إن قال له ما على ما بين درهم وعشرة لزمته ثمانية فصل: إن قال له على دراهم فصل: إن قال علي درهمان في عشرة فصل: إن قال له عندي درهم في ثوب أو في كيس فصل: إن قال له عندي دار مفروشة فصل: إن قال له على درهم أو دينار o مسألة: استثناء ما زاد على النصف غير جائز فصل: استثناء النصف فصل: إذا قال له على عشرة إلا سبعة فصل: إن قال له علي ألف إلا خمسين فصل: إن قال له على تسعة وتسعون درهما فصل: إن قال له علي ألف ودرهم أو ألف وثوب o مسألة: اللإقرار بالمال ثم تفسيره بوديعة o مسألة: ولو قال له علي ألف ثم قال وديعة فصل: إن قال لك على مائة درهم وأحضرها وقال هذه هي وكانت وديعة لك عندي فصل: فإن قال له في هذا العبد ألف فصل: إن قال له في مالي هذا ألف وفسره بدين فصل: إن قال له في هذا العبد شركة صح إقراره فصل: الإقرار بالمجهول فصل: إن أقر بمال قبل تفسيره بقليل المال وكثيره فصل: إن قال له على أكثر من مال فلان ففسره بأكثر منه عددا فصل: لو قال له علي ألف إلا شيئا فصل: لو قال غصبتك أو غبنتك لم يلزمه شيء فصل: تقبل الشهادة على الإقرار بالمجهول o مسألة: الإقرار بالرهن وقول المالك إنه وديعة فصل: إن قال لك علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه فصل: إذا قال بعتك جاريتي هذه قال بل زوجتنيها فصل: لو أقر رجل بحرية عبد ثم اشتراه فصل: لو أقر لرجل بعبد أو غيره ثم جاء به وقال هذا الذي أقررت لك به o مسألة: إقرار أحد الوارثين بأخ أو أخت فصل: إقرار جميع الورثة بنسب من يشاركهم فصل: شروط الإقرار بالنسب فصل: إن كان أحد الولدين غير وارث لكونه رقيقا أو مخالفا لدين موروثه فصل: فروع الإقرار بالوارث فصل: إقرار الوارث بمن يحجبه فصل: إن خلف ابنا فأقر بأخ ثبت نسبه فصل: إن أقر الابن بأخويه دفعة واحدة فصدق كل واحد منهما صاحبه فصل: إذا خلف امرأة وأخا فأقرت المرأة بابن للميت وأنكر الأخ فصل: شهادة الورثة العدول بنسب من يشاركهم في الميراث فصل: إن أقر رجلان عدلان بنسب مشارك لهما في الميراث فصل: إذا أقر بنسب ميت صغير أو مجنون ثبت نسبه وورثه فصل: إذا خلف رجل امرأة وابنا من غيرها فصل: إذا ثبت النسب بالإقرار ثم أنكر المقر فصل: إن أقرت المرأة بولد ولم تكن ذات زوج ولا نسب فصل: إن أقر بنسب صغير لم يكن مقرًا بزوجية أمه فصل: إذا كان له أمة لها ثلاثة أولاد لا زوج لها ولا أقر بوطئها فصل: إذا كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد o مسألة: وكذلك إن أقر بدين على أبيه لزمه من الدين بقدر ميراثه فصل: الإقرار ببعض المدعي لأحد المدعيين o مسألة: لزوم اليمين على من القول قوله لخصمه فصل: إذا أقر أنه وهب وأقبض الهبة o مسألة: حكم الإقرار بدين في مرض الموت فصل: إن أقر لأجنبى بدين في مرضه وعليه دين o مسألة: أحكام الإقرار للوارث فصل: إن أقر لامرأته بمهر مثلها أو دونه فصل: إن أقر لوارث فصار غير وارث فصل: إن أقر لوارث وأجنبى فصل: يصح إقرار المريض بوارث فصل: يصح الإقرار من المريض بإحبال الأمة فصل: الألفاظ التي يثبت بها الإقرار فصل: إن قال لي عليك ألف فقال أنا أقر
كتاب الإقرار بالحقوق الإقرار: هو الاعتراف والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} إلى قوله تعالى: {قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} وقال تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} وقال تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} في أي كثيرة مثل هذا وأما السنة فما روي أن ماعزا أقر بالزنى فرجمه رسول الله -ﷺ- وكذلك الغامدية, وقال: ( واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) وأما الإجماع فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار ولأن الإقرار إخبار على وجه ينفي عنه التهمة والريبة, فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضر بها ولهذا كان آكد من الشهادة فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة, وإنما تسمع إذا أنكر ولو كذب المدعى ببينة لم تسمع وإن كذب المقر ثم صدقه سمع. فصل
ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار فأما الطفل, والمجنون والمبرسم والنائم, والمغمى عليه فلا يصح إقرارهم لا نعلم في هذا خلافا وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق, وعن النائم حتى يستيقظ ) فنص على الثلاثة والمبرسم والمغمى عليه في معنى المجنون والنائم ولأنه قول من غائب العقل فلم يثبت له حكم, كالبيع والطلاق وأما الصبي المميز فإن كان محجورًا عليه لم يصح إقراره, وإن كان مأذونًا له صح إقراره في قدر ما أذن له فيه قال أحمد في رواية مهنا في اليتيم: إذا أذن له في التجارة وهو يعقل البيع والشراء, فبيعه وشراؤه جائز وإن أقر أنه اقتضى شيئا من ماله جاز بقدر ما أذن له وليه فيه وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو بكر وابن أبي موسى: إنما يصح إقراره فيما أذن له في التجارة فيه في الشيء اليسير وقال الشافعي لا يصح إقراره بحال لعموم الخبر, ولأنه غير بالغ فأشبه الطفل ولأنه لا تقبل شهادته ولا روايته, فأشبه الطفل ولنا أنه عاقل مختار يصح تصرفه, فصح إقراره كالبالغ وقد دللنا على صحة تصرفه فيما مضى, والخبر محمول على رفع التكليف والإثم فإن أقر مراهق غير مأذون له ثم اختلف هو والمقر له في بلوغه فالقول قوله, إلا أن تقوم بينة ببلوغه لأن الأصل الصغر ولا يحلف المقر لأننا حكمنا بعدم بلوغه إلا أن يختلفا بعد ثبوت بلوغه فعليه اليمين أنه حين أقر لم يكن بالغًا ومن زال عقله بسبب مباح أو معذور فيه, فهو كالمجنون لا يسمع إقراره بلا خلاف وإن كان بمعصية كالسكران, ومن شرب ما يزيل عقله عامدًا لغير حاجة لم يصح إقراره ويتخرج أن يصح بناء على وقوع طلاقه وهو منصوص الشافعي لأن أفعاله تجرى مجرى الصاحى ولنا أنه غير عاقل فلم يصح إقراره, كالمجنون الذي سبب جنونه فعل محرم ولأن السكران لا يوثق بصحة ما يقول ولا تنتفى عنه التهمة فيما يخبر به, فلم يوجد معنى الإقرار الموجب لقبول قوله وأما المكره فلا يصح إقراره بما أكره على الإقرار به وهذا مذهب الشافعي لقول رسول الله: -ﷺ- ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع وإن أقر بغير ما أكره عليه مثل أن يكره على الإقرار لرجل, فأقر لغيره أو بنوع من المال فيقر بغيره, أو على الإقرار بطلاق امرأة فأقر بطلاق أخرى أو أقر بعتق عبد, صح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو أقر به ابتداء ولو أكره على أداء مال, فباع شيئا من ماله ليؤدى ذلك صح بيعه نص عليه لأنه لم يكره على البيع ومن أقر بحق ثم ادعى أنه كان مكرها, لم يقبل قوله إلا ببينة سواء أقر عند السلطان أو عند غيره لأن الأصل عدم الإكراه إلا أن يكون هناك دلالة على الإكراه, كالقيد والحبس والتوكيل به فيكون القول قوله مع يمينه لأن هذه الحال تدل على الإكراه ولو ادعى أنه كان زائل العقل حال إقراره لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل السلامة حتى يعلم غيرها ولو شهد الشهود بإقراره, لم تفتقر صحة الشهادة إلى أن يقولوا طوعا في صحة عقله لأن الظاهر سلامة الحال وصحة الشهادة وقد ذكرنا حكم إقرار السفيه والمفلس والمريض في أبوابه وأما العبد فيصح إقراره بالحد والقصاص فيما دون النفس لأن الحق له دون مولاه ولا يصح إقرار المولى عليه لأن المولى لا يملك من العبد إلا المال ويحتمل أن يصح إقرار المولى عليه بما يوجب القصاص ويجب المال دون القصاص لأن المال يتعلق برقبته وهى مال السيد, فصح إقراره به كجناية الخطأ وأما إقراره بما يوجب القصاص في النفس فالمنصوص عن أحمد أنه لا يقبل, ويتبع به بعد العتق وبه قال زفر والمزنى وداود وابن جرير الطبرى لأنه يسقط حق سيده بإقراره فأشبه الإقرار بقتل الخطأ ولأنه متهم في أنه يقر لرجل ليعفو عنه, ويستحق أخذه فيتخلص بذلك من سيده واختار أبو الخطاب أنه يصح إقراره به وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأنه أحد نوعى القصاص فصح إقراره به, كما دون النفس وبهذا الأصل ينتقض دليل الأول وينبغى على هذا القول أن لا يصح عفو ولى الجناية على مال إلا باختيار سيده لئلا يفضى إلى إيجاب المال على سيده بإقرار غيره فلا يقبل إقرار العبد بجناية الخطأ, ولا شبه العمد ولا بجناية عمد موجبها المال كالجائفة والمأمومة, لأنه إيجاب حق في رقبته وذلك يتعلق بحق المولى ويقبل إقرار المولى عليه لأنه إيجاب حق في ماله وإن أقر بسرقة موجبها المال لم يقبل إقراره, ويقبل إقرار المولى عليه لما ذكرنا وإن كان موجبها القطع والمال فأقر بها العبد وجب قطعه, ولم يجب المال سواء كان ما أقر بسرقته باقيا أو تالفا في يد السيد أو يد العبد قال أحمد في عبد أقر بسرقة دراهم في يده أنه سرقها من رجل, والرجل يدعي ذلك وسيده يكذبه: فالدراهم لسيده ويقطع العبد, ويتبع بذلك بعد العتق وللشافعى في وجوب المال في هذه الصورة وجهان ويحتمل أن لا يجب القطع لأن ذلك شبهة فيدرأ بها القطع لكونه حدا يدرأ بالشبهات وهذا قول أبي حنيفة وذلك لأن العين التي يقر بسرقتها لم يثبت حكم السرقة فيها, فلا يثبت حكم القطع بها وإن أقر العبد بسرقة لغير من هو في يده لم يقبل إقراره بالرق لأن الإقرار بالرق إقرار بالملك والعبد لا يقبل إقراره بحال, ولأننا لو قبلنا إقراره أضررنا بسيده لأنه إذا شاء أقر لغير سيده, فأبطل ملكه وإن أقر به السيد لرجل وأقر هو لآخر فهو للذى أقر له السيد لأنه في يد السيد, لا في يد نفسه ولأن السيد لو أقر به منفردا قبل ولو أقر العبد منفردا لم يقبل فإذا لم يقبل إقرار العبد منفردا فكيف يقبل مع معارضته لإقرار السيد؟ ولو قبل إقرار العبد, لما قبل إقرار السيد كالحد وجناية العمد وأما المكاتب فحكمه حكم الحر في صحة إقراره ولو أقر بجناية خطأ صح إقراره فإن عجز بيع فيها إن لم يفده سيده وقال أبو حنيفة يستسعى في الكتابة, وإن عجز بطل إقراره بها سواء قضى بها أو لم يقض وعن الشافعي كقولنا وعنه أنه مراعى إن أدى لزمه وإن عجز بطل ولنا, أنه إقرار لزمه في كتابته فلا يبطل بعجزه كالإقرار بالدين وعلى الشافعي أن المكاتب في يد نفسه فصح إقراره بالجناية, كالحر. فصل
ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق فإذا أقر لعبد بنكاح أو قصاص أو تعزير القذف صح الإقرار له صدقه المولى أو كذبه لأن الحق له دون سيده وله المطالبة بذلك, والعفو عنه وليس لسيده مطالبة به ولا عفو وإن كذبه العبد لم يقبل وإن أقر له بمال, صح ويكون لسيده لأن يد العبد كيد سيده وقال أصحاب الشافعي: إن قلنا: يملك المال صح الإقرار له وإن قلنا: لا يملك كان الإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده وإن أقر لبهيمة أو دار, لم يصح إقراره لها وكان باطلًا لأنها لا تملك المال مطلقًا ولا يد لها وإن قال: على بسبب هذه البهيمة لم يكن إقرارا لأحد, ولأنه لم يذكر لمن هي ومن شرط صحة الإقرار ذكر المقر له وإن قال: لمالكها أو لزيد على بسببها ألف صح الإقرار وإن قال: بسبب حمل هذه البهيمة لم يصح إذ لا يمكن إيجاب شيء بسبب الحمل. فصل
وإن أقر لحمل امرأة بمال, وعزاه إلى إرث أو وصية صح وكان للحمل وإن أطلق, فقال أبو عبد الله بن حامد يصح وهو أصح قولي الشافعي لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح فصح له الإقرار المطلق كالطفل فعلى هذا, إن ولدت ذكرًا أو أنثى كان بينهما نصفين وإن عزاه إلى إرث أو وصية كان بينهما على حسب استحقاقهما لذلك وقال أبو الحسن التميمي: لا يصح الإقرار إلا أن يعزيه إلى إرث أو وصية وهو قول أبي ثور والقول الثاني للشافعى لأنه لا يملك بغيرهما فإن ولدت الولد ميتا, وكان قد عزا الإقرار إلى إرث أو وصية عادت إلى ورثة الموصى وموروث الطفل وإن أطلق الإقرار, كلف ذكر السبب فيعمل بقوله فإن تعذر التفسير بموته أو غيره, بطل إقراره كمن أقر لرجل لا يعرف من أراد بإقراره وإن عزا الإقرار إلى جهة غير صحيحة فقال: لهذا الحمل علي ألف أقرضنيها, أو وديعة أخذتها منه فعلى قول التميمي الإقرار باطل وعلى قول ابن حامد ينبغي أن يصح إقراره لأنه وصل إقراره بما يسقطه, فيسقط ما وصله به كما لو قال: له علي ألف لا تلزمني وإن قال: له علي ألف جعلتها له أو نحو ذلك فهي عدة لا يؤخذ بها ولا يصح الإقرار لحمل إلا إذا تيقن أنه كان موجودا حال الإقرار على ما تبين في موضعه وإن أقر لمسجد أو مصنع أو طريق, وعزاه إلى سبب صحيح مثل أن يقول: من غلة وقفه صح وإن أطلق خرج على الوجهين. مسألة
قال:[ومن أقر بشيء, واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلًا إلا أن يستثنى عينًا من ورق, أو ورقًا من عين] في هذه المسألة فصلان: أولهما: أنه لا يصح الاستثناء في الإقرار من غير الجنس وبهذا قال زفر ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إن استثنى مكيلا أو موزونا, جاز وإن استثنى عبدا أو ثوبا من مكيل أو موزون لم يجز وقال مالك والشافعي يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقًا لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب, قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} وقال الله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قيلًا سلامًا سلامًا } وقال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس وقال آخر: عيت جوابًا وما بالربع من أحد ** إلا أواري لأيــًا ما أبينهــا ولنا أن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه وقيل: هو إخراج بعض ما تناوله المستثنى منه مشتق من ثنيت فلانًا عن رأيه إذا صرفته عن رأي كان عازمًا عليه وثنيت عنان دابتي إذا صرفتها به عن وجهتها التي كانت تذهب إليها وغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام فإذا ذكره, فما صرف الكلام عن صوبه ولا ثناه عن وجه استرساله فلا يكون استثناء, وإنما سمي استثناء تجوزا وإنما هو في الحقيقة استدراك " وإلا " هاهنا بمعنى " لكن " هكذا قال أهل العربية منهم ابن قتيبة وحكاه عن سيبويه والاستدراك لا يأتى إلا بعد الجحد, ولذلك لم يأت الاستثناء في الكتاب العزيز من غير الجنس إلا بعد النفي ولا يأتى بعده الإثبات إلا أن يوجد بعده جملة وإذا تقرر هذا, فلا مدخل للاستدراك في الإقرار لأنه إثبات للمقر به فإذا ذكر الاستدراك بعده كان باطلًا وإن ذكره بعد جملة كأن قال: له عندي مائة درهم إلا ثوبا لي عليه فيكون مقرًا بشيء مدعيا لشيء سواه, فيقبل إقراره وتبطل دعواه كما لو صرح بذلك بغير لفظ الاستثناء وأما قوله تعالى: {فسجدوا إلا إبليس} فإن إبليس كان من الملائكة, بدليل أن الله تعالى لم يأمر بالسجود غيرهم فلو لم يكن منهم لما كان مأمورا بالسجود ولا عاصيا بتركه, ولا قال الله تعالى في حقه: {ففسق عن أمر ربه} ولا قال: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} وإذا لم يكن مأمورا فلم أنكسه الله وأهبطه ودحره؟ ولم يأمر الله تعالى بالسجود إلا الملائكة فإن قالوا: بل قد تناول الأمر الملائكة ومن كان معهم فدخل إبليس في الأمر لكونه معهم قلنا: قد سقط استدلالكم فإنه متى كان إبليس داخلا في المستثنى منه, مأمورًا بالسجود فاستثناؤه من الجنس وهذا ظاهر لمن أنصف, -إن شاء الله تعالى- فعلى هذا متى قال: له علي ألف درهم إلا ثوبًا لزمه الألف وسقط الاستثناء, بمنزلة ما لو قال: له علي ألف درهم لكن لي عليه ثوب الفصل الثانى: إذا استثنى عينا من ورق أو ورقا من عين, فاختلف أصحابنا في صحته فذهب أبو بكر عبد العزيز إلى أنه لا يصح لما ذكرنا وهو قول محمد بن الحسن وقال ابن أبي موسى: فيه روايتان واختار الخرقى صحته لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر ويعبر بأحدهما عن الآخر فإن قوما يسمون تسعة دراهم دينارا, وآخرون يسمون ثمانية دراهم دينارا فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنه أراد التعبير بأحدهما عن الآخر, فإذا قال: له على دينار إلا ثلاثة دراهم في موضع يعبر فيه بالدينار عن تسعة كان معناه: له على تسعة دراهم إلا ثلاثة ومتى أمكن حمل الكلام على وجه صحيح, لم يجز إلغاؤه وقد أمكن بهذا الطريق فوجب تصحيحه وقال أبو الخطاب لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما, فيلزم من صحة استثناء أحدهما من الآخر صحة استثناء الثياب وغيرها وقد ذكرنا الفرق ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل رواية الصحة على ما إذا كان أحدهما يعبر به عن الآخر أو يعلم قدره منه ورواية البطلان على ما إذا انتفى ذلك, والله أعلم. فصل
ولو ذكر نوعا من جنس واستثنى نوعا آخر من ذلك الجنس مثل أن يقول: له على عشرة آصع تمرا برنيا إلا ثلاثة تمرا معقليا لم يجز لما ذكرناه في الفصل الأول ويخالف العين والورق لأن قيمة أحد النوعين غير معلومة من الآخر, ولا يعبر بأحدهما عن الآخر ويحتمل على قول الخرقى جوازه لتقارب المقاصد من النوعين فهما كالعين والورق والأول أصح لأن العلة الصحيحة في العين والورق غير ذلك. فصل
فأما استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه فجائز بغير خلاف علمناه فإن ذلك في كلام العرب, وقد جاء في الكتاب والسنة قال الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} وقال: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وقال النبى -ﷺ- في الشهيد: ( يكفر عنه خطاياه كلها إلا الدين ) وهذا في الكتاب والسنة كثير وفي سائر كلام العرب فإذا أقر بشيء, واستثنى منه كان مقرًا بالباقى بعد الاستثناء فإذا قال: له على مائة إلا عشرة كان مقرًا بتسعين لأن الاستثناء يمنع أن يدخل في اللفظ ما لولاه لدخل, فإنه لو دخل لما أمكن إخراجه ولو أقر بالعشرة المستثناة لما قبل منه إنكارها وقول الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا} إخبار بتسعمائة وخمسين فالاستثناء بين أن الخمسين المستثناة غير مرادة, كما أن التخصيص يبين أن المخصوص غير مراد باللفظ العام وإن قال: هذه الدار لزيد إلا هذا البيت كان مقرًا بما سوى البيت منها وكذلك إن قال: إلا ثلثها أو ربعها صح, وكان مقرًا بالباقي بعد المستثني وكذلك إن قال: هذه الدار له وهذا البيت لي صح أيضا لأنه في معنى الاستثناء لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ الأول بكلام متصل وإن قال: له هؤلاء العبيد إلا هذا صح, وكان مقرًا بمن سواه منهم وإن قال: إلا واحدا صح لأن الإقرار يصح مجهولا فكذلك الاستثناء منه ويرجع في تعيين المستثنى إليه, لأن الحكم يتعلق بقوله وهو أعلم بمراده به وإن عين من عدا المستثني صح, وكان الباقي له فإن هلك العبيد إلا واحدا فذكر أنه المستثنى قبل ذكره القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب لا يقبل, في أحد الوجهين وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه يرفع به الإقرار كله والصحيح أنه يقبل لأنه يقبل تفسيره به في حياتهم لمعنى هو موجود بعد موتهم فقبل كحالة حياتهم وليس هذا رفعا للإقرار, وإنما تعذر تسليم المقر به لتلفه لا لمعنى يرجع إلى التفسير فأشبه ما لو عينه في حياتهم, فتلف بعد تعيينه وإن قتل الجميع إلا واحدا قبل تفسيره بالباقى وجها واحدا وإن قتل الجميع, فله قيمة أحدهم ويرجع في التفسير إليه وإن قال: غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحدا فهلكوا إلا واحدا قبل تفسيره به وجها واحدا لأن المقر له يستحق قيمة الهالكين, فلا يفضى التفسير بالباقى إلى سقوط الإقرار بخلاف التي قبلها فصل
وحكم الاستثناء بسائر أدواته حكم الاستثناء بإلا فإذا قال: له على عشرة سوى درهم, أو ليس درهما أو خلا درهما أو عدا درهما, أو ما خلا أو ما عدا درهما أو لا يكون درهما أو غير درهم بفتح الراء كان مقرًا بتسعة وإن قال: غير درهم, بضم رائها وهو من أهل العربية كان مقرًا بعشرة, لأنها تكون صفة للعشرة المقر بها ولا يكون استثناء فإنها لو كانت استثناء كانت منصوبة وإن لم يكن من أهل العربية, لزمه تسعة لأن الظاهر أنه إنما يريد الاستثناء لكنه رفعها جهلا منه بالعربية لا قصدا للصفة. فصل
ولا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلا بالكلام فإن سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه, أو فصل بين المستثنى منه والمستثنى بكلام أجنبى لم يصح لأنه إذا سكت أو عدل عن إقراره إلى شيء آخر استقر حكم ما أقر به, فلم يرتفع بخلاف ما إذا كان في كلامه فإنه لا يثبت حكمه وينتظر ما يتم به كلامه, ويتعلق به حكم الاستثناء والشرط والعطف والبدل ونحوه. فصل
ولا يصح استثناء الكل بغير خلاف لأن الاستثناء رفع بعض ما تناوله اللفظ واستثناء الكل رفع الكل فلو صح صار الكلام كله لغوا غير مفيد, فإن قال: له على درهم ودرهم إلا درهما أو ثلاثة دراهم ودرهمان إلا درهمين أو ثلاثة ونصف إلا نصفا أو إلا درهما أو خمسة وتسعون إلا خمسة لم يصح الاستثناء ولزمه جميع ما أقر به قبل الاستثناء وهذا قول الشافعي وهو الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة, وفيه وجه آخر أنه يصح لأن الواو العاطفة تجمع بين العددين وتجعل الجملتين كالجملة الواحدة, ومن أصلنا أن الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض بالواو عاد إلى جميعها كقولنا في قول الله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} إن الاستثناء عاد إلى الجملتين, فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ومن ذلك قول النبى -ﷺ- ( لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ) والوجه الأول أولى لأن الواو لم تخرج الكلام من أن يكون جملتين والاستثناء يرفع إحداهما جميعا, ولا نظير لهذا في كلامهم ولأن صحة الاستثناء تجعل إحدى الجملتين مع الاستثناء لغوا لأنه أثبت شيئا بلفظ مفرد, ثم رفعه كله فلا يصح كما لو استثنى منها وهى غير معطوفة على بعضها, فأما الآية والخبر فإن الاستثناء لم يرفع إحدى الجملتين إنما أخرج من الجملتين معا من اتصف بصفة, فنظيره ما لو قال للبواب: من جاء يستأذن فأذن له وأعطه درهما إلا فلانًا ونظير مسألتنا ما لو قال: أكرم زيدا وعمرا إلا عمرا وإن قال: له على درهمان وثلاثة إلا درهمين لم يصح أيضا لأنه يرفع الجملة الأولى كلها, فأشبه ما لو قال: أكرم زيدا وعمرا إلا زيدا وإن قال: له على ثلاثة وثلاثة إلا درهمين خرج فيه وجهان لأنه استثنى أكثر الجملة التي تليه واستثناء الأكثر فاسد, كاستثناء الكل. فصل
وإن استثنى استثناء بعد استثناء وعطف الثاني على الأول كان مضافا إليه فإذا قال: له على عشرة إلا ثلاثة, وإلا درهمين كان مستثنيا لخمسة مبقيا لخمسة وإن كان الثاني غير معطوف على الأول كان استثناء من الاستثناء وهو جائز في اللغة, قد جاء في كلام الله تعالى في قوله: {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} فإذا كان صدر الكلام إثباتا كان الاستثناء الأول نفيا والثاني إثباتا فإن استثنى استثناء ثالثا, كان نفيا يعود كل استثناء إلى ما يليه من الكلام فإذا قال: له على عشرة إلا ثلاثة إلا درهما كان مقرًا بثمانية لأنه أثبت عشرة ثم نفى منها ثلاثة وأثبت درهما, وبقى من الثلاثة المنفية درهمان مستثنيان من العشرة فيبقى منها ثمانية وسنزيد لهذا الفصل فروعا في مسألة استثناء الأكثر. فصل
إذا قال: له هذه الدار هبة, أو سكنى أو عارية كان إقرارا بما أبدل به كلامه ولم يكن إقرارا بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله, فصح كما لو أقر بجملة واستثنى بعضها وذكر القاضي في هذا وجها أنه لا يصح لأنه استثناء من غير الجنس, وليس هذا استثناء إنما هذا بدل وهو سائغ في اللغة ويسمى هذا النوع من البدل بدل الاشتمال, وهو أن يبدل من الشيء بعض ما يشتمل عليه ذلك الشيء كقوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} فأبدل القتال من الشهر المشتمل عليه وقال تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام أنه قال: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} أي أنساني ذكره وإن قال: له هذه الدار ثلثها أو قال: ربعها صح, ويكون مقرًا بالجزء الذي أبدله وهذا بدل البعض وليس ذلك باستثناء ومثله قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلًا نصفه} وقوله سبحانه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا} ولكنه في معنى الاستثناء, في كونه يخرج من الكلام بعض ما يدخل فيه لولاه ويفارقه في أنه يجوز أن يخرج أكثر من النصف وأنه يجوز إبدال الشيء من غيره إذا كان مشتملا عليه, ألا ترى أن الله تعالى أبدل المستطيع للحج من الناس وهو أقل من نصفهم وأبدل القتال من الشهر الحرام, وهو غيره؟ ومتى قال: له هذه الدار سكنى أو عارية ثبت فيها حكم ذلك وله أن لا يسكنه إياها وأن يعود فيما أعاره. مسألة
قال:[ومن ادعى عليه شيء فقال قد كان له علي وقضيته لم يكن ذلك إقرارًا] حكى ابن أبي موسى في هذه المسألة روايتين إحداهما أن هذا ليس بإقرار اختاره القاضي وقال: لم أجد عن أحمد رواية بغير هذا والثانية, أنه مقر بالحق مدع لقضائه فعليه البينة بالقضاء وإلا حلف غريمه وأخذ واختاره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر بالدين, وادعى القضاء فلم تقبل دعواه كما لو ادعى القضاء بكلام منفصل, ولأنه رفع جميع ما أثبته فلم يقبل كاستثناء الكل وللشافعى قولان كالمذهبين ووجه قول الخرقى أنه قول متصل, يمكن صحته ولا تناقض فيه فوجب أن يقبل كاستثناء البعض, وفارق المنفصل لأن حكم الأول قد استقر بسكوته عليه فلا يمكن رفعه بعد استقراره ولذلك لا يرتفع بعضه باستثناء ولا غيره, فما يأتى بعده من دعوى القضاء يكون دعوى مجردة لا تقبل إلا ببينة وأما استثناء الكل فمتناقض لأنه لا يمكن أن يكون عليه ألف وليس عليه شيء. فصل
وإن قال: له على مائة, وقضيته منها خمسين فالكلام فيها كالكلام فيما إذا قال: وقضيتها وإن قال له إنسان: لي عليك مائة فقال: قضيتك منها خمسين فقال القاضي: لا يكون مقرًا بشيء لأن الخمسين التي ذكر أنه قضاها في كلامه ما تمنع بقاءها وهو دعوى القضاء وباقى المائة لم يذكرها, وقوله: منها يحتمل أن يريد بها مما يدعيه ويحتمل مما على فلا يثبت عليه شيء بكلام محتمل ويجيء على قول من قال بالرواية الأخرى أن يلزمه الخمسون التي ادعى قضاءها لأن في ضمن دعوى القضاء إقرارا بأنها كانت عليه, فلا تقبل دعوى القضاء بغير بينة. فصل
وإن قال: كان له علي ألف وسكت لزمه الألف في ظاهر كلام أصحابنا وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر: لا يلزمه شيء, وليس هذا بإقرار لأنه لم يذكر عليه شيئا في الحال إنما أخبر بذلك فجاز في زمن ماض فلا يثبت في الحال, ولذلك لو شهدت البينة به لم يثبت ولنا أنه أقر بالوجوب ولم يذكر ما يرفعه, فبقى على ما كان عليه ولهذا لو تنازعا دارا فأقر أحدهما للآخر أنها كانت ملكه, حكم بها له إلا أنه هاهنا إن عاد فادعى القضاء أو الإبراء سمعت دعواه لأنه لا تنافى بين إقراره وبين ما يدعيه. فصل
وإن قال: له على ألف, قضيته إياها لزمه الألف ولم تقبل دعوى القضاء وقال القاضي: تقبل لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلا فأشبه ما لو قال: كان له علي, وقضيته وقال ابن أبي موسى إن قال: قضيت جميعه لم يقبل إلا ببينة ولزمه ما أقر به وله اليمين على المقر له ولو قال: قضيت بعضه قبل منه, في إحدى الروايتين لأنه رفع بعض ما أقر به بكلام متصل فأشبه ما لو استثناه بخلاف ما إذا قال: قضيت جميعه لكونه رفع جميع ما هو ثابت, فأشبه استثناء الكل ولنا أن هذا قول متناقض إذ لا يمكن أن يكون عليه ألف قد قضاه, فإن كونه عليه يقتضي بقاءه في ذمته واستحقاق مطالبته به وقضاؤه يقتضي براءة ذمته منه, وتحريم مطالبته به والإقرار به يقتضي ثبوته والقضاء يقتضي رفعه, وهذان ضدان لا يتصور اجتماعهما في زمن واحد بخلاف ما إذا قال: كان له على وقضيته فإنه أخبر بهما في زمانين, ويمكن أن يرتفع ما كان ثابتا ويقضى ما كان دينا وإذا لم يصح هذا في الجميع, لم يصح في البعض لاستحالة بقاء ألف عليه وقد قضى بعضه ويفارق الاستثناء فإن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عن الباقي من المستثنى منه فقول الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا} عبارة عن تسعمائة وخمسين أما القضاء فإنما يرفع جزءا كان ثابتا, فإذا ارتفع بالقضاء لا يجوز التعبير عنه بما يدل على البقاء. فصل
وإن وصل إقراره بما يسقطه فقال: له علي ألف من ثمن خمر أو خنزير أو من ثمن طعام اشتريته فهلك قبل قبضه, أو ثمن مبيع فاسد لم أقبضه أو تكفلت به على أنى بالخيار لزمه الألف ولم يقبل قوله في إسقاطه ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وذكر القاضي أنه إذا قال: له علي ألف زيوف ففسره برصاص أو نحاس, لم يقبل لأنه رفع كل ما اعترف به وقال في سائر الصور التي ذكرناها: يقبل قوله لأنه عزا إقراره إلى سببه فقبل كما لو عزاه إلى سبب صحيح ولنا أن هذا يناقض ما أقر به, فلم يقبل كالصورة التي سلمها وكما لو قال: له علي ألف لا يلزمنى أو يقول: دفع جميع ما أقر به فلم يقبل, كاستثناء الكل وغير خاف تناقض كلامه فإن ثبوت ألف عليه في هذه المواضع لا يتصور وإقراره إخبار بثبوته فيتنافيان, وإن سلم ثبوت الألف عليه فهو ما قلناه. فصل
ولا يقبل رجوع المقر عن إقراره إلا فيما كان حدا لله تعالى يدرأ بالشبهات, ويحتاط لإسقاطه فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات, فلا يقبل رجوعه عنها ولا نعلم في هذا خلافا فإذا قال: هذه الدار لزيد لا بل لعمرو أو ادعى زيد على ميت شيئا معينا من تركته فصدقه ابنه, ثم ادعاه عمرو فصدقه حكم به لزيد ووجبت عليه غرامته لعمرو وهذا ظاهر أحد قولي الشافعي وقال في الآخر: لا يغرم لعمرو شيئا وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر له بما عليه الإقرار به, وإنما منعه الحكم من قبوله وذلك لا يوجب الضمان ولنا أنه حال بين عمرو وبين ملكه الذي أقر له به بإقراره لغيره, فلزمه غرمه كما لو شهد رجلان على آخر بإعتاق عبده ثم رجعا عن الشهادة, أو كما لو رمى به إلى البحر ثم أقر به وإن قال: غصبت هذه الدار من زيد لا بل من عمرو أو غصبتها من زيد, وغصبها زيد من عمرو حكم بها لزيد ولزمه تسليمها إليه ويغرمها لعمرو وبهذا قال أبو حنيفة وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال في الآخر: لا يضمن لما تقدم ولنا, أنه أقر بالغصب الموجب للضمان والرد إلى المغصوب منه ثم لم يرد ما أقر بغصبه فلزمه ضمانه, كما لو تلف بفعل الله تعالى قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل قال لرجل: استودعتك هذا الثوب قال: صدقت, ثم قال: استودعنيه رجل آخر فالثوب للأول ويغرم قيمته للآخر ولا فرق في هذا الفصل بين أن يكون إقراره بكلام متصل أو منفصل. فصل
