Translate

الجمعة، 11 مارس 2022

ج13.كتاب الحجر من كتاب المغني لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي {(الجزء الحادي عشر • كتاب الحجر }

المغني - كتاب الحجر للمغني موفق الدين أبو محمد  عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

(الجزء الحادي عشر
 • كتاب الحجر 
 
 
 o مسألة:
 
= من أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ أحدها: وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد وبلغ الفصل الثاني: امتناع دفع المال قبل البلوغ والرشد الفصل الثالث: في البلوغ فصل: ما يعلم به بلوغ الخنثى المشكل
 
= o مسألة: الأنثى كالذكر في رفع الحجر عنها بالرشد فصل: للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله فصل: حكم تصدق المرأة من مال زوجها بغير إذنه o مسألة: معنى الرشد فصل: اختبار الصبي والجارية لمعرفة رشدهما
 
= o مسألة: عود السفه موجب لعود الحجر فصل: لا يصح الحجر إلا من الحاكم
 
= o مسألة: معاملة المحجور عليه وتصرفه وبيعه وشرائه فصل: الحكم في الصبي والمجنون كالحكم في السفيه فصل: من له النظر في مال المحجور عليه
 
= o مسألة: إقرار المحجور عليه بما يوجب الحد أو القصاص فصل: إذا أقر بما يوجب القصاص فعفا المقر له فصل: صحة خلع المحجور عليه فصل: إن أعتق المحجور عليه لم يصح عتقه فصل: صحة زواج المحجور عليه فصل: صحة تدبير ووصية المحجور عليه فصل: إقرار المحجور عليه بالنسب o مسألة: لا يقبل إقرار السفيه بالدين في حال حجره فصل: تصرف السفيه المأذون له في البيع والشراء

كتاب الحجر الحجر في اللغة: المنع والتضييق ومنه سمي الحرام حجرا قال تعالى: {ويقولون حجرا محجورا} أي حراما محرما ويسمى العقل حجرا, قال الله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر} أي عقل سمي حجرا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته وهو في الشريعة: منع الإنسان من التصرف في ماله, والحجر على ضربين حجر على الإنسان لحق نفسه وحجر عليه لحق غيره, فالحجر عليه لحق غيره كالحجر على المفلس لحق غرمائه, وعلى المريض في التبرع بزيادة على الثلث أو التبرع بشيء لوارث لحق ورثته وعلى المكاتب والعبد لحق سيدهما, والراهن يحجر عليه في الرهن لحق المرتهن ولهؤلاء أبواب يذكرون فيها وأما المحجور عليه لحق نفسه فثلاثة الصبي, والمجنون والسفيه وهذا الباب مختص بهؤلاء الثلاثة والحجر عليهم حجر عام لأنهم يمنعون التصرف في أموالهم وذممهم والأصل في الحجر عليهم قول الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} والآية التي بعدها قال سعيد بن جبير وعكرمة هو مال اليتيم عندك, لا تؤته إياه وأنفق عليه وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء وهي لغيرهم لأنهم قوامها ومدبروها وقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} يعني, اختبروهم في حفظهم لأموالهم {حتى إذا بلغوا النكاح} أي مبلغ الرجال والنساء {فإن آنستم منهم رشدا} أي أبصرتم وعلمتم منهم حفظا لأموالهم وصلاحا في تدبير معايشهم. مسألة:


قال أبو القاسم -رحمه الله-: [ ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله, إذا كان قد بلغ ] الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة: أحدها:


في وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد وبلغ وليس فيه اختلاف بحمد الله تعالى قال ابن المنذر: اتفقوا على ذلك, وقد أمر الله تعالى به في نص كتابه بقوله سبحانه: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ولأن الحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظا لماله عليه, وبهذين المعنيين يقدر على التصرف ويحفظ ماله فيزول الحجر, لزوال سببه ولا يعتبر في زوال الحجر عن المجنون إذا عقل حكم حاكم بغير خلاف ولا يعتبر ذلك في الصبي إذا رشد وبلغ وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يزول إلا بحاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه موضع اجتهاد ونظر, فإنه يحتاج في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم الحاكم كزوال الحجر عن السفيه ولنا, أن الله تعالى أمر بدفع أموالهم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند وجوب ذلك بدون حكم الحاكم وهذا خلاف النص, ولأنه حجر بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون وبهذا فارق السفيه وقد ذكر أبو الخطاب أن الحجر على السفيه يزول بزوال السفه والأول أولى فصار الحجر منقسما إلى ثلاثة أقسام, قسم يزول بغير حكم حاكم وهو حجر المجنون وقسم لا يزول إلا بحاكم, وهو حجر السفيه وقسم فيه الخلاف وهو حجر الصبي. الفصل الثاني:


أنه لا يدفع إليه ماله قبل وجود الأمرين, البلوغ والرشد ولو صار شيخا وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر: أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام, , ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا وهذا قول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وروى الجوزجاني, في " كتابه " قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا يجوز له أمر في ماله دونه لضعف عقله قال ابن إسحاق: رأيته شيخا يخضب, وقد جاء إلى القاسم بن محمد فقال: يا أبا محمد ادفع إلي مالي, فإنه لا يولى علي مثلي فقال: إنك فاسد فقال: امرأته طالق ألبتة وكل مملوك له حر إن لم تدفع إلي مالي فقال له القاسم بن محمد وما يحل لنا أن ندفع إليك مالك على حالك هذه فبعث إلى امرأته, وقال: هي حرة مسلمة وما كنت لأحبسها عليك وقد فهت بطلاقها فأرسل إليها فأخبرها ذلك وقال: أما رقيقك فلا عتق لك, ولا كرامة فحبس رقيقه قال ابن إسحاق: ما كان يعاب على الرجل إلا سفهه وقال أبو حنيفة: لا يدفع ماله إليه قبل خمس وعشرين سنة وإن تصرف نفذ تصرفه فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة, فك عنه الحجر ودفع إليه ماله لقول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} وهذا قد بلغ أشده ويصلح أن يكون جدا ولأنه حر بالغ عاقل مكلف, فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا قول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} علق الدفع على شرطين, والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} يعني أموالهم وقول الله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} فأثبت الولاية على السفيه, ولأنه مبذر لماله فلا يجوز دفعه إليه كمن له دون ذلك وأما الآية التي احتج بها, فإنما يدل بدليل خطابها وهو لا يقول به ثم هي مخصصة فيما قبل خمس وعشرين سنة بالإجماع, لعلة السفه وهو موجود بخمس وعشرين فيجب أن تخص به أيضا, كما أنها لما خصصت في حق المجنون لأجل جنونه قبل خمس وعشرين خصت أيضا بخمس وعشرين وما ذكرناه من المنطوق أولى مما استدل به من المفهوم المخصص, وما ذكروه من كونه جدا ليس تحته معنى يقضي الحكم ولا له أصل يشهد له في الشرع فهو إثبات للحكم بالتحكم ثم هو متصور في من له دون هذه السن, فإن المرأة تكون جدة لإحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة وما أوجب الحجر قبل خمس وعشرين يوجبه بعدها إذا ثبت هذا فإنه لا يصح تصرفه, ولا إقراره وقال أبو حنيفة: يصح بيعه وإقراره وإنما لا يسلم إليه ماله لأن البالغ عنده لا يحجر عليه وإنما منع تسليم ماله إليه للآية وقال أصحابنا في إقراره: يلزمه بعد فك الحجر عنه إذا كان بالغا ولنا, أنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلا يصح تصرفه وإقراره كالصبي, والمجنون ولأنه إذا نفذ تصرفه وإقراره تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئا, ولأن تصرفه لو كان نافذا لسلم إليه ماله كالرشيد, فإنه إنما يمنع ماله حفظا له فإذا لم يحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الأصل. الفصل الثالث: في البلوغ


ويحصل في حق الغلام والجارية بأحد ثلاثة أشياء وفي حق الجارية بشيئين يختصان بها أما الثلاثة المشتركة بين الذكر والأنثى, فأولها خروج المني من قبله وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد فكيفما خرج في يقظة أو منام, بجماع أو احتلام أو غير ذلك, حصل به البلوغ لا نعلم في ذلك اختلافا لقول الله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} وقوله {والذين لم يبلغوا الحلم منكم} وقول النبي -ﷺ-: (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم) وقوله عليه السلام لمعاذ: (خذ من كل حالم دينارا) رواهما أبو داود وقال ابن المنذر وأجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل وعلى المرأة بظهور الحيض منها وأما الإنبات فهو أن ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة, الذي استحق أخذه بالموسى وأما الزغب الضعيف فلا اعتبار به, فإنه يثبت في حق الصغير وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في الآخر: هو بلوغ في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين؟ فيه قولان وقال أبو حنيفة لا اعتبار به لأنه نبات شعر, فأشبه نبات شعر سائر البدن ولنا أن النبي -ﷺ- لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن تقتل مقاتلتهم, وتسبى ذراريهم وأمر أن يكشف عن مؤازرتهم فمن أنبت, فهو من المقاتلة ومن لم ينبت ألحقوه بالذرية وقال عطية القرظي: عرضت على رسول الله -ﷺ- يوم قريظة, فشكوا في فأمر النبي -ﷺ- أن ينظر إلي هل أنبت بعد, فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد فألحقوني بالذرية متعلق على معناه وكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله, أن لا تأخذ الجزية إلا من من جرت عليه المواسي وروى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاما من الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر, فلم يجده أنبت فقال: لو أنبت الشعر لحددتك ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا ويستوي فيه الذكر والأنثى, فكان علما على البلوغ كالاحتلام ولأن الخارج ضربان, متصل ومنفصل فلما كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ, كان كذلك المتصل وما كان بلوغا في حق المشركين كان بلوغا في حق المسلمين كالاحتلام, والسن وأما السن فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال داود: لا حد للبلوغ من السن, لقوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم) وإثبات البلوغ بغيره يخالف الخبر وهذا قول مالك وقال أصحابه: سبع عشرة أو ثماني عشرة وروي عن أبي حنيفة في الغلام روايتان إحداهما, سبع عشرة والثانية ثماني عشرة والجارية سبع عشرة بكل حال لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيف, أو اتفاق ولا توقيف في ما دون هذا ولا اتفاق ولنا, أن ابن عمر قال: (عرضت على رسول الله -ﷺ- وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة, فأجازني) متفق عليه وفي لفظ: عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فردني ولم يرني بلغت وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة, فأجازني فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله: أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي في " مسنده " ورواه الترمذي, وقال: حديث حسن صحيح وروي عن أنس أن النبي -ﷺ- قال: (إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأخذت منه الحدود) ولأن السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الغلام والجارية, فاستويا فيه كالإنزال وما ذكره أصحاب أبي حنيفة ففيما رويناه جواب عنه, وما احتج به داود لا يمنع إنبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل ولهذا كان إنبات الشعر علما وأما الحيض فهو علم على البلوغ لا نعلم فيه خلافا, وقد قال النبي -ﷺ-: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) رواه الترمذي وقال: حديث حسن وأما الحمل فهو علم على البلوغ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولد لا يخلق إلا من ماء الرجل وماء المرأة قال الله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب} وأخبر النبي -ﷺ- بذلك في الأحاديث فمتى حملت حكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه. فصل:


وإذا وجد خروج المني من ذكر الخنثى المشكل, فهو علم على بلوغه وكونه رجلا وإن خرج من فرجه, أو حاض فهو علم على بلوغه وكونه امرأة وقال القاضي: ليس واحد منهما علما على البلوغ, فإن اجتمعا فقد بلغ وهذا مذهب الشافعي لجواز أن يكون الفرج الذي خرج منه ذلك خلقة زائدة ولنا أن خروج البول من أحد الفرجين دليل على كونه رجلا أو امرأة, فخروج المني والحيض أولى وإذا ثبت كونه رجلا خرج المني من ذكره أو امرأة خرج الحيض من فرجها, لزم وجود البلوغ ولأن خروج مني الرجل من المرأة والحيض من الرجل, مستحيل فكان دليلا على التعيين فإذا ثبت التعيين لزم كونه دليلا على البلوغ, كما لو تعين قبل خروجه ولأنه مني خارج من ذكر أو حيض خارج من فرج, فكان علما على البلوغ كالمني الخارج من الغلام والحيض الخارج من الجارية ولأنهم سلموا أن خروجهما معا دليل على البلوغ, فخروج أحدهما منفردا أولى لأن خروجهما معا يقتضي تعارضهما وإسقاط دلالتهما إذ لا يتصور أن يجتمع حيض صحيح ومني رجل, فيلزم أن يكون أحدهما فضلة خارجة من غير محلها وليس أحدهما بذلك أولى من الآخر فتبطل دلالتهما, كالبينتين إذا تعارضتا وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعا بخلاف ما إذا وجد أحدهما منفردا, فإن الله تعالى أجرى العادة بأن الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه فإذا وجد ذلك من غير معارض وجب أن يثبت حكمه, ويقضي بثبوت دلالته كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره, وبكونه امرأة بخروجه من فرجها والحكم للغلام بالبلوغ بخروج المني من ذكره, وللجارية بخروج الحيض من فرجها فعلى هذا إن خرجا جميعا لم يثبت كونه رجلا ولا امرأة لأن الدليلين تعارضا فأشبه ما لو خرج البول من الفرجين وهل يثبت البلوغ بذلك؟ فيه وجهان أحدهما, يثبت وهو اختيار القاضي ومذهب الشافعي لأنه إن كان رجلا فقد خرج المني من ذكره, وإن كانت امرأة فقد حاضت والثاني لا يثبت لأنه يجوز أن لا يكون هذا حيضا ولا منيا, فلا يكون فيه دلالة وقد دل تعارضهما على ذلك فانتفت دلالتهما على البلوغ, كانتفاء دلالتهما على الذكورية والأنوثية والله أعلم. مسألة:


قال: [ وكذلك الجارية وإن لم تنكح ] يعني أن الجارية إذا بلغت, وأونس رشدها بعد بلوغها دفع إليها مالها وزال الحجر عنها, وإن لم تتزوج وبهذا قال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور, وابن المنذر ونقل أبو طالب عن أحمد لا يدفع إلى الجارية مالها بعد بلوغها حتى تتزوج وتلد, أو يمضي عليها سنة في بيت الزوج روي ذلك عن عمر وبه قال شريح والشعبي, وإسحاق لما روي عن شريح أنه قال: عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد ولدا رواه سعيد في سننه ولا يعرف له مخالف, فصار إجماعا وقال مالك: لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج ويدخل عليها زوجها لأن كل حالة جاز للأب تزويجها من غير إذنها لم ينفك عنها الحجر, كالصغيرة ولنا عموم قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ولأنها يتيم بلغ وأونس منه الرشد فيدفع إليه ماله كالرجل ولأنها بالغة رشيدة, فجاز لها التصرف في مالها كالتي دخل بها الزوج وحديث عمر إن صح, فلم يعلم انتشاره في الصحابة ولا يترك به الكتاب والقياس على أن حديث عمر مختص بمنع العطية, فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات ومالك لم يعمل به, وإنما اعتمد على إجبار الأب لها على النكاح ولنا أن نمنع ذلك وإن سلمناه, فإنما أجبرها على النكاح لأن اختيارها للنكاح ومصالحه لا يعلم إلا بمباشرته والبيع والشراء والمعاملات ممكنة قبل النكاح وعلى هذه الرواية, إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم الحجر عليها عملا بعموم حديث عمر ولأنه لم يوجد شرط دفع مالها إليها, فلم يجز دفعه إليها كما لو لم ترشد وقال القاضي: عندي أنه يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعني كبرت. فصل:


وظاهر كلام الخرقي, أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى, ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض إلا بإذن زوجها وبه قال مالك وحكي عنه في امرأة حلفت أن تعتق جارية لها ليس لها غيرها فحنثت, ولها زوج فرد ذلك عليها زوجها قال: له أن يرد عليها, وليس لها عتق لما روي أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي -ﷺ- بحلي لها فقال لها النبي: -ﷺ- (لا يجوز للمرأة عطية حتى يأذن زوجها فهل استأذنت كعبا؟ فقالت: نعم فبعث رسول الله -ﷺ- إلى كعب, فقال: هل أذن لها أن تتصدق بحليها؟ قال: نعم فقبله رسول الله -ﷺ-) رواه ابن ماجه وروى أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -ﷺ- قال في خطبة خطبها: (لا يجوز لامرأة عطية من مالها إلا بإذن زوجها إذ هو مالك عصمتها) رواه أبو داود بلفظه, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -ﷺ- قال (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) ولأن حق الزوج معلق بمالها فإن النبي -ﷺ- قال " تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها " والعادة أن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها, ويتبسط فيه وينتفع به فإذا أعسر بالنفقة أنظرته, فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المعلقة بمال المريض ولنا قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} وهو ظاهر في فك الحجر عنهم وإطلاقهم في التصرف, وقد ثبت أن النبي -ﷺ- قال (يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن) ، (وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل) ، (وأتته زينب امرأة عبد الله وامرأة أخرى اسمها زينب فسألته عن الصدقة هل يجزيهن أن يتصدقن على أزواجهن, وأيتام لهن؟ فقال: نعم) ولم يذكر لهن هذا الشرط ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشد جاز له التصرف فيه من غير إذن كالغلام, ولأن المرأة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه كأختها وحديثهم ضعيف وشعيب لم يدرك عبد الله بن عمرو, فهو مرسل وعلى أنه محمول على أنه لا يجوز عطيتها لماله بغير إذنه بدليل أنه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها وليس معهم حديث يدل على تحديد المنع بالثلث, فالتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف ولا عليه دليل وقياسهم على المريض غير صحيح لوجوه أحدها, أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث والزوجية إنما تجعله من أهل الميراث فهي أحد وصفي العلة, فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الوراث بدون المرض الثاني: أن تبرع المريض موقوف, فإن برئ من مرضه صح تبرعه وها هنا أبطلوه على كل حال, والفرع لا يزيد على أصله الثالث أن ما ذكروه منتقض بالمرأة فإنها تنتفع بمال زوجها وتتبسط فيه عادة, ولها النفقة منه وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها وليس لها الحجر عليه, وعلى أن هذا المعنى ليس بموجود في الأصل ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم في الأصل والفرع جميعا. فصل:


وهل يجوز للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير بغير إذنه؟ على روايتين إحداهما, الجواز لأن عائشة قالت: قال رسول الله -ﷺ-: (ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها, وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك, من غير أن ينتقص من أجورهم شيء) ولم يذكر إذنا وعن أسماء أنها جاءت النبي -ﷺ- فقالت: يا رسول الله ليس لي شيء إلا ما أدخل على الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي؟ فقال: (ارضخي ما اسطعت, ولا توعي فيوعى عليك) متفق عليهما وروي أن (امرأة أتت النبي -ﷺ- فقالت: يا رسول الله إنا كل على أزواجنا وآبائنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلينه, وتهدينه) ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس فجرى مجرى صريح الإذن, كما أن تقديم الطعام بين يدي الأكلة قام مقام صريح الإذن في أكله والرواية الثانية لا يجوز لما روى أبو أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا) رواه سعيد في " سننه " وقال النبي -ﷺ-: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) وقال (إن الله حرم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا في بلدكم هذا) ولأنه تبرع بمال غيره بغير إذنه فلم يجز, كغير الزوجة والأول أصح لأن الأحاديث فيها خاصة صحيحة والخاص يقدم على العام ويبينه ويعرف أن المراد بالعام غير هذه الصورة المخصوصة, والحديث الخاص لهذه الرواية ضعيف ولا يصح قياس المرأة على غيرها لأنها بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه, وتتصدق منه لحضورها وغيبته والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي, فصار كأنه قال لها: افعلي هذا فإن منعها ذلك وقال: لا تتصدقي بشيء ولا تتبرعي من مالي بقليل, ولا كثير لم يجز لها ذلك لأن المنع الصريح نفي للإذن العرفي ولو كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته كجاريته أو أخته أو غلامه المتصرف في بيت سيده وطعامه جرى مجرى الزوجة فيما ذكرنا لوجود المعنى فيه ولو كانت امرأته ممنوعة من التصرف في بيت زوجها, كالتي يطعمها بالفرض ولا يمكنها من طعامه ولا من التصرف في شيء من ماله, لم يجز لها الصدقة بشيء من ماله لعدم المعنى فيها والله أعلم. مسألة:


قال: [ والرشد الصلاح في المال ] هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة وقال الحسن والشافعي, وابن المنذر الرشد صلاحه في دينه وماله لأن الفاسق غير رشيد ولأن إفساده لدينه يمنع الثقة به في حفظ ماله كما يمنع قبول قوله, وثبوت الولاية على غيره وإن لم يعرف منه كذب ولا تبذير ولنا قول الله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} قال ابن عباس: يعني صلاحا في أموالهم وقال مجاهد: إذا كان عاقلا ولأن هذا إثبات في نكرة ومن كان مصلحا لماله فقد وجد منه رشد, ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا, ولأن هذا مصلح لماله فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه إنما كان لحفظ ماله عليه, فالمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال أو حفظه وقولهم: إن الفاسق غير رشيد قلنا: هو غير رشيد في دينه أما في ماله وحفظه فهو رشيد, ثم هو منتقض بالكافر فإنه غير رشيد ولا يحجر عليه لذلك وكذلك لو طرأ الفسق على المسلم بعد دفع ماله إليه, لم يزل رشده ولم يحجر عليه من أجله ولو كانت العدالة شرطا في الرشد, لزال بزوالها كحفظ المال ولا يلزم من منع قبول القول منع دفع ماله إليه, فإن من يعرف بكثرة الغلط والغفلة والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجامع الناس, وأشباههم لا تقبل شهادتهم وتدفع إليهم أموالهم إذا ثبت هذا فإن الفاسق إن كان ينفق ماله في المعاصي, كشراء الخمر وآلات اللهو أو يتوصل به إلى الفساد, فهو غير رشيد لتبذيره لماله وتضييعه إياه في غير فائدة وإن كان فسقه لغير ذلك كالكذب, ومنع الزكاة وإضاعة الصلاة مع حفظه لماله, دفع ماله إليه لأن المقصود بالحجر حفظ المال وماله محفوظ بدون الحجر ولذلك لو طرأ الفسق بعد دفع ماله إليه, لم ينزع منه. فصل:


وإنما يعرف رشده باختباره لقول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} يعني اختبروهم كقوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} أي يختبركم واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله إليه فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء فإذا تكررت منه, فلم يغبن ولم يضيع ما في يديه فهو رشيد وإن كان من أولاد الدهاقين, والكبراء الذين يصان أمثالهم عن الأسواق رفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه, فإن كان قيما بذلك يصرفها في مواقعها ويستوفي على وكيله, ويستقصي عليه فهو رشيد والمرأة يفوض إليها ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات, وتوكيلها في شراء الكتان وأشباه ذلك فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها, فهي رشيدة ووقت الاختبار قبل البلوغ في إحدى الروايتين وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الله تعالى قال: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} فظاهر الآية أن ابتلاءهم قبل البلوغ, لوجهين أحدهما أنه سماهم يتامى وإنما يكونون يتامى قبل البلوغ والثاني, أنه مد اختبارهم إلى البلوغ بلفظة: "حتى" فدل على أن الاختبار قبله ولأن تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد لأن الحجر يمتد إلى أن يختبر ويعلم رشده, واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى لكن لا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء والمصلحة من المفسدة ومتى أذن له وليه فتصرف, صح تصرفه على ما ذكرنا فيما مضى وقد أومأ أحمد في موضع إلى اختباره بعد البلوغ لأن تصرفه قبل ذلك تصرف ممن لم يوجد فيه مظنة العقل وقد اختلف أصحاب الشافعي في وقت الاختبار على نحو ما ذكرنا فيما مضى من الروايتين. مسألة:


قال: [ فإن عاود السفه حجر عليه ] وجملته, أن المحجور عليه إذا فك عنه الحجر لرشده وبلوغه ودفع إليه ماله ثم عاد إلى السفه, أعيد عليه الحجر وبهذا قال القاسم بن محمد ومالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق, وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل, وتصرفه نافذ وروي ذلك عن ابن سيرين والنخعي لأنه حر مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا إجماع الصحابة وروى عروة بن الزبير, أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فقال علي رضي الله عنه لآتين عثمان ليحجر عليك فأتى عبد الله بن جعفر الزبير فقال: قد ابتاع بيعا, وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر على فقال الزبير: أنا شريكك في البيع فأتى على عثمان فقال إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا, فاحجر عليه فقال الزبير: أنا شريكه في البيع فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير قال أحمد: لم أسمع هذا إلا من أبي يوسف القاضي وهذه قصة يشتهر مثلها ولم يخالفها أحد في عصرهم فتكون إجماعا ولأن هذا سفيه, فيحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه إذا بلغ سفيها سفهه وهو موجود, ولأن السفه لو قارن البلوغ منع دفع ماله إليه فإذا حدث أوجب انتزاع المال كالجنون وفارق الرشيد فإن رشده لو قارن البلوغ لم يمنع دفع ماله إليه. فصل:


ولا يحجر عليه إلا الحاكم, وبهذا قال الشافعي وقال محمد يصير محجورا عليه بمجرد تبذيره لأن ذلك سبب الحجر فأشبه الجنون ولنا: أن التبذير يختلف ويختلف فيه, ويحتاج إلى الاجتهاد فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد لم يثبت إلا بحكم الحاكم, كابتداء مدة العنة ولأنه حجر مختلف فيه فلم يثبت إلا بحكم الحاكم, كالحجر على المفلس وفارق الجنون فإنه لا يفتقر إلى الاجتهاد ولا خلاف فيه, ومتى حجر عليه ثم عاد فرشد فك الحجر عنه ولا يزول إلا بحكم الحاكم وبه قال الشافعي وقال أبو الخطاب: يزول السفه لأنه سبب الحجر, فيزول بزواله كما في حق الصبي والمجنون ولنا أنه حجر ثبت بحكم الحاكم, فلا يزول إلا به كحجر المفلس ولأن الرشد يحتاج إلى تأمل واجتهاد في معرفته, وزوال تبذيره فكان كابتداء الحجر عليه وفارق الصبي والمجنون فإن الحجر عليهما بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه ولأننا لو وقفنا تصرف الناس على الحاكم, كان أكثر الناس محجورا عليه قال أحمد: والشيخ الكبير ينكر عقله يحجر عليه يعني: إذا كبر واختل عقله, حجر عليه بمنزلة المجنون لأنه يعجز بذلك عن التصرف في ماله على وجه المصلحة وحفظه, فأشبه الصبي والسفيه. مسألة:


قال: [ فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله ] وجملته أن الحاكم إذا حجر على السفيه استحب أن يشهد عليه, ليظهر أمره فتجتنب معاملته وإن رأى أن يأمر مناديا ينادي بذلك ليعرفه الناس, فعل ولا يشترط الإشهاد عليه لأنه قد ينتشر أمره بشهرته وحديث الناس به فإذا حجر عليه فباع واشترى كان ذلك فاسدا, واسترجع الحاكم ما باع من ماله ورد الثمن إن كان باقيا وإن أتلفه السفيه أو تلف في يده, فهو من ضمان المشتري ولا شيء على السفيه وكذلك ما أخذ من أموال الناس برضا أصحابها كالذي يأخذه بقرض أو شراء أو غير ذلك, رده الحاكم إن كان باقيا وإن كان تالفا فهو من ضمان صاحبه, علم بالحجر عليه أو لم يعلم لأنه إن علم فقد فرط بدفع ماله إلى من حجر عليه وإن لم يعلم, فهو مفرط إذا كان في مظنة الشهرة هذا إذا كان صاحبه قد سلطه عليه فأما إن حصل في يده باختيار صاحبه من غير تسليط, كالوديعة والعارية فاختار القاضي أنه يلزمه الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه لأنه أتلفه بغير اختيار صاحبه, فأشبه ما لو كان القبض بغير اختياره ويحتمل أنه لا يضمن لأنه عرضها لإتلافه, وسلطه عليها فأشبه المبيع وأما ما أخذه بغير اختيار صاحبه أو أتلفه, كالغصب والجناية فعليه ضمانه لأنه لا تفريط من المالك لأن الصبي والمجنون لو فعلا ذلك, لزمهما الضمان فالسفيه أولى ومذهب الشافعي في هذا كله كذلك. فصل:


والحكم في الصبي والمجنون كالحكم في السفيه, في وجوب الضمان عليهما فيما أتلفاه من مال غيرهما بغير إذنه أو غصباه فتلف في أيديهما وانتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه وتسليطه كالثمن والمبيع والقرض والاستدانة وأما الوديعة والعارية, فلا ضمان عليهما فيما تلف بتفريطهما وإن أتلفاه ففي ضمانه وجهان " فصل:


ولا ينظر في مال الصبي والمجنون ما داما في الحجر, إلا الأب أو وصيه بعده أو الحاكم عند عدمهما وأما السفيه, فإن كان محجورا عليه صغيرا واستديم الحجر عليه لسفهه فالولي فيه من ذكرناه وإن جدد الحجر عليه بعد بلوغه, لم ينظر في ماله إلا الحاكم لأن الحجر يفتقر إلى حكم حاكم وزواله يفتقر إلى ذلك فكذلك النظر في ماله. مسألة:


قال: [ وأن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا أو طلق زوجته, لزمه ذلك ] وجملته أن المحجور عليه لفلس أو سفه, إذا أقر بما يوجب حدا أو قصاصا كالزنا والسرقة, والشرب والقذف والقتل العمد, أو قطع اليد وما أشبهها فإن ذلك مقبول, ويلزمه حكم ذلك في الحال لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان إقراره بزنا أو سرقة, أو شرب خمر أو قذف أو قتل, وأن الحدود تقام عليه وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه غير متهم في حق نفسه, والحجر إنما تعلق بماله فقبل إقراره على نفسه بما لا يتعلق بالمال وإن طلق زوجته نفذ طلاقه, في قول أكثر أهل العلم وقال ابن أبي ليلى: لا يقع طلاقه لأن البضع يجري مجرى المال بدليل أنه يملكه بمال ويصح أن يزول ملكه عنه بمال فلم يملك التصرف فيه كالمال ولنا, أن الطلاق ليس بتصرف في المال ولا يجري مجراه فلا يمنع منه كالإقرار بالحد والقصاص ودليل أنه لا يجري مجرى المال, أنه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التصرف في المال ولا يملك بالميراث, ولأنه مكلف طلق امرأته مختارا فوقع طلاقه كالعبد والمكاتب. فصل:


وإذا أقر بما يوجب القصاص, فعفا المقر له على مال احتمل أن يجب المال لأنه عفو عن قصاص ثابت فصح, كما لو ثبت بالبينة واحتمل أن لا يصح لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الإقرار بالمال بأن يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الإقرار بالقصاص والعفو عنه على مال ولأنه وجوب مال, مستنده إقراره فلم يثبت كالإقرار به ابتداء فعلى هذا القول يسقط وجوب القصاص, ولا يجب المال في الحال. فصل:


وإن خالع صح خلعه لأنه إذا صح الطلاق ولا يحصل منه شيء, فالخلع الذي يحصل به المال أولى إلا أن العوض لا يدفع إليه وإن دفع إليه, لم يصح قبضه وإن أتلفه لم يضمنه, ولم تبرأ المرأة بدفعه إليه وهو من ضمانها إن أتلفه أو تلف في يده لأنها سلطته على إتلافه. فصل:


وإن أعتق لم يصح عتقه, وهذا قول القاسم بن محمد والشافعي وحكى أبو الخطاب, عن أحمد رواية أخرى: أنه يصح لأنه عتق من مكلف مالك تام الملك فصح, كعتق الراهن والمفلس ولنا أنه تصرف في ماله فلم يصح, كسائر تصرفاته ولأنه تبرع فأشبه هبته ووقفه ولأنه محجور عليه لحفظ ماله عليه, فلم يصح عتقه كالصبي والمجنون وفارق المفلس والراهن فإن الحجر عليهما لحق غيرهما فصل:


وإن تزوج, صح النكاح بإذن وليه وبغير إذنه وبهذا قال أبو حنيفة وقال: أبو الخطاب لا يصح بغير إذن وليه, وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه تصرف يجب به مال فلم يصح بغير إذن وليه, كالشراء ولنا أنه عقد غير مالي فصح منه, كخلعه وطلاقه وإن لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن, فلا يمنع من العقد كما لو لزم ذلك من الطلاق. فصل:


ويصح تدبيره ووصيته لأن ذلك محض مصلحته لأنه تقرب إلى الله تعالى بماله بعد غناه عنه ويصح استيلاده وتعتق الأمة المستولدة بموته لأنه إذا صح ذلك من المجنون, فمن السفيه أولى وله المطالبة بالقصاص لأنه موضوع للتشفي والانتقام وهو من أهله وله العفو على مال لأنه تحصيل للمال لا تضييع له وإن عفا على غير مال نظرت فإن قلنا: الواجب القصاص عينا صح عفوه لأنه لم يتضمن تضييع المال وإن قلنا: أحد الشيئين لم يصح عفوه عن المال, ووجب المال كما لو سقط القصاص بعفو أحد الشريكين وإن أحرم بالحج صح إحرامه لأنه مكلف أحرم بالحج, أشبه غيره ولأن ذلك عبادة فصحت منه, كسائر عباداته ثم إن كان أحرم بفرض دفع إليه النفقة من ماله ليسقط الفرض عن نفسه وإن كان تطوعا فكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر, دفعت إليه لأنه لا ضرر في إحرامه وإن كانت نفقة السفر أكثر فقال: أنا أكتسب تمام نفقتي, دفعت إليه أيضا لأنه لا يضر بماله وإن لم يكن له كسب فلوليه تحليله لما فيه من تضييع ماله, ويتحلل بالصيام كالمعسر لأنه ممنوع من التصرف في ماله ويحتمل أن لا يملك وليه تحليله بناء على العبد إذا أحرم بغير إذن سيده وإن حنث في يمينه أو عاد في ظهاره, أو لزمته كفارة بالقتل أو الوطء في نهار رمضان كفر بالصيام لذلك وإن أعتق أو أطعم عن ذلك لم يجزه وبهذا قال الشافعي لأنه ممنوع من ماله, أشبه المفلس ويتخرج أن يجزئه العتق بناء على قولنا بصحته منه وإن نذر عبادة بدنية لزمه فعلها لأنه غير محجور عليه في بدنه وإن نذر صدقة المال, لم يصح منه وكفر بالصيام وإن فك الحجر عنه قبل تكفيره في هذه المواضع كلها لزمه العتق, إن قدر عليه ومقتضى قول أصحابنا أنه يلزمه الوفاء بنذره بناء على قولهم في من أقر قبل فك الحجر عنه ثم فك عنه, فإنه يلزمه أداؤه وإن فك بعد تكفيره لم يلزمه شيء, كما لو كفر عن يمينه بالصيام ثم فك الحجر عنه. فصل:


وإن أقر بنسب ولد قبل منه لأنه ليس بإقرار بمال ولا تصرف فيه, فقبل كإقراره بالحد والطلاق وإذا ثبت النسب لزمته أحكامه, من النفقة وغيرها لأن ذلك حصل ضمنا لما صح منه فأشبه نفقة الزوجة. مسألة:


قال: [ وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره ] وجملته أن السفيه إذا أقر بمال, كالدين أو بما يوجبه كجناية الخطإ وشبه العمد, وإتلاف المال وغصبه وسرقته, لم يقبل إقراره به لأنه محجور عليه لحظه فلم يصح إقراره بالمال كالصبي والمجنون ولأنا لو قبلنا إقراره في ماله, لزال معنى الحجر لأنه يتصرف في ماله ثم يقر به فيأخذه المقر له ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه, فلم ينفذ كإقرار الراهن على الرهن والمفلس على المال ومقتضى قول الخرقي أنه يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه وهو الظاهر من قول أصحابنا, وقول أبي ثور لأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في الحال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بدين والراهن يقر على الرهن والمفلس على المال ويحتمل أن لا يصح إقراره, ولا يؤخذ به في الحكم بحال وهذا مذهب الشافعي لأنه محجور عليه لعدم رشده, فلم يلزمه حكم إقراره بعد فك الحجر عنه كالصبي والمجنون ولأن المنع من نفوذ إقراره في الحال إنما ثبت لحفظ ماله عليه, ودفع الضرر عنه فلو نفذ بعد فك الحجر لم يفد إلا تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه وفارق المحجور عليه لحق غيره, فإن المانع تعلق حق الغير بماله فيزول المانع بزوال الحق عن ماله فيثبت مقتضى إقراره وفي مسألتنا انتفى الحكم لخلل في الإقرار فلم يثبت كونه سببا, وبزوال الحجر لم يكمل السبب فلا يثبت الحكم مع اختلاف السبب كما لم يثبت قبل فك الحجر ولأن الحجر لحق الغير لم يمنع تصرفهم في ذممهم فأمكن تصحيح إقرارهم في ذممهم على وجه لا يضر بغيرهم, بأن يلزمهم بعد زوال حق غيرهم والحجر ها هنا لحظ نفسه من أجل ضعف عقله وسوء تصرفه, ولا يندفع الضرر إلا بإبطال إقراره بالكلية كالصبي والمجنون فأما صحته فيما بينه وبين الله تعالى فإن علم صحة ما أقر به, كدين لزمه من جناية أو دين لزمه قبل الحجر عليه فعليه أداؤه لأنه علم أن عليه حقا, فلزمه أداؤه كما لو لم يقر به وإن علم فساد إقراره مثل أن علم أنه أقر بدين ولا دين عليه, أو بجناية لم توجد منه أو أقر بما لا يلزمه مثل إن أتلف مال من دفعه إليه بقرض أو بيع, لم يلزمه أداؤه لأنه يعلم أنه لا دين عليه فلم يلزمه شيء كما لو لم يقر به. فصل:


إذا أذن ولي السفيه له في البيع والشراء, فهل يصح منه؟ على وجهين أحدهما يصح لأنه عقد معاوضة فملكه بالإذن, كالنكاح ولأنه عاقل محجور عليه فصح تصرفه بالإذن فيه كالصبي يحقق هذا أن الحجر على الصبي أعلى من الحجر عليه ثم يصح تصرفه بالإذن, فهاهنا أولى ولأنا لو منعنا تصرفه بالإذن لم يكن لنا طريق إلى معرفة رشده واختباره والثاني لا يصح, لأن الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرفه فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه, فلم يصح كما لو أذن في بيع ما يساوي عشرة بخمسة وللشافعي وجهان كهذين والله أعلم.

