(الجزء الثالث عشر – كتاب الحوالة والضمان) • كتاب الحوالة والضمان o مسألة: من أحيل بحقه على من عليه o فصل: إن أحال من لا دين له عليه رجلاً على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة o فصل: من شرط الحوالة تساوي الدينين o فصل: الشرط الرابع أن يحيل برضائه o فصل: إن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسرًا رجع على المحيل o فصل: لو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان المحال عليه مفلسا أو ميتا o مسألة: من أحيل بحقه على مليء فواجب عليه أن يحتال o فصل: إذا أحال رجلاً على زيد بألف فأحاله زيد بها على عمر فالحوالة صحيحة o فصل: إذا اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن o فصل: إن اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن على آخر o فصل: إذا كان لرجل على آخر دين فأذن لآخر في قبضه o فصل: إذا قال: أحلتك بدينك فقال: بل وكلتني o فصل: إذا كان لرجل دين على آخر فطالبه به o فصل: إن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به o فصل: صحة ضمان المجهول o فصل: فيما يصح ضمانه o فصل: فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح o فصل: صحة ضمان الدين الحال مؤجلاً o فصل: إذا ضمن دينًا مؤجلاً عن إنسان فمات أحدهما o مسألة: لا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن o فصل: لصاحب الحق مطالبة الضامن أو المضمون عنه o فصل: إن أبرأ صاحب الدين المضمون عنه برئت ذمة الضامن o فصل: إن ضمن المضمون عنه الضامن أو تكفل المكفول عنه الكفيل o مسألة: إذا أدى الدين محتسبًا بالرجوع على المضمون عنه o فصل: يرجع الضامن على المضمون عنه بأقل الأمرين o فصل: لو كان على رجلين مائة على كل منهما نصفها o فصل: إذا ضمن عن رجل بإذنه فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه o فصل: إن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى أحدهم الدين o فصل: إذا كان له ألف على رجلين على كل واحد منهما نصفه o فصل: لو ادعى ألفًا على حاضر وغائب o فصل: لا يدخل الضمان والكفالة خيار o فصل: إذا ضمن رجلان عن رجل ألفًا o مسألة: من كفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها o فصل: تصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم o فصل: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد o فصل: لا تجوز الكفالة بالمكاتب o فصل: صحة الكفالة حالة ومؤجلة o فصل: إذا عين في الكفالة تسليمه في مكان فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة o فصل: لا تصح الكفالة إلى أجل مجهول o فصل: إذا تكفل برجل إلى أجل o فصل: إن قال: كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل o فصل: لو تكفل اثنان بواحد صح o فصل: لو تكفل واحد لاثنين فأبرأه أحدهما o فصل: إذا قال رجل لآخر: اضمن عن فلان أو اكفل بفلان o مسألة: إذا مات المكفول به سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شيء o فصل: إذا قال الكفيل: قد برئ المكفول به من الدين o فصل: إذا قال المكفول له للكفيل: أبرأتك من الكفالة o فصل: فإذا قال: أعط فلانا ألفًا ففعل لم يرجع على الآمر o فصل: إلقاء الأمتعة من السفينة التي يخشى عليها الغرق o فصل: رجل له على رجل ألف درهم
عرض الكتاب
كتاب الحوالة والضمان
= الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع
== أما السنة فما روى أبو هريرة, أن النبي ـ ﷺ ـ قال: (مطل الغنى ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه وفي لفظ (من أحيل بحقه على مليء فليحتل) وأجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة واشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة, وقد قيل: إنها بيع فإن المحيل يشتري ما في ذمته بماله في ذمة المحال عليه وجاز تأخير القبض رخصة لأنه موضوع على الرفق, فيدخلها خيار المجلس لذلك والصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره لأنها لو كانت بيعا لما جازت لكونها بيع دين بدين ولما جاز التفرق قبل القبض لأنه بيع مال الربا بجنسه ولجازت بلفظ البيع, ولجازت بين جنسين كالبيع كله ولأن لفظها يشعر بالتحول لا بالبيع فعلى هذا لا يدخلها خيار, وتلزم بمجرد العقد وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله ولا بد فيها من محيل ومحتال ومحال عليه ويشترط في صحتها رضي المحيل بلا خلاف فإن الحق عليه, ولا يتعين عليه جهة قضائه وأما المحتال والمحال عليه فلا يعتبر رضاهما على ما سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ. مسألة:
قال: [ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق, فرضي فقد برئ المحيل أبدا] من شرط صحة الحوالة شروط أربعة: أحدها تماثل الحقين لأنها تحويل للحق ونقل له, فينقل على صفته ويعتبر تماثلهما في أمور ثلاثة: أحدها الجنس فيحيل من عليه ذهب بذهب, ومن عليه فضة بفضة ولو أحال من عليه ذهب بفضة أو من عليه فضة بذهب لم يصح الثاني, الصفة فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح الثالث, الحلول والتأجيل ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أجل أحدهما إلى شهر والآخر إلى شهرين, لم تصح الحوالة ولو كان الحقان حالين فشرط على المحتال أن يقبض حقه أو بعضه بعد شهر لم تصح الحوالة لأن الحال لا يتأجل ولأنه شرط ما لو كان ثابتا في نفس الأمر لم تصح الحوالة فكذلك إذا شرطه وإذا اجتمعت هذه الأمور, وصحت الحوالة وتراضيا بأن يدفع المحال عليه خيرا من حقه أو رضي المحتال بدون الصفة, أو رضي من عليه المؤجل بتعجيله أو رضي من له الحال بإنظاره جاز لأن ذلك يجوز في القرض, ففي الحوالة أولى وإن مات المحيل أو المحال فالأجل بحاله وإن مات المحال عليه, ففي حلول الحق روايتان مضى ذكرهما الشرط الثاني أن تكون على دين مستقر ولا يعتبر أن يحيل بدين [ غير ] مستقر, إلا أن السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه لأن دين السلم ليس بمستقر لكونه بعرض الفسخ لانقطاع المسلم فيه ولا تصح الحوالة به لأنها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه, والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه لقول النبي ـ ﷺ ـ: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) ولا تصح الحوالة على المكاتب بمال الكتابة لأنه غير مستقر فإن له أن يمتنع من أدائه, ويسقط بعجزه وتصح الحوالة عليه بدين غير دين الكتابة لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة, ويكون ذلك بمنزلة القبض وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح لأنه غير مستقر وإن أحالها الزوج به صح لأنه له تسليمه إليها, وحوالته به تقوم مقام تسليمه وإن أحالت به بعد الدخول صح لأنه مستقر وإن أحال البائع بالثمن على المشتري في مدة الخيار لم يصح, في قياس ما ذكرنا وإن أحاله المشتري به صح لأنه بمنزلة الوفاء وله الوفاء قبل الاستقرار وإن أحال البائع بالثمن على المشتري, ثم ظهر على عيب لم يتبين أن الحوالة كانت باطلة لأن الثمن كان ثابتا مستقرا والبيع كان لازما, وإنما ثبت الجواز عند العلم بالعيب بالنسبة إلى المشتري ويحتمل أن تبطل الحوالة لأن سبب الجواز عيب المبيع وقد كان موجودا وقت الحوالة وكل موضع أحال من عليه دين غير مستقر به ثم سقط الدين, كالزوجة ينفسخ نكاحها بسبب من جهتها أو المشتري يفسخ البيع ويرد المبيع فإن كان ذلك قبل القبض من المحال عليه, ففيه وجهان: أحدهما تبطل الحوالة لعدم الفائدة في بقائها ويرجع المحيل بدينه على المحال عليه والثاني, لا تبطل لأن الحق انتقل عن المحيل فلم يعد إليه وثبت للمحتال فلم يزل عنه, ولأن الحوالة بمنزلة القبض فكأن المحيل أقبض المحتال دينه فيرجع عليه به, ويأخذ المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر وإن كان بعد القبض لم يبطل وجها واحدا, ويرجع المحيل على المحتال به. فصل:
وإن أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة بل هي وكالة تثبت فيها أحكامها لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله ولا حق ها هنا ينتقل ويتحول, وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في المعنى وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه, وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة أيضا نص عليه أحمد فلا يلزمه المحال عليه الأداء ولا المحتال قبول ذلك لأن الحوالة معاوضة, ولا معاوضة ها هنا وإنما هو اقتراض فإن قبض المحتال منه الدين رجع على المحيل لأنه قرض وإن أبرأه ولم يقبض منه شيئا, لم تصح البراءة لأنها براءة لمن لا دين عليه وإن قبض منه الدين ثم وهبه إياه رجع المحال عليه على المحيل به لأنه قد غرم عنه, وإنما عاد إليه المال بعقد مستأنف ويحتمل أن لا يرجع عليه لكونه ما غرم عنه شيئا وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض وليست حوالة لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين, ولم يوجد واحد منهما. فصل:
الشرط الثالث أن تكون بمال معلوم لأنها إن كانت بيعا فلا تصح في مجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم, والجهالة تمنع منه فتصح بكل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب والأدهان ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في الذمة, ومن شرط الحوالة تساوي الدينين فأما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات كالمذروع والمعدود, ففي صحة الحوالة به وجهان: أحدهما: لا تصح لأن المثل فيه لا يتحرر ولهذا لا يضمنه بمثله في الإتلاف وهذا ظاهر مذهب الشافعي والثاني: تصح ذكره القاضي لأنه حق ثابت في الذمة, فأشبه ماله مثل ويحتمل أن يخرج هذان الوجهان على الخلاف فيما يقتضي به قرض هذه الأموال فإن كان عليه إبل من الدية وله على آخر مثلها في السن فقال القاضي: تصح لأنها تختص بأقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر الصفات وقال أبو الخطاب: لا تصح في أحد الوجهين لأنها مجهولة, ولأن الإبل ليست من المثليات التي تضمن بمثلها في الإتلاف ولا تثبت في الذمة سلما في رواية وإن كان عليه إبل من دية وله على آخر مثلها قرضا, فأحاله عليه فإن قلنا: يرد في القرض قيمتها لم تصح الحوالة لاختلاف الجنس وإن قلنا: يرد مثلها اقتضى قول القاضي صحة الحوالة لأنه أمكن استيفاء الحق على صفته من المحال عليه ولأن الخيرة في التسليم إلى من عليه الدين, وقد رضي بتسليم ما له في ذمة المقترض وإن كانت بالعكس فاحتال المقرض بإبل الدية لم تصح لأننا إن قلنا: تجب القيمة في القرض فقد اختلف الجنس وإن قلنا: يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته, والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك. فصل:
الشرط الرابع أن يحيل برضائه لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي على المحال عليه, ولا خلاف في هذا فإذا اجتمعت شروط الحوالة وصحت برئت ذمة المحيل في قول عامة الفقهاء إلا ما يروى عن الحسن, أنه كان لا يرى الحوالة براءة إلا أن يبرئه وعن زفر أنه قال: لا تنقل الحق وأجراها مجرى الضمان وليس بصحيح لأن الحوالة مشتقة من تحويل الحق بخلاف الضمان, فإنه مشتق من ضم ذمة إلى ذمة فعلق على كل واحد مقتضاه وما دل عليه لفظه إذا ثبت أن الحق انتقل فمتى رضي بها المحتال, ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل أبدا سواء أمكن استيفاء الحق, أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غير ذلك هذا ظاهر كلام الخرقي وبه قال الليث والشافعي, وأبو عبيد وابن المنذر وعن أحمد ما يدل على أنه إذا كان المحال عليه مفلسا ولم يعلم المحتال بذلك, فله الرجوع إلا أن يرضى بعد العلم وبه قال جماعة من أصحابنا ونحوه قول مالك لأن الفلس عيب في المحال عليه, فكان له الرجوع كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة ولأن المحيل غره, فكان له الرجوع كما لو دلس المبيع وقال شريح والشعبي, والنخعي: متى أفلس أو مات رجع على صاحبه وقال أبو حنيفة: يرجع عليه في حالين إذا مات المحال عليه مفلسا, وإذا جحده وحلف عليه عند الحاكم وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع عليه في هاتين الحالتين وإذا حجر عليه لفلس لأنه روى عن عثمان, أنه سئل عن رجل أحيل بحقه فمات المحال عليه مفلسا فقال: يرجع بحقه لا توى على مال امرئ مسلم ولأنه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين, فكان له الفسخ كما لو اعتاض بثوب فلم يسلم إليه ولنا أن حزنا جد سعيد بن المسيب, كان له على على رضي الله عنه دين فأحاله به فمات المحال عليه, فأخبره فقال: اخترت علينا أبعدك الله فأبعده بمجرد احتياله, ولم يخبره أن له الرجوع ولأنها براءة من دين ليس فيها قبض ممن عليه ولا ممن يدفع عنه فلم يكن فيها رجوع, كما لو أبرأه من الدين وحديث عثمان لم يصح يرويه خالد بن جعفر عن معاوية بن قرة عن عثمان, ولم يصح سماعه منه وقد روى أنه قال: في حوالة أو كفالة وهذا يوجب التوقف ولا يصح, ولو صح كان قول على مخالفا له وقولهم: إنه معاوضة لا يصح لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين وهو منهي عنه, ويفارق المعاوضة بالثوب لأن في ذلك قبضا يقف استقرار العقد عليه وها هنا الحوالة بمنزلة القبض وإلا كان بيع دين بدين. فصل:
فإن شرط ملاءة المحال عليه, فبان معسرا رجع على المحيل وبه قال بعض الشافعية وقال بعضهم: لا يرجع لأن الحوالة لا ترد بالإعسار إذا لم يشترط الملاءة فلا ترد به, وإن شرط كما لو اشترط كونه مسلما ويفارق البيع فإن الفسخ يثبت بالإعسار فيه من غير شرط, بخلاف الحوالة ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ: (المسلمون على شروطهم) ولأنه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضة فيثبت الفسخ بفواته كما لو شرط صفة في المبيع, وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق العقد بدليل اشتراط صفة في المبيع. فصل:
ولو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان المحال عليه مفلسا أو ميتا, رجع على المحيل بلا خلاف فإنه لا يلزمه الاحتيال على غير مليء لما عليه فيه من الضرر وإنما (أمر النبي ـ ﷺ ـ بقبول الحوالة إذا أحيل على مليء,) ولو أحاله على مليء فلم يقبل حتى أعسر فله الرجوع أيضا على ظاهر قول الخرقي لكونه اشترط في براءة المحيل إبداء رضي المحتال. مسألة:
قال: [ومن أحيل بحقه على مليء, فواجب عليه أن يحتال] المليء: هو القادر على الوفاء جاء في الحديث عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال: (إن الله تعالى يقول: من يقرض المليء غير المعدم) وقال الشاعر: تطيلين ليانى وأنت مليئة ** وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا يعني قادرة على وفائي والظاهر أن الخرقي أراد بالمليء ها هنا القادر على الوفاء غير الجاحد ولا المماطل قال أحمد في تفسير المليء كأن المليء عنده, أن يكون مليا بماله وقوله وبدنه ونحو هذا فإذا أحيل على من هذه صفته لزم المحتال والمحال عليه القبول ولم يعتبر رضاهما وقال أبو حنيفة: يعتبر رضاهما لأنها معاوضة فيعتبر الرضا من المتعاقدين وقال مالك والشافعي: يعتبر رضي المحتال لأن حقه في ذمة المحيل, فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه كما لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عرضا فأما المحال عليه فقال مالك: لا يعتبر رضاه, إلا أن يكون المحتال عدوه وللشافعي في اعتبار رضائه قولان أحدهما: يعتبر وهو يحكي عن الزهري لأنه أحد من تتم به الحوالة فأشبه المحيل والثاني: لا يعتبر لأنه أقامه في القبض مقام نفسه فلم يفتقر إلى رضا من عليه الحق كالتوكيل ولنا, قول النبي ـ ﷺ ـ: (إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ولأن للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض فلزم المحال القبول كما لو وكل رجلا في إبقائه, وفارق ما إذا أراد أن يعطيه عما في ذمته عرضا لأنه يعطيه غير ما وجب له فلم يلزمه قبوله. فصل: إذا أحال رجلا على زيد بألف فأحاله زيد بها على عمر فالحوالة صحيحة لأن حق الثاني ثابت مستقر في الذمة, فصح أن يحيل به كالأول وهكذا لو أحال الرجل عمرا على زيد بما يثبت له في ذمته صح أيضا لما ذكرنا وتكرر المحتال والمحيل لا يضر. فصل:
إذا اشترى عبدا, فأحال المشتري البائع بالثمن ثم ظهر العبد حرا أو مستحقا فالبيع باطل, والحوالة باطلة لأننا تبينا أنه لا ثمن على المشتري وإنما تثبت حريته ببينة أو اتفاقهم فإن اتفق المحيل والمحال عليه على حريته, وكذبهما المحتال ولا بينة بذلك لم يقبل قولهما عليه لأنهما يبطلان حقه, أشبه ما لو باع المشتري العبد ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حرا لم يقبل قولهما على المشتري الثاني, وإن أقاما بينة لم تسمع لأنهما كذباها بدخولهما في التبايع وإن أقام العبد بينة بحريته قبلت, وبطلت الحوالة وإن صدقهما المحتال وادعى أن الحوالة بغير ثمن العبد فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل صحة الحوالة, وهما يدعيان بطلانها فكانت جنبته أقوى فإن أقاما البينة أن الحوالة كانت بالثمن قبلت لأنهما لم يكذباها وإن اتفق المحيل والمحتال على حرية العبد, وكذبهما المحال عليه لم يقبل قولهما عليه في حرية العبد لأنه إقرار على غيرهما وتبطل الحوالة لاتفاق المرجوع عليه بالدين والراجع به على استحقاق الرجوع, والمحال عليه يعترف للمحتال بدين لا يصدقه فيه فلا يأخذ منه شيئا وإن اعترف المحتال والمحال عليه بحرية العبد عتق لإقرار من هو في يده بحريته وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما, ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لأن دخوله معه في الحوالة اعتراف ببراءته فلم يكن له الرجوع عليه. فصل:
وإن اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن على آخر, فقبضه من المحال عليه ثم رد المشتري العبد بعيب أو مقايلة, أو اختلاف في ثمن فقد برئ المحال عليه لأنه قبض منه بإذنه ويرجع المشتري على البائع وإن رده قبل القبض, فقال القاضي: تبطل الحوالة ويعود المشتري إلى ذمة المحال عليه ويبرأ البائع, فلا يبقى له دين ولا عليه لأن الحوالة بالثمن وقد سقط بالفسخ فيجب أن تبطل الحوالة لذهاب حقه من المال المحال به وقال أبو الخطاب: لا تبطل الحوالة في أحد الوجهين لأن المشتري عوض البائع عما في ذمته ماله في ذمة المحال عليه, ونقل حقه إليه نقلا صحيحا وبرئ من الثمن وبرئ المحال عليه من دين المشتري, فلم يبطل ذلك بفسخ العقد الأول كما لو أعطاه بالثمن ثوبا وسلمه إليه فسخ العقد, لم يرجع بالثوب كذا ها هنا فإن قلنا ببطلان الحوالة رجع المحيل على المحال عليه بدينه, ولم يبق بينهما وبين البائع معاملة وإن قلنا: لا تبطل رجع المشتري على البائع بالثمن ويأخذه البائع من المحال عليه فإن عاد البائع فأحال المشتري بالثمن على من أحاله المشتري عليه صح وبرئ البائع, وعاد المشتري إلى غريمه وإن كانت المسألة بحالها لكن أحال البائع أجنبيا على المشتري ثم رد العبد المبيع, ففي الحوالة وجهان: أحدهما لا تبطل لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من حق البائع وصار الحق عليه للأجنبي المحتال, فأشبه ما لو دفعه المشتري إلى المحيل فعلى هذا يرجع المشتري على البائع بالثمن ويسلم إلى المحتال ما أحاله به والثاني, تبطل الحوالة إن كان الرد قبل القبض لسقوط الثمن الذي كانت الحوالة به ولأنه لا فائدة في بقاء الحوالة ها هنا, فيعود البائع بدينه ويبرأ المشتري منهما كالمسألة قبلها, وإذا قلنا: لا تبطل فأحال المشتري المحال عليه بالثمن على البائع صح وبرئ المشتري منها. فصل:
إذا كان لرجل على آخر دين, فأذن لآخر في قبضه ثم اختلف هو والمأذون له فقال: وكلتك في قبض ديني بلفظ التوكيل فقال: بل أحلتني بلفظ الحوالة أو كانت بالعكس, فقال: أحلتك بدينك فقال: بل وكلتني فالقول قول مدعى الوكالة منهما مع يمينه لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان وينكر انتقاله والأصل معه, فإن كان لأحدهما بينة حكم بها لأن اختلافهما في اللفظ وهو مما يمكن إقامة البينة عليه وإن اتفقا على أنه قال: أحلتك بالمال الذي لي قبل زيد ثم اختلفا فقال المحيل: إنما وكلتك في القبض لي وقال الآخر: بل أحلتني بديني عليك فالقول قول مدعي الحوالة, في أحد الوجهين لأن الظاهر معه فإن اللفظ حقيقة في الحوالة دون الوكالة فيجب حمل اللفظ على ظاهره كما لو اختلفا في دار في يد أحدهما والثاني, القول قول المحيل لأن الأصل بقاء حق المحيل على المحال عليه والمحتال يدعي نقله والمحيل ينكره, والقول قول المنكر فعلى الوجه الأول يحلف المحتال ويثبت حقه في ذمة المحال عليه ويستحق مطالبته, ويسقط عن المحيل وعلى الوجه الثاني يحلف المحيل ويبقى حقه في ذمة المحال عليه وعلى كلا الوجهين: إن كان المحتال قد قبض الحق من المحال عليه, وتلف في يده فقد برئ كل واحد منهما من صاحبه ولا ضمان عليه, سواء تلف بتفريطه أو غيره لأنه إن تلف بتفريط وكان المحتال محقا فقد أتلف ماله, وإن كان مبطلا ثبت لكل واحد منهما في ذمة الآخر مثل ما في ذمته له فيتقاصان, ويسقطان وإن تلف بغير تفريط فالمحال قد قبض حقه وتلف في يده, وبرئ منه المحيل بالحوالة والمحال عليه بتسلمه والمحيل يقول: قد تلف المال في يد وكيلي بغير تفريط فلا ضمان عليه وإن لم يتلف, احتمل أن لا يملك المحيل طلبه لأنه معترف أن له عليه من الدين مثل ما له في يده وهو مستحق لقبضه فلا فائدة في أن يقبضه منه ثم يسلمه إليه ويحتمل أن يملك أخذه منه, ويملك المحتال مطالبته بدينه وقيل: يملك المحيل أخذه منه ولا يملك المحتال المطالبة بدينه لاعترافه ببراءة المحيل منه بالحوالة وليس بصحيح لأن المحتال إن اعترف بذلك فهو يدعي أنه قبض هذا المال منه بغير حق, وأنه يستحق المطالبة به فعلى كلا الحالين هو مستحق للمطالبة بمثل هذا المال المقبوض منه, في قولهما جميعا فلا وجه لإسقاطه ولا موضع للبينة في هذه المسألة: لأنهما لا يختلفان في لفظ يسمع, ولا فعل يرى وإنما يدعى المحيل بينة وهذا لا تشهد به البينة نفيا ولا إثباتا. فصل:
وإن كانت المسألة بالعكس, فقال: أحلتك بدينك فقال: بل وكلتني ففيها الوجهان أيضا لما قدمناه فإن قلنا: القول قول المحيل فحلف برئ من حق المحتال وللمحتال قبض المال من المحال عليه لنفسه لأنه يجوز له ذلك بقولهما معا, فإذا قبضه كان له بحقه وإن قلنا: القول قول المحتال فحلف كان له مطالبة المحيل بحقه ومطالبة المحتال عليه لأنه إما وكيل وإما محتال فإن قبض منه قبل أخذه من المحيل, فله أخذ ما قبض لنفسه لأن المحيل يقول: هو لك والمحتال يقول: هو أمانة في يدي ولي مثله على صاحبه وقد أذن له في أخذه ضمنا فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه, ولم يأخذ من المحيل شيئا وإن استوفى من المحيل رجع على المحال في أحد الوجهين لأنه قد تثبتت الوكالة بيمين المحتال وبقي الحق في ذمة المحال عليه للمحيل والثاني, لا يرجع عليه لأنه يعترف أنه قد برئ من حقه وإنما المحتال ظلمه بأخذ ما كان عليه قال القاضي: والأول أصح وإن كان قد قبض الحوالة فتلفت في يده بتفريط, أو أتلفها سقط حقه على الوجهين لأنه إن كان محقا فقد أتلف حقه وإن كان مبطلا فقد أتلف مثل دينه, فيثبت في ذمته ويتقاصان وإن تلفت بغير تفريطه فعلى الوجه الأول يسقط حقه أيضا لأن ماله تلف تحت يده وعلى الثاني, له أن يرجع على المحيل بحقه وليس للمحيل الرجوع على المحال عليه لأنه يعترف ببراءته. فصل:
وإذا كان لرجل دين على آخر فطالبه به, فقال: قد أحلت به على فلانا الغائب وأنكر صاحب الدين فالقول قول مع يمينه وإن كان لمن عليه الدين بينة بدعواه سمعت بينته, لإسقاط حق المحيل عليه وإن ادعى رجل أن فلانا الغائب أحالنى عليك فأنكر المدعى عليه فالقول قوله فإن أقام المدعى بينة, ثبتت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضى بها على الغائب ولزم الدفع إلى المحتال وإن لم يكن له بينة فأنكر المدعى عليه, فهل تلزمه اليمين؟ فيه وجهان بناء على ما لو اعترف له هل يلزمه الدفع؟ على وجهين أحدهما يلزمه الدفع إليه لأنه مقر بدينه عليه, ووجوب دفعه إليه فلزمه الدفع إليه كما لو كانت بينة والثاني لا يلزمه الدفع إليه لأنه لا يأمن من إنكار المحيل ورجوعه عليه, فكان له الاحتياط لنفسه كما لو ادعى عليه إني وكيل فلان في قبض دينه منك فصدقه, وقال: لا أدفعه إليك فإذا قلنا: يلزمه الدفع مع الإقرار لزمه اليمين مع الإنكار فإذا حلف برئ ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لاعترافه ببراءته وكذلك إن قلنا: لا تلزمه اليمين فليس للمحتال الرجوع على المحيل, ثم ينظر في المحيل فإن صدق المدعي في أنه أحاله ثبتت الحوالة له لأن رضي المحال عليه لا يعتبر وإن أنكر الحوالة, حلف وسقط حكم الحوالة وإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه بالنكول واستوفى الحق منه, ثم إن المحيل صدق المدعي فلا كلام وإن أنكر الحوالة فالقول قوله, وله أن يستوفي من المحال عليه لأنه معترف له بالحق ويدعي أن المحتال ظلمه ويبقى دين المحتال على المحيل وإن كان المحيل ينكر أن له عليه دينا فالقول قوله بغير يمين لأن المحتال يقر ببراءته منه, لاستيفائه من المحال عليه وإن كان المحيل يعترف به لم يكن للمحتال المطالبة به لأنه يقر بأنه قد برئ منه بالحوالة والمحيل يصدق المحال عليه في كون المحتال قد ظلمه, واستوفى منه بغير حق والمحتال يزعم أن المحيل قد أخذ منه أيضا بغير حق وإنه يجب عليه أن يرد ما أخذه منه إليه, فينبغي أن يقبضها المحتال ويسلمها إلى المحال عليه أو يأذن للمحيل في دفعها إلى المحال عليه وإن صدق المحال عليه المحتال في الحوالة, ودفع إليه فأنكر المحيل الحوالة حلف, ورجع على المحال عليه والحكم في الرجوع بما على المحيل من الدين على ما ذكرنا في التي قبلها. فصل:
فإن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به برئت ذمته وذمة المضمون عنه لأن الحوالة كالتسليم, ويكون الحكم ها هنا كالحكم فيما لو قضى عنه الدين فإن كان الألف على رجلين على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحد كفيل عن الآخر بذلك, فأحاله أحدهما بالألف برئت ذمتهما معا كما لو قضاها وإن أحال صاحب الألف رجلا على أحدهما بعينه بالألف, صحت الحوالة لأن الدين على كل واحد منهما مستقر وإن أحال عليهما جميعا ليستوفي منهما أو من أيهما شاء صحت الحوالة أيضا عند القاضي لأنه لا فضل ها هنا في نوع ولا أجل ولا عدد, وإنما هو زيادة استيثاق فلم يمنع ذلك صحة الحوالة كحوالة المعسر على المليء وقال بعض أصحاب الشافعي: لا تصح الحوالة لأن الفضل قد دخلها, فإن المحتال ارتفق بالتخيير بالاستيفاء منهما أو من أيهما شاء فأشبه ما لو أحاله على رجلين له على كل واحد منهما ألف ليستوفي من أيهما شاء والأول أصح والفرق بين هذه المسألة, وبين ما إذا أحاله بألفين أنه لا فضل بينهما في العدد ها هنا وثم تفاضلا فيه, ولأن الحوالة ها هنا بألف معين وثم الحوالة بأحدهما من غير تعيين وأنه إذا قضاه أحدهما الألف فقد قضى جميع الدين, وثم إذا قضى أحدهما بقي ما على الآخر ولو لم يكن كل واحد من الرجلين ضامنا عن صاحبه فأحال عليهما, صحت الحوالة بغير إشكال لأنه لما كان له أن يستوفي الألف من واحد كان له أن يستوفي من اثنين كالوكيلين. فصل: وقد دلت مسألة الخرقي على أحكام منها, صحة ضمان المجهول لقوله: ما أعطيته فهو على وهذا مجهول فمتى قال: أنا ضامن لك مالك على فلان أو ما يقضى به عليه أو ما تقوم به البينة, أو يقر به لك أو ما يخرج في روز مانحك صح الضمان وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الثوري والليث, وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح لأنه التزام مال, فلم يصح مجهولا كالثمن في المبيع ولنا قول الله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وحمل البعير غير معلوم لأن حمل البعير يختلف باختلافه, وعموم قوله عليه السلام: (الزعيم غارم) ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة فصح في المجهول كالنذر والإقرار, ولأنه يصح تعليقه بضرر وخطر وهو ضمان العهدة وإذا قال: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه أو قال: ادفع ثيابك إلى هذا الرفاء, وعلى ضمانها فصح المجهول كالعتق والطلاق. ومنها صحة ضمان ما لم يجب فإن معنى قوله: " ما أعطيته ", أي ما يعطيه في المستقبل بدليل أنه عطفه على من ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فيدل على أنه غيره, ولو كان " ما أعطيته " في الماضي كان معنى المسألتين سواء أو إحداهما داخلة في الأخرى والخلاف في هذه المسألة ودليل القولين, كالتي قبلها إلا أنهم قالوا: الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء, فلا ضم فيه فلا يكون ضمانا قلنا: قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه وأن ما ثبت في ذمة مضمونه يثبت في ذمته وهذا كاف وقد سلموا ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله: ألق متاعك في البحر, وعلى ضمانه وسلم أصحاب الشافعي في أحد الوجهين ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل وما وجب شيء بعد. ومنها أن الضمان إذا صح لزم الضامن من أداء ما ضمنه, وكان للمضمون له مطالبته ولا نعلم في هذا خلافا وهو فائدة الضمان وقد دل قول النبي ـ ﷺ ـ: (والزعيم غارم) واشتقاق اللفظ. ومنها صحة الضمان عن كل وجب عليه حق حيا كان أو ميتا, مليئا أو مفلسا لعموم لفظه فيه وهذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة: لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء فإن خلف بعض الوفاء, صح ضمانه بقدر ما خلف لأنه دين ساقط فلم يصح ضمانه كما لو سقط بالأبراء, ولأن ذمته قد خربت خرابا لا تعمر بعده فلم يبق فيها دين والضمان: ضم ذمة إلى ذمة في التزامه ولنا, حديث أبي قتادة وعلى فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء والنبي ـ ﷺ ـ حضهم على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله: (ألا قام أحدكم فضمنه؟) وهذا صريح في المسألة, ولأنه دين ثابت فصح ضمانه كما لو خلف وفاء, ودليل ثبوته أنه لو تبرع رجل بقضاء دينه جاز لصاحب الدين اقتضاؤه ولو ضمنه حيا ثم مات, لم تبرأ ذمة الضامن ولو برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن وفي هذا انفصال عما ذكروه. ومنها, صحة الضمان في كل حق أعنى من الحقوق المالية الواجبة أو التي تئول إلى الوجوب, كثمن المبيع في مدة الخيار وبعده والأجرة والمهر قبل الدخول أو بعده لأن هذه الحقوق لازمة وجواز سقوطها لا يمنع ضمانها, كالثمن في المبيع بعد انقضاء الخيار ويجوز أن يسقط برد بعيب أو مقايلة وبهذا كله قال الشافعي. فصل:
فيما يصح ضمانه: ويصح ضمان الجعل في الجعالة وفي المسابقة والمناضلة وقال أصحاب الشافعي, في أحد الوجهين: لا يصح ضمانه لأنه لا يئول إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كما في الكتابة ولنا, قول الله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72]. ولأنه يئول إلى اللزوم إذا عمل العمل وإنما الذي لا يلزم العمل والمال يلزم بوجوده, والضمان للمال دون العمل ويصح ضمان أرش الجناية سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو حيوانا كالديات وقال أصحاب الشافعي: لا يصح ضمان الحيوان الواجب فيها لأنه مجهول وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول, ولأن الإبل الواجبة في الذمة معلومة الأسنان والعدد وجهالة اللون أو غيره من الصفات الباقية لا تضر لأنه إنما يلزمه أدنى لون أو صفة فتحصل معلومة وكذلك غيرها من الحيوان, ولأن جهل ذلك لم يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع وجوبه بالالتزام ويصح ضمان نفقة الزوجة سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة لأن نفقة اليوم واجبة, والمستقبلة مآلها إلى اللزوم ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب وقال القاضي: إذا ضمن نفقة المستقبل لم تلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزيادة على ذلك تسقط بالإعسار وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه: يصح ضمانها ولنا, أنه يصح ضمان ما لم يجب واحتمال عدم وجوب الزيادة لا يمنع صحة ضمانها بدليل الجعل في الجعالة, والصداق قبل الدخول والمبيع في مدة الخيار فأما النفقة في الماضي فإن كانت واجبة, إما بحكم الحاكم بها أو قلنا: بوجوبها بدون حكمه صح ضمانها, وإلا فلا ويصح ضمان مال السلم في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه فلم يجز, كالحوالة به والأول أصح لأنه دين لازم فصح ضمانه كالأجرة وثمن المبيع ولا يصح ضمان مال الكتابة في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم والأخرى: يصح لأنه دين على المكاتب, فصح ضمانه كسائر الديون عليه والأولى أصح لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فإن للمكاتب تعجيز نفسه, والامتناع عن أدائه فإذا لم يلزم الأصيل فالضمين أولى ويصح ضمان الأعيان المضمونة, كالمغصوب والعارية وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين وقال في الآخر: لا يصح لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة, وإنما يضمن ما ثبت في الذمة ووصفنا لها بالضمان إنما معناه أنه يلزمه قيمتها إن تلفت والقيمة مجهولة ولنا, أنها مضمونة على من هي في يده فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة وقولهم: إن الأعيان لا تثبت في الذمة قلنا: الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها, والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع فإن ضمانها يصح, وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالبيع عيب أو خرج مستحقا, فأما الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة, والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط, فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها لأنها غير مضمونة على من هي في يده فكذلك على ضامنه وإن ضمنها إن تعدى فيها, فظاهر كلام أحمد ـ رحمه الله ـ يدل على صحة الضمان فإنه قال في رواية الأثرم في رجل يتقبل من الناس الثياب, فقال له رجل: ادفع إليه ثيابك وأنا ضامن فقال له: هو ضامن لما دفعه إليه يعني إذا تعدى أو تلف بفعله فعلى هذا إن تلف بغير تفريط منه ولا فعله لم يلزم الضامن شيء, لما ذكرنا وإن تلف بفعله أو تفريط لزم ضمانها ولزم ضامنه ذلك لأنها مضمونة على من هي في يده فلزم ضامنه, كالغصوب والعواري وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب وقد بينا جوازه ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع, فضمانه على المشتري هو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه وإن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن, وضمانه عن البائع للمشتري هو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقا أو رد بعيب أو أرش العيب فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع, ويذكر فيه الثمن فعبر به عن الثمن الذي يضمنه وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة ومالك والشافعي ومنع منه بعض الشافعية لكونه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول, وضمان عين وقد بينا جواز الضمان في ذلك كله ولأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع والوثائق ثلاثة الشهادة والرهن, والضمان فأما الشهادة فلا يستوفى منها الحق وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقى أبدا مرهونا فلم يبق إلا الضمان ولأنه لا يضمن إلا ما كان واجبا حال العقد لأنه إنما يتعلق بالضمان حكم إذا خرج مستحقا أو معيبا حال العقد, ومتى كان كذلك فقد ضمن ما وجب حين العقد والجهالة منتفية لأنه ضمن الجملة, فإذا خرج بعضه مستحقا لزمه بعض ما ضمنه إذا ثبت هذا فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن وبعده وقال الشافعي: إنما يصح بعد القبض لأنه قبل القبض لو خرج مستحقا لم يجب على البائع شيء وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضيا إلى الوجوب, كالجعالة وألفاظ ضمان العهدة أن يقول: ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه أو يقول للمشتري: ضمنت خلاصك منه أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا فقد ضمنت لك الثمن وحكي عن أبي يوسف أنه قال: ضمنت عهدته أو ضمنت لك العهدة والعهدة في الحقيقة: هي الصك المكتوب فيه الابتياع هكذا فسره به أهل اللغة, فلا يصح ضمانه للمشتري لأنه ملكه وليس بصحيح لأن العهدة صارت في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفية دون اللغوية, كالراوية تحمل عند إطلاقها على المزادة لا على الجمل, وإن كان هو الموضوع فأما إن ضمن له خلاص المبيع فقال أبو بكر: هو باطل لأنه إذا خرج حرا أو مستحقا لا يستطيع تخليصه, ولا يحل وقد قال أحمد في رجل باع عبدا أو أمة وضمن له الخلاص, فقال: كيف يستطيع الخلاص إذا خرج حرا؟ فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه بطل في الخلاص وهل يصح في العهدة؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة إذا ثبت صحة ضمان العهدة, فالكلام فيما يلزم الضامن فنقول: إن استحقاق رجوع المشتري بالثمن لا يخلو إما أن يكون بسبب حادث بعد العقد, أو مقارن له فأما الحادث فمثل تلف المبيع من المكيل والموزون في يد البائع أو بغصب من يده أو يتقايلان فإن المشتري يرجع على البائع دون الضامن لأن هذا الاستحقاق لم يكن موجودا حال العقد, وإنما ضمن الاستحقاق الموجود حال العقد ويحتمل أن يرجع به على الضامن لأن ضمان ما لم يجب جائز وهذا منه وأما إن كان بسبب مقارن نظرنا فإن كان بسبب لا تفريط من البائع فيه, كأخذه بالشفعة فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن ومتى لم يجب على المضمون عنه شيء لم يجب على الضامن بطريق الأولى وأما إن زال ملكه عن المبيع بسبب مقارن لتفريط من البائع, باستحقاق أو حرية أو رد بعيب قديم فله الرجوع إلى الضامن وهذا ضمان العهدة, وإن أراد أخذ أرش العيب رجع على الضامن أيضا لأنه إذا لزمه كل الثمن لزمه بعضه إذا استحق ذلك على المضمون عنه, وسواء ظهر كل المبيع مستحقا أو بعضه لأنه إذا ظهر بعضه مستحقا بطل العقد في الجميع في إحدى الروايتين, فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الاستحقاق وعلى الرواية الأخرى: لا يبطل العقد في الجميع ولكن استحق ردها, فإن ردها كلها فالحكم كذلك وإن أمسك المملوك منها فله المطالبة بالأرش, كما لو وجد بها عيبا ولو باعه عينا أو أقرضه شيئا بشرط أن يرهن عنده عينها فتكفل رجل بتسليم الرهن لم تصح الكفالة لأنه لا يلزم الراهن إقباضه وتسليمه, فلا يلزم الكفيل ما لا يلزم الأصل وإن ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس صح, سواء ضمنه البائع أو أجنبى فإذا بنى أو غرس واستحق المبيع رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يصح لأنه ضمان مجهول, وضمان ما لم يجب وقد بينا جواز ذلك. فصل:
في من يصح ضمانه ومن لا يصح يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله, سواء كان رجلا أو امرأة لأنه عقد يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع ولا يصح من المجنون والمبرسم, ولا من صبي غير مميز بغير خلاف لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منهم, كالنذر ولا يصح من السفيه المحجور عليه ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال القاضي: يصح ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأن من أصلنا أن إقراره صحيح يتبع به من بعد فك الحجر عنه, صح فكذلك ضمانه والأول أولى لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منه, كالبيع والشراء ولا يشبه الإقرار لأنه إخبار بحق سابق وأما الصبي المميز فلا يصح ضمانه, في الصحيح من الوجهين وهو قول الشافعي وخرجه أصحابنا على الروايتين في صحة إقراره وتصرفاته بإذن وليه ولا يصح هذا الجمع لأن هذا التزام مال لا فائدة له فيه فلم يصح منه, كالتبرع والنذر بخلاف البيع وإن اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه فقال الصبي: قبل بلوغي وقال المضمون له: بعد البلوغ فقال القاضي: قياس قول أحمد أن القول قول المضمون له لأن معه سلامة العقد, فكان القول قوله كما لو اختلفا في شرط فاسد ويحتمل أن القول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وعدم وجوب الحق عليه وهذا قول الشافعي ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد لأن المختلفين ثم متفقان على أهلية التصرف, والظاهر أنهما لا يتصرفان إلا تصرفا صحيحًا فكان قول مدعي الصحة هو الظاهر وهاهنا اختلفا في أهلية التصرف, وليس مع من يدعي الأهلية ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه فلا ترجح دعواه والحكم في من عرف له حال جنون, كالحكم في الصبي وإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل عدمه, فأما المحجور عليه لفلس فيصح ضمانه ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أهل التصرف, والحجر عليه في ماله لا في ذمته فأشبه الراهن, فصح تصرفه فيما عدا الرهن فهو كما لو اقترض أو أقر أو اشترى في ذمته ولا يصح ضمان العبد بغير إذن سيده سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له وبهذا قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة ويحتمل أن يصح, ويتبع به بعد العتق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه من أهل التصرف فصح تصرفه بما لا ضرر على السيد فيه كالإقرار بالإتلاف ووجه الأول, أنه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح بغير إذن كالنكاح وقال أبو ثور: إن كان من جهة التجارة جاز, وإن كان من غير ذلك لم يجز فإن ضمن بإذن سيده صح لأن سيده لو أذن له في التصرف صح قال القاضي: وقياس المذهب تعلق المال برقبته وقال ابن عقيل: ظاهر المذهب وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد وقال أبو الخطاب: هل يتعلق برقبته أو بذمة سيده؟ على روايتين كاستدانته بإذن سيده وقد سبق الكلام فيها فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من المال الذي في يده, صح ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي في يد العبد كتعلق حق الجناية برقبة الجاني, كما لو قال الحر: ضمنت لك الدين على أن تأخذ من مالي هذا صح وأما المكاتب فلا يصح ضمانه بغير إذن سيده كالعبد القن لأنه تبرع بالتزام مال, فأشبه نذر الصدقة بغير مال ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد عتقه كقولنا في العبد وإن ضمن بإذنه, ففيه وجهان أحدهما لا يصح أيضا لأنه ربما أدى إلى تفويت الحرية والثاني يصح لأن الحق لهما, لا يخرج عنهما فأما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو غير مرض الموت, فحكمه حكم الصحيح وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه يحسب من ثلثه لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه, ولم يأخذ عنه عوضا فأشبه الهبة وإذا فهمت إشارة الأخرس صح ضمانه لأنه يصح بيعه وإقراره وتبرعه, فصح ضمانه كالناطق ولا يثبت الضمان بكتابة منفردة عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان لأنه قد يكتب عبثا أو تجربة, فلم يثبت الضمان به مع الاحتمال ومن لا تفهم إشارته لا يصح منه الضمان لأنه لا يدري بضمانه ولأنه لا يصح سائر تصرفاته فكذلك ضمانه. فصل: إذا ضمن الدين الحال مؤجلا, صح ويكون حالا على المضمون عنه مؤجلا على الضامن يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن وبهذا قال الشافعي قال أحمد, في رجل ضمن ما على فلان أن يؤديه في ثلاث سنين: فهو عليه ويؤديه كما ضمن ووجه ذلك: ما روى ابن عباس (, أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله ـ ﷺ ـ فقال: ما عندي شيء أعطيكه فقال: والله لا أفارقنك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل, فجره إلى النبي ـ ﷺ ـ فقال له النبي ـ ﷺ ـ: كم تستنظره؟ قال: شهرا قال رسول الله ـ ﷺ ـ: فأنا أحمل فجاء به في الوقت الذي قال النبي ـ ﷺ ـ فقال له النبي ـ ﷺ ـ: من أين أصبت هذا؟ قال: من معدن قال: لا خير فيها وقضاها عنه) رواه ابن ماجه في " سننه " ولأنه ضمن مالا بعقد مؤجل فكان مؤجلا كالبيع فإن قيل: فعندكم الدين الحال لا يتأجل, فكيف يتأجل على الضامن؟ أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوصف الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه؟ قلنا: الحق يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان بعقد وهذا ابتداء ثبوته في حق الضامن, فإنه لم يكن ثابتا عليه حالا ويجوز أن يخالف ما في ذمة الضامن ما في ذمة المضمون عنه بدليل ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل إذا ثبت هذا, وكان الدين مؤجلا إلى شهر فضمنه إلى شهرين لم يكن له مطالبة الضامن إلى شهرين, فإن قضاه قبل الأجل فله الرجوع به في الحال على الرواية التي تقول: إنه إذا قضى دينه بغير إذن رجع به لأن أكثر ما فيه ها هنا, أنه قضى بغير إذن وعلى الرواية الأخرى لا يرجع به قبل الأجل لأنه لم يأذن له في القضاء قبل ذلك وإن كان الدين مؤجلا فضمنه حالا لم يصر حالا, ولا يلزمه أداؤه قبل أجله لأن الضامن فرع للمضمون عنه فلا يلزمه ما لا يلزم المضمون عنه ولأن المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل هذا الدين, لم يلزمه تعجيله فبأن لا يلزم الضامن أولى ولأن الضمان التزام دين في الذمة, فلا يجوز أن يلتزم ما لا يلزم المضمون عنه فعلى هذا إن قضاه حالا لم يرجع به قبل أجله لأن ضمانه لم يغيره عن تأجيله والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها, أن الدين الحال ثابت في الذمة مستحق القضاء في جميع الزمان فإذا ضمنه مؤجلا فقد التزم بعض ما يجب على المضمون عنه, فصح كما لو كان الدين عشرة فضمن خمسة, وأما الدين المؤجل فلا يستحق قضاؤه إلا عند أجله فإذا ضمنه حالا التزم ما لم يجب على المضمون, فأشبه ما لو كان الدين عشرة فضمن عشرين وقيل: يحتمل أن يصح ضمان الدين المؤجل حالا كما يصح ضمان الحال مؤجلا قياسا لإحداهما على الأخرى وقد فرقنا بينهما بما يمنع القياس ـ إن شاء الله تعالى ـ. فصل:
وإذا ضمن دينا مؤجلا عن إنسان فمات أحداهما إما الضامن وإما المضمون عنه, فهل يحل الدين على الميت منهما؟ على روايتين تقدم ذكرهما فإن قلنا: يحل على الميت لم يحل على الآخر لأن الدين لا يحل على شخص بموت غيره, فإن كان الميت المضمون عنه لم يستحق مطالبة الضامن قبل الأجل فإن قضاه قبل الأجل, كان متبرعا بتعجيل القضاء وهل له مطالبة المضمون عنه قبل الأجل؟ يخرج على الروايتين فيمن قضى بغير إذن من هو عليه وإن كان الميت الضامن فاستوفى الغريم الدين من تركته, لم يكن لورثته مطالبة المضمون عنه حتى يحل الحق لأنه مؤجل عليه فلا يستحق مطالبته به قبل أجله وهذا مذهب الشافعي وحكى عن زفر أن لهم مطالبته لأنه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته ولنا أنه دين مؤجل, فلا تجوز مطالبته به قبل الأجل كما لو لم يمت وقوله: أدخله فيه قلنا: إنما أدخله في المؤجل وحلوله بسبب من جهته, فهو كما لو قضى قبل الأجل. مسألة:
قال: [ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن] يعني أن المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان كما يبرأ المحيل بنفس الحوالة قبل القبض بل يثبت الحق في ذمة الضامن, مع بقائه في ذمة المضمون عنه ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة وبعد الموت وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وقال أبو ثور: الكفالة والحوالة سواء, وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود واحتجوا بما روى أبو سعيد الخدري قال: (كنا مع النبي ـ ﷺ ـ في جنازة فلما وضعت, قال: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان فقال: صلوا على صاحبكم فقال على: هما على يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله ـ ﷺ ـ فصلى عليه, ثم أقبل على على: فقال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك فقيل: يا رسول الله هذا لعلى خاصة, أم للناس عامة؟ فقال: للناس عامة). رواه الدارقطني فدل على أن المضمون عنه برئ بالضمان وروى الإمام أحمد في "المسند" عن جابر قال: (توفي صاحب لنا, فأتينا النبي ـ ﷺ ـ ليصلي عليه فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران فانصرف, فتحملهما أبو قتادة فقال: الديناران على فقال رسول الله ـ ﷺ ـ: وجب حق الغريم وبرئ الميت منهما؟ قال: نعم فصلى عليه ثم قال بعد ذلك: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس قال: فعاد إليه من الغد, فقال: قد قضيتهما فقال رسول الله ـ ﷺ ـ: الآن بردت جلدته) وهذا صريح في براءة المضمون عنه لقوله: " وبرئ الميت منهما " ولأنه دين واحد فإذا صار في ذمة ثانية برئت الأولى منه كالمحال به وذلك لأن الدين الواحد لا يحل في محلين ولنا, قول النبي ـ ﷺ ـ: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وقوله في خبر أبي قتادة: " الآن بردت جلده " حين أخبره أنه قضى دينه ولأنها وثيقة فلا تنقل الحق, كالشهادة وأما صلاة النبي ـ ﷺ ـ على المضمون عنه فلأنه بالضمان صار له وفاء وإنما كان النبي ـ ﷺ ـ يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف وفاء وأما قوله لعلي: (فك الله رهانك, كما فككت رهان أخيك) فإنه كان بحال لا يصلى عليه النبي ـ ﷺ ـ فلما ضمنه فكه من ذلك أو مما في معناه وقوله: " برئ الميت منهما " أي صرت أنت المطالب بهما وهذا على سبيل التأكيد لثبوت الحق في ذمته ووجوب الأداء عليه, بدليل قوله في سياق الحديث حين أخبره بالقضاء: " الآن بردت عليه جلده " ويفارق الضمان الحوالة فإن الضمان مشتق من الضم فيقتضي الضم بين الذمتين في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما والحوالة من التحول, فتقتضي تحول الحق من محله إلى ذمة المحال عليه وقولهم: إن الدين الواحد لا يحل في محلين قلنا: يجوز تعلقه بمحلين على سبيل الاستيثاق كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن وقال أبو بكر عبد العزيز: أما الحي فلا يبرأ بمجرد الضمان رواية واحدة, وأما الميت ففي براءته بمجرد الضمان روايتان إحداهما يبرأ بمجرد الضمان نص عليه أحمد, في رواية يوسف بن موسى لما ذكرنا من الخبرين ولأن فائدة الضمان في حقه تبرئة ذمته فينبغي أن تحصل هذه الفائدة بمجرد الضمان بخلاف الحي, فإن المقصود من الضمان في حقه الاستيثاق وثبوته في الذمتين آكد في الاستيثاق والثانية لا يبرأ إلا بالأداء لما ذكرناه, ولأنه ضمان فلا يبرأ به المضمون عنه كالحي. فصل:
ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه لأنه وثيقة, فلا يستوفي الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصل كالرهن ولنا أن الحق ثابت في ذمة الضامن, فملك مطالبته كالأصيل ولأن الحق ثابت في ذمتهما, فملك مطالبة من شاء منهما كالضامنين إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه ولا يشبه الرهن لأنه مال من عليه الحق وليس بذي ذمة يطالب, إنما يطالب من عليه الدين ليقضي منه أو من غيره. فصل:
وإن أبرأ صاحب الدين المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا نعلم فيه خلافا لأنه تبع, ولأنه وثيقة فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن وإن أبرأ الضامن لم تبرأ ذمة المضمون عنه لأنه أصل, فلا يبرأ بإبراء التبع ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصيل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفائه وأيهما قضى الحق برئا جميعا من المضمون له لأنه حق واحد, فإذا استوفى مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى الحق الذي به رهن وإن أحال الغريم برئا جميعا, لأنه حق واحد فإذا استوفى مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى دين الرهن وإن أحال أحدهما الغريم برئا جميعا لأن الحوالة كالقضاء. فصل:
وإن ضمن المضمون عنه الضامن أو تكفل المكفول عنه الكفيل, لم يصح لأن الضمان يقتضي إلزامه الحق في ذمته والحق لازم له فلا يتصور إلزامه ثانيا, ولأنه أصل في هذا الدين فلا يجوز أن يصير فرعا فيه وإن ضمن عنه دينا آخر أو كفل به في حق آخر, جاز لعدم ما ذكرناه فيه " مسألة:
قال: [فمتى أدى رجع عليه سواء قال له: اضمن عني أو لم يقل] يعني إذا أدى الدين محتسبا بالرجوع على المضمون عنه, فأما إن قضى الدين متبرعا به غير ناو للرجوع به فلا يرجع بشيء لأنه يتطوع بذلك, أشبه الصدقة وسواء ضمن بأمره أو بغير أمره فأما إذا أداه بنية الرجوع به لم يخل من أربعة أحوال: أحدها, أن يضمن بأمر المضمون عنه ويؤدي بأمره فإنه يرجع عليه, سواء قال له: اضمن عني أو: أد عني أو أطلق وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وقال أبو حنيفة ومحمد: إن قال: اضمن عني وانقد عني رجع عليه وإن قال: انقد هذا لم يرجع, إلا أن يكون مخالطا له يستقرض منه ويودع عنده لأن قوله: اضمن عني, وانقد عني إقرار منه بالحق وإذا أطلق ذلك صار كأنه قال: هب لهذا أو تطوع عليه وإذا كان مخالطا له رجع استحسانا لأنه قد يأمر مخالطه بالنقد عنه ولنا, أنه ضمن ودفع بأمره فأشبه إذا كان مخالطا له أو قال: اضمن عني وما ذكراه ليس بصحيح لأنه إذا أمره بالضمان لا يكون إلا لما هو عليه, وأمره بالنقد بعد ذلك ينصرف إلى ما ضمنه بدليل المخالط له فيجب عليه أداء ما أدى عنه, كما لو صرح به الحال الثاني ضمن بأمره وقضى بغير أمره, فله الرجوع أيضا وبه قال مالك والشافعي في أحد الوجوه عنه والوجه الثاني: لا يرجع به لأنه دفع بغير أمره أشبه ما لو تبرع به الثالث أنه إن تعذر الرجوع على المضمون عنه, فدفع ما عليه رجع وإلا فلا لأنه تبرع بالدفع ولنا, أنه إذا أذن في الضمان تضمن ذلك إذنه في الأداء لأن الضمان يوجب عليه الأداء فيرجع عليه, كما لو أذن في الأداء صريحا الحال الثالث ضمن بغير أمره وقضى بأمره, فله الرجوع أيضا وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرجع لأن أمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه ولنا: أنه أدى دينه بأمره فرجع عليه كما لو لم يكن ضامنا, أو كما لو ضمن بأمره وقولهم: إن إذنه في القضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه قلنا: الواجب بضمانه إنما هو أداء دينه وليس هو شيئا آخر فمتى أداه عنه بإذنه لزمه إعطاؤه بدله الحال الرابع, ضمن بغير أمره وقضى بغير أمره ففيه روايتان إحداهما, يرجع بما أدى وهو قول مالك وعبد الله بن الحسن وإسحاق والثانية لا يرجع بشيء وهو قول أبي حنيفة والشافعي, وابن المنذر بدليل حديث على وأبي قتادة فإنهما لو كانا يستحقان الرجوع على الميت, صار الدين لهما فكانت ذمة الميت مشغولة بدينهما كاشتغالها بدين المضمون عنه, ولم يصل عليه النبي ـ ﷺ ـ ولأنه تبرع بذلك أشبه ما لو علف دوابه وأطعم عبيده بغير أمره ووجه الأولى أنه قضاء مبرئ من دين واجب, فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه فأما على وأبو قتادة فإنهما تبرعا بالقضاء والضمان, فإنهما قضيا دينه قصدا لتبرئة ذمته ليصلي عليه رسول الله ـ ﷺ ـ مع علمهما بأنه لم يترك وفاء والمتبرع لا يرجع بشيء, وإنما الخلاف في المحتسب بالرجوع. فصل:
ويرجع الضامن على المضمون عنه بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن كان الأقل الدين فالزائد لم يكن واجبا فهو متبرع بأدائه, وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم ولهذا لو أبرأه غريمه لم يرجع بشيء وإن دفع عن الدين عرضا, رجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين لذلك وإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع به قبل أجله لأنه لا يجب له أكثر مما كان للغريم فإن أحاله, كانت الحوالة بمنزلة تقبيضه ويرجع بالأقل مما أحال به أو قدر الدين سواء قبض الغريم من المحال عليه أو أبرأه, أو تعذر عليه الاستيفاء لفلس أو مطل لأن نفس الحوالة كالإقباض. فصل: ولو كان على رجلين مائة على كل منهما نصفها, وكل واحد ضامن عن صاحبه ما عليه فضمن آخر عن أحدهما المائة بأمره وقضاها سقط الحق عن الجميع, وله الرجوع بها على الذي ضمن عنه ولم يكن له أن يرجع على الآخر بشيء في إحدى الروايتين لأنه لم يضمن عنه, ولا أذن له في القضاء فإذا رجع على الذي ضمن عنه رجع على الآخر بنصفها, إن كان ضمن عنه بإذنه لأنه ضمنها عنه بإذنه وقضاها ضامنه والرواية الثانية له الرجوع على الآخر بالمائة لأنها وجبت له على من أداها عنه, فملك الرجوع بها عليه كالأصل " فصل:
إذا ضمن عن رجل بإذنه فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لزمه الأداء عنه بأمره, فكانت له المطالبة بتبرئة ذمته وإن لم يطالب الضامن لم يملك مطالبة المضمون عنه لأنه لما لم يكن له الرجوع بالدين قبل غرامته لم يكن له المطالبة به قبل طلبه منه وفيه وجه آخر, أن له المطالبة لأنه شغل ذمته بإذنه فكانت له المطالبة بتفريغها كما لو استعار عبدا فرهنه, كان للسيد مطالبته بفكاكه وتفريغه من الرهن والأول أولى ويفارق الضمان العارية لأن السيد يتضرر بتعويق منافع عبده المستعار فملك المطالبة بما يزيل الضرر عنه والضامن لا يبطل بالضمان شيء من منافعه فأما إن ضمن عنه بغير أمره, لم يملك مطالبة المضمون عنه قبل الأداء بحال لأنه لا حق له يطالب به ولا شغل ذمته بأمره فأشبه الأجنبي وقيل: إن هذا ينبني على الروايتين في رجوعه على المضمون عنه بما أدى عنه, فإن قلنا: لا يرجع فلا مطالبة له بحال وإن قلنا: يرجع فحكمه حكم من ضمن عنه بأمره على ما مضى تفصيله. فصل:
فإن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى أحدهم الدين, برئوا جميعا فإن قضاه المضمون عنه لم يرجع على أحد وإن قضاه الضامن الأول رجع على المضمون عنه دون الضامن عنه وإن قضاه الثاني رجع على الأول, ثم رجع الأول على المضمون عنه إذا كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه فإن لم يكن أذن له, ففي الرجوع روايتان وإن أذن الأول للثاني ولم يأذن المضمون عنه أو أذن المضمون عنه لضامنه, ولم يأذن الضامن لضامنه رجع المأذون له على من أذن له ولم يرجع الآخر على إحدى الروايتين, فإن أذن المضمون عنه للضامن الثاني في الضمان ولم يأذن له الضامن الأول رجع على المضمون عنه, ولم يرجع على الضامن لأنه إنما يرجع على من أذن له دون غيره. فصل:
إذا كان له ألف على رجلين على كل واحد منهما نصفه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه, فأبرأ الغريم أحدهما من الألف برئ منه وبرئ صاحبه من ضمانه, وبقي عليه خمسمائة وإن قضاه أحدهما خمسمائة أو أبرأه الغريم منها وعين القضاء بلفظه أو ببينة عن الأصل والضمان, انصرف إليه وإن أطلق احتمل أن له صرفها إلى ما شاء منهما كمن أخرج زكاة نصاب وله نصابان غائب وحاضر, كان له صرفها إلى ما شاء منهما واحتمل أن يكون نصفها عن الأصل ونصفها عن الضمان لأن إطلاق القضاء والإبراء ينصرف إلى جملة ما في ذمته, فيكون بينهما والمعتبر في القضاء لفظ القاضي ونيته وفي الإبراء لفظ المبرئ ونيته, ومتى اختلفوا في ذلك فالقول قول من المعتبر لفظه ونيته. فصل:
ولو ادعى ألفا على حاضر وغائب وأن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه, فاعترف الحاضر بذلك فله أخذ الألف منه فإذا قدم الغائب فاعترف, رجع عليه صاحبه بنصفه وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه, وإن أنكر الحاضر فالقول قوله مع يمينه فإن قامت عليه بينة فاستوفى الألف منه, لم يرجع على الغائب بشيء لأنه بإنكاره معترف أنه لا حق له عليه وإنما المدعي ظلمه وإن اعترف الغائب وعاد الحاضر عن إنكاره فله أن يستوفي منه لأنه يدعي عليه حقا يعترف له به, فكان له أخذه منه وإن لم يقم على الحاضر بينة حلف وبرئ فإذا قدم الغائب فأنكر أيضا وحلف, برئ وإن اعترف لزمه دفع الألف وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يلزمه إلا خمس المائة الأصلية دون المضمونة لأنها سقطت عن المضمون عنه بيمينه, فتسقط عن ضامنه ولنا أنه يعترف بها وغريمه يدعيها واليمين إنما أسقطت المطالبة عنه في الظاهر, ولم تسقط عنه الحق الذي في ذمته ولهذا لو قامت عليه بينة بعد يمينه لزمه, ولزم الضامن. فصل:
ولا يدخل الضمان والكفالة خيار لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ والضمين والكفيل على بصيرة أنه لا حظ لهما ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول, فلم يدخله خيار كالنذر وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم عن أحد خلافهم فإن شرط الخيار فيهما فقال القاضي: عندي أن الكفالة تبطل, وهو مذهب الشافعي لأنه شرط ما ينافي مقتضاها ففسدت كما لو شرط أن لا يؤدى ما على المكفول به, وذلك لأن مقتضى الضمان والكفالة لزوم ما ضمنه أو كفل به والخيار ينافي ذلك ويحتمل أن يبطل الشرط وتصح الكفالة كما قلنا في الشروط الفاسدة في البيع ولو أقر بأنه كفل بشرط الخيار, لزمته الكفالة وبطل الشرط لأنه وصل بإقراره ما يبطله فأشبه استثناء الكل. فصل:
وإذا ضمن رجلان عن رجل ألفا, ضمان اشتراط فقالا: ضمنا لك الألف الذي على زيد فكل واحد منهما ضامن لنصفه وإن كانوا ثلاثة فكل واحد منهم ضامن ثلثه فإن قال واحد منهم: أنا وهذان ضامنون لك الألف فسكت الآخران فعليه ثلث الألف, ولا شيء عليهما وإن قال كل واحد منهم: كل واحد منا ضامن لك الألف فهذا ضمان اشتراك وانفراد وله مطالبة كل واحد منهم بالألف كله إن شاء وإن أدى أحدهم الألف كله أو حصته لم يرجع إلا على المضمون عنه لأن كل واحد منهم ضامن أصلي, وليس بضامن عن الضامن الآخر. مسألة:
قال [ومن كفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها] وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم هذا مذهب شريح ومالك والثوري والليث وأبي حنيفة وقال الشافعي في بعض أقواله: الكفالة بالبدن ضعيفة واختلف أصحابه فمنهم من قال: هي صحيحة قولا واحدا وإنما أراد أنها ضعيفة في القياس, وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر ومنهم من قال: فيها قولان أحدهما أنها غير صحيحة لأنها كفالة بعين فلم تصح, كالكفالة بالوجه وبدن الشاهدين ولنا قول الله تعالى: {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]. ولأن ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال إذا ثبت هذا, فإنه متى تعذر على الكفيل إحضار المكفول به مع حياته أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه وقال أكثرهم: لا يغرم ولنا عموم قوله عليه السلام: (الزعيم غارم) ولأنها أحد نوعى الكفالة, فوجب بها الغرم كالكفالة بالمال. فصل:
وتصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم بدين لازم سواء كان الدين معلوما أو مجهولا وقال بعض أصحاب الشافعية: لا تصح بمن عليه دين مجهول لأنه قد يتعذر إحضار المكفول به, فيلزمه الدين ولا يمكن طلبه منه لجهله ولنا أن الكفالة بالبدن لا بالدين, والبدن معلوم فلا تبطل الكفالة لاحتمال عارض ولأنا قد تبينا أن ضمان المجهول يصح, وهو التزام المال ابتداء فالكفالة التي لا تتعلق بالمال ابتداء أولى وتصح الكفالة بالصبي والمجنون لأنهما قد يجب إحضارهما مجلس الحكم للشهادة عليهما بالإتلاف وإذن وليهما يقوم مقام إذنهما وتصح الكفالة ببدن المحبوس والغائب وقال أبو حنيفة: لا تصح ولنا, أن كل وثيقة صحت مع الحضور صحت مع الغيبة والحبس كالرهن والضمان ولأن الحبس لا يمنع من التسليم, لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم أو أمر من حبسه ثم يعيده إلى الحبس بالحقين جميعا, والغائب يمضي إليه فيحضره إن كانت الغيبة غير منقطعة وهو أن يعلم خبره وإن لم يعلم خبره, لزمه ما عليه: قاله القاضي وقال في موضع آخر: لا يلزمه ما عليه حتى تمضي مدة يمكنه الرد فيها فلا يفعل. فصل:
ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد سواء كان حقا لله تعالى, كحد الزنى والسرقة أو لآدمي كحد القذف والقصاص وهذا قول أكثر أهل العلم منهم شريح والحسن وبه قال إسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي في حدود الله تعالى, واختلف قوله في حدود الآدمي فقال في موضع: لا كفالة في حدود الآدمي ولا لعان وقال في موضع: تجوز الكفالة بمن عليه حق أو حد لأنه حق لآدمي فصحت الكفالة به, كسائر حقوق الآدميين ولنا ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال (لا كفالة في حد) ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه كحدود الله تعالى, ولأن الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق, ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به فلم تصح الكفالة بمن هو عليه, كحد الزنى. فصل:
ولا تجوز الكفالة بالمكاتب من أجل دين الكتابة لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة. فصل:
وتصح الكفالة حالة ومؤجلة كما يصح الضمان حالا ومؤجلا, وإذا أطلق كانت حالة لأن كل عقد يدخله الحلول اقتضى إطلاقه الحلول كالثمن والضمان فإذا تكفل حالا كان له مطالبته بإحضاره, فإن أحضره وهناك يد حائلة ظالمة لم يبرأ منه ولم يلزم المكفول له تسلمه لأنه لا يحصل له غرضه وإن لم يكن يد حائلة لزمه قبوله, فإن قبله برئ من الكفالة وقال ابن أبي موسى: لا يبرأ حتى يقول: قد برئت إليك منه أو قد سلمته إليك أو قد أخرجت نفسي من كفالته والصحيح الأول لأنه عقد على عمل فبرئ منه بالعمل المعقود عليه كالإجارة, فإن امتنع من تسلمه برئ لأنه أحضر ما يجب تسليمه عند غريمه وطلب منه تسلمه على وجه لا ضرر في قبضه فبرئ منه كالمسلم فيه وقال بعض أصحابنا: إذا امتنع من تسلمه, أشهد على امتناعه رجلين وبرئ لأنه فعل ما وقع العقد على فعله فبرئ منه وقال القاضي: يرفعه إلى الحاكم فيسلمه إليه فإن لم يجد حاكما أشهد شاهدين على إحضاره وامتناع المكفول له من قبوله والأول أصح فإن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى نائبه, كحاكم أو غيره وإن كانت الكفالة مؤجلة لم يلزم إحضاره قبل الأجل كالدين المؤجل, فإذا حل الأجل فأحضره وسلمه برئ وإن كان غائبا أو مرتدا لحق بدار الحرب لم يؤخذ بالحق حتى يمضي زمن يمكن المضي إليه وإعادته وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال لأن الحق قد توجه عليه ولنا أن الحق يعتبر في وجوب أدائه إمكان التسليم وإن كان حالا كالدين, فإذا مضت مدة يمكن إحضاره فيها ولم يحضره أو كانت الغيبة منقطعة لا يعلم خبره أو امتنع من إحضاره مع إمكانه, أخذ بما عليه وقال أصحاب الشافعي: إن كانت الغيبة منقطعة لا يعلم مكانه لم يطالب الكفيل بإحضاره ولم يلزمه شيء, وإن امتنع من إحضاره مع إمكانه حبس وقد دللنا على وجوب الغرم فيما مضى وإن أحضر المكفول به قبل الأجل ولا ضرر في تسليمه لزمه وإن كان فيه ضرر, مثل أن تكون حجة الغريم غائبة أو لم يكن يوم مجلس الحاكم أو الدين مؤجل عليه لا يمكن اقتضاؤه منه, أو قد وعده بالإنظار في تلك المدة لم يلزمه قبوله كما نقول في من دفع الدين المؤجل قبل حلوله. فصل:
وإذا عين في الكفالة تسليمه في مكان, فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال القاضي: إن أحضره بمكان آخر من البلد وسلمه برئ من الكفالة وقال بعض أصحابنا: متى أحضره في أي مكان كان, وفي ذلك الموضع سلطان برئ من الكفالة لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحاكم ويمكن إثبات الحجة فيه وقيل: إن كان عليه ضرر في إحضاره بمكان آخر, لم يبرأ الكفيل بإحضاره فيه وإلا برئ كقولنا فيما إذا أحضره قبل الأجل ولأصحاب الشافعي اختلاف على نحو ما ذكرنا ولنا, أنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غيره فلم يبرأ كما لو أحضر المسلم فيه في غير هذا الموضع الذي شرطه, ولأنه قد سلم في موضع لا يقدر على إثبات الحجة فيه لغيبة شهوده أو غير ذلك, وقد يهرب منه ولا يقدر على إمساكه يفارق ما إذا أحضره قبل الأجل, فإنه عجل الحق قبل أجله فزاده خيرا فإذا لم يكن فيه ضرر وجب قبوله وإن وقعت الكفالة مطلقة, وجب تسليمه في مكان العقد كالسلم فإن سلمه في غيره فهو كتسليمه في غير المكان الذي عينه وإن كان المكفول به محبوسا عند غير الحاكم, لم يلزمه تسليمه محبوسا لأن ذلك الحبس يمنعه استيفاء حقه وإن كان محبوسا عند الحاكم فسلمه إليه محبوسا لزمه تسليمه لأن حبس الحاكم لا يمنعه استيفاء حقه وإذا طالب الحاكم بإحضاره أحضره مجلسه, وحكم بينهما ثم يرده إلى الحبس فإن توجه عليه حق للمكفول له حبسه بالحق الأول أو حق المكفول له. فصل: وإن كفل إلى أجل مجهول, لم تصح الكفالة وبهذا قال الشافعي لأنه ليس له وقت يستحق مطالبته فيه وهكذا الضمان وإن جعله إلى الحصاد والجزاز والعطاء خرج على الوجهين, كالأجل في البيع والأولى صحتها هنا لأنه تبرع من غير عوض جعل له أجلا لا يمنع من حصول المقصود منه, فصح كالنذر وهكذا كل مجهول لا يمنع مقصود الكفالة وقد روي مهنا عن أحمد في رجل كفل رجلا آخر, فقال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فما عليه على فقال: لا أدري ولكن إن قال: ساعة كذا لزمه فنص على تعيين الساعة وتوقف عن تعيين الوقت, ولعله أراد وقتا متسعا أو وقت شيء يحدث مثل وقت الحصاد ونحوه فأما إن قال: وقت طلوع الشمس, ونحو ذلك صح وإن قال: إلى الغد أو شهر كذا تعلق بأوله على ما ذكرنا في السلم. فصل:
وإذا تكفل برجل إلى أجل, إن جاء به فيه وإلا لزمه ما عليه صح وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف: وقال محمد بن الحسن والشافعي: لا تصح الكفالة, ولا يلزمه ما عليه لأن هذا تعليق الضمان بخطر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد ولنا أن هذا موجب الكفالة ومقتضاها, فصح اشتراطه كما لو قال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فلك حبسي ومبنى الخلاف ها هنا على الخلاف في أن هذا مقتضي الكفالة, وقد دللنا عليه وأما إن قال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان أو فأنا ضامن لك مالك على فلان أو قال: إذا جاء زيد فأنا ضامن لك ما عليه أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل بفلان أو قال: أنا كفيل بفلان شهرا فقال القاضي: لا تصح الكفالة وهو مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن لأن ذلك خطر فلم يجز تعليق الضمان والكفالة به, كمجيء المطر وهبوب الريح ولأنه إثبات حق لآدمي معين فلم يجز تعليقه على شرط, ولا توقيته كالهبة وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب: تصح, وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه أضاف الضمان إلى سبب الوجود فيجب أن يصح كضمان الدرك والأول أقيس فإن قال: كفلت بفلان إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل بفلان, أو ضامن المال الذي على فلان لم يصح فيهما عند القاضي لأن الأول مؤقت والثاني معلق على شرط وقال أبو الخطاب: يصح فيهما فأما إن قال: كفلت بأحد هذين الرجلين لم يصح في قولهم جميعا لأنه غير معلوم في الحال ولا في المآل. فصل:
فإن قال: كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل أو على أن تبرئه من الكفالة لم يصح لأنه شرط شرطا لا يلزم الوفاء به, فيكون فاسدا وتفسد الكفالة به ويحتمل أن تصح الكفالة لأنه شرط تحويل الوثيقة التي على الكفيل إليه فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلا أن يبرئ المكفول له الكفيل الأول لأنه إنما كفل بهذا الشرط فلا تثبت كفالته بدون شرطه وإن قال: كفلت لك بهذا الغريم, على أن تبرئني من الكفالة بفلان أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر أو على أن تبرئني من الكفالة بفلان خرج فيه الوجهان, والأولى أنه لا يصح لأنه شرط فسخ عقد في عقد فلم يصح كالبيع بشرط فسخ بيع آخر وكذلك لو شرط في الكفالة أو الضمان أن يتكفل المكفول له أو المكفول به بآخر, أو يضمن دينا عليه أو يبيعه شيئا عينه أو يؤجره داره, لم يصح لما ذكرنا. فصل:
ولو تكفل اثنان بواحد صح وأيهم قضى الدين برئ الآخران لما ذكرنا في الضمان وإن سلم المكفول به نفسه برئ كفيلاه لأنه أتى بما يلزم الكفيلين, وهو إحضار نفسه فبرئت ذمتهما كما لو قضى الدين وإن أحضر أحد الكفيلين, لم يبرأ الآخر لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء فلم تنحل الأخرى كما لو أبرأ أحدهما, أو انفك أحد الرهنين من قضاء الحق وفارق ما إذا سلم المكفول به نفسه لأنه أصل لهما فإذا برئ الأصل مما تكفل به عنه برئ فرعاه, وكل واحد من الكفيلين ليس بفرع للآخر فلم يبرأ ببراءته ولذلك لو أبرأ المكفول به برئ كفيلاه ولو أبرئ أحد الكفيلين برئ وحده دون صاحبه. فصل:
ولو تكفل واحد لاثنين, فأبرأه أحدهما أو أحضره عند أحدهما لم يبرأ من الآخر لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين, فقد التزم إحضاره عند كل واحد منهما فإذا أحضره عند واحد برئ منه, وبقي حق الآخر كما لو كان في عقدين وكما لو ضمن دينا لرجلين, فوفى أحدهما حقه " فصل:
وإذا قال رجل لآخر: اضمن عن فلان أو اكفل بفلان ففعل كان الضمان والكفالة لازمين للمباشر دون الآمر لأنه كفل باختيار نفسه, وإنما الأمر إرشاد وحث على فعل خير فلم يلزمه به بشيء. مسألة:
قال: [فإن مات برئ المتكفل] وجملته أنه إذا مات المكفول به, سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شيء وبهذا قال شريح والشعبي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة, والشافعي وقال الحكم ومالك والليث: يجب على الكفيل غرم ما عليه وحكى ذلك عن ابن شريح لأن الكفيل وثيقة بحق فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن ولأنه تعذر إحضاره, فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به, فبرئ الكفيل كما لو برئ من الدين ولأن ما التزمه من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع, كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبرئ منه وفارق ما إذا غاب, فإن الحضور لم يسقط عنه ويفارق الرهن فإنه علق به المال فاستوفى منه. فصل:
إذا قال الكفيل: قد برئ المكفول به من الدين, وسقطت الكفالة أو قال: لم يكن عليه دين حين كفلته فأنكر المكفول له فالقول قوله لأن الأصل صحة الكفالة وبقاء الدين وعليه اليمين, فإن نكل قضى عليه ويحتمل أن لا يستحلف فيما إذا ادعى الكفيل أنه تكفل بمن لا دين عليه لأن الكفيل مكذب لنفسه فيما ادعاه فإن من كفل بشخص معترف بدينه في الظاهر والأول أولى لأن ما ادعاه محتمل. فصل:
وإذا قال المكفول له للكفيل: أبرأتك من الكفالة برئ لأنه حقه, فيسقط بإسقاطه كالدين وإن قال: قد برئت إلى منه أو قد رددته إلى برئ أيضا لأنه معترف بوفاء الحق فهو كما لو اعترف بذلك في الضمان وكذلك إذا قال: برئت من الدين الذي كفلت به يبرأ الكفيل في هذه المواضع دون المكفول به ولا يكون إقرارا بقبض الحق وهذا قول محمد بن الحسن وقيل: يكون إقرارا بقبض الحق, فيما إذا قال: برئت من الدين الذي كفلت به والأول أصح لأنه يمكن براءته بدون قبض الحق بإبراء المستحق أو موت المكفول به فأما إن قال للمكفول به: أبرأتك عما لي قبلك من الحق أو برئت من الدين الذي قبلك فإنه يبرأ من الحق, وتزول الكفالة لأنه لفظ يقتضي العموم في كل ما قبله وإن قال: برئت من الدين الذي كفل به فلان برئ وبرئ كفيله. فصل:
فإذا قال: أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع على الآمر, ولم يكن له ذلك كفالة ولا ضمانا إلا أن يقول: أعطه عني وقال أبو حنيفة: يرجع عليه إذا كان خليطا له لأن العادة أن يستقرض من خليطه ولنا أنه لم يقل: أعطه عني فلم يلزمه الضمان, كما لو لم يكن خليطا ولا يلزم إذا كان له عليه مال فقال: أعطه فلانا حيث يلزمه لأنه لا يلزمه لأجل هذا القول بل لأن عليه حقا يلزمه أداؤه. فصل:
إذا كانت السفينة في البحر, وفيها متاع فخيف غرقها فألقي بعض من فيها متاعه في البحر لتخف, لم يرجع به على أحد سواء ألقاه محتسبا بالرجوع أو متبرعا لأنه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان فإن قال له بعضهم: ألق متاعك فألقاه فكذلك لأنه لا يكرهه على إلقائه ولا ضمن له وإن قال: ألقه, وعلى ضمانه فألقاه فعلى القائل ضمانه ذكره أبو بكر لأن ضمان ما لم يجب صحيح وإن قال: ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له ففعل فقال أبو بكر يضمنه القائل وحده, إلا أن يتطوع بقيتهم قال القاضي: إن كان ضمان اشتراك فليس عليه إلا ضمان حصته لأنه لم يضمن الجميع إنما يضمن حصته, وأخبر عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره فلزمته حصته ولم يقبل قوله في حق الباقين, وإن كان ضمان اشتراك وانفراد بأن يقول: كل واحد منا ضامن لك متاعك أو قيمته لزم القائل ضمان الجميع وسواء قال هذا والباقون يسمعون فسكتوا, أو قالوا: لا نفعل أو لم يسمعوا لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق. فصل:
قال مهنا: سألت أحمد عن رجل له على رجل ألف درهم فأقام بها كفيلين, كل واحد منهما كفيل ضامن فأيهما شاء أخذه بحقه فأحال رب المال عليه رجلا بحقه؟ فقال: يبرأ الكفيلان قلت: فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئا؟ قال: لا شيء له, ويذهب الألف.