فإن قال: غصبت هذه الدار من زيد وملكها لعمرو لزمه دفعها إلى زيد لإقراره له بأنها كانت في يده, وهذا يقتضي كونها في يده بحق وملكها لعمرو لا ينافى ذلك لأنها يجوز أن تكون في يد زيد بإجارة أو عارية أو وصية ولا يغرم لعمرو شيئا لأنه لم يكن منه تفريط وفارق هذا ما إذا قال: هذه الدار لزيد, بل لعمرو لأنه أقر للثانى بما أقر به للأول فكان الثاني رجوعا عن الأول لتعارضهما وها هنا لا تعارض بين إقراريه وإن قال: ملكها لعمرو, وغصبتها من زيد فكذلك لا فرق بين التقديم والتأخير والمتصل والمنفصل ذكره القاضي وقيل: يلزمه دفعها إلى عمرو ويغرمها لزيد لأنه لما أقر بها لعمرو أولا لم يقبل إقراره باليد لزيد وهذا وجه حسن ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولو قال: هذا الألف دفعه إلى زيد, وهو لعمرو أو قال: هو لعمرو دفعه إلى زيد فكذلك على ما مضى من القول فيه. فصل
وإن قال: غصبتها من أحدهما أو هي لأحدهما صح الإقرار لأنه يصح بالمجهول فيصح للمجهول, ويطالب بالبيان فإن عين أحدهما دفعت إليه ويحلف للآخر إن ادعاها, ولا يغرم له شيئا لأنه لم يقر له بشيء وإن قال: لا أعرفه عينا فصدقاه نزعت من يده وكانا خصمين فيها, وإن كذباه فعليه اليمين أنه لا يعلم وتنزع من يده فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها, وإن لم تكن له بينة أقرعنا بينهما فمن قرع صاحبه حلف, وسلمت إليه وإن بين الغاصب بعد ذلك مالكها قبل منه كما لو بينه ابتداء ويحتمل أنه إذا ادعى كل واحد منهما أنه المغصوب منه, توجهت عليه اليمين لكل واحد منهما أنه لم يغصبه فإن حلف لأحدهما لزمه دفعها إلى الآخر لأن ذلك يجرى مجرى تعيينه, وإن نكل عن اليمين لهما جميعا فسلمت إلى أحدهما بقرعة أو غيرها لزمه غرمها للآخر لأنه نكل عن يمين توجهت عليه, فقضى عليه كما لو ادعاها وحده. فصل
فإن كان في يده عبدان فقال: أحد هذين لزيد طولب بالبيان, فإن عين أحدهما فصدقه زيد أخذه وإن قال: هذا لي والعبد الآخر لزيد فعليه اليمين في العبد الذي ينكره وإن قال زيد: إنما لي العبد الآخر فالقول قول المقر مع يمينه في العبد الذي ينكره ولا يدفع إلى زيد العبد المقر به ولكن يقر في يد المقر لأنه لم يصح إقراره به, في أحد الوجهين وفي الآخر ينزع من يده, لاعترافه بأنه لا يملكه ويكون في بيت المال لأنه لا مالك له معروف فأشبه ميراث من لا يعرف وارثه فإن أبي التعيين, فعينه المقر له وقال: هذا عبدى طولب بالجواب فإن أنكر حلف, وكان بمنزلة تعيينه للآخر وإن نكل عن اليمين يقضى عليه وإن أقر له, فهو كتعيينه. فصل
ولو أقر لرجل بعبد ثم جاءه به فقال: هذا الذي أقررت به فقال: ليس هو هذا, إنما هو آخر فعلى المقر اليمين أنه ليس له عنده سواه ولا يلزمه تسليم هذا إلى المقر له لأنه لا يدعيه وإن قال: هذا لي ولى عندك آخر سلم إليه هذا, وحلف له على نفى الآخر وكل من أقر لرجل بملك فكذبه بطل إقراره لأنه لا يثبت للإنسان ملك لا يعترف به وفي المال وجهان أحدهما, يترك في يد المقر لأنه كان محكوما له به فإذا بطل إقراره بقى على ما كان عليه والثاني يؤخذ إلى بيت المال لأنه لم يثبت له مالك وقيل: يؤخذ فيحفظ حتى يظهر مالكه لأنه لا يدعيه أحد ومذهب الشافعي مثل هذا فإن عاد أحدهما فكذب نفسه, دفع إليه لأنه يدعيه ولا منازع له فيه وإن كذب كل واحد منهما, نفسه فرجع المقر عن إقراره وادعاه المقر له, فإن كان باقيا في يد المقر فالقول قوله مع يمينه كما لو لم يقر به لغيره, وإن كان معدوما بتلف أو إباق ونحوه بغير تعد من أحدهما فلا شيء فيه من يمين ولا غيرها, وإن كان بتعد من أحدهما فالقول فيه قول المقر مع يمينه كما لو كان باقيا فإذا حلف, سقط عنه الضمان وإن كان تلفه بتعديه ووجب له الضمان على الآخر, إن كان تلفه بتعد منه والله أعلم. مسألة
قال: [ومن أقر بعشرة دراهم, ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم قال: زيوفا أو صغارا أو إلى شهر كانت عشرة جيادًا وافية حالة] وجملته أن من أقر بدراهم وأطلق, اقتضى إقراره الدراهم الوافية وهى دراهم الإسلام كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل, وكل درهم ستة دوانق واقتضى أن تكون جيادا حالة, كما لو باعه بعشرة دراهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك فإذا سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه, أو أخذ في كلام غير ما كان فيه استقرت عليه كذلك فإن عاد فقال: زيوفا يعني رديئة أو صغارا وهى الدراهم الناقصة, مثل دراهم طبرية كان كل درهم منها أربعة دوانق وذلك ثلثا درهم أو إلى شهر يعني مؤجلة, لم يقبل منه لأنه يرجع عن بعض ما أقر به ويرفعه بكلام منفصل فلم يقبل, كالاستثناء المنفصل وهذا مذهب الشافعي ولا فرق بين الإقرار بها دينا أو وديعة أو غصبا وقال أبو حنيفة يقبل قوله في الغصب الوديعة لأنه أقر بفعل في عين, وذلك لا يقتضي سلامتها فأشبه ما لو أقر بغصب عبد ثم جاء به معيبا ولنا, أن إطلاق الاسم يقتضي الوازنة الجياد فلم يقبل تفسيره بما يخالف ذلك كالدين, ويفارق العبد فإن العيب لا يمنع إطلاق اسم العبد عليه فأما إن وصفها بذلك بكلام متصل أو سكت للتنفس أو اعترضته سعلة, أو نحو ذلك ثم وصفها بذلك أو شيء منه, قبل منه وذكر أبو الخطاب أنه يحتمل أن لا يقبل منه التأجيل وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق فلم يقبل كما لو قال: له على دراهم قضيته إياها وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يقبل تفسيره بالناقصة وقال القاضي: إن قال: له على عشرة دراهم ناقصة قبل قوله وإن قال: صغارا وللناس دراهم صغار, قبل قوله أيضا وإن لم يكن له دراهم صغار لزمه وازنة كما لو قال: دريهم لزمه درهم وازن وهذا قول ابن القاص من أصحاب الشافعي ولنا أنه فسر كلامه بما يحتمله بكلام متصل, فقبل منه كاستثناء البعض وذلك لأن الدراهم يعبر بها عن الوازنة والناقصة, والزيوف والجيدة وكونها عليه يحتمل الحلول والتأجيل فإذا وصفها بذلك, تقيدت به كما لو وصف الثمن به فقال: بعتك بعشرة دراهم, مؤجلة ناقصة وثبوتها على غير هذه الصفة حالة الإطلاق لا يمنع من صحة تقييدها به كالثمن وقولهم: إن التأجيل يمنع استيفاءها ليس بصحيح, وإنما يؤخره فأشبه الثمن المؤجل يحققه أن الدراهم تثبت في الذمة على هذه الصفات فإذا كانت ثابتة بهذه الصفة, لم تقتض الشريعة المطهرة سد باب الإقرار بها على صفتها وعلى ما ذكروه لا سبيل له إلى الإقرار بها إلا على وجه يؤاخذ بغير ما هو واجب عليه فيفسد باب الإقرار وقول من قال: إن قوله " صغارا " ينصرف إلى المقدار لا يصح لأن مساحة الدراهم لا تعتبر في الشرع ولا تثبت في الذمة بمساحة مقدرة, وإنما يعتبر الصغر والكبر في الوزن فيرجع إلى تفسير المقر فأما إن قال: زيوفا وفسرها بمغشوشة, أو معيبة عيبا ينقصها قبل تفسيره وإن فسرها بنحاس أو رصاص, أو ما لا قيمة له لم يقبل لأن تلك ليست دراهم على الحقيقة فيكون تفسيره به رجوعا عما أقر به, فلم يقبل كاستثناء الكل. فصل
وإن أقر بدراهم وأطلق في بلد أوزانهم ناقصة, كطبرية كان درهمهم أربعة دوانيق وخوارزم كان درهمهم أربعة دوانيق ونصفا, ومكة درهمهم ناقص وكذلك المغرب أو في بلد دراهمهم مغشوشة, كمصر والموصل أو بدنانير في بلد دنانيرهم مغشوشة ففيه وجهان أولهما يلزمه من دراهم البلد ودنانيره لأن مطلق كلامهم يحمل على عرف بلدهم, كما في البيع والأثمان والثاني تلزمه الوازنة الخالصة من الغش لأن إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إليها بدليل أن بها تقدير نصب الزكاة ومقادير الديات, فكذلك إطلاق الشخص وفارق البيع فإنه إيجاب في الحال فاختص بدراهم الموضع الذي هما فيه والإقرار إخبار عن حق سابق فانصرف إلى دراهم الإسلام. فصل
وإن أقر بدراهم, وأطلق ثم فسرها بسكة البلد الذي أقر بها فيه قبل لأن إطلاقه ينصرف إليه, وإن فسرها بسكة غير سكة البلد أجود منها قبل لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وكذلك إن كانت مثلها لأنه لا يتهم في ذلك, وإن كانت أدنى من سكة البلد لكنها مساوية في الوزن احتمل أن لا يقبل لأن إطلاقها يقتضي دراهم البلد ونقده, فلا يقبل منه دونها كما لا يقبل في البيع ولأنها ناقصة القيمة, فلم يقبل تفسيره بها كالناقصة وزنا ويحتمل أن يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل ما فسره به وفارق الناقصة لأن إطلاق الشرع الدراهم, لا يتناولها بخلاف هذه ولهذا يتعلق بهذه مقدار النصاب في الزكاة وغيره, وفارق الثمن فإنه إيجاب في الحال وهذا إخبار عن حق سابق. فصل
وإن قال: له على درهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لأنه كبير في العرف وإن قال: له على دريهم فهو كما لو قال: درهم لأن التصغير قد يكون لصغره في ذاته أو لقلة قدره عنده وتحقيره, وقد يكون لمحبته كما قال الشاعر: بذيالك الوادى أهيم ولم أقل ** بذيالك الوادى وذياك من زهد ولكن إذا ما حب شيء تولعت ** به أحرف التصغير من شدة الوجد وإن قال: له على عشرة دراهم عددا لزمته عشرة معدودة وازنة لأن إطلاق الدراهم يقتضي وازنة وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما فإن كان في بلد يتعاملون بها عددا من غير وزن, فحكمه حكم ما لو أقر بها في بلد أوزانهم ناقصة أو دراهمهم مغشوشة على ما فصل فيه. فصل
وإذا أقر بدرهم, ثم أقر بدرهم لزمه درهم واحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه درهمان كما لو قال: له على درهم ودرهم ولا فرق بين أن يكون الإقرار في وقت واحد أو في أوقات, أو في مجلس واحد أو مجالس ولنا أنه يجوز أن يكون قد كرر الخبر عن الأول كما كرر الله تعالى الخبر عن إرساله نوحًا وهودًا وصالحًا ولوطًا وشعيبًا وإبراهيم وموسى وعيسى, ولم يكن المذكور في قصة غير المذكور في أخرى كذا هاهنا فإن وصف أحدهما وأطلق الآخر فكذلك لأنه يجوز أن يكون المطلق هو الموصوف, أطلقه في حال ووصفه في حال وإن وصفه بصفة واحدة في المرتين كان تأكيدا لما ذكرنا وإن وصفه في إحدى المرتين بغير ما وصفه في الأخرى, فقال: درهم من ثمن مبيع ثم قال: له على درهم من قرض أو درهم من ثمن ثوب ثم قال: درهم من ثمن عبد أو قال: درهم أبيض ثم قال: درهم أسود فهما درهمان لأنهما متغايران. فصل
وإن قال: له على درهم ودرهم أو درهم ثم درهم أو درهم فدرهم أو درهم ثم درهم لزمه درهمان وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه وذكر القاضي وجها, فيما إذا قال: درهم فدرهم وقال: أردت: درهم فدرهم لازم لي أنه يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل الصفة ولنا أن الفاء أحد حروف العطف الثلاثة, فأشبهت الواو وثم ولأنه عطف شيئا على شيء بالفاء فاقتضى ثبوتهما, كما لو قال: أنت طالق فطالق وقد سلمه الشافعي وما ذكروه من احتمال الصفة بعيد لا يفهم حالة الإطلاق فلا يقبل تفسيره به, كما لو فسر الدراهم المطلقة بأنها زيوف أو صغار أو مؤجلة وإن قال: له على درهم ودرهمان لزمته ثلاثة وإن قال: له على درهم ودينار أو فدينار أو قفيز حنطة ونحو ذلك لزمه ذلك كله وإن قال: له على درهم ودرهم ودرهم لزمته ثلاثة وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا, أنه إذا قال: أردت بالثالث تأكيد الثاني وبيانه أنه يقبل وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الثالث في لفظ الثاني وظاهر مذهبه أنه تلزمه الثلاثة لأن الواو للعطف والعطف يقتضي المغايرة, فوجب أن يكون الثالث غير الثاني كما كان الثاني غير الأول والإقرار لا يقتضي تأكيدا, فوجب حمله على العدد وكذلك الحكم إذا قال: له على درهم فدرهم فدرهم أو درهم ثم درهم ثم درهم وإن قال: له على درهم ودرهم ثم درهم أو درهم فدرهم ثم درهم, أو درهم ثم درهم فدرهم لزمته الثلاثة وجها واحدا لأن الثالث مغاير للثانى لاختلاف حرفى العطف الداخلين عليهما, فلم يحتمل التأكيد. فصل
وإن قال: له على درهم بل درهمان أو درهم لكن درهمان لزمه درهمان وبه قال الشافعي وقال زفر وداود تلزمه ثلاثة لأن " بل " للإضراب فلما أقر بدرهم وأضرب عنه, لزمه لأنه لا يقبل رجوعه عما أقر به ولزمه الدرهمان اللذان أقر بهما ولنا أنه إنما نفى الاقتصار على واحد, وأثبت الزيادة عليه فأشبه ما لو قال: له على درهم بل أكثر فإنه لا يلزمه أكثر من اثنين وإن قال: له على درهم, بل درهم أو لكن درهم ففيه وجهان أحدهما يلزمه درهم واحد لأن أحمد قال في من قال لامرأته: أنت طالق, لا بل أنت طالق: إنها لا تطلق إلا واحدة وهذا في معناه وهذا مذهب الشافعي لأنه أقر بدرهم مرتين فلم يلزمه أكثر من درهم كما لو أقر بدرهم ثم أنكره, ثم قال: بل على درهم و " لكن " للاستدراك فهي في معنى " بل " إلا أن الصحيح أنها لا تستعمل إلا بعد الجحد إلا أن يذكر بعدها جملة والوجه الثاني, يلزمه درهمان ذكره ابن أبي موسى وأبو بكر عبد العزيز ويقتضيه قول زفر وداود لأن ما بعد الإضراب يغاير ما قبله فيجب أن يكون الدرهم الذي أضرب عنه غير الدرهم الذي أقر به بعده فيجب الاثنان, كما لو قال: له على درهم بل دينار ولأن " بل " من حروف العطف والمعطوف غير المعطوف عليه, فوجبا جميعا كما لو قال: له على درهم درهم ولأنا لو لم نوجب عليه إلا درهما جعلنا كلامه لغوا, وإضرابه عنه غير مفيد والأصل في كلام العاقل أن يكون مفيدا ولو كان الذي أضرب عنه لا يمكن أن يكون المذكور بعده ولا بعضه, مثل أن يقول: له على درهم بل دينار أو ديناران أو: له على قفيز حنطة بل قفيز شعير أو: هذا الدرهم, بل هذان لزمه الجميع بغير خلاف علمناه لأن الأول لا يمكن أن يكون الثاني ولا بعضه فكان مقرا, بهما ولا يقبل رجوعه عن شيء منهما وكذلك كل جملتين أقر بإحداهما ثم رجع إلى الأخرى لزماه وإن قال: له على درهمان, بل درهم أو عشرة بل تسعة لزمه الأكثر لأنه أضرب عن واحد ونفاه بعد إقراره به, فلم يقبل نفيه له بخلاف الاستثناء فإنه لا ينفى شيئا أقر به وإنما هو عبارة عن الباقي بعد الاستثناء, فإذا قال: عشرة إلا درهما كان معناه تسعة. فصل
وإن قال: له ما على ما بين درهم وعشرة لزمته ثمانية لأن ذلك ما بينهما وإن قال: من درهم إلى عشرة ففيه ثلاثة أوجه أحدها تلزمه تسعة وهذا يحكى عن أبي حنيفة لأن " من " لابتداء الغاية, وأول الغاية منها و " إلى " لانتهائها فلا يدخل فيها, كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} والثاني تلزمه ثمانية لأن الأول والعاشر حدان فلا يدخلان في الإقرار, ولزمه ما بينهما كالتي قبلها والثالث تلزمه عشرة لأن العاشر أحد الطرفين, فيدخل فيها كالأول وكما لو قال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فإن قال: أردت بقولى من واحد إلى عشرة مجموع الأعداد كلها أي الواحد والاثنين وكذلك إلى العشرة, لزمه خمسة وخمسون درهما واختصار حسابه أن تزيد أول العدد وهو الواحد على العشرة فيصير أحد عشر ثم تضربها في نصف العشرة, فما بلغ فهو الجواب. فصل
وإن قال: له على دراهم لزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن قال: له على دراهم كثيرة أو وافرة أو عظيمة لزمه ثلاثة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقبل تفسيره بدون العشرة لأنها أقل جمع الكثرة وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقبل أقل من مائتين لأن بها يحصل الغنى, وتجب الزكاة ولنا أن الكثرة والعظمة لا حد لها شرعا ولا لغة ولا عرفا وتختلف بالإضافات وأحوال الناس, فالثلاثة أكثر مما دونها وأقل مما فوقها ومن الناس من يستعظم اليسير ومنهم من لا يستعظم الكثير, ويحتمل أن المقر أراد كثيرة بالنسبة إلى ما دونها أو كثيرة في نفسه فلا تجب الزيادة بالاحتمال. فصل
وإن قال: له على درهمان في عشرة وقال: أردت الحساب لزمه عشرون وإن قال: أردت درهمين مع عشرة ولم يكن يعرف الحساب, قبل منه ولزمه اثنا عشر لأن كثيرًا من العامة يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى وإن كان من أهل الحساب احتمل أن لا يقبل لأن الظاهر من الحساب استعمال ألفاظه لمعانيها في اصطلاحهم, ويحتمل أن يقبل لأنه لا يمنع أن يستعمل اصطلاح العامة وإن قال: أردت درهمين في عشرة لي لزمه درهمان لأنه يحتمل ما يقول وإن قال: درهمان في دينار لم يحتمل الحساب وسئل عن مراده فإن قال: أردت العطف أو معنى مع لزمه الدرهمان والدينار وإن قال: أسلمتهما في دينار فصدقه المقر له بطل إقراره لأن سلم أحد النقدين في الآخر لا يصح, وإن كذبه فالقول قول المقر له لأن المقر وصل إقراره بما يسقطه فلزمه ما أقر به, وبطل قوله في دينار وكذلك إن قال: له على درهمان في ثوب وفسره بالسلم أو قال: في ثوب اشتريته منه إلى سنة فصدقه بطل إقراره لأنه إن كان بعد التفرق, بطل السلم وسقط الثمن وإن كان قبل التفرق فالمقر بالخيار بين الفسخ والإمضاء وإن كذبه المقر له فالقول قوله مع يمينه, وله الدرهمان. فصل
وإن قال: له عندي درهم في ثوب أو في كيس أو زيت في جرة, أو تبن في غرارة أو تمر في جراب أو سكين في قراب, أو فص في خاتم أو كيس في صندوق أو قال: غصبت منه ثوبا في منديل أو زيتا في زق ففيه وجهان: أحدهما, يكون مقرًا بالمظروف دون الظرف هذا اختيار ابن حامد ومذهب مالك والشافعي لأن إقراره لم يتناول الظرف فيحتمل أن يكون في ظرف للمقر فلم يلزمه والثاني, يلزمه الجميع لأنه ذكر ذلك في سياق الإقرار ويصلح أن يكون مقرًا به فلزمه, كما لو قال له: عندي عبد عليه عمامة وقال أبو حنيفة في الغصب: يلزمه ولا يلزمه في بقية الصور لأن المنديل يكون ظرفا للثوب فالظاهر أنه ظرف له في حال الغصب, وصار كأنه قال: غصبت ثوبا ومنديلا ولنا أنه يحتمل أن يكون المنديل للغاصب وهو ظرف للثوب, فيقول: غصبت ثوبا في منديل لي ولو قال هذا لم يكن مقرًا بغصبه فإذا أطلق كان محتملا له, فلم يكن مقرًا بغصبه كما لو قال: غصبت دابة في إصطبلها أو: له على ثوب في منديل وإن قال: له عندي جرة فيها زيت أو جراب فيه تمر, أو قراب فيه سكين فعلى وجهين وإن قال: له على خاتم فيه فص فكذلك ويحتمل أن يكون مقرًا به بفصه وجها واحدا لأن الفص جزء من أجزاء الخاتم فأشبه ما لو قال: له على ثوب فيه علم ولو قال: له عندي خاتم وأطلق, لزمه الخاتم بفصه لأن اسم الخاتم يجمعهما وإن قال: له على ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه. فصل
وإن قال: له عندي دار مفروشة أو دابة مسرجة أو عبد عليه عمامة ففيه أيضا وجهان وقال أصحاب الشافعي: تلزمه عمامة العبد دون الفرش أو السرج لأن العبد يده على عمامته, ويده كيد سيده ولا يد للدابة والدار ولنا أن الظاهر أن سرج الدابة لصاحبها, وكذلك لو تنازع رجلان سرجا على دابة أحدهما كان لصاحبها فصار كعمامة العبد فأما إن قال: له عندي دابة بسرجها, أو دار بفرشها أو سفينة بطعامها كان مقرًا بهما بغير خلاف لأن الباء تعلق الثاني بالأول. فصل
وإن قال: له على درهم أو دينار أو: إما درهم وإما دينار كان مقرًا بأحدهما, يرجع في تفسيره إليه لأن " أو " و " إما " في الخبر للشك وتقتضى أحد المذكورين لا جميعهما وإن قال: له على إما درهم وإما درهمان كان مقرًا بدرهم والثاني مشكوك فيه, فلا يلزمه بالشك. مسألة
قال: [ومن أقر بشيء واستثنى منه الكثير وهو أكثر من النصف, أخذ بالكل وكان استثناؤه باطلًا] لا يختلف المذهب أنه لا يجوز استثناء ما زاد على النصف ويحكى ذلك عن ابن درستويه النحوى وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي وأصحابهم: يصح ما لم يستثن الكل فلو قال: له على مائة إلا تسعة وتسعين لم يلزمه إلا واحد, بدليل قوله تعالى: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} وقوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} فاستثنى في موضع الغاوين من العباد وفي موضع العباد من الغاوين وأيهما كان الأكثر فقد دل على استثناء الأكثر وأنشدوا: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ** ثم ابعثوا حكما بالحق قواما فاستثنى تسعين من مائة لأنه في معنى الاستثناء ومشبه به, ولأنه استثنى البعض فجاز كاستثناء الأقل, ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ فجاز في الأكثر كالتخصيص والبدل ولنا, أنه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلا في الأقل وقد أنكروا استثناء الأكثر فقال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير, ولو قال قائل: مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلما بالعربية وكان عيا من الكلام ولكنة وقال القتيبى: يقال: صمت الشهر إلا يوما ولا يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوما ويقال: لقيت القوم جميعهم إلا واحدا أو اثنين ولا يجوز أن يقول: لقيت القوم إلا أكثرهم وإذا لم يكن صحيحا في الكلام لم يرتفع به ما أقر به, كاستثناء الكل وكما لو قال: له على عشرة بل خمسة فأما ما احتجوا به من التنزيل فإنه في الآية الأولى استثنى المخلصين من بنى آدم, وهم الأقل كما قال تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} وفي الأخرى استثنى الغاوين من العباد وهم الأقل فإن الملائكة من العباد, وهم غير غاوين قال الله تعالى: {بل عباد مكرمون} وقيل: الاستثناء في هذه الآية منقطع بمعنى الاستدراك فيكون قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} مبقى على عمومه, لم يستثن منه شيء ثم استأنف: {إلا من اتبعك من الغاوين} أي لكن من اتبعك من الغاوين فإنهم غووا باتباعك وقد دل على صحة هذا قوله في الآية الأخرى لأتباعه: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} وعلى هذا لا يكون لهم فيها حجة وأما البيت فقال ابن فضال النحوى: هو بيت مصنوع لم يثبت عن العرب على أن هذا ليس باستثناء, فإن الاستثناء له كلمات مخصوصة ليس هاهنا شيء منها والقياس لا يجوز في اللغة: ثم نعارضه بأنه استثنى أكثر من النصف فلم يجز, كاستثناء الكل والفرق بين استثناء الأكثر والأقل أن العرب استعملته في الأقل وحسنته ونفته في الأكثر وقبحته, فلم يجز قياس ما قبحوه على ما جوزوه وحسنوه. فصل
وفي استثناء النصف وجهان أحدهما يجوز وهو ظاهر كلام الخرقى لتخصيصه الإبطال بما زاد على النصف لأنه ليس بأكثر, فجاز كالأقل والثاني لا يجوز ذكره أبو بكر لأنه لم يرد في كلامهم إلا القليل من الكثير, والنصف ليس بقليل . فصل
وإذا قال: له على عشرة إلا سبعة إلا خمسة, إلا درهمين صح وكان مقرًا بستة وذلك لأنه إذا استثنى الكل أو الأكثر سقط إن وقف عليه, وإن وصله باستثناء آخر استعملناه لأن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عما بقى فإن خمسة إلا درهمين عبارة عن ثلاثة, استثناها من سبعة بقى أربعة مستثناة من عشرة بقى منها ستة وإن قال: له على ثمانية, إلا أربعة إلا درهمين إلا درهما بطل الاستثناء على قول أبي بكر لأنه استثنى النصف وصح على الوجه الآخر, فلزمه خمسة وإن قال: على عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة, إلا درهمين إلا درهما بطل الاستثناء كله على أحد الوجهين وصح في الآخر, فيكون مقرًا بسبعة ولو قال: عشرة إلا ستة إلا أربعة, إلا درهمين فهو على الوجه الذي يصح فيه الاستثناء مقر بستة ولو قال: ثلاثة إلا درهمين إلا درهما كان مقرًا بدرهمين فأما إن قال: له على ثلاثة إلا ثلاثة, إلا درهمين بطل الاستثناء كله لأن استثناء درهمين من ثلاثة استثناء الأكثر وهو موقوف عليه فبطل فإذا بطل الثاني بطل الأول لأنه استثناء الكل ولأصحاب الشافعي في هذا ثلاثة أوجه أحدها يبطل الاستثناء لأن الأول بطل, لكونه استثناء الكل فبطل الثاني لأنه فرعه والثاني يصح, ويلزمه درهم لأن الاستثناء الأول لما بطل جعلنا الاستثناء الثاني من الإقرار لأنه وليه لبطلان ما بينهما والثالث يصح, ويكون مقرًا بدرهمين لأنه استثنى درهمين من ثلاثة فيبقى منها درهم مستثنى من الإقرار واستثناء الأكثر عندهم صحيح ووافقهم القاضي في هذا الوجه وإن قال: ثلاثة, إلا درهما بطل الاستثناء كله ويجيء على قول أصحاب الشافعي فيه مثل ما في التي قبلها. فصل
وإن قال: له علي ألف إلا خمسين فالمستثنى دراهم لأن العرب لا تستثنى في الإثبات إلا من الجنس وإن قال: له علي ألف إلا خمسين درهما فالجميع دراهم كذلك وهذا اختيار ابن حامد والقاضى وهو قول أبي ثور وقال أبو الحسن التميمي, وأبو الخطاب: يكون الألف مبهما يرجع في تفسيره إليه وهذا قول مالك والشافعي لأن الاستثناء عندهما يصح من غير الجنس, ولأن لفظه في الألف مبهم والدرهم لم يذكر تفسيرا له فيبقى على إبهامه ولنا أنه لم يرد عن العرب الاستثناء في الإثبات إلا من الجنس, فمتى علم أحد الطرفين علم أن الآخر من جنسه كما لو علم المستثنى منه وقد سلموه, وعلته تلازم المستثنى والمستثنى منه في الجنس فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر فعلى قول التميمي وأبى الخطاب يسأل عن المستثنى منه, فإن فسره بغير الجنس بطل الاستثناء وعلى قول غيرهما ينظر في المستثنى, إن كان مثل المستثنى منه أو أكثر بطل وإلا صح وعند القاضي يصح الاستثناء, ويصح تفسير الألف بأي شيء كان إذا كان من قيمة ذلك الشيء بعد استثناء الدراهم منه. فصل
وإن قال: له على تسعة وتسعون درهما فالجميع دراهم لا أعلم فيه خلافا وإن قال: مائة وخمسون درهما فكذلك وخرج بعض أصحابنا وجها أنه لا يكون تفسيرا إلا لما يليه, وهو قول بعض أصحاب الشافعي وكذلك إن قال: ألف وثلاثة دراهم أو خمسون درهما وألف درهم أو ألف ومائة درهم, أو مائة وألف درهم والصحيح ما ذكرنا فإن الدرهم المفسر يكون تفسيرا لجميع ما قبله من الجمل المبهمة وجنس العدد قال الله تعالى مخبرا عن أحد الخصمين أنه قال: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة} وفي الحديث أن رسول الله -ﷺ- توفى وهو ابن ثلاث وستين سنة وتوفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة, وتوفى عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة وقال عنترة: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ** سودا كخافية الغراب الأسحم ولأن الدرهم ذكر تفسيرا ولهذا لا تجب به زيادة على العدد المذكور فكان تفسيرا لجميع ما قبله, لأنها تحتاج إلى تفسير وهو صالح لتفسيرها فوجب حمله على ذلك وهذا المعنى موجود في قوله: ألف وثلاثة دراهم وسائر الصور المذكورة, فعلى قول من لا يجعل المجمل من جنس المفسر لو قال: بعتك هذا بمائة وخمسين درهما أو بخمسة وعشرين درهما لا يصح وهو قول شاذ ضعيف لا يعول عليه. فصل
وإن قال له علي ألف ودرهم أو ألف وثوب, أو قفيز حنطة فالمجمل من جنس المفسر أيضا وكذلك إن قال: ألف درهم وعشرة أو ألف ثوب وعشرون وهذا قول القاضي وابن حامد, وأبى ثور وقال التميمي وأبو الخطاب: يرجع في تفسير المجمل إليه لأن الشيء يعطف على جنسه, قال الله تعالى: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} ولأن الألف مبهم فرجع في تفسيره إلى المقر كما لو لم يعطف عليها وقال أبو حنيفة: إن عطف على المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا له, وإن عطف مذروعا أو معدودا لم يكن تفسيرا لأن على للإيجاب في الذمة فإن عطف عليه ما يثبت في الذمة بنفسه, كان تفسيرا له كقوله: مائة وخمسون درهما ولنا أن العرب تكتفى بتفسير إحدى الجملتين عن الجملة الأخرى قال الله تعالى: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا} وقال الله تعالى: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} ولأنه ذكر مبهما مع مفسر لم يقم الدليل على أنه من غير جنسه, فكان المبهم من جنس المفسر كما لو قال: مائة وخمسون درهما أو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا يحققه أن المبهم يحتاج إلى التفسير, وذكر التفسير في الجملة المقارنة له يصلح أن يفسره فوجب حمل الأمر على ذلك أما قوله: {أربعة أشهر وعشرًا} فإنه امتنع أن يكون العشر أشهرا لوجهين: أحدهما, أن العشر بغير هاء عدد للمؤنث والأشهر مذكرة فلا يجوز أن تعد بغيرها الثاني أنها لو كانت أشهرا لقال: أربعة عشر شهرا بالتركيب, لا بالعطف كما قال: {عليها تسعة عشر} وقولهم: إن الألف مبهم قلنا قد قرن به ما يدل على تفسيره فأشبه ما لو قال: مائة وخمسون درهما, أو مائة ودرهم عند أبي حنيفة فإن قيل: إذا قال: مائة وخمسون درهما فالدرهم ذكر للتفسير ولهذا لا يزداد به العدد فصلح تفسير الجميع ما قبله, بخلاف قوله: مائة درهم فإنه ذكر الدرهم للإيجاب لا للتفسير بدليل أنه زاد به العدد قلنا: هو صالح للإيجاب والتفسير معا, والحاجة داعية إلى التفسير فوجب حمل الأمر على ذلك صيانة لكلام المقر عن الإلباس والإبهام, وصرفا له إلى البيان والإفهام وقول أصحاب أبي حنيفة: إن " على " للإيجاب قلنا: فمتى عطف ما يجب بها على ما يجب وكان أحدهما مبهما والآخر مفسرا وأمكن تفسيره به, وجب أن يكون المبهم من جنس المفسر فأما إن لم يمكن مثل أن يعطف عدد المذكر على المؤنث, أو بالعكس ونحو ذلك فلا يكون أحدهما من جنس الآخر, ويبقى المبهم على إبهامه كما لو قال: له على أربعة دراهم وعشر. مسألة