============

ج12.كتاب المفلس من المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي





المغني - كتاب المفلس


المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي

(الجزء العاشر – كتاب المفلس) • كتاب المفلس o فصل: لزوم الإنسان ديون حالة o مسألة: إذا فلس الحاكم رجلاً فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به o فصل: هل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي؟ o فصل: بذل الغرماء الثمن لصاحب السلعة ليتركها لا يلزمه قبوله o فصل: إن اشترى المفلس من إنسان سلعة بعد ثبوت الحجر عليه في ذمته لم يكن له الفسخ o فصل: من استأجر أرضًا ليزرعها فأفلس قبل مضي شيء من المدة o فصل: إن أقرض رجلاً مالاً ثم أفلس المقترض وعين المال قائم فله الرجوع فيها o مسألة: إن كانت السلعة قد تلف بعضها أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها o فصل: إن باع بعض المبيع أو وهبه أو وقفه o فصل: إن نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه o فصل: إن جرح العبد أو شج o فصل: إن اشترى زيتًا فخلطه بزيت آخر أو قمحًا o فصل: إن اشترى حنطة فطحنها أو زرعها أو دقيقًا فخبزه o فصل: إن كان حبًا فصار زرعًا أو زرعًا فصار حبًا أو نوى فنبت شجرًا o فصل: إن اشترى ثوبًا فصبغه أو سويقًا فلته بزيت o فصل: إن اشترى صبغًا فصبغ به ثوبًا o فصل: إذا اشترى ثوبًا فقصره o فصل: عدم زيادة المبيع زيادة متصلة كالسمن o فصل: من وجد متاعه على صفته o فصل: الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب لا تمنع الرجوع بغير خلاف o فصل: لو اشترى أمة حاملاً ثم أفلس وهي حامل فله الرجوع فيها o فصل: إن اشترى حائلا فحملت ثم أفلس وهي حامل o فصل: إذا كان المبيع نخلاً أو شجرًا فأفلس المشتري o فصل: إذا أقر الغرماء بأن الزرع أو الطلع للبائع ولم يشهدوا به o فصل: إن صدق المفلس البائع في الرجوع قبل التأبير وكذبه الغرماء o فصل: إن أقر المفلس أنه أعتق عبده منذ شهر o فصل: إن كان المبيع أرضًا فبناها المشتري أو غرسها o فصل: إذا اشترى غراسًا فغرسه في أرضه ثم أفلس ولم يزد الغراس o فصل: إن اشترى أرضًا من رجل وغراسًا من آخر o فصل: الشرط الثالث أن لا يكون البائع قبض من الثمن شيئًا o فصل: الشرط الرابع أن لا يكون تعلق بها حق الغير o فصل: إن كان عبدًا فأفلس المشتري بعد تعلق أرش الجناية برقبته ففيه وجهان o فصل: إن أفلس بعد خروج المبيع من ملكه ببيع أو هبة o فصل: إن كان المبيع شقصًا مشفوعًا ففيه ثلاثة أوجه o فصل: إن كان المبيع صيدًا فأفلس المشتري والبائع محرم o فصل: إذا أفلس وفي يده عين مال دين بائعها مؤجل o فصل: قول أحمد في رجل ابتاع طعامًا نسيئة o فصل: رجوع البائع في المبيع فسخ للبيع o مسألة: من وجب له حق بشاهد فلم يحلف o مسألة: إذا كان على المفلس دين مؤجل لم يحل بالتفليس o فصل: فيمن مات وعليه دين هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟ o مسألة: كل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يقفه الحاكم فجائز o فصل: متى حجر عليه لم ينفذ تصرفه في شيء من ماله o فصل: هل يصح عتق المفلس بعض رقيقه؟ o فصل: استحباب إظهار الحجر على المفلس o فصل: إن ثبت عليه حق ببينة شارك صاحبه الغرماء o فصل: لو قسم الحاكم ماله بين غرمائه ثم ظهر غريم آخر o فصل: لو أفلس وله دار مستأجرة فانهدمت بعد قبض المفلس الأجرة o مسألة: ينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته بالمعروف من ماله o فصل: إن مات المفلس كفن من ماله o مسألة: إذا حجر على المفلس باع الحاكم ماله ويستحب أن يحضر المفلس البيع o فصل: إن كان للمفلس داران يستغنى بسكنى إحداهما بيعت الأخرى o فصل: لو كان المفلس ذا صنعة يكسب ما يمونه ويمون من تلزمه مؤنته o فصل: إذا تلف شيء من مال المفلس تحت يد الأمين o فصل: إذا اجتمع مال المفلس قسم بين غرمائه o فصل: إذا فرق مال المفلس وبقيت عليه بقية o فصل: لا إجبار على قبول هدية ولا صدقة o فصل: إذا فرق مال المفلس فهل ينفك عنه الحجر بذلك؟ o فصل: ثبوت الإعسار عند الحاكم يعني عدم المطالبة o مسألة: من وجب عليه حق فذكر أنه معسر به o فصل: إذا امتنع الموسر من قضاء الدين فلغريمه ملازمته ومطالبته والإغلاظ له o مسألة: إذا مات فتبين أنه كان مفلسًا لم يكن لأحد من الغرماء أن يأخذ عين ماله o مسألة: من أراد سفرًا وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه

كتاب المفلس المفلس هو الذي لا مال له ولا ما يدفع به حاجته, ولهذا لما قال النبي ـ ﷺ ـ لأصحابه: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال: ليس ذلك المفلس ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال, ويأتي وقد ظلم هذا ولطم هذا وأخذ من عرض هذا, فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم, فرد عليه ثم صك له صك إلى النار) أخرجه مسلم بمعناه فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس وقول النبي ـ ﷺ ـ "ليس ذلك المفلس" تجوز لم يرد به نفي الحقيقة, بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم بحيث يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغنى ونحو هذا قوله ـ ﷺ ـ (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب) وقوله: (ليس السابق من سبق بعيره وإنما السابق من غفر له) وقوله (ليس الغنى عن كثرة العرض, إنما الغنى غنى النفس) ومنه قول الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء وإنما سمي هذا مفلسا لأنه لا مال له إلا الفلوس وهي أدنى أنواع المال والمفلس في عرف الفقهاء: من دينه أكثر من ماله وخرجه أكثر من دخله وسموه مفلسا وإن كان ذا مال لأن ماله مستحق الصرف في جهة دينه, فكأنه معدوم وقد دل عليه تفسير النبي ـ ﷺ ـ مفلس الآخرة فإنه أخبر أن له حسنات أمثال الجبال لكنها كانت دون ما عليه, فقسمت بين الغرماء وبقي لا شيء له ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يئول إليه من عدم ماله بعد وفاء دينه ويجوز أن يكون سمي بذلك, لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشيء التافه الذي لا يعيش إلا به كالفلوس ونحوها. فصل:


ومتى لزم الإنسان ديون حالة, لا يفي ماله بها فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم, ويستحب أن يظهر الحجر عليه لتجتنب معاملته فإذا حجر عليه ثبت بذلك أربعة أحكام أحدها تعلق حقوق الغرماء بعين ماله والثاني, منع تصرفه في عين ماله والثالث أن من وجد عين ماله عنده فهو أحق بها من سائر الغرماء إذا وجدت الشروط الرابع أن للحاكم بيع ماله وإيفاء الغرماء والأصل في هذا ما روي كعب بن مالك (أن رسول الله ـ ﷺ ـ حجر على معاذ بن جبل وباع ماله). رواه الخلال بإسناده وعن عبد الرحمن بن كعب قال: كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه ولم يكن يمسك شيئا, فلم يزل يدان حتى أغرق ماله في الدين فكلم النبي ـ ﷺ ـ غرماؤه فلو ترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله ـ ﷺ ـ فباع لهم رسول الله ـ ﷺ ـ ماله, حتى قام معاذ بغير شيء قال بعض أهل العلم: إنما لم يترك الغرماء لمعاذ حين كلمهم رسول الله ـ ﷺ ـ لأنهم كانوا يهودا. مسألة:


قال: [وإذا فلس الحاكم رجلا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به, إلا أن يشاء تركه ويكون أسوة الغرماء] وجملته أن المفلس متى حجر عليه فوجد بعض غرمائه سلعته التي باعه إياها بعينها, بالشروط التي يذكرها ملك فسخ البيع وأخذ سلعته وروي ذلك عن عثمان وعلي, وأبى هريرة وبه قال عروة ومالك والأوزاعي, والشافعي والعنبرى وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال الحسن والنخعي, وابن شبرمة وأبو حنيفة: هو أسوة الغرماء لأن البائع كان له حق الإمساك لقبض الثمن فلما سلمه أسقط حقه من الإمساك, فلم يكن له أن يرجع في ذلك بالإفلاس كالمرتهن إذا سلم الرهن إلى الراهن ولأنه ساوى الغرماء في سبب الاستحقاق فيساويهم في الاستحقاق, كسائرهم ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي ـ ﷺ ـ قال: (من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به) متفق عليه قال أحمد: لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث جاز له نقض حكمه, ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فيه الفسخ لتعذر العوض كالمسلم فيه إذا تعذر ولأنه إذا شرط في البيع رهنا, فعجز عن تسليمه استحق الفسخ وهو وثيقة بالثمن, فالعجز عن تسليم الثمن بنفسه أولى ويفارق المبيع الرهن فإن إمساك الرهن إمساك مجرد على سبيل الوثيقة وليس ببدل والثمن ها هنا بدل عن العين, فإذا تعذر استيفاؤه رجع إلى المبدل وقولهم: تساووا في سبب الاستحقاق قلنا: لكن اختلفوا في الشرط فإن بقاء العين شرط لملك الفسخ, وهي موجودة في حق من وجد متاعه دون من لم يجده إذا ثبت هذا فإن البائع بالخيار إن شاء رجع في السلعة, وإن شاء لم يرجع وكان أسوة الغرماء وسواء كانت السلعة مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر لأن الإعسار سبب يثبت جواز الفسخ, فلا يوجبه كالعيب والخيار ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم لأنه فسخ ثبت بالنص, فلم يفتقر إلى حكم حاكم كفسخ النكاح لعتق الأمة. فصل:


وهل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي؟ على وجهين, بناء على خيار الرد بالعيب وفي ذلك روايتان إحداهما هو على التراخي لأنه حق رجوع يسقط إلى عوض, فكان على التراخي كالرجوع في الهبة والثاني هو على الفور لأنه خيار يثبت في البيع لنقص في العوض, فكان على الفور كالرد بالعيب ولأن جواز تأخيره يفضي إلى الضرر بالغرماء لإفضائه إلى تأخير حقوقهم, فأشبه خيار الأخذ بالشفعة ونصر القاضي هذا الوجه ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين. فصل:


فإن بذل الغرماء الثمن لصاحب السلعة ليتركها لم يلزمه قبوله نص عليه أحمد, وبه قال الشافعي وقال مالك: ليس له الرجوع لأن الرجوع إنما يجوز لدفع ما يلحقه من النقص في الثمن فإذا بذل بكماله, لم يكن له الرجوع كما لو زال العيب من المعيب ولنا الخبر الذي رويناه, ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه فلم يجبر صاحب الحق على قبضه كما لو أعسر الزوج بالنفقة, فبذلها غيره أو عجز المكاتب فبذل غيره ما عليه لسيده, وبهذا ينتقض ما ذكروه وسواء بذلوه من أموالهم أو خصوه بثمنه من التركة وفي هذا القسم ضرر آخر لأنه لا يأمن تجدد ثبوت دين آخر, فيرجع عليه وإن دفعوا إلى المفلس الثمن فبذله للبائع, لم يكن له الفسخ لأنه زال العجز عن تسليم الثمن فزال ملك الفسخ كما لو أسقط سائر الغرماء حقوقهم عنه, فملك أداء الثمن ولو أسقط الغرماء حقوقهم عنه فتمكن من الأداء أو وهب له مال فأمكنه الأداء منه, أو غلت أعيان ماله فصارت قيمتها وافية بحقوق الغرماء بحيث يمكنه أداء الثمن كله, لم يكن للبائع الفسخ لزوال سببه ولأنه أمكنه الوصول إلى ثمن سلعته من المشتري فلم يكن له الفسخ, كما لو لم يفلس. فصل:


فإن اشترى المفلس من إنسان سلعة بعد ثبوت الحجر عليه في ذمته لم يكن له الفسخ لتعذر الاستيفاء سواء علم أو لم يعلم ولأنه لا يستحق المطالبة بثمنها, فلا يستحق الفسخ لتعذره كما لو كان ثمنها مؤجلا ولأن العالم بالعيب دخل على بصيرة بخراب الذمة فأشبه من اشترى معيبا يعلم عيبه وفيه وجه آخر, أن له الخيار لعموم الخبر ولأنه عقد عليه وقت الفسخ فلم يسقط حقه من الفسخ, كما لو تزوجت امرأة فقيرا معسرا بنفقتها وفيه وجه ثالث إن باعه عالما بفلسه فلا فسخ له وإن لم يعلم فله الفسخ, كمشتري المعيب ويفارق المعسر بالنفقة لكون النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فالرضى بالمعسر بها رضي بعيب ما لم يجب بخلاف مسألتنا, وإنما يشبه هذا إذا تزوجته معسرًا بالصداق وسلمت نفسها إليه ثم أرادت الفسخ. فصل:


ومن استأجر أرضا ليزرعها فأفلس قبل مضي شيء من المدة فللمؤجر فسخ الإجارة لأنه وجد عين ماله, وإن كان بعد انقضاء المدة فهو غريم بالأجرة وإن كان بعد مضي بعضها لم يملك الفسخ في قياس قولنا في المبيع إذا تلف بعضه, فإن المدة ها هنا كالمبيع ومضي بعضها كتلف بعضه لكن يعتبر مضي مدة لمثلها أجرة لأنه لا يمكن التحرز عن مضي جزء منها بحال وقال القاضي, في موضع آخر: من اكترى أرضا فزرعها ثم أفلس ففسخ صاحب الأرض, فعليه تبقية زرع المفلس إلى حين الحصاد بأجر مثله لأن المعقود عليه المنفعة فإذا فسخ العقد فسخه فيما ملك عليه بالعقد, وقد تعذر ردها عليه فكان عليه عوضها كما لو فسخ البيع بعد أن أتلف المبيع, فله قيمته ويضرب بذلك مع الغرماء كذا ها هنا, ويضرب مع الغرماء بأجر المثل دون المسمى وهذا مذهب الشافعي وهذا لا يقتضيه مذهبنا ولا يشهد لصحته الخبر, ولا يصح في النظر أما الخبر فلأن النبي ـ ﷺ ـ إنما قال: (من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) وهذا ما أدرك متاعه بعينه, ولا هو أحق به بالإجماع فإنهم وافقوا على وجوب تبقيتها وعدم الرجوع في عينها, ولأن معنى قوله: (من أدرك متاعه بعينه] أي على وجه يمكنه أخذه لا يتعلق حقه بعينه وليس هذا كذلك وأما النظر فلأن البائع إنما كان أحق بعين ماله لتعلق حقه بالعين, وإمكان رد ماله إليه بعينه فيرجع على من تعلق حقه بمجرد الذمة وهذا لم يتعلق حقه بالعين, ولا أمكن ردها إليه وإنما صار فائدة الرجوع الضرب بالقيمة دون المسمى وليس هذا هو المقتضي في محل النص, ولا هو في معناه فإثبات الحكم به تحكم بغير دليل ولو اكترى رجلا يحمل له متاعا إلى بلد ثم أفلس المكتري قبل حمل شيء, فللمكتري الفسخ وإن حمل البعض أو بعض المسافة فقياس المذهب ليس له الفسخ وقياس قول القاضي: له ذلك فإذا فسخ سقط عنه حمل ما بقي, وضرب مع الغرماء بقسط ما حمل من الأجر المسمى وعلى قياس قول القاضي: ينفسخ العقد في الجميع ويضرب بقسط ما حمل من أجر المثل لما ذكرنا من قوله في المسألة التي حكينا قوله فيها. فصل:


فإن أقرض رجلا مالا ثم أفلس المقترض, وعين المال قائم فله الرجوع فيها لقوله عليه السلام: (من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولأنه غريم وجد عين ماله, فكان له أخذها كالبائع وإن أصدق امرأة له عينا ثم انفسخ نكاحها بسبب من جهتها يسقط صداقها, أو طلقها قبل دخوله بها فاستحق الرجوع في نصفه وقد أفلست ووجد عين ماله, فهو أحق بها لما ذكرنا. مسألة:


قال: (فإن كانت السلعة قد تلف بعضها أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها أو نقد بعض ثمنها, كان البائع فيها كأسوة الغرماء] وجملة ذلك أن البائع إنما يستحق الرجوع في السلعة بخمس شرائط أحدها أن تكون السلعة باقية بعينها لم يتلف بعضها, فإن تلف جزء منها كبعض أطراف العبد أو ذهبت عينه أو تلف بعض الثوب, أو انهدم بعض الدار أو اشترى شجرا مثمرا لم تظهر ثمرته فتلفت الثمرة, أو نحو هذا لم يكن للبائع الرجوع وكان أسوة الغرماء وبهذا قال إسحاق وقال مالك, والأوزاعي والشافعي والعنبري: له الرجوع في الباقي ويضرب مع الغرماء بحصة التالف لأنها عين يملك الرجوع في جميعها, فملك الرجوع في بعضها كالذي له الخيار وكالأب فيما وهب لولده ولنا, قول النبي ـ ﷺ ـ: (من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به) فشرط أن يجده بعينه ولم يجده بعينه ولأنه إذا أدركه بعينه, حصل له بالرجوع فصل الخصومة وانقطاع ما بينهما من المعاملة بخلاف ما إذا وجد بعضه ولا فرق بين أن يرضى بالموجود بجميع الثمن, أو يأخذه بقسطه من الثمن لأنه فات شرط الرجوع وإن كان المبيع عينين كعبدين أو ثوبين تلف أحدهما, أو بعض أحدهما ففي جواز الرجوع في الباقي منهما روايتان إحداهما لا يرجع نقلها أبو طالب, عن أحمد قال: لا يرجع ببقية العين ويكون أسوة الغرماء لأنه لم يجد المبيع بعينه, فأشبه ما لو كان عينا واحدة ولأن بعض المبيع تالف فلم يملك الرجوع كما لو قطعت يد العبد ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد, إن كان ثوبا واحدا فتلف بعضه فهو أسوة الغرماء, وإن كان رزما فتلف بعضها فإنه يأخذ بقيمتها إذا كان بعينه لأن السالم من المبيع وجده البائع بعينه, فيدخل في عموم قوله ـ ﷺ ـ: (من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به) ولأنه مبيع وجده بعينه فكان للبائع الرجوع فيه, كما لو كان جميع المبيع. فصل:


وإن باع بعض المبيع أو وهبه أو وقفه, فهو بمنزلة تلفه لأن البائع ما أدرك ماله بعينه. فصل:


وإن نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه كعبد هزل, أو نسي صناعة أو كتابة أو كبر أو مرض, أو تغير عقله أو كان ثوبا فخلق لم يمنع الرجوع لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين ماله, لكنه يتخير بين أخذه ناقصا بجميع حقه وبين أن يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من سمن أو هزال, أو علم أو نحوه فيصير كنقصه لتغير الأسعار ولو كان المبيع أمة ثيبا, فوطئها المشتري ولم تحمل فله الرجوع فيها لما ذكرنا, فإنها لم تنقص في ذات ولا في صفات وإن كانت بكرا فقال القاضي: له الرجوع لأنه فقد صفة فإنه لم يذهب منها جزء, وإنما هو كالجراح وقال أبو بكر: ليس له الرجوع لأنه أذهب منها جزءا فأشبه ما لو فقأ عينها وإن وجد الوطء من غير المفلس فهو كوطء المفلس, فيما ذكرنا. فصل:


وإن جرح العبد أو شج فعلى قول أبي بكر: لا يرجع لأنه ذهب جزء ينقص به الثمن فأشبه ما لو فقئت عين العبد لأنه ذهب من العين جزء له بدل فمنع الرجوع, كما لو قطعت يد العبد ولأنه لو نقص صفة مجردة لم يكن للبائع من الرجوع فيها شيء سواه, كما ذكرنا في هزال العبد ونسيان الصنعة وهاهنا بخلافه, ولأن الرجوع في المحل المنصوص عليه يقطع النزاع ويزيل المعاملة بينهما فلا يثبت في محل لا يحصل به هذا المقصود وقال القاضي: قياس المذهب أن له الرجوع لأنه فقد صفة, فأشبه نسيان الصنعة واستخلاق الثوب فإذا رجع نظرنا في الجرح, فإن كان مما لا أرش له كالحاصل بفعل الله تعالى أو فعل بهيمة, أو جناية المفلس أو جناية عبده أو جناية العبد على نفسه, فليس له مع الرجوع أرش وإن كان الجرح موجبا لأرش كجناية الأجنبي فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصة ما نقص من الثمن فينظر كم نقص من قيمته, فيرجع بقسط ذلك من الثمن لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن فإن قيل: فهلا جعلتم له الأرش الذي وجب على الأجنبي لأنه لو لم يجب به أرش لم يرجع بشيء فلا يجوز أن يرجع بأكثر من الأرش قلنا: لما أتلفه الأجنبي صار مضمونا بإتلافه للمفلس, فكان بالأرش له وهو مضمون على المفلس للبائع بالثمن فلا يجوز أن يضمنه بالأرش وإذا لم يتلفه أجنبي, فلم يكن مضمونا فلم يجب بفواته شيء فإن قيل: فهلا كان هذا الأرش للمشتري ككسبه لا يضمنه للبائع قلنا: الكسب بدل منافعه, ومنافعه مملوكة للمشتري بغير عوض وهذا بدل جزء من العين والعين جميعها مضمونة بالعوض, فلهذا ضمن ذلك للمشتري. فصل:


فإن اشترى زيتا فخلطه بزيت آخر أو قمحا, فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه سقط حق الرجوع وقال مالك: يأخذ زيته وقال الشافعي: إن خلطه بمثله أو دونه لم يسقط الرجوع, وله أن يأخذ متاعه بالكيل أو الوزن وإن خلطه بأجود منه ففيه قولان أحدهما, يسقط حقه من العين قال الشافعي: وبه أقول واحتجوا بأن عين ماله موجودة من طريق الحكم فكان له الرجوع كما لو كانت منفردة ولأنه ليس فيه أكثر من اختلاط ماله بغيره, فلم يمنع الرجوع كما لو اشترى ثوبا فصبغه أو سويقا فلته ولنا, أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلفت, ولأن ما يأخذه من غير عين ماله إنما يأخذه عوضا عن ماله فلم يختص به دون الغرماء, كما لو تلف ماله وقول النبي ـ ﷺ ـ: (من أدرك متاعه بعينه) أي من قدر عليه وتمكن من أخذه من المفلس بدليل ما لو وجده بعد زوال ملك المفلس أو كانت مسامير قد سمر بها بابا, أو حجرا قد بنى عليه أو خشبا في سقفه أو أمة استولدها, وهذا إذا أخذ كيله أو قيمته إنما يأخذ عوض ماله فهو كالثمن والقيمة وفارق المصبوغ فإن عينه يمكنه أخذها, والسويق كذلك فاختلفا. فصل:


وإن اشترى حنطة فطحنها أو زرعها أو دقيقا فخبزه, أو زيتا فعمله صابونا أو ثوبا فقطعه قميصا أو غزلا فنسجه ثوبا, أو خشبا فنجره أبوابا أو شريطا فعمله إبرا أو شيئا فعمل به ما أزال اسمه, سقط حق الرجوع وقال الشافعي: فيه قولان أحدهما به أقول يأخذ عين ماله, ويعطي قيمة عمل المفلس فيها لأن عين ماله موجودة وإنما تغير اسمها فأشبه ما لو كان المبيع حملا فصار كبشا, أو وديا فصار نخلا ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له الرجوع, كما لو تلف ولأنه غير اسمه وصفته فلم يملك الرجوع, كما لو كان نوى فنبت شجرا والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع وإن سلم فإنه لم يتغير اسمه, بخلاف مسألتنا. فصل:


وإن كان حبا فصار زرعًا أو زرعًا فصار حبا أو نوى فنبت شجرًا, أو بيضا فصار فراخًا سقط حق الرجوع وقال القاضي: لا يسقط وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي المنصوص عليه منهما لأن الزرع نفس الحب والفرخ نفس البيضة ولنا, أنه لم يجد عين ماله فلم يرجع كما لو أتلفه متلف فأخذ قيمته ولأن الحب أعيان ابتدأها الله تعالى, لم تكن موجودة عند البيع وكذلك أعيان الزرع والفرخ ولو استأجر أرضا واشترى بذرا وماء, فزرع وسقي واستحصد, وأفلس فالمؤجر وبائع البذر والماء غرماء لا حق لهم في الرجوع لأنهم لم يجدوا أعيان أموالهم وعلى قول من قال: له الرجوع في الزرع يكون عليه غرامة الأجرة وثمن الماء, أو قيمة ذلك. فصل:


وإن اشترى ثوبًا فصبغه أو سويقًا فلته بزيت فقال أصحابنا: لبائع الثوب والسويق الرجوع في أعيان أموالهما وهو مذهب الشافعي لأن عين مالهما قائمة مشاهدة, ما تغير اسمها ويكون المفلس شريكا لصاحب الثوب والسويق بما زاد عن قيمتهما فإن حصل زيادة فهي له, وإن حصل نقص فعليه وإن نقصت قيمة الثوب أو السويق فإن شاء البائع أخذهما ناقصين, ولا شيء له وإن شاء تركهما وله أسوة الغرماء لأن هذا نقص صفة, فهو كالهزال ويحتمل أن لا يكون له الرجوع إذا زادت القيمة لأنه اتصل بالمبيع زيادة للمفلس فمنعت الرجوع كما لو سمن العبد, ولأن الرجوع ها هنا لا يتخلص به البائع من المفلس ولا يحصل به المقصود من قطع المنازعة وإزالة المعاملة, بل يحصل به ضرر الشركة فلم يكن في معنى المنصوص عليه فلا يمكن إلحاقه به. فصل:


وإن اشترى صبغًا فصبغ به ثوبًا, أو زيتًا فلت به سويقًا فبائعهما أسوة الغرماء وقال أصحاب الشافعي: له الرجوع لأنه وجد عين ماله قالوا: ولو اشترى ثوبا وصبغا وصبغ الثوب بالصبغ, رجع بائع كل شيء في عين ماله وكان بائع الصبغ شريكا لبائع الثوب وإن حصل نقص فهو من صاحب الصبغ لأنه الذي يتفرق وينقص والثوب بحاله, فإذا كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ خمسة فصارت قيمتهما اثنا عشر, كان لصاحب الثوب خمسة أسداسه وللآخر سدسه ويضرب مع الغرماء بما نقص, وذلك ثلاثة دراهم وذكر القاضي مثل هذا في موضع ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع, كما لو تلف ولأن المشتري شغله بغيره على وجه البيع فلم يملك بائعه الرجوع فيه, كما لو كان حجرًا بنى عليه أو مسامير سمر بها بابا ولو اشترى ثوبا وصبغا من واحد فصبغه به, فقال أصحابنا: لا فرق بين ذلك وبين كون الصبغ من غير بائع الثوب فعلى قولهم يرجع في الثوب وحده ويكون المفلس شريكا له بزيادة الصبغ ويضرب مع الغرماء بثمن الصبغ ويحتمل أن يرجع فيهما ها هنا لأنه وجد عين ماله متميزا عن غيره, فكان له الرجوع فيه للخبر ولأن المعنى في المحل الذي يثبت فيه الرجوع موجود ها هنا, فيملك الرجوع به كما يملكه ثم ولو أنه اشترى رفوفا ومسامير من رجل واحد, فسمرها بها رجع بائعهما فيهما كذلك وكذلك ما أشبهه. فصل:


إذا اشترى ثوبا فقصره, لم يخل من حالين أحدهما أن لا تزيد قيمته بذلك فللبائع الرجوع فيه لأن عين ماله قائمة لم يزل اسمها, ولم يتلف بعضها ولا اتصلت بغيرها فكان له الرجوع فيها كما لو علم العبد صناعة لم تزد قيمته بها وسواء نقصت قيمته بذلك أو لم تنقص لأن ذلك النقص نقص صفة, فلا يمنع الرجوع كنسيان صناعة وهزال العبد, ولا شيء له مع الرجوع الثاني أن تزيد قيمته بذلك فليس للبائع الرجوع, على قياس قول الخرقي لأن الثوب زاد زيادة لا تتميز فلم يملك البائع الرجوع فيه كما لو سمن العبد ولأنه لم يجد عين ماله متميزة عن غيرها, فلم يملك الرجوع كبائع الصبغ إذا صبغ به والزيت إذا لت به سويق وقال القاضي وأصحابه له الرجوع فيها, لأنه أدرك متاعه بعينه ولأنه وجد عين ماله لم يتغير اسمها ولا ذهبت عينها فملك الرجوع فيها, كما لو صبغها فعلى قولهم إن كانت القصارة بعمل المفلس أو بأجرة وفاها فهما شريكان في الثوب, فإذا كانت قيمة الثوب خمسة فصار يساوي ستة فللمفلس سدسه, ولبائعه خمسة أسداسه فإن اختار البائع دفع قيمة الزيادة إلى المفلس لزمه قبولها لأنه يتخلص بذلك من ضرر الشركة من غير مضرة تلحقه, فأشبه ما لو دفع الشفيع قيمة البناء إلى المشتري وإن لم يختر بيع الثوب وأخذ كل واحد منهما بقدر حقه وإن كان العمل من صانع لم يستوف أجره فله حبس الثوب على استيفاء أجره فإن كانت الزيادة بقدر الأجر, دفعت إليه وإن كانت أقل فله حبس الثوب على استيفاء قدر الزيادة, ويضرب مع الغرماء بما بقي وإن كانت أكثر مثل أن تكون الزيادة درهمين, والآخر درهم فله قدر أجره وما فضل للغرماء. فصل:


الشرط الثاني, أن لا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر, وتعلم الصناعة أو الكتابة أو القرآن ونحو ذلك واختلف المذهب في هذا فذهب الخرقي إلى أنها تمنع الرجوع وروى الميموني عن أحمد, أنها لا تمنع وهو مذهب مالك والشافعي إلا أن مالكا يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به واحتجوا بالخبر, وبأنه فسخ لا تمنع منه الزيادة المنفصلة فلا تمنعه المتصلة كالرد بالعيب, وفارق الطلاق فإنه ليس بفسخ ولأن الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين, فيصل إلى حقه تاما وهاهنا لا يمكنه الرجوع في الثمن ولنا أنه فسخ بسبب حادث فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائدة زيادة متصلة, كفسخ النكاح بالإعسار أو الرضاع ولأنها زيادة في ملك المفلس فلم يستحق البائع أخذها, كالمنفصلة وكالحاصلة بفعله ولأن النماء لم يصل إليه من البائع, فلم يستحق أخذه منه كغيره من أمواله وفارق الرد بالعيب لوجهين أحدهما, أن الفسخ فيه من المشتري فهو راض بإسقاط حقه من الزيادة وتركها للبائع, بخلاف مسألتنا والثاني أن الفسخ ثم لمعنى قارن العقد وهو العيب القديم, والفسخ ها هنا لسبب حادث فهو أشبه بفسخ النكاح الذي لا يستحق به استرجاع العين الزائدة وقولهم: إن الزوج إنما لم يرجع في العين لكونه يندفع عنه الضرر بالقيمة ـ لا يصح فإن اندفاع الضرر عنه بطريق آخر لا يمنعه من أخذ حقه من العين ولو كان مستحقا للزيادة لم يسقط حقه منها بالقدرة على أخذ القيمة, كمشتري المعيب ثم كان ينبغي أن يأخذ قيمة العين زائدة لكون الزيادة مستحقة فلما لم يكن كذلك علم أن المانع من الرجوع كون الزيادة للمرأة, وأنه لا يمكن فصلها فكذلك ها هنا بل أولى فإن الزيادة يتعلق بها حق المفلس والغرماء, فمنع المشتري من أخذ زيادة ليست له أولى من تفويتها على الغرماء الذين لم يصلوا إلى تمام ديونهم والمفلس المحتاج إلى تبرئة ذمته عند اشتداد حاجته. فصل: وأما الخبر فمحمول على من وجد متاعه على صفته, ليس بزائد ولم يتعلق به حق آخر وهاهنا قد تعلقت به حقوق الغرماء, لما فيه من الزيادة لما ذكرنا من الدليل يحققه أنه إذا كان تلف بعض المبيع مانعا من الرجوع من غير ضرر يلحق بالمفلس, ولا بالغرماء فلأن يمنع الزيادة فيه مع تفويتها بالرجوع عليهم أولى ولأنه إذا رجع في الناقص, فما رجع إلا فيما باعه وخرج منه وإذا رجع في الزائد أخذ ما لم يبعه, واسترجع ما لم يخرج عنه فكان بالمنع أحق. فصل:


فأما الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب, فلا تمنع الرجوع بغير خلاف بين أصحابنا وهو قول مالك والشافعي وسواء نقص بها المبيع أو لم ينقص, إذا كان نقص صفة والزيادة للمفلس هذا ظاهر كلام الخرقي لأنه منع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس, فالمنفصلة أولى وهذا قول ابن حامد والقاضي ومذهب الشافعي وهو الصحيح ـإن شاء الله تعالى ـ وقال أبو بكر: الزيادة للبائع وهو مذهب مالك ونقل حنبل عن أحمد, في ولد الجارية ونتاج الدابة: هو للبائع لأنها زيادة فكانت للبائع كالمتصلة ولنا, أنها زيادة انفصلت في ملك المشتري فكانت له كما لو رده بعيب ولأنه فسخ استحق به استرجاع العين, فلم يستحق أخذ الزيادة المنفصلة كفسخ البيع بالعيب أو الخيار أو الإقالة وفسخ النكاح بسبب من أسباب الفسخ, وقول النبي ـ ﷺ ـ: (الخراج بالضمان) يدل على أن النماء والغلة للمشتري لكون الضمان عليه وأما الزيادة المتصلة فقد دللنا على أنها للمفلس أيضا, وفي ذلك تنبيه على كون المنفصلة له ثم لو سلمنا ثم فالفرق ظاهر فإن المتصلة تتبع في الفسوخ والرد بالعيب, بخلاف المنفصلة ولا ينبغي أن يقع في هذا اختلاف لظهوره وكلام أحمد, في رواية حنبل يحمل على أنه باعهما في حال حملهما فيكونان مبيعين, ولهذا خص هذين بالذكر دون بقية النماء. فصل:


ولو اشترى أمة حاملا ثم أفلس وهي حامل فله الرجوع فيها, إلا أن يكون الحمل قد زاد بكبره وكثرت قيمتها من أجله فيكون من قبيل الزائد زيادة متصلة, على ما مضى وإن أفلس بعد وضعها فقال القاضي: له الرجوع فيهما بكل حال من غير تفصيل والصحيح أننا إن قلنا: إن الحمل لا حكم له فالولد زيادة منفصلة, فعلى قول أبي بكر لا يمنع الرجوع فيهما وعلى قول غيره, يكون الولد للمفلس فيحتمل أن يمنع الرجوع في الأم لئلا يفضي إلى التفريق بين الأم وولدها ويحتمل أن يرجع في الأم, ويدفع قيمة الولد ليكونا جميعا له وإن لم يفعل بيعت الأم وولدها جميعا, وقسم الثمن على قدر قيمتهما فما خص الأم فهو للبائع وما خص الولد كان للمفلس وإن قلنا إن للولد حكما وهو الصحيح لما ذكرناه فيما تقدم, فإن كانت الأم والولد قد زادا بالوضع فحكمهما حكم المبيع الزائد زيادة متصلة وإن لم يزيدا جاز الرجوع فيهما وإن زاد أحدهما دون الآخر, خرج على الروايتين فيما إذا كان المبيع عينين فتلف بعض أحدهما فهل يمنع ذلك الرجوع في الأخرى كذلك؟ يخرج ها هنا وجهان أحدهما أنه له الرجوع فيما لم يزد, دون ما زاد فيكون حكمه كحكم الرجوع في الأم دون الولد على ما فصلناه الثاني, ليس له الرجوع في شيء منهما لأنه لم يجد المبيع إلا زائدا فامتنع عليه الرجوع كالعين الواحدة وإن كان المبيع حيوانا غير الأمة, فحكمه حكمها إلا في أن التفريق بينها وبين ولدها جائز والأمة بخلاف ذلك. فصل:


وإن اشترى حائلا, فحملت ثم أفلس وهي حامل فزادت قيمتها به, فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه, على رواية الميموني وإن أفلس بعد وضعها فهي زيادة منفصلة, فتكون للمفلس على الصحيح ويمتنع الرجوع في الأم دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهذا أحد قولي الشافعي ويحتمل أن يرجع في الأم على ما ذكرنا في التي قبلها وعلى قول أبي بكر, الزيادة للبائع فيكون له الرجوع فيهما وقال القاضي: إذا وجدنا حاملا انبنى على أن الحمل هل له حكم أو لا؟ فإن قلنا: لا حكم له جرى مجرى الزيادة المتصلة وإن قلنا: له حكم فالولد في حكم المنفصل, يتربص به حتى تضع ويكون الحكم فيه كما لو وجده بعد وضعه وإن كان الحمل في غير الآدمية جاز التفريق بينهما, كما تقدم. فصل:


إذا كان المبيع نخلا أو شجرا فأفلس المشتري لم يخل من أربعة أحوال: أحدها, أن يفلس وهي بحالها لم تزد ولم تثمر ولم يتلف بعضها فله الرجوع فيها الثاني, أن يكون فيها ثمر ظاهر أو طلع مؤبر ويشترطه المشتري, فيأكله أو يتصرف فيه أو يذهب بجائحة, ثم يفلس فهذا في حكم ما لو اشترى عينين فتلفت إحداهما ثم أفلس, فهل للبائع الرجوع في الأصول ويضرب مع الغرماء بحصة التالف من الثمر؟ على روايتين وإن تلف بعضها فهو كتلف جميعها وإن زادت, أو بدا صلاحها فهذه زيادة متصلة في إحدى العينين وقد ذكرنا بيان حكمها الحال الثالث, أن يبيعه نخلا قد أطلعت ولم تؤبر أو شجرا فيها ثمرة لم تظهر فهذه الثمرة تدخل في البيع المطلق, فإن أفلس بعد تلف الثمرة أو تلف بعضها أو الزيادة فيها, أو بدو صلاح فحكم ذلك حكم تلف بعض المبيع وزيادته المتصلة لأن المبيع كان بمنزلة العين الواحدة ولهذا دخل الثمر في مطلق البيع, بخلاف التي قبلها الحال الرابع باعه نخلا حائلا فأثمر أو شجرا فأثمر, فذلك على أربعة أضرب أحدها أن يفلس قبل تأبيرها فالطلع زيادة متصلة, تمنع الرجوع على قول الخرقي كالسمن والكبر ويحتمل أن يرجع في النخل دون الطلع, لأنه يمكن فصله ويصح إفراده بالبيع فهو كالمؤبر, بخلاف السمن والكبر وهذا قول ابن حامد وعلى رواية الميموني لا يمنع بل يرجع, ويكون الطلع للبائع كما لو فسخ بعيب وهو أحد قولي الشافعي والقول الثاني يرجع في الأصل دون الطلع, وكذلك عندهم الرد بالعيب والأخذ بالشفعة الضرب الثاني أفلس بعد التأبير وظهور الثمرة, فلا يمنع الرجوع بغير خلاف والطلع للمشتري إلا على قول أبي بكر والصحيح الأول, لأن الثمرة لا تتبع في البيع الذي ثبت بتراضيهما ففي الفسخ الحاصل بغير رضا المشتري أولى ولو باعه أرضا فارغة فزرعها المشتري ثم أفلس, فإنه يرجع في الأرض دون الزرع وجها واحدا لأن ذلك من فعل المشتري الضرب الثالث أفلس والطلع غير مؤبر, فلم يرجع حتى أبر لم يكن له الرجوع كما لو أفلس بعد تأبيرها لأن العين لا تنتقل إلا باختياره لها, وهذا لم يخترها إلا بعد تأبيرها فإن ادعى البائع الرجوع قبل التأبير وأنكره المفلس فالقول قول المفلس مع يمينه, لأن الأصل بقاء ملكه وعدم زواله وإن قال له البائع: بعت بعد التأبير وقال المفلس: بل قبله فالقول قول البائع لهذه العلة فإن شهد الغرماء للمفلس, لم تسمع شهادتهم لأنهم يجرون إلى أنفسهم نفعا وإن شهدوا للبائع وهم عدول قبلت شهادتهم لعدم التهمة الضرب الرابع, أفلس بعد أخذ الثمرة أو ذهبت بجائحة أو غيرها, رجع البائع في الأصل والثمرة للمشتري إلا على قول أبي بكر وكل موضع لا يتبع الثمر الشجر إذا رجع البائع فيه, فليس له مطالبة المفلس بقطع الثمرة قبل أوان الجذاذ وكذلك إذا رجع في الأرض وفيها زرع للمفلس فليس له المطالبة بأخذه قبل أوان الحصاد لأن المشتري زرع في أرضه بحق, وطلعه على الشجر بحق فلم يلزمه أخذه قبل كماله كما لو باع الأصل وعليه الثمرة أو الزرع, وليس على صاحب الزرع أجر لأنه زرع في أرضه زرعا تجب تبقيته فكأنه استوفى منفعة الأرض فلم يكن عليه ضمان ذلك إذا ثبت هذا, فإن اتفق المفلس والغرماء على التبقية أو القطع فلهم ذلك, وإن اختلفوا فطلب بعضهم قطعه وبعضهم تبقيته نظرنا فإن كان مما لا قيمة له مقطوعا, أو قيمته يسيرة لم يقطع لأن قطعه سفه وتضييع للمال وقد نهى النبي ـ ﷺ ـ عن إضاعته, وإن كانت قيمته كثيرة ففيه وجهان أحدهما يقدم قول من طلب القطع لأنه أحوط, فإن في تبقيته غررا ولأن طالب القطع إن كان المفلس فهو يقصد تبرئة ذمته وإن كان الغرماء فهم يطلبون تعجيل حقوقهم, وذلك حق لهم وهذا قول القاضي وأكثر أصحاب الشافعي والثاني ينظر إلى ما فيه الحظ فيعمل به لأن ذلك أنفع لجميعهم, والظاهر سلامته ولهذا يجوز أن يزرع للمولى عليه وفيه وجه آخر أنه إن كان الطالب للقطع الغرماء وجبت إجابتهم لأن حقوقهم حالة, فلا يلزمهم تأخيرها مع إمكان إيفائها وإن كان الطالب له المفلس دونهم وكان التأخير أحظ له, لم يقطع لأنهم رضوا بتأخير حقوقهم لحظ يحصل لهم وللمفلس والمفلس يطلب ما فيه ضرر بنفسه ومنع للغرماء من استيفاء القدر الذي يحصل من الزيادة بالتأخير, فلا يلزم الغرماء إجابته إلى ذلك. فصل:


إذا أقر الغرماء بأن الزرع أو الطلع للبائع ولم يشهدوا به أو شهدوا به ولم يكونوا عدولا, أو لم يحكم بشهادتهم حلف المفلس وثبت الطلع له ينفرد به دونهم لأنهم يقرون أنهم لا حق لهم فيه فإن أراد دفعه إلى أحدهم وتخصيصه بثمنه فله ذلك لإقرار باقيهم بعدم حقهم فيه, فإن امتنع ذلك الغريم من قبوله أجبر على قبوله أو الإبراء من قدره من دينه, فيقال له: إما أن تقبضه وإما أن تبرئ من قدر ذلك من دينك وهذا مذهب الشافعي لأنه محكوم به على المفلس, فكان له أن يقضي دينه منه كما لو أدى المكاتب إلى سيده نجوم كتابته فقال سيده: هذا حرام وأنكر المكاتب وإن أراد قسمته على الغرماء, لزمهم قبوله أو الإبراء لذلك فإن قبضوا الثمرة بعينها لزمهم رد ما حصل لهم إلى البائع لأنهم يقرون له بها, فلزمهم دفعها إليه كما لو أقروا بعتق عبد في ملك غيرهم ثم اشتروه منه وإن باع الثمرة, وفرق ثمنها فيهم أو دفعه إلى بعضهم لم يلزمهم رد ما أخذوا من ثمنها لأنهم إنما اعترفوا بالعين, لا بثمنها وإن شهد بعض الغرماء دون بعض أو أقر بعضهم دون بعض لزم الشاهد أو المقر الحكم الذي ذكرناه, دون غيره وإن عرض عليهم المفلس الثمرة بعينها فأبوا أخذها لم يلزمهم ذلك لأنه إنما يلزمهم الاستيفاء من جنس ديونهم, إلا أن يكون فيهم من له جنس من الثمر أو الزرع كالمقرض أو المسلم فيلزمه أخذ ما عرض عليه, إذا كان بصفة حقه ولو أقر الغرماء بأن المفلس أعتق عبدا له قبل فلسه فأنكر ذلك لم يقبل قولهم, إلا أن يشهد منهم عدلان ويكون حكمهم في قبض العبد أو أخذ ثمنه إن عرضه عليهم حكم ما لو أقروا بالثمن للبائع, وكذلك إن أقروا بعين مما في يديه أنها غصب أو عارية أو نحو ذلك فالحكم كما ذكرنا سواء وإن أقروا بأنه أعتق عبده بعد فلسه انبنى على صحة عتق المفلس, فإن قلنا: لا يصح عتقه فلا أثر لإقرارهم وإن قلنا بصحته فهو كإقرارهم بعتقه قبل فلسه, وإن حكم الحاكم بصحته أو بفساده نفذ حكمه على كل حال لأنه فعل مجتهد فيه, فيلزم ما حكم به الحاكم ولا يجوز نقضه ولا تغييره. فصل:


وإن صدق المفلس البائع في الرجوع قبل التأبير وكذبه الغرماء, لم يقبل إقراره لأن حقوقهم تعلقت بالثمرة ظاهرا فلم يقبل إقراره كما لو أقر بالنخيل, وعلى الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون أن البائع رجع قبل التأبير ولأن هذه اليمين لا ينوبون فيها عن المفلس بل هي ثابتة في حقهم ابتداء, بخلاف ما لو ادعى حقا وأقام شاهدا فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه لأن اليمين ثم على المفلس فلو حلفوا حلفوا ليثبتوا حقا لغيرهم, ولا يحلف الإنسان ليثبت لغيره حقا ولا يجوز أن يكون نائبا فيها لأن الأيمان لا تدخلها النيابة وفي مسألتنا الأصل أن هذا الطلع قد تعلقت حقوقهم به, لكونه في يد غريمهم ومتصل بنخله والبائع يدعى ما يزيل حقوقهم عنه, فأشبه سائر أعيان ماله ويحلفون على نفي العلم لأنه يمين على نفي الدين عن الميت ولو أقر المفلس بعين من أعيان ماله لأجنبي أو لبعض غرمائه, فأنكره الغرماء فالقول قولهم وعليهم اليمين أنهم لا يعلمون ذلك وكذلك لو أقر بغريم آخر يستحق مشاركتهم, فأنكروه فعليهم اليمين أيضا ويكون على نفي العلم لذلك وإن أقر أنه, أعتق عبده انبنى ذلك على صحة عتق المفلس فإن قلنا: يصح عتقه صح إقراره وعتق لأن من ملك شيئا ملك الإقرار به, ولأن الإقرار بالعتق يحصل به العتق فكأنه أعتقه في الحال وإن قلنا: لا يصح عتقه لم يقبل إقراره وكان على الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون ذلك وكل موضع قلنا على الغرماء اليمين, فهو على جميعهم فإن حلفوا أخذوا وإن نكلوا قضى للمدعي بما ادعاه, إلا أن نقول برد اليمين فترد على المدعي فيحلف ويستحق, وإن حلف بعضهم دون بعض أخذ الحالف نصيبه وحكم الناكل ما ذكرناه. فصل:


وإن أقر المفلس أنه أعتق عبده منذ شهر, وكان العبد قد اكتسب بعد ذلك مالا وأنكر الغرماء فإن قلنا: لا يقبل إقراره حلفوا, واستحقوا العبد وكسبه وإن قلنا: يقبل إقراره لم يقبل في كسبه وكان للغرماء أن يحلفوا أنهم لا يعلمون أنه أعتقه قبل الكسب ويأخذون كسبه لأن إقراره إنما قبل في العتق دون غيره لصحته منه, ولبنائه على التغليب والسراية فلا يقبل في المال لعدم ذلك فيه, ولأننا نزلنا إقراره منزلة إعتاقه في الحال فلا تثبت له الحرية فيما مضى فيكون كسبه محكوما به لسيده, كما لو أقر بعتقه ثم أقر له بعين في يده. فصل:


فإن كان المبيع أرضا فبناها المشتري أو غرسها, ثم أفلس فأراد البائع الرجوع في الأرض نظرت فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس والبناء, فلهم ذلك لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا قلعوه, فللبائع الرجوع في أرضه لأنه وجد متاعه بعينه قال أصحابنا ويستحق الرجوع قبل القلع وهو مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يستحقه حتى يوجد القلع لأنه قبل القلع لم يدرك متاعه إلا مشغولا بملك المشتري, فأشبه ما لو كانت مسامير في باب المشتري فإن قلنا: له الرجوع قبل القلع فقلعوه لزمهم تسوية الأرض من الحفر وأرش نقص الأرض الحاصل به لأن ذلك نقص حصل لتخليص ملك المفلس, فكان عليه كما لو دخل فصيله دار إنسان وكبر فأراد صاحبه إخراجه, فلم يمكن إلا بهدم بابها فإن الباب يهدم ليخرج ويضمن صاحبه ما نقص, بخلاف ما إذا وجد البائع عين ماله ناقصة فرجع فيها فإنه لا يرجع في النقص لأن النقص كان في ملك المفلس وهنا حدث بعد رجوعه في العين, فلهذا ضمنوه ويضرب بالنقص مع الغرماء وإن قلنا: ليس له الرجوع قبل القلع لم يلزمهم تسوية الحفر ولا أرش النقص لأنهم فعلوا ذلك في أرض المفلس قبل رجوع البائع فيها, فلم يضمنوا النقص كما لو قلعه المفلس قبل فلسه فأما إن امتنع المفلس والغرماء من القلع, فلهم ذلك ولا يجبرون عليه لأنه غرس بحق ومفهوم قوله عليه السلام: (ليس لعرق ظالم حق) أنه إذا لم يكن ظالما فله حق فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ليكون له الكل أو قال: أنا أقلع, وأضمن ما نقص فإن قلنا: له الرجوع قبل القلع فله ذلك لأن البناء والغراس حصل في ملكه لغيره بحق فكان له أخذه بقيمته أو قلعه وضمان نقصه, كالشفيع إذا أخذ الأرض وفيها غراس وبناء للمشتري والمعير إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير وإن قلنا: ليس له الرجوع قبل القلع لم يكن له ذلك لأن بناء المفلس وغرسه في ملكه فلم يجبر على بيعه لهذا البائع, ولا على قلعه كما لو لم يرجع في الأرض فأما إن امتنع البائع من بذل ذلك سقط حق الرجوع وهذا قول ابن حامد, وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال القاضي: يحتمل أن له الرجوع وهو القول الثاني للشافعي لأنه أدرك متاعه بعينه وفيه مال المشتري على وجه التبع فلم يمنعه ذلك الرجوع, كالثوب إذا صبغه المشتري ولنا أنه لم يدرك متاعه على وجه يمكنه أخذه منفردا عن غيره فلم يكن له أخذه, كالحجر في البناء والمسامير في الباب ولأن في ذلك ضررا على المشتري والغرماء, ولا يزال الضرر ولأنه لا يحصل بالرجوع ها هنا انقطاع النزاع والخصومة بخلاف ما إذا وجدها غير مشغولة بشيء وأما الثوب إذا صبغه, فلا نسلم له الرجوع فهو كمسألتنا فالفرق بينهما من وجهين أحدهما, أن الصبغ تقرر في الثوب فصار كالصفة فيه بخلاف البناء والغرس, فإنه أعيان متميزة وأصل في نفسه والثاني أن الثوب لا يراد للبقاء, بخلاف الأرض والبناء فإذا قلنا: لا يرجع فلا كلام وإن قلنا: يرجع فرجع واتفق الجميع على بيعهما, بيعا لهما وأخذ كل واحد بقدر حقه وإن امتنع أحدهما من البيع احتمل أن يجبر عليه, كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه المشتري فإن الثوب يباع لهما, كذا ها هنا ويحتمل أن لا يجبر لأنه أمكن طالب البيع أن يبيع ملكه مفردا بخلاف الثوب المصبوغ فإن بيعا لهما, قسما الثمن على قدر القيمتين فتقوم الأرض غير ذات شجر ولا بناء ثم تقوم وهما فيها, فما كان قيمة الأرض بغير غراس ولا بناء فللبائع قسطه من الثمن وما زاد فهو للمفلس والغرماء وإن قلنا: لا يجبر الممتنع على البيع أو لم يطلب أحدهما البيع فاتفقا على كيفية كونهما بينهما, جاز ما اتفقا عليه وإن اختلفا كانت الأرض للبائع, والغراس والبناء للمفلس والغرماء ولهم دخول الأرض لسقي الشجر وأخذ الثمرة وليس لهم دخولها للتفرج ولغير حاجة, وللبائع دخولها للزرع ولما شاء لأن الأرض له وملكه وإن باعوا الشجر والبناء لإنسان فحكمه في ذلك حكمهم ولو بذل المفلس والغرماء, أو المشتري منهم قيمة الأرض للبائع ليدفعها لهم, لم يلزمه ذلك لأن الأرض أصل فلا يجبر على بيعها بخلاف ما فيها من الغرس والبناء. فصل: إذا اشترى غراسا, فغرسه في أرضه ثم أفلس ولم يزد الغراس, فله الرجوع فيه لأنه أدرك متاعه بعينه وإذا أخذه فعليه تسوية الأرض وأرش نقصها الحاصل بقلعه لأنه نقص حصل لتخليص ملكه من ملك غيره وإن بذل المفلس والغرماء له قيمته, ليملكوه بذلك لم يجبر على قبولها لأنه إذا اختار أخذ ماله وتفريغ ملكهم, وإزالة ضرره عنهم فلم يكن لهم منعه كالمشتري إذا غرس في الأرض المشفوعة وإن امتنع من القلع, فبذلوا له القيمة ليملكه المفلس أو أرادوا قلعه وضمان النقص فلهم ذلك وكذلك إذا أرادوا قلعه من غير ضمان النقص لأن المفلس إنما ابتاعه مقلوعا, فلم يجب عليه إبقاؤه في أرضه وقيل: ليس لهم قلعه من غير ضمان النقص لأنه غرس بحق فأشبه غرس المفلس في الأرض التي ابتاعها إذا رجع بائعها فيها والفرق بينهما ظاهر فإن إبقاء الغراس في هذه الصورة حق عليه فلم يجب عليه بفعله, وفي التي قبلها إبقاؤه حق له فوجب له بغراسه في ملكه فإن اختار بعضهم القلع وبعضهم التبقية قدم قول من طلب القلع, سواء كان المفلس أو الغرماء أو بعض الغرماء لأن الإبقاء ضرر غير واجب فلم يلزم الممتنع منه الإجابة إليه وإن زاد الغراس في الأرض, فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه على رواية الميموني. فصل:


وإن اشترى أرضا من رجل, وغراسا من آخر فغرسه فيها ثم أفلس ولم يزد الشجر, فلكل واحد منهما الرجوع في عين ماله ولصاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان نقصه بالقلع على ما ذكرنا, لأن البائع إنما باعه مقلوعا فلا يستحقه إلا كذلك وإن أراد بائعه قلعه من الأرض فقلعه, فعليه تسوية الحفر وضمان نقصها الحاصل به لما تقدم وإن بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لصاحبها ليملكه لم يجبر على ذلك لأن الأرض أصل, فلا يجبر على بيعها تبعا وإن بذل صاحب الأرض قيمة الغراس ليملكه إذا امتنع من القلع فله ذلك لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه غرس المفلس في أرض البائع ويحتمل أن لا يملك ذلك لأنه لا يجبر على إبقائه إذا امتنع من دفع قيمته, أو أرش نقصه فلا يكون له أن يتملكه بالقيمة بخلاف التي قبلها والأولى أولى وهذا ينتقض بغرس الغاصب. فصل:


الشرط الثالث, أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط حق الرجوع وبهذا قال إسحاق والشافعي في القديم, وقال في الجديد: له أن يرجع في قدر ما بقي من الثمن لأنه سبب ترجع به العين كلها إلى العاقد فجاز أن يرجع به بعضها كالفرقة قبل الدخول في النكاح وقال مالك: هو مخير, إن شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين وإن شاء حاص الغرماء ولم يرجع ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة: أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: (أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئا, فهي له وإن كان قد قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء) رواه أبو داود وابن ماجه, والدارقطني ولأن في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضا للصفقة على المشتري وإضرارا به وليس ذلك للبائع فإن قيل: لا ضرر عليه في ذلك لأن ماله يباع, ولا يبقى له فيزول عنه الضرر قلنا: لا يندفع الضرر بالبيع فإن قيمته تنقص بالتشقيص ولا يرغب فيه مشقصا, فيتضرر المفلس والغرماء بنقص القيمة ولأنه سبب يفسخ به البيع فلم يجز تشقيصه كالرد بالعيب والخيار, وقياس البيع على البيع أولى من قياسه على النكاح ولا فرق بين كون المبيع عينا واحدة أو عينين لما ذكرنا من الحديث والمعنى فإن قيل: حديثكم يرويه أبو بكر بن عبد الرحمن, عن النبي ـ ﷺ ـ مرسلا ولا حجة في المراسيل قلنا: قد رواه مالك وموسى بن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة كذلك ذكره ابن عبد البر وأخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني في " سننهم " متصلا, فلا يضر إرسال من أرسله فإن راوي المسند معه زيادة لا يعارضها ترك مرسل الحديث لها وعلى أن المرسل حجة, فلا يضر إرساله. فصل:


الشرط الرابع أن لا يكون تعلق بها حق الغير فإن رهنها المشتري ثم أفلس أو وهبها, لم يملك البائع الرجوع كما لو باعها أو أعتقها ولأن في الرجوع إضرارا بالمرتهن, ولا يزال الضرر بالضرر ولأن النبي ـ ﷺ ـ قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) وهذا لم يجده عند المفلس ولا نعلم في هذا خلافا فإن كان دين المرتهن دون قيمة الرهن, بيع كله فقضى منه دين المرتهن والباقي يرد على سائر مال المفلس, ويشترك الغرماء فيه وإن بيع بعضه فباقيه بينهم يباع لهم أيضا, ولا يرجع به البائع قال القاضي: له الرجوع به وهو مذهب الشافعي لأنه عين ماله لم يتعلق به حق غيره ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه, فلم يكن له أخذه كما لو كان الدين مستغرقا له وما ذكره القاضي لا يخرج على المذهب لأن تلف بعض المبيع يمنع الرجوع فكذلك ذهاب بعضها بالبيع ولو رهن بعض العبد لم يكن للبائع الرجوع في باقيه لما ذكرنا وإن كان المبيع عينين, فرهن إحداهما فهل يملك البائع الرجوع في الأخرى؟ على وجهين بناء على الروايتين فيما إذا تلفت إحدى العينين وإن فك الرهن قبل فلس المشتري أو أبرئ من دينه, فللبائع الرجوع أنه أدرك متاعه بعينه عند المشتري وإن أفلس وهو رهن فأبرأ المرتهن المشتري من دينه أو قضى الدين من غيره, فللبائع الرجوع أيضا كذلك. فصل:


وإن كان عبدا فأفلس المشتري بعد تعلق أرش الجناية برقبته ففيه وجهان أحدهما, ليس للبائع الرجوع لأن تعلق الرهن به يمنع الرجوع وأرش الجناية يقدم على حق المرتهن فأولى أن لا يرجع ذكره أبو الخطاب والثاني, لا يمنع الرجوع فيه لأنه حق لا يمنع تصرف المشتري فيه فلم يمنع الرجوع كالدين في ذمته وفارق الرهن فإنه يمنع تصرف المشتري فيه فإن قلنا: لا يرجع فحكمه حكم الرهن وإن قلنا: له الرجوع فهو مخير إن شاء رجع فيه ناقصا بأرش الجناية, وإن شاء ضرب بثمنه مع الغرماء وإن أبرأ الغريم من الجناية فللبائع الرجوع فيه لأنه وجد متاعه بعينه خاليا من تعلق حق غيره به. فصل:


وإن أفلس بعد خروج المبيع من ملكه ببيع أو هبة, أو وقف أو عتق أو غير ذلك, لم يكن للبائع الرجوع لأنه لم يدرك متاعه بعينه عند المفلس سواء كان المشتري يمكنه استرجاعه بخيار له أو عيب في ثمنه, أو رجوعه في هبة ولده أو غير ذلك لما ذكرنا وخروج بعضه كخروج جميعه لما تقدم فإن أفلس بعد رجوع ذلك إلى ملكه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها, له الرجوع للخبر ولأنه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره أشبه ما لو لم يبعه والثاني, لا يرجع لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه ذكر أصحابنا هذين الوجهين ولأصحاب الشافعي مثل ذلك والثالث أنه إن عاد إليه بسبب جديد, كبيع أو هبة أو إرث, أو وصية أو نحو ذلك لم يكن للبائع الرجوع لأنه لم يصر إليه من جهته وإن عاد إليه بفسخ كالإقالة, والرد بعيب أو خيار ونحو ذلك فللبائع الرجوع لأن هذا الملك استند إلى السبب الأول, فإن فسخ العقد الثاني لا يقتضي ثبوت الملك وإنما أزال السبب المزيل لملك البائع فثبت الملك بالسبب الأول, فملك استرجاع ما ثبت الملك فيه ببيعه. فصل:


وإن كان المبيع شقصا مشفوعا ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: البائع أحق به هذا قول ابن حامد للخبر ولأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه, فزال الضرر عن الشفيع لأنه عاد كما كان قبل البيع ولم تتجدد شركة غيره والثاني, أن الشفيع أحق ذكره أبو الخطاب لأن حقه أسبق فكان أولى بيانه أن حق البائع ثبت بالحجر وحق الشفيع ثبت بالبيع, ولأن حقه آكد لأنه يستحق انتزاع الشقص من المشتري وممن نقله إليه وحق البائع إنما يتعلق بالعين, ما دامت في يد المشتري ولا يزول الضرر عنه برده إلى البائع بدليل ما لو باعه المشتري لبائعه, أو وهبه إياه أو أقاله لم يسقط حق الشفيع, ولأن البائع إنما يستحق الرجوع في عين لم يتعلق بها حق الغير وهذه قد تعلق بها حق الشفيع الوجه الثالث أن الشفيع إن كان طالب بالشفعة, فهو أحق لأن حقه تأكد هنا بالمطالبة وإن كان لم يطالب بها فالبائع أولى ولأصحاب الشافعي وجهان, كالأولين ولهم وجه ثالث أن الثمن يؤخذ من الشفيع, فيختص به البائع جمعا بين الحقين فإن غرض الشفيع في عين الشقص المشفوع, وغرض البائع في ثمنه فيحصل ذلك بما ذكرنا وليس هذا جيدا لأن حق البائع إنما ثبت في العين فإذا صار الأمر إلى وجوب الثمن, تعلق بذمته فساوى الغرماء فيه. فصل:


وإن كان المبيع صيدا فأفلس المشتري والبائع محرم, لم يرجع فيه لأنه تملك الصيد فلم يجز مع الإحرام كشراء الصيد وإن كان البائع حلالا في الحرم, والصيد في الحل فأفلس المشتري فللبائع الرجوع فيه لأن الحرم إنما يحرم الصيد الذي فيه, وهذا ليس من صيده فلا يحرم ولو أفلس المحرم, وفي ملكه صيد بائعه حلال فله أخذه لأن المانع غير موجود في حقه. فصل:


وإذا أفلس, وفي يده عين مال دين بائعها مؤجل وقلنا: لا يحل الدين بالفلس فقال أحمد في رواية الحسن بن ثواب: يكون ماله موقوفا إلى أن يحل دينه, فيختار البائع الفسخ أو الترك وهذا قول بعض أصحاب الشافعي والمنصوص عن الشافعي أنه يباع في الديون الحالة ويتخرج لنا مثل ذلك لأنها حقوق حالة فقدمت على الدين المؤجل, كدين من لم يجد عين ماله وللأول الخبر ولأن حق هذا البائع تعلق بالعين فقدم على غيره, وإن كان مؤجلا كالمرتهن والمجني عليه. فصل: قال أحمد في رجل ابتاع طعاما نسيئة, ونظر إليه وقلبه وقال: أقبضه غدا فمات البائع وعليه دين فالطعام للمشتري, ويتبعه الغرماء في الثمن وإن كان رخيصا وكذلك قال الثوري وإسحاق, لأن الملك ثبت للمشتري فيه بالشراء وزال ملك البائع عنه فلم يشاركه غرماء البائع فيه, كما لو قبضه الشرط الخامس أن يكون المفلس حيا ويأتي شرح ذلك في آخر الباب ـ إن شاء الله تعالى ـ. فصل:


ورجوع البائع في المبيع فسخ للبيع, لا يحتاج إلى معرفة المبيع ولا القدرة على تسليمه ولا اشتباه المبيع بغيره, فلو رجع في المبيع الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ثم وجده على حاله لم يتلف شيء منه صح رجوعه وإن رجع في العبد بعد إباقه, أو الجمل بعد شروده أو الفرس العاثر صح, وصار ذلك له فإن قدر عليه أخذه وإن ذهب كان من ماله وإن تبين أنه كان تالفا حين استرجاعه, لم يصح استرجاعه وكان له أن يضرب مع الغرماء في الموجود من ماله وإن رجع في المبيع واشتبه بغيره, فقال البائع: هذا هو المبيع وقال المفلس: بل هذا فالقول قول المفلس لأنه منكر لاستحقاق ما ادعاه البائع والأصل معه. مسألة:


قال: ومن وجب له حق بشاهد فلم يحلف, لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه ويستحقوا وجملة ذلك أن المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقا له به شاهد عدل, وحلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء وإن امتنع لم يجبر لأننا لا نعلم صدق الشاهد, ولو ثبت الحق بشهادته لم يحتج إلى يمين معه فلا يجبر على الحلف على ما لا يعلم صدقه كغيره فإن قال الغرماء: نحن نحلف مع الشاهد لم يكن لهم ذلك وبهذا قال الشافعي في الجديد وقال في القديم: يحلفون معه لأن حقوقهم تعلقت بالمال, فكان لهم أن يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم ولنا أنهم يثبتون ملكا لغيرهم لتعلق حقوقهم به بعد ثبوته, فلم يجز لهم ذلك كالمرأة تحلف لإثبات ملك لزوجها لتعلق نفقتها به وكالورثة قبل موت موروثهم وفارق ما بعد الموت, فإن المال انتقل إليهم وهم يثبتون بأيمانهم ملكا لأنفسهم. مسألة:


قال: وإذا كان على المفلس دين مؤجل لم يحل بالتفليس, وكذلك في الدين الذي على الميت إذا وثق الورثة وجملته أن الدين المؤجل يحل بفلس من هو عليه رواية واحدة قاله القاضي وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى, أنه يحل وبه قال مالك وعن الشافعي كالمذهبين واحتجوا بأن الإفلاس يتعلق به الدين بالمال فأسقط الأجل كالموت ولنا أن الأجل حق للمفلس, فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ولأنه لا يوجب حلول ماله, فلا يوجب حلول ما عليه كالجنون والإغماء ولأنه دين مؤجل على حي, فلم يحل قبل أجله كغير المفلس ولا نسلم أن الدين يحل بالموت, فهو كمسألتنا وإن سلمنا فالفرق بينهما أن ذمته خربت وبطلت بخلاف المفلس إذا ثبت هذا, فإنه إذا حجر على المفلس فقال أصحابنا لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة غرماء الديون الحالة بل يقسم المال الموجود بين أصحاب الديون الحالة, ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله فإن لم يقتسم الغرماء حتى حل الدين شارك الغرماء, كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته وإن أدرك بعض المال قبل قسمه شاركهم فيه, ويضرب فيه بجميع دينه ويضرب سائر الغرماء ببقية ديونهم وإن قلنا: إن الدين يحل فإنه يضرب مع الغرماء بدينه كغيره من أرباب الديون الحالة فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة, فهل تحل بالموت؟ فيه روايتان إحداهما لا تحل إذا وثق الورثة وهو قول ابن سيرين وعبد الله بن الحسن وإسحاق, وأبي عبيد وقال طاوس وأبو بكر بن محمد والزهري, وسعد بن إبراهيم: الدين إلى أجله وحكى ذلك عن الحسن والرواية الأخرى أنه يحل بالموت وبه قال الشعبي والنخعي, وسوار ومالك والثوري, والشافعي وأصحاب الرأي لأنه لا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة, أو يتعلق بالمال لا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها, ولا ذمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ولا رضي صاحب الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة, ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه أما الميت فلأن النبي ـ ﷺ ـ قال: (الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه) وأما صاحبه فيتأخر حقه, وقد تتلف العين فيسقط حقه وأما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها, وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم ولنا ما ذكرنا في المفلس, ولأن الموت ما جعل مبطلا للحقوق وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة, وقد قال النبي ـ ﷺ ـ: (من ترك حقا أو مالا فلورثته) وما ذكروه إثبات حكم بالمصلحة المرسلة ولا يشهد لها شاهد الشرع باعتبار ولا خلاف في فساد هذا, فعلى هذا يبقى الدين في ذمة الميت كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه فإن أحب الورثة أداء الدين والتزامه للغريم, ويتصرفون في المال لم يكن لهم ذلك إلا أن يرضى الغريم أو يوثقوا الحق بضمين مليء, أو رهن يثق به لوفاء حقه فإنهم قد لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم, فيؤدي إلى فوات الحق وذكر القاضي أن الحق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورثهم من غير أن يشترط التزامهم له ولا ينبغي أن يلزم الإنسان دين لم يلتزمه ولم يتعاط سببه, ولو لزمهم ذلك لموت مورثهم للزمهم وإن لم يخلف وفاء وإن قلنا: إن الدين يحل بالموت فأحب الورثة القضاء من غير التركة واستخلاص التركة, فلهم ذلك وإن قضوا منها فلهم ذلك, وإن امتنعوا من القضاء باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين وإن مات مفلس وله غرماء بعض ديونهم مؤجل, وبعضها حال وقلنا: المؤجل يحل بالموت تساووا في التركة فاقتسموها على قدر ديونهم وإن قلنا: لا يحل بالموت نظرنا فإن وثق الورثة لصاحب المؤجل, اختص أصحاب الحال بالتركة وإن امتنع الورثة من التوثيق حل دينه, وشارك أصحاب الحال لئلا يفضي إلى إسقاط دينه بالكلية. فصل:


حكى بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟ روايتين إحداهما, لا يمنعه للخبر ولأن تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في حق الجاني والراهن والمفلس فلم يمنع نقله فإن تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره, صح تصرفهم ولزمهم أداء الدين فإن تعذر وفاؤه, فسخ تصرفهم كما لو باع السيد عبده الجاني أو النصاب الذي وجبت فيه الزكاة والرواية الثانية, يمنع نقل التركة إليهم لقول الله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء: 11]. فجعل التركة للوارث من بعد الدين والوصية فلا يثبت لهم الملك قبلهما فعلى هذا, لو تصرف الورثة لم يصح تصرفهم لأنهم تصرفوا في غير ملكهم إلا أن يأذن الغرماء لهم, وإن تصرف الغرماء لم يصح إلا بإذن الورثة. مسألة:


قال: وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يقفه الحاكم فجائز يعني قبل أن يحجر عليه الحاكم فنبدأ بذكر سبب الحجر, فنقول: إذا رفع إلى الحاكم رجل عليه دين فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لم يجبهم حتى تثبت ديونهم باعترافه أو ببينة, فإذا ثبتت نظر في ماله فإن كان وافيا بدينه, لم يحجر عليه وأمره بقضاء دينه فإن أبي حبسه, فإن لم يقضه وصبر على الحبس قضى الحاكم دينه من ماله وإن احتاج إلى بيع ماله في قضاء دينه باعه, وإن كان ماله دون دينه وديونه مؤجلة لم يحجر عليه لأنه لا تستحق مطالبته بها, فلا يحجر عليه من أجلها وإن كان بعضها مؤجلا وبعضها حالا وماله يفي بالحال, لم يحجر عليه أيضا كذلك وقال بعض أصحاب الشافعي: إن ظهرت أمارات الفلس لكون ماله بإزاء دينه ولا نفقة له إلا من ماله, ففيه وجهان أحدهما يحجر عليه لأن الظاهر أن ماله يعجز عن ديونه فهو كما لو كان ماله ناقصا ولنا: أن ماله واف بما يلزمه أداؤه, فلم يحجر عليه كما لو لم تظهر أمارات الفلس ولأن الغرماء لا يمكنهم طلب حقوقهم في الحال, فلا حاجة إلى الحجر وأما إن كانت ديونه حالة يعجز ماله عن أدائها فسأل غرماؤه الحجر عليه, لزمته إجابتهم ولا يجوز الحجر عليه بغير سؤال غرمائه لأنه لا ولاية له في ذلك وإنما يفعله لحق الغرماء فاعتبر رضاهم به وإن اختلفوا, فطلب بعضهم دون بعض أجيب من طلب لأنه حق له وبهذا قال مالك والشافعي, وقال أبو حنيفة: ليس للحاكم الحجر عليه فإذا أدى اجتهاده إلى الحجر عليه ثبت لأنه فصل مجتهد فيه وليس له التصرف في ماله لأنه لا ولاية عليه, إلا أن الحاكم يجبره على البيع إذا لم يمكن الإيفاء بدونه فإن امتنع لم يبعه وكذلك إن امتنع الموسر من وفاء الدين, لا يبيع ماله وإنما يحبسه ليبيع بنفسه إلا أن يكون عليه أحد النقدين, وماله من النقد الآخر فيدفع الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم لأنه رشيد لا ولاية عليه, فلم يجز للحاكم بيع ماله بغير إذنه كالذي لا دين عليه وخالفه صاحباه في ذلك ولنا, ما روى كعب بن مالك أن النبي ـ ﷺ ـ حجر على معاذ وباع ماله في دينه رواه الخلال بإسناده وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس, وقال: ألا إن أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد رين به, فمن كان له عليه مال فليحضر غدا فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه ولأنه محجور عليه, محتاج إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله بغير رضاه كالصغير والسفيه, ولأنه نوع مال فجاز بيعه في قضاء دينه كالأثمان وقياسهم يبطل ببيع الدراهم بالدنانير إذا ثبت هذا عدنا إلى مسألة الكتاب, فنقول: ما فعله المفلس قبل حجر الحاكم عليه من بيع أو هبة, أو إقرار أو قضاء بعض الغرماء أو غير ذلك, فهو جائز نافذ وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم أحدا خالفهم ولأنه رشيد غير محجور عليه, فنفذ تصرفه كغيره ولأن سبب المنع الحجر فلا يتقدم سببه, ولأنه من أهل التصرف ولم يحجر عليه فأشبه المليء, وإن أكرى جملا بعينه أو دارا لم تنفسخ إجارته بالفلس, وكان المكتري أحق به حتى تنقضي مدته. فصل:


ومتى حجر عليه لم ينفذ تصرفه في شيء من ماله, فإن تصرف ببيع أو هبة أو وقف, أو أصدق امرأة مالا له أو نحو ذلك لم يصح وبهذا قال مالك, والشافعي في قول وقال في آخر: يقف تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء نفذ, وإلا بطل ولنا أنه محجور عليه بحكم حاكم فلم يصح تصرفه, كالسفيه ولأن حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله فلم يصح تصرفه فيها, كالمرهونة فأما إن تصرف في ذمته فاشترى أو اقترض, أو تكفل صح تصرفه لأنه أهل للتصرف وإنما وجد في حقه الحجر, والحجر إنما يتعلق بماله لا بذمته ولكن لا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء لأنهم رضوا بذلك إذا علموا أنه مفلس وعاملوه, ومن لم يعلم فقد فرط في ذلك فإن هذا في مظنة الشهرة ويتبع بها بعد فك الحجر عنه وإن أقر بدين, لزمه بعد فك الحجر عنه نص عليه أحمد وهو قول مالك ومحمد بن الحسن, والثوري والشافعي في قول وقال في الآخر: يشاركهم, واختاره ابن المنذر لأنه دين ثابت مضاف إلى ما قبل الحجر فيشارك صاحبه الغرماء كما لو ثبت ببينة ولنا, أنه محجور عليه فلم يصح إقراره فيما حجر عليه فيه كالسفيه, أو كالراهن يقر على الرهن ولأنه إقرار يبطل ثبوته حق غير المقر فلم يقبل, أو إقرار على الغرماء فلم يقبل كإقرار الراهن, ولأنه متهم في إقراره فهو كالإقرار على غيره وفارق البينة, فإنه لا تهمة في حقها ولو كان المفلس صانعا كالقصار والحائك, في يديه متاع فأقر به لأربابه لم يقبل إقراره, والقول فيها كالتي قبلها وتباع العين التي في يديه وتقسم بين الغرماء, وتكون قيمتها واجبة على المفلس إذا قدر عليها لأنها صرفت في دينه بسبب من جهته فكانت قيمتها عليه كما لو أذن في ذلك وإن توجهت على المفلس يمين, فنكل عنها فقضى عليه فحكمه حكم إقراره, يلزم في حقه ولا يحاص الغرماء. فصل:


وإن أعتق المفلس بعض رقيقه فهل يصح؟ على روايتين إحداهما, يصح وينفذ وهو قول أبي يوسف وإسحاق لأنه عتق من مالك رشيد فنفذ, كما قبل الحجر ويفارق سائر التصرفات لأن للعتق تغليبا وسراية ولهذا يسري إلى ملك الغير, ويسري واقفه بخلاف غيره والرواية الأخرى لا ينفذ عتقه وبهذا قال مالك, وابن أبي ليلى والثوري والشافعي, واختاره أبو الخطاب في "رءوس المسائل" لأنه ممنوع من التبرع لحق الغرماء فلم ينفذ عتقه كالمريض الذي يستغرق دينه ماله, ولأن المفلس محجور عليه فلم ينفذ عتقه كالسفيه وفارق المطلق وأما سرايته إلى ملك الغير, فمن شرطه أن يكون موسرا يؤخذ منه قيمة نصيب شريكه فلا يتضرر, ولو كان معسرا لم ينفذ عتقه إلا فيما يملك صيانة لحق الغير, وحفظا له عن الضياع كذا ها هنا وهذا أصح ـ إن شاء الله تعالى ـ. فصل:


ويستحب إظهار الحجر عليه, لتجتنب معاملته كي لا يستضر الناس بضياع أموالهم عليه والإشهاد عليه, لينتشر ذلك عنه وربما عزل الحاكم أو مات فيثبت الحجر عند الآخر, فيمضيه ولا يحتاج إلى ابتداء حجر ثان. فصل:


وإن ثبت عليه حق ببينة شارك صاحبه الغرماء لأنه دين ثابت قبل الحجر عليه فأشبه ما لو قامت البينة به قبل الحجر ولو جنى المفلس بعد الحجر جناية أوجبت مالا, شارك المجني عليه الغرماء لأن حق المجني عليه ثبت بغير اختياره ولو كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا صاحبها عنها إلى مال أو صالحه المفلس على مال, شارك الغرماء لأن سببه ثبت بغير اختيار صاحبه فأشبه ما لو أوجبت المال فإن قيل: ألا قدمتم حقه على الغرماء كما قدمتم حق من جنى عليه بعض عبيد المفلس؟ قلنا: لأن الحق في العبد الجاني تعلق بعينه, فقدم لذلك وحق هذا تعلق بالذمة كغيره من الديون, فاستويا. فصل: ولو قسم الحاكم ماله بين غرمائه ثم ظهر غريم آخر رجع على الغرماء بقسطه, وبهذا قال الشافعي وحكي ذلك عن مالك وحكي عنه: لا يحاصهم لأنه نقض لحكم الحاكم ولنا, أنه غريم لو كان حاضرا قاسمهم فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم, كغريم الميت يظهر بعد قسم ماله وليس قسم الحاكم ماله حكما إنما هو قسمة بان الخطأ فيها, فأشبه ما لو قسم مال الميت بين غرمائه ثم ظهر غريم آخر أو قسم أرضا بين شركاء ثم ظهر شريك آخر أو قسم الميراث بين ورثة ثم ظهر وارث سواه, أو وصية ثم ظهر موصى له آخر. فصل:


ولو أفلس وله دار مستأجرة فانهدمت بعد قبض المفلس الأجرة, انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة وسقط من الأجرة بقدر ذلك ثم إن وجد عين ماله, أخذ بقدر ذلك وإن لم يجده ضرب مع الغرماء بقدره وإن كان ذلك بعد قسم ماله, رجع على الغرماء بحصته لأنه سبب وجوبه قبل الحجر ولذلك يشاركهم إذا وجب قبل القسمة ولو باع سلعة وقبض ثمنها, ثم أفلس فوجد بها المشتري عيبا فردها به أو ردها بخيار, أو اختلاف في الثمن ونحوه ووجد عين ماله, أخذها لأن البيع لما انفسخ زال ملك المفلس عن الثمن كزوال ملك المشتري عن المبيع, وإن كان بعد تصرفه فيه شارك المشتري الغرماء. مسألة:


قال: وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته بالمعروف من ماله, إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه وجملة ذلك أنه إذا حجر على المفلس وكان ذا كسب يفي بنفقته ونفقة من تلزمه نفقته, فنفقته في كسبه فإنه لا حاجة إلى إخراج ماله مع غناه بكسبه فلم يجز أخذ ماله, كالزيادة على النفقة وإن كان كسبه دون نفقته كملناها من ماله, وإن لم يكن ذا كسب أنفق عليه من ماله مدة الحجر وإن طالت لأن ملكه باق, وقد قال النبي ـ ﷺ ـ: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) ومعلوم أن فيمن يعوله من تجب نفقته عليه ويكون دينا عليه, وهي الزوجة فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء, ولأن الحي آكد حرمة من الميت لأنه مضمون بالإتلاف وتقديم تجهيز الميت, ومؤنة دفنه على دينه متفق عليه فنفقته أولى وتقدم أيضا نفقة من تلزمه نفقته من أقاربه مثل الوالدين, والمولودين وغيرهم ممن تحب نفقتهم لأنهم يجرون مجرى نفسه, لأن ذوي رحمه منهم يعتقون إذا ملكهم كما يعتق إذا ملك نفسه فكانت نفقتهم كنفقته, وكذلك زوجته تقدم نفقتها لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب لأنها تجب من طريق المعاوضة وفيها معنى الإحياء كما في الأقارب, وممن أوجب الإنفاق على المفلس وزوجته وأولاده الصغار من ماله أبو حنيفة ومالك, والشافعي ولا نعلم أحدا خالفهم وتجب كسوتهم أيضا لأن ذلك مما لا بد منه ولا تقوم النفس بدونه والواجب من النفقة والكسوة أدنى ما ينفق على مثله بالمعروف, وأدنى ما يكتسى مثله إن كان من جنس الطعام أو متوسطه وكذلك كسوته من جنس ما يكتسبه مثله, وكسوة امرأته ونفقتها مثل ما يفترض على مثله وأقل ما يكفيه من اللباس قميص وسراويل وشيء يلبسه على رأسه, إما عمامة وإما قلنسوة أو غيرهما مما جرت به عادته ولرجله حذاء, إن كان يعتاده وإن احتاج إلى جبة أو فروة لدفع البرد دفع إليه ذلك وإن كانت له ثياب لا يلبس مثله مثلها, بيعت واشترى له كسوة مثلها ورد الفضل على الغرماء, فإن كانت إذا بيعت واشترى له كسوة لا يفضل منها شيء تركت فإنه لا فائدة في بيعها. فصل:


وإن مات المفلس, كفن من ماله لأن نفقته كانت واجبة من ماله في حال حياته فوجب تجهيزه منه بعد الموت كغيره وكذلك يجب كفن من يمونه لأنهم بمنزلته, ولا يلزم تكفين الزوجة لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع وقد فات بالموت فسقطت النفقة ويفارق الأقارب لأن قرابتهم باقية وإن مات من عبيده واحد, وجب تكفينه وتجهيزه لأن نفقته ليست في مقابلة الانتفاع به ولذلك تجب نفقة الصغير والمبيع قبل التسليم ويكفن في ثلاثة أثواب, كما كان يلبس في حياته ثلاثة ويحتمل أن يكفن في ثوب واحد يستره لأن ذلك يكفيه, فلا حاجة إلى الزيادة وفارق حالة الحياة لأنه لا بد له من تغطية رأسه وكشف ذلك يؤذيه, بخلاف الميت ويمتد الإنفاق على المفلس إلى حين فراغه من القسمة بين الغرماء لأنه لا يزول ملكه إلا بذلك ومذهب الشافعي في هذا الفصل قريب مما ذكرنا. مسألة:


قال: ولا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها وجملته أن المفلس إذا حجر عليه باع الحاكم ماله ويستحب أن يحضر المفلس البيع, لمعان أربعة أحدها ليحصي ثمنه ويضبطه الثاني, أنه أعرف بثمن متاعه وجيده ورديئه فإذا حضر تكلم عليه, وعرف الغبن من غيره الثالث أن تكثر الرغبة فيه فإن شراءه من صاحبه أحب إلى المشتري الرابع, أن ذلك أطيب لنفسه وأسكن لقلبه ويستحب إحضار الغرماء أيضا لأمور أربعة أحدها, أنه يباع لهم الثاني أنهم ربما رغبوا في شراء شيء منه فزادوا في ثمنه, فيكون أصلح لهم وللمفلس الثالث أنه أطيب لقلوبهم وأبعد من التهمة الرابع, أنه ربما كان فيهم من يجد عين ماله فيأخذها فإن لم يفعل وباعه من غير حضورهم كلهم, جاز لأن ذلك موكول إليه ومفوض إلى اجتهاده وربما أداه اجتهاده إلى خلاف ذلك, وبانت له المصلحة في المبادرة إلى البيع قبل إحضارهم ويأمرهم الحاكم أن يقيموا مناديا ينادي لهم على المتاع فإن تراضوا برجل ثقة أمضاه الحاكم, وإن اتفقوا على غير ثقة رده فإن قيل: فلم يرده وأصحاب الحق قد اتفقوا عليه فأشبه ما لو اتفق الراهن والمرتهن على أن يبيع الرهن غير ثقة لم يكن للحاكم الاعتراض؟ قلنا: لأن للحاكم ها هنا نظرا واجتهادا فإنه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به, فلهذا نظر فيه بخلاف الرهن فإنه لا نظر للحاكم فيه فإن اختار المفلس رجلا, واختار الغرماء آخر أقر الحاكم الثقة منهما فإن كانا ثقتين, قدم المتطوع منهما لأنه أوفر فإن كانا متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر, وإن كانا بجعل قدم أعرفهما وأوثقهما فإن تساويا قدم من يرى منهما فإن وجد متطوعا بالنداء, وإلا دفعت الأجرة من مال المفلس لأن البيع حق عليه لكونه طريق وفاء دينه وقيل يدفع من بيت المال لأنه من المصالح وكذلك الحكم في أجر من يحفظ المتاع والثمن, وأجر الحمالين ونحوهم ويستحب بيع كل شيء في سوقه البز في البزازين والكتب في سوقها, ونحو ذلك لأنه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة قيمته فإن باع في غير سوقه بثمن مثله جاز لأن الغرض تحصيل الثمن, وربما أدى الاجتهاد إلى أن ذلك أصلح ولذلك لو قال: بع ثوبي في سوق كذا بكذا فباعه بذلك في سوق آخر جاز ويبيع بنقد البلد لأنه أوفر فإن كان في البلد نقود باع بغالبها, فإن تساوت باع بجنس الدين وإن زاد في السلعة زائد في مدة الخيار ألزم الأمين الفسخ لأنه أمكنه بيعه بثمن, فلم يجز بيعه بدونه كما لو زيد فيه قبل العقد وإن زاد بعد لزوم العقد استحب للأمين سؤال المشتري الإقالة, واستحب للمشتري الإجابة إلى ذلك لتعليقه بمصلحة المفلس وقضاء دينه فيبدأ ببيع العبد الجاني, فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من ثمنه أو أرش جنايته وما فضل منه رده إلى الغرماء ثم يبيع الرهن, فيدفع إلى المرتهن قدر دينه وما فضل من ثمنه رده إلى الغرماء وإن بقيت من دينه بقية, ضرب بها مع الغرماء ثم يبيع ما يسرع إليه الفساد من الطعام الرطب لأن بقاءه يتلفه بيقين ثم يبيع الحيوان, لأنه معرض للتلف ويحتاج إلى مؤنة في بقائه ثم يبيع السلع والأثاث, لأنه يخاف عليه وتناله الأيدي ثم العقار آخرًا لأنه لا يخاف تلفه, وبقاؤه أشهر له وأكثر لطلابه ومتى باع شيئا من ماله وكان الدين لواحد وحده دفعه إليه لأنه لا حاجة إلى تأخيره, وإن كان له غرماء فأمكن قسمته عليهم قسم ولم يؤخر, وإن لم يمكن قسمته أودع عند ثقة إلى أن يجتمع, ويمكن قسمته فيقسم وإن احتاج في حفظه إلى غرامة دفع ذلك إلى من يحفظه إذا ثبت هذا عدنا إلى مسألة الكتاب فنقول: لا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها وبهذا قال أبو حنيفة وإسحاق وقال شريح ومالك والشافعي: تباع, ويكترى له بدلها واختاره ابن المنذر لأن النبي ـ ﷺ ـ قال في الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال لغرمائه (خذوا ما وجدتم) وهذا مما وجدوه, ولأنه عين مال المفلس فوجب صرفه في دينه كسائر ماله ولنا أن هذا مما لا غنى للمفلس عنه, فلم يصرف في دينه كثيابه وقوته والحديث قضية في عين, ويحتمل أنه لم يكن له عقار ولا خادم ويحتمل أن النبي ـ ﷺ ـ قال: (خذوا ما وجدتم] مما تصدق به عليه, فإن المذكور قبل ذلك كذلك روى أن النبي ـ ﷺ ـ قال: (تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه, فقال النبي ـ ﷺ ـ خذوا ما وجدتم) أي مما تصدق به عليه والظاهر أنه لم يتصدق عليه بدار وهو محتاج إلى سكناها ولا خادم وهو محتاج إلى خدمته ولأن الحديث مخصوص بثياب المفلس وقوته, فنقيس عليه محل النزاع وقياسهم منتقض بذلك أيضا وبأجر المسكن, وسائر ماله يستغنى عنه بخلاف مسألتنا. فصل:


وإن كان له داران يستغنى بسكنى إحداهما بيعت الأخرى لأن به غنى عن سكناها وإن كان مسكنه واسعا, لا يسكن مثله في مثله بيع واشترى له مسكن مثله, ورد الفضل على الغرماء كالثياب التي له إذا كانت رفيعة لا يلبس مثله مثلها ولو كان المسكن والخادم اللذين لا يستغنى عنهما عين مال بعض الغرماء أو كان جميع ماله أعيان أموال أفلس بأثمانها, ووجدها أصحابها فلهم أخذها بالشرائط التي ذكرناها لقول النبي ـ ﷺ ـ: (من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولأن حقه تعلق بالعين فكان أقوى سببا من المفلس ولأن الإعسار بالثمن سبب يستحق به الفسخ, فلم يمنعه منه تعلق حاجة المشتري كما قبل القبض وكالعيب والخيار ولأن منعهم من أخذ أعيان أموالهم يفتح باب الحيل, بأن يجيء من لا مال له فيشتري في ذمته ثيابا يلبسها ودارا يسكنها, وخادما يخدمه وفرسا يركبها وطعاما له ولعائلته ويمتنع على أربابها أخذها لتعلق حاجته بها, فتضيع أموالهم ويستغنى هو بها فعلى هذا يؤخذ ذلك ولا يترك له شيء منه لأنه أعيان أموال الناس فكانوا أحق بها منه كما لو كانت في أيديهم, أو أخذها منهم غصبا. فصل:


ولو كان المفلس ذا صنعة يكسب ما يمونه ويمون من تلزمه مؤنته أو كان يقدر على أن يكسب ذلك بأن يؤجر نفسه, أو يتوكل لإنسان أو يكتسب من المباحات ما يكفيه لم يترك له من ماله شيء وإن لم يقدر على شيء مما ذكرناه, ترك له من ماله قدر ما يكفيه قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ تعالى في رواية أبي داود: ويترك له قوت يتقوت به, وإن كان له عيال ترك له قوام وقال في رواية الميموني: يترك له قدر ما يقوم به معاشه ويباع الباقي وهذا في حق الشيخ الكبير, وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم وينبغي أن يجعل ذلك مما لا يتعلق به حق بعضهم بعينه لأن من تعلق حقه بالعين أقوى سببا من غيره. فصل:


وإذا تلف شيء من مال المفلس تحت يد الأمين أو بيع شيء من ماله وأودع ثمنه فتلف عند المودع فهو من ضمان المفلس وبهذا قال الشافعي وقال مالك العروض من ماله, والدراهم والدنانير من مال الغرماء وقال المغيرة: الدنانير من مال أصحاب الدنانير والدراهم من مال أصحاب الدراهم ولنا أنه من مال المفلس, ونماؤه له فكان تلفه في ماله كالعروض. فصل:


وإذا اجتمع مال المفلس قسم بين غرمائه, فإن كانت ديونهم من جنس الأثمان أخذوها وإن كان فيهم من دينه من غير جنس الأثمان كالقرض بغير الأثمان, فرضي أن يأخذ عوض حقه من الأثمان جاز وإن امتنع وطلب جنس حقه, ابتيع له بحصته من جنس دينه ولو أراد الغريم الأخذ من المال المجموع وقال المفلس: لا أوفيك إلا من جنس دينك قدم قوله لأن هذا على سبيل المعاوضة فلا يجوز إلا بتراضيهما عليه وإن كان فيهم من له دين من سلم, لم يجز أن يأخذ إلا من جنس حقه وإن تراضيا على دفع عوضه لأن ما في الذمة من السلم لا يجوز أخذ البدل عنه لقوله ـ ﷺ ـ (من أسلم في شيء, فلا يصرفه إلى غيره). فصل:


وإذا فرق مال المفلس وبقيت عليه بقية وله صنعة, فهل يجبره الحاكم على إيجار نفسه ليقضي دينه؟ على روايتين إحداهما لا يجبره, وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280]. ولما روى أبو سعيد (أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها وكثر دينه فقال النبي ـ ﷺ ـ تصدقوا عليه فتصدقوا عليه, فلم يبلغ وفاء دينه فقال النبي ـ ﷺ ـ خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) رواه مسلم ولأن هذا تكسب للمال, فلم يجبره عليه كقبول الهبة والصدقة وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر والثانية, يجبر على الكسب وهو قول عمر بن عبد العزيز وسوار والعنبري وإسحاق لأن النبي ـ ﷺ ـ باع سرقا في دينه وكان سرق رجلا دخل المدينة وذكر أن وراءه مالا, فداينه الناس فركبته ديون ولم يكن وراءه مال, فسماه سرقا وباعه بخمسة أبعرة والحر لا يباع ثبت أنه باع منافعه ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان, في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة وثبوت الغنى بها فكذلك في وفاء الدين منها ولأن الإجارة عقد معاوضة, فجاز إجباره عليها كبيع ماله في وفاء الدين منها ولأنها إجارة لما يملك إجارته فيجبر عليها في وفاء دينه, كإجارة أم ولده ولأنه قادر على وفاء دينه فلزمه كمالك ما يقدر على الوفاء منه فإن قيل: حديث سرق منسوخ بدليل أن الحر لا يباع, والبيع وقع على رقبته بدليل أن في الحديث أن الغرماء قالوا لمشتريه: ما تصنع به؟ قال أعتقه قالوا: لسنا بأزهد منك في إعتاقه فأعتقوه قلنا: هذا إثبات النسخ بالاحتمال ولا يجوز, ولم يثبت أن بيع الحر كان جائزا في شريعتنا وحمل لفظ بيعه على بيع منافعه أسهل من حمله على بيع رقبته المحرم فإن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه سائغ كثير في القرآن, وفي كلام العرب كقوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} [البقرة: 93]. {ولكن البر من آمن بالله} [البقرة: 177]. {واسأل القرية} [يوسف: 82]. وغير ذلك وكذلك قوله: "أعتقه" أي من حقي عليه وكذلك قال: "فأعتقوه" يعني الغرماء وهم لا يملكون إلا الدين الذي عليه وأما قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280]. فيتوجه منع كونه داخلا تحت عمومها فإن هذا في حكم الأغنياء, في حرمان الزكاة وسقوط نفقته عن قريبه ووجوب نفقة قريبه عليه, وحديثهم قضية عين لا يثبت حكمها إلا في مثلها ولم يثبت أن لذلك الغريم كسبا يفضل عن قدر نفقته وأما قبول الهبة والصدقة, ففيه منة ومعرة تأباها قلوب ذوي المروءات بخلاف مسألتنا إذا ثبت هذا فلا يجبر على الكسب إلا من في كسبه فضلة عن نفقته, ونفقة من يمونه على ما تقدم ذكره. فصل: ولا يجبر على قبول هدية ولا صدقة, ولا وصية ولا قرض ولا تجبر المرأة على التزوج ليأخذ مهرها, لأن في ذلك ضررا للحوق المنة في الهدية والصدقة والوصية والعوض في القرض وملك الزوج للمرأة في النكاح, ووجوب حقوقه عليها ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فالخيار بحاله, ولا يجبر على ما فيه الحظ من الرد والإمضاء لأن الفلس يمنعه من إحداث عقد أما من إمضائه وتنفيذ عقوده فلا وإن جنى على المفلس جناية توجب المال ثبت المال, وتعلقت حقوق الغرماء به ولا يصح منه العفو عنه وإن كانت موجبة للقصاص فهو مخير بين القصاص والعفو, ولا يجبر على العفو على مال لأن ذلك يفوت القصاص الذي يجب لمصلحته فإن اقتص لم يجب للغرماء شيء وإن عفا على مال, ثبت وتعلقت حقوق الغرماء به وإن عفا مطلقا انبنى على الروايتين, في موجب العمد إن قلنا: القصاص خاصة لم يثبت شيء وسقط القصاص وإن قلنا: أحد أمرين ثبتت له الدية, وتعلقت بها حقوق الغرماء وإن عفا على غير مال فعلى الروايتين أيضا فإن قلنا: القصاص عينا لم يثبت شيء وإن قلنا: أحد الأمرين تثبت الدية ولم يصح إسقاطه, لأن عفوه عن القصاص يثبت له الدية ولا يصح إسقاطها وإن وهب هبة بشرط الثواب ثم أفلس, فبذل له الثواب لزمه قبوله ولم يكن له إسقاطه لأنه أخذه على سبيل العوض عن الموهوب, فلزمه قبوله كالثمن في البيع وليس له إسقاط شيء من ثمن مبيع أو أجرة في إجارة, ولا قبضه رديئا ولا قبض المسلم فيه دون صفاته إلا بإذن غرمائه ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا. فصل:


إذا فرق مال المفلس, فهل ينفك عنه الحجر بذلك أو يحتاج إلى فك الحجر عنه؟ فيه وجهان أحدهما يزول بقسمة ماله لأنه حجر عليه لأجله, فإذا زال ملكه عنه زال سبب الحجر فزال الحجر, كزوال حجر المجنون لزوال جنونه والثاني لا يزول إلا بحكم الحاكم لأنه ثبت بحكمه, فلا يزول إلا بحكمه كالمحجور عليه لسفه وفارق الجنون فإنه يثبت بنفسه, فزال بزواله ولأن فراغ ماله يحتاج إلى معرفة وبحث فوقف ذلك على الحاكم بخلاف المجنون. فصل:


ومتى ثبت إعساره عند الحاكم, لم يكن لأحد مطالبته وملازمته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لغرمائه ملازمته من غير أن يمنعوه من الكسب فإذا رجع إلى بيته فأذن لهم في الدخول, دخلوا معه وإلا منعوه من الدخول لقول النبي ـ ﷺ ـ: (لصاحب الحق اليد واللسان) ولنا, أن من ليس لصاحب الحق مطالبته لم يكن له ملازمته كما لو كان دينه مؤجلا, وقول الله تعالى: {فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] . ومن وجب إنظاره حرمت ملازمته كمن دينه مؤجل والحديث فيه مقال قاله ابن المنذر ثم نحمله على الموسر, بدليل ما ذكرنا فقد ثبت أن النبي ـ ﷺ ـ قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه: (خذوا ما وجدتم, وليس لكم إلا ذلك) رواه مسلم والترمذي وإن فك الحجر عنه لم يكن لأحد مطالبته ولا ملازمته, حتى يملك مالا فإن جاء الغرماء عقيب فك الحجر عنه فادعوا أن له مالا, لم يلتفت إلى قولهم حتى يثبتوا سببه فإن جاءوا بعد مدة, فادعوا أن في يده مالا أو ادعوا ذلك عقيب فك الحجر وبينوا سببه أحضره الحاكم وسأله, فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه ما فك الحجر عنه حتى لم يبق له شيء وإن أقر, وقال: هو لفلان وأنا وكيله أو مضاربه وكان المقر له حاضرا سأله الحاكم, فإن صدقه فهو له ويستحلفه الحاكم لجواز أن يكونا تواطأ على ذلك ليدفع المطالبة عن المفلس وإن قال: ما هو لي عرفنا كذب المفلس, فيصير كأنه قال: المال لي فيعاد الحجر عليه إن طلب الغرماء ذلك وإن أقر لغائب أقر في يديه حتى يحضر الغائب ثم يسأل, كما حكمنا في الحاضر ومتى أعيد الحجر عليه لديون تجددت عليه شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم والآخرين يضربون بجميعها وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يدخل غرماء الحجر الأول على هؤلاء الذين تجددت حقوقهم, حتى يستوفوا إلا أن تكون له فائدة من ميراث أو يجنى عليه جناية, فيتحاص الغرماء فيه ولنا أنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته فتساووا في الاستحقاق, كالذين تثبت حقوقهم في حجر واحد وكتساويهم في الميراث وأرش الجناية ولأن مكسبه مال له, فتساووا فيه كالميراث.

مسألة: قال: (ومن وجب عليه حق فذكر أنه معسر به, حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسرته] وجملته أن من وجب عليه دين حال فطولب به ولم يؤده, نظر الحاكم فإن كان في يده مال ظاهر أمره بالقضاء فإن ذكر أنه لغيره فقد ذكرنا حكمه في الفصل الذي قبل هذا, وإن لم يجد له مالا ظاهرا فادعى الإعسار فصدقه غريمه, لم يحبس ووجب إنظاره ولم تجز ملازمته, لقول الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280]. ولقول النبي ـ ﷺ ـ لغرماء الذي كثر دينه: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه وعسرته ثابتة, والقضاء متعذر فلا فائدة في الحبس وإن كذبه غريمه فلا يخلو إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف, فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة كالقرض والبيع أو عرف له أصل مال سوى هذا, فالقول قول غريمه مع يمينه فإذا حلف أنه ذو مال حبس حتى تشهد البينة بإعساره قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين, منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن وروى عن شريح والشعبي وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس وبه قال عبد الله بن جعفر, والليث بن سعد ولنا أن الظاهر قول الغريم فكان القول قوله كسائر الدعاوى فإن شهدت البينة بتلف ماله, قبلت شهادتهم سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أو لم تكن لأن التلف يطلع عليه أهل الخبرة وغيرهم وإن طلب الغريم إحلافه على ذلك لم يجب إليه لأن ذلك تكذيب للبينة, وإن شهدت مع ذلك بالإعسار اكتفى بشهادتها وثبتت عسرته وإن لم تشهد بعسرته, وإنما شهدت بالتلف لا غير وطلب الغريم يمينه على عسره وأنه ليس له مال آخر, استحلف على ذلك لأنه غير ما شهدت به البينة وإن لم تشهد بالتلف وإنما شهدت بالإعسار لم تقبل الشهادة إلا من ذي خبرة باطنة, ومعرفة متقادمة لأن هذا من الأمور الباطنة لا يطلع عليه في الغالب إلا أهل الخبرة والمخالطة وهذا مذهب الشافعي وحكى عن مالك أنه قال: لا تسمع البينة على الإعسار لأنها شهادة على النفي فلم تسمع, كالشهادة على أنه لا دين عليه ولنا ما روى قبيصة بن المخارق أن النبي ـﷺـ قال له: (يا قبيصة, إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت المسألة حتى يصيبها ثم يمسك, ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة, حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش) رواه مسلم وأبو داود وقولهم: إن الشهادة على النفي لا تقبل قلنا: لا ترد مطلقا, فإنه لو شهدت البينة أن هذا وارث الميت لا وارث له سواه قبلت ولأن هذه وإن كانت تتضمن النفي, فهي تثبت حالة تظهر ويوقف عليها بالمشاهدة بخلاف ما إذا شهدت أنه لا حق له, فإن هذا مما لا يوقف عليه ولا يشهد به حال يتوصل بها إلى معرفته به بخلاف مسألتنا وتسمع البينة في الحال, وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا تسمع في الحال ويحبس شهرا وروى ثلاثة أشهر, وروى أربعة أشهر حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره ولنا أن كل بينة جاز سماعها بعد مدة, جاز سماعها في الحال كسائر البينات وما ذكروه لو كان صحيحا لأغنى عن البينة فإن قال الغريم: أحلفوه لي مع يمينه أنه لا مال له, لم يستحلف في ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية إسحاق بن إبراهيم في رجل جاء بشهود على حق فقال الغريم استحلفوه: لا يستحلف لأن ظاهر الحديث: "البينة على المدعي, واليمين على من أنكر" قال القاضي: سواء شهدت البينة بتلف المال أو بالإعسار وهذا أحد قولي الشافعي لأنها بينة مقبولة فلم يستحلف معها كما لو شهدت بأن هذا عبده, أو هذه داره ويحتمل أن يستحلف وهذا القول الثاني للشافعي لأنه يحتمل أن له مالا خفي على البينة ويصح عندي إلزامه اليمين على الإعسار فيما إذا شهدت البينة بتلف المال وسقوطها عنه فيما إذا شهدت بالإعسار, لأنها إذا شهدت بالتلف صار كمن لم يثبت له أصل مال أو بمنزلة من أقر له غريمه بتلف ذلك المال وادعى أن له مالا سواه, أو أنه استحدث مالا بعد تلفه ولو لم تقم البينة وأقر له غريمه بتلف ماله وادعى أن له مالا سواه لزمته اليمين, فكذلك إذا قامت به البينة فإنها لا تزيد على الإقرار وإن كان الحق يثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه كأرش جناية, وقيمة متلف ومهر أو ضمان أو كفالة أو عوض خلع, إن كان امرأة وإن لم يعرف له مال حلف أنه لا مال له, وخلى سبيله ولم يحبس وهذا قول الشافعي وابن المنذر فإن شهدت البينة بإعساره قبلت, ولم يستحلف معها لما تقدم وإن شهدت أنه كان له مال فتلف لم يستغن بذلك عن يمينه لما ذكرناه وكذلك لو أقر له به غريمه, وإنما اكتفينا بيمينه لأن الأصل عدم المال لما روي أن النبي ـ ﷺ ـ قال لحبة وسواء ابني خالد بن سواء: (لا تيئسا من الرزق ما اهتزت رءوسكما فإن ابن آدم يخلق وليس له إلا قشرتاه, ثم يرزقه الله تعالى) قال ابن المنذر: الحبس عقوبة ولا نعلم له ذنبا يعاقب به والأصل عدم ماله بخلاف المسألة الأولى, فإن الأصل ثبوت ماله فيحبس حتى يعلم ذهابه والخرقي لم يفرق بين الحالين لكنه يحمل كلامه على ما ذكرنا, لقيام الدليل على الفرق. فصل:


إذا امتنع الموسر من قضاء الدين فلغريمه ملازمته ومطالبته, والإغلاظ له بالقول فيقول: يا ظالم يا معتد ونحو ذلك لقول رسول الله ـ ﷺ ـ: (لي الواجد يحل عقوبته وعرضه) فعقوبته حبسه وعرضه أي يحل القول في عرضه بالإغلاظ له وقال: النبي ـ ﷺ ـ: (مطل الغنى ظلم) وقال: (إن لصاحب الحق مقالا). مسألة:


قال: (وإذا مات فتبين أنه كان مفلسا, لم يكن لأحد من الغرماء أن يأخذ عين ماله] هذا الشرط الخامس لاستحقاق استرجاع عين المال من المفلس وهو أن يكون حيا فإن مات, فالبائع أسوة الغرماء سواء علم بفلسه قبل الموت فحجر عليه ثم مات, أو مات فتبين فلسه وبهذا قال مالك وإسحاق وقال الشافعي: له الفسخ واسترجاع العين لما روى ابن خلدة الزرقي قاضي المدينة قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال أبو هريرة: هذا الذي قضى فيه رسول الله ـ ﷺ ـ: (أيما رجل مات, أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه) رواه أبو داود وابن ماجه واحتجوا بعموم قوله: عليه السلام (من أدرك متاعه بعينه عند رجل, أو إنسان قد أفلس فهو أحق به) ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة, فجاز فسخه لتعذر العوض كما لو تعذر المسلم فيه ولأن الفلس سبب لاستحقاق الفسخ, فجاز الفسخ به بعد الموت كالعيب ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة, عن النبي ـ ﷺ ـ في حديث المفلس: (فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء) رواه أبو داود وروى أبو اليمان عن الزبيدي عن الزهري, عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ ﷺ ـ: (أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه, اقتضى من ثمنه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء) رواه ابن ماجه ولأنه تعلق به حق غير المفلس والغرماء, وهم الورثة فأشبه المرهون وحديثهم مجهول الإسناد قال ابن المنذر: قال ابن عبد البر يرويه أبو المعتمر عن الزرقي, وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم ثم هو غير معمول به إجماعا فإنه جعل المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري من غير شرط فلسه ولا تعذر وفائه, ولا عدم قبض ثمنه والأمر بخلاف ذلك عند جميع العلماء إلا ما حكى عن الإصطخري من أصحاب الشافعي, أنه قال: لصاحب السلعة أن يرجع فيها إذا مات المشتري وإن خلف وفاء وهذا شذوذ عن أقوال أهل العلم وخلاف للسنة لا يعرج على مثله وأما الحديث الآخر, فنقول به وإن صاحب المتاع أحق به إذا وجده عند المفلس وما وجده في مسألتنا عنده, إنما وجده عند ورثته فلا يتناوله الخبر وإنما يدل بمفهومه على أنه لا يستحق الرجوع فيه, ثم هو مطلق وحديثنا يقيده وفيه زيادة والزيادة من الثقة مقبولة وتفارق حالة الحياة حال الموت لأمرين أحدهما, أن الملك في الحياة للمفلس وها هنا لغيره والثاني أن ذمة المفلس خربت ها هنا خرابا لا يعود, فاختصاص هذا بالعين يستضر به الغرماء كثيرا بخلاف حالة الحياة. مسألة:


قال: (ومن أراد سفرا وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه] وجملة ذلك أن من عليه دين إذا أراد السفر وأراد غريمه منعه, نظرنا فإن كان محل الدين قبل محل قدومه من السفر مثل أن يكون سفره إلى الحج لا يقدم إلا في صفر ودينه يحل في المحرم أو ذي الحجة, فله منعه من السفر لأن عليه ضررا في تأخير حقه عن محله فإن أقام ضمينا مليئا أو دفع رهنا يفي بالدين عند المحل فله السفر لأن الضرر يزول بذلك وأما إن كان الدين لا يحل إلا بعد محل السفر, مثل أن يكون محله في ربيع وقدومه في صفر نظرنا فإن كان سفره إلى الجهاد, فله منعه إلا بضمين أو رهن لأنه سفر يتعرض فيه للشهادة وذهاب النفس فلا يأمن فوات الحق وإن كان السفر لغير الجهاد فظاهر كلام الخرقي أنه ليس له منعه, وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن هذا السفر ليس بأمارة على منع الحق في محله فلم يملك منعه منه كالسفر القصير, وكالسعي إلى الجمعة وقال الشافعي ليس له منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلا بحال سواء كان الدين يحل قبل محل سفره أو بعده, أو إلى الجهاد أو إلى غيره لأنه لا يملك المطالبة بالدين فلم يملك منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل, كالسفر الآمن القصير ولنا أنه سفر يمنع استيفاء الدين في محله فملك منعه منه, إن لم يوثقه بكفيل أو رهن كالسفر بعد حلول الحق, ولأنه لا يملك تأخير الدين عن محله وفي السفر المختلف فيه تأخيره عن محله فلم يملكه, كجحده.


==============

القرآن الكريم : {المصحف كله وورد}

الرابط https://archive.org/download/sunnahandhadith/UthmanicHafs1-Ex1-Ver12-browser.zip  سورة الفاتحة     القرآن الكريم : بِسْمِ اللَ...