Translate

الجمعة، 11 مارس 2022

ج15.كتاب الحوالة والضمان من المغني لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

المغني - كتاب الحوالة والضمان لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

(الجزء الثالث عشر – كتاب الحوالة والضمان) • كتاب الحوالة والضمان o مسألة: من أحيل بحقه على من عليه o فصل: إن أحال من لا دين له عليه رجلاً على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة o فصل: من شرط الحوالة تساوي الدينين o فصل: الشرط الرابع أن يحيل برضائه o فصل: إن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسرًا رجع على المحيل o فصل: لو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان المحال عليه مفلسا أو ميتا o مسألة: من أحيل بحقه على مليء فواجب عليه أن يحتال o فصل: إذا أحال رجلاً على زيد بألف فأحاله زيد بها على عمر فالحوالة صحيحة o فصل: إذا اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن o فصل: إن اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن على آخر o فصل: إذا كان لرجل على آخر دين فأذن لآخر في قبضه o فصل: إذا قال: أحلتك بدينك فقال: بل وكلتني o فصل: إذا كان لرجل دين على آخر فطالبه به o فصل: إن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به o فصل: صحة ضمان المجهول o فصل: فيما يصح ضمانه o فصل: فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح o فصل: صحة ضمان الدين الحال مؤجلاً o فصل: إذا ضمن دينًا مؤجلاً عن إنسان فمات أحدهما o مسألة: لا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن o فصل: لصاحب الحق مطالبة الضامن أو المضمون عنه o فصل: إن أبرأ صاحب الدين المضمون عنه برئت ذمة الضامن o فصل: إن ضمن المضمون عنه الضامن أو تكفل المكفول عنه الكفيل o مسألة: إذا أدى الدين محتسبًا بالرجوع على المضمون عنه o فصل: يرجع الضامن على المضمون عنه بأقل الأمرين o فصل: لو كان على رجلين مائة على كل منهما نصفها o فصل: إذا ضمن عن رجل بإذنه فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه o فصل: إن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى أحدهم الدين o فصل: إذا كان له ألف على رجلين على كل واحد منهما نصفه o فصل: لو ادعى ألفًا على حاضر وغائب o فصل: لا يدخل الضمان والكفالة خيار o فصل: إذا ضمن رجلان عن رجل ألفًا o مسألة: من كفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها o فصل: تصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم o فصل: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد o فصل: لا تجوز الكفالة بالمكاتب o فصل: صحة الكفالة حالة ومؤجلة o فصل: إذا عين في الكفالة تسليمه في مكان فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة o فصل: لا تصح الكفالة إلى أجل مجهول o فصل: إذا تكفل برجل إلى أجل o فصل: إن قال: كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل o فصل: لو تكفل اثنان بواحد صح o فصل: لو تكفل واحد لاثنين فأبرأه أحدهما o فصل: إذا قال رجل لآخر: اضمن عن فلان أو اكفل بفلان o مسألة: إذا مات المكفول به سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شيء o فصل: إذا قال الكفيل: قد برئ المكفول به من الدين o فصل: إذا قال المكفول له للكفيل: أبرأتك من الكفالة o فصل: فإذا قال: أعط فلانا ألفًا ففعل لم يرجع على الآمر o فصل: إلقاء الأمتعة من السفينة التي يخشى عليها الغرق o فصل: رجل له على رجل ألف درهم

عرض الكتاب 
 
 كتاب الحوالة والضمان
 
= الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع 
 
== أما السنة فما روى أبو هريرة, أن النبي ـ ﷺ ـ قال: (مطل الغنى ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه وفي لفظ (من أحيل بحقه على مليء فليحتل) وأجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة واشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة, وقد قيل: إنها بيع فإن المحيل يشتري ما في ذمته بماله في ذمة المحال عليه وجاز تأخير القبض رخصة لأنه موضوع على الرفق, فيدخلها خيار المجلس لذلك والصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره لأنها لو كانت بيعا لما جازت لكونها بيع دين بدين ولما جاز التفرق قبل القبض لأنه بيع مال الربا بجنسه ولجازت بلفظ البيع, ولجازت بين جنسين كالبيع كله ولأن لفظها يشعر بالتحول لا بالبيع فعلى هذا لا يدخلها خيار, وتلزم بمجرد العقد وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله ولا بد فيها من محيل ومحتال ومحال عليه ويشترط في صحتها رضي المحيل بلا خلاف فإن الحق عليه, ولا يتعين عليه جهة قضائه وأما المحتال والمحال عليه فلا يعتبر رضاهما على ما سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ. مسألة:


قال: [ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق, فرضي فقد برئ المحيل أبدا] من شرط صحة الحوالة شروط أربعة: أحدها تماثل الحقين لأنها تحويل للحق ونقل له, فينقل على صفته ويعتبر تماثلهما في أمور ثلاثة: أحدها الجنس فيحيل من عليه ذهب بذهب, ومن عليه فضة بفضة ولو أحال من عليه ذهب بفضة أو من عليه فضة بذهب لم يصح الثاني, الصفة فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح الثالث, الحلول والتأجيل ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أجل أحدهما إلى شهر والآخر إلى شهرين, لم تصح الحوالة ولو كان الحقان حالين فشرط على المحتال أن يقبض حقه أو بعضه بعد شهر لم تصح الحوالة لأن الحال لا يتأجل ولأنه شرط ما لو كان ثابتا في نفس الأمر لم تصح الحوالة فكذلك إذا شرطه وإذا اجتمعت هذه الأمور, وصحت الحوالة وتراضيا بأن يدفع المحال عليه خيرا من حقه أو رضي المحتال بدون الصفة, أو رضي من عليه المؤجل بتعجيله أو رضي من له الحال بإنظاره جاز لأن ذلك يجوز في القرض, ففي الحوالة أولى وإن مات المحيل أو المحال فالأجل بحاله وإن مات المحال عليه, ففي حلول الحق روايتان مضى ذكرهما الشرط الثاني أن تكون على دين مستقر ولا يعتبر أن يحيل بدين [ غير ] مستقر, إلا أن السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه لأن دين السلم ليس بمستقر لكونه بعرض الفسخ لانقطاع المسلم فيه ولا تصح الحوالة به لأنها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه, والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه لقول النبي ـ ﷺ ـ: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) ولا تصح الحوالة على المكاتب بمال الكتابة لأنه غير مستقر فإن له أن يمتنع من أدائه, ويسقط بعجزه وتصح الحوالة عليه بدين غير دين الكتابة لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة, ويكون ذلك بمنزلة القبض وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح لأنه غير مستقر وإن أحالها الزوج به صح لأنه له تسليمه إليها, وحوالته به تقوم مقام تسليمه وإن أحالت به بعد الدخول صح لأنه مستقر وإن أحال البائع بالثمن على المشتري في مدة الخيار لم يصح, في قياس ما ذكرنا وإن أحاله المشتري به صح لأنه بمنزلة الوفاء وله الوفاء قبل الاستقرار وإن أحال البائع بالثمن على المشتري, ثم ظهر على عيب لم يتبين أن الحوالة كانت باطلة لأن الثمن كان ثابتا مستقرا والبيع كان لازما, وإنما ثبت الجواز عند العلم بالعيب بالنسبة إلى المشتري ويحتمل أن تبطل الحوالة لأن سبب الجواز عيب المبيع وقد كان موجودا وقت الحوالة وكل موضع أحال من عليه دين غير مستقر به ثم سقط الدين, كالزوجة ينفسخ نكاحها بسبب من جهتها أو المشتري يفسخ البيع ويرد المبيع فإن كان ذلك قبل القبض من المحال عليه, ففيه وجهان: أحدهما تبطل الحوالة لعدم الفائدة في بقائها ويرجع المحيل بدينه على المحال عليه والثاني, لا تبطل لأن الحق انتقل عن المحيل فلم يعد إليه وثبت للمحتال فلم يزل عنه, ولأن الحوالة بمنزلة القبض فكأن المحيل أقبض المحتال دينه فيرجع عليه به, ويأخذ المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر وإن كان بعد القبض لم يبطل وجها واحدا, ويرجع المحيل على المحتال به. فصل:


وإن أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة بل هي وكالة تثبت فيها أحكامها لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله ولا حق ها هنا ينتقل ويتحول, وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في المعنى وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه, وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة أيضا نص عليه أحمد فلا يلزمه المحال عليه الأداء ولا المحتال قبول ذلك لأن الحوالة معاوضة, ولا معاوضة ها هنا وإنما هو اقتراض فإن قبض المحتال منه الدين رجع على المحيل لأنه قرض وإن أبرأه ولم يقبض منه شيئا, لم تصح البراءة لأنها براءة لمن لا دين عليه وإن قبض منه الدين ثم وهبه إياه رجع المحال عليه على المحيل به لأنه قد غرم عنه, وإنما عاد إليه المال بعقد مستأنف ويحتمل أن لا يرجع عليه لكونه ما غرم عنه شيئا وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض وليست حوالة لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين, ولم يوجد واحد منهما. فصل:


الشرط الثالث أن تكون بمال معلوم لأنها إن كانت بيعا فلا تصح في مجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم, والجهالة تمنع منه فتصح بكل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب والأدهان ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في الذمة, ومن شرط الحوالة تساوي الدينين فأما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات كالمذروع والمعدود, ففي صحة الحوالة به وجهان: أحدهما: لا تصح لأن المثل فيه لا يتحرر ولهذا لا يضمنه بمثله في الإتلاف وهذا ظاهر مذهب الشافعي والثاني: تصح ذكره القاضي لأنه حق ثابت في الذمة, فأشبه ماله مثل ويحتمل أن يخرج هذان الوجهان على الخلاف فيما يقتضي به قرض هذه الأموال فإن كان عليه إبل من الدية وله على آخر مثلها في السن فقال القاضي: تصح لأنها تختص بأقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر الصفات وقال أبو الخطاب: لا تصح في أحد الوجهين لأنها مجهولة, ولأن الإبل ليست من المثليات التي تضمن بمثلها في الإتلاف ولا تثبت في الذمة سلما في رواية وإن كان عليه إبل من دية وله على آخر مثلها قرضا, فأحاله عليه فإن قلنا: يرد في القرض قيمتها لم تصح الحوالة لاختلاف الجنس وإن قلنا: يرد مثلها اقتضى قول القاضي صحة الحوالة لأنه أمكن استيفاء الحق على صفته من المحال عليه ولأن الخيرة في التسليم إلى من عليه الدين, وقد رضي بتسليم ما له في ذمة المقترض وإن كانت بالعكس فاحتال المقرض بإبل الدية لم تصح لأننا إن قلنا: تجب القيمة في القرض فقد اختلف الجنس وإن قلنا: يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته, والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك. فصل:


الشرط الرابع أن يحيل برضائه لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي على المحال عليه, ولا خلاف في هذا فإذا اجتمعت شروط الحوالة وصحت برئت ذمة المحيل في قول عامة الفقهاء إلا ما يروى عن الحسن, أنه كان لا يرى الحوالة براءة إلا أن يبرئه وعن زفر أنه قال: لا تنقل الحق وأجراها مجرى الضمان وليس بصحيح لأن الحوالة مشتقة من تحويل الحق بخلاف الضمان, فإنه مشتق من ضم ذمة إلى ذمة فعلق على كل واحد مقتضاه وما دل عليه لفظه إذا ثبت أن الحق انتقل فمتى رضي بها المحتال, ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل أبدا سواء أمكن استيفاء الحق, أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غير ذلك هذا ظاهر كلام الخرقي وبه قال الليث والشافعي, وأبو عبيد وابن المنذر وعن أحمد ما يدل على أنه إذا كان المحال عليه مفلسا ولم يعلم المحتال بذلك, فله الرجوع إلا أن يرضى بعد العلم وبه قال جماعة من أصحابنا ونحوه قول مالك لأن الفلس عيب في المحال عليه, فكان له الرجوع كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة ولأن المحيل غره, فكان له الرجوع كما لو دلس المبيع وقال شريح والشعبي, والنخعي: متى أفلس أو مات رجع على صاحبه وقال أبو حنيفة: يرجع عليه في حالين إذا مات المحال عليه مفلسا, وإذا جحده وحلف عليه عند الحاكم وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع عليه في هاتين الحالتين وإذا حجر عليه لفلس لأنه روى عن عثمان, أنه سئل عن رجل أحيل بحقه فمات المحال عليه مفلسا فقال: يرجع بحقه لا توى على مال امرئ مسلم ولأنه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين, فكان له الفسخ كما لو اعتاض بثوب فلم يسلم إليه ولنا أن حزنا جد سعيد بن المسيب, كان له على على رضي الله عنه دين فأحاله به فمات المحال عليه, فأخبره فقال: اخترت علينا أبعدك الله فأبعده بمجرد احتياله, ولم يخبره أن له الرجوع ولأنها براءة من دين ليس فيها قبض ممن عليه ولا ممن يدفع عنه فلم يكن فيها رجوع, كما لو أبرأه من الدين وحديث عثمان لم يصح يرويه خالد بن جعفر عن معاوية بن قرة عن عثمان, ولم يصح سماعه منه وقد روى أنه قال: في حوالة أو كفالة وهذا يوجب التوقف ولا يصح, ولو صح كان قول على مخالفا له وقولهم: إنه معاوضة لا يصح لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين وهو منهي عنه, ويفارق المعاوضة بالثوب لأن في ذلك قبضا يقف استقرار العقد عليه وها هنا الحوالة بمنزلة القبض وإلا كان بيع دين بدين. فصل:


فإن شرط ملاءة المحال عليه, فبان معسرا رجع على المحيل وبه قال بعض الشافعية وقال بعضهم: لا يرجع لأن الحوالة لا ترد بالإعسار إذا لم يشترط الملاءة فلا ترد به, وإن شرط كما لو اشترط كونه مسلما ويفارق البيع فإن الفسخ يثبت بالإعسار فيه من غير شرط, بخلاف الحوالة ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ: (المسلمون على شروطهم) ولأنه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضة فيثبت الفسخ بفواته كما لو شرط صفة في المبيع, وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق العقد بدليل اشتراط صفة في المبيع. فصل:


ولو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان المحال عليه مفلسا أو ميتا, رجع على المحيل بلا خلاف فإنه لا يلزمه الاحتيال على غير مليء لما عليه فيه من الضرر وإنما (أمر النبي ـ ﷺ ـ بقبول الحوالة إذا أحيل على مليء,) ولو أحاله على مليء فلم يقبل حتى أعسر فله الرجوع أيضا على ظاهر قول الخرقي لكونه اشترط في براءة المحيل إبداء رضي المحتال. مسألة:


قال: [ومن أحيل بحقه على مليء, فواجب عليه أن يحتال] المليء: هو القادر على الوفاء جاء في الحديث عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال: (إن الله تعالى يقول: من يقرض المليء غير المعدم) وقال الشاعر: تطيلين ليانى وأنت مليئة ** وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا يعني قادرة على وفائي والظاهر أن الخرقي أراد بالمليء ها هنا القادر على الوفاء غير الجاحد ولا المماطل قال أحمد في تفسير المليء كأن المليء عنده, أن يكون مليا بماله وقوله وبدنه ونحو هذا فإذا أحيل على من هذه صفته لزم المحتال والمحال عليه القبول ولم يعتبر رضاهما وقال أبو حنيفة: يعتبر رضاهما لأنها معاوضة فيعتبر الرضا من المتعاقدين وقال مالك والشافعي: يعتبر رضي المحتال لأن حقه في ذمة المحيل, فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه كما لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عرضا فأما المحال عليه فقال مالك: لا يعتبر رضاه, إلا أن يكون المحتال عدوه وللشافعي في اعتبار رضائه قولان أحدهما: يعتبر وهو يحكي عن الزهري لأنه أحد من تتم به الحوالة فأشبه المحيل والثاني: لا يعتبر لأنه أقامه في القبض مقام نفسه فلم يفتقر إلى رضا من عليه الحق كالتوكيل ولنا, قول النبي ـ ﷺ ـ: (إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ولأن للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض فلزم المحال القبول كما لو وكل رجلا في إبقائه, وفارق ما إذا أراد أن يعطيه عما في ذمته عرضا لأنه يعطيه غير ما وجب له فلم يلزمه قبوله. فصل: إذا أحال رجلا على زيد بألف فأحاله زيد بها على عمر فالحوالة صحيحة لأن حق الثاني ثابت مستقر في الذمة, فصح أن يحيل به كالأول وهكذا لو أحال الرجل عمرا على زيد بما يثبت له في ذمته صح أيضا لما ذكرنا وتكرر المحتال والمحيل لا يضر. فصل:


إذا اشترى عبدا, فأحال المشتري البائع بالثمن ثم ظهر العبد حرا أو مستحقا فالبيع باطل, والحوالة باطلة لأننا تبينا أنه لا ثمن على المشتري وإنما تثبت حريته ببينة أو اتفاقهم فإن اتفق المحيل والمحال عليه على حريته, وكذبهما المحتال ولا بينة بذلك لم يقبل قولهما عليه لأنهما يبطلان حقه, أشبه ما لو باع المشتري العبد ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حرا لم يقبل قولهما على المشتري الثاني, وإن أقاما بينة لم تسمع لأنهما كذباها بدخولهما في التبايع وإن أقام العبد بينة بحريته قبلت, وبطلت الحوالة وإن صدقهما المحتال وادعى أن الحوالة بغير ثمن العبد فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل صحة الحوالة, وهما يدعيان بطلانها فكانت جنبته أقوى فإن أقاما البينة أن الحوالة كانت بالثمن قبلت لأنهما لم يكذباها وإن اتفق المحيل والمحتال على حرية العبد, وكذبهما المحال عليه لم يقبل قولهما عليه في حرية العبد لأنه إقرار على غيرهما وتبطل الحوالة لاتفاق المرجوع عليه بالدين والراجع به على استحقاق الرجوع, والمحال عليه يعترف للمحتال بدين لا يصدقه فيه فلا يأخذ منه شيئا وإن اعترف المحتال والمحال عليه بحرية العبد عتق لإقرار من هو في يده بحريته وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما, ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لأن دخوله معه في الحوالة اعتراف ببراءته فلم يكن له الرجوع عليه. فصل:


وإن اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن على آخر, فقبضه من المحال عليه ثم رد المشتري العبد بعيب أو مقايلة, أو اختلاف في ثمن فقد برئ المحال عليه لأنه قبض منه بإذنه ويرجع المشتري على البائع وإن رده قبل القبض, فقال القاضي: تبطل الحوالة ويعود المشتري إلى ذمة المحال عليه ويبرأ البائع, فلا يبقى له دين ولا عليه لأن الحوالة بالثمن وقد سقط بالفسخ فيجب أن تبطل الحوالة لذهاب حقه من المال المحال به وقال أبو الخطاب: لا تبطل الحوالة في أحد الوجهين لأن المشتري عوض البائع عما في ذمته ماله في ذمة المحال عليه, ونقل حقه إليه نقلا صحيحا وبرئ من الثمن وبرئ المحال عليه من دين المشتري, فلم يبطل ذلك بفسخ العقد الأول كما لو أعطاه بالثمن ثوبا وسلمه إليه فسخ العقد, لم يرجع بالثوب كذا ها هنا فإن قلنا ببطلان الحوالة رجع المحيل على المحال عليه بدينه, ولم يبق بينهما وبين البائع معاملة وإن قلنا: لا تبطل رجع المشتري على البائع بالثمن ويأخذه البائع من المحال عليه فإن عاد البائع فأحال المشتري بالثمن على من أحاله المشتري عليه صح وبرئ البائع, وعاد المشتري إلى غريمه وإن كانت المسألة بحالها لكن أحال البائع أجنبيا على المشتري ثم رد العبد المبيع, ففي الحوالة وجهان: أحدهما لا تبطل لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من حق البائع وصار الحق عليه للأجنبي المحتال, فأشبه ما لو دفعه المشتري إلى المحيل فعلى هذا يرجع المشتري على البائع بالثمن ويسلم إلى المحتال ما أحاله به والثاني, تبطل الحوالة إن كان الرد قبل القبض لسقوط الثمن الذي كانت الحوالة به ولأنه لا فائدة في بقاء الحوالة ها هنا, فيعود البائع بدينه ويبرأ المشتري منهما كالمسألة قبلها, وإذا قلنا: لا تبطل فأحال المشتري المحال عليه بالثمن على البائع صح وبرئ المشتري منها. فصل:


إذا كان لرجل على آخر دين, فأذن لآخر في قبضه ثم اختلف هو والمأذون له فقال: وكلتك في قبض ديني بلفظ التوكيل فقال: بل أحلتني بلفظ الحوالة أو كانت بالعكس, فقال: أحلتك بدينك فقال: بل وكلتني فالقول قول مدعى الوكالة منهما مع يمينه لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان وينكر انتقاله والأصل معه, فإن كان لأحدهما بينة حكم بها لأن اختلافهما في اللفظ وهو مما يمكن إقامة البينة عليه وإن اتفقا على أنه قال: أحلتك بالمال الذي لي قبل زيد ثم اختلفا فقال المحيل: إنما وكلتك في القبض لي وقال الآخر: بل أحلتني بديني عليك فالقول قول مدعي الحوالة, في أحد الوجهين لأن الظاهر معه فإن اللفظ حقيقة في الحوالة دون الوكالة فيجب حمل اللفظ على ظاهره كما لو اختلفا في دار في يد أحدهما والثاني, القول قول المحيل لأن الأصل بقاء حق المحيل على المحال عليه والمحتال يدعي نقله والمحيل ينكره, والقول قول المنكر فعلى الوجه الأول يحلف المحتال ويثبت حقه في ذمة المحال عليه ويستحق مطالبته, ويسقط عن المحيل وعلى الوجه الثاني يحلف المحيل ويبقى حقه في ذمة المحال عليه وعلى كلا الوجهين: إن كان المحتال قد قبض الحق من المحال عليه, وتلف في يده فقد برئ كل واحد منهما من صاحبه ولا ضمان عليه, سواء تلف بتفريطه أو غيره لأنه إن تلف بتفريط وكان المحتال محقا فقد أتلف ماله, وإن كان مبطلا ثبت لكل واحد منهما في ذمة الآخر مثل ما في ذمته له فيتقاصان, ويسقطان وإن تلف بغير تفريط فالمحال قد قبض حقه وتلف في يده, وبرئ منه المحيل بالحوالة والمحال عليه بتسلمه والمحيل يقول: قد تلف المال في يد وكيلي بغير تفريط فلا ضمان عليه وإن لم يتلف, احتمل أن لا يملك المحيل طلبه لأنه معترف أن له عليه من الدين مثل ما له في يده وهو مستحق لقبضه فلا فائدة في أن يقبضه منه ثم يسلمه إليه ويحتمل أن يملك أخذه منه, ويملك المحتال مطالبته بدينه وقيل: يملك المحيل أخذه منه ولا يملك المحتال المطالبة بدينه لاعترافه ببراءة المحيل منه بالحوالة وليس بصحيح لأن المحتال إن اعترف بذلك فهو يدعي أنه قبض هذا المال منه بغير حق, وأنه يستحق المطالبة به فعلى كلا الحالين هو مستحق للمطالبة بمثل هذا المال المقبوض منه, في قولهما جميعا فلا وجه لإسقاطه ولا موضع للبينة في هذه المسألة: لأنهما لا يختلفان في لفظ يسمع, ولا فعل يرى وإنما يدعى المحيل بينة وهذا لا تشهد به البينة نفيا ولا إثباتا. فصل:


وإن كانت المسألة بالعكس, فقال: أحلتك بدينك فقال: بل وكلتني ففيها الوجهان أيضا لما قدمناه فإن قلنا: القول قول المحيل فحلف برئ من حق المحتال وللمحتال قبض المال من المحال عليه لنفسه لأنه يجوز له ذلك بقولهما معا, فإذا قبضه كان له بحقه وإن قلنا: القول قول المحتال فحلف كان له مطالبة المحيل بحقه ومطالبة المحتال عليه لأنه إما وكيل وإما محتال فإن قبض منه قبل أخذه من المحيل, فله أخذ ما قبض لنفسه لأن المحيل يقول: هو لك والمحتال يقول: هو أمانة في يدي ولي مثله على صاحبه وقد أذن له في أخذه ضمنا فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه, ولم يأخذ من المحيل شيئا وإن استوفى من المحيل رجع على المحال في أحد الوجهين لأنه قد تثبتت الوكالة بيمين المحتال وبقي الحق في ذمة المحال عليه للمحيل والثاني, لا يرجع عليه لأنه يعترف أنه قد برئ من حقه وإنما المحتال ظلمه بأخذ ما كان عليه قال القاضي: والأول أصح وإن كان قد قبض الحوالة فتلفت في يده بتفريط, أو أتلفها سقط حقه على الوجهين لأنه إن كان محقا فقد أتلف حقه وإن كان مبطلا فقد أتلف مثل دينه, فيثبت في ذمته ويتقاصان وإن تلفت بغير تفريطه فعلى الوجه الأول يسقط حقه أيضا لأن ماله تلف تحت يده وعلى الثاني, له أن يرجع على المحيل بحقه وليس للمحيل الرجوع على المحال عليه لأنه يعترف ببراءته. فصل:


وإذا كان لرجل دين على آخر فطالبه به, فقال: قد أحلت به على فلانا الغائب وأنكر صاحب الدين فالقول قول مع يمينه وإن كان لمن عليه الدين بينة بدعواه سمعت بينته, لإسقاط حق المحيل عليه وإن ادعى رجل أن فلانا الغائب أحالنى عليك فأنكر المدعى عليه فالقول قوله فإن أقام المدعى بينة, ثبتت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضى بها على الغائب ولزم الدفع إلى المحتال وإن لم يكن له بينة فأنكر المدعى عليه, فهل تلزمه اليمين؟ فيه وجهان بناء على ما لو اعترف له هل يلزمه الدفع؟ على وجهين أحدهما يلزمه الدفع إليه لأنه مقر بدينه عليه, ووجوب دفعه إليه فلزمه الدفع إليه كما لو كانت بينة والثاني لا يلزمه الدفع إليه لأنه لا يأمن من إنكار المحيل ورجوعه عليه, فكان له الاحتياط لنفسه كما لو ادعى عليه إني وكيل فلان في قبض دينه منك فصدقه, وقال: لا أدفعه إليك فإذا قلنا: يلزمه الدفع مع الإقرار لزمه اليمين مع الإنكار فإذا حلف برئ ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لاعترافه ببراءته وكذلك إن قلنا: لا تلزمه اليمين فليس للمحتال الرجوع على المحيل, ثم ينظر في المحيل فإن صدق المدعي في أنه أحاله ثبتت الحوالة له لأن رضي المحال عليه لا يعتبر وإن أنكر الحوالة, حلف وسقط حكم الحوالة وإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه بالنكول واستوفى الحق منه, ثم إن المحيل صدق المدعي فلا كلام وإن أنكر الحوالة فالقول قوله, وله أن يستوفي من المحال عليه لأنه معترف له بالحق ويدعي أن المحتال ظلمه ويبقى دين المحتال على المحيل وإن كان المحيل ينكر أن له عليه دينا فالقول قوله بغير يمين لأن المحتال يقر ببراءته منه, لاستيفائه من المحال عليه وإن كان المحيل يعترف به لم يكن للمحتال المطالبة به لأنه يقر بأنه قد برئ منه بالحوالة والمحيل يصدق المحال عليه في كون المحتال قد ظلمه, واستوفى منه بغير حق والمحتال يزعم أن المحيل قد أخذ منه أيضا بغير حق وإنه يجب عليه أن يرد ما أخذه منه إليه, فينبغي أن يقبضها المحتال ويسلمها إلى المحال عليه أو يأذن للمحيل في دفعها إلى المحال عليه وإن صدق المحال عليه المحتال في الحوالة, ودفع إليه فأنكر المحيل الحوالة حلف, ورجع على المحال عليه والحكم في الرجوع بما على المحيل من الدين على ما ذكرنا في التي قبلها. فصل:


فإن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به برئت ذمته وذمة المضمون عنه لأن الحوالة كالتسليم, ويكون الحكم ها هنا كالحكم فيما لو قضى عنه الدين فإن كان الألف على رجلين على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحد كفيل عن الآخر بذلك, فأحاله أحدهما بالألف برئت ذمتهما معا كما لو قضاها وإن أحال صاحب الألف رجلا على أحدهما بعينه بالألف, صحت الحوالة لأن الدين على كل واحد منهما مستقر وإن أحال عليهما جميعا ليستوفي منهما أو من أيهما شاء صحت الحوالة أيضا عند القاضي لأنه لا فضل ها هنا في نوع ولا أجل ولا عدد, وإنما هو زيادة استيثاق فلم يمنع ذلك صحة الحوالة كحوالة المعسر على المليء وقال بعض أصحاب الشافعي: لا تصح الحوالة لأن الفضل قد دخلها, فإن المحتال ارتفق بالتخيير بالاستيفاء منهما أو من أيهما شاء فأشبه ما لو أحاله على رجلين له على كل واحد منهما ألف ليستوفي من أيهما شاء والأول أصح والفرق بين هذه المسألة, وبين ما إذا أحاله بألفين أنه لا فضل بينهما في العدد ها هنا وثم تفاضلا فيه, ولأن الحوالة ها هنا بألف معين وثم الحوالة بأحدهما من غير تعيين وأنه إذا قضاه أحدهما الألف فقد قضى جميع الدين, وثم إذا قضى أحدهما بقي ما على الآخر ولو لم يكن كل واحد من الرجلين ضامنا عن صاحبه فأحال عليهما, صحت الحوالة بغير إشكال لأنه لما كان له أن يستوفي الألف من واحد كان له أن يستوفي من اثنين كالوكيلين. فصل: وقد دلت مسألة الخرقي على أحكام منها, صحة ضمان المجهول لقوله: ما أعطيته فهو على وهذا مجهول فمتى قال: أنا ضامن لك مالك على فلان أو ما يقضى به عليه أو ما تقوم به البينة, أو يقر به لك أو ما يخرج في روز مانحك صح الضمان وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الثوري والليث, وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح لأنه التزام مال, فلم يصح مجهولا كالثمن في المبيع ولنا قول الله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وحمل البعير غير معلوم لأن حمل البعير يختلف باختلافه, وعموم قوله عليه السلام: (الزعيم غارم) ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة فصح في المجهول كالنذر والإقرار, ولأنه يصح تعليقه بضرر وخطر وهو ضمان العهدة وإذا قال: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه أو قال: ادفع ثيابك إلى هذا الرفاء, وعلى ضمانها فصح المجهول كالعتق والطلاق. ومنها صحة ضمان ما لم يجب فإن معنى قوله: " ما أعطيته ", أي ما يعطيه في المستقبل بدليل أنه عطفه على من ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فيدل على أنه غيره, ولو كان " ما أعطيته " في الماضي كان معنى المسألتين سواء أو إحداهما داخلة في الأخرى والخلاف في هذه المسألة ودليل القولين, كالتي قبلها إلا أنهم قالوا: الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء, فلا ضم فيه فلا يكون ضمانا قلنا: قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه وأن ما ثبت في ذمة مضمونه يثبت في ذمته وهذا كاف وقد سلموا ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله: ألق متاعك في البحر, وعلى ضمانه وسلم أصحاب الشافعي في أحد الوجهين ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل وما وجب شيء بعد. ومنها أن الضمان إذا صح لزم الضامن من أداء ما ضمنه, وكان للمضمون له مطالبته ولا نعلم في هذا خلافا وهو فائدة الضمان وقد دل قول النبي ـ ﷺ ـ: (والزعيم غارم) واشتقاق اللفظ. ومنها صحة الضمان عن كل وجب عليه حق حيا كان أو ميتا, مليئا أو مفلسا لعموم لفظه فيه وهذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة: لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء فإن خلف بعض الوفاء, صح ضمانه بقدر ما خلف لأنه دين ساقط فلم يصح ضمانه كما لو سقط بالأبراء, ولأن ذمته قد خربت خرابا لا تعمر بعده فلم يبق فيها دين والضمان: ضم ذمة إلى ذمة في التزامه ولنا, حديث أبي قتادة وعلى فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء والنبي ـ ﷺ ـ حضهم على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله: (ألا قام أحدكم فضمنه؟) وهذا صريح في المسألة, ولأنه دين ثابت فصح ضمانه كما لو خلف وفاء, ودليل ثبوته أنه لو تبرع رجل بقضاء دينه جاز لصاحب الدين اقتضاؤه ولو ضمنه حيا ثم مات, لم تبرأ ذمة الضامن ولو برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن وفي هذا انفصال عما ذكروه. ومنها, صحة الضمان في كل حق أعنى من الحقوق المالية الواجبة أو التي تئول إلى الوجوب, كثمن المبيع في مدة الخيار وبعده والأجرة والمهر قبل الدخول أو بعده لأن هذه الحقوق لازمة وجواز سقوطها لا يمنع ضمانها, كالثمن في المبيع بعد انقضاء الخيار ويجوز أن يسقط برد بعيب أو مقايلة وبهذا كله قال الشافعي. فصل:


فيما يصح ضمانه: ويصح ضمان الجعل في الجعالة وفي المسابقة والمناضلة وقال أصحاب الشافعي, في أحد الوجهين: لا يصح ضمانه لأنه لا يئول إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كما في الكتابة ولنا, قول الله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72]. ولأنه يئول إلى اللزوم إذا عمل العمل وإنما الذي لا يلزم العمل والمال يلزم بوجوده, والضمان للمال دون العمل ويصح ضمان أرش الجناية سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو حيوانا كالديات وقال أصحاب الشافعي: لا يصح ضمان الحيوان الواجب فيها لأنه مجهول وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول, ولأن الإبل الواجبة في الذمة معلومة الأسنان والعدد وجهالة اللون أو غيره من الصفات الباقية لا تضر لأنه إنما يلزمه أدنى لون أو صفة فتحصل معلومة وكذلك غيرها من الحيوان, ولأن جهل ذلك لم يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع وجوبه بالالتزام ويصح ضمان نفقة الزوجة سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة لأن نفقة اليوم واجبة, والمستقبلة مآلها إلى اللزوم ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب وقال القاضي: إذا ضمن نفقة المستقبل لم تلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزيادة على ذلك تسقط بالإعسار وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه: يصح ضمانها ولنا, أنه يصح ضمان ما لم يجب واحتمال عدم وجوب الزيادة لا يمنع صحة ضمانها بدليل الجعل في الجعالة, والصداق قبل الدخول والمبيع في مدة الخيار فأما النفقة في الماضي فإن كانت واجبة, إما بحكم الحاكم بها أو قلنا: بوجوبها بدون حكمه صح ضمانها, وإلا فلا ويصح ضمان مال السلم في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه فلم يجز, كالحوالة به والأول أصح لأنه دين لازم فصح ضمانه كالأجرة وثمن المبيع ولا يصح ضمان مال الكتابة في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم والأخرى: يصح لأنه دين على المكاتب, فصح ضمانه كسائر الديون عليه والأولى أصح لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فإن للمكاتب تعجيز نفسه, والامتناع عن أدائه فإذا لم يلزم الأصيل فالضمين أولى ويصح ضمان الأعيان المضمونة, كالمغصوب والعارية وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين وقال في الآخر: لا يصح لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة, وإنما يضمن ما ثبت في الذمة ووصفنا لها بالضمان إنما معناه أنه يلزمه قيمتها إن تلفت والقيمة مجهولة ولنا, أنها مضمونة على من هي في يده فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة وقولهم: إن الأعيان لا تثبت في الذمة قلنا: الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها, والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع فإن ضمانها يصح, وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالبيع عيب أو خرج مستحقا, فأما الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة, والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط, فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها لأنها غير مضمونة على من هي في يده فكذلك على ضامنه وإن ضمنها إن تعدى فيها, فظاهر كلام أحمد ـ رحمه الله ـ يدل على صحة الضمان فإنه قال في رواية الأثرم في رجل يتقبل من الناس الثياب, فقال له رجل: ادفع إليه ثيابك وأنا ضامن فقال له: هو ضامن لما دفعه إليه يعني إذا تعدى أو تلف بفعله فعلى هذا إن تلف بغير تفريط منه ولا فعله لم يلزم الضامن شيء, لما ذكرنا وإن تلف بفعله أو تفريط لزم ضمانها ولزم ضامنه ذلك لأنها مضمونة على من هي في يده فلزم ضامنه, كالغصوب والعواري وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب وقد بينا جوازه ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع, فضمانه على المشتري هو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه وإن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن, وضمانه عن البائع للمشتري هو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقا أو رد بعيب أو أرش العيب فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع, ويذكر فيه الثمن فعبر به عن الثمن الذي يضمنه وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة ومالك والشافعي ومنع منه بعض الشافعية لكونه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول, وضمان عين وقد بينا جواز الضمان في ذلك كله ولأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع والوثائق ثلاثة الشهادة والرهن, والضمان فأما الشهادة فلا يستوفى منها الحق وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقى أبدا مرهونا فلم يبق إلا الضمان ولأنه لا يضمن إلا ما كان واجبا حال العقد لأنه إنما يتعلق بالضمان حكم إذا خرج مستحقا أو معيبا حال العقد, ومتى كان كذلك فقد ضمن ما وجب حين العقد والجهالة منتفية لأنه ضمن الجملة, فإذا خرج بعضه مستحقا لزمه بعض ما ضمنه إذا ثبت هذا فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن وبعده وقال الشافعي: إنما يصح بعد القبض لأنه قبل القبض لو خرج مستحقا لم يجب على البائع شيء وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضيا إلى الوجوب, كالجعالة وألفاظ ضمان العهدة أن يقول: ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه أو يقول للمشتري: ضمنت خلاصك منه أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا فقد ضمنت لك الثمن وحكي عن أبي يوسف أنه قال: ضمنت عهدته أو ضمنت لك العهدة والعهدة في الحقيقة: هي الصك المكتوب فيه الابتياع هكذا فسره به أهل اللغة, فلا يصح ضمانه للمشتري لأنه ملكه وليس بصحيح لأن العهدة صارت في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفية دون اللغوية, كالراوية تحمل عند إطلاقها على المزادة لا على الجمل, وإن كان هو الموضوع فأما إن ضمن له خلاص المبيع فقال أبو بكر: هو باطل لأنه إذا خرج حرا أو مستحقا لا يستطيع تخليصه, ولا يحل وقد قال أحمد في رجل باع عبدا أو أمة وضمن له الخلاص, فقال: كيف يستطيع الخلاص إذا خرج حرا؟ فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه بطل في الخلاص وهل يصح في العهدة؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة إذا ثبت صحة ضمان العهدة, فالكلام فيما يلزم الضامن فنقول: إن استحقاق رجوع المشتري بالثمن لا يخلو إما أن يكون بسبب حادث بعد العقد, أو مقارن له فأما الحادث فمثل تلف المبيع من المكيل والموزون في يد البائع أو بغصب من يده أو يتقايلان فإن المشتري يرجع على البائع دون الضامن لأن هذا الاستحقاق لم يكن موجودا حال العقد, وإنما ضمن الاستحقاق الموجود حال العقد ويحتمل أن يرجع به على الضامن لأن ضمان ما لم يجب جائز وهذا منه وأما إن كان بسبب مقارن نظرنا فإن كان بسبب لا تفريط من البائع فيه, كأخذه بالشفعة فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن ومتى لم يجب على المضمون عنه شيء لم يجب على الضامن بطريق الأولى وأما إن زال ملكه عن المبيع بسبب مقارن لتفريط من البائع, باستحقاق أو حرية أو رد بعيب قديم فله الرجوع إلى الضامن وهذا ضمان العهدة, وإن أراد أخذ أرش العيب رجع على الضامن أيضا لأنه إذا لزمه كل الثمن لزمه بعضه إذا استحق ذلك على المضمون عنه, وسواء ظهر كل المبيع مستحقا أو بعضه لأنه إذا ظهر بعضه مستحقا بطل العقد في الجميع في إحدى الروايتين, فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الاستحقاق وعلى الرواية الأخرى: لا يبطل العقد في الجميع ولكن استحق ردها, فإن ردها كلها فالحكم كذلك وإن أمسك المملوك منها فله المطالبة بالأرش, كما لو وجد بها عيبا ولو باعه عينا أو أقرضه شيئا بشرط أن يرهن عنده عينها فتكفل رجل بتسليم الرهن لم تصح الكفالة لأنه لا يلزم الراهن إقباضه وتسليمه, فلا يلزم الكفيل ما لا يلزم الأصل وإن ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس صح, سواء ضمنه البائع أو أجنبى فإذا بنى أو غرس واستحق المبيع رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يصح لأنه ضمان مجهول, وضمان ما لم يجب وقد بينا جواز ذلك. فصل:


في من يصح ضمانه ومن لا يصح يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله, سواء كان رجلا أو امرأة لأنه عقد يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع ولا يصح من المجنون والمبرسم, ولا من صبي غير مميز بغير خلاف لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منهم, كالنذر ولا يصح من السفيه المحجور عليه ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال القاضي: يصح ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأن من أصلنا أن إقراره صحيح يتبع به من بعد فك الحجر عنه, صح فكذلك ضمانه والأول أولى لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منه, كالبيع والشراء ولا يشبه الإقرار لأنه إخبار بحق سابق وأما الصبي المميز فلا يصح ضمانه, في الصحيح من الوجهين وهو قول الشافعي وخرجه أصحابنا على الروايتين في صحة إقراره وتصرفاته بإذن وليه ولا يصح هذا الجمع لأن هذا التزام مال لا فائدة له فيه فلم يصح منه, كالتبرع والنذر بخلاف البيع وإن اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه فقال الصبي: قبل بلوغي وقال المضمون له: بعد البلوغ فقال القاضي: قياس قول أحمد أن القول قول المضمون له لأن معه سلامة العقد, فكان القول قوله كما لو اختلفا في شرط فاسد ويحتمل أن القول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وعدم وجوب الحق عليه وهذا قول الشافعي ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد لأن المختلفين ثم متفقان على أهلية التصرف, والظاهر أنهما لا يتصرفان إلا تصرفا صحيحًا فكان قول مدعي الصحة هو الظاهر وهاهنا اختلفا في أهلية التصرف, وليس مع من يدعي الأهلية ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه فلا ترجح دعواه والحكم في من عرف له حال جنون, كالحكم في الصبي وإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل عدمه, فأما المحجور عليه لفلس فيصح ضمانه ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أهل التصرف, والحجر عليه في ماله لا في ذمته فأشبه الراهن, فصح تصرفه فيما عدا الرهن فهو كما لو اقترض أو أقر أو اشترى في ذمته ولا يصح ضمان العبد بغير إذن سيده سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له وبهذا قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة ويحتمل أن يصح, ويتبع به بعد العتق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه من أهل التصرف فصح تصرفه بما لا ضرر على السيد فيه كالإقرار بالإتلاف ووجه الأول, أنه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح بغير إذن كالنكاح وقال أبو ثور: إن كان من جهة التجارة جاز, وإن كان من غير ذلك لم يجز فإن ضمن بإذن سيده صح لأن سيده لو أذن له في التصرف صح قال القاضي: وقياس المذهب تعلق المال برقبته وقال ابن عقيل: ظاهر المذهب وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد وقال أبو الخطاب: هل يتعلق برقبته أو بذمة سيده؟ على روايتين كاستدانته بإذن سيده وقد سبق الكلام فيها فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من المال الذي في يده, صح ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي في يد العبد كتعلق حق الجناية برقبة الجاني, كما لو قال الحر: ضمنت لك الدين على أن تأخذ من مالي هذا صح وأما المكاتب فلا يصح ضمانه بغير إذن سيده كالعبد القن لأنه تبرع بالتزام مال, فأشبه نذر الصدقة بغير مال ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد عتقه كقولنا في العبد وإن ضمن بإذنه, ففيه وجهان أحدهما لا يصح أيضا لأنه ربما أدى إلى تفويت الحرية والثاني يصح لأن الحق لهما, لا يخرج عنهما فأما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو غير مرض الموت, فحكمه حكم الصحيح وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه يحسب من ثلثه لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه, ولم يأخذ عنه عوضا فأشبه الهبة وإذا فهمت إشارة الأخرس صح ضمانه لأنه يصح بيعه وإقراره وتبرعه, فصح ضمانه كالناطق ولا يثبت الضمان بكتابة منفردة عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان لأنه قد يكتب عبثا أو تجربة, فلم يثبت الضمان به مع الاحتمال ومن لا تفهم إشارته لا يصح منه الضمان لأنه لا يدري بضمانه ولأنه لا يصح سائر تصرفاته فكذلك ضمانه. فصل: إذا ضمن الدين الحال مؤجلا, صح ويكون حالا على المضمون عنه مؤجلا على الضامن يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن وبهذا قال الشافعي قال أحمد, في رجل ضمن ما على فلان أن يؤديه في ثلاث سنين: فهو عليه ويؤديه كما ضمن ووجه ذلك: ما روى ابن عباس (, أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله ـ ﷺ ـ فقال: ما عندي شيء أعطيكه فقال: والله لا أفارقنك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل, فجره إلى النبي ـ ﷺ ـ فقال له النبي ـ ﷺ ـ: كم تستنظره؟ قال: شهرا قال رسول الله ـ ﷺ ـ: فأنا أحمل فجاء به في الوقت الذي قال النبي ـ ﷺ ـ فقال له النبي ـ ﷺ ـ: من أين أصبت هذا؟ قال: من معدن قال: لا خير فيها وقضاها عنه) رواه ابن ماجه في " سننه " ولأنه ضمن مالا بعقد مؤجل فكان مؤجلا كالبيع فإن قيل: فعندكم الدين الحال لا يتأجل, فكيف يتأجل على الضامن؟ أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوصف الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه؟ قلنا: الحق يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان بعقد وهذا ابتداء ثبوته في حق الضامن, فإنه لم يكن ثابتا عليه حالا ويجوز أن يخالف ما في ذمة الضامن ما في ذمة المضمون عنه بدليل ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل إذا ثبت هذا, وكان الدين مؤجلا إلى شهر فضمنه إلى شهرين لم يكن له مطالبة الضامن إلى شهرين, فإن قضاه قبل الأجل فله الرجوع به في الحال على الرواية التي تقول: إنه إذا قضى دينه بغير إذن رجع به لأن أكثر ما فيه ها هنا, أنه قضى بغير إذن وعلى الرواية الأخرى لا يرجع به قبل الأجل لأنه لم يأذن له في القضاء قبل ذلك وإن كان الدين مؤجلا فضمنه حالا لم يصر حالا, ولا يلزمه أداؤه قبل أجله لأن الضامن فرع للمضمون عنه فلا يلزمه ما لا يلزم المضمون عنه ولأن المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل هذا الدين, لم يلزمه تعجيله فبأن لا يلزم الضامن أولى ولأن الضمان التزام دين في الذمة, فلا يجوز أن يلتزم ما لا يلزم المضمون عنه فعلى هذا إن قضاه حالا لم يرجع به قبل أجله لأن ضمانه لم يغيره عن تأجيله والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها, أن الدين الحال ثابت في الذمة مستحق القضاء في جميع الزمان فإذا ضمنه مؤجلا فقد التزم بعض ما يجب على المضمون عنه, فصح كما لو كان الدين عشرة فضمن خمسة, وأما الدين المؤجل فلا يستحق قضاؤه إلا عند أجله فإذا ضمنه حالا التزم ما لم يجب على المضمون, فأشبه ما لو كان الدين عشرة فضمن عشرين وقيل: يحتمل أن يصح ضمان الدين المؤجل حالا كما يصح ضمان الحال مؤجلا قياسا لإحداهما على الأخرى وقد فرقنا بينهما بما يمنع القياس ـ إن شاء الله تعالى ـ. فصل:


وإذا ضمن دينا مؤجلا عن إنسان فمات أحداهما إما الضامن وإما المضمون عنه, فهل يحل الدين على الميت منهما؟ على روايتين تقدم ذكرهما فإن قلنا: يحل على الميت لم يحل على الآخر لأن الدين لا يحل على شخص بموت غيره, فإن كان الميت المضمون عنه لم يستحق مطالبة الضامن قبل الأجل فإن قضاه قبل الأجل, كان متبرعا بتعجيل القضاء وهل له مطالبة المضمون عنه قبل الأجل؟ يخرج على الروايتين فيمن قضى بغير إذن من هو عليه وإن كان الميت الضامن فاستوفى الغريم الدين من تركته, لم يكن لورثته مطالبة المضمون عنه حتى يحل الحق لأنه مؤجل عليه فلا يستحق مطالبته به قبل أجله وهذا مذهب الشافعي وحكى عن زفر أن لهم مطالبته لأنه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته ولنا أنه دين مؤجل, فلا تجوز مطالبته به قبل الأجل كما لو لم يمت وقوله: أدخله فيه قلنا: إنما أدخله في المؤجل وحلوله بسبب من جهته, فهو كما لو قضى قبل الأجل. مسألة:


قال: [ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن] يعني أن المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان كما يبرأ المحيل بنفس الحوالة قبل القبض بل يثبت الحق في ذمة الضامن, مع بقائه في ذمة المضمون عنه ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة وبعد الموت وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وقال أبو ثور: الكفالة والحوالة سواء, وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود واحتجوا بما روى أبو سعيد الخدري قال: (كنا مع النبي ـ ﷺ ـ في جنازة فلما وضعت, قال: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان فقال: صلوا على صاحبكم فقال على: هما على يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله ـ ﷺ ـ فصلى عليه, ثم أقبل على على: فقال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك فقيل: يا رسول الله هذا لعلى خاصة, أم للناس عامة؟ فقال: للناس عامة). رواه الدارقطني فدل على أن المضمون عنه برئ بالضمان وروى الإمام أحمد في "المسند" عن جابر قال: (توفي صاحب لنا, فأتينا النبي ـ ﷺ ـ ليصلي عليه فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران فانصرف, فتحملهما أبو قتادة فقال: الديناران على فقال رسول الله ـ ﷺ ـ: وجب حق الغريم وبرئ الميت منهما؟ قال: نعم فصلى عليه ثم قال بعد ذلك: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس قال: فعاد إليه من الغد, فقال: قد قضيتهما فقال رسول الله ـ ﷺ ـ: الآن بردت جلدته) وهذا صريح في براءة المضمون عنه لقوله: " وبرئ الميت منهما " ولأنه دين واحد فإذا صار في ذمة ثانية برئت الأولى منه كالمحال به وذلك لأن الدين الواحد لا يحل في محلين ولنا, قول النبي ـ ﷺ ـ: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وقوله في خبر أبي قتادة: " الآن بردت جلده " حين أخبره أنه قضى دينه ولأنها وثيقة فلا تنقل الحق, كالشهادة وأما صلاة النبي ـ ﷺ ـ على المضمون عنه فلأنه بالضمان صار له وفاء وإنما كان النبي ـ ﷺ ـ يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف وفاء وأما قوله لعلي: (فك الله رهانك, كما فككت رهان أخيك) فإنه كان بحال لا يصلى عليه النبي ـ ﷺ ـ فلما ضمنه فكه من ذلك أو مما في معناه وقوله: " برئ الميت منهما " أي صرت أنت المطالب بهما وهذا على سبيل التأكيد لثبوت الحق في ذمته ووجوب الأداء عليه, بدليل قوله في سياق الحديث حين أخبره بالقضاء: " الآن بردت عليه جلده " ويفارق الضمان الحوالة فإن الضمان مشتق من الضم فيقتضي الضم بين الذمتين في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما والحوالة من التحول, فتقتضي تحول الحق من محله إلى ذمة المحال عليه وقولهم: إن الدين الواحد لا يحل في محلين قلنا: يجوز تعلقه بمحلين على سبيل الاستيثاق كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن وقال أبو بكر عبد العزيز: أما الحي فلا يبرأ بمجرد الضمان رواية واحدة, وأما الميت ففي براءته بمجرد الضمان روايتان إحداهما يبرأ بمجرد الضمان نص عليه أحمد, في رواية يوسف بن موسى لما ذكرنا من الخبرين ولأن فائدة الضمان في حقه تبرئة ذمته فينبغي أن تحصل هذه الفائدة بمجرد الضمان بخلاف الحي, فإن المقصود من الضمان في حقه الاستيثاق وثبوته في الذمتين آكد في الاستيثاق والثانية لا يبرأ إلا بالأداء لما ذكرناه, ولأنه ضمان فلا يبرأ به المضمون عنه كالحي. فصل:


ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه لأنه وثيقة, فلا يستوفي الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصل كالرهن ولنا أن الحق ثابت في ذمة الضامن, فملك مطالبته كالأصيل ولأن الحق ثابت في ذمتهما, فملك مطالبة من شاء منهما كالضامنين إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه ولا يشبه الرهن لأنه مال من عليه الحق وليس بذي ذمة يطالب, إنما يطالب من عليه الدين ليقضي منه أو من غيره. فصل:


وإن أبرأ صاحب الدين المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا نعلم فيه خلافا لأنه تبع, ولأنه وثيقة فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن وإن أبرأ الضامن لم تبرأ ذمة المضمون عنه لأنه أصل, فلا يبرأ بإبراء التبع ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصيل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفائه وأيهما قضى الحق برئا جميعا من المضمون له لأنه حق واحد, فإذا استوفى مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى الحق الذي به رهن وإن أحال الغريم برئا جميعا, لأنه حق واحد فإذا استوفى مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى دين الرهن وإن أحال أحدهما الغريم برئا جميعا لأن الحوالة كالقضاء. فصل:


وإن ضمن المضمون عنه الضامن أو تكفل المكفول عنه الكفيل, لم يصح لأن الضمان يقتضي إلزامه الحق في ذمته والحق لازم له فلا يتصور إلزامه ثانيا, ولأنه أصل في هذا الدين فلا يجوز أن يصير فرعا فيه وإن ضمن عنه دينا آخر أو كفل به في حق آخر, جاز لعدم ما ذكرناه فيه " مسألة:


قال: [فمتى أدى رجع عليه سواء قال له: اضمن عني أو لم يقل] يعني إذا أدى الدين محتسبا بالرجوع على المضمون عنه, فأما إن قضى الدين متبرعا به غير ناو للرجوع به فلا يرجع بشيء لأنه يتطوع بذلك, أشبه الصدقة وسواء ضمن بأمره أو بغير أمره فأما إذا أداه بنية الرجوع به لم يخل من أربعة أحوال: أحدها, أن يضمن بأمر المضمون عنه ويؤدي بأمره فإنه يرجع عليه, سواء قال له: اضمن عني أو: أد عني أو أطلق وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وقال أبو حنيفة ومحمد: إن قال: اضمن عني وانقد عني رجع عليه وإن قال: انقد هذا لم يرجع, إلا أن يكون مخالطا له يستقرض منه ويودع عنده لأن قوله: اضمن عني, وانقد عني إقرار منه بالحق وإذا أطلق ذلك صار كأنه قال: هب لهذا أو تطوع عليه وإذا كان مخالطا له رجع استحسانا لأنه قد يأمر مخالطه بالنقد عنه ولنا, أنه ضمن ودفع بأمره فأشبه إذا كان مخالطا له أو قال: اضمن عني وما ذكراه ليس بصحيح لأنه إذا أمره بالضمان لا يكون إلا لما هو عليه, وأمره بالنقد بعد ذلك ينصرف إلى ما ضمنه بدليل المخالط له فيجب عليه أداء ما أدى عنه, كما لو صرح به الحال الثاني ضمن بأمره وقضى بغير أمره, فله الرجوع أيضا وبه قال مالك والشافعي في أحد الوجوه عنه والوجه الثاني: لا يرجع به لأنه دفع بغير أمره أشبه ما لو تبرع به الثالث أنه إن تعذر الرجوع على المضمون عنه, فدفع ما عليه رجع وإلا فلا لأنه تبرع بالدفع ولنا, أنه إذا أذن في الضمان تضمن ذلك إذنه في الأداء لأن الضمان يوجب عليه الأداء فيرجع عليه, كما لو أذن في الأداء صريحا الحال الثالث ضمن بغير أمره وقضى بأمره, فله الرجوع أيضا وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرجع لأن أمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه ولنا: أنه أدى دينه بأمره فرجع عليه كما لو لم يكن ضامنا, أو كما لو ضمن بأمره وقولهم: إن إذنه في القضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه قلنا: الواجب بضمانه إنما هو أداء دينه وليس هو شيئا آخر فمتى أداه عنه بإذنه لزمه إعطاؤه بدله الحال الرابع, ضمن بغير أمره وقضى بغير أمره ففيه روايتان إحداهما, يرجع بما أدى وهو قول مالك وعبد الله بن الحسن وإسحاق والثانية لا يرجع بشيء وهو قول أبي حنيفة والشافعي, وابن المنذر بدليل حديث على وأبي قتادة فإنهما لو كانا يستحقان الرجوع على الميت, صار الدين لهما فكانت ذمة الميت مشغولة بدينهما كاشتغالها بدين المضمون عنه, ولم يصل عليه النبي ـ ﷺ ـ ولأنه تبرع بذلك أشبه ما لو علف دوابه وأطعم عبيده بغير أمره ووجه الأولى أنه قضاء مبرئ من دين واجب, فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه فأما على وأبو قتادة فإنهما تبرعا بالقضاء والضمان, فإنهما قضيا دينه قصدا لتبرئة ذمته ليصلي عليه رسول الله ـ ﷺ ـ مع علمهما بأنه لم يترك وفاء والمتبرع لا يرجع بشيء, وإنما الخلاف في المحتسب بالرجوع. فصل:


ويرجع الضامن على المضمون عنه بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن كان الأقل الدين فالزائد لم يكن واجبا فهو متبرع بأدائه, وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم ولهذا لو أبرأه غريمه لم يرجع بشيء وإن دفع عن الدين عرضا, رجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين لذلك وإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع به قبل أجله لأنه لا يجب له أكثر مما كان للغريم فإن أحاله, كانت الحوالة بمنزلة تقبيضه ويرجع بالأقل مما أحال به أو قدر الدين سواء قبض الغريم من المحال عليه أو أبرأه, أو تعذر عليه الاستيفاء لفلس أو مطل لأن نفس الحوالة كالإقباض. فصل: ولو كان على رجلين مائة على كل منهما نصفها, وكل واحد ضامن عن صاحبه ما عليه فضمن آخر عن أحدهما المائة بأمره وقضاها سقط الحق عن الجميع, وله الرجوع بها على الذي ضمن عنه ولم يكن له أن يرجع على الآخر بشيء في إحدى الروايتين لأنه لم يضمن عنه, ولا أذن له في القضاء فإذا رجع على الذي ضمن عنه رجع على الآخر بنصفها, إن كان ضمن عنه بإذنه لأنه ضمنها عنه بإذنه وقضاها ضامنه والرواية الثانية له الرجوع على الآخر بالمائة لأنها وجبت له على من أداها عنه, فملك الرجوع بها عليه كالأصل " فصل:


إذا ضمن عن رجل بإذنه فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لزمه الأداء عنه بأمره, فكانت له المطالبة بتبرئة ذمته وإن لم يطالب الضامن لم يملك مطالبة المضمون عنه لأنه لما لم يكن له الرجوع بالدين قبل غرامته لم يكن له المطالبة به قبل طلبه منه وفيه وجه آخر, أن له المطالبة لأنه شغل ذمته بإذنه فكانت له المطالبة بتفريغها كما لو استعار عبدا فرهنه, كان للسيد مطالبته بفكاكه وتفريغه من الرهن والأول أولى ويفارق الضمان العارية لأن السيد يتضرر بتعويق منافع عبده المستعار فملك المطالبة بما يزيل الضرر عنه والضامن لا يبطل بالضمان شيء من منافعه فأما إن ضمن عنه بغير أمره, لم يملك مطالبة المضمون عنه قبل الأداء بحال لأنه لا حق له يطالب به ولا شغل ذمته بأمره فأشبه الأجنبي وقيل: إن هذا ينبني على الروايتين في رجوعه على المضمون عنه بما أدى عنه, فإن قلنا: لا يرجع فلا مطالبة له بحال وإن قلنا: يرجع فحكمه حكم من ضمن عنه بأمره على ما مضى تفصيله. فصل:


فإن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى أحدهم الدين, برئوا جميعا فإن قضاه المضمون عنه لم يرجع على أحد وإن قضاه الضامن الأول رجع على المضمون عنه دون الضامن عنه وإن قضاه الثاني رجع على الأول, ثم رجع الأول على المضمون عنه إذا كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه فإن لم يكن أذن له, ففي الرجوع روايتان وإن أذن الأول للثاني ولم يأذن المضمون عنه أو أذن المضمون عنه لضامنه, ولم يأذن الضامن لضامنه رجع المأذون له على من أذن له ولم يرجع الآخر على إحدى الروايتين, فإن أذن المضمون عنه للضامن الثاني في الضمان ولم يأذن له الضامن الأول رجع على المضمون عنه, ولم يرجع على الضامن لأنه إنما يرجع على من أذن له دون غيره. فصل:


إذا كان له ألف على رجلين على كل واحد منهما نصفه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه, فأبرأ الغريم أحدهما من الألف برئ منه وبرئ صاحبه من ضمانه, وبقي عليه خمسمائة وإن قضاه أحدهما خمسمائة أو أبرأه الغريم منها وعين القضاء بلفظه أو ببينة عن الأصل والضمان, انصرف إليه وإن أطلق احتمل أن له صرفها إلى ما شاء منهما كمن أخرج زكاة نصاب وله نصابان غائب وحاضر, كان له صرفها إلى ما شاء منهما واحتمل أن يكون نصفها عن الأصل ونصفها عن الضمان لأن إطلاق القضاء والإبراء ينصرف إلى جملة ما في ذمته, فيكون بينهما والمعتبر في القضاء لفظ القاضي ونيته وفي الإبراء لفظ المبرئ ونيته, ومتى اختلفوا في ذلك فالقول قول من المعتبر لفظه ونيته. فصل:


ولو ادعى ألفا على حاضر وغائب وأن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه, فاعترف الحاضر بذلك فله أخذ الألف منه فإذا قدم الغائب فاعترف, رجع عليه صاحبه بنصفه وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه, وإن أنكر الحاضر فالقول قوله مع يمينه فإن قامت عليه بينة فاستوفى الألف منه, لم يرجع على الغائب بشيء لأنه بإنكاره معترف أنه لا حق له عليه وإنما المدعي ظلمه وإن اعترف الغائب وعاد الحاضر عن إنكاره فله أن يستوفي منه لأنه يدعي عليه حقا يعترف له به, فكان له أخذه منه وإن لم يقم على الحاضر بينة حلف وبرئ فإذا قدم الغائب فأنكر أيضا وحلف, برئ وإن اعترف لزمه دفع الألف وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يلزمه إلا خمس المائة الأصلية دون المضمونة لأنها سقطت عن المضمون عنه بيمينه, فتسقط عن ضامنه ولنا أنه يعترف بها وغريمه يدعيها واليمين إنما أسقطت المطالبة عنه في الظاهر, ولم تسقط عنه الحق الذي في ذمته ولهذا لو قامت عليه بينة بعد يمينه لزمه, ولزم الضامن. فصل:


ولا يدخل الضمان والكفالة خيار لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ والضمين والكفيل على بصيرة أنه لا حظ لهما ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول, فلم يدخله خيار كالنذر وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم عن أحد خلافهم فإن شرط الخيار فيهما فقال القاضي: عندي أن الكفالة تبطل, وهو مذهب الشافعي لأنه شرط ما ينافي مقتضاها ففسدت كما لو شرط أن لا يؤدى ما على المكفول به, وذلك لأن مقتضى الضمان والكفالة لزوم ما ضمنه أو كفل به والخيار ينافي ذلك ويحتمل أن يبطل الشرط وتصح الكفالة كما قلنا في الشروط الفاسدة في البيع ولو أقر بأنه كفل بشرط الخيار, لزمته الكفالة وبطل الشرط لأنه وصل بإقراره ما يبطله فأشبه استثناء الكل. فصل:


وإذا ضمن رجلان عن رجل ألفا, ضمان اشتراط فقالا: ضمنا لك الألف الذي على زيد فكل واحد منهما ضامن لنصفه وإن كانوا ثلاثة فكل واحد منهم ضامن ثلثه فإن قال واحد منهم: أنا وهذان ضامنون لك الألف فسكت الآخران فعليه ثلث الألف, ولا شيء عليهما وإن قال كل واحد منهم: كل واحد منا ضامن لك الألف فهذا ضمان اشتراك وانفراد وله مطالبة كل واحد منهم بالألف كله إن شاء وإن أدى أحدهم الألف كله أو حصته لم يرجع إلا على المضمون عنه لأن كل واحد منهم ضامن أصلي, وليس بضامن عن الضامن الآخر. مسألة:


قال [ومن كفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها] وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم هذا مذهب شريح ومالك والثوري والليث وأبي حنيفة وقال الشافعي في بعض أقواله: الكفالة بالبدن ضعيفة واختلف أصحابه فمنهم من قال: هي صحيحة قولا واحدا وإنما أراد أنها ضعيفة في القياس, وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر ومنهم من قال: فيها قولان أحدهما أنها غير صحيحة لأنها كفالة بعين فلم تصح, كالكفالة بالوجه وبدن الشاهدين ولنا قول الله تعالى: {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]. ولأن ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال إذا ثبت هذا, فإنه متى تعذر على الكفيل إحضار المكفول به مع حياته أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه وقال أكثرهم: لا يغرم ولنا عموم قوله عليه السلام: (الزعيم غارم) ولأنها أحد نوعى الكفالة, فوجب بها الغرم كالكفالة بالمال. فصل:


وتصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم بدين لازم سواء كان الدين معلوما أو مجهولا وقال بعض أصحاب الشافعية: لا تصح بمن عليه دين مجهول لأنه قد يتعذر إحضار المكفول به, فيلزمه الدين ولا يمكن طلبه منه لجهله ولنا أن الكفالة بالبدن لا بالدين, والبدن معلوم فلا تبطل الكفالة لاحتمال عارض ولأنا قد تبينا أن ضمان المجهول يصح, وهو التزام المال ابتداء فالكفالة التي لا تتعلق بالمال ابتداء أولى وتصح الكفالة بالصبي والمجنون لأنهما قد يجب إحضارهما مجلس الحكم للشهادة عليهما بالإتلاف وإذن وليهما يقوم مقام إذنهما وتصح الكفالة ببدن المحبوس والغائب وقال أبو حنيفة: لا تصح ولنا, أن كل وثيقة صحت مع الحضور صحت مع الغيبة والحبس كالرهن والضمان ولأن الحبس لا يمنع من التسليم, لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم أو أمر من حبسه ثم يعيده إلى الحبس بالحقين جميعا, والغائب يمضي إليه فيحضره إن كانت الغيبة غير منقطعة وهو أن يعلم خبره وإن لم يعلم خبره, لزمه ما عليه: قاله القاضي وقال في موضع آخر: لا يلزمه ما عليه حتى تمضي مدة يمكنه الرد فيها فلا يفعل. فصل:


ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد سواء كان حقا لله تعالى, كحد الزنى والسرقة أو لآدمي كحد القذف والقصاص وهذا قول أكثر أهل العلم منهم شريح والحسن وبه قال إسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي في حدود الله تعالى, واختلف قوله في حدود الآدمي فقال في موضع: لا كفالة في حدود الآدمي ولا لعان وقال في موضع: تجوز الكفالة بمن عليه حق أو حد لأنه حق لآدمي فصحت الكفالة به, كسائر حقوق الآدميين ولنا ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال (لا كفالة في حد) ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه كحدود الله تعالى, ولأن الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق, ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به فلم تصح الكفالة بمن هو عليه, كحد الزنى. فصل:


ولا تجوز الكفالة بالمكاتب من أجل دين الكتابة لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة. فصل:


وتصح الكفالة حالة ومؤجلة كما يصح الضمان حالا ومؤجلا, وإذا أطلق كانت حالة لأن كل عقد يدخله الحلول اقتضى إطلاقه الحلول كالثمن والضمان فإذا تكفل حالا كان له مطالبته بإحضاره, فإن أحضره وهناك يد حائلة ظالمة لم يبرأ منه ولم يلزم المكفول له تسلمه لأنه لا يحصل له غرضه وإن لم يكن يد حائلة لزمه قبوله, فإن قبله برئ من الكفالة وقال ابن أبي موسى: لا يبرأ حتى يقول: قد برئت إليك منه أو قد سلمته إليك أو قد أخرجت نفسي من كفالته والصحيح الأول لأنه عقد على عمل فبرئ منه بالعمل المعقود عليه كالإجارة, فإن امتنع من تسلمه برئ لأنه أحضر ما يجب تسليمه عند غريمه وطلب منه تسلمه على وجه لا ضرر في قبضه فبرئ منه كالمسلم فيه وقال بعض أصحابنا: إذا امتنع من تسلمه, أشهد على امتناعه رجلين وبرئ لأنه فعل ما وقع العقد على فعله فبرئ منه وقال القاضي: يرفعه إلى الحاكم فيسلمه إليه فإن لم يجد حاكما أشهد شاهدين على إحضاره وامتناع المكفول له من قبوله والأول أصح فإن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى نائبه, كحاكم أو غيره وإن كانت الكفالة مؤجلة لم يلزم إحضاره قبل الأجل كالدين المؤجل, فإذا حل الأجل فأحضره وسلمه برئ وإن كان غائبا أو مرتدا لحق بدار الحرب لم يؤخذ بالحق حتى يمضي زمن يمكن المضي إليه وإعادته وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال لأن الحق قد توجه عليه ولنا أن الحق يعتبر في وجوب أدائه إمكان التسليم وإن كان حالا كالدين, فإذا مضت مدة يمكن إحضاره فيها ولم يحضره أو كانت الغيبة منقطعة لا يعلم خبره أو امتنع من إحضاره مع إمكانه, أخذ بما عليه وقال أصحاب الشافعي: إن كانت الغيبة منقطعة لا يعلم مكانه لم يطالب الكفيل بإحضاره ولم يلزمه شيء, وإن امتنع من إحضاره مع إمكانه حبس وقد دللنا على وجوب الغرم فيما مضى وإن أحضر المكفول به قبل الأجل ولا ضرر في تسليمه لزمه وإن كان فيه ضرر, مثل أن تكون حجة الغريم غائبة أو لم يكن يوم مجلس الحاكم أو الدين مؤجل عليه لا يمكن اقتضاؤه منه, أو قد وعده بالإنظار في تلك المدة لم يلزمه قبوله كما نقول في من دفع الدين المؤجل قبل حلوله. فصل:


وإذا عين في الكفالة تسليمه في مكان, فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال القاضي: إن أحضره بمكان آخر من البلد وسلمه برئ من الكفالة وقال بعض أصحابنا: متى أحضره في أي مكان كان, وفي ذلك الموضع سلطان برئ من الكفالة لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحاكم ويمكن إثبات الحجة فيه وقيل: إن كان عليه ضرر في إحضاره بمكان آخر, لم يبرأ الكفيل بإحضاره فيه وإلا برئ كقولنا فيما إذا أحضره قبل الأجل ولأصحاب الشافعي اختلاف على نحو ما ذكرنا ولنا, أنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غيره فلم يبرأ كما لو أحضر المسلم فيه في غير هذا الموضع الذي شرطه, ولأنه قد سلم في موضع لا يقدر على إثبات الحجة فيه لغيبة شهوده أو غير ذلك, وقد يهرب منه ولا يقدر على إمساكه يفارق ما إذا أحضره قبل الأجل, فإنه عجل الحق قبل أجله فزاده خيرا فإذا لم يكن فيه ضرر وجب قبوله وإن وقعت الكفالة مطلقة, وجب تسليمه في مكان العقد كالسلم فإن سلمه في غيره فهو كتسليمه في غير المكان الذي عينه وإن كان المكفول به محبوسا عند غير الحاكم, لم يلزمه تسليمه محبوسا لأن ذلك الحبس يمنعه استيفاء حقه وإن كان محبوسا عند الحاكم فسلمه إليه محبوسا لزمه تسليمه لأن حبس الحاكم لا يمنعه استيفاء حقه وإذا طالب الحاكم بإحضاره أحضره مجلسه, وحكم بينهما ثم يرده إلى الحبس فإن توجه عليه حق للمكفول له حبسه بالحق الأول أو حق المكفول له. فصل: وإن كفل إلى أجل مجهول, لم تصح الكفالة وبهذا قال الشافعي لأنه ليس له وقت يستحق مطالبته فيه وهكذا الضمان وإن جعله إلى الحصاد والجزاز والعطاء خرج على الوجهين, كالأجل في البيع والأولى صحتها هنا لأنه تبرع من غير عوض جعل له أجلا لا يمنع من حصول المقصود منه, فصح كالنذر وهكذا كل مجهول لا يمنع مقصود الكفالة وقد روي مهنا عن أحمد في رجل كفل رجلا آخر, فقال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فما عليه على فقال: لا أدري ولكن إن قال: ساعة كذا لزمه فنص على تعيين الساعة وتوقف عن تعيين الوقت, ولعله أراد وقتا متسعا أو وقت شيء يحدث مثل وقت الحصاد ونحوه فأما إن قال: وقت طلوع الشمس, ونحو ذلك صح وإن قال: إلى الغد أو شهر كذا تعلق بأوله على ما ذكرنا في السلم. فصل:


وإذا تكفل برجل إلى أجل, إن جاء به فيه وإلا لزمه ما عليه صح وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف: وقال محمد بن الحسن والشافعي: لا تصح الكفالة, ولا يلزمه ما عليه لأن هذا تعليق الضمان بخطر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد ولنا أن هذا موجب الكفالة ومقتضاها, فصح اشتراطه كما لو قال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فلك حبسي ومبنى الخلاف ها هنا على الخلاف في أن هذا مقتضي الكفالة, وقد دللنا عليه وأما إن قال: إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان أو فأنا ضامن لك مالك على فلان أو قال: إذا جاء زيد فأنا ضامن لك ما عليه أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل بفلان أو قال: أنا كفيل بفلان شهرا فقال القاضي: لا تصح الكفالة وهو مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن لأن ذلك خطر فلم يجز تعليق الضمان والكفالة به, كمجيء المطر وهبوب الريح ولأنه إثبات حق لآدمي معين فلم يجز تعليقه على شرط, ولا توقيته كالهبة وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب: تصح, وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه أضاف الضمان إلى سبب الوجود فيجب أن يصح كضمان الدرك والأول أقيس فإن قال: كفلت بفلان إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل بفلان, أو ضامن المال الذي على فلان لم يصح فيهما عند القاضي لأن الأول مؤقت والثاني معلق على شرط وقال أبو الخطاب: يصح فيهما فأما إن قال: كفلت بأحد هذين الرجلين لم يصح في قولهم جميعا لأنه غير معلوم في الحال ولا في المآل. فصل:


فإن قال: كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل أو على أن تبرئه من الكفالة لم يصح لأنه شرط شرطا لا يلزم الوفاء به, فيكون فاسدا وتفسد الكفالة به ويحتمل أن تصح الكفالة لأنه شرط تحويل الوثيقة التي على الكفيل إليه فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلا أن يبرئ المكفول له الكفيل الأول لأنه إنما كفل بهذا الشرط فلا تثبت كفالته بدون شرطه وإن قال: كفلت لك بهذا الغريم, على أن تبرئني من الكفالة بفلان أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر أو على أن تبرئني من الكفالة بفلان خرج فيه الوجهان, والأولى أنه لا يصح لأنه شرط فسخ عقد في عقد فلم يصح كالبيع بشرط فسخ بيع آخر وكذلك لو شرط في الكفالة أو الضمان أن يتكفل المكفول له أو المكفول به بآخر, أو يضمن دينا عليه أو يبيعه شيئا عينه أو يؤجره داره, لم يصح لما ذكرنا. فصل:


ولو تكفل اثنان بواحد صح وأيهم قضى الدين برئ الآخران لما ذكرنا في الضمان وإن سلم المكفول به نفسه برئ كفيلاه لأنه أتى بما يلزم الكفيلين, وهو إحضار نفسه فبرئت ذمتهما كما لو قضى الدين وإن أحضر أحد الكفيلين, لم يبرأ الآخر لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء فلم تنحل الأخرى كما لو أبرأ أحدهما, أو انفك أحد الرهنين من قضاء الحق وفارق ما إذا سلم المكفول به نفسه لأنه أصل لهما فإذا برئ الأصل مما تكفل به عنه برئ فرعاه, وكل واحد من الكفيلين ليس بفرع للآخر فلم يبرأ ببراءته ولذلك لو أبرأ المكفول به برئ كفيلاه ولو أبرئ أحد الكفيلين برئ وحده دون صاحبه. فصل:


ولو تكفل واحد لاثنين, فأبرأه أحدهما أو أحضره عند أحدهما لم يبرأ من الآخر لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين, فقد التزم إحضاره عند كل واحد منهما فإذا أحضره عند واحد برئ منه, وبقي حق الآخر كما لو كان في عقدين وكما لو ضمن دينا لرجلين, فوفى أحدهما حقه " فصل:


وإذا قال رجل لآخر: اضمن عن فلان أو اكفل بفلان ففعل كان الضمان والكفالة لازمين للمباشر دون الآمر لأنه كفل باختيار نفسه, وإنما الأمر إرشاد وحث على فعل خير فلم يلزمه به بشيء. مسألة:


قال: [فإن مات برئ المتكفل] وجملته أنه إذا مات المكفول به, سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شيء وبهذا قال شريح والشعبي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة, والشافعي وقال الحكم ومالك والليث: يجب على الكفيل غرم ما عليه وحكى ذلك عن ابن شريح لأن الكفيل وثيقة بحق فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن ولأنه تعذر إحضاره, فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به, فبرئ الكفيل كما لو برئ من الدين ولأن ما التزمه من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع, كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبرئ منه وفارق ما إذا غاب, فإن الحضور لم يسقط عنه ويفارق الرهن فإنه علق به المال فاستوفى منه. فصل:


إذا قال الكفيل: قد برئ المكفول به من الدين, وسقطت الكفالة أو قال: لم يكن عليه دين حين كفلته فأنكر المكفول له فالقول قوله لأن الأصل صحة الكفالة وبقاء الدين وعليه اليمين, فإن نكل قضى عليه ويحتمل أن لا يستحلف فيما إذا ادعى الكفيل أنه تكفل بمن لا دين عليه لأن الكفيل مكذب لنفسه فيما ادعاه فإن من كفل بشخص معترف بدينه في الظاهر والأول أولى لأن ما ادعاه محتمل. فصل:


وإذا قال المكفول له للكفيل: أبرأتك من الكفالة برئ لأنه حقه, فيسقط بإسقاطه كالدين وإن قال: قد برئت إلى منه أو قد رددته إلى برئ أيضا لأنه معترف بوفاء الحق فهو كما لو اعترف بذلك في الضمان وكذلك إذا قال: برئت من الدين الذي كفلت به يبرأ الكفيل في هذه المواضع دون المكفول به ولا يكون إقرارا بقبض الحق وهذا قول محمد بن الحسن وقيل: يكون إقرارا بقبض الحق, فيما إذا قال: برئت من الدين الذي كفلت به والأول أصح لأنه يمكن براءته بدون قبض الحق بإبراء المستحق أو موت المكفول به فأما إن قال للمكفول به: أبرأتك عما لي قبلك من الحق أو برئت من الدين الذي قبلك فإنه يبرأ من الحق, وتزول الكفالة لأنه لفظ يقتضي العموم في كل ما قبله وإن قال: برئت من الدين الذي كفل به فلان برئ وبرئ كفيله. فصل:


فإذا قال: أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع على الآمر, ولم يكن له ذلك كفالة ولا ضمانا إلا أن يقول: أعطه عني وقال أبو حنيفة: يرجع عليه إذا كان خليطا له لأن العادة أن يستقرض من خليطه ولنا أنه لم يقل: أعطه عني فلم يلزمه الضمان, كما لو لم يكن خليطا ولا يلزم إذا كان له عليه مال فقال: أعطه فلانا حيث يلزمه لأنه لا يلزمه لأجل هذا القول بل لأن عليه حقا يلزمه أداؤه. فصل:


إذا كانت السفينة في البحر, وفيها متاع فخيف غرقها فألقي بعض من فيها متاعه في البحر لتخف, لم يرجع به على أحد سواء ألقاه محتسبا بالرجوع أو متبرعا لأنه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان فإن قال له بعضهم: ألق متاعك فألقاه فكذلك لأنه لا يكرهه على إلقائه ولا ضمن له وإن قال: ألقه, وعلى ضمانه فألقاه فعلى القائل ضمانه ذكره أبو بكر لأن ضمان ما لم يجب صحيح وإن قال: ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له ففعل فقال أبو بكر يضمنه القائل وحده, إلا أن يتطوع بقيتهم قال القاضي: إن كان ضمان اشتراك فليس عليه إلا ضمان حصته لأنه لم يضمن الجميع إنما يضمن حصته, وأخبر عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره فلزمته حصته ولم يقبل قوله في حق الباقين, وإن كان ضمان اشتراك وانفراد بأن يقول: كل واحد منا ضامن لك متاعك أو قيمته لزم القائل ضمان الجميع وسواء قال هذا والباقون يسمعون فسكتوا, أو قالوا: لا نفعل أو لم يسمعوا لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق. فصل:


قال مهنا: سألت أحمد عن رجل له على رجل ألف درهم فأقام بها كفيلين, كل واحد منهما كفيل ضامن فأيهما شاء أخذه بحقه فأحال رب المال عليه رجلا بحقه؟ فقال: يبرأ الكفيلان قلت: فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئا؟ قال: لا شيء له, ويذهب الألف.


===============

ج14. كتاب الصلح منمصنف المغني لموفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي





المغني - كتاب الصلح


المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

(الجزء الثاني عشر – كتاب الصلح) • كتاب الصلح o مسألة: الخلاف في أن الصلح يكون عند الإقرار أو عند الإنكار وأقسامه o فصل: ادعاء الوديعة أو القرض o فصل: مصالحة الأجنبي عن المنكر تصح o فصل: مصالحة الأجنبي المدعي لنفسه o فصل: قول الأجنبي للمدعي: أنا وكيل المدعى عليه في مصالحتك o مسألة: من اعترف بحق فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحًا o فصل: إن ادعى على رجل بيتًا فصالحه على بعضه o فصل: إذا صالحه بخدمة عبده سنة صح وكانت إجارة o فصل: إذا ادعى زرعًا في يد رجل فأقر له به ثم صالحه منه على دراهم جاز o فصل: إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره o فصل: أيما شجرة ظللت على قوم فهم بالخيار بين قطع ما ظلل أو أكل ثمرها o فصل: الحكم في كل ما امتد من عروق شجرة إنسان إلى أرض جاره o فصل: التصالح على المؤجل ببعضه حالاً لا يجوز o فصل: يصح الصلح عن المجهول سواء كان عينًا أو دينًا o فصل: ما بالإمكان معرفته كتركة موجودة ويجهله صاحبه فلا يصح o فصل: يصح الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه o فصل: عدم جواز المصالحة عن المائة الثابتة في الذمة بالإتلاف بمائة مؤجلة o فصل: لو صالح عن القصاص بعبد فخرج مستحقًا رجع بقيمته o فصل: لو صالح عن دار أو عبد بعوض فوجد العوض مستحقًا أو حرًا رجع في الدار o فصل: التصالح عن القصاص بحر يعلمان حريته o فصل: إذا صالح رجلًا على موضع قناة من أرضه o فصل: إن صالح رجلاً على إجراء ماء سطحه من المطر o فصل: إذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة o فصل: إن صالح رجلاً على أن يسقي أرضه من نهر الرجل يومًا أو يومين o فصل: لا يصح الصلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه o فصل: إن ادعى على رجل أنه عبده فأنكره o فصل: لو صالح شاهدًا على أن لا يشهد عليه o فصل: لا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحًا o فصل: لا يجوز أن يبني في الطريق دكانًا o فصل: لا يجوز أن يبني دكانًا ولا يخرج روشنًا ولا ساباطًا o فصل: عدم جواز حفر البئر النافذة في الطريق o فصل: لا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم o فصل: لا يجوز أن يفتح في الحائط المشترك طاقًا ولا بابًا إلا بإذن شريكه o فصل: لا يجوز وضع خشبة على الجدار الضعيف إذا كان يضر بالحائط o فصل: ما يجوز في ملك الجار ففي حقوق الله تعالى أولى o فصل: من ملك وضع خشبه على حائط فزال بسقوطه أو قلعه أو سقوط الحائط ثم أعيد فله إعادة خشبه o فصل: لو كان له وضع خشبه على جدار غيره لم يملك إعارته ولا إجارته o فصل: إذا أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه أو وضع سترة عليه أو وضع خشبه o فصل: إن أذن له في وضع خشبه أو البناء على جداره o فصل: إذا وجد بناؤه أو خشبه على حائط مشترك أو حائط جاره ولم يعلم سببه فمتى زال فله إعادته o فصل: إذا ادعى رجل دارًا في يد أخوين فأنكره أحدهما o مسألة: إذا تداعى نفسان جدارًا معقودًا ببناء كل واحد منهما تحالفا o فصل: إن كان لأحدهما عليه بناء كحائط مبني عليه أو عقد معتمد عليه أو قبة ونحوها فهو له o فصل: إن كان لأحدهما خشب موضوع لا ترجح دعواه بذلك o فصل: لا ترجح الدعوى بكون الدواخل إلى أحدهما والخوارج o فصل: إن تنازع صاحب العلو والسفل في حوائط البيت السفلاني فهي لصاحب السفل o فصل: تنازع صاحب العلو والسفل في الدرجة التي يصعد منها o فصل: لو تنازعا مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر o فصل: إذا كان بينهما حائط فطلب أحدهما إعادته فأبى الآخر o فصل: إن لم يكن بين ملكيهما حائط قديم فطلب أحدهما من الآخر مباناته حائطا o فصل: إن كان السفل لرجل والعلو لآخر o فصل: إن كان بين البيتين حائط لأحدهما o فصل: هدم أحد الشريكين الحائط المشترك o فصل: إن اتفقا على بناء الحائط المشترك بينهما نصفين وملكه بينهما الثلث والثلثان لم يصح o فصل: إن كان بين مالكين نهر أو قناة أو دولاب أو ناعورة o فصل: إذا كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ o فصل: إذا كان لرجل داران متلاصقتان o فصل: تنازع صاحب البابين في الدرب وتداعياه o فصل: ليس للرجل التصرف في ملكه تصرفًا يضر بجاره o فصل: إن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب الأعلى الصعود على سطحه o فصل: إذا كانت بين المالكين عرصة حائط o فصل: إن كان بين المالكين حائط فاتفقا على قسمته طولًا جاز

كتاب الصلح الصلح معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين ويتنوع أنواعا صلح بين المسلمين وأهل الحرب, وصلح بين أهل العدل وأهل البغي وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9]. وقال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} [النساء: 128]. وروى أبو هريرة, أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: (الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وروي عن عمر, أنه كتب إلى أبي موسى بمثل ذلك وأجمعت الأمة على جواز الصلح في هذه الأنواع التي ذكرناها ولكل واحد منها باب يفرد له, يذكر فيه أحكامه وهذا الباب للصلح بين المتخاصمين في الأموال وهو نوعان صلح على إقرار وصلح على إنكار ولم يسم الخرقي الصلح إلا في الإنكار خاصة. مسألة:


قال: [والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه, فيصطلحان على بعضه فإن كان يعلم ما عليه فجحده, فالصلح باطل] وجملة ذلك أن الصلح على الإنكار صحيح وبه قال مالك وأبو حنيفة, وقال الشافعي: لا يصح لأنه عاوض على ما لم يثبت له فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره ولأنه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه, فبطل كالصلح على حد القذف ولنا عموم قوله: عليه السلام (الصلح بين المسلمين جائز) فيدخل هذا في عموم قوله فإن قالوا: فقد قال: (إلا صلحا أحل حراما) وهذا داخل فيه لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المدعى عليه, فحل بالصلح قلنا: لا نسلم دخوله فيه ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين أحدهما أن هذا يوجد في الصلح بمعنى البيع, فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله وكذلك الصلح بمعنى الهبة فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه, الإسقاط يحل له ترك أداء ما كان واجبا عليه الثاني أنه لو حل به المحرم لكان الصلح صحيحا, فإن الصلح الفاسد لا يحل الحرام وإنما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه كما لو صالحه على استرقاق حر, أو إحلال بضع محرم أو صالحه بخمر أو خنزير وليس ما نحن فيه كذلك وعلى أنهم لا يقولون بهذا فإنهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه, أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه فإذا حل له ذلك من غير اختياره ولا علمه فلأن يحل برضاه وبذله أولى, وكذلك إذا حل مع اعتراف الغريم فلأن يحل مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بذلك أولى ولأن المدعي ها هنا يأخذ عوض حقه الثابت له, والمدعى عليه يدفعه لدفع الشر عنه وقطع الخصومة ولم يرد الشرع بتحريم ذلك في موضع, ولأنه صلح يصح مع الأجنبي فصح مع الخصم كالصلح مع الإقرار يحققه أنه إذا صح مع الأجنبي مع غناه عنه فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه أولى وقولهم: إنه معاوضة قلنا: في حقهما أم في حق أحدهما؟ الأول ممنوع, والثاني مسلم وهذا لأن المدعي يأخذ عوض حقه من المنكر لعلمه بثبوت حقه عنده فهو معاوضة في حقه والمنكر يعتقد أنه يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه, ويخلصه من شر المدعي فهو أبرأ في حقه وغير ممتنع ثبوت المعاوضة في حق أحد المتعاقدين دون الآخر, كما لو اشترى عبدا شهد بحريته فإنه يصح ويكون معاوضة في حق البائع واستنقاذا له من الرق في حق المشتري, كذا ها هنا إذا ثبت هذا فلا يصح هذا الصلح إلا أن يكون المدعي معتقدا أن ما ادعاه حق, والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه فيدفع إلى المدعي شيئا افتداء ليمينه وقطعا للخصومة, وصيانة لنفسه عن التبذل وحضور مجلس الحاكم فإن ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك, ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم, والمدعي يأخذ ذلك عوضا عن حقه الثابت له فلا يمنعه الشرع من ذلك أيضا سواء كان المأخوذ من جنس حقه, أو من غير جنسه بقدر حقه أو دونه فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوف له, وإن أخذ دونه فقد استوفى بعضه وترك بعضه وإن أخذ من غير جنس حقه فقد أخذ عوضه ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقه أكثر مما ادعاه لأن الزائد لا مقابل له, فيكون ظالما بأخذه وإن أخذ من غير جنسه جاز ويكون بيعا في حق المدعي لاعتقاده أخذه عوضا فيلزمه حكم إقراره فإن كان المأخوذ شقصا في دار أو عقار, وجبت فيه الشفعة وإن وجد به عيبا فله رده والرجوع في دعواه, ويكون في حق المنكر بمنزلة الإبراء لأنه دفع المال افتداء ليمينه ودفعا للضرر عنه, لا عوضا عن حق يعتقده فيلزمه أيضا حكم إقراره فإن وجد بالمصالح عنه عيبا لم يرجع به على المدعي لاعتقاده أنه ما أخذ عوضا وإن كان شقصا لم تثبت فيه الشفعة لأنه يعتقده على ملكه لم يزل, وما ملكه بالصلح ولو دفع المدعى عليه إلى المدعي ما ادعاه أو بعضه لم يثبت فيه حكم البيع ولا تثبت فيه الشفعة لأن المدعي يعتقد أنه استوفى بعض حقه وأخذ عين ماله, مسترجعا لها ممن هي عنده فلم يكن بيعا كاسترجاع العين المغصوبة, فأما إن كان أحدهما كاذبا مثل أن يدعي المدعي شيئا يعلم أنه ليس له وينكر المنكر حقا يعلم أنه عليه, فالصلح باطل في الباطن لأن المدعي إذا كان كاذبا فما يأخذه أكل مال بالباطل أخذه بشره وظلمه ودعواه الباطلة, لا عوضا عن حق له فيكون حراما عليه كمن خوف رجلا بالقتل حتى أخذ ماله, وإن كان صادقا والمدعى عليه يعلم صدقه وثبوت حقه فجحده لينتقص حقه, أو يرضيه عنه بشيء فهو هضم للحق وأكل مال بالباطل فيكون ذلك حراما, والصلح باطل ولا يحل له مال المدعي بذلك وقد ذكره الخرقي في قوله " وإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل " يعني في الحقيقة, وأما الظاهر لنا فهو الصحة لأننا لا نعلم باطن الحال وإنما ينبني الأمر على الظواهر والظاهر, من المسلم السلامة. فصل:


ولو ادعى على رجل وديعة أو قرضا أو تفريطا في وديعة أو مضاربة, فأنكره واصطلحا صح لما ذكرناه. فصل:


وإن صالح عن المنكر أجنبي صح, سواء اعترف للمدعي بصحة دعواه أو لم يعترف وسواء كان بإذنه أو غير إذنه وقال أصحاب الشافعي: إنما يصح إذا اعترف للمدعي بصدقه وهذا مبني على صلح المنكر, وقد ذكرناه ثم لا يخلو الصلح إما أن يكون عن دين أو عين فإن كان عن دين, صح سواء كان بإذن المنكر أو بغير إذنه لأن قضاء الدين عن غيره جائز بإذنه وبغير إذنه, فإن (عليا وأبا قتادة رضي الله عنهما قضيا عن الميت فأجازه النبي ـ ﷺ ـ ) وإن كان الصلح عن عين بإذن المنكر فهو كالصلح منه لأن الوكيل يقوم مقام الموكل وإن كان بغير إذنه, فهو افتداء للمنكر من الخصومة وإبراء له من الدعوى وذلك جائز وفي الموضعين, إذا صالح عنه بغير إذنه لم يرجع عليه بشيء لأنه أدى عنه مالا يلزمه أداؤه وخرجه القاضي وأبو الخطاب على الروايتين فيما إذا قضى دينه الثابت بغير إذنه وليس هذا بجيد لأن هذا لم يثبت وجوبه على المنكر, ولا يلزمه أداؤه إلى المدعي فكيف يلزمه أداؤه إلى غيره ولأنه أدى عنه ما لا يجب عليه, فكان متبرعا كما لو تصدق عنه ومن قال برجوعه فإنه يجعله كالمدعي في الدعوى على المنكر لا غير, أما أن يجب له الرجوع بما أداه حتما فلا وجه له أصلا لأن أكثر ما يجب لمن قضى دين غيره أن يقوم مقام صاحب الدين وصاحب الدين ها هنا لم يجب له حق, ولا لزم الأداء إليه ولا يثبت له أكثر من جواز الدعوى فكذلك هذا ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي, فأما إن لم يعلم لم يحل له دعوى بشيء لا يعلم ثبوته وأما ما إذا صالح عنه بإذنه, فهو وكيله والتوكيل في ذلك جائز ثم إن أدى عنه بإذنه رجع إليه, وهذا قول الشافعي وإن أدى عنه بغير إذنه متبرعا لم يرجع بشيء وإن قضاه محتسبا بالرجوع خرج على الروايتين في من قضى دين غيره بغير إذنه لأنه قد وجب عليه أداؤه بعقد الصلح, بخلاف ما إذا صالح وقضى بغير إذنه فإنه قضى ما لا يجب على المنكر قضاؤه. فصل:


وإن صالح الأجنبي المدعي لنفسه لتكون المطالبة له فلا يخلو من أن يعترف للمدعي بصحة دعواه, أو لا يعترف له فإن لم يعترف له كان الصلح باطلا لأنه يشتري منه ما لم يثبت له, ولم تتوجه إليه خصومة يفتدي منها فأشبه ما لو اشترى منه ملك غيره وإن اعترف له بصحة دعواه وكان المدعي دينا, لم يصح لأنه اشترى ما لا يقدر البائع على تسليمه ولأنه بيع للدين من غير من هو في ذمته ومن أصحابنا من قال: يصح وليس بجيد لأن بيع الدين المقر به من غير من هو في ذمته لا يصح فبيع دين في ذمة منكر معجوز عن قبضه أولى وإن كان المدعي عينا, فقال الأجنبي للمدعي: أنا أعلم أنك صادق فصالحني عنها فإني قادر على استنقاذها من المنكر فقال أصحابنا: يصح الصلح وهو مذهب الشافعي لأنه اشترى منه ملكه الذي يقدر على تسليمه ثم إن قدر على انتزاعه, استقر الصلح وإن عجز كان له الفسخ لأنه لم يسلم له المعقود عليه, فكان له الرجوع إلى بدله ويحتمل أنه إن تبين أنه لا يقدر على تسليمه تبين أن الصلح كان فاسدا لأن الشرط الذي هو القدرة على قبضه معدوم حال العقد فكان فاسدا, كما لو اشترى عبده فتبين أنه آبق أو ميت ولو اعترف له بصحة دعواه ولا يمكنه استيفاؤه, لم يصح الصلح لأنه اشترى ما لا يمكنه قبضه منه فأشبه شراء العبد الآبق والجمل الشارد فإن اشتراه وهو يظن أنه عاجز عن قبضه, فتبين أن قبضه ممكن صح البيع لأن البيع تناول ما يمكن قبضه فصح, كما لو علما ذلك ويحتمل أن لا يصح لأنه ظن عدم الشرط فأشبه ما لو باع عبدا يظن أنه حر أو أنه عبد غيره فتبين أنه عبده ويحتمل أن يفرق بين من يعلم أن البيع يفسد بالعجز عن تسليم المبيع, وبين من لا يعلم ذلك لأن من يعلم ذلك يعتقد فساد البيع والشراء فكان بيعه فاسدا لكونه متلاعبا بقوله: معتقدا فساده ومن لا يعلم يعتقده صحيحا, وقد تبين اجتماع شروطه فصح كما لو علمه مقدورا على تسليمه. فصل:


فإن قال الأجنبي للمدعي: أنا وكيل المدعى عليه في مصالحتك عن هذه العين, وهو مقر لك بها وإنما يجحدها في الظاهر فظاهر كلام الخرقي أن الصلح لا يصح لأنه يجحدها في الظاهر لينتقص المدعي بعض حقه أو يشتريه بأقل من ثمنه, فهو هاضم للحق يتوصل إلى أخذ المصالح عنه بالظلم والعدوان فهو بمنزلة ما لو شافهه بذلك, فقال: أنا أعلم صحة دعواك وأن هذا لك ولكن لا أسلمه إليك, ولا أقر لك به عند الحاكم حتى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه وقال القاضي: يصح وهذا مذهب الشافعي قالوا: ثم ينظر إلى المدعى عليه فإن صدقه على ذلك, ملك العين ورجع على الأجنبي وعليه بما أدى عنه إن كان أذن له في الدفع, وإن أنكر الإذن في الدفع فالقول قوله مع يمينه ويكون حكمه حكم من قضى دينه بغير إذنه وإن أنكر الوكالة, فالقول قوله مع يمينه وليس للأجنبي الرجوع عليه ولا يحكم له بملكها فأما حكم ملكها في الباطن, فإن كان وكل الأجنبي في الشراء فقد ملكها لأنه اشتراها بإذنه فلا يقدح إنكاره في ملكها لأن ملكه ثبت قبل إنكاره, وإنما هو ظالم بالإنكار للأجنبي وإن كان لم يوكله لم يملكها لأنه اشترى له عينا بغير إذنه, ويحتمل أن يقف على إجازته كما قلنا في من اشترى لغيره شيئا بغير إذنه بثمن في ذمته فإن أجازه, لزم في حقه وإن لم يجزه لزم من اشتراه وإن قال الأجنبي للمدعي: قد عرف المدعي عليه صحة دعواك وهو يسألك أن تصالحه عنه, وقد وكلني في المصالحة عنه فصالحه صح وكان الحكم كما ذكرنا لأنه ها هنا لم يمتنع من أدائه بل اعترف به, وصالحه عليه مع بذله له فأشبه ما لو لم يجحده. مسألة: قال: [ومن اعترف بحق, فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحا لأنه هضم للحق] وجملته أن من اعترف بحق وامتنع من أدائه حتى صولح على بعضه فالصلح باطل لأنه صالح عن بعض ماله ببعض, وهذا محال وسواء كان بلفظ الصلح أو بلفظ الإبراء أو بلفظ الهبة المقرون بشرط, مثل أن يقول: أبرأتك عن خمسمائة أو وهبت لك خمسمائة بشرط أن تعطيني ما بقي ولو لم يشترط, إلا أنه لم يعط بعض حقه إلا بإسقاطه بعضه فهو حرام أيضا لأنه هضمه حقه قال ابن أبي إسحاق: الصلح على الإقرار هضم للحق فمتى ألزم المقر له ترك بعض حقه, فتركه عن غير طيب نفسه لم يطب الأخذ وإن تطوع المقر له بإسقاط بعض حقه بطيب من نفسه جاز, غير أن ذلك ليس بصلح ولا من باب الصلح بسبيل ولم يسم الخرقي الصلح إلا في الإنكار, على الوجه الذي قدمنا ذكره فأما في الاعتراف فإذا اعترف بشيء وقضاه من جنسه, فهو وفاء وإن قضاه من غير جنسه فهي معاوضة, وإن أبرأه من بعضه اختيارا منه واستوفى الباقي فهو إبراء, وإن وهب له بعض العين وأخذ باقيها بطيب نفس فهي هبة فلا يسمى ذلك صلحا ونحو ذلك قال ابن أبي موسى وسماه القاضي وأصحابه صلحا وهو قول الشافعي وغيره والخلاف في التسمية, أما المعنى فمتفق عليه وهو فعل ما عدا وفاء الحق وإسقاطه على وجه يصح, وذلك ثلاثة أقسام معاوضة وإبراء وهبة فأما المعاوضة, فهو أن يعترف له بعين في يده أو دين في ذمته ثم يتفقان على تعويضه عن ذلك بما يجوز تعويضه به, وهذا ثلاثة أضرب أحدها أن يعترف له بأحد النقدين فيصالحه الآخر, نحو أن يعترف له بمائة درهم فيصالحه منها بعشرة دنانير أو يعترف له بعشرة دنانير, فيصالحه على مائة درهم فهذا صرف يشترط له شروط الصرف, من التقابض في المجلس ونحوه الثاني أن يعترف له بعروض فيصالحه على أثمان, أو بأثمان فيصالحه على عروض فهذا بيع يثبت فيه أحكام البيع وإن اعترف له بدين فصالحه على موصوف في الذمة, لم يجز التفرق قبل القبض لأنه بيع دين بدين الثالث أن يصالحه على سكنى دار أو خدمة عبد ونحوه, أو على أن يعمل له عملا معلوما فيكون ذلك إجارة لها حكم سائر الإجارات وإذا أتلف الدار أو العبد قبل استيفاء شيء من المنفعة, انفسخت الإجارة ورجع بما صالح عنه وإن تلفت بعد استيفاء شيء من المنفعة انفسخت فيما بقي من المدة, ورجع بقسط ما بقي ولو صالحه على أن يزوجه جاريته وهو ممن يجوز له نكاح الإماء صح وكان المصالح عنه صداقها, فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمر يسقط الصداق رجع الزوج بما صالح عنه وإن طلقها قبل الدخول, رجع بنصفها وإن كان المعترف امرأة فصالحت المدعي على أن تزوجه نفسها, جاز ولو كان المعترف به عيبا في مبيعها فصالحته على نكاحها صح فإن زال العيب رجعت بأرشه لأن ذلك صداقها, فرجعت به لا بمهر مثلها وإن لم يزل العيب لكن انفسخ نكاحها بما يسقط صداقها, رجع عليها بأرشه القسم الثاني الإبراء وهو أن يعترف له بدين في ذمته, فيقول: قد أبرأتك من نصفه أو جزء معين منه فأعطني ما بقي فيصح إذا كانت البراءة مطلقة من غير شرط قال أحمد: إذا كان للرجل على الرجل الدين ليس عنده وفاء فوضع عنه بعض حقه, وأخذ منه الباقي كان ذلك جائزا لهما ولو فعل ذلك قاض, لم يكن عليه في ذلك إثم لأن النبي ـ ﷺ ـ كلم غرماء جابر ليضعوا عنه فوضعوا عنه الشطر وفي الذي أصيب في حديقته فمر به النبي ـ ﷺ ـ وهو ملزوم, فأشار إلى غرمائه بالنصف فأخذوه منه فإن فعل ذلك قاض اليوم جاز إذا كان على وجه الصلح والنظر لهما وروى يونس, عن الزهري عن عبد الله بن كعب عن أبيه, أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله ـ ﷺ ـ فخرج إليهما ثم نادى: (يا كعب قال: لبيك يا رسول الله فأشار إليه, أن ضع الشطر من دينك قال: قد فعلت يا رسول الله قال رسول الله ـ ﷺ ـ قم فأعطه) فإن قال: على أن توفيني ما بقي بطل لأنه ما أبرأه عن بعض الحق إلا ليوفيه بقيته فكأنه عاوض بعض حقه ببعض القسم الثالث الهبة وهو أن يكون له في يده عين, فيقول قد وهبتك نصفها فأعطني بقيتها فيصح ويعتبر له شروط الهبة وإن أخرجه مخرج الشرط, لم يصح وهذا مذهب الشافعي لأنه إذا شرط في الهبة الوفاء جعل الهبة عوضا عن الوفاء به فكأنه عاوض بعض حقه ببعض وإن أبرأه من بعض الدين أو وهب له بعض العين بلفظ الصلح, مثل أن يقول: صالحن بنصف دينك على أو بنصف دارك هذه فيقول: صالحتك بذلك لم يصح ذكره القاضي وابن عقيل وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أكثرهم: يجوز الصلح لأنه إذا لم يجز بلفظه خرج عن أن يكون صلحا, ولا يبقى له تعلق به فلا يسمى صلحا أما إذا كان بلفظ الصلح سمى صلحا لوجود اللفظ, وإن تخلف المعنى كالهبة بشرط الثواب وإنما يقتضي لفظ الصلح المعاوضة إذا كان ثم عوض, أما مع عدمه فلا وإنما معنى الصلح الاتفاق والرضى وقد يحصل هذا من غير عوض, كالتمليك إذا كان بعوض سمي بيعا وإن خلا عن العوض سمي هبة ولنا أن لفظ الصلح يقتضي المعاوضة لأنه إذا قال: صالحني بهبة كذا أو على نصف هذه العين, ونحو هذا فقد أضاف إليه بالمقابلة فصار كقوله: بعني بألف وإن أضاف إليه " على " جرى مجرى الشرط كقوله تعالى: {فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} [الكهف: 94]. وكلاهما لا يجوز بدليل ما لو صرح بلفظ الشرط أو بلفظ المعاوضة وقولهم: أنه يسمى صلحا ممنوع وإن سمي صلحا فمجاز لتضمنه قطع النزاع وإزالة الخصومة وقولهم: إن الصلح لا يقتضي المعاوضة قلنا: لا نسلم وإن سلمنا لكن المعاوضة حصلت من اقتران حرف الباء, أو على أو نحوهما به فإن لفظة الصلح تحتاج إلى حرف تعدى به, وذلك يقتضي المعاوضة على ما بيناه. فصل:


وإن ادعى على رجل بيتا فصالحه على بعضه, أو على بناء غرفة فوقه أو على أن يسكنه سنة لم يصح لأنه يصالحه من ملكه على ملكه أو منفعته وإن أسكنه كان تبرعا منه, متى شاء أخرجه منها وإن أعطاه بعض داره بناء على هذا فمتى شاء انتزعه منه لأنه أعطاه إياه عوضا عما لا يصلح عوضا عنه وإن فعل ذلك على سبيل المصالحة معتقدا أن ذلك وجب عليه بالصلح, رجع عليه بأجر ما سكن وأجر ما كان في يده من الدار لأنه أخذه بعقد فاسد فأشبه المبيع المأخوذ بعقد فاسد وسكنى الدار بإجارة فاسدة وإن بنى فوق البيت غرفة, أجبر على نقضها وإذا آجر السطح مدة مقامه في يديه فله أخذ آلته ولو اتفقا على أن يصالحه صاحب البيت عن بنائه بعوض, جاز وإن بنى الغرفة بتراب من أرض صاحب البيت وآلاته فليس له أخذ بنائه لأنه ملك لصاحب البيت وإن أراد نقض البناء لم يكن له ذلك, إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف به ويحتمل أن يملك نقضه كقولنا في الغاصب. فصل:


وإذا صالحه بخدمة عبده سنة صح وكانت إجارة وقد ذكرنا ذلك فإن باع العبد في السنة صح البيع, ويكون للمشتري مسلوب المنفعة بقية السنة وللمستأجر استيفاء منفعته إلى انقضاء مدته كما لو زوج أمته ثم باعها وإن لم يعلم المشتري بذلك, فله الفسخ لأنه عيب وإن أعتق العبد في أثناء المدة نفذ عتقه لأنه مملوكه يصح بيعه فصح عتقه لغيره, وللمصالح أن يستوفي نفعه في المدة لأنه أعتقه بعد أن ملك منفعته لغيره فأشبه ما لو أعتق الأمة المزوجة لحر ولا يرجع العبد على سيده بشيء لأنه ما زال ملكه بالعتق إلا عن الرقبة, والمنافع حينئذ مملوكة لغيره فلم تتلف منافعه بالعتق فلم يرجع بشيء, وإن أعتقه مسلوب المنفعة فلم يرجع بشيء كما لو أعتق زمنا أو مقطوع اليدين, أو أعتق أمة مزوجة وذكر القاضي وابن عقيل وجها آخر أنه يرجع على سيده بأجر مثله وهو قول الشافعي لأن العتق اقتضى إزالة ملكه عن الرقبة والمنفعة جميعا, فلما لم تحصل المنفعة للعبد ها هنا فكأنه حال بينه وبين منفعته ولنا أن إعتاقه لم يصادف للمعتق سوى ملك الرقبة, فلم يؤثر إلا فيه كما لو وصى لرجل برقبة عبد ولآخر بنفعه فأعتق صاحب الرقبة, وكما لو أعتق أمة مزوجة وقولهم: إنه اقتضى زوال الملك عن المنفعة قلنا: إنما يقتضي ذلك إذا كانت مملوكة له أما إذا كانت مملوكة لغيره فلا يقتضي إعتاقه إزالة ما ليس بموجود وإن تبين أن العبد مستحق تبين بطلان الصلح لفساد العوض, ورجع المدعي فيما أقر له به وإن وجد العبد معيبا عيبا تنقص به المنفعة فله رده وفسخ الصلح وإن صالح على العبد بعينه صح الصلح, ويكون بيعا والحكم فيما إذا خرج مستحقا أو ظهر به عيب كما ذكرنا. فصل:


إذا ادعى زرعا في يد رجل فأقر له به, ثم صالحه منه على دراهم جاز على الوجه الذي يجوز به بيع الزرع وقد ذكرنا ذلك في البيع وإن كان الزرع في يد رجلين فأقر له أحدهما بنصفه, ثم صالحه عليه قبل اشتداد حبه لم يجز لأنه إن صالحه عليه بشرط التبقية أو من غير شرط القطع لم يجز لأنه لا يجوز بيعه كذلك وإن شرط القطع لم يجز لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع زرع الآخر ولو كان الزرع لواحد, فأقر للمدعي بنصفه ثم صالحه عنه بنصف الأرض ليصير الزرع كله للمقر والأرض بينهما نصفين, فإن شرط القطع جاز لأن الزرع كله للمقر فجاز شرط قطعه ويحتمل أن لا يجوز لأن في الزرع ما ليس بمبيع وهو النصف الذي لم يقر به, وهو في النصف الباقي له فلا يصح اشتراط قطعه كما لو شرط قطع زرع آخر في أرض أخرى وإن صالحه منه بجميع الأرض بشرط القطع ليسلم الأرض إليه فارغة, صح لأن قطع جميع الزرع مستحق نصفه بحكم الصلح والباقي لتفريغ الأرض فأمكن القطع وإن كان إقراره بجميع الزرع, فصالحه من نصفه على نصف الأرض ليكون الأرض والزرع بينهما نصفين وشرط القطع في الجميع احتمل الجواز لأنهما قد شرطا قطع كل الزرع وتسليم الأرض فارغة, واحتمل المنع لأن باقي الزرع ليس بمبيع فلا يصح شرط قطعه في العقد. فصل:


إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره أو هواء جدار له فيه شركة, أو على نفس الجدار لزم مالك الشجرة إزالة تلك الأغصان إما بردها إلى ناحية أخرى, وإما بالقطع لأن الهواء ملك لصاحب القرار فوجب إزالة ما يشغله من ملك غيره كالقرار فإن امتنع المالك من إزالته لم يجبر لأنه من غير فعله, فلم يجبر على إزالته كما إذا لم يكن مالكا له وإن تلف بها شيء لم يضمنه كذلك ويحتمل أن يجبر على إزالته, ويضمن ما تلف به إذا أمر بإزالته فلم يفعل بناء على ما إذا مال حائطه إلى ملك غيره, على ما سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ وعلى كلا الوجهين إذا امتنع من إزالته كان لصاحب الهواء إزالته بأحد الأمرين لأنه بمنزلة البهيمة التي تدخل داره له إخراجها, كذا ها هنا وهذا مذهب الشافعي فإن أمكنه إزالتها بلا إتلاف ولا قطع من غير مشقة تلزمه ولا غرامة لم يجز له إتلافها, كما أنه إذا أمكنه إخراج البهيمة من غير إتلاف لم يجز له إتلافها فإن أتلفها في هذه الحال غرمها وإن لم يمكنه إزالتها إلا بالإتلاف فله ذلك, ولا شيء عليه فإنه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه فإن صالحه على إقرارها بعوض معلوم فاختلف أصحابنا فقال ابن حامد وابن عقيل: يجوز ذلك رطبا كان الغصن أو يابسا لأن الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة لكونها لا تمنع التسليم, بخلاف العوض فإنه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه ولأن الحاجة داعية إلى الصلح عنه, لكون ذلك يكثر في الأملاك المتجاورة وفي القطع إتلاف وضرر والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر للركوب, والمستأجر للغرفة يتجدد له الأولاد والغراس الذي يستأجر له الأرض يعظم ويجفو وقال أبو الخطاب: لا تصح المصالحة عنه بحال رطبا كان أو يابسا لأن الرطب يزيد ويتغير واليابس ينقص, وربما ذهب كله وقال القاضي: إن كان يابسا معتمدا على نفس الجدار صحت المصالحة عنه لأن الزيادة مأمونة فيه ولا يصح الصلح على غير ذلك لأن الرطب يزيد في كل وقت, وما لا يعتمد على الجدار لا يصح الصلح عليه لأنه تبع الهواء وهذا مذهب الشافعي واللائق بمذهب أحمد صحته لأن الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة إذا لم يكن إلى العلم به سبيل وذلك لدعاء الحاجة إليه, وكونه لا يحتاج إلى تسليم وهذا كذلك والهواء كالقرار في كونه مملوكا لصاحبه فجاز الصلح على ما فيه, كالذي في القرار. فصل:


وإن صالحه على إقرارها بجزء معلوم من ثمرها أو بثمرها كله فقد نقل المروذي وإسحاق بن إبراهيم, عن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: لا أدري فيحتمل أن يصح ونحوه وقال مكحول, فإنه نقل عنه أنه قال: أيما شجرة ظللت على قوم فهم بالخيار بين قطع ما ظلل أو أكل ثمرها ويحتمل أن لا يصح وهو قول الأكثرين وإليه ذهب الشافعي لأن العوض مجهول, فإن الثمرة مجهولة وجزؤها مجهول ومن شرط الصلح العلم بالعوض, ولأن المصالح عليه أيضا مجهول لأنه يزيد ويتغير على ما أسلفنا ووجه الأول أن هذا مما يكثر في الأملاك وتدعو الحاجة إليه, وفي القطع إتلاف فجاز مع الجهالة كالصلح على مجرى مياه الأمطار, والصلح على المواريث الدارسة والحقوق المجهولة التي لا سبيل إلى علمها ويقوي عندي أن الصلح ها هنا يصح, بمعنى أن كل واحد منهما يبيح صاحبه ما بذل له فصاحب الهواء يبيح صاحب الشجرة إبقاءها ويمتنع من قطعها وإزالتها, وصاحب الشجرة يبيحه ما بذل له من ثمرتها ولا يكون هذا بمعنى البيع لأن البيع لا يصح بمعدوم ولا مجهول والثمرة في حال الصلح معدومة مجهولة, ولا هو لازم بل لكل واحد منهما الرجوع عما بذله والعود فيما قاله لأنه مجرد إباحة من كل واحد منهما لصاحبه, فجرى مجرى قول كل واحد منهما لصاحبه: اسكن داري وأسكن دارك من غير تقدير مدة ولا ذكر شروط الإجارة, أو قوله: أبحتك الأكل من ثمرة بستاني فأبحني الأكل من ثمرة بستانك وكذلك قوله: دعني أجري في أرضك ماء ولك أن تسقي به ما شئت, وتشرب منه ونحو ذلك فهذا مثله بل أولى فإن هذا مما تدعو الحاجة إليه كثيرا, وفي إلزام القطع ضرر كبير وإتلاف أموال كثيرة وفي الترك من غير نفع يصل إلى صاحب الهواء ضرر عليه, وفيما ذكرناه جمع بين الأمرين ونظر للفريقين وهو على وفق الأصول, فكان أولى. فصل:


وكذلك الحكم في كل ما امتد من عروق شجرة إنسان إلى أرض جاره سواء أثرت ضررا مثل تأثيرها في المصانع وطي الآبار, وأساس الحيطان أو منعها من ثبات شجر لصاحب الأرض أو زرع أو لم يؤثر فإن الحكم في قطعه والصلح عليه كالحكم في الفروع إلا أن العروق لا ثمر لها, فإن اتفقا على أن ما نبت من عروقها لصاحب الأرض أو جزء معلوم منه فهو كالصلح على الثمر فيما ذكرنا, فعلى قولنا إذا اصطلحا على ذلك فمضت مدة, ثم أبى صاحب الشجرة دفع نباتها إلى صاحب الأرض فعليه أجر المثل لأنه إنما تركه في أرضه لهذا فلما لم يسلمه له, رجع بأجر المثل كما لو بذلها بعوض فلم يسلم له وكذلك الحكم في من مال حائطه إلى هواء ملك غيره أو ذلق من أخشابه إلى ملك غيره, فالحكم فيه على ما ذكرناه. فصل: وإذا صالحه على المؤجل ببعضه حالا لم يجز كرهه زيد بن ثابت وابن عمر ـ وقال: نهى عمر أن تباع العين بالدين وسعيد بن المسيب والقاسم وسالم, والحسن والشعبي ومالك, والشافعي والثوري وابن عيينة, وهشيم وأبو حنيفة وإسحاق وروي عن ابن عباس, والنخعي وابن سيرين أنه لا بأس به وعن الحسن وابن سيرين, أنهما كانا لا يريان بأسا بالعروض أن يأخذها من حقه قبل محله لأنهما تبايعا العروض بما في الذمة فصح كما لو اشتراها بثمن مثلها ولعل ابن سيرين يحتج بأن التعجيل جائز والإسقاط وحده جائز فجاز الجمع بينهما, كما لو فعلا ذلك من غير مواطأة عليه ولنا أنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا عن تعجيل ما في ذمته وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز, كما لا يجوز أن يعطيه عشرة حالة بعشرين مؤجلة ولأنه يبيعه عشرة بعشرين فلم يجز كما لو كانت معيبة, ويفارق ما إذا كان من غير مواطأة ولا عقد لأن كل واحد منهما متبرع ببذل حقه من غير عوض ولا يلزم من جواز ذلك جوازه في العقد أو مع الشركة كبيع درهم بدرهمين ويفارق ما إذا اشترى العروض بثمن مثلها لأنه لم يأخذ عن الحلول عوضا فأما إن صالحه عن ألف حالة بنصفها مؤجلا, فإن فعل ذلك اختيارا منه وتبرعا به صح الإسقاط, ولم يلزم التأجيل لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل على ما ذكرنا فيما مضى والإسقاط صحيح وإن فعله لمنعه من حقه بدونه, أو شرط ذلك في الوفاء لم يسقط شيء أيضا على ما ذكرنا في أول الباب وذكر أبو الخطاب في هذا روايتين أصحهما لا يصح وما ذكرنا من التفصيل أولى ـ إن شاء الله تعالى ـ . فصل:


ويصح الصلح عن المجهول سواء كان عينا أو دينا إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته قال أحمد في الرجل يصالح على الشيء, فإن علم أنه أكثر منه لم يجز إلا أن يوقفه عليه إلا أن يكون مجهولا لا يدرى ما هو, ونقل عنه عبد الله إذا اختلط قفيز حنطة بقفيز شعير وطحنا, فإن عرف قيمة دقيق الحنطة ودقيق الشعير بيع هذا وأعطى كل واحد منهما قيمة ماله, إلا أن يصطلحا على شيء ويتحالا وقال ابن أبي موسى: الصلح الجائز هو صلح الزوجة من صداقها الذي لا بينة لها به ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه, وكذلك الرجلان يكون بينهما المعاملة والحساب الذي قد مضى عليه الزمان الطويل لا علم لكل واحد منهما بما عليه لصاحبه فيجوز الصلح, بينهما وكذلك من عليه حق لا علم له بقدره جاز أن يصالح عليه, وسواء كان صاحب الحق يعلم قدر حقه ولا بينة له أو لا علم له ويقول القابض: إن كان لي عليك حق فأنت في حل منه ويقول الدافع: إن كنت أخذت مني أكثر من حقك فأنت منه في حل وقال الشافعي: لا يصح الصلح على مجهول لأنه فرع البيع ولا يصح البيع على مجهول ولنا, ما روى عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست: (استهما وتوخيا وليحلل أحدكما صاحبه) وهذا صلح على المجهول ولأنه إسقاط حق, فصح في المجهول كالعتاق والطلاق ولأنه إذا صح الصلح مع العلم, وإمكان أداء الحق بعينه فلأن يصح مع الجهل أولى وذلك لأنه إذا كان معلوما فلهما طريق إلى التخلص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه, ومع الجهل لا يمكن ذلك فلو لم يجز الصلح أفضى إلى ضياع المال على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كل واحد منهما قدر حقه منه ولا نسلم كونه بيعا, ولا فرع بيع وإنما هو إبراء وإن سلمنا كونه بيعا فإنه يصح في المجهول عند الحاجة بدليل بيع أساسات الحيطان, وطي الآبار وما مأكوله في جوفه ولو أتلف رجل صبرة طعام لا يعلم قدرها, فقال صاحب الطعام لمتلفه: بعتك الطعام الذي في ذمتك بهذه الدراهم أو بهذا الثوب صح إذا ثبت هذا فإن كان العوض في الصلح مما لا يحتاج إلى تسليمه, ولا سبيل إلى معرفته كالمختصمين في مواريث دارسة وحقوق سالفة, أو عين من المال لا يعلم كل واحد منهما قدر حقه منها صح الصلح مع الجهالة من الجانبين لما ذكرناه من الخبر والمعنى وإن كان مما يحتاج إلى تسليمه لم يجز مع الجهالة, ولا بد من كونه معلوما لأن تسليمه واجب والجهالة تمنع التسليم وتفضي إلى التنازع, فلا يحصل مقصود الصلح فصل:


فأما ما يمكنهما معرفته كتركة موجودة أو يعلمه الذي هو عليه, ويجهله صاحبه فلا يصح الصلح عليه مع الجهل قال أحمد: إن صولحت امرأة من ثمنها لم يصح واحتج بقول شريح: أيما امرأة صولحت من ثمنها, لم يتبين لها ما ترك زوجها فهي الريبة كلها قال: وإن ورث قوم مالا ودورا وغير ذلك فقالوا لبعضهم: نخرجك من الميراث بألف درهم أكره ذلك, ولا يشتري منها شيء وهي لا تعلم لعلها تظن أنه قليل وهو يعلم أنه كثير ولا يشتري حتى تعرفه وتعلم ما هو, وإنما يصالح الرجل الرجل على الشيء لا يعرفه ولا يدري ما هو حساب بينهما فيصالحه, أو يكون رجل يعلم ماله على رجل والآخر لا يعلمه فيصالحه فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد أن يهضم حقه ويذهب به وذلك لأن الصلح إنما جاز مع الجهالة, للحاجة إليه لإبراء الذمم وإزالة الخصام فمع إمكان العلم لا حاجة إلى الصلح مع الجهالة, فلم يصح كالبيع. فصل:


ويصح الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه سواء كان مما يجوز بيعه أو لا يجوز فيصح عن دم العمد وسكنى الدار, وعيب المبيع ومتى صالح عما يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقل جاز وقد روي أن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات فأبى أن يقبلها ولأن المال غير متعين, فلا يقع العوض في مقابلته فأما إن صالح عن قتل الخطأ بأكثر من ديته من جنسها لم يجز وكذلك لو أتلف عبدا أو شيئا غيره فصالح عنه بأكثر من قيمته من جنسها, لم يجز وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يجوز لأنه يأخذ عوضا عن المتلف فجاز أن يأخذ أكثر من قيمته كما لو باعه بذلك ولنا, أن الدية والقيمة ثبتت في الذمة مقدرة فلم يجز أن يصالح عنها بأكثر منها من جنسها كالثابتة عن قرض أو ثمن مبيع, ولأنه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقه وزيادة لا مقابل لها فيكون أكل مال بالباطل فأما إن صالحه على غير جنسها بأكثر قيمة منها, جاز لأنه بيع ويجوز أن يشتري الشيء بأكثر من قيمته أو أقل. فصل:


ولو صالح عن المائة الثابتة في الذمة بالإتلاف بمائة مؤجلة, لم يجز وكانت حالة وبهذا قال الشافعي وعن أحمد يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنه عاوض عن المتلف بمائة مؤجلة فجاز كما لو باعه إياه ولنا أنه إنما يستحق عليه قيمة المتلف وهو مائة حالة, الحال لا يتأجل بالتأجيل وإن جعلناه بيعا فهو بيع دين بدين وبيع الدين بالدين غير جائز. فصل:


ولو صالح عن القصاص بعبد, فخرج مستحقا رجع بقيمته في قولهم جميعا وإن خرج حرا فكذلك وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: يرجع بالدية لأن الصلح فاسد فيرجع ببذل ما صالح عنه, وهو الدية ولنا أنه تعذر تسليم ما جعله عوضا فرجع في قيمته, كما لو خرج مستحقا. فصل:


ولو صالح عن دار أو عبد بعوض فوجد العوض مستحقا أو حرا رجع في الدار وما صالح عنه, أو بقيمته إن كان تالفا لأن الصلح ها هنا بيع في الحقيقة فإذا تبين أن العوض كان مستحقا أو حرا كان البيع فاسدا فرجع فيما كان له, بخلاف الصلح عن القصاص فإنه ليس ببيع وإنما يأخذ عوضا عن إسقاط القصاص ولو اشترى شيئا فوجده معيبا فصالحه عنه بعبد, فبان مستحقا أو حرا رجع بأرش العيب ولو كان البائع امرأة فزوجته نفسها عوضا عن أرش العيب, فزال العيب رجعت بأرشه لا بمهر المثل لأنها رضيت ذلك مهرا لها. فصل:


ولو صالحه عن القصاص بحر يعلمان حريته أو عبد يعلمان أنه مستحق أو تصالحا بذلك عن غير القصاص, رجع بالدية وبما صالح عنه لأن الصلح ها هنا باطل يعلمان بطلانه فكان وجوده كعدمه. فصل:


إذا صالح رجلا على موضع قناة من أرضه يجري فيها ماء بينا موضعها وعرضها وطولها, جاز لأن ذلك بيع لموضع من أرضه ولا حاجة إلى بيان عمقه لأنه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه فله أن يترك فيه ما شاء وإن صالحه على إجراء الماء في ساقية من أرض رب الأرض, مع بقاء ملكه عليها فهذا إجارة للأرض فيشترط تقدير المدة لأن هذا شأن الإجارة فإن كانت الأرض في يد رجل بإجارة, جاز له أن يصالح رجلا على إجراء الماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تجاوز مدة إجارته وإن لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك لأنه لا يجوز إحداث ساقية في أرض في يده بإجارة فأما إن كانت الأرض في يده وقفا عليه فقال القاضي: هو كالمستأجر له أن يصالح إجراء الماء في ساقية محفورة في مدة معلومة, وليس له أن يحفر فيها ساقية لأنه لا يملكها إنما يستوفي منفعتها كالأرض المستأجرة سواء وهذا كله مذهب الشافعي والأولى أنه يجوز له حفر الساقية لأن الأرض له, وله التصرف فيها كيفما شاء ما لم ينقل الملك فيها إلى غيره بخلاف المستأجر, فإنه إنما يتصرف فيها بما أذن له فيه فكان الموقوف عليه بمنزلة المستأجر إذا أذن له في الحفر فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدة, فهل لمن انتقل إليه فسخ الصلح فيما بقي من المدة؟ على وجهين بناء على ما إذا آجره مدة فمات في أثنائها فإن قلنا: له فسخ الصلح ففسخه, رجع المصالح على ورثة الذي صالحه بقسط ما بقي من المدة وإن قلنا: ليس له الفسخ رجع من انتقل إليه الوقف على الورثة. فصل:


وإن صالح رجلا على إجراء ماء سطحه من المطر على سطحه أو في أرضه عن سطحه أو في أرضه عن أرضه جاز, إذا كان ما يجري ماء معلوما إما بالمشاهدة وإما بمعرفة المساحة لأن الماء يختلف بصغر السطح وكبره ولا يمكن ضبطه بغير ذلك ويشترط معرفة الموضع الذي يجري منه الماء إلى السطح لأن ذلك يختلف ولا يفتقر إلى ذكر مدة لأن الحاجة تدعو إلى هذا, ويجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة غير مقدر كما في النكاح ولا يملك صاحب الماء مجراه لأن هذا لا يستوفي به منافع المجرى دائمًا, ولا في أكثر المدة بخلاف الساقية ويختلفان أيضا في أن الماء الذي في الساقية لا يحتاج إلى ما يقدر به لأن تقدير ذلك حصل بتقدير الساقية, فإنه لا يملك أن يجري فيها أكثر من مائها والماء الذي على السطح يحتاج إلى معرفة مقدار السطح لأنه يجري منه القليل والكثير وإن كان السطح الذي يجري عليه الماء مستأجرا أو عارية مع إنسان, لم يجز أن يصالح على إجراء الماء عليه لأنه يتضرر بذلك ولم يؤذن له فيه فلم يكن له أن يتصرف به بخلاف الماء في الساقية المحفورة, فإن الأرض لا تتضرر به وإن كان ماء السطح يجري على أرض احتمل أن لا يجوز له الصلح على ذلك لأنه إن احتاج إلى حفر لم يجز له أن يحفر أرض غيره ولأنه يجعل لغير صاحب الأرض رسما, فربما ادعى استحقاق ذلك على صاحبها واحتمل الجواز إذا لم يحتج إلى حفر ولم تكن فيه مضرة لأنه بمنزلة إجراء الماء في ساقية محفورة ولا يجوز إلا مدة لا تزيد على مدة إجارته, كما قلنا في إجراء الماء في الساقية والله أعلم. فصل: وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه وإن كان لضرورة, مثل أن يكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له إلا أرض جاره فهل له ذلك؟ على روايتين, إحداهما لا يجوز لأنه تصرف في أرض غيره بغير إذنه فلم يجز, كما لو لم تدع إليه ضرورة ولأن مثل هذه الحاجة لا تبيح مال غيره بدليل أنه لا يباح له الزرع في أرض غيره, ولا البناء فيها ولا الانتفاع بشيء من منافعها المحرمة عليه قبل هذه الحاجة والأخرى يجوز لما روى أن الضحاك بن خليفة ساق خليجا من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة, فأبى فقال له الضحاك: لم تمنعني وهو منفعة لك تشربه أولا وآخرا, ولا يضرك؟ فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر فدعا محمد بن مسلمة, وأمره أن يخلي سبيله فقال محمد: لا والله فقال له عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تشربه أولا وآخرا؟ فقال محمد: لا والله فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به, ففعله رواه مالك في " موطئه " وسعيد في " سننه " والأول أقيس وقول عمر يخالفه قول محمد بن مسلمة, وهو موافق للأصول فكان أولى. فصل:


وإن صالح رجلا على أن يسقي أرضه من نهر الرجل يوما أو يومين أو من عينه, وقدره بشيء يعلم به فقال القاضي: لا يجوز لأن الماء ليس بمملوك ولا يجوز بيعه, فلا يجوز الصلح عليه ولأنه مجهول قال: وإن صالحه على سهم من العين أو النهر كالثلث أو الربع جاز, وكان بيعا للقرار والماء تابع له ويحتمل أن يجوز الصلح على السقي من نهره وقناته لأن الحاجة تدعو إلى ذلك والماء مما يجوز أخذ العوض عنه في الجملة, بدليل ما لو أخذه في قربته أو إنائه ويجوز الصلح على ما لا يجوز بيعه بدليل الصلح عن دم العمد وأشباهه والصلح على المجهول. فصل:


ولا يصح الصلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه, مثل أن يصالح امرأة لتقر له بالزوجية لأنه صلح يحل حراما ولأنها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز وإن دفعت إليه عوضا عن هذه الدعوى ليكف عنها ففيه وجهان أحدهما, لا يجوز لأن الصلح في الإنكار إنما يكون في حق المنكر لافتداء اليمين وهذه لا يمين عليها وفي حق المدعي بأخذ العوض في مقابلة حقه الذي يدعيه, وخروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له وإنما أجيز الخلع للحاجة إلى افتداء نفسها والثاني يصح ذكره أبو الخطاب وابن عقيل لأن المدعي يأخذ عوضا عن حقه من النكاح, فجاز كعوض الخلع والمرأة تبذله لقطع خصومته وإزالة شره وربما توجهت اليمين عليها لكون الحاكم يرى ذلك أولأنها مشروعة في حقها في إحدى الروايتين, ومتى صالحته على ذلك ثبتت الزوجية بإقرارها أو ببينة فإن قلنا: الصلح باطل فالنكاح باق بحاله لأنه لم يوجد من الزوج طلاق ولا خلع وإن قلنا: هو صحيح احتمل ذلك أيضا ولذلك احتمل أن تبين منه بأخذ العوض لأنه أخذ العوض عما يستحقه من نكاحها, فكان خلعا كما لو أقرت له بالزوجية فخالعها ولو ادعت أن زوجها طلقها ثلاثا فصالحها على مال لتنزل عن دعواها, لم يجز لأنه لا يجوز لها بذل نفسها لمطلقها بعوض ولا بغيره وإن دفعت إليه مالا ليقر بطلاقها لم يجز في أحد الوجهين, وفي الآخر يجوز كما لو بذلت له عوضا ليطلقها ثلاثا. فصل:


وإن ادعى على رجل أنه عبده فأنكره, فصالحه على مال ليقر له بالعبودية لم يجز لأنه يحل حراما فإن إرقاق الحر نفسه لا يحل بعوض ولا بغيره وإن دفع إليه المدعى عليه مالا صلحا عن دعواه, صح لأنه يجوز أن يعتق عبده بمال ويشرع للدافع لدفع اليمين الواجبة عليه والخصومة المتوجهة إليه ولو ادعى على رجل ألفا, فأنكره فدفع إليه شيئا ليقر له بالألف لم يصح فإن أقر لزمه ما أقر به ويرد ما أخذه لأنه تبين بإقراره كذبه في إنكاره, وأن الألف عليه فيلزمه أداؤه بغير عوض ولا يحل له أخذ العوض عن أداء الواجب عليه وإن دفع إليه المنكر مالا صلحا عن دعواه صح وقد مضى ذكره. فصل:


ولو صالح شاهدا على أن لا يشهد عليه, لم يصح لأنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بحق تلزم الشهادة به كدين آدمي, أو حق لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة ونحوها فلا يجوز كتمانه, ولا يجوز أخذ العوض عن ذلك كما لا يجوز أخذ العوض على شرب الخمر وترك الصلاة الثاني أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بالزور فهذا يجب عليه ترك ذلك, ويحرم عليه فعله فلا يجوز أخذ العوض عنه كما لا يجوز أن يصالحه على أن لا يقتله ولا يغصب ماله الثالث, أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بما يوجب حدا كالزنا والسرقة فلا يجوز أخذ العوض عنه لأن ذلك ليس بحق له, فلم يجز له أخذ عوضه كسائر ما ليس بحق له ولو صالح السارق والزاني والشارب بمال على أن لا يرفعه إلى السلطان, لم يصح الصلح لذلك ولم يجز له أخذ العوض وإن صالحه عن حد القذف لم يصح الصلح لأنه إن كان لله تعالى, لم يكن له أن يأخذ عوضه لكونه ليس بحق له فأشبه حد الزنى والسرقة, وإن كان حقا له لم يجز الاعتياض عنه لكونه حقا ليس بمالي, ولهذا لا يسقط إلى بدل بخلاف القصاص ولأنه شرع لتنزيه العرض, فلا يجوز أن يعتاض عن عرضه بمال وهل يسقط الحد بالصلح؟ فيه وجهان مبنيان على الخلاف في كونه حقا لله تعالى أو حقا لآدمي فإن كان حقا لله تعالى, لم يسقط بصلح الآدمي ولا إسقاطه كحد الزنى والسرقة وإن كان حقا لآدمي سقط بصلحه وإسقاطه, مثل القصاص وإن صالح عن حق الشفعة لم يصح الصلح لأنه حق شرع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة فإذا رضي بالتزام الضرر, سقط الحق من غير بدل كحد القذف إلا أنه يسقط ها هنا وجها واحدا لكونه حقا لآدمي. فصل:


ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحا وهو الروشن يكون على أطراف خشبة مدفونة في الحائط, وأطرافها خارجة في الطريق سواء كان ذلك يضر في العادة بالمارة أو لا يضر ولا يجوز أن يجعل عليها ساباطا بطريق الأولى وهو المستوفي لهواء الطريق كله على حائطين, سواء كان الحائطان ملكه أو لم يكونا وسواء أذن الإمام في ذلك أو لم يأذن وقال ابن عقيل: إن لم يكن فيه ضرر جاز بإذن الإمام لأنه نائبهم فجرى إذنه مجرى إذن المشتركين في الدرب الذي ليس بنافد وقال أبو حنيفة: يجوز من ذلك ما لا ضرر فيه, وإن عارضه رجل من المسلمين وجب قلعه وقال مالك والشافعي والأوزاعي, وإسحاق وأبو يوسف ومحمد: يجوز ذلك إذا لم يضر بالمارة, ولا يملك أحد منعه لأنه ارتفق بما لم يتعين ملك أحد فيه من غير مضرة فكان جائزا كالمشي في الطريق والجلوس فيها واختلفوا فيما لا يضر, فقال بعضهم: إن كان في شارع تمر فيه الجيوش والأحمال فيكون بحيث إذا سار فيه الفارس ورمحه منصوب لا يبلغه وقال أكثرهم: لا يقدر بذلك بل يكون بحيث لا يضر بالعماريات والمحامل ولنا, أنه بناء في ملك غيره بغير إذنه فلم يجز كبناء الدكة أو بناء ذلك في درب غير نافذ بغير إذن أهله, ويفارق المرور في الطريق فإنها جعلت لذلك ولا مضرة فيه, والجلوس لا يدوم ولا يمكن التحرز منه ولا نسلم أنه لا مضرة فيه, فإنه يظلم الطريق ويسد الضوء وربما سقط على المارة, أو سقط منه شيء وقد تعلو الأرض بمرور الزمان فيصدم رءوس الناس, ويمنع مرور الدواب بالأحمال ويقطع الطريق إلا على الماشي وقد رأينا مثل هذا كثيرا, وما يفضي إلى الضرر في ثاني الحال يجب المنع منه في ابتدائه كما لو أراد بناء حائط مائل إلى الطريق يخشى وقوعه على من يمر فيها وعلى أبي حنيفة: أنه بناء في حق مشترك, لو منع منه بعض أهله لم يجز فلم يجز بغير إذنهم كما لو أخرجه إلى هواء دار مشتركة, وذلك لأن حق الآدمي لا يجوز لغيره التصرف فيه بغير إذنه وإن كان ساكنا كما لا يجوز إذا منع منه. فصل:


ولا يجوز أن يبني في الطريق دكانا, بغير خلاف نعلمه سواء كان الطريق واسعا أو غير واسع سواء أذن الإمام فيه أو لم يأذن لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه, ولأنه يؤذي المارة ويضيق عليهم ويعثر به العاثر فلم يجز, كما لو كان الطريق ضيقا. فصل:


ولا يجوز أن يبني دكانا ولا يخرج روشنا ولا ساباطا على درب غير نافذ إلا بإذن أهله وبهذا قال الشافعي, إذا لم يكن له في الدرب باب وإن كان له في الدرب باب فقد اختلف أصحابه, فمنهم من منعه أيضا ومنهم من أجاز له إخراج الجناح والساباط لأن له في الدرب استطراقا فملك ذلك, كما يملكه في الدرب النافذ ولنا أنه بناء في هواء ملك قوم معينين أشبه ما لو لم يكن له فيه باب, ولا نسلم الأصل الذي قاسوا عليه فأما إن أذن أهل الدرب فيه جاز لأن الحق لهم فجاز بإذنهم, كما لو كان المالك واحدا وإن صالح أهل الدرب من ذلك على عوض معلوم جاز وقال القاضي وأصحاب الشافعي: لا يجوز لأنه بيع للهواء دون القرار ولنا أنه يبني فيه بإذنهم, فجاز كما لو أذنوا له بغير عوض ولأنه ملك لهم, فجاز لهم أخذ عوضه كالقرار إذا ثبت هذا فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدار في الخروج والعلو, وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين لا يجوز بغير إذنه ويجوز بإذنه, بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار والله أعلم. فصل:


ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرا لنفسه سواء جعلها لماء المطر, أو ليستخرج منها ما ينتفع به ولا غير ذلك لما ذكرنا من قبل وإن أراد حفرها للمسلمين ونفعهم أو لنفع الطريق مثل أن يحفرها ليستقي الناس من مائها, ويشرب منه المارة أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق نظرنا, فإن كان الطريق ضيقا أو يحفرها في ممر الناس بحيث يخاف سقوط إنسان فيها أو دابة أو يضيق عليهم ممرهم, لم يجز ذلك لأن ضررها أكثر من نفعها وإن حفرها في زاوية في طريق واسع وجعل عليها ما يمنع الوقوع فيها, جاز لأن ذلك نفع بلا ضرر فجاز كتمهيدها وبناء رصيف فيها, فأما ما فعله في درب غير نافذ فلا يجوز إلا بإذن أهله لأن هذا ملك لقوم معينين فلم يجز فعل ذلك بغير إذنهم كما لو فعله في بستان إنسان ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض, جاز سواء حفرها لنفسه لينزل فيها ماء المطر عن داره أو ليستقي منها ماء لنفسه, أو حفرها للسبيل ونفع الطريق وكذلك إن فعل ذلك في ملك إنسان معين. فصل:


ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم ولا يجوز إخراجها إلى درب نافذ إلا بإذن أهله وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم لأن عمر رضي الله عنه اجتاز على دار العباس وقد نصب ميزابا على الطريق فقلعه, فقال العباس: تقلعه وقد نصبه رسول الله ـ ﷺ ـ بيده؟ فقال: والله لا نصبته إلا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه وما فعله رسول الله ـ ﷺ ـ فلغيره فعله, ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا يمكنه رد مائه إلى الدار ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير ولنا أن هذا تصرف في هواء مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه, فلم يجز كما لو كان الطريق غير نافذ ولأنه يضر بالطريق وأهلها فلم يجز كبناء دكة فيها أو جناح يضر بأهلها ولا يخفى ما فيه من الضرر, فإن ماءه يقع على المارة وربما جرى فيه البول أو ماء نجس فينجسهم ويزلق الطريق, ويجعل فيها الطين والحديث قضية في عين فيحتمل أنه كان في درب غير نافذ, أو تجددت الطريق بعد نصبه ويحتمل أن يجوز ذلك لأن الحاجة داعية إليه والعادة جارية به, مع ما فيه من الخبر المذكور. فصل:


دولا يجوز أن يفتح في الحائط المشترك طاقا ولا بابا إلا بإذن شريكه لأن ذلك انتفاع بملك غيره وتصرف فيه بما يضر به ولا يجوز أن يغرز فيه وتدا, ولا يحدث عليه حائطا ولا يستره ولا يتصرف فيه نوع تصرف لأنه تصرف في الحائط بما يضربه فلم يجز, كنقضه ولا يجوز له فعل شيء من ذلك في حائط جاره بطريق الأولى لأنه إذا لم يجز فيما له فيه حق ففيما لا حق له فيه أولى وإن صالحه عن ذلك بعوض جاز وأما الاستناد إليه, وإسناد شيء لا يضره إليه فلا بأس به لأنه لا مضرة فيه ولا يمكن التحرز منه أشبه الاستظلال به. فصل:


فأما وضع خشبة عليه, فإن كان يضر بالحائط لضعفه عن حمله لم يجز بغير خلاف نعلمه لا ذكرنا, ولقول رسول الله ـ ﷺ ـ : (لا ضرر ولا ضرار) وإن كان لا يضر به إلا أن به غنية عن وضع خشبه عليه لإمكان وضعه على غيره, فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز أيضا وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير حاجة فلم يجز كبناء حائط عليه وأشار ابن عقيل إلى جوازه لما روى أبو هريرة أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: (لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره) متفق عليه ولأن ما أبيح للحاجة العامة لم يعتبر فيه حقيقة الحاجة كأخذ الشقص بالشفعة من المشتري, والفسخ بالخيار أو بالعيب اتخاذ الكلب للصيد وإباحة السلم, ورخص السفر وغير ذلك فأما إن دعت الحاجة إلى وضعه على حائط جاره أو الحائط المشترك, بحيث لا يمكنه التسقيف بدونه فإنه يجوز له وضعه بغير إذن الشريك وبهذا قال الشافعي في القديم وقال في الجديد: ليس له وضعه وهو قول أبي حنيفة ومالك لأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة, فلم يجز كزراعته ولنا الخبر ولأنه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضر به, أشبه الاستناد إليه والاستظلال به ويفارق الزرع فإنه يضر, ولم تدع إليه حاجة إذا ثبت هذا فاشترط القاضي وأبو الخطاب للجواز أن يكون له ثلاثة حيطان ولجاره حائط واحد, وليس هذا في كلام أحمد إنما قال في رواية أبي داود: لا يمنعه إذا لم يكن ضرر, وكان الحائط يبقى ولأنه قد يمتنع التسقيف على حائطين إذا كانا غير متقابلين أو كان البيت واسعا يحتاج إلى أن يجعل عليه جسرا ثم يضع الخشب على ذلك الجسر والأولى اعتباره بما ذكرنا من اعتبار التسقيف بدونه ولا فرق فيما ذكرنا بين البالغ واليتيم والمجنون والعاقل لما ذكرنا والله أعلم. فصل: فأما وضعه في جدار المسجد إذا وجد الشرطان, فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما الجواز لأنه إذا جاز في ملك الجار مع أن حقه مبنى على الشح والضيق, ففي حقوق الله تعالى المبنية على المسامحة والمساهلة أولى والثانية لا يجوز نقلها أبو طالب لأن القياس يقتضي المنع في حق الكل ترك في حق الجار للخبر الوارد فيه, فوجب البقاء في غيره على مقتضى القياس وهذا اختيار أبي بكر وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية وجها للمنع من وضع الخشب في ملك الجار لأنه إذا منع من وضع الخشب في الجدار المشترك بين المسلمين وللواضع فيه حق فلأن يمنع من المختص بغيره أولى ولأنه إذا منع في حق لله تعالى مع أن حقه على المسامحة والمساهلة لغنى الله تعالى وكرمه فلأن يمنع في حق آدمي مع شحه وضيقه أولى والمذهب الأول فإن قيل: فلم لا تجيزون فتح الطاق والباب في الحائط بالقياس على وضع الخشب؟ قلنا لأن الخشب يمسك الحائط وينفعه, بخلاف الطاق والباب فإنه يضعف الحائط لأنه يبقى مفتوحا في الحائط, والذي يفتحه للخشبة يسده بها ولأن وضع الخشب تدعو الحاجة إليه بخلاف غيره. فصل:


ومن ملك وضع خشبه على حائط, فزال بسقوطه أو قلعه أو سقوط الحائط ثم أعيد, فله إعادة خشبه لأن السبب المجوز لوضعه مستمر فاستمر استحقاق ذلك وإن زال السبب, مثل أن يخشى على الحائط من وضعه عليه أو استغنى عن وضعه لم تجز إعادته لزوال السبب المبيح وإن خيف سقوط الحائط بعد وضعه عليه, أو استغنى عن وضعه لزم إزالته لأنه يضر بالمالك ويزول الخشب وإن لم يخف عليه, لكن استغنى عن إبقائه عليه لم يلزم إزالته لأن في إزالته ضررا بصاحبه ولا ضرر على صاحب الحائط في إبقائه, بخلاف ما لو خشى سقوطه. فصل:


ولو كان له وضع خشبه على جدار غيره لم يملك إعارته ولا إجارته لأنه إنما كان له ذلك لحاجته الماسة إلى وضع خشبه ولا حاجة له إلى وضع خشب غيره, فلم يملكه وكذلك لا يملك بيع حقه من وضع خشبه ولا المصالحة عنه للمالك ولا لغيره لأنه أبيح له من حق غيره لحاجته فلم يجز له ذلك فيه, كطعام غيره إذا أبيح له من أجل الضرورة ولو أراد صاحب الحائط إعارة الحائط أو إجارته على وجه يمنع هذا المستحق من وضع خشبه, لم يملك ذلك لأنه وسيلة إلى منع ذي الحق من حقه فلم يملكه كمنعه ولو أراد هدم الحائط لغير حاجة, لم يملك ذلك لما فيه من تفويت الحق وإن احتاج إلى هدمه للخوف من انهدامه أو لتحويله إلى مكان آخر أو لغرض صحيح ملك ذلك لأن صاحب الخشب إنما يثبت حقه للإرفاق به مشروطا بعدم الضرر لصاحب الحائط, فمتى أفضى إلى الضرر زال الاستحقاق لزوال شرطه. فصل:


وإذا أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه أو وضع سترة عليه أو وضع خشبه عليه في الموضع الذي لا يستحق وضعه, جاز فإذا فعل ما أذن له فيه صارت العارية لازمة, فإذا رجع المعير فيها لم يكن له ذلك ولم يلزم المستعير إزالة ما فعله لأن إذنه اقتضى البقاء والدوام, وفي القلع إضرار به فلا يملك ذلك المعير كما لو أعاره أرضا للدفن والغراس, لم يملك المطالبة بنقل الميت والغراس بغير ضمان وإن أراد هدم الحائط لغير حاجة لم يكن له ذلك لأن المستعير قد استحق تبقية الخشب عليه ولا ضرر في تبقيته وإن كان مستهدما, فله نقضه وعلى صاحب البناء والخشب إزالته وإذا أعيد الحائط لم يملك المستعير رد بنائه وخشبه إلا بإذن جديد سواء بناه بآلته أو غيرها وهكذا لو قلع المستعير خشبا أو سقط بنفسه, لم يكن له رده إلا بإذن مستأنف لأن المنع من القلع إنما كان لما فيه من الضرر وها هنا قد حصل القلع بغير فعله فأشبه ما لو كان في الأرض شجر فانقلع وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي, وقالوا في الآخر: ذلك لأنه قد استحق بقاء ذلك على التأبيد وليس كذلك فإنه إنما استحق الإبقاء ضرورة دفع ضرر القلع وقد حصل القلع ها هنا فلا يبقى الاستحقاق وإن قلع صاحب الحائط ذلك عدوانا, كان للآخر إعادته لأنه أزيل بغير حق تعديا ممن عليه الحق فلم يسقط الحق عنه بعدوانه وإن أزاله أجنبي, لم يملك صاحبه إعادته بغير إذن المالك لأنه زال بغير عدوان منه فأشبه ما لو سقط بنفسه. فصل:


وإن أذن له في وضع خشبه, أو البناء على جداره بعوض جاز سواء كان إجارة في مدة معلومة أو صلحا على وضعه على التأبيد ومتى زال فله إعادته, سواء زال لسقوطه أو سقوط الحائط أو غير ذلك لأنه استحق إبقاءه بعوض, ويحتاج إلى أن يكون البناء معلوم العرض والطول والسمك والآلات من الطين واللبن, والآجر وما أشبه ذلك لأن هذا كله يختلف فيحتاج إلى معرفته وإذا سقط الحائط الذي عليه البناء أو الخشب في أثناء مدة الإجارة سقوطا لا يعود, انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة ورجع من الأجرة بقسط ما بقي من المدة وإن أعيد رجع من الأجرة بقدر المدة التي سقط البناء والخشب عنه وإن صالحه مالك الحائط على رفع بنائه أو خشبه بشيء معلوم جاز كما يجوز الصلح على وضعه, سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له وكذلك لو كان له مسيل ماء في أرض غيره أو ميزاب, أو غيره فصالح صاحب الأرض مستحق ذلك بعوض ليزيله عنه جاز وإن كان الخشب أو الحائط قد سقط, فصالحه بشيء على أن لا يعيده جاز لأنه لما جاز أن يبيع ذلك منه جاز أن يصالح عنه لأن الصلح بيع. فصل:


وإذا وجد بناؤه أو خشبه على حائط مشترك, أو حائط جاره ولم يعلم سببه فمتى زال فله إعادته لأن الظاهر أن هذا الوضع بحق من صلح أو غيره, فلا يزول هذا الظاهر حتى يعلم خلافه وكذلك لو وجد مسيل مائه في أرض غيره أو مجرى ماء سطحه على سطح غيره وما أشبه هذا, فهو له لأن الظاهر أنه له بحق فجرى ذلك مجرى اليد الثابتة وإذا اختلفا في ذلك هل هو بحق أو بعدوان؟ فالقول قول صاحب الخشب والبناء والمسيل مع يمينه لأن الظاهر معه. فصل:


إذا ادعى رجل دارا في يد أخوين فأنكره أحدهما, وأقر له الآخر ثم صالحه عما أقر له بعوض صح الصلح, ولأخيه الأخذ بالشفعة ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كان الإنكار مطلقا وبين ما إذا قال: هذه لنا ورثناها جميعا عن أبينا أو أخينا فيقال: إذا كان الإنكار مطلقا كان له الأخذ بالشفعة, وإن قال: ورثناها عن أبينا فلا شفعة له لأن المنكر يزعم أن الملك لأخيه المقر لم يزل وأن الصلح باطل فيؤاخذ بذلك ولا يستحق به شفعة ووجه الأول, أن الملك ثبت للمدعي حكما وقد رجع إلى المقر بالبيع وهو معترف بأنه بيع صحيح فتثبت فيه الشفعة كما لو كان الإنكار مطلقا ويجوز أن يكون انتقل نصيب المقر إلى المدعي ببيع أو هبة أو سبب من الأسباب, فلا يتنافى إنكار المنكر وإقرار المقر كحالة إطلاق الإنكار وهذا أصح. مسألة:


قال: [وإذا تداعى نفسان جدارا معقودا ببناء كل واحد منهما تحالفا, وكان بينهما وكذلك إن كان محلولا من بنائهما وإن كان معقودا ببناء أحدهما كان له مع يمينه] وجملة ذلك أن الرجلين إذا تداعيا حائطا بين ملكيهما وتساويا في كونه معقودا ببنائهما معا, وهو أن يكون متصلا بهما اتصالا لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه الفطائر التي لا يمكن إحداث اتصال بعضها ببعض, أو تساويا في كونه محلولا من بنائهما أي غير متصل ببنائهما الاتصال المذكور بل بينهما شق مستطيل, كما يكون بين الحائطين اللذين ألصق أحدهما بالآخر فهما سواء في الدعوى فإن لم يكن لواحد منهما بينة تحالفا فيحلف كل واحد منهما على نصف الحائط, أنه له ويجعل بينهما نصفين لأن كل واحد منهما يده على نصف الحائط لكون الحائط في أيديهما وإن حلف كل واحد منهما على جميع الحائط أنه له, وما هو لصاحبه جاز وهو بينهما وبهذا قال أبو حنيفة, والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأن المختلفين في العين, إذا لم يكن لواحد منهما بينة فالقول قول من هي في يده مع يمينه فإذا كانت في أيديهما كانت يد كل واحد منهما على نصفها, فيكون القول قوله في نصفها مع يمينه وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن كان لكل واحد منهما بينة, تعارضتا وصارا كمن لا بينة لهما فإن لم يكن لهما بينة ونكلا عن اليمين, كان الحائط في أيديهما على ما كان وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضى على الناكل, فكان الكل للآخر وإن كان الحائط متصلا ببناء أحدهما دون الآخر فهو له مع يمينه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو ثور: لا يرجح بالعقد, ولا ينظر إليه ولنا أن الظاهر أن هذا البناء بنى كله بناء واحدا فإذا كان بعضه لرجل, كان بقيته له والبناء الآخر المحلول الظاهر أنه بنى وحده, فإنه لو بنى مع هذا كان متصلا به فالظاهر أنه لغير صاحب هذا الحائط المختلف فيه, فوجب أن يرجح بهذا كاليد والأزج فإن قيل: فلم لم تجعلوه له بغير يمين لذلك؟ قلنا: لأن ذلك ظاهر وليس بيقين, إذ يحتمل أن يكون أحدهما بنى الحائط لصاحبه تبرعا مع حائطه أو كان له فوهبه إياه أو بناه بأجرة, فشرعت اليمين من أجل الاحتمال كما شرعت في حق صاحب اليد وسائر من وجبت عليه اليمين فأما إن كان معقودا ببناء أحدهما عقدا يمكن إحداثه مثل البناء باللبن والآجر, فإنه يمكن أن ينزع من الحائط المبنى نصف لبنة أو آجرة أو يجعل مكانها لبنة صحيحة أو آجرة صحيحة تعقد بين الحائطين فقال القاضي: لا يرجح بهذا لاحتمال أن يكون صاحب الحائط فعل هذا ليتملك الحائط المشترك وظاهر كلام الخرقي أنه يرجح بهذا الاتصال, كما يرجح بالاتصال الذي لا يمكن إحداثه لأن الظاهر أن صاحب الحائط لا يدع غيره يتصرف فيه بنزع آجره وتغيير بنائه, وفعل ما يدل على ملكه فوجب أن يرجح بهذا كما يرجح باليد, فإنه يمكن أن تكون يدا عادية حدثت بالغصب أو بالسرقة أو العارية أو الإجارة فلم يمنع ذلك الترجيح بها. فصل:


فإن كان لأحدهما عليه بناء, كحائط مبنى عليه أو عقد معتمد عليه أو قبة ونحوها فهو له وبهذا قال الشافعي لأن وضع بنائه عليه بمنزلة اليد الثابتة عليه, لكونه منتفعا به فجرى مجرى كون حمله على البهيمة وزرعه في الأرض ولأن الظاهر أن الإنسان لا يترك غيره يبني على حائطه وكذلك إن كانت له عليه سترة, ولو كان في أصل الحائط خشبة طرفها تحت حائط ينفرد به أحدهما أو له عليها أزج معقود فالحائط المختلف فيه له لأن الظاهر أن الخشبة لمن ينفرد بوضع بنائه عليها, فيكون الظاهر أن ما عليها من البناء له. فصل:


فإن كان لأحدهما خشب موضوع فقال أصحابنا: لا ترجح دعواه بذلك وهو قول الشافعي لأن هذا مما يسمح به الجار وقد ورد الخبر بالنهي عن المنع منه وعندنا إنه حق يجب التمكين منه فلم ترجح به الدعوى كإسناد متاعه إليه, وتجصيصه وتزويقه ويحتمل أن ترجح به الدعوى وهو قول مالك لأنه منتفع به بوضع ماله عليه فأشبه الباني عليه والزارع في الأرض وورود الشرع بالنهي عن المنع منه, لا يمنع كونه دليلا على الاستحقاق بدليل أنا استدللنا بوضعه على كون الوضع مستحقا على الدوام حتى متى زال جازت إعادته, ولأن كونه مستحقا تشترط له الحاجة إلى وضعه ففيما لا حاجة إليه له منعه من وضعه وأما السماح به فإن أكثر الناس لا يتسامحون به, ولهذا لما روى أبو هريرة الحديث عن النبي ـ ﷺ ـ (, طأطئوا رءوسهم كراهة لذلك فقال: مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم) وأكثر الفقهاء لا يوجبون التمكين من هذا, ويحملون الحديث على كراهة المنع لا على تحريمه ولأن الحائط يبنى لذلك فيرجح به كالأزج وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ترجح الدعوى بالجذع الواحد لأن الحائط لا يبنى له, ويرجح بالجذعين لأن الحائط يبنى لهما ولنا أنه موضوع على الحائط فاستوى في ترجيح الدعوى به قليله وكثيره, كالبناء. فصل: ولا ترجح الدعوى بكون الدواخل إلى أحدهما والخوارج ووجوه الآجر والحجارة ولا كون الآجرة الصحيحة مما يلي ملك أحدهما وأقطاع الآجر إلى ملك الآخر ولا بمعاقد القمط في الخص, يعني عقد الخيوط التي يشد بها الخص وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط لما روى نمر بن حارثة التميمي, عن أبيه (أن قوما اختصموا إلى النبي ـ ﷺ ـ في خص فبعث حذيفة بن اليمان ليحكم بينهم فحكم به لمن يليه معاقد القمط, ثم رجع إلى النبي ـ ﷺ ـ فأخبره فقال: أصبت وأحسنت) رواه ابن ماجه وروى نحوه عن على ولأن العرف جار بأن من بنى حائطًا جعل وجه الحائط إليه ولنا, عموم قوله عليه السلام: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولأن وجه الحائط ومعاقد القمط إذا كانا شريكين فيه لا بد من أن يكون إلى أحدهما إذ لا يمكن كونه إليهما جميعا, فبطلت دلالته كالتزويق ولأنه يراد للزينة فأشبه التزويق وحديثهم لا يثبته أهل النقل, وإسناده مجهول قاله ابن المنذر قال الشالنجي: ذكرت هذا الحديث لأحمد فلم يقنعه وذكرته لإسحاق بن راهويه, فقال: ليس هذا حديثا ولم يصححه وحديث على فيه مقال وما ذكروه من العرف ليس بصحيح فإن العادة جعل وجه الحائط إلى خارج ليراه الناس كما يلبس الرجل أحسن أثوابه, أعلاها الظاهر للناس ليروه فيتزين به, فلا دليل فيه فصل: ولا ترجح الدعوى بالتزويق والتحسين ولا يكون أحدهما له على الآجر سترة غير مبنية عليه لأنه مما يتسامح به ويمكن إحداثه. فصل:


وإن تنازع صاحب العلو والسفل, في حوائط البيت السفلاني فهي لصاحب السفل لأنه المنتفع بها وهي من جملة البيت, فكانت لصاحبه وإن تنازعا حوائط العلو فهي لصاحب العلو لذلك وإن تنازعا السقف تحالفا, وكان بينهما وبهذا قال الإمام الشافعي: وقال أبو حنيفة: هو لصاحب السفل لأن السقف على ملكه فكان القول قوله كما لو تنازعا سرجا على دابة أحدهما, كان القول قول صاحبها وحكي عن مالك أنه لصاحب السفل وحكي عنه, أنه لصاحب العلو لأنه يجلس عليه ويتصرف فيه ولا يمكنه السكنى إلا به ولنا, أنه حاجز بين ملكيهما ينتفعان به غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان, فكان بينهما كالحائط بين الملكين وقولهم: هو على ملك صاحب السفل يبطل بحيطان العلو ولا يشبه السرج على الدابة لأنه لا ينتفع به غير صاحبها, ولا يراد إلا لها فكان في يده وهذا السقف ينتفع به كل واحد منهما لأنه سماء صاحب السفل يظله وأرض صاحب العلو تقله, فاستويا فيه. فصل:


وإن تنازع صاحب العلو والسفل في الدرجة التي يصعد منها فإن لم يكن تحتها مرفق لصاحب السفل كسلم مسمرا, أو دكة فهي لصاحب العلو وحده لأن له اليد والتصرف وحده لأنها مصعد صاحب العلو لا غير والعرصة التي عليها الدرجة له أيضا لانتفاعه بها وحده وإن كان تحتها بنيت لأجله, لتكون مدرجا للعلو فهي بينهما لأن يديهما عليها ولأنها سقف للسفلاني, وموطئ للفوقاني فهي كالسقف الذي بينهما وإن كان تحتها طاق صغير لم تبن الدرجة لأجله وإنما جعل مرفقا يجعل فيه جب الماء ونحوه, فهي لصاحب العلو لأنها بنيت لأجله وحده ويحتمل أن تكون بينهما لأن يدهما عليها وانتفاعهما حاصل بها فهي كالسقف. فصل:


ولو تنازعا مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر, تحالفا وكانت بينهما لأنها حاجز بين ملكيهما فهي كالحائط بين الملكين. فصل:


إذا كان بينهما حائط فطلب أحدهما إعادته فأبى الآخر مشترك, فانهدم فطلب أحدهما إعادته فأبى الآخر, فهل يجبر الممتنع على إعادته؟ قال القاضي: فيه روايتان: إحداهما يجبر نقلها ابن القاسم وحرب, وسندي قال القاضي: هي أصح وقال ابن عقيل: وعلى ذلك أصحابنا وبه قال مالك في إحدى روايتيه والشافعي في قديم قوليه واختاره بعض أصحابه, وصححه لأن في ترك بنائه إضرارا فيجبر عليه كما يجبر على القسمة إذا طلبها أحدهما, وعلى النقض إذا خيف سقوطه عليهما ولقول النبي ـ ﷺ ـ : (لا ضرر ولا إضرار) وهذا وشريكه يتضرران في ترك بنائه والرواية الثانية لا يجبر نقل عن أحمد ما يدل على ذلك, وهو أقوى دليلا ومذهب أبي حنيفة لأنه ملك لا حرمة له في نفسه فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه, كما لو انفرد به ولأنه بناء حائط فلم يجبر عليه, كالابتداء ولأنه لا يخلو إما أن يجبر على بنائه لحق نفسه, أو لحق جاره أو لحقيهما جميعا لا يجوز أن يجبر عليه لحق نفسه, بدليل ما لو انفرد به ولا لحق غيره كما لو انفرد به جاره, فإذا لم يكن كل واحد منهما موجبا عليه فكذلك إذا اجتمعا وفارق القسمة فإنها دفع للضرر عنهما بما لا ضرر فيه, والبناء فيه مضرة لما فيه من الغرامة وإنفاق ماله ولا يلزم من إجباره على إزالة الضرر بما لا ضرر فيه, إجباره على إزالته بما فيه ضرر بدليل قسمة ما في قسمته ضرر ويفارق هدم الحائط إذا خيف سقوطه لأنه يخاف سقوط حائطه على ما يتلفه فيجبر على ما يزيل ذلك, ولهذا يجبر عليه وإن انفرد بالحائط بخلاف مسألتنا ولا نسلم أن في تركه إضرارا, فإن الضرر إنما حصل بانهدامه وإنما ترك البناء ترك لما يحصل النفع به وهذا لا يمنع الإنسان منه, بدليل حالة الابتداء وإن سلمنا أنه إضرار لكن في الإجبار إضرار, ولا يزال الضرر بالضرر وقد يكون الممتنع لا نفع له في الحائط أو يكون الضرر عليه أكثر من النفع, أو يكون معسرا ليس معه ما يبنى به فيكلف الغرامة مع عجزه عنها فعلى هذه الرواية إذا امتنع أحدهما لم يجبر, فإن أراد شريكه البناء فليس له منعه منه لأن له حقا في الحمل ورسما فلا يجوز منعه منه وله بناؤه بأنقاضه إن شاء, وبناؤه بآلة من عنده فإن بناه بآلته وأنقاضه فالحائط بينهما على الشركة, كما كان لأن المنفق عليه إنما أنفق على التالف وذلك أثر لا عين يملكها وإن بناه بآلة من عنده فالحائط ملكه خاصة وله منع شريكه من الانتفاع به, ووضع خشبه ورسومه عليه لأن الحائط له وإذا أراد نقضه فإن كان بناه بآلته لم يملك نقضه لأنه ملكهما فلم يكن له التصرف فيه [ بما ] فيه مضرة عليهما وإن بناه بآلة من عنده, فله نقضه لأنه ملكه خاصة فإن قال شريكه: أنا أدفع إليك نصف قيمة البناء ولا تنقضه لم يجبر لأنه لما لم يجبر على البناء لم يجبر على الإبقاء وإن أراد غير الباني نقضه أو إجبار بانيه على نقضه لم يكن له ذلك, على الروايتين جميعا لأنه إذا لم يملك منعه من بنائه فلأن لا يملك إجباره على نقضه أولى فإن كان له على الحائط رسم انتفاع, ووضع خشب قال له: إما أن تأخذ مني نصف قيمته وتمكنني من انتفاعي ووضع خشبي, وإما أن تقلع حائطك لنعيد البناء بيننا فيلزم الآخر إجابته لأنه لا يملك إبطال رسومه وانتفاعه ببنائه وإن لم يرد الانتفاع به فطالبه الباني بالغرامة أو القيمة, لم يلزمه ذلك لأنه إذا لم يجبر على البناء فأولى أن لا يجبر على الغرامة إلا أن يكون قد أذن في البناء والإنفاق, فيلزمه ما أذن فيه فأما على الرواية الأولى فمتى امتنع أجبره الحاكم على ذلك, فإن لم يفعل أخذ الحاكم من ماله وأنفق عليه وإن لم يكن له مال, فأنفق عليه الشريك بإذن الحاكم أو إذن الشريك رجع عليه متى قدر وإن أراد بناءه, لم يملك الشريك منعه وما أنفق إن تبرع به لم يكن له الرجوع به وإن نوى الرجوع به, فهل له الرجوع بذلك؟ يحتمل وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه وإن بناه لنفسه بآلته فهو بينهما وإن بناه بآلة من عنده, فهو له خاصة فإن أراد نقضه فله ذلك إلا أن يدفع إليه شريكه نصف قيمته, فلا يكون له نقضه لأنه إذا أجبر على بنائه فأولى أن يجبر على إبقائه. فصل:


فإن لم يكن بين ملكيهما حائط قديم فطلب أحدهما من الآخر مباناته حائطا يحجز بين ملكيهما, فامتنع لم يجبر عليه رواية واحدة وإن أراد البناء وحده لم يكن له البناء إلا في ملكه خاصة لأنه لا يملك التصرف في ملك جاره المختص به, ولا في الملك المشترك بغير ما له فيه رسم وهذا لا رسم له ولا أعلم في هذا خلافا. فصل:


فإن كان السفل لرجل والعلو لآخر, فانهدم السقف الذي بينهما فطلب أحدهما المباناة من الآخر فامتنع, فهل يجبر الممتنع على ذلك؟ على روايتين كالحائط بين البيتين وللشافعي قولان كالروايتين وإن انهدمت حيطان السفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها, فعلى روايتين إحداهما يجبر وهو قول مالك وأبي ثور, وأحد قولي الشافعي فعلى هذه الرواية يجبر على البناء وحده لأنه ملكه خاصة والثانية, لا يجبر وهو قول أبي حنيفة وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع من ذلك على الروايتين جميعا فإن بناه بآلته فهو على ما كان, وإن بناه بآلة من عنده فقد روى عن أحمد: لا ينتفع به صاحب السفل يعني حتى يؤدي القيمة فيحتمل أن لا يسكن, وهو قول أبي حنيفة لأن البيت إنما يبنى للسكنى فلم يملكه كغيره, ويحتمل أنه أراد الانتفاع بالحيطان خاصة من طرح الخشب وسمر الوتد, وفتح الطاق ويكون له السكنى من غير تصرف في ملك غيره وهذا مذهب الشافعي لأن السكنى إنما هي إقامته في فناء الحيطان, من غير تصرف فيها فأشبه الاستظلال بها من خارج فأما إن طالب صاحب السفل بالبناء وأبى صاحب العلو, ففيه روايتان: إحداهما لا يجبر على بنائه ولا مساعدته وهو قول الشافعي لأن الحائط ملك صاحب السفل مختص به, فلم يجبر غيره على بنائه ولا المساعدة فيه كما لو لم يكن عليه علو والثانية, يجبر على مساعدته والبناء معه وهو قول أبي الدرداء لأنه حائط يشتركان في الانتفاع به أشبه الحائط بين الدارين. فصل:


فإن كان بين البيتين حائط لأحدهما, فانهدم فطلب أحدهما من الآخر بناءه أو المساعدة في بنائه فامتنع, لم يجبر لأنه إن كان الممتنع مالكه لم يجبر على بناء ملكه المختص به كحائط الآخر وإن كان الممتنع الآخر لم يجبر على بناء ملك غيره, ولا المساعدة فيه ولا يلزم على هذا حائط السفل حيث يجبر صاحبه على بنائه مع اختصاصه بملكه لأن الظاهر أن صاحب العلو ملكه مستحقا لإبقائه على حيطان السفل دائما, فلزم صاحب السفل تمكينه مما يستحقه وطريقه البناء فلذلك وجب, بخلاف مسألتنا وإن أراد صاحب الحائط بناءه أو نقضه بعد بنائه لم يكن لجاره منعه لأنه ملكه خاصة وإن أراد جاره بناءه, أو نقضه أو التصرف فيه لم يملك ذلك لأنه لا حق له فيه. فصل:


ومتى هدم أحد الشريكين الحائط المشترك أو السقف الذي بينهما, نظرت فإن خيف سقوطه ووجب هدمه, فلا شيء على هادمه ويكون كما لو انهدم بنفسه لأنه فعل الواجب وأزال الضرر الحاصل بسقوطه, وإن هدمه لغير ذلك فعليه إعادته سواء هدمه لحاجة أو غيرها وسواء التزم إعادته أو لم يلتزم لأن الضرر حصل بفعله, فلزمه إعادته. فصل:


فإن اتفقا على بناء الحائط المشترك بينهما نصفين وملكه بينهما الثلث والثلثان لم يصح لأنه يصالح على بعض ملكه ببعض فلم يصح, كما لو أقر له بدار فصالحه على سكناها ولو اتفقا على أن يحمله كل واحد منهما ما شاء لم يجز لجهالة الحمل فإنه يحمله من الأثقال ما لا طاقة له بحمله وإن اتفقا على أن يكون بينهما نصفين جاز. فصل:


فإن كان بينهما نهر أو قناة أو دولاب أو ناعورة, أو عين فاحتاج إلى عمارة ففي إجبار الممتنع منهما روايتان وحكي عن أبي حنيفة, أنه يجبر ها هنا على الإنفاق لأنه لا يتمكن شريكه من مقاسمته فيضر به بخلاف الحائط فإنه يمكنهما قسمة العرصة والأولى التسوية لأن في قسمة العرصة إضرارا بهما والإنفاق أرفق بهما, فكانا سواء والحكم في الدولاب والناعورة كالحكم في الحائط على ما ذكرناه وأما البئر والنهر, فلكل واحد منهما الإنقاق عليه وإذا أنفق عليه لم يكن له منع الآخر من نصيبه من الماء لأن الماء ينبع من ملكيهما, وإنما أثر أحدهما في نقل الطين منه وليس له فيه عين مال فأشبه الحائط إذا بناه بآلته, والحكم في الرجوع بالنفقة كحكم الرجوع في النفقة على الحائط على ما مضى. فصل: إذا كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ, أحدهما قريب من باب الزقاق والآخر في داخله فللقريب من الباب نقل بابه إلى ما يلي باب الزقاق لأن له الاستطراق إلى بابه القديم فقد نقص من استطراقه ومتى أراد رد بابه إلى موضعه الأول, كان له لأن حقه لم يسقط وإن أراد نقل بابه تلقاء صدر الزقاق لم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأنه يقدم بابه إلى موضع لا استطراق له فيه ويحتمل جواز ذلك لأنه كان له أن يجعل بابه في أول البناء, في أي موضع شاء فتركه في موضع لا يسقط حقه كما أن تحويله بعد فتحه لا يسقط, ولأن له أن يرفع حائطه كله فلا يمنع من رفع موضع الباب وحده فأما صاحب الباب الثاني فإن كان في داخل الدرب باب لآخر, فحكمه في التقديم والتأخير حكم صاحب الباب الأول سواء وإن لم يكن له ثم باب آخر كان له تحويل بابه حيث شاء لأنه على الأول, لا منازع له فيما تجاوز الباب الأول وعلى الاحتمال الذي ذكرناه لكل واحد منهما ذلك ولو أراد كل واحد منهما أن يفتح في داره بابا آخر, أو يجعل داره دارين يفتح لكل واحدة منهما بابا جاز, إذا وضع البابين في موضع استطراقه وإن كان ظهر دار أحدهما إلى شارع نافذ أو زقاق نافذ ففتح في حائطه بابا إليه, جاز لأنه يرتفق بما لم يتعين ملك أحد عليه فإن قيل: في هذا إضرار بأهل الدرب لأنه بجعله نافذا يستطرق إليه من الشارع قلنا: لا يصير الدرب نافذا وإنما تصير داره نافذة وليس لأحد استطراق داره فأما إن كان بابه في الشارع, وظهر داره إلى الزقاق الذي لا ينفذ فأراد أن يفتح بابا إلى الزقاق للاستطراق لم يكن له ذلك لأنه ليس له حق في الدرب الذي قد تعين عليه ملك أربابه ويحتمل الجواز, كما ذكرنا في الوجه الذي قد تقدم وإن أراد أن يفتح فيه بابا لغير الاستطراق أو يجعل له بابا يسمره, أو شباكا جاز لأنه لما كان له رفع الحائط بجملته فبعضه أولى قال ابن عقيل: ويحتمل عندي أنه لا يجوز لأن شكل الباب مع تقادم العهد ربما استدل به على حق الاستطراق, فيضر بأهل الدرب بخلاف رفع الحائط فإنه لا يدل على شيء. فصل:


وإذا كان لرجل داران متلاصقتان ظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الأخرى, وباب كل واحدة منهما في زقاق غير نافذ فرفع الحاجز بينهما وجعلهما دارا واحدة, جاز وإن فتح من كل واحدة منهما بابا إلى الأخرى ليتمكن من التطرق من كل واحدة منهما إلى كلا الدارين لم يجز ذكره القاضي لأن ذلك يثبت الاستطراق في الدرب الذي لا ينفذ من دار لم يكن لها فيه طريق, ولأن ذلك ربما أدى إلى إثبات الشفعة في قول من يثبتها بالطريق لكل واحدة من الدارين في زقاق الأخرى ويحتمل جواز ذلك لأن له رفع الحاجز جميعه فبعضه أولى وهذا أشبه, وما ذكرناه للمنع منتقض بما إذا رفع الحائط جميعه وفي كل موضع قلنا: ليس له فعله إذا صالحه أهل الدرب بعوض معلوم أو أذنوا له بغير عوض جاز. فصل:


إذا تنازع صاحب البابين في الدرب, وتداعياه ولم يكن فيه باب لغيرهما ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يحكم بالدرب من أوله إلى الباب الذي يلي أوله بينهما لأن لهما الاستطراق فيه جميعا, وما بعده إلى صدر الدرب للأخر لأن الاستطراق في ذلك له وحده فله اليد والتصرف والوجه الثاني أن من أوله إلى أقصى حائط الأول بينهما لأن ما يقابل ذلك لهما التصرف فيه, بناء على أن للأول أن يفتح بابه فيما شاء من حائطه وما بعد ذلك للثاني لأنه ليس بفناء للأول ولا له فيه استطراق والثالث, يكون بينهما لأن لهما جميعا يدا وتصرفا وهكذا الحكم فيما إذا كان لرجل علو خان ولآخر سفله ولصاحب العلو درجة في أثناء صحن الخان, فاختلفا في الصحن فما كان من الدرجة إلى باب الخان بينهما وما وراء ذلك إلى صدر الخان على الوجهين, أحدهما هو لصاحب السفل والثاني هو بينهما فإن كانت الدرجة في صدر الصحن فالصحن بينهما لوجود اليد والتصرف منهما جميعا فعلى الوجه الذي يقول: إن صدر الدرب مختص بصاحب الباب الصدراني له أن يستبدل بما يختص به منه بأن يجعله دهليزا لنفسه, أو يدخله في داره على وجه لا يضر بجاره ولا يضع على حائطه شيئا لأن ذلك ملك له ينفرد به. فصل:


وليس للرجل التصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره نحو أن يبني فيه حماما بين الدور, أو يفتح خبازا بين العطارين أو يجعله دكان قصارة يهز الحيطان ويخربها أو يحفر بئرا إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى: لا يمنع وبه قال الشافعي, وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه تصرف في ملكه المختص به ولم يتعلق به حق غيره فلم يمنع منه, كما لو طبخ في داره أو خبز فيها وسلموا أنه يمنع من الدق الذي يهدم الحيطان وينثرها ولنا: قول النبي ـ ﷺ ـ : (لا ضرر ولا ضرار) ولأن هذا إضرار بجيرانه فمنع منه, كالدق الذي يهز الحيطان وينثرها وكسقي الأرض الذي يتعدى إلى هدم حيطان جاره أو إشعال نار تتعدى إلى إحراقها قالوا: ها هنا تعدت النار التي أضرمها, والماء الذي أرسله فكان مرسلا لذلك في ملك غيره فأشبه ما لو أرسله إليها قصدا قلنا: والدخان هو أجزاء الحريق الذي أحرقه, فكان مرسلا له في ملك جاره فهو كأجزاء النار والماء وأما دخان الخبز والطبيخ فإن ضرره يسير, ولا يمكن التحرز منه وتدخله المسامحة. فصل:


وإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب الأعلى الصعود على سطحه على وجه يشرف على سطح جاره, إلا أن يبني سترة تستره وقال الشافعي: لا يلزمه عمل سترة لأن هذا حاجز بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما عليه كالأسفل ولنا, أنه إضرار بجاره فمنع منه كدق يهز الحيطان, وذلك لأنه يكشف جاره ويطلع على حرمه فأشبه ما لو اطلع عليه من صير بابه أو خصاصه وقد دل على المنع من ذلك قول النبي ـ ﷺ ـ : (لو أن رجلا اطلع إليك, فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) ويفارق الأسفل فإن تصرفه لا يضر بالأعلى ولا يكشف داره. فصل:


إذا كانت بينهما عرصة حائط, فاتفقا على قسمها طولا جاز ذلك سواء اتفقا على قسمها طولا أو عرضا لأنها ملكهما, ولا تخرج عنهما وإن اختلفا فطلب أحدهما قسمها طولا وهو أن يجعل له نصف الطول في جميع العرض وللآخر مثله, فقال أصحابنا: يجبر الممتنع على القسمة وهو مذهب الشافعي لأن ذلك لا يضر فإذا اقتسما اقترعا فكان لكل واحد منهما ما تخرج به القرعة فإن كان مبنيا فلا كلام, وإن كان غير مبني كان لكل واحد منهما أن يبني في نصيبه وإن أحب أن يدخل بعض عرصته في داره فعل, وإن أحب أن يزيد في حائطه من عرصته فعل ويحتمل أن لا يجبر على القسمة لأنها توجب اختصاص كل واحد منهما ببعض الحائط المقابل لملك شريكه وزوال ملك شريكه فيتضرر لأنه لا يقدر على حائط يستر ملكه, وربما اختار أحدهما أن لا يبني حائطه فيبقى ملك كل واحد منهما مكشوفا أو يبنيه ويمنع جاره من وضع خشبه عليه, وهذا ضرر لا يرد الشرع بالإجبار عليه فإن قيل: فإذا كان مشتركا تمكن أيضا من منع شريكه وضع خشبه عليه قلنا: إذا كان له عليه رسم وضع خشبه أو انتفاع به لم يملك منعه من رسمه, وها هنا يملك منعه بالكلية وأما إن طلب قسمها عرضا وهو أن يجعل لكل واحد منهما نصف العرض في كمال الطول نظرنا, فإن كانت العرصة لا تتسع لحائطين لم يجبر الممتنع من قسمها واختار ابن عقيل أنه يجبر وهو ظاهر كلام الشافعي لأنها عرصة فأجبر على قسمها, كعرصة الدار ولنا أن في قسمها ضررا فلم يجبر الممتنع من قسمها عليه, كالدار الصغيرة وما ذكروه ينتقض بذلك وإن كانت تتسع لحائطين بحيث يحصل لكل واحد منهما ما يبنى فيه حائطًا, ففي إجبار الممتنع وجهان: أحدهما: يجبر قاله أبو الخطاب لأنه لا ضرر في القسمة لكون كل واحد منهما يحصل له ما يندفع به حاجته فأشبه عرصة الدار التي يحصل لكل واحد منهما ما يبنى فيه دارا والثاني لا يجبر ذكره القاضي لأن هذه القسمة لا تقع فيها قرعة لأننا لو أقرعنا بينهما, لم نأمن أن تخرج قرعة كل واحد منهما على ما يلي ملك جاره فلا ينتفع به فلو أجبرناه على القسمة لأجبرناه على أخذ ما يلي داره من غير قرعة, وهذا لا نظير له ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ومتى اقتسما العرصة طولا فبنى كل واحد منهما لنفسه حائطا, وبقيت بينهما فرجة لم يجبر أحدهما على سدها ولم يمنع من سدها لأن ذلك يجري مجرى بناء الحائط في عرصته. فصل:


وإن كان بينهما حائط, فاتفقا على قسمته طولا جاز ويعلم بين نصيبهما بعلامة وإن اتفقا على قسمته عرضا, فقال أصحابنا: يجوز القسمة لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فأشبه العرصة ويحتمل أن لا تجوز القسمة لأنها لا تكون إلا بتمييز نصيب أحدهما من الآخر, بحيث يمكنه الانتفاع بنصيبه دون نصيب صاحبه وها هنا لا يتميز ولا يمكن انتفاع أحدهما بنصيبه منفردا لأن إن وضع خشبه على أحد جانبي الحائط, كان ثقله على الحائط كله وإن فتح فيه طاقا يضعفه ضعف كله, وإن وقع بعضه تضرر النصيب الآخر وإن طلب أحدهما قسمه وأبى الآخر فذكر القاضي, أن الحكم في الحائط كالحكم في عرصته سواء ولا يجبر على قسم الحائط, إلا أن يطلب أحدهما قسمه طولا ويحتمل أن لا يجبر على قسمه أيضا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنهما إن قطعاه بينهما فقد أتلفا جزءا من الحائط, ولا يجبر الممتنع من ذلك كما لو كان بينهما ثوب فطلب أحدهما قطعه وإن لم يقطع وعلما علامة على نصفه, كان انتفاع أحدهما بنصيبه انتفاعا بنصيب الآخر ووجه الأول أنه يجبر على قسم الدار وقسم حائطها المحيط بها وكذلك قسم البستان وحائطه, ولا يجبر على القطع المضر بل يعلمه بخط بين نصيبهما ولا يلزم من ذلك انتفاع أحدهما بنصيب الآخر وإن اتصل به, بدليل الحائط المتصل في دارين والله أعلم.

===============

القرآن الكريم : {المصحف كله وورد}

الرابط https://archive.org/download/sunnahandhadith/UthmanicHafs1-Ex1-Ver12-browser.zip  سورة الفاتحة     القرآن الكريم : بِسْمِ اللَ...