قال:[وإذا قال: له عندي عشرة دراهم ثم قال: وديعة كان القول قوله] وجملته أن من أقر بهذا اللفظ فقال: له عندي دراهم فسر إقراره بأنها وديعة, قبل تفسيره لا نعلم فيه اختلافا بين أهل العلم سواء فسره بكلام متصل أو منفصل لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل, كما لو قال: له على دراهم وفسرها بدين عليه فعند ذلك تثبت فيها أحكام الوديعة بحيث لو ادعى تلفها بعد ذلك أو ردها كان القول قوله وإن فسرها بدين عليه, قبل أيضا لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال: له عندي وديعة رددتها إليه أو تلفت لزمه ضمانها ولم يقبل قوله وبهذا قال الشافعي لما فيه من مناقضة الإقرار والرجوع عما أقر به, فإن الألف المردود والتالف ليست عنده أصلا ولا هي وديعة وكل كلام يناقض الإقرار ويحيله, يجب أن يكون مردودا وقال القاضي: يقبل قوله لأن أحمد قال في رواية ابن منصور: إذا قال: لك عندي وديعة دفعتها إليك صدق لأنه ادعى تلف الوديعة أو ردها, فقبل كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل وإن قال كانت عندي وظننت أنها باقية, ثم عرفت أنها كانت قد هلكت فالحكم فيها كالتي قبلها. مسألة قال: [ ولو قال: له علي ألف ثم قال: وديعة لم يقبل قوله] وجملة ذلك أنه إذا أقر بدراهم بقوله: على كذا ثم فسره الوديعة لم يقبل قوله فلو ادعى بعد هذا تلفها, لم يقبل قوله وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقيل عن الشافعي: يقبل قوله أنها وديعة وإذا ادعى بعد ذلك تلفها, قبل منه وقال القاضي ما يدل على هذا أيضا لأن الوديعة عليه حفظها وردها فإذا قال: على وفسرها بذلك احتمل صدقه, فقبل منه كما لو وصله بكلامه فقال: له علي ألف وديعة ولأن حروف الصلات يخلف بعضها بعضا, فيجوز أن يستعمل " على " بمعنى " عندي " كما قال الله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام أنه قال: {ولهم علي ذنب} أي عندي ولنا أن " علي " للإيجاب, وذلك يقتضي كونها في ذمته وكذلك لو قال: ما على فلان علي كان ضامنًا له الوديعة ليست في ذمته, ولا هي عليه إنما هي عنده وما ذكروه مجاز طريقه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه, أو إقامة حرف مقام حرف والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ بدليل أنه لو قال: له علي دراهم لزمته ثلاثة دراهم, وإن جاز التعبير بلفظ الجمع عن اثنين وعن واحد كقول الله تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} ومواضع كثيرة في القرآن ولو قال: له علي درهم وقال: أردت نصف درهم, فحذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه لم يقبل منه ولو قال: لك من مالي ألف قال: صدقت ثم قال: أردت أن عليك من مالي ألفا وأقمت اللام مقام " علي " كقول الله تعالى: {وإن أسأتم فلها} لم يقبل منه ولو قبل في الإقرار مطلق الاحتمال, لسقط ولقبل في تفسير الدراهم بالناقصة والزائفة والمؤجلة وأما إذا قال: لك علي ألف ثم قال: كان وديعة فتلف لم يقبل قوله لأنه متناقض وقد سبق نحو من هذا. فصل
وإن قال: لك على مائة درهم ثم أحضرها وقال: هذه التي أقررت بها, وهى وديعة كانت لك عندي فقال المقر له: هذه وديعة والتي أقررت بها غيرها وهى دين عليك فقول الخرقى يقتضي أن القول قول المقر له وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي: القول قول المقر مع يمينه وللشافعى قولان, كالوجهين وتعليلهما ما تقدم وإن كان قال في إقراره: لك على مائة في ذمتى فإن القاضي وافق هاهنا في أنه لا يقبل قول المقر لأن الوديعة عين لا تكون في الذمة قال: وقد يقبل لأنه يحتمل: في ذمتى أداؤها ولأنه يجوز أن يكون عنده وديعة تعدى فيها فكان ضمانها عليه في ذمته ولأصحاب الشافعي في هذه وجهان فأما إن وصل ذلك بكلامه, فقال: لك على مائة وديعة قبل لأنه وصل كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال: له على دراهم ناقصة وإن قال: له على مائة وديعة دينا أو مضاربة دينا صح, ولزمه ضمانها لأنها قد يتعدى فيها فتكون دينا وإن قال: أردت أنه شرط على ضمانها لم يقبل لأنها لا تصير بذلك دينا وإن قال: عنده مائة وديعة شرط على ضمانها لم يلزمه ضمانها لأن الوديعة لا تصير بالشرط مضمونة وإن قال: على أو عندي مائة درهم عارية لزمته, وكانت مضمونة عليه سواء حكمنا بصحة العارية في الدراهم أو بفسادها لأن ما ضمن في العقد الصحيح ضمن في الفاسد وإن قال: أودعنى مائة فلم أقبضها أو أقرضنى مائة, فلم آخذها قبل قوله متصلا ولم يقبل إذا كان منفصلا وهكذا إذا قال: نقدنى مائة فلم أقبضها وهذا قول الشافعي. فصل
فإن قال: له في هذا العبد ألف أو: له من هذا العبد ألف طولب بالبيان, فإن قال: نقد عنى ألفا في ثمنه كان قرضا وإن قال: نقد في ثمنه ألفا قلنا: بين كم ثمن العبد وكيف كان الشراء؟ فإن قال: إيجاب واحد, وزن ألفا ووزنت ألفا كان مقرًا بنصف العبد وإن قال: وزنت أنا ألفين كان مقرًا بثلثه والقول قوله مع يمينه, سواء كانت القيمة قدر ما ذكره أو أقل لأنه قد يغبن وقد يغبن وإن قال: اشتريناه بإيجابين قيل: فكم اشترى منه؟ فإن قال: نصفا أو ثلثا, أو أقل أو أكثر قبل منه مع يمينه وافق القيمة أو خالفها وإن قال: وصى له بألف من ثمنه وصرف إليه من ثمنه ألف وإن أراد أن يعطيه ألفا من ماله, من غير ثمن العبد لم يلزمه قبوله لأن الموصى له يتعين حقه في ثمنه وإن فسر ذلك بألف من جناية جناها العبد فتعلقت برقبته قبل ذلك, وله بيع العبد ودفع الألف من ثمنه وإن قال: أردت أنه رهن عنده بألف ففيه وجهان أحدهما لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة والثاني, يقبل لأن الدين يتعلق بالرهن فصح تفسيره به كالجناية ومذهب الشافعي كما ذكرنا في الفصل جميعه. فصل
وإن قال: له في مالي هذا ألف, أو من مالي ألف وفسره بدين أو وديعة أو وصية فيه قبل وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يقبل إقراره لأن ماله ليس هو لغيره ولنا أنه أقر بألف, فقبل كما لو قال: في مالي ويجوز أن يضيف إليه مالا بعضه لغيره ويجوز أن يضيف مال غيره إليه لاختصاص له به, أو يد له عليه أو ولاية قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولًا معروفًا} وقال سبحانه في النساء: {لا تخرجوهن من بيوتهن} وقال لأزواج رسول الله -ﷺ-: {وقرن في بيوتكن} فلا يبطل إقراره مع احتمال صحته وإن قال: أردت هبة قبل منه لأنه محتمل وإن امتنع من تقبيضها, لم يجبر عليه لأن الهبة فيها لا تلزم قبل القبض وكذلك يخرج فيما إذا قال: لفلان في داري هذه نصفها أو من داري بعضها وقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين, قال في رواية مهنا في من قال: نصف عبدى هذا لفلان لم يجز إلا أن يقول وهبته وإن قال: نصف مالي هذا لفلان لا أعرف هذا ونقل ابن منصور: إذا قال: فرسى هذه لفلان فإقراره جائز فظاهر هذا صحة الإقرار فإن قال: له في هذا المال نصفه أو له نصف هذه الدار فهو إقرار صحيح وإن قال: له في هذا المال ألف صح وإن قال: له في ميراث أبي ألف فهو إقرار بدين على التركة وإن قال: في ميراثي من أبي وقال: أردت هبة قبل منه ولأنه إذا أضاف الميراث إلى أبيه, فمقتضاه ما خلفه فيقتضى وجوب المقر به فيه وإذا أضاف الميراث إلى نفسه, فمعناه ما ورثته وانتقل إلى فلا يحمل على الوجوب وإذا أضاف إليه منه جزءا, فالظاهر أنه جعل له جزءا من ماله. فصل
وإن قال: له في هذا العبد شركة صح إقراره وله تفسيره بأي قدر كان منه وقال أبو يوسف: يكون مقرًا بنصفه لقوله تعالى: {فهم شركاء في الثلث} فاقتضى ذلك التسوية بينهم كذا هاهنا ولنا, أن أي جزء كان له منه فله فيه شركة فكان له تفسيره بما شاء, كالنصف وليس إطلاق لفظ الشركة على ما دون النصف مجازا ولا مخالفا للظاهر, والآية تثبت التسوية فيها بدليل وكذلك الحكم إذا قال: هذا العبد شركة بيننا. فصل
فى الإقرار بالمجهول: وإذا قال: لفلان على شيء أو كذا صح إقراره ولزمه تفسيره وهذا لا خلاف فيه, ويفارق الدعوى حيث لا تصح مجهولة لكون الدعوى له والإقرار عليه فلزمه ما عليه مع الجهالة دون ماله, ولأن المدعي إذا لم يصحح دعواه فله داع إلى تحريرها والمقر لا داعي له إلا التحرير, ولا يؤمن رجوعه عن إقراره فيضيع حق المقر له فألزمناه إياه مع الجهالة, فإن امتنع من تفسيره حبس حتى يفسر وقال القاضي: يجعل ناكلًا ويؤمر المقر له بالبيان, فإن بين شيئًا فصدقه المقر ثبت, وإن كذبه وامتنع من البيان قيل له: إن بينت, وإلا جعلناك ناكلًا وقضينا عليك وهذا قول أصحاب الشافعي إلا أنهم قالوا: إن بينت وإلا حلفنا المقر له على ما يدعيه, وأوجبناه عليك فإن فعل وإلا أحلفنا المقر له وأوجبناه على المقر ووجه الأول, أنه ممتنع من حق عليه فيحبس به كما لو عينه وامتنع من أدائه ومع ذلك متى عينه المدعي وادعاه, فنكل المقر فهو على ما ذكروه وإن مات من عليه الحق أخذ ورثته بمثل ذلك لأن الحق ثبت على موروثهم, فيتعلق بتركته وقد صارت إلى الورثة فيلزمهم ما لزم موروثهم كما لو كان الحق معينا وإن لم يخلف الميت تركة, فلا شيء على الورثة ومتى فسر إقراره بما يتمول في العادة قبل تفسيره وثبت إلا أن يكذبه المقر له, ويدعي جنسًا آخر أو لا يدعي شيئا فيبطل إقراره وإن فسره بما لا يتمول عادة, كقشرة جوزة أو قشرة باذنجانة لم يقبل إقراره لأن إقراره اعتراف بحق عليه ثابت في ذمته, وهذا لا يثبت في الذمة وكذلك إن فسره بما ليس بمال في الشرع كالخمر والخنزير والميتة لم يقبل وإن فسره بكلب لا يجوز اقتناؤه, فكذلك وإن فسره بكلب يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة غير مدبوغ ففيه وجهان أحدهما, يقبل لأنه شيء يجب رده عليه وتسليمه إليه فالإيجاب يتناوله والثاني, لا يقبل لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه وهذا لا يجب ضمانه وإن فسره بحبة حنطة أو شعير ونحوها لم يقبل لأن هذا لا يتمول عادة على انفراده وإن فسره بحد قذف, قبل لأنه حق يجب عليه ويحتمل أن لا يقبل لأنه لا يئول إلى مال والأول أصح لأن ما ثبت في الذمة صح أن يقال: هو على وإن فسره بحق شفعة قبل لأنه حق واجب ويئول إلى المال وإن فسره برد السلام, أو تشميت العاطس ونحوه لم يقبل لأنه يسقط بفواته فلا يثبت في الذمة وهذا الإقرار يدل على ثبوت الحق في الذمة ويحتمل أن يقبل تفسيره به, إذا أراد أن حقا على رد سلامه إذا سلم وتشميته إذا عطس لما روي في الخبر: ( للمسلم على المسلم ثلاثون حقا: يرد سلامه ويشمت عطسته, ويجيب دعوته وذكر الحديث ) وإن قال: غصبته شيئا وفسره بما ليس بمال قبل لأن اسم الغصب يقع عليه وإن قال: غصبته نفسه لم يقبل لأن الغصب لا يثبت عليه وهذا الفصل أكثره مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يقبل تفسير إقراره بغير المكيل والموزون لأن غيرهما لا يثبت في الذمة بنفسه ولنا, أنه مملوك يدخل تحت العقد فجاز أن يفسر به الشيء في الإقرار كالمكيل والموزون, ولأنه يثبت في الذمة في الجملة فصح التفسير كالمكيل ولا عبرة بسبب ثبوته في الإقرار به, والإخبار عنه. فصل
وإن أقر بمال قبل تفسيره بقليل المال وكثيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يقبل تفسيره بغير المال الزكوى لقول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} وقوله: {وفي أموالهم حق} وحكى بعض أصحاب مالك عنه ثلاثة أوجه أحدها كقولنا والثاني لا يقبل إلا أول نصاب من نصب الزكاة, من نوع أموالهم والثالث ما يقطع به السارق ويصح مهرًا لقول الله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} ولنا أن غير ما ذكروه يقع عليه اسم المال حقيقة وعرفًا ويتمول عادة فيقبل تفسيره به, كالذي وافقوا عليه وأما آية الزكاة فهي عامة دخلها التخصيص وقوله تعالى: {وفي أموالهم حق} لم يرد به الزكاة بدليل أنها نزلت بمكة قبل فرض الزكاة, فلا حجة لهم فيها ثم يرد قولهم قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} والتزويج جائز بأي نوع كان من المال وبما دون النصاب وإن قال: له على مال عظيم, أو كثير أو جليل أو خطير جاز تفسيره بالقليل والكثير, كما لو قال: مال لم يزد عليه وهذا قول الشافعي وحكي عن أبي حنيفة: لا يقبل تفسيره بأقل من عشرة دراهم لأنه يقطع به السارق ويكون صداقا عنده وعنه: لا يقبل بأقل من مائتي درهم وبه قال صاحباه لأنه الذي تجب فيه الزكاة وقال بعض أصحاب مالك كقولهم في المال ومنهم من قال: يزيد على ذلك أقل زيادة ومنهم من قال: قدر الدية وقال الليث بن سعد: اثنان وسبعون لأن الله تعالى قال: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} وكانت غزواته وسراياه اثنتين وسبعين قالوا: ولأن الحبة لا تسمى مالًا عظيمًا ولا كثيرًا ولنا أن ما فسر به المال فسر به العظيم, كالذي سلموه ولأن العظيم والكثير لا حد له في الشرع ولا في اللغة, ولا العرف ويختلف الناس فيه فمنهم من يستعظم القليل ومنهم من يستعظم الكثير, ومنهم من يحتقر الكثير فلم يثبت في ذلك حد يرجع إلى تفسيره به ولأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه ويحتمل أنه أراد عظيما عنده لفقر نفسه ودناءتها, وما ذكروه فليس فيه تحديد للكثير وكون ما ذكروه كثيرًا لا يمنع الكثرة فيما دونه وقد قال الله تعالى: {واذكروا الله كثيرًا} فلم ينصرف إلى ذلك وقال: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة} فلم يحمل على ذلك والحكم فيما إذا قال: عظيم جدًا أو عظيم عظيم كما لو لم يقله لما قررناه. فصل
وإن قال: له على أكثر من مال فلان ففسره بأكثر منه عددا أو قدرا لزمه أكثر منه, وتفسر الزيادة بأي شيء أراد ولو حبة أو أقل وإن قال ما علمت لفلان أكثر من كذا وكذا وقامت البينة بأكثر منه لم يلزمه أكثر مما اعترف به لأن مبلغ المال حقيقة لا يعرف في الأكثر, وقد يكون ظاهرا وباطنا فيملك ما لا يعرفه المقر فكان المرجع إلى ما اعتقده المقر مع يمينه, إذا ادعى عليه أكثر منه وإن فسره بأقل من ماله مع علمه بماله لم يقبل وقال أصحابنا: يقبل تفسيره بالقليل والكثير وهو مذهب الشافعي, سواء علم مال فلان أو جهله أو ذكر قدره أو لم يذكره أو قاله عقيب الشهادة بقدره أولا لأنه يحتمل أنه أكثر منه بقاء أو منفعة أو بركة, لكونه من الحلال أو لأنه في الذمة قال القاضي: ولو قال: لي عليك ألف دينار فقال: لك على أكثر من ذلك لم يلزمه أكثر منها لأن لفظة أكثر مبهمة لاحتمالها ما ذكرنا, ويحتمل أنه أراد أكثر منه فلوسا أو حب حنطة أو شعير أو دخن فرجع في تفسيرها إليه وهذا بعيد فإن لفظة أكثر إنما تستعمل حقيقة في العدد, أو في القدر وتنصرف إلى جنس ما أضيف أكثر إليه لا يفهم في الإطلاق غير ذلك, قال الله تعالى: {كانوا أكثر منهم} وأخبر عن الذي قال: {أنا أكثر منك مالًا} {وقالوا نحن أكثر أموالًا وأولادًا} والإقرار يؤخذ فيه بالظاهر دون مطلق الاحتمال ولهذا لو أقر بدراهم لزمه أقل الجمع جيادا صحاحا وازنة حالة ولو قال: له على دراهم لم يقبل تفسيرها الوديعة ولو رجع إلى مطلق الاحتمال لسقط الإقرار واحتمال ما ذكروه أبعد من هذه الاحتمالات التي لم يقبلوا تفسيره بها فلا يعول على هذا. فصل
ولو قال: له علي ألف إلا شيئا قبل تفسيره بأكثر من خمسمائة لأن الشيء يحتمل القليل والكثير, لكن لا يجوز استثناء الأكثر فتعين حمله على ما دون النصف وكذلك إن قال: إلا قليلا لأنه مبهم فأشبه قوله: إلا شيئا وإن قال: له على معظم ألف أو جل ألف, أو قريب من ألف لزمه أكثر من نصف الألف ويحلف على الزيادة إن ادعيت عليه. فصل
ولو قال: غصبتك أو غبنتك لم يلزمه شيء لأنه قد يغصبه نفسه, ويغبنه في غير المال وإن قال: غصبتك شيئا وفسره بغصب نفسه لم يقبل لأنه جعل له مفعولين فجعله المفعول الأول وشيئا المفعول الثاني, ويجب أن يكون الثاني غير الأول وإن فسره بمال قبل وإن قل وإن فسره بكلب, أو جلد ميتة أو سرجين ينتفع به قبل لأنه قد يقهره فيأخذه منه وإن فسره بما لا نفع فيه, أو بما لا يباح الانتفاع به لم يقبل لأن أخذ ذلك ليس بغصب. فصل
وتقبل الشهادة على الإقرار بالمجهول لأن الإقرار به صحيح وما كان صحيحا في نفسه, صحت الشهادة به كالمعلوم. مسألة
قال:[ولو قال: له عندي رهن فقال المالك: وديعة كان القول قول المالك] إنما قدم قول المالك لأن العين ثبتت له بالإقرار وادعى المقر دينا لا يعترف له به, والقول قول المنكر ولأنه أقر بمال لغيره وادعى أن له به تعلقا فلم يقبل, كما لو ادعاه بكلام منفصل وكذلك لو أقر له بدار وقال: استأجرتها أو بثوب وادعى أنه قصره أو خاطه بأجر يلزم المقر له, لم يقبل لأنه مدع على غيره حقا فلا يقبل قوله إلا ببينة وكذلك لو قال: هذه الدار له ولي سكناها سنة. فصل
وإن قال: لك علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه فقال المدعى عليه: بل لي عليك ألف, ولا شيء لك عندي فقال أبو الخطاب: فيه وجهان أحدهما القول قول المقر له لأنه اعترف له بالألف وادعى عليه مبيعًا, فأشبه ما إذا قال: هذا رهن فقال المالك: وديعة أو له علي ألف ولى عنده مبيع لم أقبضه والثاني القول قول المقر قال القاضي: هو قياس المذهب وهو قول الشافعي وأبى يوسف لأنه أقر بحق في مقابلة حق له, ولا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا لم يسلم له ماله لم يسلم للمقر له ما عليه, كما لو قال لرجل: بعتك هذا العبد بألف قال: بل ملكتنيه بغير شيء وفارق ما لو قال له: عندي رهن فقال المالك: بل وديعة لأن الدين ينفك عن الرهن ولو قال السيد لعبده: بعتك نفسك بألف فأنكر العبد عتق ولا شيء للمقر لأن العتق ينفك عن الثمن ولا فرق بين أن يقول: لم أقبضه منفصلا أو متصلا فلو قال: له علي ألف من ثمن مبيع ثم سكت ثم قال: لم أقبضه فيقبل قوله, كما لو كان متصلا لأن إقراره تعلق بالمبيع والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه فأما إن قال: علي ألف ثم سكت, ثم قال: من ثمن مبيع لم يقبل لأنه فسر إقراره بما يسقط وجوب تسليمه بكلام منفصل فلم يقبل كما لم يقبل لو قال: له علي ألف ثم سكت, ثم قال: مؤجل. فصل
وإذا قال: بعتك جاريتي هذه قال: بل زوجتنيها فلا يخلو إما أن يكون اختلافهما قبل نقد الثمن أو بعده وقبل الاستيلاد أو بعده فإن كان بعد اعتراف البائع بقبض الثمن, فهو مقر بها لمدعى الزوجية لأنه يدعي عليه شيئًا والزوج ينكر أنها ملكه ويدعي حلها له بالزوجية, فيثبت الحل لاتفاقهما عليه ولا ترد إلى البائع لاتفاقهما على أنه لا يستحق أخذها وإن كان قبل قبض الثمن وبعد الاستيلاد فالبائع يقر أنها صارت أم ولد, وولدها حر وأنه لا مهر له ويدعي الثمن, والمشترى ينكر ذلك كله فيحكم بحرية الولد لإقرار من ينسب إليه ملكه بحريته ولا ولاء عليه لاعترافه بأنه حر الأصل, ولا ترد الأمة إلى البائع لإقراره بأنها أم ولد ولا يجوز نقل الملك فيها ويحلف المشتري أنه ما اشتراها, ويسقط عنه ثمنها إلا قدر المهر فإنه يجب لاتفاقهما على وجوبه وإن اختلفا في سببه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم: يتحالفان ولا يجب مهر ولا ثمن وهو قول القاضي, إلا أنه لا يجعل على البائع يمينا لأنه لا يرى اليمين في إنكار النكاح ونفقة الولد على أبيه لأنه حر ونفقة الأمة على زوجها لأنه إما زوج وإما سيد, وكلاهما سبب لوجوب النفقة وقال القاضي: نفقتها في كسبها فإن كان فيه فضل فهي موقوفة لأننا أزلنا عنها ملك السيد وأثبتنا لها حكم الاستيلاد فإن ماتت وتركت مالا, فللبائع قدر ثمنها لأنه إما أن يكون صادقا فهو يستحق على المشتري ثمنها وتركتها للمشتري والمشتري مقر للبائع بها, فيأخذ منها قدر ما يدعيه وإن كان كاذبا فهي ملكه وتركتها كلها له, فيأخذ منها قدر ما يدعيه وبقيته موقوفة وإن ماتت بعد الوطء فقد ماتت حرة, فميراثها لولدها وورثتها فإن لم يكن لها وارث فميراثها موقوف لأن أحدا لا يدعيه, وليس للسيد أن يأخذ منه قدر الثمن لأنه يدعي الثمن على الواطئ وليس ميراثها له لأنه قد مات قبلها وإن كان اختلافهما قبل الاستيلاد فعندى أنها تقر في يد الزوج لاتفاقهما على حلها له, واستحقاقه إمساكها وإنما اختلفا في السبب ولا ترد إلى السيد لاتفاقهما على تحريمها عليه وللبائع أقل الأمرين من الثمن أو المهر لاتفاقهما على استحقاقه لذلك والأمر في الباطن على ذلك فإن السيد إن كان صادقا فالأمة حلال لزوجها بالبيع وإن كان كاذبا, فهي حلال له بالزوجية والقدر الذي اتفقا عليه إن كان السيد صادقا فهو يستحقه ثمنا, وإن كان كاذبًا فهو يستحقه مهرًا وقال القاضي: يحلف الزوج أنه ما اشتراها لأنه منكر ويسقط عنه الثمن, ولا يحتاج السيد إلى اليمين على نفي الزوجية لأنه لا يستحلف فيه وعند الشافعي: يتحالفان معًا ويسقط الثمن عن الزوج لأن عقد البيع ما ثبت ولا يجب المهر لأن السيد لا يدعيه, وترد الجارية إلى سيدها وفي كيفية رجوعها وجهان أحدهما ترجع إليه, فيملكها ظاهرا وباطنا كما يرجع البائع في السلعة عند فلس المشتري بالثمن لأن الثمن هاهنا قد تعذر فيحتاج السيد أن يقول: فسخت البيع وتعود إليه ملكا والثاني, ترجع إليه في الظاهر دون الباطن لأن المشتري امتنع من أداء الثمن مع إمكانه فعلى هذا يبيعها الحاكم ويوفيه ثمنها فإن كان وفق حقه فحسن وإن كان دونه, أخذه وإن زاد فالزيادة لا يدعيها أحد لأن المشتري يقر بها للبائع, والبائع لا يدعي أكثر من الثمن الأول فهل تقر في يد المشتري أو ترجع إلى بيت المال؟ يحتمل وجهين فإن رجع البائع, وقال: صدق خصمي ما بعته إياها بل زوجته لم يقبل في إسقاط حرية الولد, ولا في استرجاعها إن صارت أم ولد وقبل في إسقاط الثمن واستحقاق المهر, وأخذ زيادة الثمن واستحقاق ميراثها وميراث ولدها وإن رجع الزوج ثبتت الحرية, ووجب عليه الثمن. فصل
ولو أقر رجل بحرية عبد ثم اشتراه أو شهد رجلان بحرية عبد لغيرهما فردت شهادتهما ثم اشتراه أحدهما من سيده, عتق في الحال لاعترافه بأن الذي اشتراه حر ويكون البيع صحيحا بالنسبة إلى البائع لأنه محكوم له برقه وفي حق المشتري استنقاذا واستخلاصا, فإذا صار في يده حكم بحريته لإقراره السابق ويصير كما لو شهد رجلان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا, فرد الحاكم شهادتهما فدفعا إلى الزوج عوضا ليخلعها صح, وكان في حقه خلعا صحيحا وفي حقهما استخلاصا ويكون ولاؤه موقوفا لأن أحدا لا يدعيه, فإن البائع يقول: ما أعتقته والمشترى يقول: ما أعتقته والمشترى يقول: ما أعتقه إلا البائع وأنا استخلصته فإن مات وخلف مالا فرجع أحدهما عن قوله فالمال له لأن أحدا لا يدعيه سواه, لأن الراجع إن كان البائع فقال: صدق المشتري كنت أعتقته فالولاء له, ويلزمه رد الثمن إلى المشتري لإقراره ببطلان البيع وإن كان الراجع المشتري قبل في المال لأن أحدا لا يدعيه سواه, ولا يقبل قوله في نفى الحرية لأنها حق لغيره وإن رجعا معا فيحتمل أن يوقف حتى يصطلحا عليه لأنه لأحدهما ولا يعرف عينه ويحتمل أن من هو في يده يحلف ويأخذه لأنه منكر وإن لم يرجع واحد منهما, ففيه وجهان أحدهما يقر في يد من هو في يده فإن لم يكن في يد أحدهما, فهو لبيت المال لأن أحدا لا يدعيه ويحتمل أن يكون لبيت المال على كل حال لذلك. فصل
ولو أقر لرجل بعبد أو غيره ثم جاء به وقال: هذا الذي أقررت لك به قال: بل هو غيره لم يلزمه تسليمه إلى المقر له لأنه لا يدعيه, ويحلف المقر أنه ليس له عنده عبد سواه فإن رجع المقر له فادعاه لزمه دفعه إليه لأنه لا منازع له فيه وإن قال المقر له: صدقت, هذا لي الذي أقررت به آخر لي عندك لزمه تسليم هذا ويحلف على نفى الآخر. مسألة
قال: [ولو مات فخلف ولدين, فأقر أحدهما بأخ أو أخت لزمه أن يعطى الفضل الذي في يده لمن أقر له به] وجملة ذلك أن أحد الوارثين إذا أقر بوارث ثالث مشارك لهما في الميراث, لم يثبت النسب بالإجماع لأن النسب لا يتبعض فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر ولا يمكن إثباته في حقهما لأن أحدهما منكر, ولم توجد شهادة يثبت بها النسب ولكنه يشارك المقر في الميراث في قول أكثر أهل العلم وقال الشافعي: لا يشاركه وحكى ذلك عن ابن سيرين وقال إبراهيم: ليس بشيء حتى يقروا جميعا لأنه لم يثبت نسبه, فلا يرث كما لو أقر بنسب معروف النسب ولنا أنه أقر بسبب مال لم يحكم ببطلانه, فلزمه المال كما لو أقر ببيع أو أقر بدين فأنكر الآخر وفارق ما إذا أقر بنسب معروف النسب فإنه محكوم ببطلانه ولأنه يقر له بمال يدعيه المقر له, ويجوز أن يكون له فوجب الحكم له به كما لو أقر بدين على أبيه, أو أقر له وصية فأنكر سائر الورثة إذا ثبت هذا فإن الواجب له فضل ما في يد المقر عن ميراثه وبهذا قال ابن أبي ليلى, ومالك والثورى والحسن بن صالح, وشريك ويحيى بن آدم وإسحاق, وأبو عبيد وأبو ثور وقال أبو حنيفة: إذا كان اثنان, فأقر أحدهما بأخ لزمه دفع نصف ما في يده وإن أقر بأخت, لزمه ثلث ما في يده لأنه أخذ ما لا يستحقه من التركة فصار كالغاصب فيكون الباقي بينهما, كما لو غصب بعض التركة أجنبى ولأن الميراث يتعلق ببعض التركة كما يتعلق بجميعها فإذا هلك بعضها, أو غصب تعلق الحق بباقيها والذي في يد المنكر كالمغصوب, فيقتسمان الباقي بالسوية كما لو غصبه أجنبى ولنا أن التركة بينهم أثلاثا, فلا يستحق مما في يده إلا الثلث كما لو ثبت نسبه ببينة ولأنه إقرار بحق يتعلق بحصته وحصة أخيه فلا يلزمه أكثر مما يخصه, كالإقرار بالوصية وكإقرار أحد الشريكين على مال الشركة بدين ولأنه لو شهد معه بالنسب أجنبى ثبت ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لكونه يجر بها نفعا, لكونه يسقط عن نفسه بعض ما يستحقه عليه ولأنه حق لو ثبت ببينة لم يلزمه إلا قدر حصته فإذا ثبت بالإقرار لم يلزمه أكثر من ذلك, كالوصية وفارق ما إذا غصب بعض التركة وهما اثنان لأن كل واحد منهما يستحق النصف من كل جزء من التركة وها هنا يستحق الثلث من كل جزء من التركة ولأصحاب الشافعي فيما إذا كان المقر صادقا فيما بينه وبين الله تعالى, هل يلزمه أن يدفع إلى المقر له نصيبه؟ على وجهين أحدهما يلزمه وهو الأصح وهل يلزمه أن يدفع إليه نصف ما في يده أو ثلثه؟ فيه وجهان. فصل
وإن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الميراث, ثبت نسبه سواء كان الورثة واحدا أو جماعة ذكرًا أو أنثى وبهذا قال الشافعي, وأبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة لأن الوارث يقوم مقام الميت في ميراثه وديونه, والديون التي عليه وبيناته ودعاويه, والأيمان التي له وعليه وكذلك في النسب وقد روت عائشة أن سعد بن أبي وقاص اختصم هو وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة, فقال سعد: أوصانى أخى عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه فقال عبد بن زمعة: هو أخي, وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله -ﷺ-: (هو لك يا عبد بن زمعة وللعاهر الحجر ) فقضى به لعبد بن زمعة وقال (احتجبي منه يا سودة) والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يثبت إلا بإقرار رجلين, أو رجل وامرأتين وقال مالك: لا يثبت إلا بإقرار اثنين لأنه يحمل النسب على غيره فاعتبر فيه العدد كالشهادة ولنا, أنه حق يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه العدد كالدين ولأنه قول لا تعتبر فيه العدالة, فلم يعتبر العدد فيه كإقرار الموروث واعتباره بالشهادة لا يصح لأنه لا يعتبر فيه اللفظ ولا العدالة, ويبطل بالإقرار بالدين. فصل
فى شروط الإقرار بالنسب: لا يخلو إما أن يقر على نفسه خاصة أو عليه وعلى غيره فإن أقر على نفسه, مثل أن يقر بولد اعتبر في ثبوت نسبه أربعة شروط أحدها أن يكون المقر به مجهول النسب, فإن كان معروف النسب لم يصح لأنه يقطع نسبه الثابت من غيره وقد لعن النبى -ﷺ- من انتسب إلى غير أبيه, أو تولى غير مواليه الثاني أن لا ينازعه فيه منازع لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارضا فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر الثالث, أن يمكن صدقه بأن يكون المقر به يحتمل أن يولد لمثله الرابع أن يكون ممن لا قول له, كالصغير والمجنون أو يصدق المقر إن كان ذا قول وهو المكلف, فإن كان غير مكلف لم يعتبر تصديقه فإن كبر وعقل فأنكر, لم يسمع إنكاره لأن نسبه ثابت وجرى ذلك مجرى من ادعى ملك عبد صغير في يده وثبت بذلك ملكه, فلما كبر جحد ذلك ولو طلب إحلافه على ذلك لم يستحلف لأن الأب لو عاد فجحد النسب لم يقبل منه وإن اعترف إنسان بأن هذا أبوه, فهو كاعترافه بأنه ابنه فأما إن كان إقرارا عليه وعلى غيره كإقرار بأخ اعتبر فيه الشروط الأربعة, وشرط خامس وهو كون المقر جميع الورثة فإن كان المقر زوجا أو زوجة لا وارث معهما, لم يثبت النسب بإقرارهما لأن المقر لا يرث المال كله وإن اعترف به الإمام معه ثبت النسب لأنه قائم مقام المسلمين, في مشاركة الوارث وأخذ الباقي وإن كان الوارث بنتا أو أختا أو أما أو ذا فرض يرث جميع المال بالفرض والرد ثبت النسب بقوله كالابن لأنه يرث المال كله وعند الشافعي: لا يثبت بقوله النسب لأنه لا يرى الرد, ويجعل الباقي لبيت المال ولهم فيما إذا وافقه الإمام في الإقرار وجهان وهذا من فروع الرد ويذكر في موضعه وإن كانت بنت وأخت أو أخت وزوج, ثبت النسب بقولهما لأنهما يأخذان المال كله وإذا أقر بابن ابنه وابنه ميت اعتبرت فيه الشروط التي تعتبر في الإقرار بالأخ, وكذلك إن أقر بعم وهو ابن جده فعلى ما ذكرناه. فصل
وإن كان أحد الولدين غير وارث لكونه رقيقا, أو مخالفا لدين موروثه أو قاتلا فلا عبرة به, وثبت النسب بقول الآخر وحده لأنه يحوز جميع الميراث ثم إن كان المقر به يرث شارك المقر في الميراث وإن كان غير وارث, لوجود أحد الموانع فيه ثبت نسبه ولم يرث وسواء كان المقر مسلما أو كافرا. فصل
وإن كان أحد الوارثين غير مكلف كالصبي والمجنون, فأقر المكلف بأخ ثالث لم يثبت النسب بإقراره لأنه لا يحوز الميراث كله فإن بلغ الصبي أو أفاق المجنون, فأقرا به أيضا ثبت نسبه لاتفاق جميع الورثة عليه وإن أنكر لم يثبت النسب وإن ماتا قبل أن يصيرا مكلفين, ثبت نسب المقر به لأنه وجد الإقرار من جميع الورثة فإن المقر به صار جميع الورثة ولو كان الوارثان بالغين عاقلين فأقر به أحدهما وأنكر الآخر, ثم مات المنكر وورثه المقر ثبت نسب المقر به لأن المقر به صار جميع الورثة فأشبه ما لو أقر به ابتداء بعد موت أخيه, وكما لو كان شريكه في الميراث غير مكلف وفيه وجه آخر أنه لا يثبت النسب لأنه أنكره بعض الورثة فلم يثبت نسبه كما لو لم يمت, بخلاف ما إذا كان شريكه غير مكلف فإنه لم ينكره وارث وهذا فيما إذا كان المقر يحوز جميع الميراث بعد الميت فإن كان للميت وارث سواه, أو من يشاركه في الميراث لم يثبت النسب بقول الباقي منهما وجها واحدا لأنه ليس كل الورثة, ويقوم وارث الميت الثاني مقامه فإذا وافق المقر في إقراره ثبت النسب وإن خالفه لم يثبت كالموروث وإن خلف ولدين, فأقر أحدهما بأخ وأنكره الآخر ثم مات المنكر, وخلف ابنا فأقر بالذي أنكره أبوه ثبت نسبه لإقرار جميع الورثة به ويحتمل أن لا يثبت لإنكار الميت له. فصل