===============
قال: [ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق, فرضي فقد برئ المحيل أبدا] من شرط صحة الحوالة شروط أربعة: أحدها تماثل الحقين لأنها تحويل للحق ونقل له, فينقل على صفته ويعتبر تماثلهما في أمور ثلاثة: أحدها الجنس فيحيل من عليه ذهب بذهب, ومن عليه فضة بفضة ولو أحال من عليه ذهب بفضة أو من عليه فضة بذهب لم يصح الثاني, الصفة فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح الثالث, الحلول والتأجيل ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أجل أحدهما إلى شهر والآخر إلى شهرين, لم تصح الحوالة ولو كان الحقان حالين فشرط على المحتال أن يقبض حقه أو بعضه بعد شهر لم تصح الحوالة لأن الحال لا يتأجل ولأنه شرط ما لو كان ثابتا في نفس الأمر لم تصح الحوالة فكذلك إذا شرطه وإذا اجتمعت هذه الأمور, وصحت الحوالة وتراضيا بأن يدفع المحال عليه خيرا من حقه أو رضي المحتال بدون الصفة, أو رضي من عليه المؤجل بتعجيله أو رضي من له الحال بإنظاره جاز لأن ذلك يجوز في القرض, ففي الحوالة أولى وإن مات المحيل أو المحال فالأجل بحاله وإن مات المحال عليه, ففي حلول الحق روايتان مضى ذكرهما الشرط الثاني أن تكون على دين مستقر ولا يعتبر أن يحيل بدين [ غير ] مستقر, إلا أن السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه لأن دين السلم ليس بمستقر لكونه بعرض الفسخ لانقطاع المسلم فيه ولا تصح الحوالة به لأنها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه, والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه لقول النبي ـ ﷺ ـ: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) ولا تصح الحوالة على المكاتب بمال الكتابة لأنه غير مستقر فإن له أن يمتنع من أدائه, ويسقط بعجزه وتصح الحوالة عليه بدين غير دين الكتابة لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة, ويكون ذلك بمنزلة القبض وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح لأنه غير مستقر وإن أحالها الزوج به صح لأنه له تسليمه إليها, وحوالته به تقوم مقام تسليمه وإن أحالت به بعد الدخول صح لأنه مستقر وإن أحال البائع بالثمن على المشتري في مدة الخيار لم يصح, في قياس ما ذكرنا وإن أحاله المشتري به صح لأنه بمنزلة الوفاء وله الوفاء قبل الاستقرار وإن أحال البائع بالثمن على المشتري, ثم ظهر على عيب لم يتبين أن الحوالة كانت باطلة لأن الثمن كان ثابتا مستقرا والبيع كان لازما, وإنما ثبت الجواز عند العلم بالعيب بالنسبة إلى المشتري ويحتمل أن تبطل الحوالة لأن سبب الجواز عيب المبيع وقد كان موجودا وقت الحوالة وكل موضع أحال من عليه دين غير مستقر به ثم سقط الدين, كالزوجة ينفسخ نكاحها بسبب من جهتها أو المشتري يفسخ البيع ويرد المبيع فإن كان ذلك قبل القبض من المحال عليه, ففيه وجهان: أحدهما تبطل الحوالة لعدم الفائدة في بقائها ويرجع المحيل بدينه على المحال عليه والثاني, لا تبطل لأن الحق انتقل عن المحيل فلم يعد إليه وثبت للمحتال فلم يزل عنه, ولأن الحوالة بمنزلة القبض فكأن المحيل أقبض المحتال دينه فيرجع عليه به, ويأخذ المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر وإن كان بعد القبض لم يبطل وجها واحدا, ويرجع المحيل على المحتال به. فصل:
وإن أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة بل هي وكالة تثبت فيها أحكامها لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله ولا حق ها هنا ينتقل ويتحول, وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في المعنى وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه, وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة أيضا نص عليه أحمد فلا يلزمه المحال عليه الأداء ولا المحتال قبول ذلك لأن الحوالة معاوضة, ولا معاوضة ها هنا وإنما هو اقتراض فإن قبض المحتال منه الدين رجع على المحيل لأنه قرض وإن أبرأه ولم يقبض منه شيئا, لم تصح البراءة لأنها براءة لمن لا دين عليه وإن قبض منه الدين ثم وهبه إياه رجع المحال عليه على المحيل به لأنه قد غرم عنه, وإنما عاد إليه المال بعقد مستأنف ويحتمل أن لا يرجع عليه لكونه ما غرم عنه شيئا وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض وليست حوالة لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين, ولم يوجد واحد منهما. فصل:
الشرط الثالث أن تكون بمال معلوم لأنها إن كانت بيعا فلا تصح في مجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم, والجهالة تمنع منه فتصح بكل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب والأدهان ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في الذمة, ومن شرط الحوالة تساوي الدينين فأما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات كالمذروع والمعدود, ففي صحة الحوالة به وجهان: أحدهما: لا تصح لأن المثل فيه لا يتحرر ولهذا لا يضمنه بمثله في الإتلاف وهذا ظاهر مذهب الشافعي والثاني: تصح ذكره القاضي لأنه حق ثابت في الذمة, فأشبه ماله مثل ويحتمل أن يخرج هذان الوجهان على الخلاف فيما يقتضي به قرض هذه الأموال فإن كان عليه إبل من الدية وله على آخر مثلها في السن فقال القاضي: تصح لأنها تختص بأقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر الصفات وقال أبو الخطاب: لا تصح في أحد الوجهين لأنها مجهولة, ولأن الإبل ليست من المثليات التي تضمن بمثلها في الإتلاف ولا تثبت في الذمة سلما في رواية وإن كان عليه إبل من دية وله على آخر مثلها قرضا, فأحاله عليه فإن قلنا: يرد في القرض قيمتها لم تصح الحوالة لاختلاف الجنس وإن قلنا: يرد مثلها اقتضى قول القاضي صحة الحوالة لأنه أمكن استيفاء الحق على صفته من المحال عليه ولأن الخيرة في التسليم إلى من عليه الدين, وقد رضي بتسليم ما له في ذمة المقترض وإن كانت بالعكس فاحتال المقرض بإبل الدية لم تصح لأننا إن قلنا: تجب القيمة في القرض فقد اختلف الجنس وإن قلنا: يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته, والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك. فصل:
الشرط الرابع أن يحيل برضائه لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي على المحال عليه, ولا خلاف في هذا فإذا اجتمعت شروط الحوالة وصحت برئت ذمة المحيل في قول عامة الفقهاء إلا ما يروى عن الحسن, أنه كان لا يرى الحوالة براءة إلا أن يبرئه وعن زفر أنه قال: لا تنقل الحق وأجراها مجرى الضمان وليس بصحيح لأن الحوالة مشتقة من تحويل الحق بخلاف الضمان, فإنه مشتق من ضم ذمة إلى ذمة فعلق على كل واحد مقتضاه وما دل عليه لفظه إذا ثبت أن الحق انتقل فمتى رضي بها المحتال, ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل أبدا سواء أمكن استيفاء الحق, أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غير ذلك هذا ظاهر كلام الخرقي وبه قال الليث والشافعي, وأبو عبيد وابن المنذر وعن أحمد ما يدل على أنه إذا كان المحال عليه مفلسا ولم يعلم المحتال بذلك, فله الرجوع إلا أن يرضى بعد العلم وبه قال جماعة من أصحابنا ونحوه قول مالك لأن الفلس عيب في المحال عليه, فكان له الرجوع كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة ولأن المحيل غره, فكان له الرجوع كما لو دلس المبيع وقال شريح والشعبي, والنخعي: متى أفلس أو مات رجع على صاحبه وقال أبو حنيفة: يرجع عليه في حالين إذا مات المحال عليه مفلسا, وإذا جحده وحلف عليه عند الحاكم وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع عليه في هاتين الحالتين وإذا حجر عليه لفلس لأنه روى عن عثمان, أنه سئل عن رجل أحيل بحقه فمات المحال عليه مفلسا فقال: يرجع بحقه لا توى على مال امرئ مسلم ولأنه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين, فكان له الفسخ كما لو اعتاض بثوب فلم يسلم إليه ولنا أن حزنا جد سعيد بن المسيب, كان له على على رضي الله عنه دين فأحاله به فمات المحال عليه, فأخبره فقال: اخترت علينا أبعدك الله فأبعده بمجرد احتياله, ولم يخبره أن له الرجوع ولأنها براءة من دين ليس فيها قبض ممن عليه ولا ممن يدفع عنه فلم يكن فيها رجوع, كما لو أبرأه من الدين وحديث عثمان لم يصح يرويه خالد بن جعفر عن معاوية بن قرة عن عثمان, ولم يصح سماعه منه وقد روى أنه قال: في حوالة أو كفالة وهذا يوجب التوقف ولا يصح, ولو صح كان قول على مخالفا له وقولهم: إنه معاوضة لا يصح لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين وهو منهي عنه, ويفارق المعاوضة بالثوب لأن في ذلك قبضا يقف استقرار العقد عليه وها هنا الحوالة بمنزلة القبض وإلا كان بيع دين بدين. فصل:
فإن شرط ملاءة المحال عليه, فبان معسرا رجع على المحيل وبه قال بعض الشافعية وقال بعضهم: لا يرجع لأن الحوالة لا ترد بالإعسار إذا لم يشترط الملاءة فلا ترد به, وإن شرط كما لو اشترط كونه مسلما ويفارق البيع فإن الفسخ يثبت بالإعسار فيه من غير شرط, بخلاف الحوالة ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ: (المسلمون على شروطهم) ولأنه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضة فيثبت الفسخ بفواته كما لو شرط صفة في المبيع, وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق العقد بدليل اشتراط صفة في المبيع. فصل:
ولو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان المحال عليه مفلسا أو ميتا, رجع على المحيل بلا خلاف فإنه لا يلزمه الاحتيال على غير مليء لما عليه فيه من الضرر وإنما (أمر النبي ـ ﷺ ـ بقبول الحوالة إذا أحيل على مليء,) ولو أحاله على مليء فلم يقبل حتى أعسر فله الرجوع أيضا على ظاهر قول الخرقي لكونه اشترط في براءة المحيل إبداء رضي المحتال. مسألة:
قال: [ومن أحيل بحقه على مليء, فواجب عليه أن يحتال] المليء: هو القادر على الوفاء جاء في الحديث عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال: (إن الله تعالى يقول: من يقرض المليء غير المعدم) وقال الشاعر: تطيلين ليانى وأنت مليئة ** وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا يعني قادرة على وفائي والظاهر أن الخرقي أراد بالمليء ها هنا القادر على الوفاء غير الجاحد ولا المماطل قال أحمد في تفسير المليء كأن المليء عنده, أن يكون مليا بماله وقوله وبدنه ونحو هذا فإذا أحيل على من هذه صفته لزم المحتال والمحال عليه القبول ولم يعتبر رضاهما وقال أبو حنيفة: يعتبر رضاهما لأنها معاوضة فيعتبر الرضا من المتعاقدين وقال مالك والشافعي: يعتبر رضي المحتال لأن حقه في ذمة المحيل, فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه كما لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عرضا فأما المحال عليه فقال مالك: لا يعتبر رضاه, إلا أن يكون المحتال عدوه وللشافعي في اعتبار رضائه قولان أحدهما: يعتبر وهو يحكي عن الزهري لأنه أحد من تتم به الحوالة فأشبه المحيل والثاني: لا يعتبر لأنه أقامه في القبض مقام نفسه فلم يفتقر إلى رضا من عليه الحق كالتوكيل ولنا, قول النبي ـ ﷺ ـ: (إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ولأن للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض فلزم المحال القبول كما لو وكل رجلا في إبقائه, وفارق ما إذا أراد أن يعطيه عما في ذمته عرضا لأنه يعطيه غير ما وجب له فلم يلزمه قبوله. فصل: إذا أحال رجلا على زيد بألف فأحاله زيد بها على عمر فالحوالة صحيحة لأن حق الثاني ثابت مستقر في الذمة, فصح أن يحيل به كالأول وهكذا لو أحال الرجل عمرا على زيد بما يثبت له في ذمته صح أيضا لما ذكرنا وتكرر المحتال والمحيل لا يضر. فصل:
إذا اشترى عبدا, فأحال المشتري البائع بالثمن ثم ظهر العبد حرا أو مستحقا فالبيع باطل, والحوالة باطلة لأننا تبينا أنه لا ثمن على المشتري وإنما تثبت حريته ببينة أو اتفاقهم فإن اتفق المحيل والمحال عليه على حريته, وكذبهما المحتال ولا بينة بذلك لم يقبل قولهما عليه لأنهما يبطلان حقه, أشبه ما لو باع المشتري العبد ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حرا لم يقبل قولهما على المشتري الثاني, وإن أقاما بينة لم تسمع لأنهما كذباها بدخولهما في التبايع وإن أقام العبد بينة بحريته قبلت, وبطلت الحوالة وإن صدقهما المحتال وادعى أن الحوالة بغير ثمن العبد فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل صحة الحوالة, وهما يدعيان بطلانها فكانت جنبته أقوى فإن أقاما البينة أن الحوالة كانت بالثمن قبلت لأنهما لم يكذباها وإن اتفق المحيل والمحتال على حرية العبد, وكذبهما المحال عليه لم يقبل قولهما عليه في حرية العبد لأنه إقرار على غيرهما وتبطل الحوالة لاتفاق المرجوع عليه بالدين والراجع به على استحقاق الرجوع, والمحال عليه يعترف للمحتال بدين لا يصدقه فيه فلا يأخذ منه شيئا وإن اعترف المحتال والمحال عليه بحرية العبد عتق لإقرار من هو في يده بحريته وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما, ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لأن دخوله معه في الحوالة اعتراف ببراءته فلم يكن له الرجوع عليه. فصل:
وإن اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن على آخر, فقبضه من المحال عليه ثم رد المشتري العبد بعيب أو مقايلة, أو اختلاف في ثمن فقد برئ المحال عليه لأنه قبض منه بإذنه ويرجع المشتري على البائع وإن رده قبل القبض, فقال القاضي: تبطل الحوالة ويعود المشتري إلى ذمة المحال عليه ويبرأ البائع, فلا يبقى له دين ولا عليه لأن الحوالة بالثمن وقد سقط بالفسخ فيجب أن تبطل الحوالة لذهاب حقه من المال المحال به وقال أبو الخطاب: لا تبطل الحوالة في أحد الوجهين لأن المشتري عوض البائع عما في ذمته ماله في ذمة المحال عليه, ونقل حقه إليه نقلا صحيحا وبرئ من الثمن وبرئ المحال عليه من دين المشتري, فلم يبطل ذلك بفسخ العقد الأول كما لو أعطاه بالثمن ثوبا وسلمه إليه فسخ العقد, لم يرجع بالثوب كذا ها هنا فإن قلنا ببطلان الحوالة رجع المحيل على المحال عليه بدينه, ولم يبق بينهما وبين البائع معاملة وإن قلنا: لا تبطل رجع المشتري على البائع بالثمن ويأخذه البائع من المحال عليه فإن عاد البائع فأحال المشتري بالثمن على من أحاله المشتري عليه صح وبرئ البائع, وعاد المشتري إلى غريمه وإن كانت المسألة بحالها لكن أحال البائع أجنبيا على المشتري ثم رد العبد المبيع, ففي الحوالة وجهان: أحدهما لا تبطل لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من حق البائع وصار الحق عليه للأجنبي المحتال, فأشبه ما لو دفعه المشتري إلى المحيل فعلى هذا يرجع المشتري على البائع بالثمن ويسلم إلى المحتال ما أحاله به والثاني, تبطل الحوالة إن كان الرد قبل القبض لسقوط الثمن الذي كانت الحوالة به ولأنه لا فائدة في بقاء الحوالة ها هنا, فيعود البائع بدينه ويبرأ المشتري منهما كالمسألة قبلها, وإذا قلنا: لا تبطل فأحال المشتري المحال عليه بالثمن على البائع صح وبرئ المشتري منها. فصل:
إذا كان لرجل على آخر دين, فأذن لآخر في قبضه ثم اختلف هو والمأذون له فقال: وكلتك في قبض ديني بلفظ التوكيل فقال: بل أحلتني بلفظ الحوالة أو كانت بالعكس, فقال: أحلتك بدينك فقال: بل وكلتني فالقول قول مدعى الوكالة منهما مع يمينه لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان وينكر انتقاله والأصل معه, فإن كان لأحدهما بينة حكم بها لأن اختلافهما في اللفظ وهو مما يمكن إقامة البينة عليه وإن اتفقا على أنه قال: أحلتك بالمال الذي لي قبل زيد ثم اختلفا فقال المحيل: إنما وكلتك في القبض لي وقال الآخر: بل أحلتني بديني عليك فالقول قول مدعي الحوالة, في أحد الوجهين لأن الظاهر معه فإن اللفظ حقيقة في الحوالة دون الوكالة فيجب حمل اللفظ على ظاهره كما لو اختلفا في دار في يد أحدهما والثاني, القول قول المحيل لأن الأصل بقاء حق المحيل على المحال عليه والمحتال يدعي نقله والمحيل ينكره, والقول قول المنكر فعلى الوجه الأول يحلف المحتال ويثبت حقه في ذمة المحال عليه ويستحق مطالبته, ويسقط عن المحيل وعلى الوجه الثاني يحلف المحيل ويبقى حقه في ذمة المحال عليه وعلى كلا الوجهين: إن كان المحتال قد قبض الحق من المحال عليه, وتلف في يده فقد برئ كل واحد منهما من صاحبه ولا ضمان عليه, سواء تلف بتفريطه أو غيره لأنه إن تلف بتفريط وكان المحتال محقا فقد أتلف ماله, وإن كان مبطلا ثبت لكل واحد منهما في ذمة الآخر مثل ما في ذمته له فيتقاصان, ويسقطان وإن تلف بغير تفريط فالمحال قد قبض حقه وتلف في يده, وبرئ منه المحيل بالحوالة والمحال عليه بتسلمه والمحيل يقول: قد تلف المال في يد وكيلي بغير تفريط فلا ضمان عليه وإن لم يتلف, احتمل أن لا يملك المحيل طلبه لأنه معترف أن له عليه من الدين مثل ما له في يده وهو مستحق لقبضه فلا فائدة في أن يقبضه منه ثم يسلمه إليه ويحتمل أن يملك أخذه منه, ويملك المحتال مطالبته بدينه وقيل: يملك المحيل أخذه منه ولا يملك المحتال المطالبة بدينه لاعترافه ببراءة المحيل منه بالحوالة وليس بصحيح لأن المحتال إن اعترف بذلك فهو يدعي أنه قبض هذا المال منه بغير حق, وأنه يستحق المطالبة به فعلى كلا الحالين هو مستحق للمطالبة بمثل هذا المال المقبوض منه, في قولهما جميعا فلا وجه لإسقاطه ولا موضع للبينة في هذه المسألة: لأنهما لا يختلفان في لفظ يسمع, ولا فعل يرى وإنما يدعى المحيل بينة وهذا لا تشهد به البينة نفيا ولا إثباتا. فصل:
وإن كانت المسألة بالعكس, فقال: أحلتك بدينك فقال: بل وكلتني ففيها الوجهان أيضا لما قدمناه فإن قلنا: القول قول المحيل فحلف برئ من حق المحتال وللمحتال قبض المال من المحال عليه لنفسه لأنه يجوز له ذلك بقولهما معا, فإذا قبضه كان له بحقه وإن قلنا: القول قول المحتال فحلف كان له مطالبة المحيل بحقه ومطالبة المحتال عليه لأنه إما وكيل وإما محتال فإن قبض منه قبل أخذه من المحيل, فله أخذ ما قبض لنفسه لأن المحيل يقول: هو لك والمحتال يقول: هو أمانة في يدي ولي مثله على صاحبه وقد أذن له في أخذه ضمنا فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه, ولم يأخذ من المحيل شيئا وإن استوفى من المحيل رجع على المحال في أحد الوجهين لأنه قد تثبتت الوكالة بيمين المحتال وبقي الحق في ذمة المحال عليه للمحيل والثاني, لا يرجع عليه لأنه يعترف أنه قد برئ من حقه وإنما المحتال ظلمه بأخذ ما كان عليه قال القاضي: والأول أصح وإن كان قد قبض الحوالة فتلفت في يده بتفريط, أو أتلفها سقط حقه على الوجهين لأنه إن كان محقا فقد أتلف حقه وإن كان مبطلا فقد أتلف مثل دينه, فيثبت في ذمته ويتقاصان وإن تلفت بغير تفريطه فعلى الوجه الأول يسقط حقه أيضا لأن ماله تلف تحت يده وعلى الثاني, له أن يرجع على المحيل بحقه وليس للمحيل الرجوع على المحال عليه لأنه يعترف ببراءته. فصل:
وإذا كان لرجل دين على آخر فطالبه به, فقال: قد أحلت به على فلانا الغائب وأنكر صاحب الدين فالقول قول مع يمينه وإن كان لمن عليه الدين بينة بدعواه سمعت بينته, لإسقاط حق المحيل عليه وإن ادعى رجل أن فلانا الغائب أحالنى عليك فأنكر المدعى عليه فالقول قوله فإن أقام المدعى بينة, ثبتت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضى بها على الغائب ولزم الدفع إلى المحتال وإن لم يكن له بينة فأنكر المدعى عليه, فهل تلزمه اليمين؟ فيه وجهان بناء على ما لو اعترف له هل يلزمه الدفع؟ على وجهين أحدهما يلزمه الدفع إليه لأنه مقر بدينه عليه, ووجوب دفعه إليه فلزمه الدفع إليه كما لو كانت بينة والثاني لا يلزمه الدفع إليه لأنه لا يأمن من إنكار المحيل ورجوعه عليه, فكان له الاحتياط لنفسه كما لو ادعى عليه إني وكيل فلان في قبض دينه منك فصدقه, وقال: لا أدفعه إليك فإذا قلنا: يلزمه الدفع مع الإقرار لزمه اليمين مع الإنكار فإذا حلف برئ ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لاعترافه ببراءته وكذلك إن قلنا: لا تلزمه اليمين فليس للمحتال الرجوع على المحيل, ثم ينظر في المحيل فإن صدق المدعي في أنه أحاله ثبتت الحوالة له لأن رضي المحال عليه لا يعتبر وإن أنكر الحوالة, حلف وسقط حكم الحوالة وإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه بالنكول واستوفى الحق منه, ثم إن المحيل صدق المدعي فلا كلام وإن أنكر الحوالة فالقول قوله, وله أن يستوفي من المحال عليه لأنه معترف له بالحق ويدعي أن المحتال ظلمه ويبقى دين المحتال على المحيل وإن كان المحيل ينكر أن له عليه دينا فالقول قوله بغير يمين لأن المحتال يقر ببراءته منه, لاستيفائه من المحال عليه وإن كان المحيل يعترف به لم يكن للمحتال المطالبة به لأنه يقر بأنه قد برئ منه بالحوالة والمحيل يصدق المحال عليه في كون المحتال قد ظلمه, واستوفى منه بغير حق والمحتال يزعم أن المحيل قد أخذ منه أيضا بغير حق وإنه يجب عليه أن يرد ما أخذه منه إليه, فينبغي أن يقبضها المحتال ويسلمها إلى المحال عليه أو يأذن للمحيل في دفعها إلى المحال عليه وإن صدق المحال عليه المحتال في الحوالة, ودفع إليه فأنكر المحيل الحوالة حلف, ورجع على المحال عليه والحكم في الرجوع بما على المحيل من الدين على ما ذكرنا في التي قبلها. فصل:
فإن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به برئت ذمته وذمة المضمون عنه لأن الحوالة كالتسليم, ويكون الحكم ها هنا كالحكم فيما لو قضى عنه الدين فإن كان الألف على رجلين على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحد كفيل عن الآخر بذلك, فأحاله أحدهما بالألف برئت ذمتهما معا كما لو قضاها وإن أحال صاحب الألف رجلا على أحدهما بعينه بالألف, صحت الحوالة لأن الدين على كل واحد منهما مستقر وإن أحال عليهما جميعا ليستوفي منهما أو من أيهما شاء صحت الحوالة أيضا عند القاضي لأنه لا فضل ها هنا في نوع ولا أجل ولا عدد, وإنما هو زيادة استيثاق فلم يمنع ذلك صحة الحوالة كحوالة المعسر على المليء وقال بعض أصحاب الشافعي: لا تصح الحوالة لأن الفضل قد دخلها, فإن المحتال ارتفق بالتخيير بالاستيفاء منهما أو من أيهما شاء فأشبه ما لو أحاله على رجلين له على كل واحد منهما ألف ليستوفي من أيهما شاء والأول أصح والفرق بين هذه المسألة, وبين ما إذا أحاله بألفين أنه لا فضل بينهما في العدد ها هنا وثم تفاضلا فيه, ولأن الحوالة ها هنا بألف معين وثم الحوالة بأحدهما من غير تعيين وأنه إذا قضاه أحدهما الألف فقد قضى جميع الدين, وثم إذا قضى أحدهما بقي ما على الآخر ولو لم يكن كل واحد من الرجلين ضامنا عن صاحبه فأحال عليهما, صحت الحوالة بغير إشكال لأنه لما كان له أن يستوفي الألف من واحد كان له أن يستوفي من اثنين كالوكيلين. فصل: وقد دلت مسألة الخرقي على أحكام منها, صحة ضمان المجهول لقوله: ما أعطيته فهو على وهذا مجهول فمتى قال: أنا ضامن لك مالك على فلان أو ما يقضى به عليه أو ما تقوم به البينة, أو يقر به لك أو ما يخرج في روز مانحك صح الضمان وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الثوري والليث, وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح لأنه التزام مال, فلم يصح مجهولا كالثمن في المبيع ولنا قول الله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وحمل البعير غير معلوم لأن حمل البعير يختلف باختلافه, وعموم قوله عليه السلام: (الزعيم غارم) ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة فصح في المجهول كالنذر والإقرار, ولأنه يصح تعليقه بضرر وخطر وهو ضمان العهدة وإذا قال: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه أو قال: ادفع ثيابك إلى هذا الرفاء, وعلى ضمانها فصح المجهول كالعتق والطلاق. ومنها صحة ضمان ما لم يجب فإن معنى قوله: " ما أعطيته ", أي ما يعطيه في المستقبل بدليل أنه عطفه على من ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فيدل على أنه غيره, ولو كان " ما أعطيته " في الماضي كان معنى المسألتين سواء أو إحداهما داخلة في الأخرى والخلاف في هذه المسألة ودليل القولين, كالتي قبلها إلا أنهم قالوا: الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء, فلا ضم فيه فلا يكون ضمانا قلنا: قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه وأن ما ثبت في ذمة مضمونه يثبت في ذمته وهذا كاف وقد سلموا ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله: ألق متاعك في البحر, وعلى ضمانه وسلم أصحاب الشافعي في أحد الوجهين ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل وما وجب شيء بعد. ومنها أن الضمان إذا صح لزم الضامن من أداء ما ضمنه, وكان للمضمون له مطالبته ولا نعلم في هذا خلافا وهو فائدة الضمان وقد دل قول النبي ـ ﷺ ـ: (والزعيم غارم) واشتقاق اللفظ. ومنها صحة الضمان عن كل وجب عليه حق حيا كان أو ميتا, مليئا أو مفلسا لعموم لفظه فيه وهذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة: لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء فإن خلف بعض الوفاء, صح ضمانه بقدر ما خلف لأنه دين ساقط فلم يصح ضمانه كما لو سقط بالأبراء, ولأن ذمته قد خربت خرابا لا تعمر بعده فلم يبق فيها دين والضمان: ضم ذمة إلى ذمة في التزامه ولنا, حديث أبي قتادة وعلى فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء والنبي ـ ﷺ ـ حضهم على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله: (ألا قام أحدكم فضمنه؟) وهذا صريح في المسألة, ولأنه دين ثابت فصح ضمانه كما لو خلف وفاء, ودليل ثبوته أنه لو تبرع رجل بقضاء دينه جاز لصاحب الدين اقتضاؤه ولو ضمنه حيا ثم مات, لم تبرأ ذمة الضامن ولو برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن وفي هذا انفصال عما ذكروه. ومنها, صحة الضمان في كل حق أعنى من الحقوق المالية الواجبة أو التي تئول إلى الوجوب, كثمن المبيع في مدة الخيار وبعده والأجرة والمهر قبل الدخول أو بعده لأن هذه الحقوق لازمة وجواز سقوطها لا يمنع ضمانها, كالثمن في المبيع بعد انقضاء الخيار ويجوز أن يسقط برد بعيب أو مقايلة وبهذا كله قال الشافعي. فصل:
فيما يصح ضمانه: ويصح ضمان الجعل في الجعالة وفي المسابقة والمناضلة وقال أصحاب الشافعي, في أحد الوجهين: لا يصح ضمانه لأنه لا يئول إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كما في الكتابة ولنا, قول الله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72]. ولأنه يئول إلى اللزوم إذا عمل العمل وإنما الذي لا يلزم العمل والمال يلزم بوجوده, والضمان للمال دون العمل ويصح ضمان أرش الجناية سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو حيوانا كالديات وقال أصحاب الشافعي: لا يصح ضمان الحيوان الواجب فيها لأنه مجهول وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول, ولأن الإبل الواجبة في الذمة معلومة الأسنان والعدد وجهالة اللون أو غيره من الصفات الباقية لا تضر لأنه إنما يلزمه أدنى لون أو صفة فتحصل معلومة وكذلك غيرها من الحيوان, ولأن جهل ذلك لم يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع وجوبه بالالتزام ويصح ضمان نفقة الزوجة سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة لأن نفقة اليوم واجبة, والمستقبلة مآلها إلى اللزوم ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب وقال القاضي: إذا ضمن نفقة المستقبل لم تلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزيادة على ذلك تسقط بالإعسار وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه: يصح ضمانها ولنا, أنه يصح ضمان ما لم يجب واحتمال عدم وجوب الزيادة لا يمنع صحة ضمانها بدليل الجعل في الجعالة, والصداق قبل الدخول والمبيع في مدة الخيار فأما النفقة في الماضي فإن كانت واجبة, إما بحكم الحاكم بها أو قلنا: بوجوبها بدون حكمه صح ضمانها, وإلا فلا ويصح ضمان مال السلم في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه فلم يجز, كالحوالة به والأول أصح لأنه دين لازم فصح ضمانه كالأجرة وثمن المبيع ولا يصح ضمان مال الكتابة في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم والأخرى: يصح لأنه دين على المكاتب, فصح ضمانه كسائر الديون عليه والأولى أصح لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فإن للمكاتب تعجيز نفسه, والامتناع عن أدائه فإذا لم يلزم الأصيل فالضمين أولى ويصح ضمان الأعيان المضمونة, كالمغصوب والعارية وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين وقال في الآخر: لا يصح لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة, وإنما يضمن ما ثبت في الذمة ووصفنا لها بالضمان إنما معناه أنه يلزمه قيمتها إن تلفت والقيمة مجهولة ولنا, أنها مضمونة على من هي في يده فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة وقولهم: إن الأعيان لا تثبت في الذمة قلنا: الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها, والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع فإن ضمانها يصح, وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالبيع عيب أو خرج مستحقا, فأما الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة, والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط, فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها لأنها غير مضمونة على من هي في يده فكذلك على ضامنه وإن ضمنها إن تعدى فيها, فظاهر كلام أحمد ـ رحمه الله ـ يدل على صحة الضمان فإنه قال في رواية الأثرم في رجل يتقبل من الناس الثياب, فقال له رجل: ادفع إليه ثيابك وأنا ضامن فقال له: هو ضامن لما دفعه إليه يعني إذا تعدى أو تلف بفعله فعلى هذا إن تلف بغير تفريط منه ولا فعله لم يلزم الضامن شيء, لما ذكرنا وإن تلف بفعله أو تفريط لزم ضمانها ولزم ضامنه ذلك لأنها مضمونة على من هي في يده فلزم ضامنه, كالغصوب والعواري وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب وقد بينا جوازه ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع, فضمانه على المشتري هو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه وإن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن, وضمانه عن البائع للمشتري هو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقا أو رد بعيب أو أرش العيب فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع, ويذكر فيه الثمن فعبر به عن الثمن الذي يضمنه وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة ومالك والشافعي ومنع منه بعض الشافعية لكونه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول, وضمان عين وقد بينا جواز الضمان في ذلك كله ولأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع والوثائق ثلاثة الشهادة والرهن, والضمان فأما الشهادة فلا يستوفى منها الحق وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقى أبدا مرهونا فلم يبق إلا الضمان ولأنه لا يضمن إلا ما كان واجبا حال العقد لأنه إنما يتعلق بالضمان حكم إذا خرج مستحقا أو معيبا حال العقد, ومتى كان كذلك فقد ضمن ما وجب حين العقد والجهالة منتفية لأنه ضمن الجملة, فإذا خرج بعضه مستحقا لزمه بعض ما ضمنه إذا ثبت هذا فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن وبعده وقال الشافعي: إنما يصح بعد القبض لأنه قبل القبض لو خرج مستحقا لم يجب على البائع شيء وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضيا إلى الوجوب, كالجعالة وألفاظ ضمان العهدة أن يقول: ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه أو يقول للمشتري: ضمنت خلاصك منه أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا فقد ضمنت لك الثمن وحكي عن أبي يوسف أنه قال: ضمنت عهدته أو ضمنت لك العهدة والعهدة في الحقيقة: هي الصك المكتوب فيه الابتياع هكذا فسره به أهل اللغة, فلا يصح ضمانه للمشتري لأنه ملكه وليس بصحيح لأن العهدة صارت في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفية دون اللغوية, كالراوية تحمل عند إطلاقها على المزادة لا على الجمل, وإن كان هو الموضوع فأما إن ضمن له خلاص المبيع فقال أبو بكر: هو باطل لأنه إذا خرج حرا أو مستحقا لا يستطيع تخليصه, ولا يحل وقد قال أحمد في رجل باع عبدا أو أمة وضمن له الخلاص, فقال: كيف يستطيع الخلاص إذا خرج حرا؟ فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه بطل في الخلاص وهل يصح في العهدة؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة إذا ثبت صحة ضمان العهدة, فالكلام فيما يلزم الضامن فنقول: إن استحقاق رجوع المشتري بالثمن لا يخلو إما أن يكون بسبب حادث بعد العقد, أو مقارن له فأما الحادث فمثل تلف المبيع من المكيل والموزون في يد البائع أو بغصب من يده أو يتقايلان فإن المشتري يرجع على البائع دون الضامن لأن هذا الاستحقاق لم يكن موجودا حال العقد, وإنما ضمن الاستحقاق الموجود حال العقد ويحتمل أن يرجع به على الضامن لأن ضمان ما لم يجب جائز وهذا منه وأما إن كان بسبب مقارن نظرنا فإن كان بسبب لا تفريط من البائع فيه, كأخذه بالشفعة فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن ومتى لم يجب على المضمون عنه شيء لم يجب على الضامن بطريق الأولى وأما إن زال ملكه عن المبيع بسبب مقارن لتفريط من البائع, باستحقاق أو حرية أو رد بعيب قديم فله الرجوع إلى الضامن وهذا ضمان العهدة, وإن أراد أخذ أرش العيب رجع على الضامن أيضا لأنه إذا لزمه كل الثمن لزمه بعضه إذا استحق ذلك على المضمون عنه, وسواء ظهر كل المبيع مستحقا أو بعضه لأنه إذا ظهر بعضه مستحقا بطل العقد في الجميع في إحدى الروايتين, فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الاستحقاق وعلى الرواية الأخرى: لا يبطل العقد في الجميع ولكن استحق ردها, فإن ردها كلها فالحكم كذلك وإن أمسك المملوك منها فله المطالبة بالأرش, كما لو وجد بها عيبا ولو باعه عينا أو أقرضه شيئا بشرط أن يرهن عنده عينها فتكفل رجل بتسليم الرهن لم تصح الكفالة لأنه لا يلزم الراهن إقباضه وتسليمه, فلا يلزم الكفيل ما لا يلزم الأصل وإن ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس صح, سواء ضمنه البائع أو أجنبى فإذا بنى أو غرس واستحق المبيع رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يصح لأنه ضمان مجهول, وضمان ما لم يجب وقد بينا جواز ذلك. فصل:
في من يصح ضمانه ومن لا يصح يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله, سواء كان رجلا أو امرأة لأنه عقد يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع ولا يصح من المجنون والمبرسم, ولا من صبي غير مميز بغير خلاف لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منهم, كالنذر ولا يصح من السفيه المحجور عليه ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال القاضي: يصح ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأن من أصلنا أن إقراره صحيح يتبع به من بعد فك الحجر عنه, صح فكذلك ضمانه والأول أولى لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منه, كالبيع والشراء ولا يشبه الإقرار لأنه إخبار بحق سابق وأما الصبي المميز فلا يصح ضمانه, في الصحيح من الوجهين وهو قول الشافعي وخرجه أصحابنا على الروايتين في صحة إقراره وتصرفاته بإذن وليه ولا يصح هذا الجمع لأن هذا التزام مال لا فائدة له فيه فلم يصح منه, كالتبرع والنذر بخلاف البيع وإن اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه فقال الصبي: قبل بلوغي وقال المضمون له: بعد البلوغ فقال القاضي: قياس قول أحمد أن القول قول المضمون له لأن معه سلامة العقد, فكان القول قوله كما لو اختلفا في شرط فاسد ويحتمل أن القول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وعدم وجوب الحق عليه وهذا قول الشافعي ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد لأن المختلفين ثم متفقان على أهلية التصرف, والظاهر أنهما لا يتصرفان إلا تصرفا صحيحًا فكان قول مدعي الصحة هو الظاهر وهاهنا اختلفا في أهلية التصرف, وليس مع من يدعي الأهلية ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه فلا ترجح دعواه والحكم في من عرف له حال جنون, كالحكم في الصبي وإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل عدمه, فأما المحجور عليه لفلس فيصح ضمانه ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أهل التصرف, والحجر عليه في ماله لا في ذمته فأشبه الراهن, فصح تصرفه فيما عدا الرهن فهو كما لو اقترض أو أقر أو اشترى في ذمته ولا يصح ضمان العبد بغير إذن سيده سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له وبهذا قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة ويحتمل أن يصح, ويتبع به بعد العتق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه من أهل التصرف فصح تصرفه بما لا ضرر على السيد فيه كالإقرار بالإتلاف ووجه الأول, أنه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح بغير إذن كالنكاح وقال أبو ثور: إن كان من جهة التجارة جاز, وإن كان من غير ذلك لم يجز فإن ضمن بإذن سيده صح لأن سيده لو أذن له في التصرف صح قال القاضي: وقياس المذهب تعلق المال برقبته وقال ابن عقيل: ظاهر المذهب وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد وقال أبو الخطاب: هل يتعلق برقبته أو بذمة سيده؟ على روايتين كاستدانته بإذن سيده وقد سبق الكلام فيها فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من المال الذي في يده, صح ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي في يد العبد كتعلق حق الجناية برقبة الجاني, كما لو قال الحر: ضمنت لك الدين على أن تأخذ من مالي هذا صح وأما المكاتب فلا يصح ضمانه بغير إذن سيده كالعبد القن لأنه تبرع بالتزام مال, فأشبه نذر الصدقة بغير مال ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد عتقه كقولنا في العبد وإن ضمن بإذنه, ففيه وجهان أحدهما لا يصح أيضا لأنه ربما أدى إلى تفويت الحرية والثاني يصح لأن الحق لهما, لا يخرج عنهما فأما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو غير مرض الموت, فحكمه حكم الصحيح وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه يحسب من ثلثه لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه, ولم يأخذ عنه عوضا فأشبه الهبة وإذا فهمت إشارة الأخرس صح ضمانه لأنه يصح بيعه وإقراره وتبرعه, فصح ضمانه كالناطق ولا يثبت الضمان بكتابة منفردة عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان لأنه قد يكتب عبثا أو تجربة, فلم يثبت الضمان به مع الاحتمال ومن لا تفهم إشارته لا يصح منه الضمان لأنه لا يدري بضمانه ولأنه لا يصح سائر تصرفاته فكذلك ضمانه. فصل: إذا ضمن الدين الحال مؤجلا, صح ويكون حالا على المضمون عنه مؤجلا على الضامن يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن وبهذا قال الشافعي قال أحمد, في رجل ضمن ما على فلان أن يؤديه في ثلاث سنين: فهو عليه ويؤديه كما ضمن ووجه ذلك: ما روى ابن عباس (, أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله ـ ﷺ ـ فقال: ما عندي شيء أعطيكه فقال: والله لا أفارقنك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل, فجره إلى النبي ـ ﷺ ـ فقال له النبي ـ ﷺ ـ: كم تستنظره؟ قال: شهرا قال رسول الله ـ ﷺ ـ: فأنا أحمل فجاء به في الوقت الذي قال النبي ـ ﷺ ـ فقال له النبي ـ ﷺ ـ: من أين أصبت هذا؟ قال: من معدن قال: لا خير فيها وقضاها عنه) رواه ابن ماجه في " سننه " ولأنه ضمن مالا بعقد مؤجل فكان مؤجلا كالبيع فإن قيل: فعندكم الدين الحال لا يتأجل, فكيف يتأجل على الضامن؟ أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوصف الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه؟ قلنا: الحق يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان بعقد وهذا ابتداء ثبوته في حق الضامن, فإنه لم يكن ثابتا عليه حالا ويجوز أن يخالف ما في ذمة الضامن ما في ذمة المضمون عنه بدليل ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل إذا ثبت هذا, وكان الدين مؤجلا إلى شهر فضمنه إلى شهرين لم يكن له مطالبة الضامن إلى شهرين, فإن قضاه قبل الأجل فله الرجوع به في الحال على الرواية التي تقول: إنه إذا قضى دينه بغير إذن رجع به لأن أكثر ما فيه ها هنا, أنه قضى بغير إذن وعلى الرواية الأخرى لا يرجع به قبل الأجل لأنه لم يأذن له في القضاء قبل ذلك وإن كان الدين مؤجلا فضمنه حالا لم يصر حالا, ولا يلزمه أداؤه قبل أجله لأن الضامن فرع للمضمون عنه فلا يلزمه ما لا يلزم المضمون عنه ولأن المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل هذا الدين, لم يلزمه تعجيله فبأن لا يلزم الضامن أولى ولأن الضمان التزام دين في الذمة, فلا يجوز أن يلتزم ما لا يلزم المضمون عنه فعلى هذا إن قضاه حالا لم يرجع به قبل أجله لأن ضمانه لم يغيره عن تأجيله والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها, أن الدين الحال ثابت في الذمة مستحق القضاء في جميع الزمان فإذا ضمنه مؤجلا فقد التزم بعض ما يجب على المضمون عنه, فصح كما لو كان الدين عشرة فضمن خمسة, وأما الدين المؤجل فلا يستحق قضاؤه إلا عند أجله فإذا ضمنه حالا التزم ما لم يجب على المضمون, فأشبه ما لو كان الدين عشرة فضمن عشرين وقيل: يحتمل أن يصح ضمان الدين المؤجل حالا كما يصح ضمان الحال مؤجلا قياسا لإحداهما على الأخرى وقد فرقنا بينهما بما يمنع القياس ـ إن شاء الله تعالى ـ. فصل:
وإذا ضمن دينا مؤجلا عن إنسان فمات أحداهما إما الضامن وإما المضمون عنه, فهل يحل الدين على الميت منهما؟ على روايتين تقدم ذكرهما فإن قلنا: يحل على الميت لم يحل على الآخر لأن الدين لا يحل على شخص بموت غيره, فإن كان الميت المضمون عنه لم يستحق مطالبة الضامن قبل الأجل فإن قضاه قبل الأجل, كان متبرعا بتعجيل القضاء وهل له مطالبة المضمون عنه قبل الأجل؟ يخرج على الروايتين فيمن قضى بغير إذن من هو عليه وإن كان الميت الضامن فاستوفى الغريم الدين من تركته, لم يكن لورثته مطالبة المضمون عنه حتى يحل الحق لأنه مؤجل عليه فلا يستحق مطالبته به قبل أجله وهذا مذهب الشافعي وحكى عن زفر أن لهم مطالبته لأنه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته ولنا أنه دين مؤجل, فلا تجوز مطالبته به قبل الأجل كما لو لم يمت وقوله: أدخله فيه قلنا: إنما أدخله في المؤجل وحلوله بسبب من جهته, فهو كما لو قضى قبل الأجل. مسألة:
قال: [ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن] يعني أن المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان كما يبرأ المحيل بنفس الحوالة قبل القبض بل يثبت الحق في ذمة الضامن, مع بقائه في ذمة المضمون عنه ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة وبعد الموت وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وقال أبو ثور: الكفالة والحوالة سواء, وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود واحتجوا بما روى أبو سعيد الخدري قال: (كنا مع النبي ـ ﷺ ـ في جنازة فلما وضعت, قال: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان فقال: صلوا على صاحبكم فقال على: هما على يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله ـ ﷺ ـ فصلى عليه, ثم أقبل على على: فقال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك فقيل: يا رسول الله هذا لعلى خاصة, أم للناس عامة؟ فقال: للناس عامة). رواه الدارقطني فدل على أن المضمون عنه برئ بالضمان وروى الإمام أحمد في "المسند" عن جابر قال: (توفي صاحب لنا, فأتينا النبي ـ ﷺ ـ ليصلي عليه فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران فانصرف, فتحملهما أبو قتادة فقال: الديناران على فقال رسول الله ـ ﷺ ـ: وجب حق الغريم وبرئ الميت منهما؟ قال: نعم فصلى عليه ثم قال بعد ذلك: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس قال: فعاد إليه من الغد, فقال: قد قضيتهما فقال رسول الله ـ ﷺ ـ: الآن بردت جلدته) وهذا صريح في براءة المضمون عنه لقوله: " وبرئ الميت منهما " ولأنه دين واحد فإذا صار في ذمة ثانية برئت الأولى منه كالمحال به وذلك لأن الدين الواحد لا يحل في محلين ولنا, قول النبي ـ ﷺ ـ: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وقوله في خبر أبي قتادة: " الآن بردت جلده " حين أخبره أنه قضى دينه ولأنها وثيقة فلا تنقل الحق, كالشهادة وأما صلاة النبي ـ ﷺ ـ على المضمون عنه فلأنه بالضمان صار له وفاء وإنما كان النبي ـ ﷺ ـ يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف وفاء وأما قوله لعلي: (فك الله رهانك, كما فككت رهان أخيك) فإنه كان بحال لا يصلى عليه النبي ـ ﷺ ـ فلما ضمنه فكه من ذلك أو مما في معناه وقوله: " برئ الميت منهما " أي صرت أنت المطالب بهما وهذا على سبيل التأكيد لثبوت الحق في ذمته ووجوب الأداء عليه, بدليل قوله في سياق الحديث حين أخبره بالقضاء: " الآن بردت عليه جلده " ويفارق الضمان الحوالة فإن الضمان مشتق من الضم فيقتضي الضم بين الذمتين في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما والحوالة من التحول, فتقتضي تحول الحق من محله إلى ذمة المحال عليه وقولهم: إن الدين الواحد لا يحل في محلين قلنا: يجوز تعلقه بمحلين على سبيل الاستيثاق كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن وقال أبو بكر عبد العزيز: أما الحي فلا يبرأ بمجرد الضمان رواية واحدة, وأما الميت ففي براءته بمجرد الضمان روايتان إحداهما يبرأ بمجرد الضمان نص عليه أحمد, في رواية يوسف بن موسى لما ذكرنا من الخبرين ولأن فائدة الضمان في حقه تبرئة ذمته فينبغي أن تحصل هذه الفائدة بمجرد الضمان بخلاف الحي, فإن المقصود من الضمان في حقه الاستيثاق وثبوته في الذمتين آكد في الاستيثاق والثانية لا يبرأ إلا بالأداء لما ذكرناه, ولأنه ضمان فلا يبرأ به المضمون عنه كالحي. فصل:
ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه لأنه وثيقة, فلا يستوفي الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصل كالرهن ولنا أن الحق ثابت في ذمة الضامن, فملك مطالبته كالأصيل ولأن الحق ثابت في ذمتهما, فملك مطالبة من شاء منهما كالضامنين إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه ولا يشبه الرهن لأنه مال من عليه الحق وليس بذي ذمة يطالب, إنما يطالب من عليه الدين ليقضي منه أو من غيره. فصل:
وإن أبرأ صاحب الدين المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا نعلم فيه خلافا لأنه تبع, ولأنه وثيقة فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن وإن أبرأ الضامن لم تبرأ ذمة المضمون عنه لأنه أصل, فلا يبرأ بإبراء التبع ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصيل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفائه وأيهما قضى الحق برئا جميعا من المضمون له لأنه حق واحد, فإذا استوفى مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى الحق الذي به رهن وإن أحال الغريم برئا جميعا, لأنه حق واحد فإذا استوفى مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى دين الرهن وإن أحال أحدهما الغريم برئا جميعا لأن الحوالة كالقضاء. فصل:
وإن ضمن المضمون عنه الضامن أو تكفل المكفول عنه الكفيل, لم يصح لأن الضمان يقتضي إلزامه الحق في ذمته والحق لازم له فلا يتصور إلزامه ثانيا, ولأنه أصل في هذا الدين فلا يجوز أن يصير فرعا فيه وإن ضمن عنه دينا آخر أو كفل به في حق آخر, جاز لعدم ما ذكرناه فيه " مسألة:
قال: [فمتى أدى رجع عليه سواء قال له: اضمن عني أو لم يقل] يعني إذا أدى الدين محتسبا بالرجوع على المضمون عنه, فأما إن قضى الدين متبرعا به غير ناو للرجوع به فلا يرجع بشيء لأنه يتطوع بذلك, أشبه الصدقة وسواء ضمن بأمره أو بغير أمره فأما إذا أداه بنية الرجوع به لم يخل من أربعة أحوال: أحدها, أن يضمن بأمر المضمون عنه ويؤدي بأمره فإنه يرجع عليه, سواء قال له: اضمن عني أو: أد عني أو أطلق وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وقال أبو حنيفة ومحمد: إن قال: اضمن عني وانقد عني رجع عليه وإن قال: انقد هذا لم يرجع, إلا أن يكون مخالطا له يستقرض منه ويودع عنده لأن قوله: اضمن عني, وانقد عني إقرار منه بالحق وإذا أطلق ذلك صار كأنه قال: هب لهذا أو تطوع عليه وإذا كان مخالطا له رجع استحسانا لأنه قد يأمر مخالطه بالنقد عنه ولنا, أنه ضمن ودفع بأمره فأشبه إذا كان مخالطا له أو قال: اضمن عني وما ذكراه ليس بصحيح لأنه إذا أمره بالضمان لا يكون إلا لما هو عليه, وأمره بالنقد بعد ذلك ينصرف إلى ما ضمنه بدليل المخالط له فيجب عليه أداء ما أدى عنه, كما لو صرح به الحال الثاني ضمن بأمره وقضى بغير أمره, فله الرجوع أيضا وبه قال مالك والشافعي في أحد الوجوه عنه والوجه الثاني: لا يرجع به لأنه دفع بغير أمره أشبه ما لو تبرع به الثالث أنه إن تعذر الرجوع على المضمون عنه, فدفع ما عليه رجع وإلا فلا لأنه تبرع بالدفع ولنا, أنه إذا أذن في الضمان تضمن ذلك إذنه في الأداء لأن الضمان يوجب عليه الأداء فيرجع عليه, كما لو أذن في الأداء صريحا الحال الثالث ضمن بغير أمره وقضى بأمره, فله الرجوع أيضا وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرجع لأن أمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه ولنا: أنه أدى دينه بأمره فرجع عليه كما لو لم يكن ضامنا, أو كما لو ضمن بأمره وقولهم: إن إذنه في القضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه قلنا: الواجب بضمانه إنما هو أداء دينه وليس هو شيئا آخر فمتى أداه عنه بإذنه لزمه إعطاؤه بدله الحال الرابع, ضمن بغير أمره وقضى بغير أمره ففيه روايتان إحداهما, يرجع بما أدى وهو قول مالك وعبد الله بن الحسن وإسحاق والثانية لا يرجع بشيء وهو قول أبي حنيفة والشافعي, وابن المنذر بدليل حديث على وأبي قتادة فإنهما لو كانا يستحقان الرجوع على الميت, صار الدين لهما فكانت ذمة الميت مشغولة بدينهما كاشتغالها بدين المضمون عنه, ولم يصل عليه النبي ـ ﷺ ـ ولأنه تبرع بذلك أشبه ما لو علف دوابه وأطعم عبيده بغير أمره ووجه الأولى أنه قضاء مبرئ من دين واجب, فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه فأما على وأبو قتادة فإنهما تبرعا بالقضاء والضمان, فإنهما قضيا دينه قصدا لتبرئة ذمته ليصلي عليه رسول الله ـ ﷺ ـ مع علمهما بأنه لم يترك وفاء والمتبرع لا يرجع بشيء, وإنما الخلاف في المحتسب بالرجوع. فصل:
ويرجع الضامن على المضمون عنه بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن كان الأقل الدين فالزائد لم يكن واجبا فهو متبرع بأدائه, وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم ولهذا لو أبرأه غريمه لم يرجع بشيء وإن دفع عن الدين عرضا, رجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين لذلك وإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع به قبل أجله لأنه لا يجب له أكثر مما كان للغريم فإن أحاله, كانت الحوالة بمنزلة تقبيضه ويرجع بالأقل مما أحال به أو قدر الدين سواء قبض الغريم من المحال عليه أو أبرأه, أو تعذر عليه الاستيفاء لفلس أو مطل لأن نفس الحوالة كالإقباض. فصل: ولو كان على رجلين مائة على كل منهما نصفها, وكل واحد ضامن عن صاحبه ما عليه فضمن آخر عن أحدهما المائة بأمره وقضاها سقط الحق عن الجميع, وله الرجوع بها على الذي ضمن عنه ولم يكن له أن يرجع على الآخر بشيء في إحدى الروايتين لأنه لم يضمن عنه, ولا أذن له في القضاء فإذا رجع على الذي ضمن عنه رجع على الآخر بنصفها, إن كان ضمن عنه بإذنه لأنه ضمنها عنه بإذنه وقضاها ضامنه والرواية الثانية له الرجوع على الآخر بالمائة لأنها وجبت له على من أداها عنه, فملك الرجوع بها عليه كالأصل " فصل:
إذا ضمن عن رجل بإذنه فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لزمه الأداء عنه بأمره, فكانت له المطالبة بتبرئة ذمته وإن لم يطالب الضامن لم يملك مطالبة المضمون عنه لأنه لما لم يكن له الرجوع بالدين قبل غرامته لم يكن له المطالبة به قبل طلبه منه وفيه وجه آخر, أن له المطالبة لأنه شغل ذمته بإذنه فكانت له المطالبة بتفريغها كما لو استعار عبدا فرهنه, كان للسيد مطالبته بفكاكه وتفريغه من الرهن والأول أولى ويفارق الضمان العارية لأن السيد يتضرر بتعويق منافع عبده المستعار فملك المطالبة بما يزيل الضرر عنه والضامن لا يبطل بالضمان شيء من منافعه فأما إن ضمن عنه بغير أمره, لم يملك مطالبة المضمون عنه قبل الأداء بحال لأنه لا حق له يطالب به ولا شغل ذمته بأمره فأشبه الأجنبي وقيل: إن هذا ينبني على الروايتين في رجوعه على المضمون عنه بما أدى عنه, فإن قلنا: لا يرجع فلا مطالبة له بحال وإن قلنا: يرجع فحكمه حكم من ضمن عنه بأمره على ما مضى تفصيله. فصل:
فإن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى أحدهم الدين, برئوا جميعا فإن قضاه المضمون عنه لم يرجع على أحد وإن قضاه الضامن الأول رجع على المضمون عنه دون الضامن عنه وإن قضاه الثاني رجع على الأول, ثم رجع الأول على المضمون عنه إذا كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه فإن لم يكن أذن له, ففي الرجوع روايتان وإن أذن الأول للثاني ولم يأذن المضمون عنه أو أذن المضمون عنه لضامنه, ولم يأذن الضامن لضامنه رجع المأذون له على من أذن له ولم يرجع الآخر على إحدى الروايتين, فإن أذن المضمون عنه للضامن الثاني في الضمان ولم يأذن له الضامن الأول رجع على المضمون عنه, ولم يرجع على الضامن لأنه إنما يرجع على من أذن له دون غيره. فصل:
إذا كان له ألف على رجلين على كل واحد منهما نصفه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه, فأبرأ الغريم أحدهما من الألف برئ منه وبرئ صاحبه من ضمانه, وبقي عليه خمسمائة وإن قضاه أحدهما خمسمائة أو أبرأه الغريم منها وعين القضاء بلفظه أو ببينة عن الأصل والضمان, انصرف إليه وإن أطلق احتمل أن له صرفها إلى ما شاء منهما كمن أخرج زكاة نصاب وله نصابان غائب وحاضر, كان له صرفها إلى ما شاء منهما واحتمل أن يكون نصفها عن الأصل ونصفها عن الضمان لأن إطلاق القضاء والإبراء ينصرف إلى جملة ما في ذمته, فيكون بينهما والمعتبر في القضاء لفظ القاضي ونيته وفي الإبراء لفظ المبرئ ونيته, ومتى اختلفوا في ذلك فالقول قول من المعتبر لفظه ونيته. فصل:
ولو ادعى ألفا على حاضر وغائب وأن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه, فاعترف الحاضر بذلك فله أخذ الألف منه فإذا قدم الغائب فاعترف, رجع عليه صاحبه بنصفه وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه, وإن أنكر الحاضر فالقول قوله مع يمينه فإن قامت عليه بينة فاستوفى الألف منه, لم يرجع على الغائب بشيء لأنه بإنكاره معترف أنه لا حق له عليه وإنما المدعي ظلمه وإن اعترف الغائب وعاد الحاضر عن إنكاره فله أن يستوفي منه لأنه يدعي عليه حقا يعترف له به, فكان له أخذه منه وإن لم يقم على الحاضر بينة حلف وبرئ فإذا قدم الغائب فأنكر أيضا وحلف, برئ وإن اعترف لزمه دفع الألف وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يلزمه إلا خمس المائة الأصلية دون المضمونة لأنها سقطت عن المضمون عنه بيمينه, فتسقط عن ضامنه ولنا أنه يعترف بها وغريمه يدعيها واليمين إنما أسقطت المطالبة عنه في الظاهر, ولم تسقط عنه الحق الذي في ذمته ولهذا لو قامت عليه بينة بعد يمينه لزمه, ولزم الضامن. فصل:
ولا يدخل الضمان والكفالة خيار لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ والضمين والكفيل على بصيرة أنه لا حظ لهما ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول, فلم يدخله خيار كالنذر وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم عن أحد خلافهم فإن شرط الخيار فيهما فقال القاضي: عندي أن الكفالة تبطل, وهو مذهب الشافعي لأنه شرط ما ينافي مقتضاها ففسدت كما لو شرط أن لا يؤدى ما على المكفول به, وذلك لأن مقتضى الضمان والكفالة لزوم ما ضمنه أو كفل به والخيار ينافي ذلك ويحتمل أن يبطل الشرط وتصح الكفالة كما قلنا في الشروط الفاسدة في البيع ولو أقر بأنه كفل بشرط الخيار, لزمته الكفالة وبطل الشرط لأنه وصل بإقراره ما يبطله فأشبه استثناء الكل. فصل:
وإذا ضمن رجلان عن رجل ألفا, ضمان اشتراط فقالا: ضمنا لك الألف الذي على زيد فكل واحد منهما ضامن لنصفه وإن كانوا ثلاثة فكل واحد منهم ضامن ثلثه فإن قال واحد منهم: أنا وهذان ضامنون لك الألف فسكت الآخران فعليه ثلث الألف, ولا شيء عليهما وإن قال كل واحد منهم: كل واحد منا ضامن لك الألف فهذا ضمان اشتراك وانفراد وله مطالبة كل واحد منهم بالألف كله إن شاء وإن أدى أحدهم الألف كله أو حصته لم يرجع إلا على المضمون عنه لأن كل واحد منهم ضامن أصلي, وليس بضامن عن الضامن الآخر. مسألة:
قال [ومن كفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها] وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم هذا مذهب شريح ومالك والثوري والليث وأبي حنيفة وقال الشافعي في بعض أقواله: الكفالة بالبدن ضعيفة واختلف أصحابه فمنهم من قال: هي صحيحة قولا واحدا وإنما أراد أنها ضعيفة في القياس, وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر ومنهم من قال: فيها قولان أحدهما أنها غير صحيحة لأنها كفالة بعين فلم تصح, كالكفالة بالوجه وبدن الشاهدين ولنا قول الله تعالى: {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]. ولأن ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال إذا ثبت هذا, فإنه متى تعذر على الكفيل إحضار المكفول به مع حياته أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه وقال أكثرهم: لا يغرم ولنا عموم قوله عليه السلام: (الزعيم غارم) ولأنها أحد نوعى الكفالة, فوجب بها الغرم كالكفالة بالمال. فصل:
وتصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم بدين لازم سواء كان الدين معلوما أو مجهولا وقال بعض أصحاب الشافعية: لا تصح بمن عليه دين مجهول لأنه قد يتعذر إحضار المكفول به, فيلزمه الدين ولا يمكن طلبه منه لجهله ولنا أن الكفالة بالبدن لا بالدين, والبدن معلوم فلا تبطل الكفالة لاحتمال عارض ولأنا قد تبينا أن ضمان المجهول يصح, وهو التزام المال ابتداء فالكفالة التي لا تتعلق بالمال ابتداء أولى وتصح الكفالة بالصبي والمجنون لأنهما قد يجب إحضارهما مجلس الحكم للشهادة عليهما بالإتلاف وإذن وليهما يقوم مقام إذنهما وتصح الكفالة ببدن المحبوس والغائب وقال أبو حنيفة: لا تصح ولنا, أن كل وثيقة صحت مع الحضور صحت مع الغيبة والحبس كالرهن والضمان ولأن الحبس لا يمنع من التسليم, لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم أو أمر من حبسه ثم يعيده إلى الحبس بالحقين جميعا, والغائب يمضي إليه فيحضره إن كانت الغيبة غير منقطعة وهو أن يعلم خبره وإن لم يعلم خبره, لزمه ما عليه: قاله القاضي وقال في موضع آخر: لا يلزمه ما عليه حتى تمضي مدة يمكنه الرد فيها فلا يفعل. فصل:
ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد سواء كان حقا لله تعالى, كحد الزنى والسرقة أو لآدمي كحد القذف والقصاص وهذا قول أكثر أهل العلم منهم شريح والحسن وبه قال إسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي في حدود الله تعالى, واختلف قوله في حدود الآدمي فقال في موضع: لا كفالة في حدود الآدمي ولا لعان وقال في موضع: تجوز الكفالة بمن عليه حق أو حد لأنه حق لآدمي فصحت الكفالة به, كسائر حقوق الآدميين ولنا ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال (لا كفالة في حد) ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه كحدود الله تعالى, ولأن الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق, ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به فلم تصح الكفالة بمن هو عليه, كحد الزنى. فصل:
ولا تجوز الكفالة بالمكاتب من أجل دين الكتابة لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة. فصل:
وتصح الكفالة حالة ومؤجلة كما يصح الضمان حالا ومؤجلا, وإذا أطلق كانت حالة لأن كل عقد يدخله الحلول اقتضى إطلاقه الحلول كالثمن والضمان فإذا تكفل حالا كان له مطالبته بإحضاره, فإن أحضره وهناك يد حائلة ظالمة لم يبرأ منه ولم يلزم المكفول له تسلمه لأنه لا يحصل له غرضه وإن لم يكن يد حائلة لزمه قبوله, فإن قبله برئ من الكفالة وقال ابن أبي موسى: لا يبرأ حتى يقول: قد برئت إليك منه أو قد سلمته إليك أو قد أخرجت نفسي من كفالته والصحيح الأول لأنه عقد على عمل فبرئ منه بالعمل المعقود عليه كالإجارة, فإن امتنع من تسلمه برئ لأنه أحضر ما يجب تسليمه عند غريمه وطلب منه تسلمه على وجه لا ضرر في قبضه فبرئ منه كالمسلم فيه وقال بعض أصحابنا: إذا امتنع من تسلمه, أشهد على امتناعه رجلين وبرئ لأنه فعل ما وقع العقد على فعله فبرئ منه وقال القاضي: يرفعه إلى الحاكم فيسلمه إليه فإن لم يجد حاكما أشهد شاهدين على إحضاره وامتناع المكفول له من قبوله والأول أصح فإن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى نائبه, كحاكم أو غيره وإن كانت الكفالة مؤجلة لم يلزم إحضاره قبل الأجل كالدين المؤجل, فإذا حل الأجل فأحضره وسلمه برئ وإن كان غائبا أو مرتدا لحق بدار الحرب لم يؤخذ بالحق حتى يمضي زمن يمكن المضي إليه وإعادته وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال لأن الحق قد توجه عليه ولنا أن الحق يعتبر في وجوب أدائه إمكان التسليم وإن كان حالا كالدين, فإذا مضت مدة يمكن إحضاره فيها ولم يحضره أو كانت الغيبة منقطعة لا يعلم خبره أو امتنع من إحضاره مع إمكانه, أخذ بما عليه وقال أصحاب الشافعي: إن كانت الغيبة منقطعة لا يعلم مكانه لم يطالب الكفيل بإحضاره ولم يلزمه شيء, وإن امتنع من إحضاره مع إمكانه حبس وقد دللنا على وجوب الغرم فيما مضى وإن أحضر المكفول به قبل الأجل ولا ضرر في تسليمه لزمه وإن كان فيه ضرر, مثل أن تكون حجة الغريم غائبة أو لم يكن يوم مجلس الحاكم أو الدين مؤجل عليه لا يمكن اقتضاؤه منه, أو قد وعده بالإنظار في تلك المدة لم يلزمه قبوله كما نقول في من دفع الدين المؤجل قبل حلوله. فصل:
وإذا عين في الكفالة تسليمه في مكان, فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال القاضي: إن أحضره بمكان آخر من البلد وسلمه برئ من الكفالة وقال بعض أصحابنا: متى أحضره في أي مكان كان, وفي ذلك الموضع سلطان برئ من الكفالة لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحاكم ويمكن إثبات الحجة فيه وقيل: إن كان عليه ضرر في إحضاره بمكان آخر, لم يبرأ الكفيل بإحضاره فيه وإلا برئ كقولنا فيما إذا أحضره قبل الأجل ولأصحاب الشافعي اختلاف على نحو ما ذكرنا ولنا, أنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غيره فلم يبرأ كما لو أحضر المسلم فيه في غير هذا الموضع الذي شرطه, ولأنه قد سلم في موضع لا يقدر على إثبات الحجة فيه لغيبة شهوده أو غير ذلك, وقد يهرب منه ولا يقدر على إمساكه يفارق ما إذا أحضره قبل الأجل, فإنه عجل الحق قبل أجله فزاده خيرا فإذا لم يكن فيه ضرر وجب قبوله وإن وقعت الكفالة مطلقة, وجب تسليمه في مكان العقد كالسلم فإن سلمه في غيره فهو كتسليمه في غير المكان الذي عينه وإن كان المكفول به محبوسا عند غير الحاكم, لم يلزمه تسليمه محبوسا لأن ذلك الحبس يمنعه استيفاء حقه وإن كان محبوسا عند الحاكم فسلمه إليه محبوسا لزمه تسليمه لأن حبس الحاكم لا يمنعه استيفاء حقه وإذا طالب الحاكم بإحضاره أحضره مجلسه, وحكم بينهما ثم يرده إلى الحبس فإن توجه عليه حق للمكفول له حبسه بالحق الأول أو حق المكفول له. فصل: وإن كفل إلى أجل مجهول, لم تصح الكفالة وبهذا قال الشافعي لأنه ليس له وقت يستحق مطالبته فيه وهكذا الضمان وإن جعله إلى الحصاد والجزاز والعطاء خرج على الوجهين, كالأجل في البيع والأولى صحتها هنا لأنه تبرع من غير عوض جعل له أجلا لا يمنع من حصول المقصود منه, فصح كالنذر وهكذا كل مجهول لا يمنع مقصود الكفالة وقد روي مهنا عن أحمد في رجل كفل رجلا آخر, فقال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فما عليه على فقال: لا أدري ولكن إن قال: ساعة كذا لزمه فنص على تعيين الساعة وتوقف عن تعيين الوقت, ولعله أراد وقتا متسعا أو وقت شيء يحدث مثل وقت الحصاد ونحوه فأما إن قال: وقت طلوع الشمس, ونحو ذلك صح وإن قال: إلى الغد أو شهر كذا تعلق بأوله على ما ذكرنا في السلم. فصل:
وإذا تكفل برجل إلى أجل, إن جاء به فيه وإلا لزمه ما عليه صح وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف: وقال محمد بن الحسن والشافعي: لا تصح الكفالة, ولا يلزمه ما عليه لأن هذا تعليق الضمان بخطر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد ولنا أن هذا موجب الكفالة ومقتضاها, فصح اشتراطه كما لو قال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فلك حبسي ومبنى الخلاف ها هنا على الخلاف في أن هذا مقتضي الكفالة, وقد دللنا عليه وأما إن قال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان أو فأنا ضامن لك مالك على فلان أو قال: إذا جاء زيد فأنا ضامن لك ما عليه أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل بفلان أو قال: أنا كفيل بفلان شهرا فقال القاضي: لا تصح الكفالة وهو مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن لأن ذلك خطر فلم يجز تعليق الضمان والكفالة به, كمجيء المطر وهبوب الريح ولأنه إثبات حق لآدمي معين فلم يجز تعليقه على شرط, ولا توقيته كالهبة وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب: تصح, وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه أضاف الضمان إلى سبب الوجود فيجب أن يصح كضمان الدرك والأول أقيس فإن قال: كفلت بفلان إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل بفلان, أو ضامن المال الذي على فلان لم يصح فيهما عند القاضي لأن الأول مؤقت والثاني معلق على شرط وقال أبو الخطاب: يصح فيهما فأما إن قال: كفلت بأحد هذين الرجلين لم يصح في قولهم جميعا لأنه غير معلوم في الحال ولا في المآل. فصل:
فإن قال: كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل أو على أن تبرئه من الكفالة لم يصح لأنه شرط شرطا لا يلزم الوفاء به, فيكون فاسدا وتفسد الكفالة به ويحتمل أن تصح الكفالة لأنه شرط تحويل الوثيقة التي على الكفيل إليه فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلا أن يبرئ المكفول له الكفيل الأول لأنه إنما كفل بهذا الشرط فلا تثبت كفالته بدون شرطه وإن قال: كفلت لك بهذا الغريم, على أن تبرئني من الكفالة بفلان أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر أو على أن تبرئني من الكفالة بفلان خرج فيه الوجهان, والأولى أنه لا يصح لأنه شرط فسخ عقد في عقد فلم يصح كالبيع بشرط فسخ بيع آخر وكذلك لو شرط في الكفالة أو الضمان أن يتكفل المكفول له أو المكفول به بآخر, أو يضمن دينا عليه أو يبيعه شيئا عينه أو يؤجره داره, لم يصح لما ذكرنا. فصل:
ولو تكفل اثنان بواحد صح وأيهم قضى الدين برئ الآخران لما ذكرنا في الضمان وإن سلم المكفول به نفسه برئ كفيلاه لأنه أتى بما يلزم الكفيلين, وهو إحضار نفسه فبرئت ذمتهما كما لو قضى الدين وإن أحضر أحد الكفيلين, لم يبرأ الآخر لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء فلم تنحل الأخرى كما لو أبرأ أحدهما, أو انفك أحد الرهنين من قضاء الحق وفارق ما إذا سلم المكفول به نفسه لأنه أصل لهما فإذا برئ الأصل مما تكفل به عنه برئ فرعاه, وكل واحد من الكفيلين ليس بفرع للآخر فلم يبرأ ببراءته ولذلك لو أبرأ المكفول به برئ كفيلاه ولو أبرئ أحد الكفيلين برئ وحده دون صاحبه. فصل:
ولو تكفل واحد لاثنين, فأبرأه أحدهما أو أحضره عند أحدهما لم يبرأ من الآخر لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين, فقد التزم إحضاره عند كل واحد منهما فإذا أحضره عند واحد برئ منه, وبقي حق الآخر كما لو كان في عقدين وكما لو ضمن دينا لرجلين, فوفى أحدهما حقه " فصل:
وإذا قال رجل لآخر: اضمن عن فلان أو اكفل بفلان ففعل كان الضمان والكفالة لازمين للمباشر دون الآمر لأنه كفل باختيار نفسه, وإنما الأمر إرشاد وحث على فعل خير فلم يلزمه به بشيء. مسألة:
قال: [فإن مات برئ المتكفل] وجملته أنه إذا مات المكفول به, سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شيء وبهذا قال شريح والشعبي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة, والشافعي وقال الحكم ومالك والليث: يجب على الكفيل غرم ما عليه وحكى ذلك عن ابن شريح لأن الكفيل وثيقة بحق فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن ولأنه تعذر إحضاره, فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به, فبرئ الكفيل كما لو برئ من الدين ولأن ما التزمه من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع, كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبرئ منه وفارق ما إذا غاب, فإن الحضور لم يسقط عنه ويفارق الرهن فإنه علق به المال فاستوفى منه. فصل:
إذا قال الكفيل: قد برئ المكفول به من الدين, وسقطت الكفالة أو قال: لم يكن عليه دين حين كفلته فأنكر المكفول له فالقول قوله لأن الأصل صحة الكفالة وبقاء الدين وعليه اليمين, فإن نكل قضى عليه ويحتمل أن لا يستحلف فيما إذا ادعى الكفيل أنه تكفل بمن لا دين عليه لأن الكفيل مكذب لنفسه فيما ادعاه فإن من كفل بشخص معترف بدينه في الظاهر والأول أولى لأن ما ادعاه محتمل. فصل:
وإذا قال المكفول له للكفيل: أبرأتك من الكفالة برئ لأنه حقه, فيسقط بإسقاطه كالدين وإن قال: قد برئت إلى منه أو قد رددته إلى برئ أيضا لأنه معترف بوفاء الحق فهو كما لو اعترف بذلك في الضمان وكذلك إذا قال: برئت من الدين الذي كفلت به يبرأ الكفيل في هذه المواضع دون المكفول به ولا يكون إقرارا بقبض الحق وهذا قول محمد بن الحسن وقيل: يكون إقرارا بقبض الحق, فيما إذا قال: برئت من الدين الذي كفلت به والأول أصح لأنه يمكن براءته بدون قبض الحق بإبراء المستحق أو موت المكفول به فأما إن قال للمكفول به: أبرأتك عما لي قبلك من الحق أو برئت من الدين الذي قبلك فإنه يبرأ من الحق, وتزول الكفالة لأنه لفظ يقتضي العموم في كل ما قبله وإن قال: برئت من الدين الذي كفل به فلان برئ وبرئ كفيله. فصل:
فإذا قال: أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع على الآمر, ولم يكن له ذلك كفالة ولا ضمانا إلا أن يقول: أعطه عني وقال أبو حنيفة: يرجع عليه إذا كان خليطا له لأن العادة أن يستقرض من خليطه ولنا أنه لم يقل: أعطه عني فلم يلزمه الضمان, كما لو لم يكن خليطا ولا يلزم إذا كان له عليه مال فقال: أعطه فلانا حيث يلزمه لأنه لا يلزمه لأجل هذا القول بل لأن عليه حقا يلزمه أداؤه. فصل:
إذا كانت السفينة في البحر, وفيها متاع فخيف غرقها فألقي بعض من فيها متاعه في البحر لتخف, لم يرجع به على أحد سواء ألقاه محتسبا بالرجوع أو متبرعا لأنه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان فإن قال له بعضهم: ألق متاعك فألقاه فكذلك لأنه لا يكرهه على إلقائه ولا ضمن له وإن قال: ألقه, وعلى ضمانه فألقاه فعلى القائل ضمانه ذكره أبو بكر لأن ضمان ما لم يجب صحيح وإن قال: ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له ففعل فقال أبو بكر يضمنه القائل وحده, إلا أن يتطوع بقيتهم قال القاضي: إن كان ضمان اشتراك فليس عليه إلا ضمان حصته لأنه لم يضمن الجميع إنما يضمن حصته, وأخبر عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره فلزمته حصته ولم يقبل قوله في حق الباقين, وإن كان ضمان اشتراك وانفراد بأن يقول: كل واحد منا ضامن لك متاعك أو قيمته لزم القائل ضمان الجميع وسواء قال هذا والباقون يسمعون فسكتوا, أو قالوا: لا نفعل أو لم يسمعوا لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق. فصل:
قال مهنا: سألت أحمد عن رجل له على رجل ألف درهم فأقام بها كفيلين, كل واحد منهما كفيل ضامن فأيهما شاء أخذه بحقه فأحال رب المال عليه رجلا بحقه؟ فقال: يبرأ الكفيلان قلت: فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئا؟ قال: لا شيء له, ويذهب الألف.
===============