وإذا أقر الوارث بمن يحجبه, كأخ أقر بابن للميت وأخ من أب أقر بأخ من أبوين وابن ابن أقر بابن للميت, ثبت نسب المقر به وورث وسقط المقر وهذا اختيار ابن حامد والقاضى وقول أبي العباس بن سريج وقال أكثر أصحاب الشافعي: يثبت نسب المقر به, ولا يرث لأن توريثه يفضى إلى إسقاط توريثه فسقط بيانه أنه لو ورث لخرج المقر به عن كونه وارثا فيبطل إقراره, ويسقط نسب المقر به وتوريثه فيؤدى توريثه إلى إسقاط نسبه وتوريثه فأثبتنا النسب دون الميراث ولنا, أنه ابن ثابت النسب لم يوجد في حقه أحد موانع الإرث فيدخل في عموم قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} أي فيرث, كما لو ثبت نسبه ببينة ولأن ثبوت النسب سبب للميراث فلا يجوز قطع حكمه عنه, ولا يورث محجوب به مع وجوده وسلامته من الموانع وما احتجوا به لا يصح لأننا إنما نعتبر كون المقر وارثا على تقدير عدم المقر به وخروجه بالإقرار عن الإرث لا يمنع صحته بدليل أن الابن إذا أقر بأخ فإنه يرث, مع كونه يخرج بإقراره عن أن يكون جميع الورثة فإن قيل: إنما يقبل إقراره إذا صدقه المقر به فصار إقرارا من جميع الورثة وإن كان المقر به طفلا أو مجنونا, لم يعتبر قوله فقد أقر كل من يعتبر قوله قلنا: ومثله هاهنا فإنه إن كان المقر به كبيرا, فلا بد من تصديقه فقد أقر به كل من يعتبر إقراره وإن كان صغيرا غير معتبر القول, لم يثبت النسب بقول الآخر كما لو كانا اثنين أحدهما صغير فأقر البالغ بأخ آخر لم يقبل ولم يقولوا: أنه لا تعتبر موافقته, كذا هاهنا ولأنه لو كان في يد إنسان عبد محكوم له بملكه فأقر به لغيره ثبت للمقر له, وإن كان المقر يخرج بالإقرار عن كونه مالكا كذا هاهنا. فصل
فإن خلف ابنا فأقر بأخ, ثبت نسبه ثم إن أقر بثالث ثبت نسبه أيضا لأنه إقرار من جميع الورثة فإن قال الثالث: الثاني ليس بأخ لنا فقال القاضي: يسقط نسب الثاني لأن الثالث وارث منكر لنسب الثاني, فأشبه ما لو كان نسبه ثابتا قبل الثاني وفيه وجه آخر: لا يسقط نسبه ولا ميراثه لأن نسبه ثبت بقول الأول وثبت ميراثه فلا يسقط بعد ثبوته, ولأنه أقر به من هو كل الورثة حين الإقرار وثبت ميراثه فلا يسقط بعد ثبوته ولأن الثاني لو أنكر الثالث, لم يثبت نسبه وإنما ثبت نسبه بإقراره فلا يجوز له إسقاط نسب من يثبت نسبه بقوله, كالأول ولأن ذلك يؤدى إلى إسقاط الأصل بالفرع الذي يثبت به. فصل
وإن أقر الابن بأخويه دفعة واحدة فصدق كل واحد منهما صاحبه, ثبت نسبهما وإن تكاذبا ففيهما وجهان أحدهما لا يثبت نسبهما وهو مذهب الشافعي لأن كل واحد منهما لم يقر به كل الورثة والثاني, يثبت نسبهما لأن كل واحد منهما وجد الإقرار به من ثابت النسب هو كل الورثة حين الإقرار فلم تعتبر موافقة غيره, كما لو كانا صغيرين فإن كان أحدهما يصدق صاحبه دون الآخر ثبت نسب المتفق عليه منهما وفي الآخر وجهان وإن كانا توأمين, ثبت نسبهما ولم يلتفت إلى إنكار المنكر منهما سواء تجاحدا معا, أو جحد أحدهما صاحبه لأننا نعلم كذبهما فإنهما لا يفترقان ولو أقر الوارث بنسب أحدهما ثبت نسب الآخر لأنهما لا يفترقان في النسب وإن أقر بنسب صغيرين, دفعة واحدة ثبت نسبهما على الوجه الذي يثبت فيه نسب الكبيرين المتجاحدين وهل يثبت على الوجه الآخر؟ يحتمل أن يثبت لأنه أقر به كل الورثة حين الإقرار, ولم يجحده أحد فأشبه ما لو انفرد ويحتمل ألا يثبت لأن أحدهما وارث ولم يقر بصاحبه, فلم يجتمع كل الورثة على الإقرار به ويدفع المقر إلى كل واحد منهما ثلث الميراث سواء قلنا بثبوت النسب أو لم نقل لأنه مقر به. فصل
إذا خلف امرأة وأخا, فأقرت المرأة بابن للميت وأنكر الأخ لم يثبت نسبه ودفعت إليه ثمن الميراث, وهو الفضلة التي في يد الزوجة عن ميراثها وإن أقر به الأخ وحده لم يثبت نسبه ودفع إليه جميع ما في يده وهو ثلاثة أرباع المال فإن خلف اثنين, فأقر أحدهما بامرأة لأبيه وأنكر الآخر لم تثبت الزوجية, ويدفع إليها نصف الميراث ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة كقولنا لأن الزوجية زالت بالموت وإنما المقر به حقها من الميراث ولهم وجه آخر: لا شيء لها وإن كان للميت امرأة أخرى, فلا شيء للمقر لها لأن الفضل الذي تستحقه في يد غير المقر وكذلك ما كان مثل هذا مثل أن يخلف أخا من أب وأخا من أم فيقر الأخ من الأم بأخ للميت, فلا شيء للمقر به سواء أقر بأخ من أبوين أو من أب, أو من أم لأن ميراثه في يد غير المقر وإن أقر بأخوين من أم دفع إليهما ثلث ما في يده لأنه يقر أنهم شركاء في الثلث لكل واحد منهما تسع, وفي يده سدس وهو تسع ونصف تسع فيفضل في يده نصف تسع, وهو ثلث ما في يده. فصل
وإذا شهد من الورثة رجلان عدلان بنسب مشارك لهم في الميراث ثبت نسبه إذا لم يكونا متهمين وكذلك إن شهدا على إقرار الميت به وإن كانا متهمين كأخوين من أم يشهدان بأخ من أبوين, في مسألة فيها زوج وأختان من أبوين لم تقبل شهادتهما لأن ثبوت نسبه يسقط العول فيتوفر عليهما الثلث وكذلك لو شهدا بأخ من أب, في مسألة معهما أم وأخت من أبوين وأخت من أب لم تقبل شهادتهما لأن ثبوت نسبه يسقط أخته فيذهب العول من المسألة فإن لم يكونا وارثين, أو لم يكن للميت تركة قبلت شهادتهما وثبت النسب لعدم التهمة. فصل
وإن أقر رجلان عدلان بنسب مشارك لهما في الميراث, وثم وارث غيرهما لم يثبت النسب إلا أن يشهدا به, وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يثبت لأنهما بينة ولنا أنه إقرار من بعض الورثة فلم يثبت به النسب, كالواحد وفارق الشهادة لأنه تعتبر فيها العدالة والذكورية والإقرار بخلافه. فصل
إذا أقر بنسب ميت صغير أو مجنون, ثبت نسبه وورثه وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن يثبت نسبه دون ميراثه لأنه متهم في قصد أخذ ميراثه وقال أبو حنيفة: لا يثبت نسبه ولا إرثه لذلك ولنا أن علة ثبوت نسبه في حياته الإقرار به, وهو موجود بعد الموت فيثبت به كحالة الحياة وما ذكروه يبطل بما إذا كان المقر به حيا موسرا, أو المقر فقيرا فإنه يثبت نسبه ويملك المقر التصرف في ماله, وإيقافه منه على نفسه وإن كان المقر به كبيرا عاقلا فكذلك في قول القاضي وظاهر مذهب الشافعي لأنه لا قول له, أشبه الصغير وفيه وجه آخر أنه لا يثبت نسبه لأن نسب المكلف لا يثبت إلا بتصديقه ولم يوجد ويجاب عن هذا بأنه غير مكلف, فإن ادعى نسب المكلف في حياته فلم يصدقه حتى مات المقر ثم صدقه, ثبت نسبه لأنه وجد الإقرار والتصديق من المقر به فأشبه ما لو صدقه في حياته وقال أبو الخطاب: وإذا أقر رجل بزوجية امرأة أو أقرت أن فلانًا زوجها, فلم يصدقه المقر به إلا بعد موته ورثه لأنه وجد الإقرار والتصديق معا. فصل
وإذا خلف رجل امرأة وابنا من غيرها فأقر الابن بأخ له, لم يثبت نسبه لأنه لم يقر به كل الورثة وهل يتوارثان؟ فيه وجهان أحدهما يتوارثان لأن كل واحد منهما يقر أنه لا وارث له سوى صاحبه ولا منازع لهما والثاني لا يتوارثان لأن النسب بينهما لم يثبت فإن كان لكل واحد منهما وارث غير صاحبه, لم يرثه لأنه منازع في الميراث ولم يثبت نسبه. فصل
وإذا ثبت النسب بالإقرار ثم أنكر المقر, لم يقبل إنكاره لأنه نسب ثبت بحجة شرعية فلم يزل بإنكاره كما لو ثبت ببينة أو بالفراش وسواء كان المقر به غير مكلف, أو مكلفا فصدق المقر ويحتمل أن يسقط نسب المكلف باتفاقهما على الرجوع عنه لأنه ثبت باتفاقهما فزال برجوعهما, كالمال والأول أصح لأنه نسب ثبت بالإقرار فأشبه نسب الصغير والمجنون وفارق المال لأن النسب يحتاط لإثباته. فصل
وإن أقرت المرأة بولد ولم تكن ذات زوج ولا نسب, قبل إقرارها وإن كانت ذات زوج فهل يقبل إقرارها؟ على روايتين إحداهما لا يقبل لأن فيه حملا لنسب الولد على زوجها, ولم يقر به أو إلحاقا للعار به بولادة امرأته من غيره والثانية: يقبل لأنها شخص أقر بولد يحتمل أن يكون منه فقبل كالرجل وقال أحمد, في رواية ابن منصور في امرأة ادعت ولدا: فإن كان لها إخوة أو نسب معروف فلا بد من أن يثبت أنه ابنها, فإن لم يكن لها دافع فمن يحول بينها وبينه وهذا لأنها متى كانت ذات أهل فالظاهر أنه لا تخفى عليهم ولادتها, فمتى ادعت ولدا لا يعرفونه فالظاهر كذبها ويحتمل أن تقبل دعواها مطلقًا لأن النسب يحتاط له فأشبهت الرجل. فصل
وإن أقر بنسب صغير, لم يكن مقرًا بزوجية أمه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: إذا كانت مشهورة بالحرية كان مقرًا بزوجيتها لأن أنساب المسلمين وأحوالهم يجب حملها على الصحة, وذلك أن تكون ولدته منه في نكاح صحيح ولنا أن الزوجية ليست مقتضى لفظه ولا مضمونه فلم يكن مقرًا بها, كما لو لم تكن معروفة بالحرية وما ذكروه لا يصح فإن النسب محمول على الصحة وقد يلحق بالوطء في النكاح الفاسد والشبهة فلا يلزمه بحكم إقراره, ما لم يتضمنه لفظه ولم يوجبه. فصل
وإذا كان له أمة لها ثلاثة أولاد لا زوج لها, ولا أقر بوطئها فقال: أحد هؤلاء ولدى فإقراره صحيح ويطالب بالبيان, فإن عين أحدهم ثبت نسبه وحريته ثم يسأل عن كيفية الاستيلاد فإن قال: كان بنكاح فعلى الوالد الولاء لأنه قد مسه رق, والأم وولداها الآخران رقيق قن وإن قال: استولدتها في ملكى فالمقر به حر الأصل لا ولاء عليه والأمة أم ولد ثم إن كان المقر به الأكبر, فأخواه أبناء أم ولد حكمهما حكمها في العتق بموت سيدها وإن كان الأوسط فالأكبر قن, والأصغر له حكم أمه وإن عين الأصغر فأخواه رقيق قن لأنها ولدتهما قبل الحكم بكونها أم ولد, وإن قال: هو من وطء شبهة فالولد حر الأصل وأخواه مملوكان وإن مات قبل أن يبين, أخذ ورثته بالبيان ويقوم بيانهم مقام بيانه فإن بينوا النسب ولم يبينوا الاستيلاد, ثبت النسب وحرية الولد ولم يثبت للأم ولا لولديها حكم الاستيلاد لأنه يحتمل أن يكون من نكاح أو وطء شبهة وإن لم يبينوا النسب, وقالوا: لا نعرف ذلك ولا الاستيلاد فإنا نريه القافة, فإن ألحقوا به واحدا منهم ألحقناه ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره فإن لم تكن قافة أقرع بينهم, فمن وقعت له القرعة عتق وورث وبهذا قال الشافعي إلا أنه لا يورثه بالقرعة ولنا أنه حر استندت حريته إلى إقرار أبيه به, فورث كما لو عينه في إقراره. فصل
وإذا كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد, فقال: أحد هذين ولدى من أمتي نظرت فإن كان لكل واحدة منهما زوج يمكن إلحاق الولد به لم يصح إقراره وألحق الولدان بالزوجين وإن كان لإحداهما زوج دون الأخرى, انصرف الإقرار إلى ولد الأخرى لأنه الذي يمكن إلحاقه به وإن لم يكن لواحدة منهما زوج ولكن أقر السيد بوطئهما, صارتا فراشا ولحق ولداهما به إذا أمكن أن يولدا بعد وطئه وإن أمكن في إحداهما دون الأخرى, انصرف الإقرار إلى من أمكن لأنه ولده حكما وإن لم يكن أقر بوطء واحدة منهما صح إقراره وثبتت حرية المقر به لأنه أقر بنسب صغير مجهول النسب مع الإمكان لا منازع له فيه فلحقه نسبه, ثم يكلف البيان كما لو طلق إحدى نسائه فإذا بين قبل بيانه لأن المرجع في ذلك إليه, ثم يطالب ببيان كيفية الولادة فإن قال: استولدتها في ملكى فالولد حر الأصل لا ولاء عليه, وأمه أم ولد وإن قال: في نكاح فعلى الولد الولاء لأنه مسه رق والأمة قن لأنها علقت بمملوك وإن قال: بوطء شبهة فالولد حر الأصل والأمة قن لأنها علقت به في غير ملك وإن ادعت الأخرى أنها التي استولدها فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الاستيلاد, فأشبه ما لو ادعت ذلك من غير إقراره بشيء فإذا حلف رقت ورق ولدها وإذا مات ورثه ولده المقر به وإن كانت أمة قد صارت أم ولد عتقت أيضا, وإن لم تصر أم ولد عتقت على ولدها إن كان هو الوارث وحده وإن كان معه غيره عتق منها بقدر ما ملك فإن مات قبل أن يبين قام وارثه مقامه في البيان لأنه يقوم مقامه في إلحاق النسب وغيره, فإذا بين كان كما لو بين الموروث وإن لم يعلم الوارث كيفية الاستيلاد ففى الأمة وجهان أحدهما, يكون رقيقا لأن الرق الأصل فلا يزول بالاحتمال والثاني يعتق لأن الظاهر أنها ولدته في ملكه لأنه أقر بولدها وهى في ملكه وهذا منصوص الشافعي فإن لم يكن وارث أو كان وارث فلم يعين, عرض على القافة فإن ألحقت به أحدهما ثبت نسبه, وكان حكمه كما لو عين الوارث فإن لم تكن قافة أو كانت فلم تعرف, أقرع بين الولدين فيعتق أحدهما بالقرعة لأن للقرعة مدخلا في إثبات الحرية وقياس المذهب ثبوت نسبه وميراثه على ما ذكرنا في التي قبلها وقال الشافعي: لا يثبت نسب ولا ميراث واختلفوا في الميراث, فقال المزنى: يوقف نصيب ابن لأننا تيقنا ابنا وارثا ولهم وجه آخر: لا يوقف شيء لأنه لا يرجى انكشافه وقال أبو حنيفة: يعتق من كل واحد نصفه ويستسعى في باقيه ولا يرثان وقال ابن أبي ليلى مثل ذلك, إلا أنه يجعل الميراث بينهما نصفين ويدفعانه في سعايتهما والكلام على قسمة الحرية والسعاية يأتى في العتق -إن شاء الله تعالى-. مسألة
قال: [وكذلك إن أقر بدين على أبيه, لزمه من الدين بقدر ميراثه] وجملة ذلك أن الوارث إذا أقر بدين على موروثه قبل إقراره بغير خلاف نعلمه ويتعلق ذلك بتركة الميت, كما لو أقر به الميت قبل موته فإن لم يخلف تركة لم يلزم الوارث بشيء لأنه لا يلزمه أداء دينه إذا كان حيا مفلسا, فكذلك إذا كان ميتا وإن خلف تركة تعلق الدين بها فإن أحب الوارث تسليمها في الدين, لم يلزمه إلا ذلك وإن أحب استخلاصها وإيفاء الدين من ماله فله ذلك, ويلزمه أقل الأمرين من قيمتها أو قدر الدين بمنزلة الجانى وإن كان الوارث واحدا فحكمه ما ذكرنا وإن كانا اثنين أو أكثر وثبت الدين بإقرار الميت, أو بينة أو إقرار جميع الورثة فكذلك وإذا اختار الورثة أخذ التركة وقضاء الدين من أموالهم, فعلى كل واحد منهم من الدين بقدر ميراثه وإن أقر أحدهم لزمه من الدين بقدر ميراثه والخيرة إليه في تسليم نصيبه في الدين أو استخلاصه وإذا قدره من الدين, فإن كانا اثنين لزمه النصف وإن كانوا ثلاثة, فعليه الثلث وبهذا قال النخعي والحسن والحكم, وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور, والشافعي في أحد قوليه وقال أصحاب الرأى: يلزمه جميع الدين أو جميع ميراثه وهذا آخر قولي الشافعي رجع إليه بعد قوله كقولنا لأن الدين يتعلق بتركته فلا يستحق الوارث منها إلا ما فضل من الدين لقول الله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} ولأنه يقول: ما أخذه المنكر أخذه بغير استحقاق فكان غاصبا, فتعلق الدين بما بقى من التركة كما لو غصبه أجنبى ولنا أنه لا يستحق أكثر من نصف الميراث, فلا يلزمه أكثر من نصف الدين كما لو أقر أخوه ولأنه إقرار يتعلق بحصته وحصة أخيه, فلا يجب عليه إلا ما يخصه كالإقرار بالوصية وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة, ولأنه حق لو ثبت ببينة أو قول الميت أو إقرار الوارثين, لم يلزمه إلا نصفه فلم يلزمه بإقراره أكثر من نصفه كالوصية, ولأن شهادته بالدين مع غيره تقبل ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا. فصل
إذا ادعى رجلان دارا بينهما ملكاها بسبب يوجب الاشتراك, مثل أن يقولا: ورثناها أو ابتعناها معا فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما فذلك لهما جميعا لأنهما اعترفا أن الدار لهما مشاعة فإذا غصب غاصب نصفها, كان منهما والباقى بينهما وإن لم يكونا ادعيا شيئا يقتضي الاشتراك, بل ادعى كل واحد منهما نصفها فأقر لأحدهما بما ادعاه لم يشاركه الآخر, وكان على خصومته لأنهما لم يعترفا بالاشتراك فإن أقر لأحدهما بالكل وكان المقر له يعترف للآخر بالنصف, سلمه إليه وكذلك إن كان قد تقدم إقراره بذلك وجب تسليم النصف, إليه لأن الذي هي في يده قد اعترف له بها فصار بمنزلته فيثبت لمن يقر له, وإن لم يكن اعترف للآخر وادعى جميعها أو ادعى أكثر من النصف فهو له فإن قيل: فكيف يملك جميعها ولم يدع إلا نصفها؟ قلنا: ليس من شرط صحة الإقرار تقدم الدعوى, بل متى أقر الإنسان بشيء فصدقه المقر له ثبت وقد وجد التصديق هاهنا في النصف الذي لم يسبق دعواه, ويجوز أن يكون اقتصر على دعوى ألف لأن له حجة به أو لأن النصف الآخر قد اعترف له به فادعى النصف الذي لم يعترف به فإن لم يصدقه في إقراره بالنصف الذي لم يدعه, ولم يعترف به للآخر ففيه ثلاثة أوجه أحدها: يبطل الإقرار به لأنه أقر به لمن لا يدعيه الثاني ينزعه الحاكم من يده حتى يثبت لمدعيه, ويؤجره ويحفظ أجرته لمالكه والثالث يدفع إلى مدعيه لعدم المنازع فيه ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كنحو ما ذكرنا. مسألة
قال:[وكل من قلت: القول قوله فلخصمه عليه اليمين] يعني في هذا الباب وفيما أشبهه, مثل أن يقول: عندي ألف ثم قال: وديعة أو قال: على ثم قال: وديعة أو قال: له عندي رهن فقال المالك: وديعة ومثل الشريك والمضارب والمنكر للدعوى وإذا اختلفا في قيمة الرهن أو قدره أو قدر الدين الذي الرهن به, وأشباه هذا فكل من قلنا القول قوله فعليه لخصمه اليمين لقول النبى -ﷺ-: ( لو أعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) رواه مسلم ولأن اليمين يشرع في حق من ظهر صدقه, وقوى جانبه تقوية لقوله واستظهارا والذي جعل القول قوله كذلك, فيجب أن تشرع اليمين في حقه. فصل
إذا أقر أنه وهب وأقبض الهبة أو رهن وأقبض أو أقر أنه قبض ثمن المبيع, أو أجر المستأجر ثم أنكر ذلك وسأل إحلاف خصمه, ففيه روايتان إحداهما لا يستحلف وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأن دعواه تكذيب لإقراره فلا تسمع, كما لو أقر المضارب أنه ربح ألفا ثم قال: غلطت ولأن الإقرار أقوى من البينة ولو شهدت البينة فقال: أحلفوه لي مع بينته لم يستحلف, كذا هاهنا والثانية يستحلف وهو قول الشافعي وأبى يوسف لأن العادة جارية بالإقرار قبل القبض فيحتمل صحة ما قاله, فينبغى أن يستحلف خصمه لنفى الاحتمال ويفارق الإقرار البينة لوجهين أحدهما أن العادة جارية بالإقرار بالقبض قبله ولم تجر العادة بالشهادة على القبض قبله لأنها تكون شهادة زور والثاني, أن إنكاره مع الشهادة طعن في البينة وتكذيب لها وفي الإقرار بخلافه ولم يذكر القاضي في " المجرد " غير هذا الوجه وكذلك لو أقر أنه اقترض منه ألفا وقبضها, أو قال: له علي ألف ثم قال: ما كنت قبضتها وإنما أقررت لأقبضها فالحكم كذلك ولأنه يمكن أن يكون قد أقر بقبض ذلك بناء على قول وكيله وظنه والشهادة لا تجوز إلا على اليقين فأما إن أقر أنه وهبه طعاما, ثم قال: ما أقبضتكه وقال المتهب: بل أقبضتنيه فالقول قول الواهب لأن الأصل عدم القبض وإن كانت في يد المتهب فقال: أقبضتنيها فقال: بل أخذتها منى بغير إذنى فالقول قول الواهب أيضا لأن الأصل عدم الإذن وإن كانت حين الهبة في يد المتهب لم يعتبر إذن الواهب, وإنما يعتبر مضى مدة يتأتى القبض فيها وعلى من قلنا: القول قوله منهما اليمين لما ذكرنا. مسألة
قال: [والإقرار بدين في مرض موته كالإقرار في الصحة إذا كان لغير وارث] هذا ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل العلم, قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المريض في مرضه لغير الوارث جائز وحكى أصحابنا رواية أخرى أنه لا يقبل لأنه إقرار في مرض الموت أشبه الإقرار لوارث وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه لا يقبل إقراره بزيادة على الثلث لأنه ممنوع من عطية ذلك لأجنبي, كما هو ممنوع من عطية الوارث فلا يصح إقراره بما لا يملك عطيته بخلاف الثلث فما دون ولنا, أنه إقرار غير متهم فيه فقبل كالإقرار في الصحة, يحققه أن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه وإبراء ذمته وتحرى الصدق, فكان أولى بالقبول وفارق الإقرار للوارث لأنه متهم فيه على ما سنذكره . فصل
فإن أقر لأجنبى بدين في مرضه وعليه دين ثبت ببينة أو إقرار في صحته, وفي المال سعة لهما فهما سواء وإن ضاق عن قضائهما, فظاهر كلام الخرقى أنهما سواء وهو اختيار التميمي وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وذكر أبو عبيد أنه قول أكثر أهل المدينة لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال لم يختص أحدهما برهن فاستويا, كما لو ثبتا ببينة وقال أبو الخطاب لا يحاص غرماء الصحة وقال القاضي: هو قياس المذهب لنص أحمد في المفلس أنه إذا أقر وعليه دين ببينة يبدأ بالدين الذي بالبينة وبهذا قال النخعي والثورى وأصحاب الرأى لأنه أقر بعد تعلق الحق بتركته فوجب أن لا يشارك المقر له من ثبت دينه ببينة, كغريم المفلس الذي أقر له بعد الحجر عليه والدليل على تعلق الحق بماله منعه من التبرع ومن الإقرار لوارث ولأنه محجور عليه ولهذا لا تنفذ هباته وتبرعاته, فلم يشارك من أقر له قبل الحجر ومن ثبت دينه ببينة كالذي أقر له المفلس وإن أقر لهما جميعا في المرض, تساويا ولم يقدم السابق منهما لأنهما استويا في الحال فأشبها غريمى الصحة " مسألة
قال:[وإن أقر لوارث, لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببينة] وبهذا قال شريح وأبو هاشم وابن أذينة, والنخعي ويحيى الأنصاري وأبو حنيفة وأصحابه وروى ذلك عن القاسم, وسالم وقال عطاء والحسن وإسحاق وأبو ثور: يقبل لأن من صح الإقرار له في الصحة صح في المرض كالأجنبى وللشافعى قولان كالمذهبين وقال مالك يصح إذا لم يتهم, ويبطل إن اتهم كمن له بنت وابن عم فأقر لابنته, لم يقبل وإن أقر لابن عمه قبل لأنه لا يتهم في أنه يزوى ابنته ويوصل المال إلى ابن عمه, وعلة منع الإقرار التهمة فاختص المنع بموضعها ولنا أنه إيصال لماله إلى وارثه بقوله في مرض موته فلم يصح بغير رضى بقية ورثته, كهبته ولأنه محجور عليه في حقه فلم يصح إقراره له, كالصبي في حق جميع الناس وفارق الأجنبى فإن هبته له تصح وما ذكره مالك لا يصح فإن التهمة لا يمكن اعتبارها بنفسها فوجب اعتبارها بمظنتها وهو الإرث وكذلك اعتبر في الوصية والتبرع وغيرهما. فصل
وإن أقر لامرأته بمهر مثلها أو دونه, صح في قولهم جميعا لا نعلم فيه مخالفا إلا الشعبى قال: لا يجوز إقراره لها لأنه إقرار لوارث ولنا أنه إقرار بما تحقق سببه وعلم وجوده, ولم تعلم البراءة منه فأشبه ما لو كان عليه دين ببينة فأقر بأنه لم يوفه وكذلك إن اشترى من وارثه شيئا, فأقر له بثمن مثله لأن القول قول المقر له في أنه لم يقبض ثمنه وإن أقر لامرأته بدين سوى الصداق لم يقبل وإن أقر لها, ثم أبانها ثم رجع تزوجها ومات في مرضه, لم يقبل إقراره لها وقال محمد بن الحسن يقبل لأنها صارت إلى حال لا يتهم فيها فأشبه ما لو أقر المريض ثم برأ ولنا أنه إقرار لوارث في مرض الموت, أشبه ما لو لم يبنها وفارق ما إذا صح من مرضه لأنه لا يكون مرض الموت. فصل
وإن أقر لوارث فصار غير وارث كرجل أقر لأخيه ولا ولد له, ثم ولد له ابن لم يصح إقراره له وإن أقر لغير وارث ثم صار وارثا, صح إقراره له نص عليه أحمد في رواية ابن منصور: إذا أقر لامرأة بدين في المرض ثم تزوجها جاز إقراره لأنه غير متهم وحكى له قول سفيان في رجل له ابنان, فأقر لأحدهما بدين في مرضه ثم مات الابن وترك ابنا, والأب حى ثم مات بعد ذلك جاز إقراره فقال أحمد لا يجوز وبهذا قال عثمان البتى وذكر أبو الخطاب رواية أخرى في الصورتين مخالفة لما قلنا وهو قول سفيان الثورى والشافعي لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث, فكان الاعتبار فيه بحالة الموت كالوصية ولنا أنه قول تعتبر فيه التهمة, فاعتبرت حال وجوده دون غيره كالشهادة ولأنه إذا أقر لغير وارث, ثبت الإقرار وصح لوجوده من أهله خاليا عن تهمة فيثبت الحق به, ولم يوجد مسقط له فلا يسقط وإذا أقر لوارث وقع باطلًا لاقتران التهمة به, فلا يصح بعد ذلك ولأنه إقرار لوارث فلم يصح, كما لو استمر الميراث وإن أقر لغير وارث صح واستمر, كما لو استمر عدم الإرث أما الوصية فإنها عطية بعد الموت فاعتبرت فيها حالة الموت, بخلاف مسألتنا. فصل
وإن أقر لوارث وأجنبى بطل في حق الوارث وصح في حق الأجنبى ويحتمل أن لا يصح في حق الأجنبي, كما لو شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل وكما لو شهد لابنه وأجنبى وقال أبو حنيفة إن أقر لهما بدين من الشركة, فاعترف الأجنبى بالشركة صح الإقرار لهما وإن جحدها, صح له دون الوارث ولنا أنه إقرار لوارث وأجنبى فيصح للأجنبى دون الوارث, كما لو أقر بلفظين أو كما لو جحد الأجنبى الشركة ويفارق الإقرار الشهادة لقوة الإقرار ولذلك لا تعتبر فيه العدالة ولو أقر بشيء له فيه نفع, كالإقرار بنسب موسر قبل ولو أقر بشيء يتضمن دعوى على غيره قبل فيما عليه دون ما له كما لو قال لامرأته: خلعتك علي ألف بانت بإقراره, والقول قولها في نفى العوض وإن قال لعبده: اشتريت نفسك منى بألف فكذلك. فصل
ويصح إقرار المريض بوارث في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه إقرار لوارث, فأشبه الإقرار له بمال والأول أصح لأنه عند الإقرار غير وارث فصح كما لو لم يصر وارثا ويمكن بناء هذه المسألة على ما إذا أقر لغير وارث, ثم صار وارثا فمن صحح الإقرار ثم صححه هاهنا, ومن أبطله أبطله وإن ملك ابن عمه فأقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته, وهو أقرب عصبته عتق ولم يرثه لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته, وإذا بطلت الحرية سقط الإرث فصار توريثه سببا إلى إسقاط توريثه فأسقطنا التوريث وحده ويحتمل أن يرث لأنه حين الإقرار غير وارث, فصح إقراره له كالمسألة قبلها. فصل
ويصح الإقرار من المريض بإحبال الأمة لأنه يملك ذلك فملك الإقرار به وكذلك كل ما ملكه ملك الإقرار به فإذا أقر بذلك, ثم مات فإن بين أنه استولدها في ملكه فولده حر الأصل, وأمه أم ولد تعتق من رأس المال وإن قال: من نكاحه أو وطء شبهة لم تصر الأمة أم ولد وعتق الولد, فإن كان من نكاح فعليه الولاء لأنه مسه رق وإن قال: من وطء شبهة لم تصر الأمة أم ولد وإن لم يتبين السبب فالأمة مملوكة لأن الأصل الرق, ولم يثبت سبب الحرية ويحتمل أن تصير أم ولد لأن الظاهر استيلادها في ملكه من قبل أنها مملوكته والولادة موجودة, ولا ولاء على الولد لأن الأصل عدمه فلا يثبت إلا بدليل. فصل
في الألفاظ التي يثبت بها الإقرار إذا قال: له علي ألف أو قال له: لي عليك ألف؟ فقال: نعم, أو أجل أو صدقت أو لعمري, أو أنا مقر به أو بما ادعيت أو بدعواك كان مقرًا في جميع ذلك لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق, قال الله تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم} وإن قال: أليس لي عندك ألف؟ قال: بلى كان إقرارا صحيحا لأن بلى جواب للسؤال بحرف النفي قال الله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} وإن قال: لك علي ألف في علمي أو فيما أعلم كان مقرًا به, لأن ما في علمه لا يحتمل إلا الوجوب وإن قال: اقضنى الألف الذي لي عليك قال: نعم كان مقرًا به لأنه تصديق لما ادعاه وإن قال: اشتر عبدى هذا أو أعطنى عبدى هذا فقال: نعم كان إقرارا لما ذكرنا وإن قال: لك علي ألف -إن شاء الله تعالى- كان مقرًا به نص عليه أحمد وقال أصحاب الشافعي: ليس بإقرار لأنه علق إقراره على شرط فلم يصح كما لو علقه على مشيئة زيد, ولأن ما علق على مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته ولنا أنه وصل إقراره بما يرفعه كله ولا يصرفه إلى غير الإقرار, فلزمه ما أقر به وبطل ما وصله به كما لو قال: له علي ألف إلا ألفا ولأنه عقب الإقرار بما لا يفيد حكما آخر, ولا يقتضي رفع الحكم أشبه ما لو قال: له علي ألف في مشيئة الله تعالى وإن قال: له علي ألف إلا أن يشاء الله صح الإقرار لأنه أقر ثم علق رفع الإقرار على أمر لا يعلم, فلم يرتفع وإن قال: لك علي ألف إن شئت أو إن شاء زيد لم يصح الإقرار وقال القاضي: يصح لأنه عقبه بما يرفعه, فصح الإقرار دون ما يرفعه كاستثناء الكل وكما لو قال: إن شاء الله ولنا, أنه علقه على شرط يمكن علمه فلم يصح كما لو قال: له علي ألف إن شهد بها فلان وذلك لأن الإقرار إخبار بحق سابق, فلا يتعلق على شرط مستقبل ويفارق التعليق على مشيئة الله تعالى فإن مشيئة الله تعالى تذكر في الكلام تبركا وصلة وتفويضا إلى الله تعالى لا للاشتراط, كقول الله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم} وقد علم الله أنهم سيدخلون بغير شك ويقول الناس: صلينا إن شاء الله تعالى مع تيقنهم صلاتهم بخلاف مشيئة الآدمى الثاني أن مشيئة الله تعالى لا تعلم إلا بوقوع الأمر, فلا يمكن وقف الأمر على وجودها ومشيئة الآدمى يمكن العلم بها فيمكن جعلها شرطا يتوقف الأمر على وجودها, والماضى لا يمكن وقفه فيتعين حمل الأمر هاهنا على المستقبل فيكون وعدا لا إقرارا وإن قال: بعتك -إن شاء الله تعالى-, أو زوجتك -إن شاء الله تعالى- فقال أبو إسحاق بن شاقلا لا أعلم خلافا عنه في أنه إذا قيل له: قبلت هذا النكاح؟ فقال: نعم -إن شاء الله تعالى- أن النكاح وقع به قال أبو حنيفة ولو قال: بعتك بألف إن شئت فقال: قد شئت وقبلت صح لأن هذا الشرط من موجب العقد ومقتضاه فإن الإيجاب إذا وجد من البائع كان القبول إلى مشيئة المشتري واختياره وإن قال: له على ألفان إن قدم فلان لم يلزمه لأنه لم يقر بها في الحال وما لا يلزمه في الحال, لا يصير واجبا عند وجود الشرط وإن قال: إن شهد فلان على لك بألف صدقته لم يكن إقرارا لأنه يجوز أن يصدق الكاذب وإن قال: إن شهد بها فلان فهو صادق احتمل أن لا يكون إقرارا لأنه علقه على شرط فأشبهت التي قبلها واحتمل أن يكون إقرارا في الحال لأنه لا يتصور صدقه إذا شهد بها إلا أن تكون ثابتة في الحال, وقد أقر بصدقه وإن قال: له علي ألف إن شهد بها فلان لم يكن إقرارا لأنه معلق على شرط. فصل
وإن قال: لي عليك ألف فقال: أنا أقر لم يكن إقرارا لأنه وعد بالإقرار في المستقبل وإن قال: لا أنكر لم يكن إقرارا لأنه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار فإن بينهما قسما آخر وهو السكوت عنهما وإن قال: لا أنكر أن تكون محقا لم يكن إقرارا لذلك وإن قال: أنا مقر ولم يزد, احتمل أن يكون مقرًا لأن ذلك عقيب الدعوى فينصرف إليها وكذلك إن قال: أقررت قال الله تعالى: {قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} ولم يقولوا أقررنا بذلك ولا زادوا عليه فكان منهم إقرارا واحتمل أن لا يكون مقرًا لأنه يحتمل أن يريد غير ذلك مثل أن يريد: أنا مقر بالشهادة أو ببطلان دعواك وإن قال لعل أو عسى لم يكن مقرًا لأنهما للترجى وإن قال: أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن إقرارا لأن هذه الألفاظ تستعمل للشك, وإن قال: خذ أو اتزن لم يكن إقرارا لأنه يحتمل: خذ الجواب أو اتزن شيئا آخر, وإن قال: خذها أو اتزنها أو هي صحاح ففيه وجهان أحدهما ليس بإقرار لأن الصفة ترجع إلى المدعي, ولم يقر بوجوبه ولأنه يجوز أن يعطيه ما يدعيه من غير أن يكون واجبا عليه فأمره بأخذها أولى أن لا يلزم منه الوجوب والثاني, يكون إقرارا لأن الضمير يعود إلى ما تقدم وإن قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر أو إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فقال أصحابنا: الأول إقرار والثاني ليس بإقرار وهذا منصوص الشافعي لأنه في الأول بدأ بالإقرار ثم عقبه بما لا يقتضي رفعه, لأن قوله: إذا جاء رأس الشهر يحتمل أنه أراد المحل فلا يبطل الإقرار بأمر محتمل وفي الثاني بدأ بالشرط فعلق عليه لفظا يصلح للإقرار ويصلح للوعد, فلا يكون إقرارا مع الاحتمال ويحتمل أنه لا فرق بينهما لأن تقديم الشرط وتأخيره سواء فيكون فيهما جميعا وجهان .
=============
كتاب الإقرار بالحقوق الإقرار: هو الاعتراف والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} إلى قوله تعالى: {قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} وقال تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} وقال تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} في أي كثيرة مثل هذا وأما السنة فما روي أن ماعزا أقر بالزنى فرجمه رسول الله -ﷺ- وكذلك الغامدية, وقال: ( واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) وأما الإجماع فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار ولأن الإقرار إخبار على وجه ينفي عنه التهمة والريبة, فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضر بها ولهذا كان آكد من الشهادة فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة, وإنما تسمع إذا أنكر ولو كذب المدعى ببينة لم تسمع وإن كذب المقر ثم صدقه سمع. فصل
ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار فأما الطفل, والمجنون والمبرسم والنائم, والمغمى عليه فلا يصح إقرارهم لا نعلم في هذا خلافا وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق, وعن النائم حتى يستيقظ ) فنص على الثلاثة والمبرسم والمغمى عليه في معنى المجنون والنائم ولأنه قول من غائب العقل فلم يثبت له حكم, كالبيع والطلاق وأما الصبي المميز فإن كان محجورًا عليه لم يصح إقراره, وإن كان مأذونًا له صح إقراره في قدر ما أذن له فيه قال أحمد في رواية مهنا في اليتيم: إذا أذن له في التجارة وهو يعقل البيع والشراء, فبيعه وشراؤه جائز وإن أقر أنه اقتضى شيئا من ماله جاز بقدر ما أذن له وليه فيه وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو بكر وابن أبي موسى: إنما يصح إقراره فيما أذن له في التجارة فيه في الشيء اليسير وقال الشافعي لا يصح إقراره بحال لعموم الخبر, ولأنه غير بالغ فأشبه الطفل ولأنه لا تقبل شهادته ولا روايته, فأشبه الطفل ولنا أنه عاقل مختار يصح تصرفه, فصح إقراره كالبالغ وقد دللنا على صحة تصرفه فيما مضى, والخبر محمول على رفع التكليف والإثم فإن أقر مراهق غير مأذون له ثم اختلف هو والمقر له في بلوغه فالقول قوله, إلا أن تقوم بينة ببلوغه لأن الأصل الصغر ولا يحلف المقر لأننا حكمنا بعدم بلوغه إلا أن يختلفا بعد ثبوت بلوغه فعليه اليمين أنه حين أقر لم يكن بالغًا ومن زال عقله بسبب مباح أو معذور فيه, فهو كالمجنون لا يسمع إقراره بلا خلاف وإن كان بمعصية كالسكران, ومن شرب ما يزيل عقله عامدًا لغير حاجة لم يصح إقراره ويتخرج أن يصح بناء على وقوع طلاقه وهو منصوص الشافعي لأن أفعاله تجرى مجرى الصاحى ولنا أنه غير عاقل فلم يصح إقراره, كالمجنون الذي سبب جنونه فعل محرم ولأن السكران لا يوثق بصحة ما يقول ولا تنتفى عنه التهمة فيما يخبر به, فلم يوجد معنى الإقرار الموجب لقبول قوله وأما المكره فلا يصح إقراره بما أكره على الإقرار به وهذا مذهب الشافعي لقول رسول الله: -ﷺ- ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع وإن أقر بغير ما أكره عليه مثل أن يكره على الإقرار لرجل, فأقر لغيره أو بنوع من المال فيقر بغيره, أو على الإقرار بطلاق امرأة فأقر بطلاق أخرى أو أقر بعتق عبد, صح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو أقر به ابتداء ولو أكره على أداء مال, فباع شيئا من ماله ليؤدى ذلك صح بيعه نص عليه لأنه لم يكره على البيع ومن أقر بحق ثم ادعى أنه كان مكرها, لم يقبل قوله إلا ببينة سواء أقر عند السلطان أو عند غيره لأن الأصل عدم الإكراه إلا أن يكون هناك دلالة على الإكراه, كالقيد والحبس والتوكيل به فيكون القول قوله مع يمينه لأن هذه الحال تدل على الإكراه ولو ادعى أنه كان زائل العقل حال إقراره لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل السلامة حتى يعلم غيرها ولو شهد الشهود بإقراره, لم تفتقر صحة الشهادة إلى أن يقولوا طوعا في صحة عقله لأن الظاهر سلامة الحال وصحة الشهادة وقد ذكرنا حكم إقرار السفيه والمفلس والمريض في أبوابه وأما العبد فيصح إقراره بالحد والقصاص فيما دون النفس لأن الحق له دون مولاه ولا يصح إقرار المولى عليه لأن المولى لا يملك من العبد إلا المال ويحتمل أن يصح إقرار المولى عليه بما يوجب القصاص ويجب المال دون القصاص لأن المال يتعلق برقبته وهى مال السيد, فصح إقراره به كجناية الخطأ وأما إقراره بما يوجب القصاص في النفس فالمنصوص عن أحمد أنه لا يقبل, ويتبع به بعد العتق وبه قال زفر والمزنى وداود وابن جرير الطبرى لأنه يسقط حق سيده بإقراره فأشبه الإقرار بقتل الخطأ ولأنه متهم في أنه يقر لرجل ليعفو عنه, ويستحق أخذه فيتخلص بذلك من سيده واختار أبو الخطاب أنه يصح إقراره به وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأنه أحد نوعى القصاص فصح إقراره به, كما دون النفس وبهذا الأصل ينتقض دليل الأول وينبغى على هذا القول أن لا يصح عفو ولى الجناية على مال إلا باختيار سيده لئلا يفضى إلى إيجاب المال على سيده بإقرار غيره فلا يقبل إقرار العبد بجناية الخطأ, ولا شبه العمد ولا بجناية عمد موجبها المال كالجائفة والمأمومة, لأنه إيجاب حق في رقبته وذلك يتعلق بحق المولى ويقبل إقرار المولى عليه لأنه إيجاب حق في ماله وإن أقر بسرقة موجبها المال لم يقبل إقراره, ويقبل إقرار المولى عليه لما ذكرنا وإن كان موجبها القطع والمال فأقر بها العبد وجب قطعه, ولم يجب المال سواء كان ما أقر بسرقته باقيا أو تالفا في يد السيد أو يد العبد قال أحمد في عبد أقر بسرقة دراهم في يده أنه سرقها من رجل, والرجل يدعي ذلك وسيده يكذبه: فالدراهم لسيده ويقطع العبد, ويتبع بذلك بعد العتق وللشافعى في وجوب المال في هذه الصورة وجهان ويحتمل أن لا يجب القطع لأن ذلك شبهة فيدرأ بها القطع لكونه حدا يدرأ بالشبهات وهذا قول أبي حنيفة وذلك لأن العين التي يقر بسرقتها لم يثبت حكم السرقة فيها, فلا يثبت حكم القطع بها وإن أقر العبد بسرقة لغير من هو في يده لم يقبل إقراره بالرق لأن الإقرار بالرق إقرار بالملك والعبد لا يقبل إقراره بحال, ولأننا لو قبلنا إقراره أضررنا بسيده لأنه إذا شاء أقر لغير سيده, فأبطل ملكه وإن أقر به السيد لرجل وأقر هو لآخر فهو للذى أقر له السيد لأنه في يد السيد, لا في يد نفسه ولأن السيد لو أقر به منفردا قبل ولو أقر العبد منفردا لم يقبل فإذا لم يقبل إقرار العبد منفردا فكيف يقبل مع معارضته لإقرار السيد؟ ولو قبل إقرار العبد, لما قبل إقرار السيد كالحد وجناية العمد وأما المكاتب فحكمه حكم الحر في صحة إقراره ولو أقر بجناية خطأ صح إقراره فإن عجز بيع فيها إن لم يفده سيده وقال أبو حنيفة يستسعى في الكتابة, وإن عجز بطل إقراره بها سواء قضى بها أو لم يقض وعن الشافعي كقولنا وعنه أنه مراعى إن أدى لزمه وإن عجز بطل ولنا, أنه إقرار لزمه في كتابته فلا يبطل بعجزه كالإقرار بالدين وعلى الشافعي أن المكاتب في يد نفسه فصح إقراره بالجناية, كالحر. فصل
ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق فإذا أقر لعبد بنكاح أو قصاص أو تعزير القذف صح الإقرار له صدقه المولى أو كذبه لأن الحق له دون سيده وله المطالبة بذلك, والعفو عنه وليس لسيده مطالبة به ولا عفو وإن كذبه العبد لم يقبل وإن أقر له بمال, صح ويكون لسيده لأن يد العبد كيد سيده وقال أصحاب الشافعي: إن قلنا: يملك المال صح الإقرار له وإن قلنا: لا يملك كان الإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده وإن أقر لبهيمة أو دار, لم يصح إقراره لها وكان باطلًا لأنها لا تملك المال مطلقًا ولا يد لها وإن قال: على بسبب هذه البهيمة لم يكن إقرارا لأحد, ولأنه لم يذكر لمن هي ومن شرط صحة الإقرار ذكر المقر له وإن قال: لمالكها أو لزيد على بسببها ألف صح الإقرار وإن قال: بسبب حمل هذه البهيمة لم يصح إذ لا يمكن إيجاب شيء بسبب الحمل. فصل
وإن أقر لحمل امرأة بمال, وعزاه إلى إرث أو وصية صح وكان للحمل وإن أطلق, فقال أبو عبد الله بن حامد يصح وهو أصح قولي الشافعي لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح فصح له الإقرار المطلق كالطفل فعلى هذا, إن ولدت ذكرًا أو أنثى كان بينهما نصفين وإن عزاه إلى إرث أو وصية كان بينهما على حسب استحقاقهما لذلك وقال أبو الحسن التميمي: لا يصح الإقرار إلا أن يعزيه إلى إرث أو وصية وهو قول أبي ثور والقول الثاني للشافعى لأنه لا يملك بغيرهما فإن ولدت الولد ميتا, وكان قد عزا الإقرار إلى إرث أو وصية عادت إلى ورثة الموصى وموروث الطفل وإن أطلق الإقرار, كلف ذكر السبب فيعمل بقوله فإن تعذر التفسير بموته أو غيره, بطل إقراره كمن أقر لرجل لا يعرف من أراد بإقراره وإن عزا الإقرار إلى جهة غير صحيحة فقال: لهذا الحمل علي ألف أقرضنيها, أو وديعة أخذتها منه فعلى قول التميمي الإقرار باطل وعلى قول ابن حامد ينبغي أن يصح إقراره لأنه وصل إقراره بما يسقطه, فيسقط ما وصله به كما لو قال: له علي ألف لا تلزمني وإن قال: له علي ألف جعلتها له أو نحو ذلك فهي عدة لا يؤخذ بها ولا يصح الإقرار لحمل إلا إذا تيقن أنه كان موجودا حال الإقرار على ما تبين في موضعه وإن أقر لمسجد أو مصنع أو طريق, وعزاه إلى سبب صحيح مثل أن يقول: من غلة وقفه صح وإن أطلق خرج على الوجهين. مسألة
قال:[ومن أقر بشيء, واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلًا إلا أن يستثنى عينًا من ورق, أو ورقًا من عين] في هذه المسألة فصلان: أولهما: أنه لا يصح الاستثناء في الإقرار من غير الجنس وبهذا قال زفر ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إن استثنى مكيلا أو موزونا, جاز وإن استثنى عبدا أو ثوبا من مكيل أو موزون لم يجز وقال مالك والشافعي يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقًا لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب, قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} وقال الله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قيلًا سلامًا سلامًا } وقال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس وقال آخر: عيت جوابًا وما بالربع من أحد ** إلا أواري لأيــًا ما أبينهــا ولنا أن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه وقيل: هو إخراج بعض ما تناوله المستثنى منه مشتق من ثنيت فلانًا عن رأيه إذا صرفته عن رأي كان عازمًا عليه وثنيت عنان دابتي إذا صرفتها به عن وجهتها التي كانت تذهب إليها وغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام فإذا ذكره, فما صرف الكلام عن صوبه ولا ثناه عن وجه استرساله فلا يكون استثناء, وإنما سمي استثناء تجوزا وإنما هو في الحقيقة استدراك " وإلا " هاهنا بمعنى " لكن " هكذا قال أهل العربية منهم ابن قتيبة وحكاه عن سيبويه والاستدراك لا يأتى إلا بعد الجحد, ولذلك لم يأت الاستثناء في الكتاب العزيز من غير الجنس إلا بعد النفي ولا يأتى بعده الإثبات إلا أن يوجد بعده جملة وإذا تقرر هذا, فلا مدخل للاستدراك في الإقرار لأنه إثبات للمقر به فإذا ذكر الاستدراك بعده كان باطلًا وإن ذكره بعد جملة كأن قال: له عندي مائة درهم إلا ثوبا لي عليه فيكون مقرًا بشيء مدعيا لشيء سواه, فيقبل إقراره وتبطل دعواه كما لو صرح بذلك بغير لفظ الاستثناء وأما قوله تعالى: {فسجدوا إلا إبليس} فإن إبليس كان من الملائكة, بدليل أن الله تعالى لم يأمر بالسجود غيرهم فلو لم يكن منهم لما كان مأمورا بالسجود ولا عاصيا بتركه, ولا قال الله تعالى في حقه: {ففسق عن أمر ربه} ولا قال: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} وإذا لم يكن مأمورا فلم أنكسه الله وأهبطه ودحره؟ ولم يأمر الله تعالى بالسجود إلا الملائكة فإن قالوا: بل قد تناول الأمر الملائكة ومن كان معهم فدخل إبليس في الأمر لكونه معهم قلنا: قد سقط استدلالكم فإنه متى كان إبليس داخلا في المستثنى منه, مأمورًا بالسجود فاستثناؤه من الجنس وهذا ظاهر لمن أنصف, -إن شاء الله تعالى- فعلى هذا متى قال: له علي ألف درهم إلا ثوبًا لزمه الألف وسقط الاستثناء, بمنزلة ما لو قال: له علي ألف درهم لكن لي عليه ثوب الفصل الثانى: إذا استثنى عينا من ورق أو ورقا من عين, فاختلف أصحابنا في صحته فذهب أبو بكر عبد العزيز إلى أنه لا يصح لما ذكرنا وهو قول محمد بن الحسن وقال ابن أبي موسى: فيه روايتان واختار الخرقى صحته لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر ويعبر بأحدهما عن الآخر فإن قوما يسمون تسعة دراهم دينارا, وآخرون يسمون ثمانية دراهم دينارا فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنه أراد التعبير بأحدهما عن الآخر, فإذا قال: له على دينار إلا ثلاثة دراهم في موضع يعبر فيه بالدينار عن تسعة كان معناه: له على تسعة دراهم إلا ثلاثة ومتى أمكن حمل الكلام على وجه صحيح, لم يجز إلغاؤه وقد أمكن بهذا الطريق فوجب تصحيحه وقال أبو الخطاب لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما, فيلزم من صحة استثناء أحدهما من الآخر صحة استثناء الثياب وغيرها وقد ذكرنا الفرق ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل رواية الصحة على ما إذا كان أحدهما يعبر به عن الآخر أو يعلم قدره منه ورواية البطلان على ما إذا انتفى ذلك, والله أعلم. فصل
ولو ذكر نوعا من جنس واستثنى نوعا آخر من ذلك الجنس مثل أن يقول: له على عشرة آصع تمرا برنيا إلا ثلاثة تمرا معقليا لم يجز لما ذكرناه في الفصل الأول ويخالف العين والورق لأن قيمة أحد النوعين غير معلومة من الآخر, ولا يعبر بأحدهما عن الآخر ويحتمل على قول الخرقى جوازه لتقارب المقاصد من النوعين فهما كالعين والورق والأول أصح لأن العلة الصحيحة في العين والورق غير ذلك. فصل
فأما استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه فجائز بغير خلاف علمناه فإن ذلك في كلام العرب, وقد جاء في الكتاب والسنة قال الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} وقال: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وقال النبى -ﷺ- في الشهيد: ( يكفر عنه خطاياه كلها إلا الدين ) وهذا في الكتاب والسنة كثير وفي سائر كلام العرب فإذا أقر بشيء, واستثنى منه كان مقرًا بالباقى بعد الاستثناء فإذا قال: له على مائة إلا عشرة كان مقرًا بتسعين لأن الاستثناء يمنع أن يدخل في اللفظ ما لولاه لدخل, فإنه لو دخل لما أمكن إخراجه ولو أقر بالعشرة المستثناة لما قبل منه إنكارها وقول الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا} إخبار بتسعمائة وخمسين فالاستثناء بين أن الخمسين المستثناة غير مرادة, كما أن التخصيص يبين أن المخصوص غير مراد باللفظ العام وإن قال: هذه الدار لزيد إلا هذا البيت كان مقرًا بما سوى البيت منها وكذلك إن قال: إلا ثلثها أو ربعها صح, وكان مقرًا بالباقي بعد المستثني وكذلك إن قال: هذه الدار له وهذا البيت لي صح أيضا لأنه في معنى الاستثناء لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ الأول بكلام متصل وإن قال: له هؤلاء العبيد إلا هذا صح, وكان مقرًا بمن سواه منهم وإن قال: إلا واحدا صح لأن الإقرار يصح مجهولا فكذلك الاستثناء منه ويرجع في تعيين المستثنى إليه, لأن الحكم يتعلق بقوله وهو أعلم بمراده به وإن عين من عدا المستثني صح, وكان الباقي له فإن هلك العبيد إلا واحدا فذكر أنه المستثنى قبل ذكره القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب لا يقبل, في أحد الوجهين وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه يرفع به الإقرار كله والصحيح أنه يقبل لأنه يقبل تفسيره به في حياتهم لمعنى هو موجود بعد موتهم فقبل كحالة حياتهم وليس هذا رفعا للإقرار, وإنما تعذر تسليم المقر به لتلفه لا لمعنى يرجع إلى التفسير فأشبه ما لو عينه في حياتهم, فتلف بعد تعيينه وإن قتل الجميع إلا واحدا قبل تفسيره بالباقى وجها واحدا وإن قتل الجميع, فله قيمة أحدهم ويرجع في التفسير إليه وإن قال: غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحدا فهلكوا إلا واحدا قبل تفسيره به وجها واحدا لأن المقر له يستحق قيمة الهالكين, فلا يفضى التفسير بالباقى إلى سقوط الإقرار بخلاف التي قبلها فصل
وحكم الاستثناء بسائر أدواته حكم الاستثناء بإلا فإذا قال: له على عشرة سوى درهم, أو ليس درهما أو خلا درهما أو عدا درهما, أو ما خلا أو ما عدا درهما أو لا يكون درهما أو غير درهم بفتح الراء كان مقرًا بتسعة وإن قال: غير درهم, بضم رائها وهو من أهل العربية كان مقرًا بعشرة, لأنها تكون صفة للعشرة المقر بها ولا يكون استثناء فإنها لو كانت استثناء كانت منصوبة وإن لم يكن من أهل العربية, لزمه تسعة لأن الظاهر أنه إنما يريد الاستثناء لكنه رفعها جهلا منه بالعربية لا قصدا للصفة. فصل
ولا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلا بالكلام فإن سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه, أو فصل بين المستثنى منه والمستثنى بكلام أجنبى لم يصح لأنه إذا سكت أو عدل عن إقراره إلى شيء آخر استقر حكم ما أقر به, فلم يرتفع بخلاف ما إذا كان في كلامه فإنه لا يثبت حكمه وينتظر ما يتم به كلامه, ويتعلق به حكم الاستثناء والشرط والعطف والبدل ونحوه. فصل
ولا يصح استثناء الكل بغير خلاف لأن الاستثناء رفع بعض ما تناوله اللفظ واستثناء الكل رفع الكل فلو صح صار الكلام كله لغوا غير مفيد, فإن قال: له على درهم ودرهم إلا درهما أو ثلاثة دراهم ودرهمان إلا درهمين أو ثلاثة ونصف إلا نصفا أو إلا درهما أو خمسة وتسعون إلا خمسة لم يصح الاستثناء ولزمه جميع ما أقر به قبل الاستثناء وهذا قول الشافعي وهو الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة, وفيه وجه آخر أنه يصح لأن الواو العاطفة تجمع بين العددين وتجعل الجملتين كالجملة الواحدة, ومن أصلنا أن الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض بالواو عاد إلى جميعها كقولنا في قول الله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} إن الاستثناء عاد إلى الجملتين, فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ومن ذلك قول النبى -ﷺ- ( لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ) والوجه الأول أولى لأن الواو لم تخرج الكلام من أن يكون جملتين والاستثناء يرفع إحداهما جميعا, ولا نظير لهذا في كلامهم ولأن صحة الاستثناء تجعل إحدى الجملتين مع الاستثناء لغوا لأنه أثبت شيئا بلفظ مفرد, ثم رفعه كله فلا يصح كما لو استثنى منها وهى غير معطوفة على بعضها, فأما الآية والخبر فإن الاستثناء لم يرفع إحدى الجملتين إنما أخرج من الجملتين معا من اتصف بصفة, فنظيره ما لو قال للبواب: من جاء يستأذن فأذن له وأعطه درهما إلا فلانًا ونظير مسألتنا ما لو قال: أكرم زيدا وعمرا إلا عمرا وإن قال: له على درهمان وثلاثة إلا درهمين لم يصح أيضا لأنه يرفع الجملة الأولى كلها, فأشبه ما لو قال: أكرم زيدا وعمرا إلا زيدا وإن قال: له على ثلاثة وثلاثة إلا درهمين خرج فيه وجهان لأنه استثنى أكثر الجملة التي تليه واستثناء الأكثر فاسد, كاستثناء الكل. فصل
وإن استثنى استثناء بعد استثناء وعطف الثاني على الأول كان مضافا إليه فإذا قال: له على عشرة إلا ثلاثة, وإلا درهمين كان مستثنيا لخمسة مبقيا لخمسة وإن كان الثاني غير معطوف على الأول كان استثناء من الاستثناء وهو جائز في اللغة, قد جاء في كلام الله تعالى في قوله: {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} فإذا كان صدر الكلام إثباتا كان الاستثناء الأول نفيا والثاني إثباتا فإن استثنى استثناء ثالثا, كان نفيا يعود كل استثناء إلى ما يليه من الكلام فإذا قال: له على عشرة إلا ثلاثة إلا درهما كان مقرًا بثمانية لأنه أثبت عشرة ثم نفى منها ثلاثة وأثبت درهما, وبقى من الثلاثة المنفية درهمان مستثنيان من العشرة فيبقى منها ثمانية وسنزيد لهذا الفصل فروعا في مسألة استثناء الأكثر. فصل
إذا قال: له هذه الدار هبة, أو سكنى أو عارية كان إقرارا بما أبدل به كلامه ولم يكن إقرارا بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله, فصح كما لو أقر بجملة واستثنى بعضها وذكر القاضي في هذا وجها أنه لا يصح لأنه استثناء من غير الجنس, وليس هذا استثناء إنما هذا بدل وهو سائغ في اللغة ويسمى هذا النوع من البدل بدل الاشتمال, وهو أن يبدل من الشيء بعض ما يشتمل عليه ذلك الشيء كقوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} فأبدل القتال من الشهر المشتمل عليه وقال تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام أنه قال: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} أي أنساني ذكره وإن قال: له هذه الدار ثلثها أو قال: ربعها صح, ويكون مقرًا بالجزء الذي أبدله وهذا بدل البعض وليس ذلك باستثناء ومثله قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلًا نصفه} وقوله سبحانه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا} ولكنه في معنى الاستثناء, في كونه يخرج من الكلام بعض ما يدخل فيه لولاه ويفارقه في أنه يجوز أن يخرج أكثر من النصف وأنه يجوز إبدال الشيء من غيره إذا كان مشتملا عليه, ألا ترى أن الله تعالى أبدل المستطيع للحج من الناس وهو أقل من نصفهم وأبدل القتال من الشهر الحرام, وهو غيره؟ ومتى قال: له هذه الدار سكنى أو عارية ثبت فيها حكم ذلك وله أن لا يسكنه إياها وأن يعود فيما أعاره. مسألة
قال:[ومن ادعى عليه شيء فقال قد كان له علي وقضيته لم يكن ذلك إقرارًا] حكى ابن أبي موسى في هذه المسألة روايتين إحداهما أن هذا ليس بإقرار اختاره القاضي وقال: لم أجد عن أحمد رواية بغير هذا والثانية, أنه مقر بالحق مدع لقضائه فعليه البينة بالقضاء وإلا حلف غريمه وأخذ واختاره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر بالدين, وادعى القضاء فلم تقبل دعواه كما لو ادعى القضاء بكلام منفصل, ولأنه رفع جميع ما أثبته فلم يقبل كاستثناء الكل وللشافعى قولان كالمذهبين ووجه قول الخرقى أنه قول متصل, يمكن صحته ولا تناقض فيه فوجب أن يقبل كاستثناء البعض, وفارق المنفصل لأن حكم الأول قد استقر بسكوته عليه فلا يمكن رفعه بعد استقراره ولذلك لا يرتفع بعضه باستثناء ولا غيره, فما يأتى بعده من دعوى القضاء يكون دعوى مجردة لا تقبل إلا ببينة وأما استثناء الكل فمتناقض لأنه لا يمكن أن يكون عليه ألف وليس عليه شيء. فصل
وإن قال: له على مائة, وقضيته منها خمسين فالكلام فيها كالكلام فيما إذا قال: وقضيتها وإن قال له إنسان: لي عليك مائة فقال: قضيتك منها خمسين فقال القاضي: لا يكون مقرًا بشيء لأن الخمسين التي ذكر أنه قضاها في كلامه ما تمنع بقاءها وهو دعوى القضاء وباقى المائة لم يذكرها, وقوله: منها يحتمل أن يريد بها مما يدعيه ويحتمل مما على فلا يثبت عليه شيء بكلام محتمل ويجيء على قول من قال بالرواية الأخرى أن يلزمه الخمسون التي ادعى قضاءها لأن في ضمن دعوى القضاء إقرارا بأنها كانت عليه, فلا تقبل دعوى القضاء بغير بينة. فصل
وإن قال: كان له علي ألف وسكت لزمه الألف في ظاهر كلام أصحابنا وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر: لا يلزمه شيء, وليس هذا بإقرار لأنه لم يذكر عليه شيئا في الحال إنما أخبر بذلك فجاز في زمن ماض فلا يثبت في الحال, ولذلك لو شهدت البينة به لم يثبت ولنا أنه أقر بالوجوب ولم يذكر ما يرفعه, فبقى على ما كان عليه ولهذا لو تنازعا دارا فأقر أحدهما للآخر أنها كانت ملكه, حكم بها له إلا أنه هاهنا إن عاد فادعى القضاء أو الإبراء سمعت دعواه لأنه لا تنافى بين إقراره وبين ما يدعيه. فصل
وإن قال: له على ألف, قضيته إياها لزمه الألف ولم تقبل دعوى القضاء وقال القاضي: تقبل لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلا فأشبه ما لو قال: كان له علي, وقضيته وقال ابن أبي موسى إن قال: قضيت جميعه لم يقبل إلا ببينة ولزمه ما أقر به وله اليمين على المقر له ولو قال: قضيت بعضه قبل منه, في إحدى الروايتين لأنه رفع بعض ما أقر به بكلام متصل فأشبه ما لو استثناه بخلاف ما إذا قال: قضيت جميعه لكونه رفع جميع ما هو ثابت, فأشبه استثناء الكل ولنا أن هذا قول متناقض إذ لا يمكن أن يكون عليه ألف قد قضاه, فإن كونه عليه يقتضي بقاءه في ذمته واستحقاق مطالبته به وقضاؤه يقتضي براءة ذمته منه, وتحريم مطالبته به والإقرار به يقتضي ثبوته والقضاء يقتضي رفعه, وهذان ضدان لا يتصور اجتماعهما في زمن واحد بخلاف ما إذا قال: كان له على وقضيته فإنه أخبر بهما في زمانين, ويمكن أن يرتفع ما كان ثابتا ويقضى ما كان دينا وإذا لم يصح هذا في الجميع, لم يصح في البعض لاستحالة بقاء ألف عليه وقد قضى بعضه ويفارق الاستثناء فإن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عن الباقي من المستثنى منه فقول الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا} عبارة عن تسعمائة وخمسين أما القضاء فإنما يرفع جزءا كان ثابتا, فإذا ارتفع بالقضاء لا يجوز التعبير عنه بما يدل على البقاء. فصل
وإن وصل إقراره بما يسقطه فقال: له علي ألف من ثمن خمر أو خنزير أو من ثمن طعام اشتريته فهلك قبل قبضه, أو ثمن مبيع فاسد لم أقبضه أو تكفلت به على أنى بالخيار لزمه الألف ولم يقبل قوله في إسقاطه ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وذكر القاضي أنه إذا قال: له علي ألف زيوف ففسره برصاص أو نحاس, لم يقبل لأنه رفع كل ما اعترف به وقال في سائر الصور التي ذكرناها: يقبل قوله لأنه عزا إقراره إلى سببه فقبل كما لو عزاه إلى سبب صحيح ولنا أن هذا يناقض ما أقر به, فلم يقبل كالصورة التي سلمها وكما لو قال: له علي ألف لا يلزمنى أو يقول: دفع جميع ما أقر به فلم يقبل, كاستثناء الكل وغير خاف تناقض كلامه فإن ثبوت ألف عليه في هذه المواضع لا يتصور وإقراره إخبار بثبوته فيتنافيان, وإن سلم ثبوت الألف عليه فهو ما قلناه. فصل
ولا يقبل رجوع المقر عن إقراره إلا فيما كان حدا لله تعالى يدرأ بالشبهات, ويحتاط لإسقاطه فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات, فلا يقبل رجوعه عنها ولا نعلم في هذا خلافا فإذا قال: هذه الدار لزيد لا بل لعمرو أو ادعى زيد على ميت شيئا معينا من تركته فصدقه ابنه, ثم ادعاه عمرو فصدقه حكم به لزيد ووجبت عليه غرامته لعمرو وهذا ظاهر أحد قولي الشافعي وقال في الآخر: لا يغرم لعمرو شيئا وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر له بما عليه الإقرار به, وإنما منعه الحكم من قبوله وذلك لا يوجب الضمان ولنا أنه حال بين عمرو وبين ملكه الذي أقر له به بإقراره لغيره, فلزمه غرمه كما لو شهد رجلان على آخر بإعتاق عبده ثم رجعا عن الشهادة, أو كما لو رمى به إلى البحر ثم أقر به وإن قال: غصبت هذه الدار من زيد لا بل من عمرو أو غصبتها من زيد, وغصبها زيد من عمرو حكم بها لزيد ولزمه تسليمها إليه ويغرمها لعمرو وبهذا قال أبو حنيفة وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال في الآخر: لا يضمن لما تقدم ولنا, أنه أقر بالغصب الموجب للضمان والرد إلى المغصوب منه ثم لم يرد ما أقر بغصبه فلزمه ضمانه, كما لو تلف بفعل الله تعالى قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل قال لرجل: استودعتك هذا الثوب قال: صدقت, ثم قال: استودعنيه رجل آخر فالثوب للأول ويغرم قيمته للآخر ولا فرق في هذا الفصل بين أن يكون إقراره بكلام متصل أو منفصل. فصل
فإن قال: غصبت هذه الدار من زيد وملكها لعمرو لزمه دفعها إلى زيد لإقراره له بأنها كانت في يده, وهذا يقتضي كونها في يده بحق وملكها لعمرو لا ينافى ذلك لأنها يجوز أن تكون في يد زيد بإجارة أو عارية أو وصية ولا يغرم لعمرو شيئا لأنه لم يكن منه تفريط وفارق هذا ما إذا قال: هذه الدار لزيد, بل لعمرو لأنه أقر للثانى بما أقر به للأول فكان الثاني رجوعا عن الأول لتعارضهما وها هنا لا تعارض بين إقراريه وإن قال: ملكها لعمرو, وغصبتها من زيد فكذلك لا فرق بين التقديم والتأخير والمتصل والمنفصل ذكره القاضي وقيل: يلزمه دفعها إلى عمرو ويغرمها لزيد لأنه لما أقر بها لعمرو أولا لم يقبل إقراره باليد لزيد وهذا وجه حسن ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولو قال: هذا الألف دفعه إلى زيد, وهو لعمرو أو قال: هو لعمرو دفعه إلى زيد فكذلك على ما مضى من القول فيه. فصل
وإن قال: غصبتها من أحدهما أو هي لأحدهما صح الإقرار لأنه يصح بالمجهول فيصح للمجهول, ويطالب بالبيان فإن عين أحدهما دفعت إليه ويحلف للآخر إن ادعاها, ولا يغرم له شيئا لأنه لم يقر له بشيء وإن قال: لا أعرفه عينا فصدقاه نزعت من يده وكانا خصمين فيها, وإن كذباه فعليه اليمين أنه لا يعلم وتنزع من يده فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها, وإن لم تكن له بينة أقرعنا بينهما فمن قرع صاحبه حلف, وسلمت إليه وإن بين الغاصب بعد ذلك مالكها قبل منه كما لو بينه ابتداء ويحتمل أنه إذا ادعى كل واحد منهما أنه المغصوب منه, توجهت عليه اليمين لكل واحد منهما أنه لم يغصبه فإن حلف لأحدهما لزمه دفعها إلى الآخر لأن ذلك يجرى مجرى تعيينه, وإن نكل عن اليمين لهما جميعا فسلمت إلى أحدهما بقرعة أو غيرها لزمه غرمها للآخر لأنه نكل عن يمين توجهت عليه, فقضى عليه كما لو ادعاها وحده. فصل
فإن كان في يده عبدان فقال: أحد هذين لزيد طولب بالبيان, فإن عين أحدهما فصدقه زيد أخذه وإن قال: هذا لي والعبد الآخر لزيد فعليه اليمين في العبد الذي ينكره وإن قال زيد: إنما لي العبد الآخر فالقول قول المقر مع يمينه في العبد الذي ينكره ولا يدفع إلى زيد العبد المقر به ولكن يقر في يد المقر لأنه لم يصح إقراره به, في أحد الوجهين وفي الآخر ينزع من يده, لاعترافه بأنه لا يملكه ويكون في بيت المال لأنه لا مالك له معروف فأشبه ميراث من لا يعرف وارثه فإن أبي التعيين, فعينه المقر له وقال: هذا عبدى طولب بالجواب فإن أنكر حلف, وكان بمنزلة تعيينه للآخر وإن نكل عن اليمين يقضى عليه وإن أقر له, فهو كتعيينه. فصل
ولو أقر لرجل بعبد ثم جاءه به فقال: هذا الذي أقررت به فقال: ليس هو هذا, إنما هو آخر فعلى المقر اليمين أنه ليس له عنده سواه ولا يلزمه تسليم هذا إلى المقر له لأنه لا يدعيه وإن قال: هذا لي ولى عندك آخر سلم إليه هذا, وحلف له على نفى الآخر وكل من أقر لرجل بملك فكذبه بطل إقراره لأنه لا يثبت للإنسان ملك لا يعترف به وفي المال وجهان أحدهما, يترك في يد المقر لأنه كان محكوما له به فإذا بطل إقراره بقى على ما كان عليه والثاني يؤخذ إلى بيت المال لأنه لم يثبت له مالك وقيل: يؤخذ فيحفظ حتى يظهر مالكه لأنه لا يدعيه أحد ومذهب الشافعي مثل هذا فإن عاد أحدهما فكذب نفسه, دفع إليه لأنه يدعيه ولا منازع له فيه وإن كذب كل واحد منهما, نفسه فرجع المقر عن إقراره وادعاه المقر له, فإن كان باقيا في يد المقر فالقول قوله مع يمينه كما لو لم يقر به لغيره, وإن كان معدوما بتلف أو إباق ونحوه بغير تعد من أحدهما فلا شيء فيه من يمين ولا غيرها, وإن كان بتعد من أحدهما فالقول فيه قول المقر مع يمينه كما لو كان باقيا فإذا حلف, سقط عنه الضمان وإن كان تلفه بتعديه ووجب له الضمان على الآخر, إن كان تلفه بتعد منه والله أعلم. مسألة
قال: [ومن أقر بعشرة دراهم, ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم قال: زيوفا أو صغارا أو إلى شهر كانت عشرة جيادًا وافية حالة] وجملته أن من أقر بدراهم وأطلق, اقتضى إقراره الدراهم الوافية وهى دراهم الإسلام كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل, وكل درهم ستة دوانق واقتضى أن تكون جيادا حالة, كما لو باعه بعشرة دراهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك فإذا سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه, أو أخذ في كلام غير ما كان فيه استقرت عليه كذلك فإن عاد فقال: زيوفا يعني رديئة أو صغارا وهى الدراهم الناقصة, مثل دراهم طبرية كان كل درهم منها أربعة دوانق وذلك ثلثا درهم أو إلى شهر يعني مؤجلة, لم يقبل منه لأنه يرجع عن بعض ما أقر به ويرفعه بكلام منفصل فلم يقبل, كالاستثناء المنفصل وهذا مذهب الشافعي ولا فرق بين الإقرار بها دينا أو وديعة أو غصبا وقال أبو حنيفة يقبل قوله في الغصب الوديعة لأنه أقر بفعل في عين, وذلك لا يقتضي سلامتها فأشبه ما لو أقر بغصب عبد ثم جاء به معيبا ولنا, أن إطلاق الاسم يقتضي الوازنة الجياد فلم يقبل تفسيره بما يخالف ذلك كالدين, ويفارق العبد فإن العيب لا يمنع إطلاق اسم العبد عليه فأما إن وصفها بذلك بكلام متصل أو سكت للتنفس أو اعترضته سعلة, أو نحو ذلك ثم وصفها بذلك أو شيء منه, قبل منه وذكر أبو الخطاب أنه يحتمل أن لا يقبل منه التأجيل وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق فلم يقبل كما لو قال: له على دراهم قضيته إياها وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يقبل تفسيره بالناقصة وقال القاضي: إن قال: له على عشرة دراهم ناقصة قبل قوله وإن قال: صغارا وللناس دراهم صغار, قبل قوله أيضا وإن لم يكن له دراهم صغار لزمه وازنة كما لو قال: دريهم لزمه درهم وازن وهذا قول ابن القاص من أصحاب الشافعي ولنا أنه فسر كلامه بما يحتمله بكلام متصل, فقبل منه كاستثناء البعض وذلك لأن الدراهم يعبر بها عن الوازنة والناقصة, والزيوف والجيدة وكونها عليه يحتمل الحلول والتأجيل فإذا وصفها بذلك, تقيدت به كما لو وصف الثمن به فقال: بعتك بعشرة دراهم, مؤجلة ناقصة وثبوتها على غير هذه الصفة حالة الإطلاق لا يمنع من صحة تقييدها به كالثمن وقولهم: إن التأجيل يمنع استيفاءها ليس بصحيح, وإنما يؤخره فأشبه الثمن المؤجل يحققه أن الدراهم تثبت في الذمة على هذه الصفات فإذا كانت ثابتة بهذه الصفة, لم تقتض الشريعة المطهرة سد باب الإقرار بها على صفتها وعلى ما ذكروه لا سبيل له إلى الإقرار بها إلا على وجه يؤاخذ بغير ما هو واجب عليه فيفسد باب الإقرار وقول من قال: إن قوله " صغارا " ينصرف إلى المقدار لا يصح لأن مساحة الدراهم لا تعتبر في الشرع ولا تثبت في الذمة بمساحة مقدرة, وإنما يعتبر الصغر والكبر في الوزن فيرجع إلى تفسير المقر فأما إن قال: زيوفا وفسرها بمغشوشة, أو معيبة عيبا ينقصها قبل تفسيره وإن فسرها بنحاس أو رصاص, أو ما لا قيمة له لم يقبل لأن تلك ليست دراهم على الحقيقة فيكون تفسيره به رجوعا عما أقر به, فلم يقبل كاستثناء الكل. فصل
وإن أقر بدراهم وأطلق في بلد أوزانهم ناقصة, كطبرية كان درهمهم أربعة دوانيق وخوارزم كان درهمهم أربعة دوانيق ونصفا, ومكة درهمهم ناقص وكذلك المغرب أو في بلد دراهمهم مغشوشة, كمصر والموصل أو بدنانير في بلد دنانيرهم مغشوشة ففيه وجهان أولهما يلزمه من دراهم البلد ودنانيره لأن مطلق كلامهم يحمل على عرف بلدهم, كما في البيع والأثمان والثاني تلزمه الوازنة الخالصة من الغش لأن إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إليها بدليل أن بها تقدير نصب الزكاة ومقادير الديات, فكذلك إطلاق الشخص وفارق البيع فإنه إيجاب في الحال فاختص بدراهم الموضع الذي هما فيه والإقرار إخبار عن حق سابق فانصرف إلى دراهم الإسلام. فصل
وإن أقر بدراهم, وأطلق ثم فسرها بسكة البلد الذي أقر بها فيه قبل لأن إطلاقه ينصرف إليه, وإن فسرها بسكة غير سكة البلد أجود منها قبل لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وكذلك إن كانت مثلها لأنه لا يتهم في ذلك, وإن كانت أدنى من سكة البلد لكنها مساوية في الوزن احتمل أن لا يقبل لأن إطلاقها يقتضي دراهم البلد ونقده, فلا يقبل منه دونها كما لا يقبل في البيع ولأنها ناقصة القيمة, فلم يقبل تفسيره بها كالناقصة وزنا ويحتمل أن يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل ما فسره به وفارق الناقصة لأن إطلاق الشرع الدراهم, لا يتناولها بخلاف هذه ولهذا يتعلق بهذه مقدار النصاب في الزكاة وغيره, وفارق الثمن فإنه إيجاب في الحال وهذا إخبار عن حق سابق. فصل
وإن قال: له على درهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لأنه كبير في العرف وإن قال: له على دريهم فهو كما لو قال: درهم لأن التصغير قد يكون لصغره في ذاته أو لقلة قدره عنده وتحقيره, وقد يكون لمحبته كما قال الشاعر: بذيالك الوادى أهيم ولم أقل ** بذيالك الوادى وذياك من زهد ولكن إذا ما حب شيء تولعت ** به أحرف التصغير من شدة الوجد وإن قال: له على عشرة دراهم عددا لزمته عشرة معدودة وازنة لأن إطلاق الدراهم يقتضي وازنة وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما فإن كان في بلد يتعاملون بها عددا من غير وزن, فحكمه حكم ما لو أقر بها في بلد أوزانهم ناقصة أو دراهمهم مغشوشة على ما فصل فيه. فصل
وإذا أقر بدرهم, ثم أقر بدرهم لزمه درهم واحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه درهمان كما لو قال: له على درهم ودرهم ولا فرق بين أن يكون الإقرار في وقت واحد أو في أوقات, أو في مجلس واحد أو مجالس ولنا أنه يجوز أن يكون قد كرر الخبر عن الأول كما كرر الله تعالى الخبر عن إرساله نوحًا وهودًا وصالحًا ولوطًا وشعيبًا وإبراهيم وموسى وعيسى, ولم يكن المذكور في قصة غير المذكور في أخرى كذا هاهنا فإن وصف أحدهما وأطلق الآخر فكذلك لأنه يجوز أن يكون المطلق هو الموصوف, أطلقه في حال ووصفه في حال وإن وصفه بصفة واحدة في المرتين كان تأكيدا لما ذكرنا وإن وصفه في إحدى المرتين بغير ما وصفه في الأخرى, فقال: درهم من ثمن مبيع ثم قال: له على درهم من قرض أو درهم من ثمن ثوب ثم قال: درهم من ثمن عبد أو قال: درهم أبيض ثم قال: درهم أسود فهما درهمان لأنهما متغايران. فصل
وإن قال: له على درهم ودرهم أو درهم ثم درهم أو درهم فدرهم أو درهم ثم درهم لزمه درهمان وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه وذكر القاضي وجها, فيما إذا قال: درهم فدرهم وقال: أردت: درهم فدرهم لازم لي أنه يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل الصفة ولنا أن الفاء أحد حروف العطف الثلاثة, فأشبهت الواو وثم ولأنه عطف شيئا على شيء بالفاء فاقتضى ثبوتهما, كما لو قال: أنت طالق فطالق وقد سلمه الشافعي وما ذكروه من احتمال الصفة بعيد لا يفهم حالة الإطلاق فلا يقبل تفسيره به, كما لو فسر الدراهم المطلقة بأنها زيوف أو صغار أو مؤجلة وإن قال: له على درهم ودرهمان لزمته ثلاثة وإن قال: له على درهم ودينار أو فدينار أو قفيز حنطة ونحو ذلك لزمه ذلك كله وإن قال: له على درهم ودرهم ودرهم لزمته ثلاثة وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا, أنه إذا قال: أردت بالثالث تأكيد الثاني وبيانه أنه يقبل وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الثالث في لفظ الثاني وظاهر مذهبه أنه تلزمه الثلاثة لأن الواو للعطف والعطف يقتضي المغايرة, فوجب أن يكون الثالث غير الثاني كما كان الثاني غير الأول والإقرار لا يقتضي تأكيدا, فوجب حمله على العدد وكذلك الحكم إذا قال: له على درهم فدرهم فدرهم أو درهم ثم درهم ثم درهم وإن قال: له على درهم ودرهم ثم درهم أو درهم فدرهم ثم درهم, أو درهم ثم درهم فدرهم لزمته الثلاثة وجها واحدا لأن الثالث مغاير للثانى لاختلاف حرفى العطف الداخلين عليهما, فلم يحتمل التأكيد. فصل
وإن قال: له على درهم بل درهمان أو درهم لكن درهمان لزمه درهمان وبه قال الشافعي وقال زفر وداود تلزمه ثلاثة لأن " بل " للإضراب فلما أقر بدرهم وأضرب عنه, لزمه لأنه لا يقبل رجوعه عما أقر به ولزمه الدرهمان اللذان أقر بهما ولنا أنه إنما نفى الاقتصار على واحد, وأثبت الزيادة عليه فأشبه ما لو قال: له على درهم بل أكثر فإنه لا يلزمه أكثر من اثنين وإن قال: له على درهم, بل درهم أو لكن درهم ففيه وجهان أحدهما يلزمه درهم واحد لأن أحمد قال في من قال لامرأته: أنت طالق, لا بل أنت طالق: إنها لا تطلق إلا واحدة وهذا في معناه وهذا مذهب الشافعي لأنه أقر بدرهم مرتين فلم يلزمه أكثر من درهم كما لو أقر بدرهم ثم أنكره, ثم قال: بل على درهم و " لكن " للاستدراك فهي في معنى " بل " إلا أن الصحيح أنها لا تستعمل إلا بعد الجحد إلا أن يذكر بعدها جملة والوجه الثاني, يلزمه درهمان ذكره ابن أبي موسى وأبو بكر عبد العزيز ويقتضيه قول زفر وداود لأن ما بعد الإضراب يغاير ما قبله فيجب أن يكون الدرهم الذي أضرب عنه غير الدرهم الذي أقر به بعده فيجب الاثنان, كما لو قال: له على درهم بل دينار ولأن " بل " من حروف العطف والمعطوف غير المعطوف عليه, فوجبا جميعا كما لو قال: له على درهم درهم ولأنا لو لم نوجب عليه إلا درهما جعلنا كلامه لغوا, وإضرابه عنه غير مفيد والأصل في كلام العاقل أن يكون مفيدا ولو كان الذي أضرب عنه لا يمكن أن يكون المذكور بعده ولا بعضه, مثل أن يقول: له على درهم بل دينار أو ديناران أو: له على قفيز حنطة بل قفيز شعير أو: هذا الدرهم, بل هذان لزمه الجميع بغير خلاف علمناه لأن الأول لا يمكن أن يكون الثاني ولا بعضه فكان مقرا, بهما ولا يقبل رجوعه عن شيء منهما وكذلك كل جملتين أقر بإحداهما ثم رجع إلى الأخرى لزماه وإن قال: له على درهمان, بل درهم أو عشرة بل تسعة لزمه الأكثر لأنه أضرب عن واحد ونفاه بعد إقراره به, فلم يقبل نفيه له بخلاف الاستثناء فإنه لا ينفى شيئا أقر به وإنما هو عبارة عن الباقي بعد الاستثناء, فإذا قال: عشرة إلا درهما كان معناه تسعة. فصل
وإن قال: له ما على ما بين درهم وعشرة لزمته ثمانية لأن ذلك ما بينهما وإن قال: من درهم إلى عشرة ففيه ثلاثة أوجه أحدها تلزمه تسعة وهذا يحكى عن أبي حنيفة لأن " من " لابتداء الغاية, وأول الغاية منها و " إلى " لانتهائها فلا يدخل فيها, كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} والثاني تلزمه ثمانية لأن الأول والعاشر حدان فلا يدخلان في الإقرار, ولزمه ما بينهما كالتي قبلها والثالث تلزمه عشرة لأن العاشر أحد الطرفين, فيدخل فيها كالأول وكما لو قال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فإن قال: أردت بقولى من واحد إلى عشرة مجموع الأعداد كلها أي الواحد والاثنين وكذلك إلى العشرة, لزمه خمسة وخمسون درهما واختصار حسابه أن تزيد أول العدد وهو الواحد على العشرة فيصير أحد عشر ثم تضربها في نصف العشرة, فما بلغ فهو الجواب. فصل
وإن قال: له على دراهم لزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن قال: له على دراهم كثيرة أو وافرة أو عظيمة لزمه ثلاثة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقبل تفسيره بدون العشرة لأنها أقل جمع الكثرة وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقبل أقل من مائتين لأن بها يحصل الغنى, وتجب الزكاة ولنا أن الكثرة والعظمة لا حد لها شرعا ولا لغة ولا عرفا وتختلف بالإضافات وأحوال الناس, فالثلاثة أكثر مما دونها وأقل مما فوقها ومن الناس من يستعظم اليسير ومنهم من لا يستعظم الكثير, ويحتمل أن المقر أراد كثيرة بالنسبة إلى ما دونها أو كثيرة في نفسه فلا تجب الزيادة بالاحتمال. فصل
وإن قال: له على درهمان في عشرة وقال: أردت الحساب لزمه عشرون وإن قال: أردت درهمين مع عشرة ولم يكن يعرف الحساب, قبل منه ولزمه اثنا عشر لأن كثيرًا من العامة يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى وإن كان من أهل الحساب احتمل أن لا يقبل لأن الظاهر من الحساب استعمال ألفاظه لمعانيها في اصطلاحهم, ويحتمل أن يقبل لأنه لا يمنع أن يستعمل اصطلاح العامة وإن قال: أردت درهمين في عشرة لي لزمه درهمان لأنه يحتمل ما يقول وإن قال: درهمان في دينار لم يحتمل الحساب وسئل عن مراده فإن قال: أردت العطف أو معنى مع لزمه الدرهمان والدينار وإن قال: أسلمتهما في دينار فصدقه المقر له بطل إقراره لأن سلم أحد النقدين في الآخر لا يصح, وإن كذبه فالقول قول المقر له لأن المقر وصل إقراره بما يسقطه فلزمه ما أقر به, وبطل قوله في دينار وكذلك إن قال: له على درهمان في ثوب وفسره بالسلم أو قال: في ثوب اشتريته منه إلى سنة فصدقه بطل إقراره لأنه إن كان بعد التفرق, بطل السلم وسقط الثمن وإن كان قبل التفرق فالمقر بالخيار بين الفسخ والإمضاء وإن كذبه المقر له فالقول قوله مع يمينه, وله الدرهمان. فصل
وإن قال: له عندي درهم في ثوب أو في كيس أو زيت في جرة, أو تبن في غرارة أو تمر في جراب أو سكين في قراب, أو فص في خاتم أو كيس في صندوق أو قال: غصبت منه ثوبا في منديل أو زيتا في زق ففيه وجهان: أحدهما, يكون مقرًا بالمظروف دون الظرف هذا اختيار ابن حامد ومذهب مالك والشافعي لأن إقراره لم يتناول الظرف فيحتمل أن يكون في ظرف للمقر فلم يلزمه والثاني, يلزمه الجميع لأنه ذكر ذلك في سياق الإقرار ويصلح أن يكون مقرًا به فلزمه, كما لو قال له: عندي عبد عليه عمامة وقال أبو حنيفة في الغصب: يلزمه ولا يلزمه في بقية الصور لأن المنديل يكون ظرفا للثوب فالظاهر أنه ظرف له في حال الغصب, وصار كأنه قال: غصبت ثوبا ومنديلا ولنا أنه يحتمل أن يكون المنديل للغاصب وهو ظرف للثوب, فيقول: غصبت ثوبا في منديل لي ولو قال هذا لم يكن مقرًا بغصبه فإذا أطلق كان محتملا له, فلم يكن مقرًا بغصبه كما لو قال: غصبت دابة في إصطبلها أو: له على ثوب في منديل وإن قال: له عندي جرة فيها زيت أو جراب فيه تمر, أو قراب فيه سكين فعلى وجهين وإن قال: له على خاتم فيه فص فكذلك ويحتمل أن يكون مقرًا به بفصه وجها واحدا لأن الفص جزء من أجزاء الخاتم فأشبه ما لو قال: له على ثوب فيه علم ولو قال: له عندي خاتم وأطلق, لزمه الخاتم بفصه لأن اسم الخاتم يجمعهما وإن قال: له على ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه. فصل
وإن قال: له عندي دار مفروشة أو دابة مسرجة أو عبد عليه عمامة ففيه أيضا وجهان وقال أصحاب الشافعي: تلزمه عمامة العبد دون الفرش أو السرج لأن العبد يده على عمامته, ويده كيد سيده ولا يد للدابة والدار ولنا أن الظاهر أن سرج الدابة لصاحبها, وكذلك لو تنازع رجلان سرجا على دابة أحدهما كان لصاحبها فصار كعمامة العبد فأما إن قال: له عندي دابة بسرجها, أو دار بفرشها أو سفينة بطعامها كان مقرًا بهما بغير خلاف لأن الباء تعلق الثاني بالأول. فصل
وإن قال: له على درهم أو دينار أو: إما درهم وإما دينار كان مقرًا بأحدهما, يرجع في تفسيره إليه لأن " أو " و " إما " في الخبر للشك وتقتضى أحد المذكورين لا جميعهما وإن قال: له على إما درهم وإما درهمان كان مقرًا بدرهم والثاني مشكوك فيه, فلا يلزمه بالشك. مسألة
قال: [ومن أقر بشيء واستثنى منه الكثير وهو أكثر من النصف, أخذ بالكل وكان استثناؤه باطلًا] لا يختلف المذهب أنه لا يجوز استثناء ما زاد على النصف ويحكى ذلك عن ابن درستويه النحوى وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي وأصحابهم: يصح ما لم يستثن الكل فلو قال: له على مائة إلا تسعة وتسعين لم يلزمه إلا واحد, بدليل قوله تعالى: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} وقوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} فاستثنى في موضع الغاوين من العباد وفي موضع العباد من الغاوين وأيهما كان الأكثر فقد دل على استثناء الأكثر وأنشدوا: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ** ثم ابعثوا حكما بالحق قواما فاستثنى تسعين من مائة لأنه في معنى الاستثناء ومشبه به, ولأنه استثنى البعض فجاز كاستثناء الأقل, ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ فجاز في الأكثر كالتخصيص والبدل ولنا, أنه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلا في الأقل وقد أنكروا استثناء الأكثر فقال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير, ولو قال قائل: مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلما بالعربية وكان عيا من الكلام ولكنة وقال القتيبى: يقال: صمت الشهر إلا يوما ولا يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوما ويقال: لقيت القوم جميعهم إلا واحدا أو اثنين ولا يجوز أن يقول: لقيت القوم إلا أكثرهم وإذا لم يكن صحيحا في الكلام لم يرتفع به ما أقر به, كاستثناء الكل وكما لو قال: له على عشرة بل خمسة فأما ما احتجوا به من التنزيل فإنه في الآية الأولى استثنى المخلصين من بنى آدم, وهم الأقل كما قال تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} وفي الأخرى استثنى الغاوين من العباد وهم الأقل فإن الملائكة من العباد, وهم غير غاوين قال الله تعالى: {بل عباد مكرمون} وقيل: الاستثناء في هذه الآية منقطع بمعنى الاستدراك فيكون قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} مبقى على عمومه, لم يستثن منه شيء ثم استأنف: {إلا من اتبعك من الغاوين} أي لكن من اتبعك من الغاوين فإنهم غووا باتباعك وقد دل على صحة هذا قوله في الآية الأخرى لأتباعه: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} وعلى هذا لا يكون لهم فيها حجة وأما البيت فقال ابن فضال النحوى: هو بيت مصنوع لم يثبت عن العرب على أن هذا ليس باستثناء, فإن الاستثناء له كلمات مخصوصة ليس هاهنا شيء منها والقياس لا يجوز في اللغة: ثم نعارضه بأنه استثنى أكثر من النصف فلم يجز, كاستثناء الكل والفرق بين استثناء الأكثر والأقل أن العرب استعملته في الأقل وحسنته ونفته في الأكثر وقبحته, فلم يجز قياس ما قبحوه على ما جوزوه وحسنوه. فصل
وفي استثناء النصف وجهان أحدهما يجوز وهو ظاهر كلام الخرقى لتخصيصه الإبطال بما زاد على النصف لأنه ليس بأكثر, فجاز كالأقل والثاني لا يجوز ذكره أبو بكر لأنه لم يرد في كلامهم إلا القليل من الكثير, والنصف ليس بقليل . فصل
وإذا قال: له على عشرة إلا سبعة إلا خمسة, إلا درهمين صح وكان مقرًا بستة وذلك لأنه إذا استثنى الكل أو الأكثر سقط إن وقف عليه, وإن وصله باستثناء آخر استعملناه لأن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عما بقى فإن خمسة إلا درهمين عبارة عن ثلاثة, استثناها من سبعة بقى أربعة مستثناة من عشرة بقى منها ستة وإن قال: له على ثمانية, إلا أربعة إلا درهمين إلا درهما بطل الاستثناء على قول أبي بكر لأنه استثنى النصف وصح على الوجه الآخر, فلزمه خمسة وإن قال: على عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة, إلا درهمين إلا درهما بطل الاستثناء كله على أحد الوجهين وصح في الآخر, فيكون مقرًا بسبعة ولو قال: عشرة إلا ستة إلا أربعة, إلا درهمين فهو على الوجه الذي يصح فيه الاستثناء مقر بستة ولو قال: ثلاثة إلا درهمين إلا درهما كان مقرًا بدرهمين فأما إن قال: له على ثلاثة إلا ثلاثة, إلا درهمين بطل الاستثناء كله لأن استثناء درهمين من ثلاثة استثناء الأكثر وهو موقوف عليه فبطل فإذا بطل الثاني بطل الأول لأنه استثناء الكل ولأصحاب الشافعي في هذا ثلاثة أوجه أحدها يبطل الاستثناء لأن الأول بطل, لكونه استثناء الكل فبطل الثاني لأنه فرعه والثاني يصح, ويلزمه درهم لأن الاستثناء الأول لما بطل جعلنا الاستثناء الثاني من الإقرار لأنه وليه لبطلان ما بينهما والثالث يصح, ويكون مقرًا بدرهمين لأنه استثنى درهمين من ثلاثة فيبقى منها درهم مستثنى من الإقرار واستثناء الأكثر عندهم صحيح ووافقهم القاضي في هذا الوجه وإن قال: ثلاثة, إلا درهما بطل الاستثناء كله ويجيء على قول أصحاب الشافعي فيه مثل ما في التي قبلها. فصل
وإن قال: له علي ألف إلا خمسين فالمستثنى دراهم لأن العرب لا تستثنى في الإثبات إلا من الجنس وإن قال: له علي ألف إلا خمسين درهما فالجميع دراهم كذلك وهذا اختيار ابن حامد والقاضى وهو قول أبي ثور وقال أبو الحسن التميمي, وأبو الخطاب: يكون الألف مبهما يرجع في تفسيره إليه وهذا قول مالك والشافعي لأن الاستثناء عندهما يصح من غير الجنس, ولأن لفظه في الألف مبهم والدرهم لم يذكر تفسيرا له فيبقى على إبهامه ولنا أنه لم يرد عن العرب الاستثناء في الإثبات إلا من الجنس, فمتى علم أحد الطرفين علم أن الآخر من جنسه كما لو علم المستثنى منه وقد سلموه, وعلته تلازم المستثنى والمستثنى منه في الجنس فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر فعلى قول التميمي وأبى الخطاب يسأل عن المستثنى منه, فإن فسره بغير الجنس بطل الاستثناء وعلى قول غيرهما ينظر في المستثنى, إن كان مثل المستثنى منه أو أكثر بطل وإلا صح وعند القاضي يصح الاستثناء, ويصح تفسير الألف بأي شيء كان إذا كان من قيمة ذلك الشيء بعد استثناء الدراهم منه. فصل
وإن قال: له على تسعة وتسعون درهما فالجميع دراهم لا أعلم فيه خلافا وإن قال: مائة وخمسون درهما فكذلك وخرج بعض أصحابنا وجها أنه لا يكون تفسيرا إلا لما يليه, وهو قول بعض أصحاب الشافعي وكذلك إن قال: ألف وثلاثة دراهم أو خمسون درهما وألف درهم أو ألف ومائة درهم, أو مائة وألف درهم والصحيح ما ذكرنا فإن الدرهم المفسر يكون تفسيرا لجميع ما قبله من الجمل المبهمة وجنس العدد قال الله تعالى مخبرا عن أحد الخصمين أنه قال: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة} وفي الحديث أن رسول الله -ﷺ- توفى وهو ابن ثلاث وستين سنة وتوفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة, وتوفى عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة وقال عنترة: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ** سودا كخافية الغراب الأسحم ولأن الدرهم ذكر تفسيرا ولهذا لا تجب به زيادة على العدد المذكور فكان تفسيرا لجميع ما قبله, لأنها تحتاج إلى تفسير وهو صالح لتفسيرها فوجب حمله على ذلك وهذا المعنى موجود في قوله: ألف وثلاثة دراهم وسائر الصور المذكورة, فعلى قول من لا يجعل المجمل من جنس المفسر لو قال: بعتك هذا بمائة وخمسين درهما أو بخمسة وعشرين درهما لا يصح وهو قول شاذ ضعيف لا يعول عليه. فصل
وإن قال له علي ألف ودرهم أو ألف وثوب, أو قفيز حنطة فالمجمل من جنس المفسر أيضا وكذلك إن قال: ألف درهم وعشرة أو ألف ثوب وعشرون وهذا قول القاضي وابن حامد, وأبى ثور وقال التميمي وأبو الخطاب: يرجع في تفسير المجمل إليه لأن الشيء يعطف على جنسه, قال الله تعالى: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} ولأن الألف مبهم فرجع في تفسيره إلى المقر كما لو لم يعطف عليها وقال أبو حنيفة: إن عطف على المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا له, وإن عطف مذروعا أو معدودا لم يكن تفسيرا لأن على للإيجاب في الذمة فإن عطف عليه ما يثبت في الذمة بنفسه, كان تفسيرا له كقوله: مائة وخمسون درهما ولنا أن العرب تكتفى بتفسير إحدى الجملتين عن الجملة الأخرى قال الله تعالى: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا} وقال الله تعالى: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} ولأنه ذكر مبهما مع مفسر لم يقم الدليل على أنه من غير جنسه, فكان المبهم من جنس المفسر كما لو قال: مائة وخمسون درهما أو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا يحققه أن المبهم يحتاج إلى التفسير, وذكر التفسير في الجملة المقارنة له يصلح أن يفسره فوجب حمل الأمر على ذلك أما قوله: {أربعة أشهر وعشرًا} فإنه امتنع أن يكون العشر أشهرا لوجهين: أحدهما, أن العشر بغير هاء عدد للمؤنث والأشهر مذكرة فلا يجوز أن تعد بغيرها الثاني أنها لو كانت أشهرا لقال: أربعة عشر شهرا بالتركيب, لا بالعطف كما قال: {عليها تسعة عشر} وقولهم: إن الألف مبهم قلنا قد قرن به ما يدل على تفسيره فأشبه ما لو قال: مائة وخمسون درهما, أو مائة ودرهم عند أبي حنيفة فإن قيل: إذا قال: مائة وخمسون درهما فالدرهم ذكر للتفسير ولهذا لا يزداد به العدد فصلح تفسير الجميع ما قبله, بخلاف قوله: مائة درهم فإنه ذكر الدرهم للإيجاب لا للتفسير بدليل أنه زاد به العدد قلنا: هو صالح للإيجاب والتفسير معا, والحاجة داعية إلى التفسير فوجب حمل الأمر على ذلك صيانة لكلام المقر عن الإلباس والإبهام, وصرفا له إلى البيان والإفهام وقول أصحاب أبي حنيفة: إن " على " للإيجاب قلنا: فمتى عطف ما يجب بها على ما يجب وكان أحدهما مبهما والآخر مفسرا وأمكن تفسيره به, وجب أن يكون المبهم من جنس المفسر فأما إن لم يمكن مثل أن يعطف عدد المذكر على المؤنث, أو بالعكس ونحو ذلك فلا يكون أحدهما من جنس الآخر, ويبقى المبهم على إبهامه كما لو قال: له على أربعة دراهم وعشر. مسألة
قال:[وإذا قال: له عندي عشرة دراهم ثم قال: وديعة كان القول قوله] وجملته أن من أقر بهذا اللفظ فقال: له عندي دراهم فسر إقراره بأنها وديعة, قبل تفسيره لا نعلم فيه اختلافا بين أهل العلم سواء فسره بكلام متصل أو منفصل لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل, كما لو قال: له على دراهم وفسرها بدين عليه فعند ذلك تثبت فيها أحكام الوديعة بحيث لو ادعى تلفها بعد ذلك أو ردها كان القول قوله وإن فسرها بدين عليه, قبل أيضا لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال: له عندي وديعة رددتها إليه أو تلفت لزمه ضمانها ولم يقبل قوله وبهذا قال الشافعي لما فيه من مناقضة الإقرار والرجوع عما أقر به, فإن الألف المردود والتالف ليست عنده أصلا ولا هي وديعة وكل كلام يناقض الإقرار ويحيله, يجب أن يكون مردودا وقال القاضي: يقبل قوله لأن أحمد قال في رواية ابن منصور: إذا قال: لك عندي وديعة دفعتها إليك صدق لأنه ادعى تلف الوديعة أو ردها, فقبل كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل وإن قال كانت عندي وظننت أنها باقية, ثم عرفت أنها كانت قد هلكت فالحكم فيها كالتي قبلها. مسألة قال: [ ولو قال: له علي ألف ثم قال: وديعة لم يقبل قوله] وجملة ذلك أنه إذا أقر بدراهم بقوله: على كذا ثم فسره الوديعة لم يقبل قوله فلو ادعى بعد هذا تلفها, لم يقبل قوله وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقيل عن الشافعي: يقبل قوله أنها وديعة وإذا ادعى بعد ذلك تلفها, قبل منه وقال القاضي ما يدل على هذا أيضا لأن الوديعة عليه حفظها وردها فإذا قال: على وفسرها بذلك احتمل صدقه, فقبل منه كما لو وصله بكلامه فقال: له علي ألف وديعة ولأن حروف الصلات يخلف بعضها بعضا, فيجوز أن يستعمل " على " بمعنى " عندي " كما قال الله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام أنه قال: {ولهم علي ذنب} أي عندي ولنا أن " علي " للإيجاب, وذلك يقتضي كونها في ذمته وكذلك لو قال: ما على فلان علي كان ضامنًا له الوديعة ليست في ذمته, ولا هي عليه إنما هي عنده وما ذكروه مجاز طريقه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه, أو إقامة حرف مقام حرف والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ بدليل أنه لو قال: له علي دراهم لزمته ثلاثة دراهم, وإن جاز التعبير بلفظ الجمع عن اثنين وعن واحد كقول الله تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} ومواضع كثيرة في القرآن ولو قال: له علي درهم وقال: أردت نصف درهم, فحذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه لم يقبل منه ولو قال: لك من مالي ألف قال: صدقت ثم قال: أردت أن عليك من مالي ألفا وأقمت اللام مقام " علي " كقول الله تعالى: {وإن أسأتم فلها} لم يقبل منه ولو قبل في الإقرار مطلق الاحتمال, لسقط ولقبل في تفسير الدراهم بالناقصة والزائفة والمؤجلة وأما إذا قال: لك علي ألف ثم قال: كان وديعة فتلف لم يقبل قوله لأنه متناقض وقد سبق نحو من هذا. فصل
وإن قال: لك على مائة درهم ثم أحضرها وقال: هذه التي أقررت بها, وهى وديعة كانت لك عندي فقال المقر له: هذه وديعة والتي أقررت بها غيرها وهى دين عليك فقول الخرقى يقتضي أن القول قول المقر له وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي: القول قول المقر مع يمينه وللشافعى قولان, كالوجهين وتعليلهما ما تقدم وإن كان قال في إقراره: لك على مائة في ذمتى فإن القاضي وافق هاهنا في أنه لا يقبل قول المقر لأن الوديعة عين لا تكون في الذمة قال: وقد يقبل لأنه يحتمل: في ذمتى أداؤها ولأنه يجوز أن يكون عنده وديعة تعدى فيها فكان ضمانها عليه في ذمته ولأصحاب الشافعي في هذه وجهان فأما إن وصل ذلك بكلامه, فقال: لك على مائة وديعة قبل لأنه وصل كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال: له على دراهم ناقصة وإن قال: له على مائة وديعة دينا أو مضاربة دينا صح, ولزمه ضمانها لأنها قد يتعدى فيها فتكون دينا وإن قال: أردت أنه شرط على ضمانها لم يقبل لأنها لا تصير بذلك دينا وإن قال: عنده مائة وديعة شرط على ضمانها لم يلزمه ضمانها لأن الوديعة لا تصير بالشرط مضمونة وإن قال: على أو عندي مائة درهم عارية لزمته, وكانت مضمونة عليه سواء حكمنا بصحة العارية في الدراهم أو بفسادها لأن ما ضمن في العقد الصحيح ضمن في الفاسد وإن قال: أودعنى مائة فلم أقبضها أو أقرضنى مائة, فلم آخذها قبل قوله متصلا ولم يقبل إذا كان منفصلا وهكذا إذا قال: نقدنى مائة فلم أقبضها وهذا قول الشافعي. فصل
فإن قال: له في هذا العبد ألف أو: له من هذا العبد ألف طولب بالبيان, فإن قال: نقد عنى ألفا في ثمنه كان قرضا وإن قال: نقد في ثمنه ألفا قلنا: بين كم ثمن العبد وكيف كان الشراء؟ فإن قال: إيجاب واحد, وزن ألفا ووزنت ألفا كان مقرًا بنصف العبد وإن قال: وزنت أنا ألفين كان مقرًا بثلثه والقول قوله مع يمينه, سواء كانت القيمة قدر ما ذكره أو أقل لأنه قد يغبن وقد يغبن وإن قال: اشتريناه بإيجابين قيل: فكم اشترى منه؟ فإن قال: نصفا أو ثلثا, أو أقل أو أكثر قبل منه مع يمينه وافق القيمة أو خالفها وإن قال: وصى له بألف من ثمنه وصرف إليه من ثمنه ألف وإن أراد أن يعطيه ألفا من ماله, من غير ثمن العبد لم يلزمه قبوله لأن الموصى له يتعين حقه في ثمنه وإن فسر ذلك بألف من جناية جناها العبد فتعلقت برقبته قبل ذلك, وله بيع العبد ودفع الألف من ثمنه وإن قال: أردت أنه رهن عنده بألف ففيه وجهان أحدهما لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة والثاني, يقبل لأن الدين يتعلق بالرهن فصح تفسيره به كالجناية ومذهب الشافعي كما ذكرنا في الفصل جميعه. فصل
وإن قال: له في مالي هذا ألف, أو من مالي ألف وفسره بدين أو وديعة أو وصية فيه قبل وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يقبل إقراره لأن ماله ليس هو لغيره ولنا أنه أقر بألف, فقبل كما لو قال: في مالي ويجوز أن يضيف إليه مالا بعضه لغيره ويجوز أن يضيف مال غيره إليه لاختصاص له به, أو يد له عليه أو ولاية قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولًا معروفًا} وقال سبحانه في النساء: {لا تخرجوهن من بيوتهن} وقال لأزواج رسول الله -ﷺ-: {وقرن في بيوتكن} فلا يبطل إقراره مع احتمال صحته وإن قال: أردت هبة قبل منه لأنه محتمل وإن امتنع من تقبيضها, لم يجبر عليه لأن الهبة فيها لا تلزم قبل القبض وكذلك يخرج فيما إذا قال: لفلان في داري هذه نصفها أو من داري بعضها وقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين, قال في رواية مهنا في من قال: نصف عبدى هذا لفلان لم يجز إلا أن يقول وهبته وإن قال: نصف مالي هذا لفلان لا أعرف هذا ونقل ابن منصور: إذا قال: فرسى هذه لفلان فإقراره جائز فظاهر هذا صحة الإقرار فإن قال: له في هذا المال نصفه أو له نصف هذه الدار فهو إقرار صحيح وإن قال: له في هذا المال ألف صح وإن قال: له في ميراث أبي ألف فهو إقرار بدين على التركة وإن قال: في ميراثي من أبي وقال: أردت هبة قبل منه ولأنه إذا أضاف الميراث إلى أبيه, فمقتضاه ما خلفه فيقتضى وجوب المقر به فيه وإذا أضاف الميراث إلى نفسه, فمعناه ما ورثته وانتقل إلى فلا يحمل على الوجوب وإذا أضاف إليه منه جزءا, فالظاهر أنه جعل له جزءا من ماله. فصل
وإن قال: له في هذا العبد شركة صح إقراره وله تفسيره بأي قدر كان منه وقال أبو يوسف: يكون مقرًا بنصفه لقوله تعالى: {فهم شركاء في الثلث} فاقتضى ذلك التسوية بينهم كذا هاهنا ولنا, أن أي جزء كان له منه فله فيه شركة فكان له تفسيره بما شاء, كالنصف وليس إطلاق لفظ الشركة على ما دون النصف مجازا ولا مخالفا للظاهر, والآية تثبت التسوية فيها بدليل وكذلك الحكم إذا قال: هذا العبد شركة بيننا. فصل
فى الإقرار بالمجهول: وإذا قال: لفلان على شيء أو كذا صح إقراره ولزمه تفسيره وهذا لا خلاف فيه, ويفارق الدعوى حيث لا تصح مجهولة لكون الدعوى له والإقرار عليه فلزمه ما عليه مع الجهالة دون ماله, ولأن المدعي إذا لم يصحح دعواه فله داع إلى تحريرها والمقر لا داعي له إلا التحرير, ولا يؤمن رجوعه عن إقراره فيضيع حق المقر له فألزمناه إياه مع الجهالة, فإن امتنع من تفسيره حبس حتى يفسر وقال القاضي: يجعل ناكلًا ويؤمر المقر له بالبيان, فإن بين شيئًا فصدقه المقر ثبت, وإن كذبه وامتنع من البيان قيل له: إن بينت, وإلا جعلناك ناكلًا وقضينا عليك وهذا قول أصحاب الشافعي إلا أنهم قالوا: إن بينت وإلا حلفنا المقر له على ما يدعيه, وأوجبناه عليك فإن فعل وإلا أحلفنا المقر له وأوجبناه على المقر ووجه الأول, أنه ممتنع من حق عليه فيحبس به كما لو عينه وامتنع من أدائه ومع ذلك متى عينه المدعي وادعاه, فنكل المقر فهو على ما ذكروه وإن مات من عليه الحق أخذ ورثته بمثل ذلك لأن الحق ثبت على موروثهم, فيتعلق بتركته وقد صارت إلى الورثة فيلزمهم ما لزم موروثهم كما لو كان الحق معينا وإن لم يخلف الميت تركة, فلا شيء على الورثة ومتى فسر إقراره بما يتمول في العادة قبل تفسيره وثبت إلا أن يكذبه المقر له, ويدعي جنسًا آخر أو لا يدعي شيئا فيبطل إقراره وإن فسره بما لا يتمول عادة, كقشرة جوزة أو قشرة باذنجانة لم يقبل إقراره لأن إقراره اعتراف بحق عليه ثابت في ذمته, وهذا لا يثبت في الذمة وكذلك إن فسره بما ليس بمال في الشرع كالخمر والخنزير والميتة لم يقبل وإن فسره بكلب لا يجوز اقتناؤه, فكذلك وإن فسره بكلب يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة غير مدبوغ ففيه وجهان أحدهما, يقبل لأنه شيء يجب رده عليه وتسليمه إليه فالإيجاب يتناوله والثاني, لا يقبل لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه وهذا لا يجب ضمانه وإن فسره بحبة حنطة أو شعير ونحوها لم يقبل لأن هذا لا يتمول عادة على انفراده وإن فسره بحد قذف, قبل لأنه حق يجب عليه ويحتمل أن لا يقبل لأنه لا يئول إلى مال والأول أصح لأن ما ثبت في الذمة صح أن يقال: هو على وإن فسره بحق شفعة قبل لأنه حق واجب ويئول إلى المال وإن فسره برد السلام, أو تشميت العاطس ونحوه لم يقبل لأنه يسقط بفواته فلا يثبت في الذمة وهذا الإقرار يدل على ثبوت الحق في الذمة ويحتمل أن يقبل تفسيره به, إذا أراد أن حقا على رد سلامه إذا سلم وتشميته إذا عطس لما روي في الخبر: ( للمسلم على المسلم ثلاثون حقا: يرد سلامه ويشمت عطسته, ويجيب دعوته وذكر الحديث ) وإن قال: غصبته شيئا وفسره بما ليس بمال قبل لأن اسم الغصب يقع عليه وإن قال: غصبته نفسه لم يقبل لأن الغصب لا يثبت عليه وهذا الفصل أكثره مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يقبل تفسير إقراره بغير المكيل والموزون لأن غيرهما لا يثبت في الذمة بنفسه ولنا, أنه مملوك يدخل تحت العقد فجاز أن يفسر به الشيء في الإقرار كالمكيل والموزون, ولأنه يثبت في الذمة في الجملة فصح التفسير كالمكيل ولا عبرة بسبب ثبوته في الإقرار به, والإخبار عنه. فصل
وإن أقر بمال قبل تفسيره بقليل المال وكثيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يقبل تفسيره بغير المال الزكوى لقول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} وقوله: {وفي أموالهم حق} وحكى بعض أصحاب مالك عنه ثلاثة أوجه أحدها كقولنا والثاني لا يقبل إلا أول نصاب من نصب الزكاة, من نوع أموالهم والثالث ما يقطع به السارق ويصح مهرًا لقول الله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} ولنا أن غير ما ذكروه يقع عليه اسم المال حقيقة وعرفًا ويتمول عادة فيقبل تفسيره به, كالذي وافقوا عليه وأما آية الزكاة فهي عامة دخلها التخصيص وقوله تعالى: {وفي أموالهم حق} لم يرد به الزكاة بدليل أنها نزلت بمكة قبل فرض الزكاة, فلا حجة لهم فيها ثم يرد قولهم قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} والتزويج جائز بأي نوع كان من المال وبما دون النصاب وإن قال: له على مال عظيم, أو كثير أو جليل أو خطير جاز تفسيره بالقليل والكثير, كما لو قال: مال لم يزد عليه وهذا قول الشافعي وحكي عن أبي حنيفة: لا يقبل تفسيره بأقل من عشرة دراهم لأنه يقطع به السارق ويكون صداقا عنده وعنه: لا يقبل بأقل من مائتي درهم وبه قال صاحباه لأنه الذي تجب فيه الزكاة وقال بعض أصحاب مالك كقولهم في المال ومنهم من قال: يزيد على ذلك أقل زيادة ومنهم من قال: قدر الدية وقال الليث بن سعد: اثنان وسبعون لأن الله تعالى قال: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} وكانت غزواته وسراياه اثنتين وسبعين قالوا: ولأن الحبة لا تسمى مالًا عظيمًا ولا كثيرًا ولنا أن ما فسر به المال فسر به العظيم, كالذي سلموه ولأن العظيم والكثير لا حد له في الشرع ولا في اللغة, ولا العرف ويختلف الناس فيه فمنهم من يستعظم القليل ومنهم من يستعظم الكثير, ومنهم من يحتقر الكثير فلم يثبت في ذلك حد يرجع إلى تفسيره به ولأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه ويحتمل أنه أراد عظيما عنده لفقر نفسه ودناءتها, وما ذكروه فليس فيه تحديد للكثير وكون ما ذكروه كثيرًا لا يمنع الكثرة فيما دونه وقد قال الله تعالى: {واذكروا الله كثيرًا} فلم ينصرف إلى ذلك وقال: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة} فلم يحمل على ذلك والحكم فيما إذا قال: عظيم جدًا أو عظيم عظيم كما لو لم يقله لما قررناه. فصل
وإن قال: له على أكثر من مال فلان ففسره بأكثر منه عددا أو قدرا لزمه أكثر منه, وتفسر الزيادة بأي شيء أراد ولو حبة أو أقل وإن قال ما علمت لفلان أكثر من كذا وكذا وقامت البينة بأكثر منه لم يلزمه أكثر مما اعترف به لأن مبلغ المال حقيقة لا يعرف في الأكثر, وقد يكون ظاهرا وباطنا فيملك ما لا يعرفه المقر فكان المرجع إلى ما اعتقده المقر مع يمينه, إذا ادعى عليه أكثر منه وإن فسره بأقل من ماله مع علمه بماله لم يقبل وقال أصحابنا: يقبل تفسيره بالقليل والكثير وهو مذهب الشافعي, سواء علم مال فلان أو جهله أو ذكر قدره أو لم يذكره أو قاله عقيب الشهادة بقدره أولا لأنه يحتمل أنه أكثر منه بقاء أو منفعة أو بركة, لكونه من الحلال أو لأنه في الذمة قال القاضي: ولو قال: لي عليك ألف دينار فقال: لك على أكثر من ذلك لم يلزمه أكثر منها لأن لفظة أكثر مبهمة لاحتمالها ما ذكرنا, ويحتمل أنه أراد أكثر منه فلوسا أو حب حنطة أو شعير أو دخن فرجع في تفسيرها إليه وهذا بعيد فإن لفظة أكثر إنما تستعمل حقيقة في العدد, أو في القدر وتنصرف إلى جنس ما أضيف أكثر إليه لا يفهم في الإطلاق غير ذلك, قال الله تعالى: {كانوا أكثر منهم} وأخبر عن الذي قال: {أنا أكثر منك مالًا} {وقالوا نحن أكثر أموالًا وأولادًا} والإقرار يؤخذ فيه بالظاهر دون مطلق الاحتمال ولهذا لو أقر بدراهم لزمه أقل الجمع جيادا صحاحا وازنة حالة ولو قال: له على دراهم لم يقبل تفسيرها الوديعة ولو رجع إلى مطلق الاحتمال لسقط الإقرار واحتمال ما ذكروه أبعد من هذه الاحتمالات التي لم يقبلوا تفسيره بها فلا يعول على هذا. فصل
ولو قال: له علي ألف إلا شيئا قبل تفسيره بأكثر من خمسمائة لأن الشيء يحتمل القليل والكثير, لكن لا يجوز استثناء الأكثر فتعين حمله على ما دون النصف وكذلك إن قال: إلا قليلا لأنه مبهم فأشبه قوله: إلا شيئا وإن قال: له على معظم ألف أو جل ألف, أو قريب من ألف لزمه أكثر من نصف الألف ويحلف على الزيادة إن ادعيت عليه. فصل
ولو قال: غصبتك أو غبنتك لم يلزمه شيء لأنه قد يغصبه نفسه, ويغبنه في غير المال وإن قال: غصبتك شيئا وفسره بغصب نفسه لم يقبل لأنه جعل له مفعولين فجعله المفعول الأول وشيئا المفعول الثاني, ويجب أن يكون الثاني غير الأول وإن فسره بمال قبل وإن قل وإن فسره بكلب, أو جلد ميتة أو سرجين ينتفع به قبل لأنه قد يقهره فيأخذه منه وإن فسره بما لا نفع فيه, أو بما لا يباح الانتفاع به لم يقبل لأن أخذ ذلك ليس بغصب. فصل
وتقبل الشهادة على الإقرار بالمجهول لأن الإقرار به صحيح وما كان صحيحا في نفسه, صحت الشهادة به كالمعلوم. مسألة
قال:[ولو قال: له عندي رهن فقال المالك: وديعة كان القول قول المالك] إنما قدم قول المالك لأن العين ثبتت له بالإقرار وادعى المقر دينا لا يعترف له به, والقول قول المنكر ولأنه أقر بمال لغيره وادعى أن له به تعلقا فلم يقبل, كما لو ادعاه بكلام منفصل وكذلك لو أقر له بدار وقال: استأجرتها أو بثوب وادعى أنه قصره أو خاطه بأجر يلزم المقر له, لم يقبل لأنه مدع على غيره حقا فلا يقبل قوله إلا ببينة وكذلك لو قال: هذه الدار له ولي سكناها سنة. فصل
وإن قال: لك علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه فقال المدعى عليه: بل لي عليك ألف, ولا شيء لك عندي فقال أبو الخطاب: فيه وجهان أحدهما القول قول المقر له لأنه اعترف له بالألف وادعى عليه مبيعًا, فأشبه ما إذا قال: هذا رهن فقال المالك: وديعة أو له علي ألف ولى عنده مبيع لم أقبضه والثاني القول قول المقر قال القاضي: هو قياس المذهب وهو قول الشافعي وأبى يوسف لأنه أقر بحق في مقابلة حق له, ولا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا لم يسلم له ماله لم يسلم للمقر له ما عليه, كما لو قال لرجل: بعتك هذا العبد بألف قال: بل ملكتنيه بغير شيء وفارق ما لو قال له: عندي رهن فقال المالك: بل وديعة لأن الدين ينفك عن الرهن ولو قال السيد لعبده: بعتك نفسك بألف فأنكر العبد عتق ولا شيء للمقر لأن العتق ينفك عن الثمن ولا فرق بين أن يقول: لم أقبضه منفصلا أو متصلا فلو قال: له علي ألف من ثمن مبيع ثم سكت ثم قال: لم أقبضه فيقبل قوله, كما لو كان متصلا لأن إقراره تعلق بالمبيع والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه فأما إن قال: علي ألف ثم سكت, ثم قال: من ثمن مبيع لم يقبل لأنه فسر إقراره بما يسقط وجوب تسليمه بكلام منفصل فلم يقبل كما لم يقبل لو قال: له علي ألف ثم سكت, ثم قال: مؤجل. فصل
وإذا قال: بعتك جاريتي هذه قال: بل زوجتنيها فلا يخلو إما أن يكون اختلافهما قبل نقد الثمن أو بعده وقبل الاستيلاد أو بعده فإن كان بعد اعتراف البائع بقبض الثمن, فهو مقر بها لمدعى الزوجية لأنه يدعي عليه شيئًا والزوج ينكر أنها ملكه ويدعي حلها له بالزوجية, فيثبت الحل لاتفاقهما عليه ولا ترد إلى البائع لاتفاقهما على أنه لا يستحق أخذها وإن كان قبل قبض الثمن وبعد الاستيلاد فالبائع يقر أنها صارت أم ولد, وولدها حر وأنه لا مهر له ويدعي الثمن, والمشترى ينكر ذلك كله فيحكم بحرية الولد لإقرار من ينسب إليه ملكه بحريته ولا ولاء عليه لاعترافه بأنه حر الأصل, ولا ترد الأمة إلى البائع لإقراره بأنها أم ولد ولا يجوز نقل الملك فيها ويحلف المشتري أنه ما اشتراها, ويسقط عنه ثمنها إلا قدر المهر فإنه يجب لاتفاقهما على وجوبه وإن اختلفا في سببه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم: يتحالفان ولا يجب مهر ولا ثمن وهو قول القاضي, إلا أنه لا يجعل على البائع يمينا لأنه لا يرى اليمين في إنكار النكاح ونفقة الولد على أبيه لأنه حر ونفقة الأمة على زوجها لأنه إما زوج وإما سيد, وكلاهما سبب لوجوب النفقة وقال القاضي: نفقتها في كسبها فإن كان فيه فضل فهي موقوفة لأننا أزلنا عنها ملك السيد وأثبتنا لها حكم الاستيلاد فإن ماتت وتركت مالا, فللبائع قدر ثمنها لأنه إما أن يكون صادقا فهو يستحق على المشتري ثمنها وتركتها للمشتري والمشتري مقر للبائع بها, فيأخذ منها قدر ما يدعيه وإن كان كاذبا فهي ملكه وتركتها كلها له, فيأخذ منها قدر ما يدعيه وبقيته موقوفة وإن ماتت بعد الوطء فقد ماتت حرة, فميراثها لولدها وورثتها فإن لم يكن لها وارث فميراثها موقوف لأن أحدا لا يدعيه, وليس للسيد أن يأخذ منه قدر الثمن لأنه يدعي الثمن على الواطئ وليس ميراثها له لأنه قد مات قبلها وإن كان اختلافهما قبل الاستيلاد فعندى أنها تقر في يد الزوج لاتفاقهما على حلها له, واستحقاقه إمساكها وإنما اختلفا في السبب ولا ترد إلى السيد لاتفاقهما على تحريمها عليه وللبائع أقل الأمرين من الثمن أو المهر لاتفاقهما على استحقاقه لذلك والأمر في الباطن على ذلك فإن السيد إن كان صادقا فالأمة حلال لزوجها بالبيع وإن كان كاذبا, فهي حلال له بالزوجية والقدر الذي اتفقا عليه إن كان السيد صادقا فهو يستحقه ثمنا, وإن كان كاذبًا فهو يستحقه مهرًا وقال القاضي: يحلف الزوج أنه ما اشتراها لأنه منكر ويسقط عنه الثمن, ولا يحتاج السيد إلى اليمين على نفي الزوجية لأنه لا يستحلف فيه وعند الشافعي: يتحالفان معًا ويسقط الثمن عن الزوج لأن عقد البيع ما ثبت ولا يجب المهر لأن السيد لا يدعيه, وترد الجارية إلى سيدها وفي كيفية رجوعها وجهان أحدهما ترجع إليه, فيملكها ظاهرا وباطنا كما يرجع البائع في السلعة عند فلس المشتري بالثمن لأن الثمن هاهنا قد تعذر فيحتاج السيد أن يقول: فسخت البيع وتعود إليه ملكا والثاني, ترجع إليه في الظاهر دون الباطن لأن المشتري امتنع من أداء الثمن مع إمكانه فعلى هذا يبيعها الحاكم ويوفيه ثمنها فإن كان وفق حقه فحسن وإن كان دونه, أخذه وإن زاد فالزيادة لا يدعيها أحد لأن المشتري يقر بها للبائع, والبائع لا يدعي أكثر من الثمن الأول فهل تقر في يد المشتري أو ترجع إلى بيت المال؟ يحتمل وجهين فإن رجع البائع, وقال: صدق خصمي ما بعته إياها بل زوجته لم يقبل في إسقاط حرية الولد, ولا في استرجاعها إن صارت أم ولد وقبل في إسقاط الثمن واستحقاق المهر, وأخذ زيادة الثمن واستحقاق ميراثها وميراث ولدها وإن رجع الزوج ثبتت الحرية, ووجب عليه الثمن. فصل
ولو أقر رجل بحرية عبد ثم اشتراه أو شهد رجلان بحرية عبد لغيرهما فردت شهادتهما ثم اشتراه أحدهما من سيده, عتق في الحال لاعترافه بأن الذي اشتراه حر ويكون البيع صحيحا بالنسبة إلى البائع لأنه محكوم له برقه وفي حق المشتري استنقاذا واستخلاصا, فإذا صار في يده حكم بحريته لإقراره السابق ويصير كما لو شهد رجلان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا, فرد الحاكم شهادتهما فدفعا إلى الزوج عوضا ليخلعها صح, وكان في حقه خلعا صحيحا وفي حقهما استخلاصا ويكون ولاؤه موقوفا لأن أحدا لا يدعيه, فإن البائع يقول: ما أعتقته والمشترى يقول: ما أعتقته والمشترى يقول: ما أعتقه إلا البائع وأنا استخلصته فإن مات وخلف مالا فرجع أحدهما عن قوله فالمال له لأن أحدا لا يدعيه سواه, لأن الراجع إن كان البائع فقال: صدق المشتري كنت أعتقته فالولاء له, ويلزمه رد الثمن إلى المشتري لإقراره ببطلان البيع وإن كان الراجع المشتري قبل في المال لأن أحدا لا يدعيه سواه, ولا يقبل قوله في نفى الحرية لأنها حق لغيره وإن رجعا معا فيحتمل أن يوقف حتى يصطلحا عليه لأنه لأحدهما ولا يعرف عينه ويحتمل أن من هو في يده يحلف ويأخذه لأنه منكر وإن لم يرجع واحد منهما, ففيه وجهان أحدهما يقر في يد من هو في يده فإن لم يكن في يد أحدهما, فهو لبيت المال لأن أحدا لا يدعيه ويحتمل أن يكون لبيت المال على كل حال لذلك. فصل
ولو أقر لرجل بعبد أو غيره ثم جاء به وقال: هذا الذي أقررت لك به قال: بل هو غيره لم يلزمه تسليمه إلى المقر له لأنه لا يدعيه, ويحلف المقر أنه ليس له عنده عبد سواه فإن رجع المقر له فادعاه لزمه دفعه إليه لأنه لا منازع له فيه وإن قال المقر له: صدقت, هذا لي الذي أقررت به آخر لي عندك لزمه تسليم هذا ويحلف على نفى الآخر. مسألة
قال: [ولو مات فخلف ولدين, فأقر أحدهما بأخ أو أخت لزمه أن يعطى الفضل الذي في يده لمن أقر له به] وجملة ذلك أن أحد الوارثين إذا أقر بوارث ثالث مشارك لهما في الميراث, لم يثبت النسب بالإجماع لأن النسب لا يتبعض فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر ولا يمكن إثباته في حقهما لأن أحدهما منكر, ولم توجد شهادة يثبت بها النسب ولكنه يشارك المقر في الميراث في قول أكثر أهل العلم وقال الشافعي: لا يشاركه وحكى ذلك عن ابن سيرين وقال إبراهيم: ليس بشيء حتى يقروا جميعا لأنه لم يثبت نسبه, فلا يرث كما لو أقر بنسب معروف النسب ولنا أنه أقر بسبب مال لم يحكم ببطلانه, فلزمه المال كما لو أقر ببيع أو أقر بدين فأنكر الآخر وفارق ما إذا أقر بنسب معروف النسب فإنه محكوم ببطلانه ولأنه يقر له بمال يدعيه المقر له, ويجوز أن يكون له فوجب الحكم له به كما لو أقر بدين على أبيه, أو أقر له وصية فأنكر سائر الورثة إذا ثبت هذا فإن الواجب له فضل ما في يد المقر عن ميراثه وبهذا قال ابن أبي ليلى, ومالك والثورى والحسن بن صالح, وشريك ويحيى بن آدم وإسحاق, وأبو عبيد وأبو ثور وقال أبو حنيفة: إذا كان اثنان, فأقر أحدهما بأخ لزمه دفع نصف ما في يده وإن أقر بأخت, لزمه ثلث ما في يده لأنه أخذ ما لا يستحقه من التركة فصار كالغاصب فيكون الباقي بينهما, كما لو غصب بعض التركة أجنبى ولأن الميراث يتعلق ببعض التركة كما يتعلق بجميعها فإذا هلك بعضها, أو غصب تعلق الحق بباقيها والذي في يد المنكر كالمغصوب, فيقتسمان الباقي بالسوية كما لو غصبه أجنبى ولنا أن التركة بينهم أثلاثا, فلا يستحق مما في يده إلا الثلث كما لو ثبت نسبه ببينة ولأنه إقرار بحق يتعلق بحصته وحصة أخيه فلا يلزمه أكثر مما يخصه, كالإقرار بالوصية وكإقرار أحد الشريكين على مال الشركة بدين ولأنه لو شهد معه بالنسب أجنبى ثبت ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لكونه يجر بها نفعا, لكونه يسقط عن نفسه بعض ما يستحقه عليه ولأنه حق لو ثبت ببينة لم يلزمه إلا قدر حصته فإذا ثبت بالإقرار لم يلزمه أكثر من ذلك, كالوصية وفارق ما إذا غصب بعض التركة وهما اثنان لأن كل واحد منهما يستحق النصف من كل جزء من التركة وها هنا يستحق الثلث من كل جزء من التركة ولأصحاب الشافعي فيما إذا كان المقر صادقا فيما بينه وبين الله تعالى, هل يلزمه أن يدفع إلى المقر له نصيبه؟ على وجهين أحدهما يلزمه وهو الأصح وهل يلزمه أن يدفع إليه نصف ما في يده أو ثلثه؟ فيه وجهان. فصل
وإن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الميراث, ثبت نسبه سواء كان الورثة واحدا أو جماعة ذكرًا أو أنثى وبهذا قال الشافعي, وأبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة لأن الوارث يقوم مقام الميت في ميراثه وديونه, والديون التي عليه وبيناته ودعاويه, والأيمان التي له وعليه وكذلك في النسب وقد روت عائشة أن سعد بن أبي وقاص اختصم هو وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة, فقال سعد: أوصانى أخى عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه فقال عبد بن زمعة: هو أخي, وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله -ﷺ-: (هو لك يا عبد بن زمعة وللعاهر الحجر ) فقضى به لعبد بن زمعة وقال (احتجبي منه يا سودة) والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يثبت إلا بإقرار رجلين, أو رجل وامرأتين وقال مالك: لا يثبت إلا بإقرار اثنين لأنه يحمل النسب على غيره فاعتبر فيه العدد كالشهادة ولنا, أنه حق يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه العدد كالدين ولأنه قول لا تعتبر فيه العدالة, فلم يعتبر العدد فيه كإقرار الموروث واعتباره بالشهادة لا يصح لأنه لا يعتبر فيه اللفظ ولا العدالة, ويبطل بالإقرار بالدين. فصل
فى شروط الإقرار بالنسب: لا يخلو إما أن يقر على نفسه خاصة أو عليه وعلى غيره فإن أقر على نفسه, مثل أن يقر بولد اعتبر في ثبوت نسبه أربعة شروط أحدها أن يكون المقر به مجهول النسب, فإن كان معروف النسب لم يصح لأنه يقطع نسبه الثابت من غيره وقد لعن النبى -ﷺ- من انتسب إلى غير أبيه, أو تولى غير مواليه الثاني أن لا ينازعه فيه منازع لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارضا فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر الثالث, أن يمكن صدقه بأن يكون المقر به يحتمل أن يولد لمثله الرابع أن يكون ممن لا قول له, كالصغير والمجنون أو يصدق المقر إن كان ذا قول وهو المكلف, فإن كان غير مكلف لم يعتبر تصديقه فإن كبر وعقل فأنكر, لم يسمع إنكاره لأن نسبه ثابت وجرى ذلك مجرى من ادعى ملك عبد صغير في يده وثبت بذلك ملكه, فلما كبر جحد ذلك ولو طلب إحلافه على ذلك لم يستحلف لأن الأب لو عاد فجحد النسب لم يقبل منه وإن اعترف إنسان بأن هذا أبوه, فهو كاعترافه بأنه ابنه فأما إن كان إقرارا عليه وعلى غيره كإقرار بأخ اعتبر فيه الشروط الأربعة, وشرط خامس وهو كون المقر جميع الورثة فإن كان المقر زوجا أو زوجة لا وارث معهما, لم يثبت النسب بإقرارهما لأن المقر لا يرث المال كله وإن اعترف به الإمام معه ثبت النسب لأنه قائم مقام المسلمين, في مشاركة الوارث وأخذ الباقي وإن كان الوارث بنتا أو أختا أو أما أو ذا فرض يرث جميع المال بالفرض والرد ثبت النسب بقوله كالابن لأنه يرث المال كله وعند الشافعي: لا يثبت بقوله النسب لأنه لا يرى الرد, ويجعل الباقي لبيت المال ولهم فيما إذا وافقه الإمام في الإقرار وجهان وهذا من فروع الرد ويذكر في موضعه وإن كانت بنت وأخت أو أخت وزوج, ثبت النسب بقولهما لأنهما يأخذان المال كله وإذا أقر بابن ابنه وابنه ميت اعتبرت فيه الشروط التي تعتبر في الإقرار بالأخ, وكذلك إن أقر بعم وهو ابن جده فعلى ما ذكرناه. فصل
وإن كان أحد الولدين غير وارث لكونه رقيقا, أو مخالفا لدين موروثه أو قاتلا فلا عبرة به, وثبت النسب بقول الآخر وحده لأنه يحوز جميع الميراث ثم إن كان المقر به يرث شارك المقر في الميراث وإن كان غير وارث, لوجود أحد الموانع فيه ثبت نسبه ولم يرث وسواء كان المقر مسلما أو كافرا. فصل
وإن كان أحد الوارثين غير مكلف كالصبي والمجنون, فأقر المكلف بأخ ثالث لم يثبت النسب بإقراره لأنه لا يحوز الميراث كله فإن بلغ الصبي أو أفاق المجنون, فأقرا به أيضا ثبت نسبه لاتفاق جميع الورثة عليه وإن أنكر لم يثبت النسب وإن ماتا قبل أن يصيرا مكلفين, ثبت نسب المقر به لأنه وجد الإقرار من جميع الورثة فإن المقر به صار جميع الورثة ولو كان الوارثان بالغين عاقلين فأقر به أحدهما وأنكر الآخر, ثم مات المنكر وورثه المقر ثبت نسب المقر به لأن المقر به صار جميع الورثة فأشبه ما لو أقر به ابتداء بعد موت أخيه, وكما لو كان شريكه في الميراث غير مكلف وفيه وجه آخر أنه لا يثبت النسب لأنه أنكره بعض الورثة فلم يثبت نسبه كما لو لم يمت, بخلاف ما إذا كان شريكه غير مكلف فإنه لم ينكره وارث وهذا فيما إذا كان المقر يحوز جميع الميراث بعد الميت فإن كان للميت وارث سواه, أو من يشاركه في الميراث لم يثبت النسب بقول الباقي منهما وجها واحدا لأنه ليس كل الورثة, ويقوم وارث الميت الثاني مقامه فإذا وافق المقر في إقراره ثبت النسب وإن خالفه لم يثبت كالموروث وإن خلف ولدين, فأقر أحدهما بأخ وأنكره الآخر ثم مات المنكر, وخلف ابنا فأقر بالذي أنكره أبوه ثبت نسبه لإقرار جميع الورثة به ويحتمل أن لا يثبت لإنكار الميت له. فصل
وإذا أقر الوارث بمن يحجبه, كأخ أقر بابن للميت وأخ من أب أقر بأخ من أبوين وابن ابن أقر بابن للميت, ثبت نسب المقر به وورث وسقط المقر وهذا اختيار ابن حامد والقاضى وقول أبي العباس بن سريج وقال أكثر أصحاب الشافعي: يثبت نسب المقر به, ولا يرث لأن توريثه يفضى إلى إسقاط توريثه فسقط بيانه أنه لو ورث لخرج المقر به عن كونه وارثا فيبطل إقراره, ويسقط نسب المقر به وتوريثه فيؤدى توريثه إلى إسقاط نسبه وتوريثه فأثبتنا النسب دون الميراث ولنا, أنه ابن ثابت النسب لم يوجد في حقه أحد موانع الإرث فيدخل في عموم قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} أي فيرث, كما لو ثبت نسبه ببينة ولأن ثبوت النسب سبب للميراث فلا يجوز قطع حكمه عنه, ولا يورث محجوب به مع وجوده وسلامته من الموانع وما احتجوا به لا يصح لأننا إنما نعتبر كون المقر وارثا على تقدير عدم المقر به وخروجه بالإقرار عن الإرث لا يمنع صحته بدليل أن الابن إذا أقر بأخ فإنه يرث, مع كونه يخرج بإقراره عن أن يكون جميع الورثة فإن قيل: إنما يقبل إقراره إذا صدقه المقر به فصار إقرارا من جميع الورثة وإن كان المقر به طفلا أو مجنونا, لم يعتبر قوله فقد أقر كل من يعتبر قوله قلنا: ومثله هاهنا فإنه إن كان المقر به كبيرا, فلا بد من تصديقه فقد أقر به كل من يعتبر إقراره وإن كان صغيرا غير معتبر القول, لم يثبت النسب بقول الآخر كما لو كانا اثنين أحدهما صغير فأقر البالغ بأخ آخر لم يقبل ولم يقولوا: أنه لا تعتبر موافقته, كذا هاهنا ولأنه لو كان في يد إنسان عبد محكوم له بملكه فأقر به لغيره ثبت للمقر له, وإن كان المقر يخرج بالإقرار عن كونه مالكا كذا هاهنا. فصل
فإن خلف ابنا فأقر بأخ, ثبت نسبه ثم إن أقر بثالث ثبت نسبه أيضا لأنه إقرار من جميع الورثة فإن قال الثالث: الثاني ليس بأخ لنا فقال القاضي: يسقط نسب الثاني لأن الثالث وارث منكر لنسب الثاني, فأشبه ما لو كان نسبه ثابتا قبل الثاني وفيه وجه آخر: لا يسقط نسبه ولا ميراثه لأن نسبه ثبت بقول الأول وثبت ميراثه فلا يسقط بعد ثبوته, ولأنه أقر به من هو كل الورثة حين الإقرار وثبت ميراثه فلا يسقط بعد ثبوته ولأن الثاني لو أنكر الثالث, لم يثبت نسبه وإنما ثبت نسبه بإقراره فلا يجوز له إسقاط نسب من يثبت نسبه بقوله, كالأول ولأن ذلك يؤدى إلى إسقاط الأصل بالفرع الذي يثبت به. فصل
وإن أقر الابن بأخويه دفعة واحدة فصدق كل واحد منهما صاحبه, ثبت نسبهما وإن تكاذبا ففيهما وجهان أحدهما لا يثبت نسبهما وهو مذهب الشافعي لأن كل واحد منهما لم يقر به كل الورثة والثاني, يثبت نسبهما لأن كل واحد منهما وجد الإقرار به من ثابت النسب هو كل الورثة حين الإقرار فلم تعتبر موافقة غيره, كما لو كانا صغيرين فإن كان أحدهما يصدق صاحبه دون الآخر ثبت نسب المتفق عليه منهما وفي الآخر وجهان وإن كانا توأمين, ثبت نسبهما ولم يلتفت إلى إنكار المنكر منهما سواء تجاحدا معا, أو جحد أحدهما صاحبه لأننا نعلم كذبهما فإنهما لا يفترقان ولو أقر الوارث بنسب أحدهما ثبت نسب الآخر لأنهما لا يفترقان في النسب وإن أقر بنسب صغيرين, دفعة واحدة ثبت نسبهما على الوجه الذي يثبت فيه نسب الكبيرين المتجاحدين وهل يثبت على الوجه الآخر؟ يحتمل أن يثبت لأنه أقر به كل الورثة حين الإقرار, ولم يجحده أحد فأشبه ما لو انفرد ويحتمل ألا يثبت لأن أحدهما وارث ولم يقر بصاحبه, فلم يجتمع كل الورثة على الإقرار به ويدفع المقر إلى كل واحد منهما ثلث الميراث سواء قلنا بثبوت النسب أو لم نقل لأنه مقر به. فصل
إذا خلف امرأة وأخا, فأقرت المرأة بابن للميت وأنكر الأخ لم يثبت نسبه ودفعت إليه ثمن الميراث, وهو الفضلة التي في يد الزوجة عن ميراثها وإن أقر به الأخ وحده لم يثبت نسبه ودفع إليه جميع ما في يده وهو ثلاثة أرباع المال فإن خلف اثنين, فأقر أحدهما بامرأة لأبيه وأنكر الآخر لم تثبت الزوجية, ويدفع إليها نصف الميراث ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة كقولنا لأن الزوجية زالت بالموت وإنما المقر به حقها من الميراث ولهم وجه آخر: لا شيء لها وإن كان للميت امرأة أخرى, فلا شيء للمقر لها لأن الفضل الذي تستحقه في يد غير المقر وكذلك ما كان مثل هذا مثل أن يخلف أخا من أب وأخا من أم فيقر الأخ من الأم بأخ للميت, فلا شيء للمقر به سواء أقر بأخ من أبوين أو من أب, أو من أم لأن ميراثه في يد غير المقر وإن أقر بأخوين من أم دفع إليهما ثلث ما في يده لأنه يقر أنهم شركاء في الثلث لكل واحد منهما تسع, وفي يده سدس وهو تسع ونصف تسع فيفضل في يده نصف تسع, وهو ثلث ما في يده. فصل
وإذا شهد من الورثة رجلان عدلان بنسب مشارك لهم في الميراث ثبت نسبه إذا لم يكونا متهمين وكذلك إن شهدا على إقرار الميت به وإن كانا متهمين كأخوين من أم يشهدان بأخ من أبوين, في مسألة فيها زوج وأختان من أبوين لم تقبل شهادتهما لأن ثبوت نسبه يسقط العول فيتوفر عليهما الثلث وكذلك لو شهدا بأخ من أب, في مسألة معهما أم وأخت من أبوين وأخت من أب لم تقبل شهادتهما لأن ثبوت نسبه يسقط أخته فيذهب العول من المسألة فإن لم يكونا وارثين, أو لم يكن للميت تركة قبلت شهادتهما وثبت النسب لعدم التهمة. فصل
وإن أقر رجلان عدلان بنسب مشارك لهما في الميراث, وثم وارث غيرهما لم يثبت النسب إلا أن يشهدا به, وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يثبت لأنهما بينة ولنا أنه إقرار من بعض الورثة فلم يثبت به النسب, كالواحد وفارق الشهادة لأنه تعتبر فيها العدالة والذكورية والإقرار بخلافه. فصل
إذا أقر بنسب ميت صغير أو مجنون, ثبت نسبه وورثه وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن يثبت نسبه دون ميراثه لأنه متهم في قصد أخذ ميراثه وقال أبو حنيفة: لا يثبت نسبه ولا إرثه لذلك ولنا أن علة ثبوت نسبه في حياته الإقرار به, وهو موجود بعد الموت فيثبت به كحالة الحياة وما ذكروه يبطل بما إذا كان المقر به حيا موسرا, أو المقر فقيرا فإنه يثبت نسبه ويملك المقر التصرف في ماله, وإيقافه منه على نفسه وإن كان المقر به كبيرا عاقلا فكذلك في قول القاضي وظاهر مذهب الشافعي لأنه لا قول له, أشبه الصغير وفيه وجه آخر أنه لا يثبت نسبه لأن نسب المكلف لا يثبت إلا بتصديقه ولم يوجد ويجاب عن هذا بأنه غير مكلف, فإن ادعى نسب المكلف في حياته فلم يصدقه حتى مات المقر ثم صدقه, ثبت نسبه لأنه وجد الإقرار والتصديق من المقر به فأشبه ما لو صدقه في حياته وقال أبو الخطاب: وإذا أقر رجل بزوجية امرأة أو أقرت أن فلانًا زوجها, فلم يصدقه المقر به إلا بعد موته ورثه لأنه وجد الإقرار والتصديق معا. فصل
وإذا خلف رجل امرأة وابنا من غيرها فأقر الابن بأخ له, لم يثبت نسبه لأنه لم يقر به كل الورثة وهل يتوارثان؟ فيه وجهان أحدهما يتوارثان لأن كل واحد منهما يقر أنه لا وارث له سوى صاحبه ولا منازع لهما والثاني لا يتوارثان لأن النسب بينهما لم يثبت فإن كان لكل واحد منهما وارث غير صاحبه, لم يرثه لأنه منازع في الميراث ولم يثبت نسبه. فصل
وإذا ثبت النسب بالإقرار ثم أنكر المقر, لم يقبل إنكاره لأنه نسب ثبت بحجة شرعية فلم يزل بإنكاره كما لو ثبت ببينة أو بالفراش وسواء كان المقر به غير مكلف, أو مكلفا فصدق المقر ويحتمل أن يسقط نسب المكلف باتفاقهما على الرجوع عنه لأنه ثبت باتفاقهما فزال برجوعهما, كالمال والأول أصح لأنه نسب ثبت بالإقرار فأشبه نسب الصغير والمجنون وفارق المال لأن النسب يحتاط لإثباته. فصل
وإن أقرت المرأة بولد ولم تكن ذات زوج ولا نسب, قبل إقرارها وإن كانت ذات زوج فهل يقبل إقرارها؟ على روايتين إحداهما لا يقبل لأن فيه حملا لنسب الولد على زوجها, ولم يقر به أو إلحاقا للعار به بولادة امرأته من غيره والثانية: يقبل لأنها شخص أقر بولد يحتمل أن يكون منه فقبل كالرجل وقال أحمد, في رواية ابن منصور في امرأة ادعت ولدا: فإن كان لها إخوة أو نسب معروف فلا بد من أن يثبت أنه ابنها, فإن لم يكن لها دافع فمن يحول بينها وبينه وهذا لأنها متى كانت ذات أهل فالظاهر أنه لا تخفى عليهم ولادتها, فمتى ادعت ولدا لا يعرفونه فالظاهر كذبها ويحتمل أن تقبل دعواها مطلقًا لأن النسب يحتاط له فأشبهت الرجل. فصل
وإن أقر بنسب صغير, لم يكن مقرًا بزوجية أمه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: إذا كانت مشهورة بالحرية كان مقرًا بزوجيتها لأن أنساب المسلمين وأحوالهم يجب حملها على الصحة, وذلك أن تكون ولدته منه في نكاح صحيح ولنا أن الزوجية ليست مقتضى لفظه ولا مضمونه فلم يكن مقرًا بها, كما لو لم تكن معروفة بالحرية وما ذكروه لا يصح فإن النسب محمول على الصحة وقد يلحق بالوطء في النكاح الفاسد والشبهة فلا يلزمه بحكم إقراره, ما لم يتضمنه لفظه ولم يوجبه. فصل
وإذا كان له أمة لها ثلاثة أولاد لا زوج لها, ولا أقر بوطئها فقال: أحد هؤلاء ولدى فإقراره صحيح ويطالب بالبيان, فإن عين أحدهم ثبت نسبه وحريته ثم يسأل عن كيفية الاستيلاد فإن قال: كان بنكاح فعلى الوالد الولاء لأنه قد مسه رق, والأم وولداها الآخران رقيق قن وإن قال: استولدتها في ملكى فالمقر به حر الأصل لا ولاء عليه والأمة أم ولد ثم إن كان المقر به الأكبر, فأخواه أبناء أم ولد حكمهما حكمها في العتق بموت سيدها وإن كان الأوسط فالأكبر قن, والأصغر له حكم أمه وإن عين الأصغر فأخواه رقيق قن لأنها ولدتهما قبل الحكم بكونها أم ولد, وإن قال: هو من وطء شبهة فالولد حر الأصل وأخواه مملوكان وإن مات قبل أن يبين, أخذ ورثته بالبيان ويقوم بيانهم مقام بيانه فإن بينوا النسب ولم يبينوا الاستيلاد, ثبت النسب وحرية الولد ولم يثبت للأم ولا لولديها حكم الاستيلاد لأنه يحتمل أن يكون من نكاح أو وطء شبهة وإن لم يبينوا النسب, وقالوا: لا نعرف ذلك ولا الاستيلاد فإنا نريه القافة, فإن ألحقوا به واحدا منهم ألحقناه ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره فإن لم تكن قافة أقرع بينهم, فمن وقعت له القرعة عتق وورث وبهذا قال الشافعي إلا أنه لا يورثه بالقرعة ولنا أنه حر استندت حريته إلى إقرار أبيه به, فورث كما لو عينه في إقراره. فصل
وإذا كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد, فقال: أحد هذين ولدى من أمتي نظرت فإن كان لكل واحدة منهما زوج يمكن إلحاق الولد به لم يصح إقراره وألحق الولدان بالزوجين وإن كان لإحداهما زوج دون الأخرى, انصرف الإقرار إلى ولد الأخرى لأنه الذي يمكن إلحاقه به وإن لم يكن لواحدة منهما زوج ولكن أقر السيد بوطئهما, صارتا فراشا ولحق ولداهما به إذا أمكن أن يولدا بعد وطئه وإن أمكن في إحداهما دون الأخرى, انصرف الإقرار إلى من أمكن لأنه ولده حكما وإن لم يكن أقر بوطء واحدة منهما صح إقراره وثبتت حرية المقر به لأنه أقر بنسب صغير مجهول النسب مع الإمكان لا منازع له فيه فلحقه نسبه, ثم يكلف البيان كما لو طلق إحدى نسائه فإذا بين قبل بيانه لأن المرجع في ذلك إليه, ثم يطالب ببيان كيفية الولادة فإن قال: استولدتها في ملكى فالولد حر الأصل لا ولاء عليه, وأمه أم ولد وإن قال: في نكاح فعلى الولد الولاء لأنه مسه رق والأمة قن لأنها علقت بمملوك وإن قال: بوطء شبهة فالولد حر الأصل والأمة قن لأنها علقت به في غير ملك وإن ادعت الأخرى أنها التي استولدها فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الاستيلاد, فأشبه ما لو ادعت ذلك من غير إقراره بشيء فإذا حلف رقت ورق ولدها وإذا مات ورثه ولده المقر به وإن كانت أمة قد صارت أم ولد عتقت أيضا, وإن لم تصر أم ولد عتقت على ولدها إن كان هو الوارث وحده وإن كان معه غيره عتق منها بقدر ما ملك فإن مات قبل أن يبين قام وارثه مقامه في البيان لأنه يقوم مقامه في إلحاق النسب وغيره, فإذا بين كان كما لو بين الموروث وإن لم يعلم الوارث كيفية الاستيلاد ففى الأمة وجهان أحدهما, يكون رقيقا لأن الرق الأصل فلا يزول بالاحتمال والثاني يعتق لأن الظاهر أنها ولدته في ملكه لأنه أقر بولدها وهى في ملكه وهذا منصوص الشافعي فإن لم يكن وارث أو كان وارث فلم يعين, عرض على القافة فإن ألحقت به أحدهما ثبت نسبه, وكان حكمه كما لو عين الوارث فإن لم تكن قافة أو كانت فلم تعرف, أقرع بين الولدين فيعتق أحدهما بالقرعة لأن للقرعة مدخلا في إثبات الحرية وقياس المذهب ثبوت نسبه وميراثه على ما ذكرنا في التي قبلها وقال الشافعي: لا يثبت نسب ولا ميراث واختلفوا في الميراث, فقال المزنى: يوقف نصيب ابن لأننا تيقنا ابنا وارثا ولهم وجه آخر: لا يوقف شيء لأنه لا يرجى انكشافه وقال أبو حنيفة: يعتق من كل واحد نصفه ويستسعى في باقيه ولا يرثان وقال ابن أبي ليلى مثل ذلك, إلا أنه يجعل الميراث بينهما نصفين ويدفعانه في سعايتهما والكلام على قسمة الحرية والسعاية يأتى في العتق -إن شاء الله تعالى-. مسألة
قال: [وكذلك إن أقر بدين على أبيه, لزمه من الدين بقدر ميراثه] وجملة ذلك أن الوارث إذا أقر بدين على موروثه قبل إقراره بغير خلاف نعلمه ويتعلق ذلك بتركة الميت, كما لو أقر به الميت قبل موته فإن لم يخلف تركة لم يلزم الوارث بشيء لأنه لا يلزمه أداء دينه إذا كان حيا مفلسا, فكذلك إذا كان ميتا وإن خلف تركة تعلق الدين بها فإن أحب الوارث تسليمها في الدين, لم يلزمه إلا ذلك وإن أحب استخلاصها وإيفاء الدين من ماله فله ذلك, ويلزمه أقل الأمرين من قيمتها أو قدر الدين بمنزلة الجانى وإن كان الوارث واحدا فحكمه ما ذكرنا وإن كانا اثنين أو أكثر وثبت الدين بإقرار الميت, أو بينة أو إقرار جميع الورثة فكذلك وإذا اختار الورثة أخذ التركة وقضاء الدين من أموالهم, فعلى كل واحد منهم من الدين بقدر ميراثه وإن أقر أحدهم لزمه من الدين بقدر ميراثه والخيرة إليه في تسليم نصيبه في الدين أو استخلاصه وإذا قدره من الدين, فإن كانا اثنين لزمه النصف وإن كانوا ثلاثة, فعليه الثلث وبهذا قال النخعي والحسن والحكم, وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور, والشافعي في أحد قوليه وقال أصحاب الرأى: يلزمه جميع الدين أو جميع ميراثه وهذا آخر قولي الشافعي رجع إليه بعد قوله كقولنا لأن الدين يتعلق بتركته فلا يستحق الوارث منها إلا ما فضل من الدين لقول الله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} ولأنه يقول: ما أخذه المنكر أخذه بغير استحقاق فكان غاصبا, فتعلق الدين بما بقى من التركة كما لو غصبه أجنبى ولنا أنه لا يستحق أكثر من نصف الميراث, فلا يلزمه أكثر من نصف الدين كما لو أقر أخوه ولأنه إقرار يتعلق بحصته وحصة أخيه, فلا يجب عليه إلا ما يخصه كالإقرار بالوصية وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة, ولأنه حق لو ثبت ببينة أو قول الميت أو إقرار الوارثين, لم يلزمه إلا نصفه فلم يلزمه بإقراره أكثر من نصفه كالوصية, ولأن شهادته بالدين مع غيره تقبل ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا. فصل
إذا ادعى رجلان دارا بينهما ملكاها بسبب يوجب الاشتراك, مثل أن يقولا: ورثناها أو ابتعناها معا فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما فذلك لهما جميعا لأنهما اعترفا أن الدار لهما مشاعة فإذا غصب غاصب نصفها, كان منهما والباقى بينهما وإن لم يكونا ادعيا شيئا يقتضي الاشتراك, بل ادعى كل واحد منهما نصفها فأقر لأحدهما بما ادعاه لم يشاركه الآخر, وكان على خصومته لأنهما لم يعترفا بالاشتراك فإن أقر لأحدهما بالكل وكان المقر له يعترف للآخر بالنصف, سلمه إليه وكذلك إن كان قد تقدم إقراره بذلك وجب تسليم النصف, إليه لأن الذي هي في يده قد اعترف له بها فصار بمنزلته فيثبت لمن يقر له, وإن لم يكن اعترف للآخر وادعى جميعها أو ادعى أكثر من النصف فهو له فإن قيل: فكيف يملك جميعها ولم يدع إلا نصفها؟ قلنا: ليس من شرط صحة الإقرار تقدم الدعوى, بل متى أقر الإنسان بشيء فصدقه المقر له ثبت وقد وجد التصديق هاهنا في النصف الذي لم يسبق دعواه, ويجوز أن يكون اقتصر على دعوى ألف لأن له حجة به أو لأن النصف الآخر قد اعترف له به فادعى النصف الذي لم يعترف به فإن لم يصدقه في إقراره بالنصف الذي لم يدعه, ولم يعترف به للآخر ففيه ثلاثة أوجه أحدها: يبطل الإقرار به لأنه أقر به لمن لا يدعيه الثاني ينزعه الحاكم من يده حتى يثبت لمدعيه, ويؤجره ويحفظ أجرته لمالكه والثالث يدفع إلى مدعيه لعدم المنازع فيه ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كنحو ما ذكرنا. مسألة
قال:[وكل من قلت: القول قوله فلخصمه عليه اليمين] يعني في هذا الباب وفيما أشبهه, مثل أن يقول: عندي ألف ثم قال: وديعة أو قال: على ثم قال: وديعة أو قال: له عندي رهن فقال المالك: وديعة ومثل الشريك والمضارب والمنكر للدعوى وإذا اختلفا في قيمة الرهن أو قدره أو قدر الدين الذي الرهن به, وأشباه هذا فكل من قلنا القول قوله فعليه لخصمه اليمين لقول النبى -ﷺ-: ( لو أعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) رواه مسلم ولأن اليمين يشرع في حق من ظهر صدقه, وقوى جانبه تقوية لقوله واستظهارا والذي جعل القول قوله كذلك, فيجب أن تشرع اليمين في حقه. فصل
إذا أقر أنه وهب وأقبض الهبة أو رهن وأقبض أو أقر أنه قبض ثمن المبيع, أو أجر المستأجر ثم أنكر ذلك وسأل إحلاف خصمه, ففيه روايتان إحداهما لا يستحلف وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأن دعواه تكذيب لإقراره فلا تسمع, كما لو أقر المضارب أنه ربح ألفا ثم قال: غلطت ولأن الإقرار أقوى من البينة ولو شهدت البينة فقال: أحلفوه لي مع بينته لم يستحلف, كذا هاهنا والثانية يستحلف وهو قول الشافعي وأبى يوسف لأن العادة جارية بالإقرار قبل القبض فيحتمل صحة ما قاله, فينبغى أن يستحلف خصمه لنفى الاحتمال ويفارق الإقرار البينة لوجهين أحدهما أن العادة جارية بالإقرار بالقبض قبله ولم تجر العادة بالشهادة على القبض قبله لأنها تكون شهادة زور والثاني, أن إنكاره مع الشهادة طعن في البينة وتكذيب لها وفي الإقرار بخلافه ولم يذكر القاضي في " المجرد " غير هذا الوجه وكذلك لو أقر أنه اقترض منه ألفا وقبضها, أو قال: له علي ألف ثم قال: ما كنت قبضتها وإنما أقررت لأقبضها فالحكم كذلك ولأنه يمكن أن يكون قد أقر بقبض ذلك بناء على قول وكيله وظنه والشهادة لا تجوز إلا على اليقين فأما إن أقر أنه وهبه طعاما, ثم قال: ما أقبضتكه وقال المتهب: بل أقبضتنيه فالقول قول الواهب لأن الأصل عدم القبض وإن كانت في يد المتهب فقال: أقبضتنيها فقال: بل أخذتها منى بغير إذنى فالقول قول الواهب أيضا لأن الأصل عدم الإذن وإن كانت حين الهبة في يد المتهب لم يعتبر إذن الواهب, وإنما يعتبر مضى مدة يتأتى القبض فيها وعلى من قلنا: القول قوله منهما اليمين لما ذكرنا. مسألة
قال: [والإقرار بدين في مرض موته كالإقرار في الصحة إذا كان لغير وارث] هذا ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل العلم, قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المريض في مرضه لغير الوارث جائز وحكى أصحابنا رواية أخرى أنه لا يقبل لأنه إقرار في مرض الموت أشبه الإقرار لوارث وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه لا يقبل إقراره بزيادة على الثلث لأنه ممنوع من عطية ذلك لأجنبي, كما هو ممنوع من عطية الوارث فلا يصح إقراره بما لا يملك عطيته بخلاف الثلث فما دون ولنا, أنه إقرار غير متهم فيه فقبل كالإقرار في الصحة, يحققه أن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه وإبراء ذمته وتحرى الصدق, فكان أولى بالقبول وفارق الإقرار للوارث لأنه متهم فيه على ما سنذكره . فصل
فإن أقر لأجنبى بدين في مرضه وعليه دين ثبت ببينة أو إقرار في صحته, وفي المال سعة لهما فهما سواء وإن ضاق عن قضائهما, فظاهر كلام الخرقى أنهما سواء وهو اختيار التميمي وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وذكر أبو عبيد أنه قول أكثر أهل المدينة لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال لم يختص أحدهما برهن فاستويا, كما لو ثبتا ببينة وقال أبو الخطاب لا يحاص غرماء الصحة وقال القاضي: هو قياس المذهب لنص أحمد في المفلس أنه إذا أقر وعليه دين ببينة يبدأ بالدين الذي بالبينة وبهذا قال النخعي والثورى وأصحاب الرأى لأنه أقر بعد تعلق الحق بتركته فوجب أن لا يشارك المقر له من ثبت دينه ببينة, كغريم المفلس الذي أقر له بعد الحجر عليه والدليل على تعلق الحق بماله منعه من التبرع ومن الإقرار لوارث ولأنه محجور عليه ولهذا لا تنفذ هباته وتبرعاته, فلم يشارك من أقر له قبل الحجر ومن ثبت دينه ببينة كالذي أقر له المفلس وإن أقر لهما جميعا في المرض, تساويا ولم يقدم السابق منهما لأنهما استويا في الحال فأشبها غريمى الصحة " مسألة
قال:[وإن أقر لوارث, لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببينة] وبهذا قال شريح وأبو هاشم وابن أذينة, والنخعي ويحيى الأنصاري وأبو حنيفة وأصحابه وروى ذلك عن القاسم, وسالم وقال عطاء والحسن وإسحاق وأبو ثور: يقبل لأن من صح الإقرار له في الصحة صح في المرض كالأجنبى وللشافعى قولان كالمذهبين وقال مالك يصح إذا لم يتهم, ويبطل إن اتهم كمن له بنت وابن عم فأقر لابنته, لم يقبل وإن أقر لابن عمه قبل لأنه لا يتهم في أنه يزوى ابنته ويوصل المال إلى ابن عمه, وعلة منع الإقرار التهمة فاختص المنع بموضعها ولنا أنه إيصال لماله إلى وارثه بقوله في مرض موته فلم يصح بغير رضى بقية ورثته, كهبته ولأنه محجور عليه في حقه فلم يصح إقراره له, كالصبي في حق جميع الناس وفارق الأجنبى فإن هبته له تصح وما ذكره مالك لا يصح فإن التهمة لا يمكن اعتبارها بنفسها فوجب اعتبارها بمظنتها وهو الإرث وكذلك اعتبر في الوصية والتبرع وغيرهما. فصل
وإن أقر لامرأته بمهر مثلها أو دونه, صح في قولهم جميعا لا نعلم فيه مخالفا إلا الشعبى قال: لا يجوز إقراره لها لأنه إقرار لوارث ولنا أنه إقرار بما تحقق سببه وعلم وجوده, ولم تعلم البراءة منه فأشبه ما لو كان عليه دين ببينة فأقر بأنه لم يوفه وكذلك إن اشترى من وارثه شيئا, فأقر له بثمن مثله لأن القول قول المقر له في أنه لم يقبض ثمنه وإن أقر لامرأته بدين سوى الصداق لم يقبل وإن أقر لها, ثم أبانها ثم رجع تزوجها ومات في مرضه, لم يقبل إقراره لها وقال محمد بن الحسن يقبل لأنها صارت إلى حال لا يتهم فيها فأشبه ما لو أقر المريض ثم برأ ولنا أنه إقرار لوارث في مرض الموت, أشبه ما لو لم يبنها وفارق ما إذا صح من مرضه لأنه لا يكون مرض الموت. فصل
وإن أقر لوارث فصار غير وارث كرجل أقر لأخيه ولا ولد له, ثم ولد له ابن لم يصح إقراره له وإن أقر لغير وارث ثم صار وارثا, صح إقراره له نص عليه أحمد في رواية ابن منصور: إذا أقر لامرأة بدين في المرض ثم تزوجها جاز إقراره لأنه غير متهم وحكى له قول سفيان في رجل له ابنان, فأقر لأحدهما بدين في مرضه ثم مات الابن وترك ابنا, والأب حى ثم مات بعد ذلك جاز إقراره فقال أحمد لا يجوز وبهذا قال عثمان البتى وذكر أبو الخطاب رواية أخرى في الصورتين مخالفة لما قلنا وهو قول سفيان الثورى والشافعي لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث, فكان الاعتبار فيه بحالة الموت كالوصية ولنا أنه قول تعتبر فيه التهمة, فاعتبرت حال وجوده دون غيره كالشهادة ولأنه إذا أقر لغير وارث, ثبت الإقرار وصح لوجوده من أهله خاليا عن تهمة فيثبت الحق به, ولم يوجد مسقط له فلا يسقط وإذا أقر لوارث وقع باطلًا لاقتران التهمة به, فلا يصح بعد ذلك ولأنه إقرار لوارث فلم يصح, كما لو استمر الميراث وإن أقر لغير وارث صح واستمر, كما لو استمر عدم الإرث أما الوصية فإنها عطية بعد الموت فاعتبرت فيها حالة الموت, بخلاف مسألتنا. فصل
وإن أقر لوارث وأجنبى بطل في حق الوارث وصح في حق الأجنبى ويحتمل أن لا يصح في حق الأجنبي, كما لو شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل وكما لو شهد لابنه وأجنبى وقال أبو حنيفة إن أقر لهما بدين من الشركة, فاعترف الأجنبى بالشركة صح الإقرار لهما وإن جحدها, صح له دون الوارث ولنا أنه إقرار لوارث وأجنبى فيصح للأجنبى دون الوارث, كما لو أقر بلفظين أو كما لو جحد الأجنبى الشركة ويفارق الإقرار الشهادة لقوة الإقرار ولذلك لا تعتبر فيه العدالة ولو أقر بشيء له فيه نفع, كالإقرار بنسب موسر قبل ولو أقر بشيء يتضمن دعوى على غيره قبل فيما عليه دون ما له كما لو قال لامرأته: خلعتك علي ألف بانت بإقراره, والقول قولها في نفى العوض وإن قال لعبده: اشتريت نفسك منى بألف فكذلك. فصل
ويصح إقرار المريض بوارث في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه إقرار لوارث, فأشبه الإقرار له بمال والأول أصح لأنه عند الإقرار غير وارث فصح كما لو لم يصر وارثا ويمكن بناء هذه المسألة على ما إذا أقر لغير وارث, ثم صار وارثا فمن صحح الإقرار ثم صححه هاهنا, ومن أبطله أبطله وإن ملك ابن عمه فأقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته, وهو أقرب عصبته عتق ولم يرثه لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته, وإذا بطلت الحرية سقط الإرث فصار توريثه سببا إلى إسقاط توريثه فأسقطنا التوريث وحده ويحتمل أن يرث لأنه حين الإقرار غير وارث, فصح إقراره له كالمسألة قبلها. فصل
ويصح الإقرار من المريض بإحبال الأمة لأنه يملك ذلك فملك الإقرار به وكذلك كل ما ملكه ملك الإقرار به فإذا أقر بذلك, ثم مات فإن بين أنه استولدها في ملكه فولده حر الأصل, وأمه أم ولد تعتق من رأس المال وإن قال: من نكاحه أو وطء شبهة لم تصر الأمة أم ولد وعتق الولد, فإن كان من نكاح فعليه الولاء لأنه مسه رق وإن قال: من وطء شبهة لم تصر الأمة أم ولد وإن لم يتبين السبب فالأمة مملوكة لأن الأصل الرق, ولم يثبت سبب الحرية ويحتمل أن تصير أم ولد لأن الظاهر استيلادها في ملكه من قبل أنها مملوكته والولادة موجودة, ولا ولاء على الولد لأن الأصل عدمه فلا يثبت إلا بدليل. فصل
في الألفاظ التي يثبت بها الإقرار إذا قال: له علي ألف أو قال له: لي عليك ألف؟ فقال: نعم, أو أجل أو صدقت أو لعمري, أو أنا مقر به أو بما ادعيت أو بدعواك كان مقرًا في جميع ذلك لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق, قال الله تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم} وإن قال: أليس لي عندك ألف؟ قال: بلى كان إقرارا صحيحا لأن بلى جواب للسؤال بحرف النفي قال الله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} وإن قال: لك علي ألف في علمي أو فيما أعلم كان مقرًا به, لأن ما في علمه لا يحتمل إلا الوجوب وإن قال: اقضنى الألف الذي لي عليك قال: نعم كان مقرًا به لأنه تصديق لما ادعاه وإن قال: اشتر عبدى هذا أو أعطنى عبدى هذا فقال: نعم كان إقرارا لما ذكرنا وإن قال: لك علي ألف -إن شاء الله تعالى- كان مقرًا به نص عليه أحمد وقال أصحاب الشافعي: ليس بإقرار لأنه علق إقراره على شرط فلم يصح كما لو علقه على مشيئة زيد, ولأن ما علق على مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته ولنا أنه وصل إقراره بما يرفعه كله ولا يصرفه إلى غير الإقرار, فلزمه ما أقر به وبطل ما وصله به كما لو قال: له علي ألف إلا ألفا ولأنه عقب الإقرار بما لا يفيد حكما آخر, ولا يقتضي رفع الحكم أشبه ما لو قال: له علي ألف في مشيئة الله تعالى وإن قال: له علي ألف إلا أن يشاء الله صح الإقرار لأنه أقر ثم علق رفع الإقرار على أمر لا يعلم, فلم يرتفع وإن قال: لك علي ألف إن شئت أو إن شاء زيد لم يصح الإقرار وقال القاضي: يصح لأنه عقبه بما يرفعه, فصح الإقرار دون ما يرفعه كاستثناء الكل وكما لو قال: إن شاء الله ولنا, أنه علقه على شرط يمكن علمه فلم يصح كما لو قال: له علي ألف إن شهد بها فلان وذلك لأن الإقرار إخبار بحق سابق, فلا يتعلق على شرط مستقبل ويفارق التعليق على مشيئة الله تعالى فإن مشيئة الله تعالى تذكر في الكلام تبركا وصلة وتفويضا إلى الله تعالى لا للاشتراط, كقول الله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم} وقد علم الله أنهم سيدخلون بغير شك ويقول الناس: صلينا إن شاء الله تعالى مع تيقنهم صلاتهم بخلاف مشيئة الآدمى الثاني أن مشيئة الله تعالى لا تعلم إلا بوقوع الأمر, فلا يمكن وقف الأمر على وجودها ومشيئة الآدمى يمكن العلم بها فيمكن جعلها شرطا يتوقف الأمر على وجودها, والماضى لا يمكن وقفه فيتعين حمل الأمر هاهنا على المستقبل فيكون وعدا لا إقرارا وإن قال: بعتك -إن شاء الله تعالى-, أو زوجتك -إن شاء الله تعالى- فقال أبو إسحاق بن شاقلا لا أعلم خلافا عنه في أنه إذا قيل له: قبلت هذا النكاح؟ فقال: نعم -إن شاء الله تعالى- أن النكاح وقع به قال أبو حنيفة ولو قال: بعتك بألف إن شئت فقال: قد شئت وقبلت صح لأن هذا الشرط من موجب العقد ومقتضاه فإن الإيجاب إذا وجد من البائع كان القبول إلى مشيئة المشتري واختياره وإن قال: له على ألفان إن قدم فلان لم يلزمه لأنه لم يقر بها في الحال وما لا يلزمه في الحال, لا يصير واجبا عند وجود الشرط وإن قال: إن شهد فلان على لك بألف صدقته لم يكن إقرارا لأنه يجوز أن يصدق الكاذب وإن قال: إن شهد بها فلان فهو صادق احتمل أن لا يكون إقرارا لأنه علقه على شرط فأشبهت التي قبلها واحتمل أن يكون إقرارا في الحال لأنه لا يتصور صدقه إذا شهد بها إلا أن تكون ثابتة في الحال, وقد أقر بصدقه وإن قال: له علي ألف إن شهد بها فلان لم يكن إقرارا لأنه معلق على شرط. فصل
وإن قال: لي عليك ألف فقال: أنا أقر لم يكن إقرارا لأنه وعد بالإقرار في المستقبل وإن قال: لا أنكر لم يكن إقرارا لأنه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار فإن بينهما قسما آخر وهو السكوت عنهما وإن قال: لا أنكر أن تكون محقا لم يكن إقرارا لذلك وإن قال: أنا مقر ولم يزد, احتمل أن يكون مقرًا لأن ذلك عقيب الدعوى فينصرف إليها وكذلك إن قال: أقررت قال الله تعالى: {قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} ولم يقولوا أقررنا بذلك ولا زادوا عليه فكان منهم إقرارا واحتمل أن لا يكون مقرًا لأنه يحتمل أن يريد غير ذلك مثل أن يريد: أنا مقر بالشهادة أو ببطلان دعواك وإن قال لعل أو عسى لم يكن مقرًا لأنهما للترجى وإن قال: أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن إقرارا لأن هذه الألفاظ تستعمل للشك, وإن قال: خذ أو اتزن لم يكن إقرارا لأنه يحتمل: خذ الجواب أو اتزن شيئا آخر, وإن قال: خذها أو اتزنها أو هي صحاح ففيه وجهان أحدهما ليس بإقرار لأن الصفة ترجع إلى المدعي, ولم يقر بوجوبه ولأنه يجوز أن يعطيه ما يدعيه من غير أن يكون واجبا عليه فأمره بأخذها أولى أن لا يلزم منه الوجوب والثاني, يكون إقرارا لأن الضمير يعود إلى ما تقدم وإن قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر أو إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فقال أصحابنا: الأول إقرار والثاني ليس بإقرار وهذا منصوص الشافعي لأنه في الأول بدأ بالإقرار ثم عقبه بما لا يقتضي رفعه, لأن قوله: إذا جاء رأس الشهر يحتمل أنه أراد المحل فلا يبطل الإقرار بأمر محتمل وفي الثاني بدأ بالشرط فعلق عليه لفظا يصلح للإقرار ويصلح للوعد, فلا يكون إقرارا مع الاحتمال ويحتمل أنه لا فرق بينهما لأن تقديم الشرط وتأخيره سواء فيكون فيهما جميعا وجهان .
=============