7- المغني - كتاب الحج 1. موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي
(الجزء السابع – كتاب الحج)
(الجزء السابع – كتاب الحج)
• كتاب الحج
o مسألة: شروط وجوب الحج
=فصل: أقسام شروط الحج فصل: اشتراط أمن الطريق فصل: إمكان المسير فصل: شرط الاستطاعة فصل: لا يلزمه الحج ببذل غيره له فصل: تكلف الحج ممن لا يلزمه فصل: اشتراط الراحلة للبعيد فصل: اشتراط الزاد فصل: الراحلة الصالحة للسفر فصل: اعتبار الزاد والراحلة فاضلين عن نفقة عياله فصل: حج من له عقار يحتاج إليه فصل: الخلاف في وجوب العمرة فصل: ليس على أهل مكة عمرة فصل: عمرة المتمتع والقارن والعمرة من أدنى الحل فصل: تكرار العمرة في السنة فصل: فضل العمرة في رمضان فصل: فضل الحج والعمرة o مسألة: العاجز عن الحج يستنيب غيره فصل: إن لم يجد مالا يستنيب به فلا حج عليه فصل: إذا أحج العاجز عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر فصل: من ترجى عافيته ليس له أن يستنيب فصل: لا تجوز الاستنابة لمن يقدر على الحج فصل: الاستنابة لمن يرجو زوال عجزه فصل: الاستئجار على الحج ونحوه فصل: الدماء الواجبة هل هي على النائب أو على المستنيب فصل: ما ينفقه النائب عن غيره في الحج فصل: جواز نيابة كل من الرجل والمرأة عن الآخر فصل: لا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه o فصول في مخالفة النائب: فصل: إن أمره بالتمتع فقرن فصل: إن أمره بالقران فأفرد أو تمتع فصل: إن استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة فصل: إن أمر بالحج فحج, ثم اعتمر لنفسه أو أمره بعمرة فاعتمر, ثم حج عن نفسه فصل: إن استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما o مسألة: لا يجب الحج على المرأة التي لا محرم لها فصل: محارم المرأة فصل: نفقة المحرم في الحج على المرأة فصل: إذا مات محرم المرأة في الطريق فصل: ليس للرجل منع امرأته من حجة الإسلام فصل: لا تخرج المرأة إلى الحج في عدة الوفاة o مسألة: وجوب الحج عمن مات مفرطا فصل: استنابة من يحج عنه فصل: إن خرج النائب للحج فمات في الطريق فصل: إن لم يخلف تركة تفي بالحج فصل: الوصية بحج التطوع فصل: استحباب الحج عن الوالدين o مسألة: من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه فصل: الإحرام بالتطوع والنذر ممن عليه فرض الحج فصل: ليس للصبي والعبد أن ينوبا في الحج عن غيرهما فصل: حج النذر لمن عليه حجة الإسلام o مسألة: من حج وهو غير بالغ فبلغ أو عبد فعتق فعليه الحج فصل: بلوغ الصبي أو عتق العبد بعرفة فصل: بلوغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف فصل: الكافر يسلم أو المجنون يفيق بعرفة o فصل: بعض أحكام حج العبد الفصل الأول في إحرامه: الفصل الثاني: إذا نذر العبد الحج الفصل الثالث: في جناياته: الفصل الرابع: إذا وطئ العبد في إحرامه o مسألة: ما يراعى في الحج بالولد الصغير الفصل الأول في الإحرام: الفصل الثاني: كل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله الفصل الثالث: في محظورات الإحرام: الفصل الرابع: فيما يلزمه من الفدية: o فصل: إذا أغمي على بالغ لم يصح أن يحرم عنه رفيقه o مسألة: من طيف به محمولا كان الطواف له دون حامله o باب ذكر المواقيت: مسألة: المواقيت المنصوص عليها فصل: الميقات لا يتغير بتغير اسمه أو انتقاله مسألة: ميقات أهل مكة ومن فيها للحج والعمرة فصل: من أي الحرم أحرم بالحج جاز فصل: إن أحرم من الحل ولم يسلك الحرم فصل: الإحرام بالعمرة من الحرم مسألة: ميقات من منزله دون الميقات فصل: إذا كان مسكنه قرية مسألة: من لم يكن طريقه على ميقات فصل: إن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه مسألة: المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها فصل: إن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة مسألة: كراهة الإحرام قبل الميقات مسألة: من جاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم منه فصل: لو أفسد المحرم من دون الميقات حجه لم يسقط عنه الدم فصل: من جاوز الميقات لا يريد النسك فصل: من دخل الحرم بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام فصل: من كان منزله دون الميقات خارجا من الحرم مسألة: من أحرم من دون الميقات لعذر فعليه دم o باب ذكر الإحرام مسألة: استحباب الغسل للإحرام فصل: استحباب التيمم للمحرم إن لم يجد ماء فصل: استحباب التنظف مسألة: صفة ما يلبس المحرم مسألة: استحباب التطيب لمن أراد الإحرام فصل: إن طيب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه مسألة: استحباب ركعتين قبل الإحرام إن لم يكن بعد صلاة مكتوبة مسألة: الإحرام بالتمتع فصل: ما يقول عند الإحرام فصل: لا ينعقد الإحرام إلا بالنية مسألة: الاشتراط في نية الإحرام فصل: إن نوى الاشتراط ولم يتلفظ به مسألة: الإحرام بالإفراد مسألة: الإحرام بالقران فصل: استحباب تعيين نوع الإحرام فصل: إطلاق الإحرام من غير تعيين حج أو عمرة فصل: إبهام الإحرام فصل: نسيان ما أحرم به فصل: الإحرام بحجتين أو عمرتين مسألة: حكم التلبية فصل: رفع الصوت بالتلبية مسألة: صيغة التلبية فصل: تلبية الرسول وحكم الزيادة عليها فصل: استحباب ذكر ما أحرم به في التلبية فصل: إن حج عن غيره كفاه مجرد النية عنه مسألة: الأحوال والمواضع التي تتأكد فيها التلبية فصل: التلبية عقب الصلوات فصل: التلبية في الأمصار فصل: التلبية بغير العربية فصل: التلبية في طواف القدوم فصل: التلبية لغير المحرم مسألة: استحباب الغسل للمرأة عند الإحرام ولو كانت حائضا أو نفساء مسألة: من أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه فصل: إذا نزع القميص في الحال فلا فدية عليه مسألة: أشهر الحج o باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له مسألة: اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج مسألة: استحباب قلة الكلام للمحرم مسألة: امتناع التفلي وقتل القمل على المحرم فصل: لا فدية على من تفلى أو قتل القمل فصل: إباحة غسل الرأس والبدن للمحرم فصل: كراهة غسل الرأس بالسدر والخطمي للمحرم مسألة: امتناع لبس القميص والسراويل حال الإحرام مسألة: إن لم يجد إزارا لبس السراويل وإن لم يجد نعلين لبس الخفين فصل: إذا لبس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما فصل: إن لبس خفا مقطوعا مع وجود النعل فعليه الفدية فصل: لبس ما يشبه الخف فصل: لبس النعل فصل: إن وجد نعلا لم يمكنه لبسها فصل: عقد الرداء والإزار وزر الإزار ونحوه فصل: جواز عقد الإزار مسألة: إباحة لبس الهميان للمحرم مسألة: حكم الاحتجام وقطع الشعر مسألة: تقلد المحرم بالسيف مسألة: طرح المحرم القباء ونحوه على عاتقه مسألة: تظلل المحرم في المحمل فصل: تظلل المحرم بالسقف والحائط والشجرة والخباء مسألة: تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم فصل: لا يحل للمحرم الإعانة على الصيد بشيء فصل: إذا دل المحرم حلالا على الصيد فأتلفه فالجزاء كله على المحرم فصل: إن دل محرم مثله على صيد فقتله فالجزاء عليهما معا فصل: المعين على الصيد كالدال عليه فصل: إن دل الحلال محرما على الصيد فقتله فصل: إن صاد المحرم صيدا لم يملكه مسألة: حكم الصيد يصيده الحلال لأجل المحرم فصل: ما صاده الحلال لأجل المحرم لا يحرم على الحلال فصل: إذا قتل المحرم الصيد, ثم أكله ضمنه للقتل دون الأكل فصل: إذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة فصل: إذا اضطر المحرم, فوجد صيدا وميتة مسألة: لا يتطيب المحرم فصل: أقسام النباتات العطرة في الإحرام فصل: إن مس الطيب فعليه فدية مسألة: ما لا يباح للمحرم لبسه من الثياب المطيبة فصل: استعمال الثوب الذي زالت عنه رائحة الطيب مسألة: إباحة الثوب المصبوغ بالعصفر فصل: إباحة الثوب المصبوغ بالمغرة مسألة: لا يقطع المحرم شعرا من رأسه ولا جسده فصل: إزالة الشعر لعذر مسألة: لا يقطع المحرم ظفرا إلا أن ينكسر مسألة: لا ينظر المحرم في المرآة لإصلاح شيء مسألة: حكم الطيب في الطعام والشراب فصل: الطعام الذي زالت رائحته مسألة: ادهان المحرم بما فيه طيب وغيره مسألة: لا يتعمد المحرم شم الطيب مسألة: تحريم تغطية المحرم لشيء من رأسه فصل: ما يوضع على الرأس ولا يعد سترا فصل: حكم تغطية المحرم وجهه مسألة: إحرام المرأة في وجهها فصل: وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطية الوجه للمحرمة فصل: طواف المرأة منتقبة مسألة: حكم الاكتحال بالإثمد في الإحرام فصل: الاكتحال بغير الإثمد مسألة: إحرام المرأة كالرجل إلا اللباس وتظليل المحمل فصل: يستحب للمرأة ما يستحب للرجل عند الإحرام مسألة: لبس القفازين والخلخال للمحرمة فصل: يحرم على المحرمة شد يديها بخرقة مسألة: لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية فصل: خضاب المرأة بالحناء عند الإحرام فصل: إحرام الخنثى المشكل فصل: يستحب للمرأة الطواف ليلا مسألة: لا يتزوج المحرم ولا يزوج غيره فصل: بطلان زواج المحرم أو تزويجه غيره فصل: كراهة الخطبة للمحرم فصل: يكره للمحرم أن يشهد في النكاح مسألة: فساد الحج بالوطء فصل: لا فرق بين الوطء في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة فصل: تكرار الجماع في الحج مسألة: حكم المباشرة دون الجماع مسألة: حكم التقبيل مسألة: حكم النظر فصل: تكرار النظر فصل: التفكير في الشهوة فصل: العمد والنسيان في الوطء سواء مسألة: إباحة التجارة والصناعة والرجعة للمحرم مسألة: ما يباح قتله في الحرم فصل: قتل ما لا يؤذي فصل: لا تأثير للإحرام ولا للحرم في تحريم شيء من الحيوان الأهلي فصل: إباحة صيد البحر للمحرم مسألة: صيد الحرم حرام على الحلال والمحرم فصل: جزاء قتل الصيد فصل: ما يحرم ويضمن في الإحرام يحرم ويضمن في الحرم فصل: ضمان صيد الحرم فصل: من ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم فصل: ضمان صيد الحرم بالدلالة والإشارة فصل: إذا رمى الحلال من الحل صيدا في الحرم فقتله فصل: انتقال الصيد من الحل إلى الحرم فصل: إذا رمى من الحل صيدا في الحل فقتل صيدا في الحرم فصل: وقوف الصيد بين الحل والحرم مسألة: تحريم قطع شجر الحرم ونباته إلا الإذخر فصل: قطع الشوك والعوسج فصل: قطع اليابس من الشجر والحشيش فصل: أخذ ورق الشجر فصل: قطع حشيش الحرم فصل: ما يباح من شجر الحرم فصل: وجوب الضمان في إتلاف الشجر والحشيش فصل: حكم قلع الشجر ونقله فصل: إذا كانت شجرة في الحرم وغصنها في الحل فصل: تحريم صيد حرم المدينة وشجرها وحشيشها فصل: حدود حرم المدينة فصل: أحكام حرم المدينة فصل: الفرق بين حرم مكة وحرم المدينة فصل: إباحة صيد وج وشجره مسألة: أحكام الإحصار فصل: الحصر العام والخاص فصل: إذا أمكن المحصر الوصول من طريق أخرى لم يبح له التحلل فصل: من لم يجد طريقا أخرى فتحلل فلا قضاء عليه فصل: إذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه فصل: الهدي الواجب على المحصر ومحله الزماني والمكاني فصل: الإحصار عن البيت بعد الوقوف بعرفة فصل: من يتمكن من البيت ويُصد عن عرفة فصل: زوال الحصر مع إمكان الحج فصل: الإحصار في حج فاسد مسألة: الصيام لمن عجز عن الهدي فصل: اشتراط النية في التحلل فصل: لا يتم التحلل إلا بنحر الهدي أو الصيام فصل: حكم قتال الذين يصدون المسلمين عن النسك فصل: الانصراف عن أداء النسك لخوف عدو مسألة: حكم من عجز عن الوصول إلى مكة بنفسه فصل: إذا شرط في ابتداء إحرامه أن يحل لعذر مسألة: التحلل من الحج يحصل بثلاثة أشياء مسألة: الحج لا يفسد إلا بالجماع فصل: موضع الإحرام بالقضاء فصل: كيف يقضي الحج من أفسده بالجماع فصل: قضاء العمرة فصل: إذا أفسد القضاء لم يجب عليه قضاؤه o باب ذكر الحج ودخول مكة فصل: استحباب دخول مكة من أعلاها مسألة: دخول المسجد وما يفعل عند رؤية البيت فصل: ما يقول عند رؤية البيت فصل: تقديم أداء الفريضة على الطواف مسألة: استلام الحجر الأسود وتقبيله فصل: محاذاة الحجر بجميع البدن فصل: لا تزاحم المرأة الرجال لاستلام الحجر مسألة: الاضطباع مسألة: الرمل والمشي في الطواف فصل: استحباب الدنو من البيت في الطواف مسألة: اقتصار الرمل على الأشواط الثلاثة الأولى فصل: ترك الرمل في أحد الأشواط الثلاثة مسألة: ليس على أهل مكة رمل مسألة: من نسي الرمل فلا إعادة عليه مسألة: اشتراط الطهارة للطواف فصل: ما يستحب قوله أثناء الطواف فصل: الشك في الطهارة أثناء الطواف فصل: إذا طاف المتمتع على غير طهارة في أحد الطوافين مسألة: ما يستلمه ويقبله من أركان البيت فصل: استلام الركنين الأسود واليماني في كل الطواف فصل: التكبير عند الحجر الأسود وأدعية الطواف مسألة: الحجر من البيت فصل: الطواف على جدار الحجر وشاذروان الكعبة فصل: تنكيس الطواف مسألة: ركعتا الطواف فصل: حكم ركعتي الطواف فصل: إجزاء صلاة المكتوبة عن ركعتي الطواف فصل: تأخير ركعتي الطواف فصل: استلام الحجر قبل الخروج إلى الصفا مسألة: ما يفعل قبل السعي بين الصفا والمروة فصل: إن لم يرق على الصفا فلا شيء مسألة: صفة السعي بين الصفا والمروة مسألة: اشتراط الترتيب في السعي مسألة: نسيان الرمل في بعض السعي فصل: حكم السعي فصل: السعي تبع للطواف مسألة: التحلل من العمرة بتقصير الشعر بعد السعي فصل: المتمتع ومعه هدي يدخل الحج على عمرته حتى يحل منهما فصل: المعتمر غير المتمتع يحل وإن كان معه هدي فصل: استحباب التقصير للمتمتع عند حله من عمرته فصل: صفة الحلق أو التقصير فصل: أي قدر قصر من شعره أجزأه مسألة: طواف النساء وسعيهن مشي كله مسألة: لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة مسألة: قطع الطواف أو السعي لصلاة الجماعة والجنازة فصل: الموالاة شرط في الطواف فصل: الموالاة ليست شرطا في السعي مسألة: الحدث في الطواف مسألة: طواف الراكب والمحمول وسعيهما لعذر فصل: طواف الراكب والمحمول بغير عذر فصل: إذا طاف راكبا أو محمولا فلا رمل عليه فصل: جواز السعي راكبا بدون عذر مسألة: استحباب فسخ نية الحج إلى عمرة تمتعا إلا لمن معه هدي فصل: وجوب الدم على المتمتع بفسخ الحج إلى العمرة مسألة: قطع المتمتع التلبية بوصوله إلى البيت o باب صفة الحج مسألة: الإحرام بالحج يوم التروية فصل: الإحرام من مكة أو خارجا منها من الحرم مسألة: استحباب المكث بمنى يوم التروية وليلة عرفة فصل: إذا صادف يوم التروية يوم جمعة مسألة: الدفع من منى إلى عرفة بعد الشروق والجمع بين الظهر والعصر فصل: تعجيل الصلاة حين تزول الشمس وتقصير الخطبة فصل: الجمع بين الصلاتين لكل من بعرفة فصل: لا يجوز القصر لأهل مكة مسألة: الوقوف بعرفة وحدودها فصل: الوقوف راكبا أو راجلا فصل: الوقوف بعرفة ركن لا يتم الحج إلا به مسألة: الإكثار من الذكر والدعاء يوم عرفة فصل: تحديد وقت الوقوف بعرفة وشرطه فصل: وقت الوقوف بعرفة فصل: كيفية الوقوف بعرفة فصل: لا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال ولا نية مسألة: الدفع من عرفة إلى مزدلفة مسألة: الذكر في الطريق إلى مزدلفة مسألة: الجمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة مسألة: من فاته الجمع مع الإمام جمع وحده فصل: التعجيل بالصلاتين قبل حط الرحال فصل: الصلاة بدون جمع مسألة: المبيت بمزدلفة والوقوف عند المشعر الحرام فصل: أسماء المزدلفة وحدودها فصل: حكم المبيت بمزدلفة فصل: من بات بمزدلفة لم يجز له الدفع قبل نصف الليل مسألة: الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس مسألة: الإسراع في بطن محسر مع التلبية مسألة: أخذ الحصى من مزدلفة فصل: صفة حصى رمي الجمار فصل: الرمي بحصى أخذ من المرمى مسألة: غسل الحصى قبل الرمي مسألة: رمي جمرة العقبة وما يشرع فيه فصل: الرمي راكبا أو راجلا فصل: وقت رمي جمرة العقبة فصل: شرط صحة الرمي مسألة: قطع التلبية عند ابتداء الرمي مسألة: النحر والتضحية بعد رمي جمرة العقبة فصل: السنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فصل: ما يشرع عند الذبح فصل: وقت نحر الأضحية والهدي فصل: المستحقون للهدي والأضحية فصل: مكان النحر فصل: ليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم, ولا أن يقفه بعرفة مسألة: الحلق والتقصير فصل: حكم الحلق والتقصير فصل: تأخير الحلق والتقصير إلى آخر أيام النحر فصل: الأصلع الذي لا شعر على رأسه فصل: تقليم الأظافر والأخذ من الشارب مسألة: ما يحل للمحرم برمي جمرة العقبة فصل: الحل يحصل بالرمي والحلق معا مسألة: تقصير المرأة لشعرها مسألة: طواف الإفاضة فصل: وقت طواف الإفاضة فصل: صفة طواف الإفاضة مسألة: حل جميع محرمات الإحرام بعد طواف الإفاضة وسعيه مسألة: طواف المتمتع للقدوم قبل طواف الزيارة فصل: أنواع الطواف في الحج فصل: استحباب دخول البيت فصل: شرب ماء زمزم لما أحب فصل: خطبة يوم النحر فصل: يوم النحر يوم الحج الأكبر فصل: أعمال يوم النحر فصل: لا يشترط ترتيب المناسك يوم النحر مسألة: المبيت بمنى ليالي التشريق فصل: ترك المبيت بمنى مسألة: رمي الجمرات فصل: وقت رمي الجمرات بعد الزوال فصل: وجوب الترتيب في رمي الجمرات فصل: ترك الوقوف والدعاء عند الرمي فصل: عدد الحصيات في الرمي مسألة: الرمي في اليوم الثاني فصل: تأخير رمي يوم إلى ما بعده مسألة: استحباب الصلاة في مسجد منى فصل: خطبة ثاني أيام التشريق مسألة: تكبير العيد بمنى فصل: النزول بالمحصب مسألة: طواف الوداع فصل: من كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه فصل: تأخير طواف الزيارة مسألة: إعادة طواف الوداع مسألة: إن سافر قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإلا بعث بدم فصل: من خرج من مكة ثم عاد إليها عن قرب أو بعد لوداع مسألة: سقوط طواف الوداع عن الحائض والنفساء فصل: إذا طهرت الحائض قبل مفارقة البنيان فصل: وقوف المودع في الملتزم فصل: ما يفعل عند وداع البيت مسألة: طواف الزيارة لا يسقط بالسفر فصل: ترك بعض الطواف فصل: إذا ترك طواف الزيارة بعد رمي جمرة العقبة مسألة: طواف الوداع لا يجزئ عن طواف الزيارة مسألة: عمل القارن كالمفرد فصل: إذا قتل القارن صيدا فصل: إذا أفسد القارن نسكه بالوطء مسألة: وجوب الدم على القارن فصل: شرط وجوب الدم مسألة: المتمتع ووجوب الفدية عليه أحدها: وجوب الدم على المتمتع في الجملة الفصل الثاني: شروط وجوب الفدية للمتمتع فصل: حاضرو المسجد الحرام فصل: إذا كان للمتمتع قريتان قريبة وبعيدة فصل: إذا دخل الآفاقي مكة متمتعا فصل: صحة متعة المكي فصل: إذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات الفصل الثالث: وقت وجوب الهدي ووقت ذبحه مسألة: المتمتع إذا لم يجد الهدي ينتقل إلى الصيام فصل: وقت الصوم فصل: لا يشترط التتابع في صيام الفدية مسألة: إذا لم يصم الثلاثة في أيام الحج فصل: التفريق بين الثلاثة والسبعة فصل: وقت وجوب الصوم مسألة: حكم من قدر على الهدي بعد الشروع في الصوم فصل: إن وجب عليه الصوم فلم يشرع حتى قدر على الهدي فصل: من لزمه صوم المتعة فمات قبل أن يأتي به لعذر مسألة: المتمتعة إذا حاضت فخافت فوت الحج أهلت به فصل: ما يفعله كل من خشي فوات الحج فصل: لا يجوز إدخال العمرة على الحج مسألة: الوطء قبل رمي جمرة العقبة الفصل الأول: الوطء قبل جمرة العقبة يفسد الحج الفصل الثاني: من وطئ في الحج يلزمه بدنة الفصل الثالث: لا دم على المرأة في حال الإكراه فصل: من وطئ قبل التحلل من العمرة فسدت عمرته فصل: إذا أفسد القارن والمتمتع نسكهما فصل: إذا أفسد القارن نسكه ثم قضى مفردا مسألة: الوطء بعد رمي جمرة العقبة أحدها: الوطء بعد الجمرة لا يفسد الحج الفصل الثاني: ما يلزم بالوطء بعد رمي الجمرة الفصل الثالث: فساد الإحرام بالوطء فصل: لا فرق بين من حلق ومن لم يحلق في أنه لا يفسد حجه بالوطء بعد الرمي فصل: إن طاف للزيارة ولم يرم ثم وطئ لم يفسد حجه فصل: القارن كالمفرد في الوطء بعد الرمي مسألة: إباحة الرمي بالليل للسقاة والرعاة مسألة: إباحة تأخير الرمي للرعاة فصل: أهل الإعذار كالرعاة في تأخير الرمي فصل: الاستنابة في الرمي فصل: ترك الرمي من غير عذر o باب الفدية وجزاء الصيد مسألة: فدية الحلق الفصل الأول: على المحرم فدية إذا حلق رأسه الفصل الثاني: لا فرق بين العامد والمخطئ الفصل الثالث: الفدية هي إحدى الثلاثة المذكورة في الآية الفصل الرابع: القدر الذي يجب به الدم الفصل الخامس: شعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية الفصل السادس: الفدية الواجبة بحلق الشعر فصل: ما يجزئ في الفدية فصل: تكرار الحلق فصل: جزاء الصيد لا يتداخل فصل: إذا حلق المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره فصل: إذا حلق محرم رأس محرم بإذنه فصل: إذا قلع جلدة عليها شعر فلا فدية عليه فصل: إذا خلل شعره فسقطت شعرة مسألة: في كل شعرة من الثلاث مد من طعام فصل: الفدية قبل الحلق وبعده لمن به أذى من رأسه مسألة: فدية تقليم الأظفار كالحلق فصل: قص بعض الظفر مسألة: فدية التطيب ولبس المخيط فصل: لزوم غسل الطيب وخلع اللباس فصل: تقديم غسل الطيب على الوضوء فصل: إذا لبس أكثر من ثوب فصل: فعل أكثر من محظور مسألة: الجهل والنسيان في فعل المحظورات مسألة: حكم من وقف بعرفة نهارا أو دفع قبل الإمام مسألة: حكم من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل مسألة: فداء الصيد الفصل الأول: وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد الفصل الثاني: لا فرق بين الخطأ والعمد في قتل الصيد في وجوب الجزاء الفصل الثالث: الجزاء لا يجب إلا على المحرم الفصل الرابع: الجزاء لا يجب إلا بقتل الصيد الفصل الخامس: يجب الجزاء في صيد البر دون صيد البحر الفصل السادس: جزاء دواب الصيد نظيرها من النعم فصل: جزاء الصيد بمثله من النعم فصل: إذا قتل ماخضا فصل: إن أتلف جزءا من الصيد وجب ضمانه فصل: ضمان ما يتلفه الصيد المجروح فصل: كل ما يضمن به الآدمي يضمن به الصيد مسألة: فداء الطائر من الصيد قيمته في موضعه فصل: ضمان بيض الصيد مسألة: جزاء النعامة والحمامة فصل: حكم ما كان أكبر من الحمام مسألة: التخيير في خصال فداء الصيد الفصل الأول: قاتل الصيد مخير في الجزاء الفصل الثاني: إذا اختار المثل ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم الفصل الثالث: الفدية بالإطعام الفصل الرابع: في الصيام: فصل: ما لا مثل له من الصيد مسألة: تكرار جزاء الصيد بتكراره فصل: يجوز إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته مسألة: لو اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد فصل: إذا شارك الحلال المحرم في الصيد فصل: إذا اشترك حرام وحلال في صيد حرمي فصل: إذا أحرم الرجل وفي ملكه صيد فصل: المحرم لا يملك الصيد ابتداء فصل: إن ورث المحرم صيدا ملكه مسألة: من فاته وقوف عرفة تحلل بعمرة وحج من قابل الفصل الأول: آخر وقت الوقوف بعرفة الفصل الثاني: من فاته الحج يتحلل بطواف وسعي وحلاق الفصل الثالث: وجوب قضاء الحج الفصل الرابع: لزوم الهدي من فاته الحج فصل: بقاء من فاته الحج على إحرامه ليحج من قابل فصل: إذا فات القارن الحج فصل: إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير ليلة عرفة أجزأهم مسألة: العبد لا يلزمه هدي مسألة: ليس للزوج منع زوجته من حجة الإسلام أو عمرته فصل: ليس للزوج منع امرأته من المضي إلى الحج الواجب قبل إحرامها فصل: ليس للمرأة ترك الفرائض خوفا من وقوع الطلاق فصل: ليس للوالد منع ولده من الحج الواجب مسألة: حكم عطب الهدي دون محله فصل: إن ضل المعين فذبح غيره ثم وجده فصل: إن عين معيبا عما في ذمته لم يجزه ولزمه ذبحه فصل: كيفية حصول الإيجاب فصل: إذا غصب شاة فذبحها عن الواجب عليه لم يجزه مسألة: من ساق الهدي تطوعا فصل: جواز إبدال الهدي بخير منه فصل: إذا ولدت الهدية فولدها بمنزلتها فصل: جواز شرب لبن الهدي فصل: جواز ركوب الهدي فصل: لا يبرأ من الهدي إلا بذبحه فصل: يستحب للمهدي نحر الهدي بنفسه فصل: أخذ الفقراء من الهدي مسألة: لا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع فصل: استحباب الأكل من هدي التطوع فصل: أكل ما يمنع أكله من الهدي فصل: أقسام الهدي الواجب مسألة: كل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم فصل: ما وجب نحره بالحرم وجب تفرقة لحمه به فصل: الطعام يختص بمساكين الحرم كالهدي فصل: مساكين أهل الحرم فصل: إذا نذر هديا وأطلق فصل: إذا نذر هديا مطلقا أو معينا وأطلق مكانه فصل: العجز عن إيصال الهدي مسألة: صيام الكفارة لا يتعين بمكان فصل: تقليد الهدي فصل: إشعار الإبل والبقر فصل: ما يصلح للهدي من البهائم فصل: الذكر والأنثى في الهدي سواء مسألة: من وجبت عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه فصل: من وجب عليه سبع من الغنم في جزاء الصيد لم يجزئه بدنة فصل: من وجبت عليه بقرة أجزأته بدنة فصل: اشتراك السبعة في بدنة أو بقرة مسألة: ما لزم من الدماء فلا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من غيره فصل: يمنع من العيوب في الهدي ما يمنع في الأضحية فصل: إجزاء الخصي في الأضحية فصل: ما يكره أن يضحى به فصل: استحباب كثرة الطواف بالبيت فصل: ما يستحب للحاج فصل: حكم المجاورة بمكة فصل: استحباب زيارة قبر النبي ﷺ فصل: التمسح بحائط قبر النبي وتقبيله بدعة فصل: ما يقول إذا رجع من الحج
كتاب الحج الحج في اللغة: القصد وعن الخليل قال: الحج كثرة القصد إلى من تعظمه قال الشاعر: وأشهد من عوف حؤولا كثيرة ** يحجون سب الزبرقان المزعفرا أي: يقصدون والسب: العمامة وفي الحج لغتان: الحج والحج بفتح الحاء وكسرها والحج في الشرع: اسم لأفعال مخصوصة يأتي ذكرها, إن شاء الله وهو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} روي عن ابن عباس: ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب وقال الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} وأما السنة, فقول النبي -ﷺ-: (بني الإسلام على خمس) وذكر فيها الحج وروى مسلم بإسناده عن أبي هريرة قال: (خطبنا رسول الله -ﷺ- فقال: يا أيها الناس, قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله -ﷺ-: لو قلت نعم لوجبت, ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) في أخبار كثيرة سوى هذين وأجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة. مسألة:
قال أبو القاسم: [ ومن ملك زادا وراحلة, وهو بالغ عاقل لزمه الحج والعمرة ] وجملة ذلك أن الحج إنما يجب بخمس شرائط: الإسلام والعقل, والبلوغ والحرية والاستطاعة لا نعلم في هذا كله اختلافا فأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين, وقد روى علي بن أبي طالب عن النبي -ﷺ- أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب, وعن المعتوه حتى يعقل) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي, وقال: حديث حسن وأما العبد فلا يجب عليه لأنه عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة, ويضيع حقوق سيده المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد وأما الكافر فغير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء ولا يوجب قضاء وغير المستطيع لا يجب عليه لأن الله تعالى خص المستطيع بالإيجاب عليه, فيختص بالوجوب وقال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. فصل:
وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقساما ثلاثة منها ما هو شرط للوجوب والصحة وهو الإسلام والعقل, فلا تجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما لأنهما ليسا من أهل العبادات ومنها ما هو شرط للوجوب والإجزاء وهو البلوغ والحرية, وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي والعبد صح حجهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام ومنها ما هو شرط للوجوب فقط, وهو الاستطاعة فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج, كان حجه صحيحا مجزئا كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه أجزأه. فصل:
واختلفت الرواية في شرطين, وهما تخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من عدو ونحوه وإمكان المسير وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه فروي أنهما من شرائط الوجوب, فلا يجب الحج بدونهما لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج, فكان شرطا كالزاد والراحلة وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وروي أنهما ليسا من شرائط الوجوب, وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذه الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين, حج عنه بعد موته وإن أعسر قبل وجودهما بقي في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما وذلك لأن النبي -ﷺ- لما سئل: ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة" قال الترمذي: هذا حديث حسن وهذا له زاد وراحلة, ولأن هذا عذر يمنع نفس الأداء فلم يمنع الوجوب كالعضب ولأن إمكان الأداء ليس بشرط في وجوب العبادات, بدليل ما لو طهرت الحائض أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون, ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن أداؤها فيه والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة فيجب المصير إلى تفسيره, والفرق بينهما وبين الزاد والراحلة أنه يتعذر مع فقدهما الأداء دون القضاء وفقد الزاد والراحلة يتعذر معه الجميع, فافترقا. فصل:
وإمكان المسير معتبر بما جرت به العادة فلو أمكنه المسير بأن يحمل على نفسه ويسير سيرا يجاوز العادة أو يعجز عن تحصيل آلة السفر, لم يلزمه السعي وتخلية الطريق هو أن تكون مسلوكة لا مانع فيها بعيدة كانت أو قريبة, برا كان أو بحرا إذا كان الغالب السلامة فإن لم يكن الغالب السلامة, لم يلزمه سلوكه فإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة فقال القاضي: لا يلزمه السعي, وإن كانت يسيرة لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكبيرة وقال ابن حامد: إن كان ذلك مما لا يجحف بماله, لزمه الحج لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم. فصل:
والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة وبه قال الحسن, ومجاهد وسعيد بن جبير والشافعي, وإسحاق قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم وقال عكرمة: هي الصحة وقال الضحاك: إن كان شابا فليؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه وعن مالك: إن كان يمكنه المشي وعادته سؤال الناس, لزمه الحج لأن هذه الاستطاعة في حقه فهو كواجد الزاد والراحلة ولنا أن النبي -ﷺ- فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة, فوجب الرجوع إلى تفسيره فروى الدارقطني بإسناده عن جابر, وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وعائشة رضي الله عنهم أن النبي -ﷺ- (سئل ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) وروى ابن عمر قال: (جاء رجل إلى النبي -ﷺ- فقال: يا رسول الله, ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن وروى الإمام أحمد حدثنا هشيم, عن يونس عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (قال رجل: يا رسول الله, ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد, وما ذكروه ليس باستطاعة فإنه شاق وإن كان عادة, والاعتبار بعموم الأحوال دون خصوصها كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ومن لا يشق عليه. فصل:
ولا يلزمه الحج ببذل غيره له, ولا يصير مستطيعا بذلك سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيا وسواء بذل له الركوب والزاد, أو بذل له مالا وعن الشافعي أنه إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه لأنه أمكنه الحج من غير منة تلزمه ولا ضرر يلحقه, فلزمه الحج كما لو ملك الزاد والراحلة ولنا أن قول النبي -ﷺ- يوجب الحج "الزاد والراحلة", يتعين فيه تقدير ملك ذلك أو ملك ما يحصل به بدليل ما لو كان الباذل أجنبيا, ولأنه ليس بمالك للزاد والراحلة ولا ثمنهما فلم يلزمه الحج, كما لو بذل له والده ولا نسلم أنه لا يلزمه منة ولو سلمناه فيبطل ببذل الوالدة, وبذل من للمبذول عليه أياد كثيرة ونعم. فصل:
ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز, أو معاونة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس, استحب له الحج لقول الله تعالى: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} فقدم ذكر الرجال ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل وخروجا من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس, ويحصل كلا عليهم في التزام ما لا يلزمه وسئل أحمد عمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة؟ فقال: لا أحب له ذلك هذا يتوكل على أزواد الناس. فصل:
ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر فأما القريب الذي يمكنه المشي, فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها فلزمه, كالسعي إلى الجمعة وإن كان ممن لا يمكنه المشي اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز عن المشي فهو كالبعيد وأما الزاد فلا بد منه, فإن لم يجد زادا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج. فصل:
والزاد الذي تشترط القدرة عليه, هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة فإن كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص, أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله لزمه شراؤه وإن كانت تجحف بماله, لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء وإذا كان يجد الزاد في كل منزلة لم يلزمه حمله, وإن لم يجده كذلك لزمه حمله وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة, وإلا لم يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها لأن هذا يشق, ولم تجر العادة به ولا يتمكن من حمل الماء لبهائمه في جميع الطريق والطعام بخلاف ذلك, ويعتبر أيضا قدرته على الآلات التي يحتاج إليها كالغرائر ونحوها وأوعية الماء وما أشبهها لأنه مما لا يستغنى عنه, فهو كأعلاف البهائم. فصل:
وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما شراء أو كراء, لذهابه ورجوعه ويجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب, ولا يخشى السقوط أجزأ وجود ذلك وإن كان ممن لم تجر عادته بذلك ويخشى السقوط عنهما, اعتبر وجود محمل وما أشبهه مما لا مشقة في ركوبه ولا يخشى السقوط عنه لأن اعتبار الراحلة في حق القادر على المشي, إنما كان لدفع المشقة فيجب أن يعتبر ها هنا ما تندفع به المشقة وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله. فصل:
ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مئونتهم, في مضيه ورجوعه لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد, وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي -ﷺ- أنه قال: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) رواه أبو داود وأن يكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم وما لا بد منه, وأن يكون فاضلا عن قضاء دينه لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد, ولذلك منع الزكاة مع تعلق حقوق الفقراء بها وحاجتهم إليها, فالحج الذي هو خالص حق الله تعالى أولى وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى, كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها وإن احتاج إلى النكاح وخاف على نفسه العنت, قدم التزويج لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه, فهو كنفقته وإن لم يخف قدم الحج لأن النكاح تطوع, فلا يقدم على الحج الواجب وإن حج من تلزمه هذه الحقوق وضيعها صح حجه لأنها متعلقة بذمته فلا تمنع صحة فعله. فصل:
ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه, أو سكنى عياله أو يحتاجه إلى أجرته لنفقة نفسه أو عياله أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها فلم يكفهم, أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج وإن كان له من ذلك شيء فاضل عن حاجته, لزمه بيعه في الحج فإن كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به, لزمه وإن كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج وإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان, يستغني بأحدهما باع ما لا يحتاج إليه فإن كان له دين على مليء باذل له يكفيه للحج, لزمه لأنه قادر وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه, لم يلزمه. فصل:
وتجب العمرة على من يجب عليه الحج ، في إحدى الروايتين ، روي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي . وبه قال الثوري ، وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه . والرواية الثانية ، ليست واجبة ، وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ؛ لما روى جابر ، أن النبي ﷺ (سئل عن العمرة ، أواجبة هي ؟ قال : لا ، وأن تعتمروا فهو أفضل) أخرجه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح . وعن طلحة ، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : (الحج جهاد ، والعمرة تطوع) . رواه ابن ماجه . ولأنه نسك غير موقت ، فلم يكن واجبا ، كالطواف المجرد . ولنا ، قول الله تعالى : {وأتموا الحج والعمرة لله} . ومقتضى الأمر الوجوب ، ثم عطفها على الحج ، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه . قال ابن عباس : إنها لقرينة الحج في كتاب الله . وعن الصبي بن معبد قال : "أتيت عمر فقلت : يا أمير المؤمنين ، إني أسلمت ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما ، فقال عمر : هديت لسنة نبيك ﷺ" . رواه أبو داود ، والنسائي . وعن أبي رزين ، أنه أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله : (إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ، ولا الظعن . قال : حج عن أبيك ، واعتمر) . رواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وذكره أحمد ، ثم قال : وحديث يرويه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال : (أوصني . قال : تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج ، وتعتمر) . وروى الأثرم ، بإسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله ﷺ (كتب إلى أهل اليمن ، وكان في الكتاب : إن العمرة هي الحج الأصغر) . ولأنه قول من سمينا من الصحابة ، ولا مخالف لهم نعلمه ، إلا ابن مسعود ، على اختلاف عنه . وأما حديث جابر فقال الترمذي ، قال الشافعي : هو ضعيف ، لا تقوم بمثله الحجة ، وليس في العمرة شيء ثابت بأنها تطوع . وقال ابن عبد البر : روي ذلك بأسانيد لا تصح ، ولا تقوم بمثلها الحجة . ثم نحمله على المعهود ، وهي العمرة التي قضوها حين أحصروا في الحديبية ، أو على العمرة التي اعتمروها مع حجتهم ، مع النبي ﷺ فإنها لم تكن واجبة على من اعتمر ، أو نحمله على ما زاد على العمرة الواحدة ، وتفارق العمرة الطواف ؛ لأن من شرطها الإحرام ، والطواف بخلافه . فصل:
وليس على أهل مكة عمرة نص عليه أحمد وقال: كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ويقول: يا أهل مكة: ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت وبهذا قال عطاء, وطاوس قال عطاء: ليس أحد من خلق الله إلا عليه حج وعمرة واجبتان لا بد منهما لمن استطاع إليهما سبيلا إلا أهل مكة, فإن عليهم حجة وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت ووجه ذلك أن ركن العمرة ومعظمها الطواف بالبيت, وهم يفعلونه فأجزأ عنهم وحمل القاضي كلام أحمد على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج والأمر على ما قلناه. فصل:
وتجزئ عمرة المتمتع وعمرة القارن والعمرة من أدنى الحل عن العمرة الواجبة, ولا نعلم في إجزاء عمرة التمتع خلافا كذلك قال ابن عمر وعطاء وطاوس, ومجاهد ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وروي عن أحمد أن عمرة القارن لا تجزئ وهو اختيار أبي بكر وعن أحمد أن العمرة من أدنى الحل لا تجزئ عن العمرة الواجبة وقال: إنما هي من أربعة أميال واحتج على أن عمرة القارن لا تجزئ أن عائشة حين حاضت أعمرها من التنعيم فلو كانت عمرتها في قرانها أجزأتها لما أعمرها بعدها ولنا, قول الصبي بن معبد: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال عمر: (هديت لسنة نبيك) وهذا يدل على أنه أحرم بهما يعتقد أداء ما كتبه الله عليه منهما والخروج عن عهدتهما, فصوبه عمر وقال: هديت لسنة نبيك وحديث عائشة حين قرنت الحج والعمرة فقال لها النبي -ﷺ- حين حلت منهما: (قد حللت من حجك وعمرتك) وإنما أعمرها النبي -ﷺ- من التنعيم قصدا لتطييب قلبها, وإجابة مسألتها لا لأنها كانت واجبة عليها ثم إن لم تكن أجزأتها عمرة القران فقد أجزأتها العمرة من أدنى الحل, وهو أحد ما قصدنا الدلالة عليه ولأن الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها صحيحة فتجزئه, كعمرة المتمتع ولأن عمرة القارن أحد نسكي القران فأجزأت كالحج, والحج من مكة يجزئ في حق المتمتع فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى وإذا كان الطواف المجرد يجزئ عن العمرة في حق المكي فلأن تجزئ العمرة المشتملة على الطواف وغيره أولى. فصل:
ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارا روي ذلك عن علي, وابن عمر وابن عباس وأنس, وعائشة وعطاء وطاوس, وعكرمة والشافعي وكره العمرة في السنة مرتين الحسن وابن سيرين, ومالك وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة ولأن النبي -ﷺ- لم يفعله ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي -ﷺ- عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها, ولأن النبي -ﷺ- قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) متفق عليه وقال علي رضي الله عنه في كل شهر مرة وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر رواهما الشافعي في "مسنده" وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره وقال عطاء: إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما, فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه وكذلك قال أحمد: إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام وقال في رواية الأثرم: إن شاء اعتمر في كل شهر وقال بعض أصحابنا: يستحب الإكثار من الاعتمار وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه ولأن النبي -ﷺ- وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما, وإنما نقل عنهم إنكار ذلك والحق في اتباعهم قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت, ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء وقد اعتمر النبي -ﷺ- أربع عمر في أربع سفرات, لم يزد في كل سفرة على عمرة واحدة ولا أحد ممن معه ولم يبلغنا أن أحدا منهم جمع بين عمرتين في سفر واحد معه, إلا عائشة حين حاضت فأعمرها من التنعيم لأنها اعتقدت أن عمرة قرانها بطلت ولهذا قالت: يا رسول الله يرجع الناس بحج وعمرة, وأرجع أنا بحجة فأعمرها لذلك ولو كان في هذا فضل لما اتفقوا على تركه. فصل:
وروى ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: (عمرة في رمضان تعدل حجة) متفق عليه قال أحمد: من أدرك يوما من رمضان فقد أدرك عمرة رمضان وقال إسحاق: يعني هذا الحديث مثل ما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من قرأ قل هو الله أحد, فقد قرأ ثلث القرآن) وقال أنس: (حج النبي -ﷺ- حجة واحدة واعتمر أربع عمر واحدة في ذي القعدة وعمرة الحديبية, وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين) وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه وقال أحمد: حج النبي -ﷺ- حجة الوداع قال: وروي عن مجاهد أنه قال: حج قبل ذلك حجة أخرى وما هو يثبت عندي وروي عن جابر, قال: (حج النبي -ﷺ- ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر) وهذا حديث غريب. فصل:
وروي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -ﷺ-: (تابعوا بين الحج والعمرة, فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من أتى هذا البيت, فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) متفق عليه وهو في "الموطأ". مسألة:
قال: [ فإن كان مريضا لا يرجى برؤه ، أو شيخا لا يستمسك على الراحلة ، أقام من يحج عنه ويعتمر ، وقد أجزأ عنه وإن عوفي ] وجملة ذلك أن من وجدت فيه شرائط وجوب الحج ، وكان عاجزا عنه لمانع مأيوس من زواله ، كزمانة ، أو مرض لا يرجى زواله ، أو كان نضو الخلق ، لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة ، والشيخ الفاني ، ومن كان مثله متى وجد من ينوب عنه في الحج ، ومالا يستنيبه به ، لزمه ذلك . وبهذا قال أبو حنيفة ، والشافعي . وقال مالك : لا حج عليه ، إلا أن يستطيع بنفسه ، ولا أرى له ذلك ؛ لأن الله تعالى قال : {من استطاع إليه سبيلا} . وهذا غير مستطيع ، ولأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة ، فلا تدخلها مع العجز ، كالصوم والصلاة . ولنا ، حديث أبي رزين ، وروى ابن عباس ، أن امرأة من خثعم قالت : (يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : نعم . وذلك في حجة الوداع) . متفق عليه . وفي لفظ لمسلم ، قالت : (يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير ، عليه فريضة الله في الحج ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره . فقال النبي ﷺ : فحجي عنه) . وسئل علي ، رضي الله عنه ، عن شيخ لا يجد الاستطاعة ، قال . يجهز عنه . ولأن هذه عبادة تجب بإفسادها الكفارة ، فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله ، كالصوم إذا عجز عنه افتدى ، بخلاف الصلاة . فصل:
فإن لم يجد مالا يستنيب به فلا حج عليه بغير خلاف لأن الصحيح لو لم يجد ما يحج به, لم يجب عليه فالمريض أولى وإن وجد مالا ولم يجد من ينوب عنه, فقياس المذهب أنه ينبني على الروايتين في إمكان المسير هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط لزوم السعي؟ فإن قلنا: من شرائط لزوم السعي ثبت الحج في ذمته, هذا يحج عنه بعد موته وإن قلنا: من شرائط الوجوب لم يجب عليه شيء. فصل:
ومتى أحج هذا عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر وهذا قول إسحاق وقال الشافعي, وأصحاب الرأي وابن المنذر: يلزمه لأن هذا بدل إياس فإذا برأ, تبينا أنه لم يكن مأيوسا منه فلزمه الأصل كالآيسة إذا اعتدت بالشهور, ثم حاضت لا تجزئها تلك العدة ولنا أنه أتى بما أمر به, فخرج من العهدة كما لو لم يبرأ أو نقول: أدى حجة الإسلام بأمر الشارع, فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه, ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة وقولهم: لم يكن مأيوسا من برئه قلنا: لو لم يكن مأيوسا منه لما أبيح له أن يستنيب فإنه شرط لجواز الاستنابة أما الآيسة إذا اعتدت بالشهور, فلا يتصور عود حيضها فإن رأت دما فليس بحيض, ولا يبطل به اعتدادها ولكن من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه إذا اعتدت سنة, ثم عاد حيضها لم يبطل اعتدادها فأما إن عوفي قبل فراغ النائب من الحج فينبغي أن لا يجزئه الحج لأنه قدر على الأصل قبل تمام البدل, فلزمه كالصغيرة ومن ارتفع حيضها إذا حاضتا قبل إتمام عدتهما بالشهور, وكالمتيمم إذا رأى الماء في صلاته ويحتمل أن يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصيام ثم قدر على الهدي والمكفر إذا قدر على الأصل بعد الشروع في البدل وإن برأ قبل إحرام النائب, لم يجزئه بحال. فصل:
ومن يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل, لم يجزئه وإن لم يبرأ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: له ذلك ويكون ذلك مراعى فإن قدر على الحج بنفسه لزمه, وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه الميئوس من برئه ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه, فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه إن فعل كالفقير, وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير, وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يقاس عليه إلا من كان مثله فعلى هذا إذا استناب من يرجو القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه, فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابة فيها فأشبه الصحيح. فصل:
ولا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب إجماعا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج, لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند العجز, والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فأما حج التطوع فينقسم أقساما ثلاثة: أحدها, أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يصح أن يستنيب في حجة التطوع لأنه لا يصح أن يفعله بنفسه, فبنائبه أولى الثاني أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه, فيصح أن يستنيب في التطوع فإن ما جازت الاستنابة في فرضه جازت في نفله, كالصدقة الثالث أن يكون قد أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحج بنفسه, فهل له أن يستنيب في حج التطوع؟ فيه روايتان إحداهما يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها, كالمعضوب والثانية لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه, كالفرض. فصل:
فإن كان عاجزا عنه عجزا مرجو الزوال كالمريض مرضا يرجى برؤه والمحبوس, جاز له أن يستنيب فيه لأنه حج لا يلزمه عجز عن فعله بنفسه فجاز له أن يستنيب فيه, كالشيخ الكبير والفرق بينه وبين الفرض أن الفرض عبادة العمر, فلا يفوت بتأخيره عن هذا العام والتطوع مشروع في كل عام فيفوت حج هذا العام بتأخيره, ولأن حج الفرض إذا مات قبل فعله فعل بعد موته وحج التطوع لا يفعل, فيفوت. فصل:
وفي الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه, مما يتعدى نفعه ويختص فاعله أن يكون من أهل القربة روايتان: إحداهما, لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق والأخرى يجوز وهو مذهب مالك, والشافعي وابن المنذر لأن النبي -ﷺ- قال: (أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) رواه البخاري وأخذ أصحاب النبي -ﷺ- الجعل على الرقية بكتاب الله, وأخبروا بذلك النبي -ﷺ- فصوبهم فيه ولأنه يجوز أخذ النفقة عليه فجاز الاستئجار عليه كبناء المساجد والقناطر ووجه الرواية الأولى أن عبادة بن الصامت كان يعلم رجلا القرآن, فأهدى له قوسا فسأل النبي -ﷺ- عن ذلك فقال له: (إن سرك أن تتقلد قوسا من نار, فتقلدها) وقال النبي -ﷺ- لعثمان بن أبي العاص: (واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) ولأنها عبادة يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليها, كالصلاة والصوم وأما الأحاديث التي في أخذ الجعل والأجرة فإنما كانت في الرقية, وهي قضية في عين فتختص بها وأما بناء المساجد فلا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة, ويجوز أن يقع قربة وغير قربة فإذا وقع بأجرة لم يكن قربة ولا عبادة, ولا يصح ها هنا أن يكون غير عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة, فلم يصح ولا يلزم من جواز أخذ النفقة جواز أخذ الأجرة بدليل القضاء والشهادة والإمامة, يؤخذ عليها الرزق من بيت المال وهو نفقة في المعنى ولا يجوز أخذ الأجرة عليها وفائدة الخلاف, أنه متى لم يجز أخذ الأجرة عليها فلا يكون إلا نائبا محضا وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه, فلو مات أو أحصر أو مرض, أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان لما أنفق نص عليه أحمد لأنه إنفاق بإذن صاحب المال فأشبه ما لو أذن له في سد بثق فانبثق ولم ينسد وإذا ناب عنه آخر, فإنه يحج من حيث بلغ النائب الأول من الطريق لأنه حصل قطع هذه المسافة بمال المنوب عنه فلم يكن عليه الإنفاق دفعة أخرى, كما لو خرج بنفسه فمات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه, وينفق على نفسه بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تقتير وليس له التبرع بشيء منه إلا أن يؤذن له في ذلك قال أحمد, في الذي يأخذ دراهم للحج: لا يمشي ولا يقتر في النفقة ولا يسرف وقال في رجل أخذ حجة عن ميت, ففضلت معه فضلة: يردها ولا يناهد أحدا إلا بقدر ما لا يكون سرفا ولا يدعو إلى طعامه, ولا يتفضل ثم قال: أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له: حج بهذه فله أن يتوسع فيها, وإن فضل شيء فهو له وإذا قال الميت: حجوا عني حجة بألف درهم فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له وإن قلنا: يجوز الاستئجار على الحج جاز أن يقع الدفع إلى النائب من غير استئجار, فيكون الحكم فيه على ما مضى وإن استأجره ليحج عنه أو عن ميت اعتبر فيه شروط الإجارة من معرفة الأجرة وعقد الإجارة, وما يأخذه أجرة له يملكه ويباح له التصرف فيه والتوسع به في النفقة وغيرها, وما فضل فهو له وإن أحصر أو ضل الطريق, أو ضاعت النفقة منه فهو في ضمانه والحج عليه, وإن مات انفسخت الإجارة لأن المعقود عليه تلف فانفسخ العقد, كما لو ماتت البهيمة المستأجرة ويكون الحج أيضا من موضع بلغ إليه النائب وما لزمه من الدماء فعليه لأن الحج عليه. فصل:
فأما النائب غير المستأجر, فما لزمه من الدماء بفعل محظور فعليه في ماله لأنه لم يؤذن له في الجناية فكان موجبا عليه, كما لو لم يكن نائبا ودم المتعة والقران إن أذن له في ذلك, على المستنيب لأنه أذن في سببهما وإن لم يؤذن له فعليه لأنه كجنايته, ودم الإحصار على المستنيب لأنه للتخلص من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع وإن أفسد حجه فالقضاء عليه, ويرد ما أخذ لأن الحجة لم تجزئ عن المستنيب لتفريطه وجنايته وكذلك إن فاته الحج بتفريطه وإن فات بغير تفريط احتسب له بالنفقة لأنه لم يفت بفعله, فلم يكن مخالفا كما لو مات وإن قلنا بوجوب القضاء فهو عليه في نفسه, كما لو دخل في حج ظن أنه عليه ولم يكن ففاته. فصل:
وإذا سلك النائب طريقا يمكنه سلوك أقرب منه, ففاضل النفقة في ماله وإن تعجل عجلة يمكنه تركها فكذلك وإن أقام بمكة أكثر من مدة القصر بعد إمكان السفر للرجوع, أنفق من مال نفسه لأنه غير مأذون له فيه فأما من لا يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة لأنه مأذون له فيه وله نفقة الرجوع, وإن أقام بمكة سنين ما لم يتخذها دارا فإن اتخذها دارا ولو ساعة, لم يكن له نفقة رجوعه لأنه صار بنية الإقامة مكيا فسقطت نفقته فلم تعد وإن مرض في الطريق, فعاد فله نفقة رجوعه لأنه لا بد له منه حصل بغير تفريطه, فأشبه ما لو قطع عليه الطريق أو أحصر وإن قال: خفت أن أمرض فرجعت فعليه الضمان لأنه متوهم وعن أحمد في من مرض في الكوفة فرجع, يرد ما أخذ وفي جميع ذلك إذا أذن له في النفقة فله ذلك لأن المال للمستنيب فجاز ما أذن فيه وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره, لم يصح الشرط لأن ذلك من موجبات فعله أو الحج الواجب عليه فلم يجز شرطه على غيره, كما لو شرطه على أجنبي. فصل:
يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة والمرأة عن الرجل والمرأة في الحج, في قول عامة أهل العلم لا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن بن صالح فإنه كره حج المرأة عن الرجل قال ابن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة, فإن النبي -ﷺ- أمر المرأة أن تحج عن أبيها وعليه يعتمد من أجاز حج المرء عن غيره وفي الباب حديث أبي رزين وأحاديث سواه. فصل:
ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه, فرضا كان أو تطوعا لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه كالزكاة, فأما الميت فتجوز عنه بغير إذن واجبا كان أو تطوعا لأن النبي -ﷺ- أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له, وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فعلى هذا كل ما يفعله النائب عن المستنيب مما لم يؤمر به, مثل أن يؤمر بحج فيعتمر أو بعمرة فيحج يقع عن الميت لأنه يصح عنه من غير إذنه, ولا يقع عن الحي لعدم إذنه فيه ويقع عمن فعله لأنه لما تعذر وقوعه عن المنوي عنه وقع عن نفسه, كما لو استنابه رجلان فأحرم عنهما جميعا وعليه رد النفقة لأنه لم يفعل ما أمر به, فأشبه ما لو لم يفعل شيئا. فصول في مخالفة النائب:
إذا أمره بحج فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات ثم حج نظرت فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج جاز, ولا شيء عليه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وإن أحرم بالحج من مكة فعليه دم لترك ميقاته ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة وقال القاضي: لا يقع فعله عن الآمر, ويرد جميع النفقة لأنه أتى بغير ما أمر به وهو مذهب أبي حنيفة ولنا أنه إذا أحرم من الميقات فقد أتى بالحج صحيحا من ميقاته وإن أحرم به من مكة, فما أخل إلا بما يجبره الدم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم, فأحرم دونه وإن أمره بالإفراد فقرن لم يضمن شيئا وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة: يضمن لأنه مخالف ولنا أنه أتى بما أمر به وزيادة, فصح ولم يضمن كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى به شاتين تساوي إحداهما دينارا ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها, فلا شيء عليه وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها. فصل:
وإن أمره بالتمتع فقرن, وقع عن الآمر لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة, فأحرم به من الميقات وظاهر كلام أحمد أنه لا يرد شيئا من النفقة وهو مذهب الشافعي وقال القاضي: يرد نصف النفقة لأن غرضه في عمرة مفردة وتحصيل فضيلة التمتع وقد خالفه في ذلك وفوته عليه وإن أفرد وقع عن المستنيب أيضا, ويرد نصف النفقة لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات وقد أمره به وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئا. فصل:
فإن أمره بالقران فأفرد أو تمتع, صح ووقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات وفي جميع ذلك, إذا أمره بالنسكين ففعل أحدهما دون الآخر رد من النفقة بقدر ما ترك, ووقع المفعول عن الآمر وللنائب من النفقة بقدره. فصل:
وإن استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة, وأذنا له في القران ففعل جاز لأنه نسك مشروع وإن قرن من غير إذنهما, صح ووقع عنهما ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما وإن أذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآمر نصف نفقته وحده وقال القاضي: إذا لم يأذنا له ضمن الجميع لأنه أمر بنسك مفرد, ولم يأت به فكان مخالفا كما لو أمر بحج فاعتمر ولنا, أنه أتى بما أمر به وإنما خالف في صفته لا في أصله, فأشبه من أمر بالتمتع فقرن ولو أمر بأحد النسكين فقرن بينه وبين النسك الآخر لنفسه فالحكم فيه كذلك, ودم القران على النائب إذا لم يؤذن له فيه لعدم الإذن في سببه وعليهما إن أذنا لوجود الإذن في سببه ولو أذن أحدهما دون الآخر, فعلى الآذن نصف الدم ونصفه على النائب. فصل:
وإن أمر بالحج فحج, ثم اعتمر لنفسه أو أمره بعمرة فاعتمر, ثم حج عن نفسه صح ولم يرد شيئا من النفقة لأنه أتى بما أمر به على وجهه وإن أمره بالإحرام من ميقات فأحرم من غيره, جاز لأنهما سواء في الإجزاء وإن أمره بالإحرام من بلده فأحرم من الميقات جاز لأنه الأفضل وإن أمره بالإحرام من الميقات, فأحرم من بلده جاز لأنه زيادة لا تضر وإن أمره بالحج في سنة أو بالاعتمار في شهر, ففعله في غيره جاز لأنه مأذون فيه في الجملة. فصل:
فإن استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما, وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه عنهما وليس أحدهما بأولى من صاحبه وإن أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه لأنه إذا وقع عن نفسه ولم ينوها, فمع نيته أولى وإن أحرم عن أحدهما غير معين احتمل أن يقع عن نفسه أيضا لأن أحدهما ليس أولى من الآخر فأشبه ما لو أحرم عنهما واحتمل أن يصح لأن الإحرام يصح بالمجهول, فصح عن المجهول وإلا صرفه إلى من شاء منهما اختاره أبو الخطاب فإن لم يفعل حتى طاف شوطا وقع عن نفسه, ولم يكن له صرفه إلى أحدهما لأن الطواف لا يقع عن غير معين. مسألة:
قال: [ وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل ] ظاهر هذا أن الحج لا يجب على المرأة التي لا محرم لها لأنه جعلها بالمحرم كالرجل في وجوب الحج فمن لا محرم لها لا تكون كالرجل فلا يجب عليها الحج وقد نص عليه أحمد, فقال أبو داود: قلت: لأحمد: امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج؟ قال: لا وقال أيضا: المحرم من السبيل وهذا قول الحسن, والنخعي وإسحاق وابن المنذر, وأصحاب الرأي وعن أحمد أن المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب فمتى فاتها الحج بعد كمال الشرائط الخمس, بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة لأن شروط الحج المختصة به قد كملت, وإنما المحرم لحفظها فهو كتخلية الطريق وإمكان المسير وعنه رواية ثالثة, أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب قال الأثرم: سمعت أحمد يسأل: هل يكون الرجل محرما لأم امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال: أما في حجة الفريضة فأرجو لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته, وأما في غيرها فلا والمذهب الأول وعليه العمل وقال ابن سيرين ومالك والأوزاعي, والشافعي ليس المحرم شرطا في حجها بحال قال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به وقال مالك: تخرج مع جماعة النساء وقال الشافعي: تخرج مع حرة مسلمة ثقة وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول تتخذ سلما تصعد عليه وتنزل, ولا يقربها رجل إلا أنه يأخذ رأس البعير وتضع رجلها على ذراعه قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث, واشترط كل واحد منهم شرطا لا حجة معه عليه واحتجوا بأن النبي -ﷺ- فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وقال لعدي بن حاتم: (يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت, لا جوار معها لا تخاف إلا الله) ولأنه سفر واجب فلم يشترط له المحرم, كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر, تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم) وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (لا يخلون رجل بامرأة, إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله إني كنت في غزوة كذا, وانطلقت امرأتي حاجة فقال النبي -ﷺ-: انطلق فاحجج مع امرأتك) متفق عليهما وروى ابن عمر وأبو سعيد نحوا من حديث أبي هريرة قال أبو عبد الله: أما أبو هريرة: فيقول: "يوما وليلة" ويروى عن أبي هريرة: "لا تسافر سفرا" أيضا وأما حديث أبي سعيد يقول: "ثلاثة أيام" قلت: ما تقول أنت؟ قال: لا تسافر سفرا قليلا ولا كثيرا, إلا مع ذي محرم وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس أن النبي -ﷺ- قال: (لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم) وهذا صريح في الحكم ولأنها أنشأت سفرا في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع وحديثهم محمول على الرجل, بدليل أنهم اشترطوا خروج غيرها معها فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي -ﷺ- في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل ويحتمل أنه أراد أن الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط, ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان المسير وقضاء الدين, ونفقة العيال واشترط مالك إمكان الثبوت على الراحلة وهي غير مذكورة في الحديث واشترط كل واحد منهم في محل النزاع شرطا من عند نفسه, لا من كتاب ولا من سنة فما ذكره النبي -ﷺ- أولى بالاشتراط ولو قدر التعارض, فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقديم وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه, ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها وقد اشترطوا ها هنا خروج غيرها معها وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار, فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل الضرر المتوهم, فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلا. فصل:
والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح, كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا, إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها) رواه مسلم قال أحمد: ويكون زوج أم المرأة محرما لها يحج بها ويسافر الرجل مع أم ولد جده فإذا كان أخوها من الرضاعة خرجت معه وقال في أم امرأته: ويكون محرما لها في حج الفرض, دون غيره قال الأثرم: كأنه ذهب إلى أنها لم تذكر في قوله: {ولا يبدين زينتهن} الآية فأما من تحل له في حال كعبدها وزوج أختها, فليسا بمحرم لها نص عليه أحمد لأنهما غير مأمونين عليها ولا تحرم عليهما على التأبيد فهما كالأجنبي وقد روي عن نافع, عن ابن عمر عن النبي -ﷺ- قال: (سفر المرأة مع عبدها ضيعة) أخرجه سعيد وقال الشافعي: عبدها محرم لها لأنه يباح له النظر إليها فكان محرما لها, كذي رحمها والأول أولى ويفارق ذا الرحم لأنه مأمون عليها وتحرم عليه على التأبيد وينتقض ما ذكروه بالقواعد من النساء, وغير أولى الإربة من الرجال وأما أم الموطوءة بشبهة أو المزني بها أو ابنتهما, فليس بمحرم لهما لأن تحريمهما بسبب غير مباح فلم يثبت به حكم المحرمية كالتحريم الثابت باللعان وليس له الخلوة بهما, ولا النظر إليهما لذلك والكافر ليس بمحرم للمسلمة وإن كانت ابنته قال أحمد في يهودي أو نصراني أسلمت ابنته: لا يزوجها ولا يسافر معها, ليس هو لها بمحرم وقال أبو حنيفة والشافعي: هو محرم لها لأنها محرمة عليه على التأبيد ولنا أن إثبات المحرمية يقتضي الخلوة بها, فيجب أن لا تثبت لكافر على مسلمة كالحضانة للطفل ولأنه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطفل, وما ذكروه يبطل بأم المزني بها وابنتها والمحرمة باللعان, وبالمجوسي مع ابنته ولا ينبغي أن يكون في المجوسي خلاف فإنه لا يؤمن عليها ويعتقد حلها نص عليه أحمد في مواضع ويشترط في المحرم أن يكون بالغا عاقلا قيل لأحمد: فيكون الصبي محرما؟ قال: لا, حتى يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف يخرج مع امرأة وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة ولا يحصل إلا من البالغ العاقل, فاعتبر ذلك. فصل:
ونفقة المحرم في الحج عليها نص عليه أحمد لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زادا وراحلة لها ولمحرمها فإن امتنع محرمها من الحج معها, مع بذلها له نفقته فهي كمن لا محرم لها لأنها لا يمكنها الحج بغير محرم وهل يلزمه إجابتها إلى ذلك؟ على روايتين نص عليهما والصحيح أنه لا يلزمه الحج معها لأن في الحج مشقة شديدة وكلفة عظيمة, فلا تلزم أحدا لأجل غيره كما لم يلزمه أن يحج عنها إذا كانت مريضة. فصل:
وإذا مات محرم المرأة في الطريق فقال أحمد: إذا تباعدت مضت, فقضت الحج قيل له: قدمت من خراسان فمات وليها ببغداد؟ فقال: تمضي إلى الحج وإذا كان الفرض خاصة فهو آكد ثم قال: لا بد لها من أن ترجع وهذا لأنها لا بد لها من السفر بغير محرم, فمضيها إلى قضاء حجها أولى لكن إن كان حجها تطوعا وأمكنها الإقامة في بلد فهو أولى من سفرها بغير محرم. فصل:
وليس للرجل منع امرأته من حجة الإسلام وبهذا قال النخعي, وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي, وهو الصحيح من قولي الشافعي وله قول آخر له منعها منه بناء على أن الحج على التراخي ولنا أنه فرض, فلم يكن له منعها منه كصوم رمضان والصلوات الخمس ويستحب أن تستأذنه في ذلك نص عليه أحمد فإن, أذن وإلا خرجت بغير إذنه فأما حج التطوع فله منعها منه قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج إلى الحج التطوع وذلك لأن حق الزوج واجب, فليس لها تفويته بما ليس بواجب كالسيد مع عبده وليس له منعها من الحج المنذور لأنه واجب عليها أشبه حجة الإسلام. فصل:
ولا تخرج إلى الحج في عدة الوفاة نص عليه أحمد قال: ولها أن تخرج إليه في عدة الطلاق المبتوت وذلك لأن لزوم المنزل, والمبيت فيه واجب في عدة الوفاة وقدم على الحج لأنه يفوت, والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك وأما عدة الرجعية فالمرأة فيه بمنزلتها في طلب النكاح لأنها زوجة وإذا خرجت للحج, فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في منزلها وإن تباعدت, مضت في سفرها ذكره الخرقي في موضع آخر. مسألة:
قال: [ فمن فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة ] وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج وأمكنه فعله, وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي: يجب الحج وجوبا موسعا, وله تأخيره لأن النبي -ﷺ- أمر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربا, ولا مشغولا بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيا له, دل على أن وجوبه على التراخي ولنا قول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} والأمر على الفور وروي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من أراد الحج فليتعجل) رواه الإمام أحمد وأبو داود, وابن ماجه وفي رواية أحمد وابن ماجه: (فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة, وتعرض الحاجة) قال أحمد: ورواه الثوري ووكيع عن أبي إسرائيل, عن فضيل بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, عن أخيه الفضل عن النبي -ﷺ- وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج, فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا) قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وروى سعيد بن منصور بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس, أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء, يهوديا أو نصرانيا) وعن عمر نحوه من قوله وكذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ولأنه أحد أركان الإسلام, فكان واجبا على الفور كالصيام ولأن وجوبه بصفة التوسع يخرجه عن رتبة الواجبات لأنه يؤخر إلى غير غاية ولا يأثم بالموت قبل فعله, لكونه فعل ما يجوز له فعله وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله فأما النبي -ﷺ- فإنما فتح مكة سنة ثمان وإنما أخره سنة تسع, فيحتمل أنه كان له عذر من عدم الاستطاعة أو كره رؤية المشركين عراة حول البيت, فأخر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي: أن (لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) ويحتمل أنه أخره بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ويصادف وقفة الجمعة ويكمل الله دينه ويقال: إنه اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين, ولم يجتمع قبله ولا بعده فأما تسمية فعل الحج قضاء فإنه يسمى بذلك قال الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} وعلى أنه لا يلزم من الوجوب على الفور تسمية القضاء فإن الزكاة تجب على الفور, ولو أخرها لا تسمى قضاء والقضاء الواجب على الفور إذا أخره لا يسمى قضاء القضاء ولو غلب على ظنه في الحج أنه لا يعيش إلى سنة أخرى, لم يجز له تأخيره فلو أخره لا يسمى قضاء إذا ثبت هذا عدنا إلى شرح مسألة الكتاب فنقول: متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج, وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط وبهذا قال الحسن وطاوس, والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت, كالصلاة ولنا ما روى ابن عباس (أن امرأة سألت النبي -ﷺ- عن أبيها مات ولم يحج؟ قال: حجي عن أبيك) وعنه (أن امرأة نذرت أن تحج, فماتت فأتى أخوها النبي -ﷺ- فسأله عن ذلك؟ فقال: أرأيت لو كان على أختك دين أما كنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فاقضوا دين الله, فهو أحق بالقضاء) رواهما النسائي وروى هذا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي -ﷺ- ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة, فلم يسقط بالموت كالدين ويخرج عليه الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة والعمرة كالحج في القضاء, فإنها واجبة وقد أمر النبي -ﷺ- أبا رزين أن يحج عن أبيه ويعتمر ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر, فكان من جميع المال كدين الآدمي. فصل:
ويستناب من يحج عنه من حيث وجب عليه إما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه وبهذا قال الحسن, وإسحاق ومالك في النذر وقال عطاء في الناذر: إن لم يكن نوى مكانا فمن ميقاته واختاره ابن المنذر وقال الشافعي فيمن عليه حجة الإسلام: يستأجر من يحج عنه من الميقات لأن الإحرام لا يجب من دونه ولنا, أن الحج واجب على الميت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه لأن القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء الصلاة والصيام, وكذلك الحكم في حج النذر والقضاء فإن كان له وطنان استنيب من أقربهما فإن وجب عليه الحج بخراسان ومات ببغداد أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان, فقال أحمد: يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته ويحتمل أن يحج عنه من أقرب المكانين لأنه لو كان حيا في أقرب المكانين لم يجب عليه الحج من أبعد منه, فكذلك نائبه فإن أحج عنه من دون ذلك فقال القاضي: إن كان دون مسافة القصر أجزأه لأنه في حكم القريب وإن كان أبعد لم يجزئه لأنه لم يؤد الواجب بكماله ويحتمل أن يجزئه ويكون مسيئا, كمن وجب عليه الإحرام من الميقات فأحرم من دونه. فصل:
فإن خرج للحج فمات في الطريق, حج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعض ما وجب عليه فلم يجب ثانيا وكذلك إن مات نائبه استنيب من حيث مات لذلك ولو أحرم بالحج, ثم مات صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره نص عليه لأنها عبادة تدخلها النيابة, فإذا مات بعد فعل بعضها قضى عنه باقيها كالزكاة. فصل:
فإن لم يخلف تركة تفي بالحج من بلده حج عنه من حيث تبلغ وإن كان عليه دين لآدمي تحاصا, ويؤخذ للحج حصته فيحج بها من حيث تبلغ وقال أحمد في رجل أوصى أن يحج عنه, ولا تبلغ النفقة؟ قال: يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته وهذا لقول النبي -ﷺ-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ولأنه قدر على أداء بعض الواجب فلزمه كالزكاة وعن أحمد ما يدل على أن الحج يسقط لأنه قال في رجل أوصى بحجة واجبة, ولم يخلف ما يتم به حجه هل يحج عنه من المدينة أو من حيث تتم الحجة؟ فقال: ما يكون الحج عندي إلا من حيث وجب عليه وهذا تنبيه على سقوطه عمن عليه دين لا تفي تركته به وبالحج, فإنه إذا أسقطه مع عدم المعارض فمع المعارض بحق الآدمي المؤكد أولى وأحرى ويحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجها واحدا لأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده وحقه حق الله تعالى, مع أنه لا يمكن أداؤه على الوجه الواجب. فصل:
وإن أوصى بحج تطوع فلم يف ثلثه بالحج من بلده حج به من حيث بلغ أو يعن به في الحج نص عليه وقال: التطوع ما يبالي من أين كان, ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد إلا أن يرضى الورثة بزيادة أو يكون قد أوصى بشيء, فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث. فصل:
يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين لأن النبي -ﷺ- أمر أبا رزين فقال: (حج عن أبيك, واعتمر) وسألت امرأة رسول الله -ﷺ- عن أبيها مات ولم يحج؟ فقال: (حجي عن أبيك) ويستحب البداية بالحج عن الأم إن كان تطوعا أو واجبا عليهما نص عليه أحمد في التطوع لأن الأم مقدمة في البر, قال أبو هريرة: جاء رجل إلى رسول الله -ﷺ- فقال: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه مسلم والبخاري وإن كان الحج واجبا على الأب دونها بدأ به لأنه واجب, فكان أولى من التطوع وروى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا حج الرجل عن والديه يقبل منه ومنهما واستبشرت أرواحهما في السماء, وكتب عند الله برا) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرما, بعث يوم القيامة مع الأبرار) وعن جابر قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من حج عن أبيه أو أمه فقد قضى عنه حجته, وكان له فضل عشر حجج) روى ذلك كله الدارقطني. مسألة:
قال: [ ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ, وكانت الحجة عن نفسه ] وجملة ذلك أنه ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام وبهذا قال الأوزاعي والشافعي, وإسحاق وقال أبو بكر عبد العزيز: يقع الحج باطلا ولا يصح ذلك عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس لأنه لما كان من شرط طواف الزيارة تعيين النية فمتى نواه لغيره ولم ينو لنفسه, لم يقع لنفسه كذا الطواف حاملا لغيره لم يقع عن نفسه وقال الحسن وإبراهيم, وأيوب السختياني وجعفر بن محمد ومالك وأبو حنيفة: يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه وحكي عن أحمد مثل ذلك وقال الثوري: إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه, وإن لم يقدر على الحج عن نفسه حج عن غيره واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة ولنا, ما روى ابن عباس أن رسول الله -ﷺ- سمع رجلا يقول: (لبيك عن شبرمة فقال رسول الله -ﷺ-: من شبرمة؟ قال: قريب لي قال: هل حججت قط؟ قال: لا قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة) رواه الإمام أحمد, وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه ولأنه حج عن غيره قبل الحج عن نفسه, فلم يقع عن الغير كما لو كان صبيا ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقي عليه بعضها, وهاهنا لا يجوز أن يحج عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه ولا يطوف عن غيره من لم يطف عن نفسه إذا ثبت هذا فإن عليه رد ما أخذ من النفقة لأنه لم يقع الحج عنه, فأشبه ما لو لم يحج. فصل:
وإن أحرم بتطوع أو نذر من لم يحج حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام وبهذا قال ابن عمر وأنس, والشافعي وقال مالك والثوري وأبو حنيفة, وإسحاق وابن المنذر: يقع ما نواه وهو رواية أخرى عن أحمد وقول أبي بكر, لما تقدم ولنا أنه أحرم بالحج وعليه فرضه فوقع عن فرضه كالمطلق ولو أحرم بتطوع, وعليه منذورة وقعت عن المنذورة لأنها واجبة فهي كحجة الإسلام, والعمرة كالحج فيما ذكرنا لأنها أحد النسكين فأشبهت الآخر والنائب كالمنوب عنه في هذا, فمتى أحرم النائب بتطوع أو نذر عمن لم يحج حجة الإسلام وقعت عن حجة الإسلام لأن النائب يجري مجرى المنوب عنه وإن استناب رجلين في حجة الإسلام, ومنذور أو تطوع فأيهما سبق بالإحرام وقعت حجته عن حجة الإسلام, وتقع الأخرى تطوعا أو عن النذر لأنه لا يقع الإحرام عن غير حجة الإسلام ممن هي عليه, فكذلك من نائبه. فصل:
إذا كان الرجل قد أسقط فرض أحد النسكين عنه دون الآخر جاز أن ينوب عن غيره, فيما أدى فرضه دون الآخر وليس للصبي والعبد أن ينوبا في الحج عن غيرهما لأنهما لم يسقطا فرض الحج عن أنفسهما فهما كالحر البالغ في ذلك وأولى منه ويحتمل أن لهما النيابة في حج التطوع دون الفرض لأنهما من أهل التطوع دون الفرض, ولا يمكن أن تقع الحجة التي نابا فيها عن فرضهما لكونهما ليسا من أهله فبقيت لمن فعلت عنه وعلى هذا لا يلزمهما رد ما أخذا لذلك كالبالغ الحر الذي قد حج عن نفسه. فصل:
إذا أحرم بالمنذورة من عليه حجة الإسلام, فوقعت عن حجة الإسلام فالمنصوص عن أحمد أن المنذورة لا تسقط عنه وهو قول ابن عمر وأنس وعطاء لأنها حجة واحدة, فلا تجزئ عن حجتين كما لو نذر حجتين فحج واحدة ويحتمل أن يجزئ لأنه قد أتى بالحجة ناويا بها نذره, فأجزأته كما لو كان ممن أسقط فرض الحج عن نفسه وقد نقل أبو طالب عن أحمد, في من نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فأحرم عن النذر وقعت عن المفروض, ولا يجب عليه شيء آخر وهذا مثل ما لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في يوم من رمضان فنواه عن فرضه ونذره, على رواية وهذا قول ابن عباس وعكرمة وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس وعكرمة أنهما قالا في رجل نذر أن يحج, ولم يكن حج الفريضة قال: يجزئ لهما جميعا وسئل عكرمة عن ذلك؟ فقال: يقضي حجة عن نذره وعن حجة الإسلام, أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر ومن النذر؟ قال: وذكرت قولي لابن عباس, فقال: أصبت أو أحسنت. مسألة:
قال: [ ومن حج وهو غير بالغ فبلغ أو عبد فعتق, فعليه الحج ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بقوله خلافا على أن الصبي إذا حج في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه, ثم بلغ الصبي وعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليهما سبيلا كذلك قال ابن عباس, وعطاء والحسن والنخعي, والثوري ومالك والشافعي, وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال الترمذي: وقد أجمع أهل العلم عليه وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحج, وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه, فإن أعتق فعليه الحج) رواه سعيد في "سننه", والشافعي في "مسنده" عن ابن عباس من قوله ولأن الحج عبادة بدنية, فعلها قبل وقت وجوبها فلم يمنع ذلك وجوبها عليه في وقتها كما لو صلى قبل الوقت, وكما لو صلى ثم بلغ في الوقت. فصل:
فإن بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة, أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة, وأتما المناسك أجزأهما عن حجة الإسلام لا نعلم فيه خلافا لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج ولا فعلا شيئا منها قبل وجوبه وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان, أجزأهما أيضا عن حجة الإسلام كذلك قال ابن عباس وهو مذهب الشافعي وإسحاق وقاله الحسن في العبد وقال مالك: لا يجزئهما واختاره ابن المنذر وقال أصحاب الرأي: لا يجزئ العبد فأما الصبي, فإن جدد إحراما بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجبا, فلا يجزئ عن الواجب كما لو بقيا على حالهما ولنا أنه أدرك الوقوف حرا بالغا فأجزأه, كما لو أحرم تلك الساعة قال أحمد: قال طاوس عن ابن عباس: إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته فإن أعتق بجمع, لم تجزئ عنه وهؤلاء يقولون: لا تجزئ ومالك يقوله أيضا وكيف لا يجزئه وهو لو أحرم تلك الساعة كان حجه تاما, وما أعلم أحدا قال لا يجزئه إلا هؤلاء والحكم فيما إذا أعتق العبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ولو كان لحظة وإن لم يعودا, أو كان ذلك قبل طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الإسلام ويتمان حجهما تطوعا لفوات الوقوف المفروض, ولا دم عليهما لأنهما حجا تطوعا بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعا فإن قيل: فلم لا قلتم إن الوقوف الذي فعلاه يصير فرضا كما قلتم في الإحرام الذي أحرم به قبل البلوغ يصير بعد بلوغه فرضا؟ قلنا: إنما اعتددنا له بإحرامه الموجود بعد بلوغه, وما قبل بلوغه تطوع لم ينقلب فرضا ولا اعتد له به فالوقوف مثله, فنظيره أن يبلغ وهو واقف بعرفة فإنه يعتد له بما أدرك من الوقوف ويصير فرضا دون ما مضى. فصل:
وإذا بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف, أو في وقته وأمكنهما الإتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على الفور, فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة لأنها واجبة أمكن فعلها, فأشبهت الحج ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما, سواء كانا موسرين أو معسرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده. فصل:
والحكم في الكافر يسلم والمجنون يفيق, حكم الصبي يبلغ في جميع ما فصلناه إلا أن هذين لا يصح منهما إحرام ولو أحرما لم ينعقد إحرامهما لأنهما من غير أهل العبادات, ويكون حكمهما حكم من لم يحرم. فصل:
وقد بقي من أحكام حج العبد أربعة فصول: أحدها في حكم إحرامه الثاني في حكم نذره للحج الثالث, في حكم ما يلزمه من الجنايات على إحرامه الرابع حكم إفساده وفواته الفصل الأول في إحرامه:
وليس للعبد أن يحرم بغير إذن سيده لأنه يفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب, فإن فعل انعقد إحرامه صحيحا لأنها عبادة بدنية فصح من العبد الدخول فيها بغير إذن سيده, كالصلاة والصوم ولسيده تحليله في إحدى الروايتين لأن في بقائه عليه تفويتا لحقه من منافعه بغير إذنه فلم يلزم ذلك سيده, كالصوم المضر ببدنه وهذا اختيار ابن حامد وإذا حلله منه كان حكمه حكم المحصر والثانية ليس له تحليله وهو اختيار أبي بكر لأنه لا يمكنه التحلل من تطوعه فلم يملك تحليل عبده والأول أصح لأنه التزم التطوع باختيار نفسه, فنظيره أن يحرم عبده بإذنه وفي مسألتنا يفوت حقه الواجب بغير اختياره فأما إن أحرم بإذن سيده فليس له تحليله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: له ذلك لأنه ملكه منافع نفسه, فكان له الرجوع فيها كالمعير يرجع في العارية ولنا أنه عقد لازم, عقده بإذن سيده فلم يكن لسيده منعه منه كالنكاح, ولا يشبه العارية لأنها ليست لازمة ولو أعاره شيئا ليرهنه فرهنه, لم يكن له الرجوع فيه ولو باعه سيده بعدما أحرم فحكم مشتريه في تحليله حكم بائعه سواء لأنه اشتراه مسلوب المنفعة فأشبه الأمة المزوجة والمستأجرة فإن علم المشتري بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة, فأشبه ما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وإن لم يعلم فله الفسخ لأنه يتضرر بمضي العبد في حجه لفوات منافعه, إلا أن يكون إحرامه بغير إذن سيده ونقول: له تحليله فلا يملك الفسخ لأنه يمكنه دفع الضرر عنه ولو أذن له سيده في الإحرام ثم رجع قبل أن يحرم, وعلم العبد برجوعه قبل الإحرام فهو كمن لم يؤذن له وإن لم يعلم حتى أحرم فهل يكون حكمه حكم من أحرم بإذن سيده؟ على وجهين, بناء على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل العلم على روايتين. الفصل الثاني:
إذا نذر العبد الحج, صح نذره لأنه مكلف فانعقد نذره كالحر ولسيده منعه من المضي فيه لأن فيه تفويت حق سيده الواجب فمنع منه, كما لو لم ينذر ذكره القاضي وابن حامد وروي عن أحمد أنه قال: لا يعجبني منعه من الوفاء به وذلك لما فيه من أداء الواجب فيحتمل أن ذلك على الكراهة, لا على التحريم لما ذكرنا ويحتمل التحريم لأنه واجب فلم يملك منعه منه كسائر الواجبات والأول أولى فإن أعتق, لزمه الوفاء به بعد حجة الإسلام فإن أحرم به أولا انصرف إلى حجة الإسلام كالحر إذا نذر حجا. الفصل الثالث: في جناياته:
وما جنى على إحرامه لزمه حكمه وحكمه فيما يلزمه حكم الحر المعسر فرضه الصيام وإن تحلل بحصر عدو أو حلله سيده, فعليه الصيام لا يتحلل قبل فعله كالحر وليس لسيده أن يحول بينه وبين الصوم نص عليه لأنه صوم واجب, أشبه صوم رمضان فإن ملكه السيد هديا وأذن له في إهدائه وقلنا: إنه يملكه فهو كالهدي الواجب, لا يتحلل إلا به وإن قلنا: لا يملكه ففرضه الصيام وإن أذن له سيده في تمتع أو قران فعليه الصيام بدلا عن الهدي الواجب بهما وذكر القاضي أن على سيده تحمل ذلك عنه لأنه بإذنه فكان على من أذن فيه, كما لو فعله النائب بإذن المستنيب وليس بجيد لأن الحج للعبد وهذا من موجباته فيكون عليه, كالمرأة إذا حجت بإذن زوجها ويفارق من حج عن غيره فإن الحج للمستنيب فموجبه عليه وإن تمتع أو قارن بغير إذن سيده فالصيام عليه بغير خلاف وإن أفسد حجه فعليه أن يصوم لذلك لأنه لا مال له, فهو كالمعسر من الأحرار. الفصل الرابع:
إذا وطئ العبد في إحرامه قبل التحلل الأول فسد ويلزمه المضي في فاسده, كالحر لكن إن كان الإحرام مأذونا فيه فليس لسيده إخراجه منه لأنه ليس له منعه من صحيحه, فلم يكن له منعه من فاسده وإن كان الإحرام بغير إذنه فله تحليله منه لأنه يملك تحليله من صحيحه, فالفاسد أولى وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذونا فيه, أو غير مأذون ويصح القضاء في حال رقه لأنه وجب فيه فصح منه, كالصلاة والصيام ثم إن كان الإحرام الذي أفسده مأذونا فيه فليس له منعه من قضائه لأن إذنه في الحج الأول إذن في موجبه ومقتضاه ومن موجبه القضاء لما أفسده فإن كان الأول غير مأذون فيه, احتمل أن لا يملك منعه من قضائه لأنه واجب وليس للسيد منعه من الواجبات واحتمل أن له منعه منه لأنه يملك منعه من الحج الذي شرع فيه بغير إذنه فكذلك هذا فإن أعتق قبل القضاء, فليس له فعله قبل حجة الإسلام لأنها آكد فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام وبقي القضاء في ذمته وإن عتق في أثناء الحجة الفاسدة, وأدرك من الوقوف ما يجزئه أجزأه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لو كان صحيحا أجزأه فكذلك قضاؤه وإن أعتق بعد ذلك, لم يجزئه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لا يجزئه فكذلك قضاؤه والمدبر والمعلق عتقه بصفة, وأم الولد والمعتق بعضه حكمه حكم القن فيما ذكرناه. مسألة:
قال: [ وإذا حج بالصغير, جنب ما يتجنبه الكبير وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه ] وجملة ذلك أن الصبي يصح حجه فإن كان مميزا أحرم بإذن وليه, وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه فيصير محرما بذلك وبه قال مالك والشافعي وروي عن عطاء والنخعي وقال أبو حنيفة: لا ينعقد إحرام الصبي, ولا يصير محرما بإحرام وليه لأن الإحرام سبب يلزم به حكم فلم يصح من الصبي كالنذر ولنا, ما روى ابن عباس قال: (رفعت امرأة صبيا فقالت: يا رسول الله, ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) رواه مسلم وغيره من الأئمة وروى البخاري عن السائب بن يزيد, قال: (حج بي مع النبي -ﷺ- وأنا ابن سبع سنين) ولأن أبا حنيفة قال: يجتنب ما يجتنبه المحرم ومن اجتنب ما يجتنبه المحرم كان إحرامه صحيحا والنذر لا يجب به شيء بخلاف مسألتنا والكلام في حج الصبي في فصول أربعة: في الإحرام عنه أو منه, وفيما يفعله بنفسه أو بغيره وفي حكم جناياته على إحرامه, وفيما يلزمه من القضاء والكفارة الفصل الأول في الإحرام:
إن كان مميزا أحرم بإذن وليه وإن أحرم بدون إذنه لم يصح لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه, كالبيع وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم, صح ومعنى إحرامه عنه أنه يعقد له الإحرام فيصح للصبي دون الولي كما يعقد النكاح له فعلى هذا يصح أن يعقد الإحرام عنه سواء كان محرما أو حلالا ممن عليه حجة الإسلام, أو كان قد حج عن نفسه فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي -ﷺ-: (ولك أجر) ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعا لها في الإحرام قال الإمام أحمد في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه واختاره ابن عقيل, وقال: المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للأم على ماله والإحرام يتعلق به إلزام مال, فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شيء له فأما غير الأم والولي من الأقارب, كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم أما الأجانب, فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا. الفصل الثاني:
إن كل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله, ولا ينوب غيره عنه فيه كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما, وما عجز عنه عمله الولي عنه قال جابر: (خرجنا مع رسول الله -ﷺ- حجاجا ومعنا النساء والصبيان فأحرمنا عن الصبيان) رواه سعيد, في "سننه" ورواه ابن ماجه في "سننه" فقال: فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم ورواه الترمذي, قال: فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان قال ابن المنذر: كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك وبه قال عطاء, والزهري ومالك والشافعي, وإسحاق وعن ابن عمر: أنه كان يحج صبيانه وهم صغار فمن استطاع منهم أن يرمي رمى ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه وعن أبي إسحاق, أن أبا بكر رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة رواهما الأثرم قال الإمام أحمد: يرمي عن الصبي أبواه أو وليه قال القاضي: إن أمكنه أن يناول النائب الحصى ناوله وإن لم يمكنه استحب أن يوضع الحصى في يده فيرمي عنه وإن وضعها في يد الصغير ورمى بها, فجعل يده كالآلة فحسن ولا يجوز أن يرمي عنه إلا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه وأما الطواف فإنه إن أمكنه المشي مشى, وإلا طيف به محمولا أو راكبا فإن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة ولأن الطواف بالكبير محمولا لعذر يجوز فالصغير أولى ولا فرق بين أن يكون الحامل له حلالا, أو حراما ممن أسقط الفرض عن نفسه أو لم يسقطه لأن الطواف للمحمول لا للحامل, ولذلك صح أن يطوف راكبا على بعير وتعتبر النية في الطائف به فإن لم ينو الطواف عن الصبي لم يجزئه لأنه لما لم تعتبر النية من الصبي اعتبرت من غيره كما في الإحرام فإن نوى الطواف عن نفسه وعن الصبي احتمل وقوعه عن نفسه, كالحج إذا نوى به عن نفسه وغيره واحتمل أن يقع عن الصبي كما لو طاف بكبير ونوى كل واحد منهما عن نفسه, لكون المحمول أولى واحتمل أن يلغو لعدم التعيين لكون الطواف لا يقع عن غير معين وأما الإحرام فإن الصبي يجرد كما يجرد الكبير, وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم قال عطاء: يفعل بالصغير كما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلى عنه. الفصل الثالث: في محظورات الإحرام:
وهي قسمان ؛ ما يختلف عمده وسهوه ، كاللباس والطيب ، وما لا يختلف ، كالصيد ، وحلق الشعر ، وتقليم الأظفار . فالأول ، لا فدية على الصبي فيه ؛ لأن عمده خطأ . والثاني ، عليه فيه الفدية . وإن وطئ أفسد حجه ، ويمضي في فاسده . وفي القضاء عليه وجهان ، أحدهما ، لا يجب ؛ لئلا تجب عبادة بدنية على من ليس من أهل التكليف . والثاني ، يجب ؛ لأنه إفساد موجب للفدية ، فأوجب القضاء ، كوطء البالغ ، فإن قضى بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام . فإن أحرم بالقضاء قبلها ، انصرف إلى حجة الإسلام . وهل تجزئه عن القضاء ؟ ينظر ، فإن كانت الفاسدة قد أدرك فيها شيئا من الوقوف بعد بلوغه ، أجزأ عنهما جميعا ، وإلا لم يجزئه ، كما قلنا في العبد على ما مضى . الفصل الرابع: فيما يلزمه من الفدية:
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن جنايات الصبيان لازمة لهم في أموالهم وذكر أصحابنا في الفدية التي تجب بفعل الصبي وجهين أحدهما في ماله لأنها وجبت بجنايته أشبهت الجناية على الآدمي والثاني على الولي, وهو قول مالك لأنه حصل بعقده أو إذنه فكان عليه كنفقة حجه فأما النفقة, فقال القاضي: ما زاد على نفقة الحضر ففي مال الولي لأنه كلفه ذلك ولا حاجة به إليه وهذا اختيار أبي الخطاب وحكي عن القاضي أنه ذكر في الخلاف أن النفقة كلها على الصبي لأن الحج له, فنفقته عليه كالبالغ ولأن فيه مصلحة له بتحصيل الثواب له, ويتمرن عليه فصار كأجر المعلم والطبيب والأول أولى فإن الحج لا يجب في العمر إلا مرة ويحتمل أن لا يجب فلا يجوز تكليفه بذل ماله من غير حاجة إليه للتمرن عليه, والله أعلم. فصل:
إذا أغمي على بالغ لم يصح أن يحرم عنه رفيقه وبه قال الشافعي وأبو يوسف, ومحمد وقال أبو حنيفة: يصح ويصير محرما بإحرام رفيقه عنه استحسانا لأن ذلك معلوم من قصده, ويلحقه مشقة في تركه فأجزأ عنه إحرام غيره ولنا أنه بالغ, فلم يصر محرما بإحرام غيره كالنائم ولو أنه أذن في ذلك وأجازه, لم يصح فمع عدم هذا أولى أن لا يصح. مسألة:
قال: [ ومن طيف به محمولا كان الطواف له دون حامله ] أما إذا طيف به محمولا لعذر, فلا يخلو إما أن يقصدا جميعا عن المحمول فيصح عنه دون الحامل بغير خلاف نعلمه, أو يقصدا جميعا عن الحامل فيقع عنه أيضا ولا شيء للمحمول أو يقصد كل واحد منهما الطواف عن نفسه, فإنه يقع للمحمول دون الحامل وهذا أحد قولي الشافعي والقول الآخر يقع للحامل لأنه الفاعل وقال أبو حنيفة: يقع لهما لأن كل واحد منهما طائف بنية صحيحة, فأجزأ الطواف عنه كما لو لم ينو صاحبه شيئا ولأنه لو حمله بعرفات, لكان الوقوف عنهما كذا ها هنا وهذا القول حسن ووجه الأول أنه طواف أجزأه عن المحمول فلم يقع عن الحامل, كما لو نويا جميعا المحمول ولأنه طواف واحد فلا يقع عن شخصين, والراكب لا يقع طوافه إلا عن واحد وأما إذا حمله في عرفة فما حصل الوقوف بالحمل فإن المقصود الكون في عرفات, وهما كائنان بها والمقصود ها هنا الفعل وهو واحد, فلا يقع عن شخصين ووقوعه عن المحمول أولى لأنه لم ينو بطوافه إلا لنفسه والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه, فإنه لو لم يقصد الطواف بالمحمول لما حمله فإن تمكنه من الطواف لا يقف على حمله فصار المحمول مقصودا لهما, ولم يخلص قصد الحامل لنفسه فلم يقع عنه لعدم التعيين وقال أبو حفص العكبري, في "شرحه": لا يجزئ الطواف عن واحد منهما لأن فعلا واحدا لا يقع عن اثنين وليس أحدهما أولى به من الآخر وقد ذكرنا أن المحمول به أولى لخلوص نيته لنفسه, وقصد الحامل له ولا يقع عن الحامل لعدم التعيين فإن نوى أحدهما نفسه دون الآخر صح الطواف له وإن عدمت النية منهما, أو نوى كل واحد منهما الآخر لم يصح لواحد منهما. باب ذكر المواقيت: مسألة:
قال أبو القاسم -رحمه الله-: [ وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة, وأهل اليمن من يلملم وأهل الطائف ونجد من قرن وأهل المشرق من ذات عرق ] وجملة ذلك أن المواقيت المنصوص عليها الخمسة التي ذكرها الخرقي -رحمه الله- وقد أجمع أهل العلم على أربعة منها, وهي: ذو الحليفة والجحفة وقرن, ويلملم واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن رسول الله -ﷺ- فيها فمن ذلك ما روى ابن عباس قال: (وقت رسول الله -ﷺ- لأهل المدينة ذا الحليفة, ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرنا ولأهل اليمن يلملم, قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة, فمن كان دونهن مهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها) وعن ابن عمر أن رسول الله -ﷺ- قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة, وأهل نجد من قرن) قال ابن عمر: وذكر لي ولم أسمعه أنه قال: (وأهل اليمن من يلملم) متفق عليهما فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم وهو مذهب مالك وأبي ثور, وأصحاب الرأي وقال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات وروي عن أنس أنه كان يحرم من العقيق واستحسنه الشافعي وابن المنذر وابن عبد البر وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة وروي ذلك عن خصيف والقاسم بن عبد الرحمن وقد روى ابن عباس, أن النبي -ﷺ- (وقت لأهل المشرق العقيق) قال الترمذي: وهو حديث حسن قال ابن عبد البر: العقيق أولى وأحوط من ذات عرق وذات عرق ميقاتهم بإجماع واختلف أهل العلم في من وقت ذات عرق فروى أبو داود, والنسائي وغيرهما بإسنادهم, عن القاسم عن عائشة (أن رسول الله -ﷺ- وقت لأهل العراق ذات عرق) وعن أبي الزبير أنه سمع جابرا سئل عن المهل؟ قال: سمعته - وأحسبه رفع إلى النبي -ﷺ- - يقول: (مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة, ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن) رواه مسلم في "صحيحه" وقال قوم آخرون: إنما وقتها عمر رضي الله عنه فروى البخاري, بإسناده عن ابن عمر قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر, فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله -ﷺ- حد لأهل نجد قرنا, وهو جور عن طريقنا وإنا إن أردنا قرنا شق علينا قال: فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي -ﷺ- ذات عرق فقال ذلك برأيه فأصاب, ووافق قول النبي -ﷺ- فقد كان كثير الإصابة رضي الله عنه وإذا ثبت توقيتها عن النبي -ﷺ- وعن عمر فالإحرام منه أولى -إن شاء الله تعالى-. فصل:
وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر, فموضع الإحرام من الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية لأن الحكم تعلق بذلك الموضع فلا يزول بخرابه وقد رأى سعيد بن جبير رجلا يريد أن يحرم من ذات عرق, فأخذ بيده حتى خرج به من البيوت وقطع الوادي فأتى به المقابر, فقال: هذه ذات عرق الأولى. مسألة:
قال: [ وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل وإذا أرادوا الحج, فمن مكة ] أهل مكة من كان بها سواء كان مقيما بها أو غير مقيم لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتا له, فكذلك كل من كان بمكة فهي ميقاته للحج وإن أراد العمرة فمن الحل لا نعلم في هذا خلافا ولذلك (أمر النبي -ﷺ- عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم) متفق عليه وكانت بمكة يومئذ والأصل في هذا قول النبي -ﷺ-: (حتى أهل مكة يهلون منها) يعني للحج وقال أيضا: (ومن كان أهله دون الميقات فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة) وهذا في الحج فأما في العمرة فميقاتها في حقهم الحل, من أي جوانب الحرم شاء لأن النبي -ﷺ- أمر بإعمار عائشة من التنعيم وهو أدنى الحل إلى مكة وقال ابن سيرين: بلغني (أن النبي -ﷺ- وقت لأهل مكة التنعيم) وقال ابن عباس: يا أهل مكة من أتى منكم العمرة, فليجعل بينه وبينها بطن محسر يعني إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة وإنما لزم الإحرام من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرم فإنه لو أحرم من الحرم, لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج, فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك ومن أي الحل أحرم جاز وإنما أعمر النبي -ﷺ- عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة وقد روي عن أحمد, في المكي كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر هي على قدر تعبها وأما إن أراد المكي الإحرام بالحج, فمن مكة للخبر الذي ذكرنا ولأن أصحاب النبي -ﷺ- لما فسخوا الحج أمرهم فأحرموا من مكة قال جابر: (أمرنا النبي -ﷺ- لما حللنا, أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح) رواه مسلم وهذا يدل على أنه لا فرق بين قاطني مكة وبين غيرهم ممن هو بها كالمتمتع إذا حل ومن فسخ حجه بها ونقل عن أحمد فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة, أنه يهل بالحج من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم والصحيح خلاف هذا لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ويحتمل أن أحمد إنما أراد أن المتمتع يسقط عنه الدم إذا خرج إلى الميقات, ولا يسقط إذا أحرم من مكة وهذا في غير المكي أما المكي فلا يجب عليه دم متعة بحال لقول الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} وذكر القاضي في من دخل مكة يحج عن غيره ثم أراد أن يعتمر بعده لنفسه, أو دخل يحج لنفسه ثم أراد أن يعتمر لغيره أو دخل بعمرة لنفسه, ثم أراد أن يحج أو يعتمر لغيره أو دخل بعمرة لغيره ثم أراد أن يحج أو يعتمر لنفسه, أنه في جميع ذلك يخرج إلى الميقات فيحرم منه فإن لم يفعل, فعليه دم قال: وقد قال أحمد: في رواية عبد الله: إذا اعتمر عن غيره ثم أراد الحج لنفسه يخرج إلى الميقات, أو اعتمر عن نفسه يخرج إلى الميقات وإن دخل مكة بغير إحرام, ثم أراد الحج يخرج إلى الميقات واحتج له القاضي بأنه جاوز الميقات مريدا للنسك, غير محرم لنفسه فلزمه دم إذا أحرم دونه كمن جاوز الميقات غير محرم وعلى هذا لو حج عن شخص واعتمر عن آخر, أو اعتمر عن إنسان ثم حج أو اعتمر عن آخر فكذلك وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه الخروج إلى الميقات في هذا كله لما ذكرنا من أن كل من كان بمكة كالقاطن بها وهذا حاصل بمكة على وجه مباح, فأشبه المكي وما ذكره القاضي تحكم لا يدل عليه خبر ولا يشهد له أثر وما ذكره من المعنى فاسد لوجوه: أحدها, أنه لا يلزم أن يكون مريدا للنسك عن نفسه حال مجاوزة الميقات فإنه قد يبدو له بعد ذلك الثاني أن هذا لا يتناول من أحرم عن غيره الثالث, أنه لو وجب بهذا الخروج إلى الميقات للزم المتمتع والمفرد لأنهما تجاوزا الميقات مريدين لغير النسك الذي أحرما به الرابع, أن المعنى في الذي يجاوز الميقات غير محرم أنه فعل ما لا يحل له فعله وترك الإحرام الواجب عليه في موضعه, فأحرم من دونه. فصل:
ومن أي الحرم أحرم بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم وهذا يحصل بالإحرام من أي موضع كان فجاز, كما يجوز أن يحرم بالعمرة من أي موضع كان من الحل ولذلك قال النبي -ﷺ- لأصحابه في حجة الوداع: (إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء) ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها, كالنحر. فصل:
فإن أحرم من الحل نظرت فإن أحرم من الحل الذي يلي الموقف فعليه دم لأنه أحرم من دون الميقات وإن أحرم من الجانب الآخر ثم سلك الحرم, فلا شيء عليه نص عليه أحمد في رجل أحرم للحج من التنعيم فقال: ليس عليه شيء وذلك لأنه أحرم قبل ميقاته, فكان كالمحرم قبل بقية المواقيت ولو أحرم من الحل ولم يسلك الحرم فعليه دم لأنه لم يجمع بين الحل والحرم. فصل:
وإن أحرم بالعمرة من الحرم, انعقد إحرامه بها وعليه دم لتركه الإحرام من الميقات ثم إن خرج إلى الحل قبل الطواف ثم عاد, أجزأه لأنه قد جمع بين الحل والحرم وإن لم يخرج حتى قضى عمرته صح أيضا لأنه قد أتى بأركانها وإنما أخل بالإحرام من ميقاتها, وقد جبره فأشبه من أحرم من دون الميقات بالحج وهذا قول أبي ثور وابن المنذر, وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي والقول الثاني لا تصح عمرته لأنه نسك, فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج فعلى هذا وجود هذا الطواف كعدمه وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل, ثم يطوف بعد ذلك ويسعى وإن حلق قبل ذلك فعليه دم وكذلك كل ما فعله من محظورات إحرامه فعليه فديته وإن وطئ, أفسد عمرته ويمضي في فاسدها وعليه دم لإفسادها, ويقضيها بعمرة من الحل ثم إن كانت العمرة التي أفسدها عمرة الإسلام أجزأه قضاؤها عن عمرة الإسلام وإلا فلا. مسألة:
قال: [ ومن كان منزله دون الميقات, فميقاته من موضعه ] يعني إذا كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات كان ميقاته مسكنه هذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول مالك وطاوس, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن مجاهد, قال: يهل من مكة ولا يصح فإن النبي -ﷺ- قال في حديث ابن عباس: (فمن كان دونهن مهله من أهله) وهذا صريح والعمل به أولى. فصل:
إذا كان مسكنه قرية, فالأفضل أن يحرم من أبعد جانبيها وإن أحرم من أقرب جانبيها جاز وهكذا القول في المواقيت التي وقتها رسول الله -ﷺ- إذا كانت قرية والحلة كالقرية فيما ذكرنا وإن كان مسكنه منفردا, فميقاته مسكنه أو حذوه وكل ميقات فحذوه بمنزلته ثم إن كان مسكنه في الحل, فإحرامه منه للحج والعمرة معا وإن كان في الحرم فإحرامه للعمرة من الحل, ليجمع في النسك بين الحل والحرم كالمكي وأما الحج فينبغي أن يجوز له الإحرام من أي الحرم شاء, كالمكي. مسألة:
قال: [ ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم ] وجملة ذلك أن من سلك طريقا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات, الذي هو إلى طريقه أقرب لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر: إن قرنا جور عن طريقنا فقال: انظروا حذوها من طريقكم فوقت لهم ذات عرق ولأن هذا مما يعرف بالاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة. فصل:
فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه, احتاط فأحرم من بعد بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرما لأن الإحرام قبل الميقات جائز, وتأخيره عنه لا يجوز فالاحتياط فعل ما لا شك فيه ولا يلزمه الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه لأن الأصل عدم وجوبه فلا يجب بالشك فإن أحرم, ثم علم بعد أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها وإن كانتا متساويتين في القرب إليه, أحرم من حذو أبعدهما. مسألة:
قال: [ وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمرة ] وجملة ذلك أن من سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته, وإن حج من اليمن فميقاته يلملم وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق وهكذا كل من مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتا له سئل أحمد عن الشامي يمر بالمدينة يريد الحج من أين يهل؟ قال: من ذي الحليفة قيل: فإن بعض الناس يقول يهل من ميقاته من الجحفة فقال: سبحان الله, أليس يروي ابن عباس عن النبي -ﷺ-: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) وهذا قول الشافعي وإسحاق وقال أبو ثور في الشامي يمر بالمدينة: له أن يحرم من الجحفة وهو قول أصحاب الرأي وكانت عائشة, إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة وإذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة ولعلهم يحتجون بأن النبي -ﷺ- وقت لأهل الشام الجحفة ولنا قول النبي -ﷺ-: (فهن لهن, ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) ولأنه ميقات فلم يجز تجاوزه بغير إحرام لمن يريد النسك كسائر المواقيت وخبرهم أريد به من لم يمر على ميقات آخر, بدليل ما لو مر بميقات غير ذي الحليفة لم يجز له تجاوزه بغير إحرام بغير خلاف وقد روى سعيد, عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه, أن رسول الله -ﷺ- (وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفة) ولا فرق بين الحج والعمرة في هذا لقول النبي -ﷺ- (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن, ممن كان يريد حجا أو عمرة). فصل:
فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة سواء كان شاميا أو مدنيا لما روى أبو الزبير, أنه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال: سمعته - أحسبه رفع إلى النبي -ﷺ- - يقول: (مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة) رواه مسلم ولأنه مر على أحد المواقيت دون غيره, فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت ويحتمل أن أبا قتادة حين أحرم أصحابه دونه في قصة صيده للحمار الوحشي إنما ترك الإحرام لكونه لم يمر على ذي الحليفة, فأخر إحرامه إلى الجحفة إذ لو مر عليها لم يجز له تجاوزها من غير إحرام ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا وأنها لا تمر في طريقها على ذي الحليفة لئلا يكون فعلها مخالفا لقول رسول الله -ﷺ- ولسائر أهل العلم. مسألة:
قال: [ والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته فإن فعل فهو محرم ] لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرما, تثبت في حقه أحكام الإحرام قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله روي نحو ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال الحسن, وعطاء ومالك وإسحاق وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين وكان علقمة, والأسود وعبد الرحمن وأبو إسحاق, يحرمون من بيوتهم واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي -ﷺ- أنها سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك عبد الله أيتهما قال) رواه أبو داود وفي لفظ رواه ابن ماجه: (من أهل بعمرة من بيت المقدس, غفر له) وأحرم ابن عمر من إيليا وروى النسائي وأبو داود بإسنادهما عن الصبي بن معبد, قال: أهللت بالحج والعمرة فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان, وأنا أهل بهما فقال أحدهما: ما هذا بأفقه من بعيره فأتيت عمر فذكرت له ذلك فقال: (هديت لسنة نبيك -ﷺ-) وهذا إحرام به قبل الميقات وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ولنا أن النبي -ﷺ- وأصحابه أحرموا من الميقات, ولا يفعلون إلا الأفضل فإن قيل: إنما فعل هذا لتبيين الجواز قلنا: قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي -ﷺ- وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم, ولما تواطئوا على ترك الأفضل واختيار الأدنى وهم أهل التقوى والفضل, وأفضل الخلق ولهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم وقد روى أبو يعلى الموصلي في "مسنده", عن أبي أيوب قال: قال رسول الله -ﷺ-: (يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه) وروى الحسن, أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال: يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله -ﷺ- أحرم من مصره وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان, فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له رواهما سعيد والأثرم, وقال البخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره ولأنه تغرير بالإحرام, وتعرض لفعل محظوراته وفيه مشقة على النفس فكره, كالوصال في الصوم قال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه, فيكون أعظم لوزره فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك فأما حديث الإحرام من بيت المقدس ففيه ضعف, يرويه ابن أبي فديك ومحمد بن إسحاق وفيهما مقال ويحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس دون غيره ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد, ولذلك أحرم ابن عمر منه ولم يكن يحرم من غيره إلا من الميقات وقول عمر للصبي: هديت لسنة نبيك يعني في القران والجمع بين الحج والعمرة, لا في الإحرام من قبل الميقات فإن سنة النبي -ﷺ- الإحرام من الميقات بين ذلك بفعله وقوله, وقد بين أنه لم يرد ذلك إنكاره على عمران بن حصين إحرامه من مصره وأما قول عمر وعلي فإنهما قالا: إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك ومعناه أن تنشئ لها سفرا من بلدك تقصد له, ليس أن تحرم بها من أهلك قال أحمد: كان سفيان يفسره بهذا وكذلك فسره به أحمد ولا يصح أن يفسر بنفس الإحرام لأن النبي -ﷺ- وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم وقد أمرهم الله بإتمام العمرة, فلو حمل قولهم على ذلك لكان النبي -ﷺ- وأصحابه تاركين لأمر الله ثم إن عمر وعليا ما كانا يحرمان إلا من الميقات أفتراهما يريان أن ذلك ليس بإتمام لها ويفعلانه هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من مصره, واشتد عليه وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ به أفتراه كره إتمام العمرة واشتد عليه أن يأخذ الناس بالأفضل, هذا لا يجوز فيتعين حمل قولهما في ذلك على ما حمله عليه الأئمة والله أعلم. مسألة:
قال: [ ومن أراد الإحرام, فجاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم من الميقات فإن أحرم من مكانه فعليه دم, وإن رجع محرما إلى الميقات ] وجملة ذلك أن من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه, سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله فإن رجع إليه فأحرم منه, فلا شيء عليه لا نعلم في ذلك خلافا وبه يقول جابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير, والثوري والشافعي وغيرهم لأنه أحرم من الميقات الذي أمر بالإحرام منه, فلم يلزمه شيء كما لو لم يتجاوزه وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم, سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع وبهذا قال مالك وابن المبارك وظاهر مذهب الشافعي أنه إن رجع إلى الميقات فلا شيء عليه, إلا أن يكون قد تلبس بشيء من أفعال الحج كالوقوف وطواف القدوم, فيستقر الدم عليه لأنه حصل محرما في الميقات قبل التلبس بأفعال الحج فلم يلزمه دم كما لو أحرم منه وعن أبي حنيفة: إن رجع إلى الميقات, فلبى سقط عنه الدم وإن لم يلب, لم يسقط وعن عطاء والحسن والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات وعن سعيد بن جبير: لا حج لمن ترك الميقات ولنا ما روى ابن عباس, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من ترك نسكا فعليه دم) روي موقوفا ومرفوعا ولأنه أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم, كما لو لم يرجع أو كما لو طاف عند الشافعي أو كما لو لم يلب عند أبي حنيفة, ولأنه ترك الإحرام من ميقاته فلزمه الدم كما ذكرنا, ولأن الدم وجب لتركه الإحرام من الميقات ولا يزول هذا برجوعه ولا بتلبيته وفارق ما إذا رجع قبل إحرامه فأحرم منه, فإنه لم يترك الإحرام منه ولم يهتكه. فصل:
ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه لم يسقط عنه الدم وبه قال الشافعي, وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال الثوري, وأصحاب الرأي: يسقط لأن القضاء واجب ولنا أنه واجب عليه بموجب هذا الإحرام فلم يسقط بوجوب القضاء, كبقية المناسك وكجزاء الصيد. فصل:
فأما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك, فعلى قسمين أحدهما لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه, فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شيء عليه في ترك الإحرام وقد أتى النبي -ﷺ- وأصحابه بدرا مرتين, وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة فلا يحرمون, ولا يرون بذلك بأسا ثم متى بدا لهذا الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه, ولا شيء عليه هذا ظاهر كلام الخرقي وبه يقول مالك والثوري والشافعي, وصاحبا أبي حنيفة وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة, وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج, يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم وبه قال إسحاق ولأنه أحرم من دون الميقات فلزمه الدم, كالذي يريد دخول الحرم والأول أصح وكلام أحمد يحمل على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام لقول النبي -ﷺ-: (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة) ولأنه حصل دون الميقات على وجه مباح فكان له الإحرام منه كأهل ذلك المكان ولأن هذا القول يفضي إلى أن من كان منزله دون الميقات, إذا خرج إلى الميقات ثم عاد إلى منزله وأراد الإحرام, لزمه الخروج إلى الميقات ولا قائل به وهو مخالف لقول رسول الله -ﷺ-: (ومن كان منزله دون الميقات فمهله من أهله) القسم الثاني, من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب أحدها, من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة, كالحشاش والحطاب وناقل الميرة والفيح, ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي -ﷺ- دخل يوم الفتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه, ولم نعلم أحدا منهم أحرم يومئذ ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع زمانه محرما, فسقط للحرج وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام إلا من كان دون الميقات لأنه يجاوز الميقات مريدا للحرم فلم يجز بغير إحرام كغيره ولنا, ما ذكرناه وقد روى الترمذي أن النبي -ﷺ- (دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء) وقال: هذا حديث حسن صحيح ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم الذي قبله, وفيه من الخلاف ما فيه النوع الثاني: من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات, أو عتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الإحرام, فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء ومالك, والثوري والأوزاعي وإسحاق, وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ وقالوا في العبد: عليه دم وقال الشافعي في جميعهم: على كل واحد منهم دم وعن أحمد, في الكافر يسلم كقوله ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام وأحرموا دونه, فلزمهم الدم كالمسلم البالغ العاقل ولنا أنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام منه, فأشبهوا المكي ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها وفارق من يجب عليه الإحرام إذا تركه لأنه ترك الواجب عليه النوع الثالث: المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة, فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم: لا يجب الإحرام عليه وعن أحمد ما يدل على ذلك وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام ولأنه أحد الحرمين فلم يلزم الإحرام لدخوله, كحرم المدينة ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل, فبقي على الأصل ووجه الأولى أنه لو نذر دخولها لزمه الإحرام ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول, كسائر البلدان إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه, فعليه دم كالمريد للنسك. فصل:
ومن دخل الحرم بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام, فلا قضاء عليه هذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يأتي بحجة أو عمرة فإن أتى بحجة الإسلام في سنته أو منذورة, أو عمرة أجزأه عن عمرة الدخول استحسانا لأن مروره على الميقات مريدا للحرم يوجب الإحرام فإذا لم يأت به وجب قضاؤه, كالمنذور ولنا أنه مشروع لتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط, كتحية المسجد فإن قيل: تحية المسجد غير واجبة قلنا: إلا أن النوافل المرتبات تقضى وإنما سقط القضاء لما ذكرنا فأما إن تجاوز الميقات ورجع ولم يدخل الحرم, فلا قضاء عليه بغير خلاف نعلمه سواء أراد النسك أو لم يرده. فصل:
ومن كان منزله دون الميقات خارجا من الحرم, فحكمه في مجاوزة قريته إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في هذه الأحوال الثلاث لأن موضعه ميقاته فهو في حقه كالمواقيت الخمسة في حق الآفاقي. مسألة:
قال: [ ومن جاوز الميقات غير محرم, فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم ] لا خلاف في أن من خشي فوات الحج برجوعه إلى الميقات, أنه يحرم من موضعه فيما نعلمه إلا أنه روي عن سعيد بن جبير: من ترك الميقات فلا حج له وما عليه الجمهور أولى فإنه لو كان من أركان الحج, لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف وإذا أحرم من دون الميقات عند خوف الفوات فعليه دم لا نعلم فيه خلافا عند من أوجب الإحرام من الميقات لقول النبي -ﷺ-: (من ترك نسكا, فعليه دم) وإنما أبحنا له الإحرام من موضعه مراعاة لإدراك الحج فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة واجب فيه مع فواته ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة, أو الخوف من عدو أو لص أو مرض أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع, فهو كخائف الفوات في أنه يحرم من موضعه وعليه دم. باب ذكر الإحرام مسألة:
قال أبو القاسم: [ ومن أراد الحج, وقد دخل أشهر الحج فإذا بلغ الميقات فالاختيار له أن يغتسل ] قوله: "وقد دخل أشهر الحج" يدل على أنه لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهره, وهذا هو الأولى فإن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه إحراما به قبل وقته فأشبه الإحرام به قبل ميقاته, ولأن في صحته اختلافا فإن أحرم به قبل أشهره صح وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحج, جاز نص عليه أحمد وهو قول النخعي ومالك والثوري وأبي حنيفة, وإسحاق وقال عطاء وطاوس ومجاهد, والشافعي: يجعله عمرة لقول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات} تقديره وقت الحج أشهر أو أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه, ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات ولنا, قول الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} فدل على أن جميع الأشهر ميقات ولأنه أحد نسكي القران فجاز الإحرام به في جميع السنة كالعمرة, أو أحد الميقاتين فصح الإحرام قبله كميقات المكان والآية محمولة على أن الإحرام به إنما يستحب فيها وعلى كل حال, فمن أراد الإحرام استحب له أن يغتسل قبله في قول أكثر أهل العلم, منهم طاوس والنخعي ومالك, والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لما روى خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه أنه (رأى النبي -ﷺ- تجرد لإهلاله واغتسل) رواه الترمذي, وقال: حديث حسن غريب وثبت أن النبي -ﷺ- أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال بالحج, وهي حائض ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة, وليس ذلك واجبا في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال وأنه غير واجب وحكي عن الحسن أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكر وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض أهل المدينة: من ترك الغسل عند الإحرام, فعليه دم لقول النبي -ﷺ- لأسماء وهي نفساء: "اغتسلي" فكيف الطاهر؟ فأظهر التعجب من هذا القول وكان ابن عمر يغتسل أحيانا ويتوضأ أحيانا وأي ذلك فعل أجزأه ولا يجب الاغتسال, ولا نقل الأمر به إلا لحائض أو نفساء ولو كان واجبا لأمر به غيرهما ولأنه لأمر مستقبل, فأشبه غسل الجمعة. فصل:
فإن لم يجد ماء لم يسن له التيمم وقال القاضي: يتيمم لأنه غسل مشروع فناب عنه التيمم, كالواجب ولنا أنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه, كغسل الجمعة وما ذكره منتقض بغسل الجمعة ونحوه من الأغسال المسنونة والفرق بين الواجب والمسنون, أن الواجب يراد لإباحة الصلاة والتيمم يقوم مقامه في ذلك والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة, والتيمم لا يحصل هذا بل يزيد شعثا وتغييرا ولذلك افترقا في الطهارة الصغرى, فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح به. فصل:
ويستحب التنظف بإزالة الشعث وقطع الرائحة, ونتف الإبط وقص الشارب وقلم الأظفار, وحلق العانة لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب فسن له هذا كالجمعة ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وقلم الأظفار, فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه. مسألة:
قال: [ ويلبس ثوبين نظيفين ] يعني إزارا ورداء فإن رسول الله -ﷺ- قال: (وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله -ﷺ-, وثبت أيضا أن رسول الله -ﷺ- قال: (إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين) ولأن المحرم ممنوع من لبس المخيط في شيء من بدنه, يعني بذلك ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل ولو لبس إزارا موصلا أو اتشح بثوب مخيط, جاز ويستحب أن يكونا نظيفين إما جديدين وإما غسيلين لأننا أحببنا له التنظف في بدنه فكذلك في ثيابه, كشاهد الجمعة والأولى أن يكونا أبيضين لقول النبي -ﷺ-: (خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم, وكفنوا فيها موتاكم). مسألة:
قال: [ ويتطيب ] وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس, وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وعائشة, وأم حبيبة ومعاوية وروي عن محمد بن الحنفية وأبي سعيد الخدري, وعروة والقاسم والشعبي, وابن جريج وكان عطاء يكره ذلك وهو قول مالك وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم واحتج مالك بما روى يعلى بن أمية, أن رجلا أتى النبي -ﷺ- فقال: يا رسول الله (كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي -ﷺ- يعني ساعة ثم قال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك) متفق عليه ولأنه يمنع من ابتدائه, فمنع استدامته كاللبس ولنا قول عائشة: (كنت أطيب رسول الله -ﷺ- لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت قالت: وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله -ﷺ- وهو محرم) متفق عليه وفي لفظ لمسلم: (طيبته بأطيب الطيب وقالت بطيب فيه مسك) وفي لفظ للنسائي: (كأني أنظر إلى وبيص طيب المسك في مفرق رسول الله -ﷺ-) وحديثهم في بعض ألفاظه: عليه جبة بها أثر خلوق رواه مسلم وفي بعضها: وهو متضمخ بالخلوق وفي بعضها: عليه درع من زعفران وهذه الألفاظ تدل على أن طيب الرجل كان من الزعفران, وهو منهي عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى وقد روى البخاري أن النبي -ﷺ- (نهى أن يتزعفر الرجل) ولأن حديثهم في سنة ثمان, وحديثنا في سنة عشر قال ابن جريج: كان شأن صاحب الجبة قبل حجة الوداع قال ابن عبد البر: لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان, وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر فعند ذلك إن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم فإن قيل: فقد روى محمد بن المنتشر, قال: سمعت ابن عمر ينهى عن الطيب عند الإحرام فقال: لأن أطلى بالقطران أحب إلي من ذلك قلنا تمام الحديث قال: فذكرت ذلك لعائشة, فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن قد (كنت أطيب رسول الله -ﷺ- فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضح طيبا) فإذا صار الخبر حجة على من احتج به, فإن فعل النبي -ﷺ- حجة على ابن عمر وغيره وقياسهم يبطل بالنكاح فإنه يمنع ابتداءه دون استدامته. فصل:
وإن طيب ثوبه, فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه, فإن لبسه افتدى لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة وكذلك إن نقل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر, افتدى لأنه تطيب في إحرامه وكذا إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه, ثم رده إليه فأما إن عرق الطيب أو ذاب بالشمس, فسال من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه لأنه ليس من فعله فجرى مجرى الناسي قالت عائشة: (كنا نخرج مع النبي -ﷺ- إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام, فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي -ﷺ- فلا ينهاها) رواه أبو داود. مسألة:
قال: [ فإن حضر وقت صلاة مكتوبة ، وإلا صلى ركعتين ] المستحب أن يحرم عقيب الصلاة ، فإن حضرت صلاة مكتوبة ، أحرم عقيبها ، وإلا صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبهما . استحب ذلك عطاء ، وطاوس ، ومالك ، والشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر . وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس . وقد روي عن أحمد أن الإحرام عقيب الصلاة ، وإذا استوت به راحلته ، وإذا بدأ بالسير ، سواء ؛ لأن الجميع قد روي عن النبي ﷺ من طرق صحيحة ، قال الأثرم : سألت أبا عبد الله ، أيما أحب إليك : الإحرام في دبر الصلاة ، أو إذا استوت به راحلته ؟ فقال : كل ذلك قد جاء ، في دبر الصلاة ، وإذا علا البيداء ، وإذا استوت به ناقته ، فوسع في ذلك . كله . قال ابن عباس : (ركب النبي ﷺ راحلته ، حتى استوت على البيداء أهل هو وأصحابه) ، وقال أنس : (لما ركب راحلته ، واستوت به ، أهل). وقال ابن عمر : (أهل النبي ﷺ حين استوت به راحلته قائمة). رواهن البخاري ، والأولى الإحرام عقيب الصلاة ، لما روى سعيد بن جبير قال : ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله ﷺ فقال : (أوجب رسول الله ﷺ الإحرام حين فرغ من صلاته ، ثم خرج ، فلما ركب رسول الله ﷺ راحلته ، واستوت به قائمة ، أهل ، فأدرك ذلك منه قوم ، فقالوا : أهل حين استوت به الراحلة ، وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ، ثم سار حتى علا البيداء ، فأهل ، فأدرك ذلك منه قوم ، فقالوا : أهل حين علا البيداء). رواه أبو داود ، والأثرم . وهذا لفظ الأثرم . وهذا فيه بيان وزيادة علم ، فيتعين حمل الأمر عليه ، ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه ، جمعا بين الأخبار المختلفة ، وهذا على سبيل الاستحباب ، فكيفما أحرم جاز ، لا نعلم أحدا خالف في ذلك . مسألة:
قال: [ فإن أراد التمتع وهو اختيار أبي عبد الله, فيقول: اللهم إني أريد العمرة ] وجملة ذلك أن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة تمتع وإفراد وقران فالتمتع أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج, فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه والإفراد أن يهل بالحج مفردا والقران أن يجمع بينهما في الإحرام بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف فأي ذلك أحرم به جاز قالت عائشة: (خرجنا مع رسول الله -ﷺ- فمنا من أهل بعمرة, ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج) متفق عليه فهذا هو التمتع والإفراد والقران وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء واختلفوا في أفضلها, فاختار إمامنا التمتع ثم الإفراد ثم القران وممن روي عنه اختيار التمتع ابن عمر, وابن عباس وابن الزبير وعائشة, والحسن وعطاء وطاوس, ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وروى المروذي عن أحمد: إن ساق الهدي, فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل لأن النبي -ﷺ- قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه وذهب الثوري وأصحاب الرأي إلى اختيار القران لما روى أنس قال: سمعت رسول الله -ﷺ- (أهل بهما جميعا: لبيك عمرة وحجا, لبيك عمرة وحجا) متفق عليه وحديث الصبي بن معبد حين لبى بهما ثم أتى عمر فسأله فقال: (هديت لسنة نبيك -ﷺ-) وروي عن مروان بن الحكم, قال: كنت جالسا عند عثمان بن عفان فسمع عليا يلبي بعمرة وحج فأرسل إليه, فقال: ألم نكن نهينا عن هذا؟ قال: بلى ولكن سمعت رسول الله -ﷺ- (يلبي بهما جميعا فلم أكن أدع قول رسول الله -ﷺ- لقولك) رواه سعيد ولأن القران مبادرة إلى فعل العبادة, وإحرام بالنسكين من الميقات وفيه زيادة نسك هو الدم فكان أولى وذهب مالك, وأبو ثور إلى اختيار الإفراد وهو ظاهر مذهب الشافعي وروي ذلك عن عمر وعثمان, وابن عمر وجابر وعائشة, لما روت عائشة وجابر (أن النبي -ﷺ- أفرد الحج) متفق عليهما وعن ابن عمر وابن عباس مثل ذلك متفق عليهما ولأنه يأتي بالحج تاما من غير احتياج إلى جبر فكان أولى قال عثمان: ألا إن الحج التام من أهليكم, والعمرة التامة من أهليكم وقال إبراهيم: إن أبا بكر وعمر وابن مسعود, وعائشة كانوا يجردون الحج ولنا ما روى ابن عباس, وجابر وأبو موسى وعائشة (أن النبي -ﷺ- أمر أصحابه لما طافوا بالبيت, أن يحلوا ويجعلوها عمرة) فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل وهذه الأحاديث متفق عليها ولم يختلف عن النبي -ﷺ- أنه لما قدم مكة, أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه, وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) قال جابر: حججنا مع النبي -ﷺ- يوم ساق البدن معه, وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم: (أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت, وبين الصفا والمروة ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية, فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم به فلولا إني سقت الهدي, لفعلت مثل الذي أمرتكم به) وفي لفظ: فقام رسول الله -ﷺ- فقال: (قد علمتم إني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم, ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت فحللنا, وسمعنا وأطعنا) متفق عليهما فنقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك, فدل على فضله ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} دون سائر الأنساك ولأن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك, فكان ذلك أولى فأما القران فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج وتدخل أفعال العمرة فيه, والمفرد فإنما يأتي بالحج وحده وإن اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام, وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القران ولا خلاف في إجزاء التمتع عن الحج والعمرة جميعا فكان أولى فأما حجتهم, فإنما احتجوا بفعل النبي -ﷺ- والجواب عنها من أوجه: الأول أنا نمنع أن يكون النبي -ﷺ- محرما بغير التمتع ولا يصح الاحتجاج بأحاديثهم لأمور أحدها, أن رواة أحاديثهم قد رووا أن النبي -ﷺ- تمتع بالعمرة إلى الحج روى ذلك ابن عمر وجابر, وعائشة من طرق صحاح فسقط الاحتجاج بها الثاني, أن روايتهم اختلفت فرووا مرة أنه أفرد ومرة أنه تمتع, ومرة أنه قرن والقضية واحدة ولا يمكن الجمع بينها, فيجب اطراحها كلها وأحاديث القران أصحها حديث أنس وقد أنكره ابن عمر, فقال: يرحم الله أنسا ذهل أنس متفق عليه وفي رواية: كان أنس يتولج على النساء يعني أنه كان صغيرا وحديث علي رواه حفص بن أبي داود وهو ضعيف, عن ابن أبي ليلى وهو كثير الوهم قاله الدارقطني الثالث أن أكثر الروايات, أن النبي -ﷺ- كان متمتعا روى ذلك عمر وعلي وعثمان, وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر, ومعاوية وأبو موسى وجابر, وعائشة وحفصة بأحاديث صحيحة, وإنما منعه من الحل الهدي الذي كان معه ففي حديث عمر أنه قال: (إني لا أنهاكم عن المتعة, وإنها لفي كتاب الله ولقد صنعها رسول الله -ﷺ-) يعني العمرة في الحج وفي حديث على أنه اختلف هو وعثمان في المتعة بعسفان, فقال علي: (ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -ﷺ- تنهى عنه) متفق عليه وللنسائي وقال علي لعثمان: (ألم تسمع رسول الله -ﷺ- تمتع؟ قال: بلى) وعن ابن عمر قال: (تمتع رسول الله -ﷺ- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج) وعنه أن حفصة قالت لرسول الله -ﷺ- (ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي, وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) متفق عليهما وقال سعد: صنعها رسول الله -ﷺ- وصنعناها معه وهذه الأحاديث راجحة لأن رواتها أكثر وأعلم بالنبي -ﷺ- ولأن النبي -ﷺ- أخبر بالمتعة عن نفسه في حديث حفصة, فلا تعارض بظن غيره ولأن عائشة كانت متمتعة بغير خلاف وهي مع النبي -ﷺ- ولا تحرم إلا بأمره ولم يكن ليأمرها بأمر, ثم يخالف إلى غيره ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث بأن يكون النبي -ﷺ- أحرم بالعمرة ثم لم يحل منها لأجل هديه, حتى أحرم بالحج فصار قارنا وسماه من سماه مفردا لأنه اشتغل بأفعال الحج وحدها, بعد فراغه من أفعال العمرة فإن الجمع بين الأحاديث مهما أمكن أولى من حملها على التعارض الوجه الثاني في الجواب أن النبي -ﷺ- قد أمر أصحابه بالانتقال إلى المتعة عن الإفراد والقران, ولا يأمرهم إلا بالانتقال إلى الأفضل فإنه من المحال أن ينقلهم من الأفضل إلى الأدنى وهو الداعي إلى الخير, الهادي إلى الفضل ثم أكد ذلك بتأسفه على فوات ذلك في حقه وأنه لا يقدر على انتقاله وحله, لسوقه الهدي وهذا ظاهر الدلالة الثالث أن ما ذكرناه قول النبي -ﷺ- وهم يحتجون بفعله, وعند التعارض يجب تقديم القول لاحتمال اختصاصه بفعله دون غيره كنهيه عن الوصال مع فعله له, ونكاحه بغير ولي ولا شهود مع قوله: (لا نكاح إلا بولي) فإن قيل: فقد قال أبو ذر: كانت متعة الحج لأصحاب محمد -ﷺ- خاصة رواه مسلم قلنا: هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والإجماع وقول من هو خير منه وأعلم أما الكتاب فقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} وهذا عام وأجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار, وإنما اختلفوا في فضله وأما السنة فروى سعيد حدثنا هشيم, أنبأنا حجاج عن عطاء عن جابر (أن سراقة بن مالك سأل النبي -ﷺ-, المتعة لنا خاصة أو هي للأبد؟ فقال: بل هي للأبد) وفي لفظ قال: (ألعامنا أو للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) وفي حديث جابر الذي رواه مسلم في صفة حج النبي -ﷺ- نحو هذا, ومعناه والله أعلم أن أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع, ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فبين النبي -ﷺ- أن الله تعالى قد شرع العمرة في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة وقال طاوس: كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور, ويقولون: إذا انفسخ صفر وبرا الدبر وعفا الأثر, حلت العمرة لمن اعتمر فلما كان الإسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة رواه سعيد وقد خالف أبا ذر علي وسعد, وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين, وسائر الصحابة وسائر المسلمين قال عمران: (تمتعنا مع رسول الله -ﷺ- ونزل فيه القرآن, ولم ينهنا عنه رسول الله -ﷺ- ولم ينسخها شيء) فقال فيها رجل برأيه ما شاء متفق عليه وقال سعد بن أبي وقاص: (فعلناها مع رسول الله -ﷺ- - يعني المتعة) - وهذا يومئذ كافر بالعرش يعني الذي نهى عنها والعرش: بيوت مكة وقال أحمد حين ذكر له حديث أبي ذر: أفيقول بهذا أحد, المتعة في كتاب الله وقد أجمع المسلمون على جوازها فإن قيل: فقد روى أبو داود بإسناده عن سعيد بن المسيب (أن رجلا من أصحاب رسول الله -ﷺ- أتى عمر, فشهد عنده أنه سمع رسول الله -ﷺ- ينهى عن العمرة قبل الحج) قلنا: هذا حاله في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع كحال حديث أبي ذر بل هو أدنى حالا, فإن في إسناده مقالا فإن قيل: فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية قلنا: فقد أنكر عليهم علماء الصحابة نهيهم عنها, وخالفوهم في فعلها والحق مع المنكرين عليهم دونهم وقد ذكرنا إنكار علي على عثمان, واعتراف عثمان له وقول عمران بن حصين منكرا لنهي من نهى وقول سعد عائبا على معاوية نهيه عنها, وردهم عليهم بحجج لم يكن لهم جواب عنها بل قد ذكر بعض من نهى عنها في كلامه ما يرد نهيه, فقال عمر: والله إني لأنهاكم عنها وإنها لفي كتاب الله وقد صنعها رسول الله -ﷺ- ولا خلاف في أن من خالف كتاب الله وسنة رسوله, ونهى عما فيهما حقيق بأن لا يقبل نهيه ولا يحتج به, مع أنه قد سئل سالم بن عبد الله بن عمر أنهى عمر عن المتعة؟ قال: لا والله ما نهى عنها عمر, ولكن قد نهى عثمان وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل: إنك تخالف أباك قال: إن عمر لم يقل الذي يقولون ولما نهى معاوية عن المتعة, أمرت عائشة حشمها ومواليها أن يهلوا بها فقال معاوية: من هؤلاء؟ فقيل: حشم أو موالي عائشة فأرسل إليها: ما حملك على ذلك؟ قالت: أحببت أن يعلم أن الذي قلت ليس كما قلت وقيل لابن عباس: إن فلانا ينهى عن المتعة قال: انظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيه, فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجدوها فقد صدق فأي الفريقين أحق بالاتباع وأولى بالصواب, الذين معهم كتاب الله وسنة رسوله أم الذين خالفوهما؟ ثم قد ثبتت عن النبي -ﷺ- الذي قوله حجة على الخلق أجمعين فكيف يعارض بقول غيره؟ قال سعيد بن جبير, عن ابن عباس: قال: (تمتع النبي -ﷺ-) فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول قال النبي -ﷺ- ويقولون نهى عنها أبو بكر وعمر وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها, فقال: إنك تخالف أباك فقال: عمر لم يقل الذي يقولون فلما أكثروا عليه قال: أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر؟ روى الأثرم هذا كله. فصل:
فمن أراد الإحرام بعمرة, فالمستحب أن يقول: اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني ومحلي حيث تحبسني فإنه يستحب للإنسان النطق بما أحرم به, ليزول الالتباس فإن لم ينطق بشيء واقتصر على مجرد النية, كفاه في قول إمامنا ومالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بمجرد النية حتى تنضاف إليها التلبية, أو سوق الهدي لما روى خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه عن رسول الله -ﷺ- قال: (جاءني جبريل, فقال: يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) رواه النسائي وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح ولأنها عبادة ذات تحريم وتحليل, فكان لها نطق واجب كالصلاة ولأن الهدي والأضحية لا يجبان بمجرد النية كذلك النسك ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب, فلم يكن في أولها كالصيام والخبر المراد به الاستحباب, فإن منطوقه رفع الصوت ولا خلاف في أنه غير واجب فما هو من ضرورته أولى, ولو وجب النطق لم يلزم كونه شرطا فإن كثيرا من واجبات الحج غير مشترطة فيه, والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف الحج والعمرة وأما الهدي والأضحية فإيجاب مال, فأشبه النذر بخلاف الحج فإنه عبادة بدنية فعلى هذا لو نطق بغير ما نواه, نحو أن ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس, انعقد ما نواه دون ما لفظ به قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا وذلك لأن الواجب النية وعليها الاعتماد, واللفظ لا عبرة به فلم يؤثر كما لا يؤثر اختلاف النية فيما يعتبر له اللفظ دون النية. فصل:
فإن لبى, أو ساق الهدي من غير نية لم ينعقد إحرامه لأن ما اعتبرت له النية لم ينعقد بدونها, كالصوم والصلاة والله أعلم. مسألة:
قال: [ ويشترط فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن حبس حل من الموضع الذي حبس فيه ولا شيء عليه ] يستحب لمن أحرم بنسك, أن يشترط عند إحرامه فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني ويفيد هذا الشرط شيئين: أحدهما, أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة, ونحوه أن له التحلل والثاني أنه متى حل بذلك, فلا دم عليه ولا صوم وممن روي عنه أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر وعلي وابن مسعود, وعمار وذهب إليه عبيدة السلماني وعلقمة والأسود, وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح, وعطاء بن يسار وعكرمة والشافعي إذ هو بالعراق وأنكره ابن عمر, وطاوس وسعيد بن جبير والزهري, ومالك وأبو حنيفة وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار واحتجوا بأن ابن عمر كان ينكر الاشتراط, ويقول: حسبكم سنة نبيكم -ﷺ- ولأنها عبادة تجب بأصل الشرع فلم يفد الاشتراط فيها كالصوم والصلاة ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي -ﷺ- على ضباعة بنت الزبير, فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال النبي -ﷺ-: حجي, واشترطي أن محلي حيث حبستني) متفق عليه وعن ابن عباس (أن ضباعة أتت النبي -ﷺ- فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ فقال: قولي لبيك اللهم لبيك, ومحلي من الأرض حيث تحبسني فإن لك على ربك ما استثنيت) رواه مسلم ولا قول لأحد مع قول رسول الله -ﷺ- فكيف يعارض بقول ابن عمر ولو لم يكن فيه حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرنا قوله من فقهاء الصحابة, أولى من قول ابن عمر وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه, يقوم مقامه لأن المقصود المعنى والعبارة إنما تعتبر لتأدية المعنى قال إبراهيم: خرجنا مع علقمة وهو يريد العمرة, فقال: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت وإلا فلا حرج على وكان شريح يشترط: اللهم قد عرفت نيتي وما أريد, فإن كان أمرا تتمه فهو أحب إلي وإلا فلا حرج علي ونحوه عن الأسود وقالت عائشة لعروة: قل اللهم إني أريد الحج, وإياه نويت فإن تيسر وإلا فعمرة ونحوه عن عميرة بن زياد. فصل:
فإن نوى الاشتراط, ولم يتلفظ به احتمل أن يصح لأنه تابع لعقد الإحرام والإحرام ينعقد بالنية, فكذلك تابعه واحتمل أن يعتبر فيه القول لأنه اشتراط فاعتبر فيه القول, كالاشتراط في النذر والوقف والاعتكاف ويدل عليه ظاهر قول النبي -ﷺ- في حديث ابن عباس: (قولي محلي من الأرض حيث تحبسني). مسألة:
قال: [ وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج ويشترط ] الإفراد: هو الإحرام بالحج مفردا من الميقات, وهو أحد الأنساك الثلاثة والحكم في إحرامه كالحكم في إحرام العمرة سواء, فيما يجب ويستحب وحكم الاشتراط. مسألة:
قال: [ وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج ويشترط ] معنى القران: الإحرام بالعمرة والحج معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج وهو أحد الأنساك المشروعة, الثابتة بالنص والإجماع وقد روي أن معاوية قال لأصحاب النبي -ﷺ-: هل تعلمون أن رسول الله -ﷺ- نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: أما هذا فلا قال: إنها معهن - يعني مع المنهيات - ولكنكم نسيتم وهذا مما لم يوافق الصحابة معاوية عليه مع ما يتضمنه من مخالفة الأحاديث الصحيحة والإجماع قال الخطابي: ويشبه أن يكون ذهب إلى تأويل قوله عليه السلام, حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي وكان قارنا, فحمله معاوية على النهي) والله أعلم. فصل:
ويستحب أن يعين ما أحرم به وبه قال مالك وقال الشافعي في أحد قوليه: الإطلاق أولى لما روى طاوس, قال: خرج النبي -ﷺ- من المدينة لا يسمى حجا ينتظر القضاء, فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي, أن يجعلوها عمرة ولأن ذلك أحوط لأنه لا يأمن الإحصار أو تعذر فعل الحج عليه فيجعلها عمرة, ولنا أن النبي -ﷺ- أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين فقال: (من شاء منكم أن يهل بحج وعمرة, فليهل ومن أراد أن يهل بحج فليهل, ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل) والنبي -ﷺ- وأصحابه إنما أحرموا بمعين على ما ذكرنا في الأحاديث الصحيحة, وأصحاب النبي -ﷺ- الذين كانوا معه في حجته يطلعون على أحواله ويقتدون بأفعاله, ويقفون على ظاهر أمره وباطنه أعلم به من طاوس وحديثه مرسل, والشافعي لا يحتج بالمراسيل المفردة فكيف يصير إلى هذا مع مخالفته للروايات المستفيضة المتفق عليها, والاحتياط ممكن بأن يجعلها عمرة فإن شاء كان متمتعا, وإن شاء أدخل الحج عليها فكان قارنا. فصل:
فإن أطلق الإحرام فنوى الإحرام بنسك, ولم يعين حجا ولا عمرة صح وصار محرما لأن الإحرام يصح مع الإبهام, فصح مع الإطلاق فإذا أحرم مطلقا فله صرفه إلى أي الأنساك شاء لأن له أن يبتدئ الإحرام بما شاء منها فكان له صرف المطلق إلى ذلك, والأولى صرفه إلى العمرة لأنه إن كان في غير أشهر الحج فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع وإن كان في أشهر الحج فالعمرة أولى لأن التمتع أفضل وقد قال أحمد, -رحمه الله-: يجعله عمرة لأن النبي -ﷺ- أمر أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله -ﷺ- أن يجعله عمرة كذا ها هنا. فصل:
ويصح إبهام الإحرام وهو أن يحرم بما أحرم به فلان لما روى أبو موسى, قال: قدمت على رسول الله -ﷺ- وهو منيخ بالبطحاء فقال لي: (بم أهللت؟ قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله -ﷺ- قال: أحسنت فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: حل) متفق عليه وروى جابر, وأنس أن عليا قدم من اليمن على رسول الله -ﷺ- فقال له النبي -ﷺ-: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله -ﷺ-) قال جابر في حديثه قال: (فاهد, وامكث حراما) وقال أنس: قال رسول الله -ﷺ-: (لولا أن معي هديا لحللت) متفق عليهما ثم لا يخلو من أبهم إحرامه من أحوال أربعة: أحدها أن يعلم ما أحرم به فلان فينعقد إحرامه بمثله فإن عليا قال له النبي -ﷺ-: (ماذا قلت حين فرضت الحج؟) قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله -ﷺ- قال: فإن معي الهدي, فلا تحل الثاني أن لا يعلم ما أحرم به فلان فيكون حكمه حكم الناسي, على ما سنبينه الثالث أن لا يكون فلان أحرم فيكون إحرامه مطلقا, حكمه حكم الفصل الذي قبله الرابع أن لا يعلم هل أحرم فلان أو لا فحكمه حكم من لم يحرم لأن الأصل عدم إحرامه, فيكون إحرامه ها هنا مطلقا يصرفه إلى ما شاء فإن صرفه قبل الطواف, فحسن وإن طاف قبل صرفه لم يعتد بطوافه لأنه طاف لا في حج ولا عمرة. فصل:
إذا أحرم بنسك ، ثم نسيه قبل الطواف ، فله صرفه إلى أي الأنساك شاء ، فإنه إن صرفه إلى عمرة ، وكان المنسي عمرة ، فقد أصاب ، وإن كان حجا مفردا أو قرانا فله فسخهما إلى العمرة ، على ما سنذكره ، وإن صرفه إلى القران ، وكان المنسي قرانا ، فقد أصاب ، وإن كان عمرة ، فإدخال الحج على العمرة جائز قبل الطواف ، فيصير قارنا ، وإن كان مفردا ، لغا إحرامه بالعمرة ، وصح بالحج ، وسقط فرضه ، وإن صرفه إلى الإفراد ، وكان مفردا ، فقد أصاب ، وإن كان متمتعا ، فقد أدخل الحج على العمرة ، وصار قارنا في الحكم ، وفيما بينه وبين الله تعالى ، وهو يظن أنه مفرد ، وإن كان قارنا فكذلك ، والمنصوص عن أحمد ، أنه يجعله عمرة . قال القاضي : هذا على سبيل الاستحباب ؛ لأنه إذا استحب ذلك في حال العلم ، فمع عدمه أولى . وقال أبو حنيفة : يصرفه إلى القران . وهو قول الشافعي في الجديد ، وقال في القديم : يتحرى ، فيبني على غالب ظنه ؛ لأنه من شرائط العبادة ، فيدخله التحري كالقبلة . ومنشأ الخلاف على فسخ الحج إلى العمرة ، فإنه جائز عندنا ، وغير جائز عندهم ، فعلى هذا إن صرفه إلى المتعة فهو متمتع . عليه دم المتعة ، ويجزئه عن الحج والعمرة جميعا . وإن صرفه إلى إفراد أو قران ، لم يجزئه عن العمرة ، إذ من المحتمل أن يكون المنسي حجا مفردا ، وليس له إدخال العمرة على الحج ، فتكون صحة العمرة مشكوكا فيها ، فلا تسقط من ذمته بالشك ، ولا دم عليه لذلك ؛ فإنه لم يثبت حكم القران يقينا ، ولا يجب الدم مع الشك في سببه . ويحتمل أن يجب . فأما إن شك بعد الطواف ، لم يجز صرفه إلا إلى العمرة ؛ لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز . فإن صرفه إلى حج أو قران ، فإنه يتحلل بفعل الحج ولا يجزئه عن واحد من النسكين ؛ لأنه يحتمل أن يكون المنسي عمرة ، فلم يصح إدخال الحج عليها بعد طوافها ، ويحتمل أن يكون حجا ، وإدخال العمرة عليه غير جائز ، فلم يجزئه واحد منهما مع الشك ، ولا دم عليه ؛ للشك فيما يوجب الدم ، ولا قضاء عليه ، للشك فيما يوجبه . وإن شك وهو في الوقوف بعد أن طاف وسعى ، جعله عمرة ، فقصر ، ثم أحرم بالحج ، فإنه إن كان المنسي عمرة فقد أصاب وكان متمتعا ، وإن كان إفرادا أو قرانا لم ينفسخ بتقصيره ، وعليه دم بكل حال ، فإنه لا يخلو من أن يكون متمتعا عليه دم المتعة ، أو غير متمتع فيلزمه دم لتقصيره ، وإن شك ، ولم يكن طاف وسعى ، جعله قرانا ؛ لأنه إن كان قارنا فقد أصاب ، وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة ، وصار قارنا ، وإن كان مفردا لغا إحرامه بالعمرة ، وصح إحرامه بالحج ، وإن صرفه إلى الحج جاز أيضا ، ولا يجزئه عن العمرة في هذه المواضع ؛ لاحتمال أن يكون مفردا ، وإدخال العمرة على الحج غير جائز ، ولا دم عليه ؛ للشك في وجود سببه . فصل:
وإن أحرم بحجتين أو عمرتين, انعقد بإحداهما ولغت الأخرى وبه قال مالك والشافعي, وقال أبو حنيفة ينعقد بهما وعليه قضاء إحداهما لأنه أحرم بها, ولم يتمها ولنا أنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما فلم يصح الإحرام بهما, كالصلاتين وعلى هذا لو أفسد حجه أو عمرته لم يلزمه إلا قضاؤها؟ وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معا بناء على صحة إحرامه بهما. مسألة:
قال: [ فإذا استوى على راحلته لبى ] التلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي -ﷺ- فعلها, وأمر برفع الصوت بها وأقل أحوال ذلك الاستحباب وسئل النبي -ﷺ- (أي الحج أفضل؟ قال: العج, والثج) وهذا حديث غريب ومعنى العج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدماء بالذبح والنحر وروى سهل بن سعد قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ما من مسلم يلبي, إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وهاهنا) رواه ابن ماجه وليست واجبة, وبهذا قال الحسن بن حي والشافعي وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب بتركها دم وعن الثوري, وأبي حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها, كالتكبير للصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} قال ابن عباس: الإهلال وعن عطاء, وطاوس وعكرمة: هو التلبية ولأن النسك عبادة ذات إحرام وإحلال فكان فيها ذكر واجب, كالصلاة ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج, كسائر الأذكار وفارق الصلاة فإن النطق يجب في آخرها فوجب في أولها والحج بخلافه ويستحب البداية بها إذا استوى على راحلته لما روى أنس, وابن عمر أن النبي -ﷺ- (لما ركب راحلته واستوت به, أهل) رواهما البخاري وقال ابن عباس: أوجب رسول الله -ﷺ- الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة, أهل يعني لبى ومعنى الإهلال رفع الصوت بالتلبية من قولهم: استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه أنهم كانوا إذا رئي الهلال صاحوا فيقال: استهل الهلال ثم قيل لكل صائح مستهل, وإنما يرفع الصوت بالتلبية. فصل:
ويرفع صوته بالتلبية لما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية) رواه النسائي وأبو داود, والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقال أنس: سمعتهم يصرخون بهما صراخا وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله -ﷺ- لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية وقال سالم: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية, فلا يأتي الروحاء حتى يصحل صوته ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته. مسألة:
قال: [ فيقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك ] هذه تلبية رسول الله -ﷺ- جاء في الصحيحين عن ابن عمر أن (تلبية رسول الله -ﷺ-: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ورواه البخاري عن عائشة, ومسلم عن جابر والتلبية مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك, ولا شارد عليك هذا أو ما أشبهه وثنوها وكرروها لأنهم أرادوا إقامة بعد إقامة كما قالوا: حنانيك أي رحمة بعد رحمة, أو رحمة مع رحمة أو ما أشبهه وقال جماعة من أهل العلم: معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج وروي عن ابن عباس قال: (لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت, قيل له: أذن في الناس بالحج فقال: رب وما يبلغ صوتي قال: أذن وعلي البلاغ فنادى إبراهيم: أيها الناس كتب عليكم الحج قال فسمعه ما بين السماء والأرض) أفلا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون ويقولون: لبيك إن الحمد بكسر الألف نص عليه أحمد والفتح جائز, إلا أن الكسر أجود قال ثعلب: من قال أن بفتحها فقد خص ومن قال بكسر الألف فقد عم يعني أن من كسر جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لأن الحمد لك, أي لهذا السبب. فصل:
ولا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله -ﷺ- ولا تكره ونحو ذلك قال الشافعي وابن المنذر وذلك لقول جابر: فأهل رسول الله -ﷺ- بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك) وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله -ﷺ- تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله -ﷺ- ويزيد مع هذا: لبيك, لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك, والرغباء إليك والعمل متفق عليه وزاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوبا ومرغوبا إليك لبيك هذا معناه رواه الأثرم ويروى أن أنسا كان يزيد: لبيك حقا حقا, تعبدا ورقا وهذا يدل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لأن النبي -ﷺ- لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها وقد روي أن سعدا سمع بعض بني أخيه وهو يلبي: يا ذا المعارج فقال: إنه لذو المعارج, وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله -ﷺ- فصل:
ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته قال أحمد: إن شئت لبيت بالحج وإن شئت لبيت بالحج والعمرة وإن شئت بعمرة, وإن لبيت بحج وعمرة بدأت بالعمرة فقلت: لبيك بعمرة وحجة وقال أبو الخطاب: لا يستحب ذلك وهو اختيار ابن عمر وقول الشافعي لأن جابرا قال: ما سمى النبي -ﷺ- في تلبيته حجا, ولا عمرة وسمع ابن عمر رجلا يقول: لبيك بعمرة فضرب صدره وقال: تعلمه ما في نفسك ولنا ما روى أنس قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (لبيك عمرة وحجا) وقال جابر: (قدمنا مع النبي -ﷺ- ونحن نقول: لبيك بالحج) وقال ابن عباس: (قدم رسول الله -ﷺ- وأصحابه, وهم يلبون بالحج) وقال ابن عمر: (بدأ رسول الله -ﷺ- فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج) متفق على هذه الأحاديث وقال أنس: (سمعتهم يصرخون بهما صراخا) رواه البخاري وقال أبو سعيد: (خرجنا مع النبي -ﷺ- نصرخ بالحج فحللنا فلما كان يوم التروية لبينا بالحج, وانطلقنا إلى منى) وهذه الأحاديث أصح وأكثر من حديثهم وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فإن النسائي روى بإسناده عن (الصبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعا, ثم ذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك) وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس فإن النية محلها القلب والله أعلم بها. فصل:
وإن حج عن غيره, كفاه مجرد النية عنه قال أحمد: لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه وإن ذكره في التلبية فحسن قال أحمد: إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان ثم لا يبالي أن لا يقول بعد وذلك لقول النبي -ﷺ- للذي سمعه يلبي عن شبرمة: (لب عن نفسك, ثم لب عن شبرمة) ومتى أتى بهما جميعا بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد في مواضع وذلك لقول أنس إن النبي -ﷺ- قال: (لبيك بعمرة وحج). مسألة:
قال: [ ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا أو هبط واديا, وإذا التقت الرفاق وإذا غطى رأسه ناسيا وفي دبر الصلوات المكتوبة ] يستحب استدامة التلبية, والإكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ما من مسلم يضحي لله, يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه) وهي أشد استحبابا في المواضع التي سمى الخرقي لما روى جابر, قال: (كان رسول الله -ﷺ- يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا, وفي أدبار الصلوات المكتوبة ومن آخر الليل) وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا هبط واديا, وإذا علا نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته وبهذا قال الشافعي وقد كان قبل يقول مثل قول مالك: لا يلبي عند اصطدام الرفاق وقول النخعي يدل على أن السلف, رحمهم الله كانوا يستحبون ذلك والحديث يدل عليه أيضا. فصل:
ويجزئ من التلبية في دبر الصلاة مرة واحدة قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ما شيء يفعله العامة, يلبون في دبر الصلاة ثلاث مرات؟ فتبسم وقال: ما أدري من أين جاءوا به؟ قلت: أليس يجزئه مرة واحدة؟ قال: بلى وهذا لأن المروي التلبية مطلقا من غير تقييد وذلك يحصل بمرة واحدة, وهكذا التكبير في أدبار الصلوات في أيام الأضحى وأيام التشريق ولا بأس بالزيادة على مرة لأن ذلك زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثا حسن فإن الله وتر يحب الوتر. فصل:
ولا يستحب رفع الصوت بالتلبية في الأمصار ولا في مساجدها, إلا في مكة والمسجد الحرام لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال: إن هذا لمجنون, إنما التلبية إذا برزت وهذا قول مالك وقال الشافعي: يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته أخذا من عموم الحديث ولنا, قول ابن عباس ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت فيها عاما إلا الإمام خاصة, فوجب إبقاؤها على عمومها فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنها محل النسك وكذلك المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم, كمسجد منى وفي عرفات أيضا. فصل:
ولا يلبي بغير العربية إلا أن يعجز عنها لأنه ذكر مشروع, فلا يشرع بغير العربية كالأذان والأذكار المشروعة في الصلاة. فصل:
ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم وبه يقول ابن عباس وعطاء بن السائب, وربيعة بن عبد الرحمن وابن أبي ليلى وداود, والشافعي وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال: لا يلبي حول البيت وقال ابن عيينة: ما رأينا أحدا يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب وذكر أبو الخطاب أنه لا يلبي وهو قول للشافعي لأنه مشتغل بذكر يخصه فكان أولى ولنا, أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت, ويمكن الجمع بين التلبية والذكر المشروع في الطواف ويكره له رفع الصوت بالتلبية لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم وأذكارهم وإذا فرغ من التلبية صلى على النبي -ﷺ- ودعا بما أحب من خير الدنيا والآخرة لما روى الدارقطني, بإسناده عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله -ﷺ- (كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه, واستعاذه برحمته من النار) وقال القاسم بن محمد: يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على محمد -ﷺ- وجاء في التفسير في تأويل قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} لا أذكر إلا ذكرت معي ولأن أكثر المواضع التي شرع فيها ذكر الله تعالى, شرع فيها ذكر نبيه عليه السلام كالأذان والصلاة. فصل:
ولا بأس أن يلبي الحلال وبه قال الحسن والنخعي, وعطاء بن السائب والشافعي وأبو ثور, وابن المنذر وأصحاب الرأي وكرهه مالك ولنا أنه ذكر يستحب للمحرم, فلم يكره لغيره كسائر الأذكار. مسألة:
قال: [ والمرأة يستحب لها أن تغتسل عند الإحرام وإن كانت حائضا أو نفساء (لأن النبي -ﷺ- أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل) ] وجملة ذلك أن الاغتسال مشروع للنساء عند الإحرام, كما يشرع للرجال لأنه نسك وهو في حق الحائض والنفساء آكد لورود الخبر فيهما قال جابر: حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر, فأرسلت إلى رسول الله -ﷺ-: كيف أصنع؟ قال: (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي) رواه مسلم وعن ابن عباس, عن النبي -ﷺ- قال: (النفساء والحائض إذا أتيا على الوقت يغتسلان, ويحرمان ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت) رواه أبو داود وأمر النبي -ﷺ- عائشة أن تغتسل لإهلال الحج, وهي حائض وإن رجت الحائض الطهر قبل الخروج من الميقات أو النفساء استحب لها تأخير الاغتسال حتى تطهر ليكون أكمل لها, فإن خشيت الرحيل قبله اغتسلت وأحرمت. مسألة:
قال: [ ومن أحرم وعليه قميص خلعه, ولم يشقه ] هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة, وأبي صالح ذكوان أنه يشق ثيابه لئلا يتغطى رأسه حين ينزع القميص منه ولنا ما روى يعلى بن أمية, أن رجلا أتى النبي -ﷺ- فقال: يا رسول الله (كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي -ﷺ- ساعة ثم سكت, فجاءه الوحي فقال له النبي -ﷺ-: أما الطيب الذي بك فاغسله وأما الجبة فانزعها, ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك) متفق عليه وهذا لفظ مسلم قال عطاء: كنا قبل أن نسمع هذا الحديث نقول في من أحرم وعليه قميص أو جبة فليخرقها عنه فلما بلغنا هذا الحديث أخذنا به, وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك ولأن في شق الثوب إضاعة ماليته وقد نهى النبي -ﷺ- عن إضاعة المال. فصل:
وإذا نزع في الحال فلا فدية عليه لأن النبي -ﷺ- لم يأمر الرجل بفدية وإن استدام اللبس بعد إمكان نزعه, فعليه الفدية لأن استدامة اللبس محرم كابتدائه بدليل أن النبي -ﷺ- أمر الرجل بنزع جبته وإنما لم يأمره بفدية لما مضى فيما نرى لأنه كان جاهلا بالتحريم, فجرى مجرى الناسي. مسألة:
قال: [ وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ] هذا قول ابن مسعود, وابن عباس وابن عمر وابن الزبير, وعطاء ومجاهد والحسن, والشعبي والنخعي وقتادة, والثوري وأصحاب الرأي وروي عن عمر وابنه وابن عباس: أشهر الحج شوال, وذو القعدة وذو الحجة وهو قول مالك لأن أقل الجمع ثلاثة وقال الشافعي: آخر أشهر الحج ليلة النحر وليس يوم النحر منها لقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} ولا يمكن فرضه بعد ليلة النحر ولنا, قول النبي -ﷺ-: (يوم الحج الأكبر يوم النحر) رواه أبو داود فكيف يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة ولأن يوم النحر فيه ركن الحج, وهو طواف الزيارة وفيه كثير من أفعال الحج منها: رمي جمرة العقبة, والنحر والحلق والطواف, والسعي والرجوع إلى منى وما بعده ليس من أشهره لأنه ليس بوقت لإحرامه, ولا لأركانه فهو كالمحرم ولا يمتنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين, وبعض الثالث فقد قال بعض أهل العربية: عشرون جمع عشر وإنما هي عشران وبعض الثالث, وقال الله تعالى {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} والقرء الطهر عنده ولو طلقها في طهر احتسبت ببقيته وتقول العرب: ثلاث خلون من ذي الحجة وهم في الثالثة وقوله: {فرض فيهن الحج} أي في أكثرهن, والله أعلم. باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له مسألة:
قال أبو القاسم: [ ويتوقى في إحرامه ما نهاه الله عنه من الرفث وهو الجماع والفسوق, وهو السباب والجدال وهو المراء ] يعني بقوله "ما نهاه الله عنه" قوله سبحانه: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وهذا صيغته صيغة النفي أريد به النهي, كقوله سبحانه: {لا تضار والدة بولدها} والرفث: هو الجماع روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعطاء بن أبي رباح, وعطاء بن يسار ومجاهد والحسن, والنخعي والزهري وقتادة وروي عن ابن عباس, أنه قال: الرفث: غشيان النساء والتقبيل والغمز, وأن يعرض لها بالفحش من الكلام وقال أبو عبيدة: الرفث لغا الكلام وأنشد قول العجاج: عن اللغا ورفث التكلم وقيل: الرفث هو ما يكنى عنه من ذكر الجماع وروي عن ابن عباس أنه أنشد بيتا فيه التصريح بما يكنى عنه من الجماع وهو محرم فقيل له في ذلك, فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء وفي لفظ: ما قيل من ذلك عند النساء وكل ما فسر به الرفث ينبغي للمحرم أن يجتنبه إلا أنه في الجماع أظهر لما ذكرنا من تفسير الأئمة له بذلك ولأنه قد جاء في الكتاب في موضع آخر, وأريد به الجماع قال الله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} فأما الفسوق: فهو السباب لقول النبي -ﷺ-: (سباب المسلم فسوق) متفق عليه وقيل: الفسوق المعاصي روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر, وعطاء وإبراهيم وقالوا أيضا: الجدال المراء وقال ابن عباس: هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه والمحرم ممنوع من ذلك كله قال النبي -ﷺ-: (من حج, فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه, كيوم ولدته أمه) متفق عليه وقال مجاهد في قوله تعالى: {ولا جدال في الحج} أي: لا مجادلة ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة وقول الجمهور أولى. مسألة:
قال: [ ويستحب له قلة الكلام, إلا فيما ينفع وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء ] وجملة ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال, صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل, فإن من كثر كلامه كثر سقطه وفي الحديث عن أبي هريرة, عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح متفق عليه وعنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) رواه ابن عيينة, عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وروي في "المسند", عن الحسين بن علي عن النبي -ﷺ- وقال أبو داود: أصول السنن أربعة أحاديث هذا أحدها وهذا في حال الإحرام أشد استحبابا لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز وجل, فيشبه الاعتكاف وقد احتج أحمد على ذلك بأن شريحا, -رحمه الله- كان إذا أحرم كأنه حية صماء فيستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى, أو قراءة القرآن أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر, أو تعليم لجاهل أو يأمر بحاجته أو يسكت, وإن تكلم بما لا مأثم فيه أو أنشد شعرا لا يقبح فهو مباح, ولا يكثر فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان على ناقة له وهو محرم, فجعل يقول: كأن راكبها غصن بمروحة ** إذا تدلت به أو شارب ثمل الله أكبر الله أكبر وهذا يدل على الإباحة والفضيلة الأول. مسألة:
قال: [ ولا يتفلى المحرم, ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ] اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- , في إباحة قتل القمل فعنه إباحته لأنه من أكثر الهوام أذى فأبيح قتله كالبراغيث وسائر ما يؤذي, وقول النبي -ﷺ-: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم) يدل بمعناه على إباحة قتل كل ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم وعنه أن قتله محرم وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه يترفه بإزالته عنه فحرم كقطع الشعر ولأن (النبي -ﷺ- رأى كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه, فقال له: احلق رأسك) فلو كان قتل القمل أو إزالته مباحا لم يكن كعب ليتركه حتى يصير كذلك أو لكان النبي -ﷺ- أمره بإزالته خاصة والصئبان كالقمل في ذلك, ولا فرق بين قتل القمل أو إزالته بإلقائه على الأرض أو قتله بالزئبق, فإن قتله لم يحرم لحرمته لكن لما فيه من الترفه فعم المنع إزالته كيفما كانت ولا يتفلى, فإن التفلي عبارة عن إزالة القمل وهو ممنوع منه ويجوز له حك رأسه ويرفق في الحك, كي لا يقطع شعرا أو يقتل قملة فإن حك فرأى في يده شعرا, أحببنا أن يفديه احتياطا ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قلعه قال بعض أصحابنا: إنما اختلفت الرواية في القمل الذي في شعره فأما ما ألقاه من ظاهر بدنه, فلا فدية فيه. فصل:
فإن خالف وتفلى أو قتل قملا فلا فدية فيه فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه, قد أذهب قملا كثيرا ولم يجب عليه لذلك شيء وإنما وجبت الفدية بحلق الشعر, ولأن القمل لا قيمة له فأشبه البعوض والبراغيث ولأنه ليس بصيد, ولا هو مأكول وحكي عن ابن عمر قال: هي أهون مقتول وسئل ابن عباس عن محرم ألقى قملة, ثم طلبها فلم يجدها فقال: تلك ضالة لا تبتغى وهذا قول طاوس وسعيد بن جبير وعطاء, وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد في من قتل قملة قال: يطعم شيئا فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزاه, سواء قتل كثيرا أو قليلا وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق: تمرة فما فوقها وقال مالك: حفنة من طعام وروي ذلك عن ابن عمر وقال عطاء: قبضة من طعام وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قلناه فإنهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به. فصل:
ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وبدنه برفق, فعل ذلك عمر وابنه ورخص فيه علي, وجابر وسعيد بن جبير والشافعي, وأبو ثور وأصحاب الرأي وكره مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه ولعله ذهب إلى أن ذلك ستر له, والصحيح أنه لا بأس بذلك وليس ذلك بستر ولهذا لا يقوم مقام السترة في الصلاة, وقد روي عن ابن عباس قال: ربما قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة: تعال أباقيك أينا أطول نفسا في الماء وقال: ربما قامست عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن محرمون رواهما سعيد ولأنه ليس بستر معتاد أشبه صب الماء عليه, أو وضع يديه عليه وقد روى عبد الله بن حنين قال: (أرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فأتيته وهو يغتسل, فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك: كيف كان رسول الله -ﷺ- يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه, ثم قال لإنسان يصب عليه الماء: صب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر, ثم قال: هكذا رأيت رسول الله -ﷺ- يفعل) متفق عليه وأجمع أهل العلم على أن المحرم يغتسل من الجنابة. فصل:
ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقلع الشعر وكرهه جابر بن عبد الله ومالك, والشافعي وأصحاب الرأي فإن فعل فلا فدية عليه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور, وابن المنذر وعن أحمد: عليه الفدية وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال صاحباه: عليه صدقة لأن الخطمي تستلذ رائحته وتزيل الشعث, وتقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس ولنا أن النبي -ﷺ- قال, في المحرم الذي وقصه بعيره: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه, ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) متفق عليه فأمر بغسله بالسدر مع إثبات حكم الإحرام في حقه والخطمي كالسدر ولأنه ليس بطيب, فلم تجب الفدية باستعماله كالتراب وقولهم: تستلذ رائحته ممنوع ثم يبطل بالفاكهة وبعض التراب وإزالة الشعث تحصل بذلك أيضا وقتل الهوام لا يعلم حصوله, ولا يصح قياسه على الورس لأنه طيب ولذلك لو استعمله في غير الغسل أو في ثوب لمنع منه, بخلاف مسألتنا. مسألة:
قال: [ ولا يلبس القمص ولا السراويل ولا البرنس ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القمص, والعمائم والسراويلات والخفاف, والبرانس والأصل في هذا ما روى ابن عمر (أن رجلا سأل رسول الله -ﷺ-: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله -ﷺ-: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات, ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحدا لا يجد نعلين, فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران, ولا الورس) متفق عليه نص النبي -ﷺ- على هذه الأشياء وألحق بها أهل العلم ما في معناها مثل الجبة, والدراعة والثياب وأشباه ذلك فليس للمحرم ستر بدنه بما عمل على قدره, ولا ستر عضو من أعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن والسراويل لبعض البدن, والقفازين لليدين والخفين للرجلين ونحو ذلك, وليس في هذا كله اختلاف قال ابن عبد البر: لا يجوز لباس شيء من المخيط عند جميع أهل العلم وأجمعوا على أن المراد بهذا الذكور دون النساء. مسألة:
قال: [ فإن لم يجد إزارا لبس السراويل, وإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولا يقطعهما, ولا فداء عليه ] لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار, والخفين إذا لم يجد نعلين وبهذا قال عطاء وعكرمة والثوري, ومالك والشافعي وإسحاق, وأصحاب الرأي وغيرهم والأصل فيه ما روى ابن عباس قال: (سمعت النبي -ﷺ- يخطب بعرفات, يقول: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم) متفق عليه وروى جابر عن النبي -ﷺ- مثل ذلك أخرجه مسلم ولا فدية عليه في لبسهما عند ذلك, في قول من سمينا إلا مالكا وأبا حنيفة قالا: على كل من لبس السراويل الفدية لحديث ابن عمر الذي قدمناه ولأن ما وجبت الفدية بلبسه مع وجود الإزار وجبت مع عدمه, كالقميص ولنا خبر ابن عباس وهو صريح في الإباحة, ظاهر في إسقاط الفدية لأنه أمر بلبسه ولم يذكر فدية ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره, فلم تجب به فدية كالخفين المقطوعين وحديث ابن عمر مخصوص بحديث ابن عباس وجابر فأما القميص فيمكنه أن يتزر به من غير لبس ويستتر, بخلاف السراويل. فصل:
وإذا لبس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما, في المشهور عن أحمد ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه قال عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القداح وعن أحمد, أنه يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فإن لبسهما من غير قطع, افتدى وهذا قول عروة بن الزبير ومالك والثوري, والشافعي وإسحاق وابن المنذر, وأصحاب الرأي لما روى ابن عمر عن النبي -ﷺ- أنه قال: (فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين, وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) متفق عليه وهو متضمن لزيادة على حديث ابن عباس, وجابر والزيادة من الثقة مقبولة قال الخطابي: العجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه, وقلت سنة لم تبلغه واحتج أحمد بحديث ابن عباس وجابر: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين) مع قول علي رضي الله عنه: قطع الخفين فساد, يلبسهما كما هما مع موافقة القياس فإنه ملبوس أبيح لعدم غيره فأشبه السراويل, وقطعه لا يخرجه عن حالة الحظر فإن لبس المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح, وفيه إتلاف ماله وقد نهى النبي -ﷺ- عن إضاعته فأما حديث ابن عمر فقد قيل إن قوله: "وليقطعهما" من كلام نافع كذلك رويناه في "أمالي أبي القاسم بن بشران", بإسناد صحيح أن نافعا قال بعد روايته للحديث: وليقطع الخفين أسفل من الكعبين وروى ابن أبي موسى عن صفية بنت أبي عبيد, عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله -ﷺ- رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما) وكان ابن عمر يفتي بقطعهما قالت صفية: فلما أخبرته بهذا رجع وروى أبو حفص, في "شرحه" بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف (أنه طاف وعليه خفان فقال له عمر: والخفان مع القباء فقال: قد لبستهما مع من هو خير منك) يعني رسول الله -ﷺ- ويحتمل أن يكون الأمر بقطعهما منسوخا فإن عمرو بن دينار روى الحديثين جميعا, وقال: انظروا أيهما كان قبل قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري حديث ابن عمر قبل لأنه قد جاء في بعض رواياته قال: (نادى رجل رسول الله -ﷺ- وهو في المسجد, يعني بالمدينة فكأنه كان قبل الإحرام) وفي حديث ابن عباس يقول: سمعت رسول الله -ﷺ- (يخطب بعرفات يقول: من لم يجد نعلين, فليلبس خفين) فيدل على تأخره عن حديث ابن عمر فيكون ناسخا له لأنه لو كان القطع واجبا لبينه للناس إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه, والمفهوم من إطلاق لبسهما لبسهما على حالهما من غير قطع والأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف, وأخذا بالاحتياط. فصل:
فإن لبس المقطوع مع وجود النعل فعليه الفدية, وليس له لبسه نص عليه أحمد وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه لأنه لو كان لبسه محرما وفيه فدية لم يأمر النبي -ﷺ- بقطعهما, لعدم الفائدة فيه وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أن النبي -ﷺ- شرط في إباحة لبسهما عدم النعلين, فدل على أنه لا يجوز مع وجودهما ولأنه مخيط لعضو على قدره فوجبت على المحرم الفدية بلبسه, كالقفازين. فصل:
فأما اللالكة والجمجم ونحوهما, فقياس قول أحمد أنه لا يلبس ذلك فإنه قال: لا يلبس النعل التي لها قيد وهذا أشد من النعل التي لها قيد وقد قال في رأس الخف الصغير: لا يلبسه وذلك لأنه يستر القدم, وقد عمل لها على قدرها فأشبه الخف فإن عدم النعلين كان له لبس ذلك, ولا فدية عليه لأن النبي -ﷺ- أباح لبس الخف عند ذلك فما دون الخف أولى. فصل:
فأما النعل فيباح لبسها كيفما كانت, ولا يجب قطع شيء منها لأن إباحتها وردت مطلقا وروي عن أحمد في القيد في النعل: يفتدي لأننا لا نعرف النعال هكذا وقال: إذا أحرمت فاقطع المحمل الذي على النعال والعقب الذي يجعل للنعل فقد كان عطاء يقول: فيه دم وقال ابن أبي موسى, في "الإرشاد": في القيد والعقب الفدية والقيد: هو السير المعترض على الزمام قال القاضي: إنما كرههما إذا كانا عريضين وهذا هو الصحيح فإنه إذا لم يجب قطع الخفين الساترين للقدمين والساقين فقطع سير النعل أولى أن لا يجب ولأن ذلك معتاد في النعل فلم تجب إزالته, كسائر سيورها ولأن قطع القيد والعقب ربما تعذر معه المشي في النعلين لسقوطهما بزوال ذلك فلم يجب, كقطع القبال. فصل:
وإن وجد نعلا لم يمكنه لبسها فله لبس الخف ولا فدية عليه لأن ما لا يمكن استعماله كالمعدوم, كما لو كانت النعل لغيره أو صغيرة وكالماء في التيمم, والرقبة التي لا يمكنه عتقها ولأن العجز عن لبسها قام مقام العدم في إباحة لبس الخف, فكذلك في إسقاط الفدية والمنصوص أن عليه الفدية لقوله: (من لم يجد نعلين فليلبس الخفين) وهذا واجد. فصل:
وليس للمحرم أن يعقد عليه الرداء ولا غيره, إلا الإزار والهميان وليس له أن يجعل لذلك زرا وعروة ولا يخلله بشوكة ولا إبرة ولا خيط لأنه في حكم المخيط روى الأثرم عن مسلم بن جندب, عن ابن عمر قال: جاء رجل يسأله وأنا معه أخالف بين طرفي ثوبي من ورائي, ثم أعقده؟ وهو محرم فقال ابن عمر: لا تعقد عليه شيئا وعن أبي معبد مولى ابن عباس, أن ابن عباس قال له: يا أبا معبد زر على طيلساني وهو محرم فقال له: كنت تكره هذا قال: إني أريد أن أفتدي ولا بأس أن يتشح بالقميص, ويرتدي به ويرتدي برداء موصل ولا يعقده لأن المنهي عنه المخيط على قدر العضو. فصل:
ويجوز أن يعقد إزاره عليه لأنه يحتاج إليه لستر العورة فيباح, كاللباس للمرأة وإن شد وسطه بالمنديل أو بحبل أو سراويل, جاز إذا لم يعقده قال أحمد في محرم حزم عمامة على وسطه: لا تعقدها ويدخل بعضها في بعض قال طاوس: رأيت ابن عمر يطوف بالبيت وعليه عمامة قد شدها على وسطه, فأدخلها هكذا ولا يجوز أن يشق أسفل إزاره نصفين ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل ولا يلبس الران لأنه في معناه ولأنه معمول على قدر العضو الملبوس فيه, فأشبه الخف. مسألة:
قال: [ ويلبس الهميان ويدخل السيور بعضها في بعض ولا يعقدها ] وجملة ذلك أن لبس الهميان مباح للمحرم, في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب, وعطاء ومجاهد وطاوس والقاسم, والنخعي والشافعي وإسحاق, وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن عبد البر: أجاز ذلك جماعة فقهاء الأمصار متقدموهم ومتأخروهم ومتى أمكنه أن يدخل السيور بعضها في بعض, ويثبت بذلك لم يعقده لأنه لا حاجة إلى عقده وإن لم يثبت إلا بعقده عقده نص عليه أحمد وهو قول إسحاق وقال إبراهيم: كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم, ولا يرخصون في عقد غيره وقالت عائشة: أوثق عليك نفقتك وذكر القاضي في "الشرح" أن ابن عباس قال: (رخص رسول الله -ﷺ- للمحرم في الهميان أن يربطه, إذا كانت فيه نفقته) وقال ابن عباس: أوثقوا عليكم نفقاتكم ورخص في الخاتم والهميان للمحرم وقال مجاهد عن ابن عمر أنه سئل عن المحرم يشد الهميان عليه, فقال: لا بأس به إذا كانت فيه نفقته يستوثق من نفقته ولأنه مما تدعو الحاجة إلى شده, فجاز كعقد الإزار فإن لم يكن في الهميان نفقة لم يجز عقده, لعدم الحاجة إليه وكذلك المنطقة وقد روي عن ابن عمر أنه كره الهميان والمنطقة للمحرم وكرهه نافع مولاه وهو محمول على ما ليس فيه نفقة لما تقدم من الرخصة فيما فيه النفقة, وسئل أحمد عن المحرم يلبس المنطقة من وجع الظهر أو حاجة إليها قال: يفتدي فقيل له: أفلا تكون مثل الهميان؟ قال: لا وعن ابن عمر أنه كره المنطقة للمحرم وأنه أباح شد الهميان, إذا كانت فيه النفقة والفرق بينهما أن الهميان تكون فيه النفقة والمنطقة لا نفقة فيها, فأبيح شد ما فيه النفقة للحاجة إلى حفظها ولم يبح شد ما سوى ذلك فإن كانت فيهما نفقة, أو لم يكن فيهما نفقة فهما سواء وقد قالت عائشة في المنطقة للمحرم: أوثق عليك نفقتك فرخصت فيها إذا كانت فيها النفقة ولم يبح أحمد شد المنطقة لوجع الظهر إلا أن يفتدي لأن المنطقة ليست معدة لذلك, ولأنه فعل لمحظور في الإحرام لدفع الضرر عن نفسه أشبه من لبس المخيط لدفع البرد أو حلق رأسه لإزالة أذى القمل, أو تطيب لأجل المرض. مسألة:
قال: [ وله أن يحتجم ولا يقطع شعرا ] أما الحجامة إذا لم يقطع شعرا فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداو بإخراج دم, فأشبه الفصد وبط الجرح وقال مالك: لا يحتجم إلا من ضرورة وكان الحسن يرى في الحجامة دما ولنا, أن ابن عباس روى (أن النبي -ﷺ- احتجم وهو محرم) متفق عليه ولم يذكر فدية ولأنه لا يترفه بذلك فأشبه شرب الأدوية وكذلك الحكم في قطع العضو عند الحاجة, والختان كل ذلك مباح من غير فدية فإن احتاج في الحجامة إلى قطع شعر فله قطعه لما روى عبد الله بن بحينة (أن رسول الله -ﷺ- احتجم بلحي جمل في طريق مكة وهو محرم, وسط رأسه) متفق عليه ومن ضرورة ذلك قطع الشعر ولأنه يباح حلق الشعر لإزالة أذى القمل فكذلك ها هنا وعليه الفدية وبهذا قال مالك والشافعي, وأبو حنيفة وأبو ثور وابن المنذر وقال صاحبا أبي حنيفة: يتصدق بشيء ولنا, قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية} الآية ولأنه حلق شعر لإزالة ضرر غيره فلزمته الفدية, كما لو حلقه لإزالة قمله فأما إن قطع عضوا عليه شعر أو جلدة عليها شعر فلا فدية عليه, لأنه زال تبعا لما لا فدية فيه. مسألة:
قال: [ ويتقلد بالسيف عند الضرورة ] وجملة ذلك أن المحرم إذا احتاج إلى تقلد السيف فله ذلك وبهذا قال مالك وأباح عطاء والشافعي, وابن المنذر تقلده وكرهه الحسن والأول أولى لما روى أبو داود بإسناده عن البراء قال: (لما صالح رسول الله -ﷺ- أهل الحديبية, صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح) - القراب بما فيه - وهذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد ويخفروا الذمة واشترطوا حمل السلاح في قرابه فأما من غير خوف, فإن أحمد قال: لا إلا من ضرورة وإنما منع منه لأن ابن عمر قال: لا يحمل المحرم السلاح في الحرم والقياس إباحته لأن ذلك ليس هو في معنى الملبوس المنصوص على تحريمه ولذلك لو حمل قربة في عنقه, لا يحرم عليه ذلك ولا فدية عليه فيه وسئل أحمد عن المحرم يلقي جرابه في رقبته كهيئة القربة قال: أرجو أن لا يكون به بأس. مسألة:
قال: [ وإن طرح على كتفيه القباء والدواج, فلا يدخل يديه في الكمين ] ظاهر هذا اللفظ إباحة لبس القباء ما لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن, وعطاء وإبراهيم وبه قال أبو حنيفة وقال القاضي, وأبو الخطاب: إذا أدخل كتفيه في القباء فعليه الفدية وإن لم يدخل يديه في كميه وهو مذهب مالك, والشافعي لأنه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه فلزمته الفدية إذا كان عامدا كالقميص وروى ابن المنذر (أن النبي -ﷺ- نهى عن لبس الأقبية) ووجه قول الخرقي, ما تقدم من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسألة إن لم يجد إزارا لبس السراويل وإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولأن القباء لا يحيط بالبدن, فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه إذا لم يدخل يديه في كميه كالقميص يتشح به, وقياسهم منقوض بالرداء الموصل والخبر محمول على لبسه مع إدخال يديه في كميه. مسألة:
قال: [ ولا يظلل على رأسه في المحمل فإن فعل فعليه دم ] كره أحمد الاستظلال في المحمل خاصة, وما كان في معناه كالهودج والعمارية والكبيسة ونحو ذلك على البعير وكره ذلك ابن عمر ومالك وعبد الرحمن بن مهدي, وأهل المدينة وكان سفيان بن عيينة يقول: لا يستظل ألبتة ورخص فيه ربيعة والثوري والشافعي وروي ذلك عن عثمان, وعطاء لما روت أم الحصين قالت: (حججت مع رسول الله -ﷺ- حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا, وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي -ﷺ- والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة) رواه مسلم وغيره ولأنه يباح له التظلل في البيت والخباء فجاز في حال الركوب, كالحلال ولأن ما حل للحلال حل للمحرم إلا ما قام على تحريمه دليل واحتج أحمد بقول ابن عمر, روى عطاء قال: رأى ابن عمر على رحل عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة عودا يستره من الشمس فنهاه وعن نافع عن ابن عمر, أنه رأى رجلا محرما على رحل قد رفع ثوبا على عود يستتر به من الشمس فقال: اضح لمن أحرمت له أي ابرز للشمس رواهما الأثرم ولأنه ستر بما يقصد به الترفه, أشبه ما لو غطاه والحديث ذهب إليه أحمد فلم يكره أن يستتر بثوب ونحوه فإن ذلك لا يقصد للاستدامة, والهودج بخلافه والخيمة والبيت يرادان لجمع الرحل وحفظه لا للترفه وظاهر كلام أحمد, أنه إنما كره ذلك كراهة تنزيه لوقوع الخلاف فيه وقول ابن عمر, ولم ير ذلك حراما ولا موجبا لفدية قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يستظل على المحمل؟ قال: لا وذكر حديث ابن عمر: اضح لمن أحرمت له قيل له: فإن فعل يهريق دما؟ قال: أما الدم فلا قيل: فإن أهل المدينة يقولون: عليه دم قال: نعم أهل المدينة يغلطون فيه وقد روي ذلك عن أحمد, وهو اختيار الخرقي لأنه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالبا فأشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه ويروى عن الرياشي قال: رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم حر شديد, وقد ضحى للشمس فقلت له: يا أبا الفضل: هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول: ضحيت له كي أستظل بظله ** إذا الظل أضحى في القيامة قالصا فوا أسفا إن كان سعيك باطلا ** ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا فصل:
ولا بأس أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء, وإن نزل تحت شجرة فلا بأس أن يطرح عليها ثوبا يستظل به عند جميع أهل العلم وقد صح به النقل, فإن جابرا قال في حديث حجة النبي -ﷺ-: (وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فأتى عرفة, فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس) رواه مسلم, وابن ماجه وغيرهما ولا بأس أيضا أن ينصب حياله ثوبا يقيه الشمس والبرد إما أن يمسكه إنسان, أو يرفعه على عود على نحو ما روي في حديث أم الحصين (أن بلالا أو أسامة كان رافعا ثوبا يستر به النبي -ﷺ- من الحر) ولأن ذلك لا يقصد به الاستدامة فلم يكن به بأس, كالاستظلال بحائط. مسألة:
قال: [ ولا يقتل الصيد ولا يصيده ولا يشير إليه, ولا يدل عليه حلالا ولا حراما ] لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم وقد نص الله تعالى عليه في كتابه, فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وقال تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه فإن في حديث أبي قتادة (لما صاد الحمار الوحشي وأصحابه محرمون, قال النبي -ﷺ- لأصحابه: هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟) وفي لفظ متفق عليه: (فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي, فلم يؤذنوني وأحبوا لو إني أبصرته) وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الدلالة عليه وسؤال النبي -ﷺ- لهم: (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟) يدل على تعلق التحريم بذلك لو وجد منهم ولأنه تسبب إلى محرم عليه, فحرم كنصبه الأحبولة. فصل:
ولا تحل له الإعانة على الصيد بشيء فإن في حديث أبي قتادة المتفق عليه: (ثم ركبت, ونسيت السوط والرمح فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح قالوا: والله لا نعينك عليه) وفي رواية: (فاستعنتهم, فأبوا أن يعينوني) وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الإعانة والنبي -ﷺ- أقرهم على ذلك ولأنه إعانة على محرم فحرم, كالإعانة على قتل الآدمي. فصل:
ويضمن الصيد بالدلالة فإذا دل المحرم حلالا على الصيد فأتلفه فالجزاء كله على المحرم روي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء ومجاهد وبكر المزني, وإسحاق وأصحاب الرأي وقال مالك والشافعي: لا شيء على الدال لأنه يضمن بالجناية, فلا يضمن بالدلالة كالآدمي ولنا قول النبي -ﷺ- لأصحاب أبي قتادة: (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها, أو أشار إليها؟) ولأنه سبب يتوصل به إلى إتلاف الصيد فتعلق به الضمان كما لو نصب أحبولة, ولأنه قول علي وابن عباس ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة. فصل:
فإن دل محرما على الصيد فقتله فالجزاء بينهما وبه قال عطاء وحماد بن أبي سليمان وقال الشعبي, وسعيد بن جبير والحارث العكلي وأصحاب الرأي: على كل واحد جزاء لأن كل واحد من الفعلين يستقل بجزاء كامل إذا كان منفردا فكذلك إذا انضم إليه غيره وقال مالك, والشافعي: لا ضمان على الدال ولنا أن الواجب جزاء المتلف وهو واحد, فيكون الجزاء واحدا وعلى قول مالك والشافعي ما سبق ولا فرق في جميع ذلك بين كون المدلول ظاهرا أو خفيا لا يراه إلا بالدلالة عليه ولو دل محرم محرما على صيد, ثم دل الآخر آخر ثم كذلك إلى عشرة فقتله العاشر, كان الجزاء على جميعهم وإن قتله الأول لم يضمن غيره لأنه لم يدله عليه أحد فلا يشاركه في ضمانه أحد ولو كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة والإشارة, فلا شيء على الدال والمشير لأن ذلك لم يكن سببا في تلفه ولأن هذه ليست دلالة على الحقيقة وكذلك إن وجد من المحرم حدث عند رؤية الصيد, من ضحك أو استشراف إلى الصيد ففطن له غيره فصاده, فلا شيء على المحرم بدليل ما جاء في حديث أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله -ﷺ- حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم, إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش) وفي لفظ: (فبينا أنا مع أصحابي يضحك بعضهم, إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش) وفي لفظ: (فلما كنا بالصفاح فإذا هم يتراءون فقلت: أي شيء تنظرون؟ فلم يخبروني) متفق عليه. فصل:
فإن أعار قاتل الصيد سلاحا فقتله به, فهو كما لو دله عليه سواء كان المستعار مما لا يتم قتله إلا به أو أعاره شيئا هو مستغن عنه, مثل أن يعيره رمحا ومعه رمح وكذلك لو أعانه عليه بمناولته سوطه أو رمحه أو أمره باصطياده لما ذكرنا من حديث أبي قتادة, وقول أصحابه: والله لا نعينك عليه بشيء وقول النبي -ﷺ-: (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟) وكذلك إن أعاره سكينا فذبحه بها فإن أعاره آلة ليستعملها في غير الصيد, فاستعملها في الصيد لم يضمن لأن ذلك غير محرم عليه فأشبه ما لو ضحك عند رؤية الصيد, ففطن له إنسان فصاده. فصل:
وإن دل الحلال محرما على الصيد فقتله, فلا شيء على الحلال لأنه لا يضمن الصيد بالإتلاف فبالدلالة أولى إلا أن يكون ذلك في الحرم, فيشاركه في الجزاء لأن صيد الحرم حرام على الحلال والحرام نص عليه أحمد. فصل:
وإن صاد المحرم صيدا لم يملكه فإن تلف في يده فعليه جزاؤه, وإن أمسكه حتى حل لزمه إرساله وليس له ذبحه, فإن فعل أو تلف الصيد ضمنه, وحرم أكله لأنه صيد ضمنه بحرمة الإحرام فلم يبح أكله كما لو ذبحه حال إحرامه, ولأنها ذكاة منع منها بسبب الإحرام فأشبهت ما لو كان الإحرام باقيا واختار أبو الخطاب أن له أكله وعليه ضمانه لأنه ذبحه وهو من أهل ذبح الصيد فأشبه ما لو صاده بعد الحل والفرق ظاهر لأن هذا يلزمه ضمانه والذي صاده بعد الحل لا ضمان عليه فيه. مسألة:
قال: [ ولا يأكله إذا صاده الحلال لأجله ] لا خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه وقد قال الله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وإن صاده حلال وذبحه, وكان من المحرم إعانة فيه أو دلالة عليه أو إشارة إليه, لم يبح أيضا وإن صيد من أجله لم يبح له أيضا أكله وروي ذلك عن عثمان بن عفان وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: له أكله لقول النبي -ﷺ- في حديث أبي قتادة: (هل منكم أحد أمره, أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها) متفق عليه فدل على أن التحريم إنما يتعلق بالإشارة والأمر والإعانة ولأنه صيد مذكى لم يحصل فيه ولا في سببه صنع منه, فلم يحرم عليه أكله كما لو لم يصد له وحكي عن علي وابن عمر, وعائشة وابن عباس أن لحم الصيد يحرم على المحرم بكل حال, وبه قال طاوس وكرهه الثوري وإسحاق لعموم قوله: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وروي عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي, أنه (أهدى إلى النبي -ﷺ- حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله -ﷺ- فلما رأى رسول الله -ﷺ- ما في وجهه, قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفق عليه وفي لفظ: (أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي -ﷺ- رجل حمار وفي رواية: عجز حمار) وفي رواية: شق حمار روى ذلك كله مسلم وروى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال: كان الحارث خليفة عثمان على الطائف, فصنع له طعاما وصنع فيه من الحجل واليعاقيب ولحم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه فقال: أطعموه قوما حلالا, فأنا حرم ثم قال علي: أنشد الله من كان ها هنا من أشجع أتعلمون (أن رسول الله -ﷺ- أهدى إليه رجل حمار وحش فأبى أن يأكله)؟ قالوا: نعم ولأنه لحم صيد فحرم على المحرم, كما لو دل عليه ولنا ما روى جابر قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه, أو يصد لكم) رواه أبو داود والنسائي والترمذي, وقال: هو أحسن حديث في الباب وهذا صريح في الحكم وفيه جمع بين الأحاديث وبيان المختلف منها, فإن ترك النبي -ﷺ- للأكل مما أهدي إليه يحتمل أن يكون لعلمه أنه صيد من أجله أو ظنه ويتعين حمله على ذلك, لما قدمت من حديث أبي قتادة وأمر النبي -ﷺ- أصحابه بأكل الحمار الذي صاده وعن طلحة (أنه أهدي له طير وهو راقد, فأكل بعض أصحابه وهم محرمون وتورع بعض فلما استيقظ طلحة وافق من أكله, وقال: أكلناه مع رسول الله -ﷺ-) رواه مسلم وفي "الموطأ" (أن رسول الله -ﷺ- خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحش عقير, فجاء البهزي وهو صاحبه فقال: يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار, فأمر رسول الله -ﷺ- أبا بكر فقسمه بين الرفاق) وهو حديث صحيح وأحاديثهم إن لم يكن فيها ذكر أنه صيد من أجلهم فتعين ضم هذا القيد إليها لحديثنا وجمعا بين الأحاديث, ودفعا للتناقض عنها ولأنه صيد للمحرم فحرم, كما لو أمر أو أعان. فصل:
وما حرم على المحرم لكونه صيد من أجله أو دل عليه, أو أعان عليه لم يحرم على الحلال أكله لقول علي أطعموه حلالا وقد بينا حمله على أنه صيد من أجلهم, وحديث الصعب بن جثامة حين رد النبي -ﷺ- الصيد عليه ولم ينهه عن أكله ولأنه صيد حلال, فأبيح للحلال أكله كما لو صيد لهم وهل يباح أكله لمحرم آخر؟ ظاهر الحديث إباحته له لقوله: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه, أو يصد لكم) وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه روي أنه أهدي إليه صيد وهو محرم فقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل هو, وقال: إنما صيد من أجلي ولأنه لم يصد من أجله فحل له كما لو صاده الحلال لنفسه ويحتمل أن يحرم عليه وهو ظاهر قول علي رضي الله عنه لقوله: أطعموه حلالا, فأنا حرم ولقول النبي -ﷺ- في حديث أبي قتادة: (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا قال: فكلوه) فمفهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم. فصل:
إذا قتل المحرم الصيد, ثم أكله ضمنه للقتل دون الأكل وبه قال مالك والشافعي وقال عطاء, وأبو حنيفة: يضمنه للأكل أيضا لأنه أكل من صيد محرم عليه فيضمنه كما لو أكل مما صيد لأجله، ولنا أنه صيد مضمون بالجزاء فلم يضمن ثانيا كما لو أتلفه بغير الأكل, وكصيد الحرم إذا قتله الحلال وأكله وكذلك إن قتله محرم آخر ثم أكل هذا منه, لم يجب عليه الجزاء لما ذكرنا ولأن تحريمه لكونه ميتة والميتة لا تضمن بالجزاء وكذلك إن حرم عليه أكله للدلالة عليه والإعانة عليه, فأكل منه لم يضمن لأنه صيد مضمون بالجزاء مرة فلا يجب به جزاء ثان, كما لو أتلفه وإن أكل مما صيد لأجله ضمنه وهو قول مالك وقاله الشافعي في القديم وقال في الجديد: لا جزاء عليه لأنه أكل للصيد فلم يجب به الجزاء, كما لو قتله ثم أكله ولنا إنه إتلاف ممنوع منه لحرمة الإحرام فتعلق به الضمان, كالقتل أما إذا قتله ثم أكله لا يحرم للإتلاف, إنما حرم لكونه ميتة إذا ثبت هذا فإنه يضمنه بمثله من اللحم لأن أصله مضمون بمثله من النعم فكذلك أبعاضه تضمن بمثلها بخلاف حيوان الآدمي, فإنه يضمنه بقيمته فكذلك أبعاضه. فصل:
وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس وهذا قول الحسن, والقاسم وسالم ومالك, والأوزاعي والشافعي وإسحاق, وأصحاب الرأي وقال الحكم والثوري وأبو ثور: لا بأس بأكله قال ابن المنذر: وهو بمنزلة ذبيحة السارق وقال عمرو بن دينار, وأيوب السختياني: يأكله الحلال وحكي عن الشافعي قول قديم أنه يحل لغيره الأكل منه لأن من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال ولنا, أنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي وبهذا فارق سائر الحيوانات, وفارق غير الصيد فإنه لا يحرم ذبحه وكذلك الحكم في صيد الحرم إذا ذبحه الحلال. فصل:
إذا اضطر المحرم, فوجد صيدا وميتة أكل الميتة وبهذا قال الحسن والثوري, ومالك وقال الشافعي وإسحاق وابن المنذر: يأكل الصيد وهذه المسألة مبنية على أنه إذا ذبح الصيد كان ميتة, فيساوي الميتة في التحريم ويمتاز بإيجاب الجزاء وما يتعلق به من هتك حرمة الإحرام, فلذلك كان أكل الميتة أولى إلا أن لا تطيب نفسه بأكلها فيأكل الصيد, كما لو لم يجد غيره. مسألة:
قال: [ ولا يتطيب المحرم ] أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب وقد قال النبي -ﷺ- في المحرم الذي وقصته راحلته: (لا تمسوه بطيب) رواه مسلم وفي لفظ: (لا تحنطوه) متفق عليه فلما منع الميت من الطيب لإحرامه فالحي أولى ومتى تطيب فعليه الفدية لأنه استعمل ما حرمه الإحرام, فوجبت عليه الفدية كاللباس ومعنى الطيب: ما تطيب رائحته ويتخذ للشم, كالمسك والعنبر والكافور, والغالية والزعفران وماء الورد, والأدهان المطيبة كدهن البنفسج ونحوه. فصل:
والنبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب: أحدها ما لا ينبت للطيب, ولا يتخذ منه كنبات الصحراء من الشيح والقيصوم والخزامي, والفواكه كلها من الأترج والتفاح والسفرجل وغيره وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب كالحناء والعصفر, فمباح شمه ولا فدية فيه ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر, أنه كان يكره للمحرم أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه لا يقصد للطيب, ولا يتخذ منه طيب أشبه سائر نبات الأرض قد روي (أن أزواج رسول الله -ﷺ- كن يحرمن في المعصفرات) الثاني ما ينبته الآدميون للطيب, ولا يتخذ منه طيب كالريحان الفارسي والمرزجوش والنرجس, والبرم ففيه وجهان أحدهما يباح بغير فدية قاله عثمان بن عفان, وابن عباس والحسن ومجاهد, وإسحاق والآخر يحرم شمه فإن فعل فعليه الفدية وهو قول جابر, وابن عمر والشافعي وأبي ثور لأنه يتخذ للطيب, فأشبه الورد وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئا وكلام أحمد فيه محتمل لها فإنه قال في الريحان: ليس من آلة المحرم ولم يذكر فديته وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب, فأشبه العصفر الثالث ما ينبت للطيب ويتخذ منه طيب, كالورد والبنفسج والياسمين والخيري فهذا إذا استعمله وشمه ففيه الفدية لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه, فكذلك في أصله وعن أحمد رواية أخرى في الورد: لا فدية عليه في شمه لأنه زهر شمه على جهته أشبه زهر سائر الشجر وذكر أبو الخطاب في هذا والذي قبله روايتين والأولى تحريمه لأنه ينبت للطيب, ويتخذ منه أشبه الزعفران والعنبر قال القاضي: يقال إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور. فصل:
وإن مس من الطيب ما يعلق بيده, كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه, فعليه الفدية لأنه مستعمل للطيب وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق وقطع الكافور, والعنبر فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب فإن شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا وإن شم العود, فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا. مسألة:
قال: [ ولا يلبس ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا طيب ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا وهو قول جابر وابن عمر ومالك, والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن عبد البر: لا خلاف في هذا بين العلماء, وقد قال النبي -ﷺ-: (لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس) متفق عليه فكل ما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد, أو بخر بعود فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه, ولا النوم عليه نص أحمد عليه وذلك لأنه استعمال له فأشبه لبسه ومتى لبسه أو استعمله, فعليه الفدية وبذلك قال الشافعي وقال أبو حنيفة: إن كان رطبا يلي بدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية, وإلا فلا لأنه ليس بمتطيب ولنا أنه منهي عنه لأجل الإحرام فلزمته الفدية به كاستعمال الطيب في بدنه ولأنه محرم استعمل ثوبا مطيبا, فلزمته الفدية به كالرطب فإن غسله حتى ذهب ما فيه من ذلك فلا بأس به عند جميع العلماء. فصل:
وإن انقطعت رائحة الثوب لطول الزمن عليه, أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء, فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه وبهذا قال سعيد بن المسيب والحسن, والنخعي والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عطاء وطاوس وكره ذلك مالك إلا أن يغسل ويذهب لونه لأن عين الزعفران ونحوه فيه ولنا, أنه إنما نهي عنه من أجل رائحته وقد ذهبت بالكلية فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه, ففيه الفدية لأنه متطيب بطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه, والماء لا رائحة له وإنما هي من الصبغ الذي فيه فأما إن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة فلا فدية عليه بالجلوس والنوم عليه وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه, ففيه الفدية لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه. مسألة:
قال: [ ولا بأس بما صبغ بالعصفر ] وجملة ذلك أن العصفر ليس بطيب ولا بأس باستعماله وشمه, ولا بما صبغ به وهذا قول جابر وابن عمر وعبد الله بن جعفر, وعقيل بن أبي طالب وهو مذهب الشافعي وعن عائشة وأسماء وأزواج النبي -ﷺ- أنهن كن يحرمن في المعصفرات وكرهه مالك إذا كان ينتفض في بدنه, ولم يوجب فيه فدية ومنع منه الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن, وشبهوه بالمورس والمزعفر لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ولنا ما روى أبو داود, بإسناده عن ابن عمر أنه سمع رسول الله -ﷺ- (نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب,) ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز, أو حلي أو سراويل أو قميص, أو خف وروى الإمام أحمد في المناسك بإسناده عن عائشة بنت سعد, قالت: (كنا أزواج النبي -ﷺ- نحرم في المعصفرات) ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا ولأنه ليس بطيب, فلم يكره ما صبغ به كالسواد والمصبوغ بالمغرة, وأما الورس والزعفران فإنه طيب بخلاف مسألتنا. فصل:
ولا بأس بالممشق وهو المصبوغ بالمغرة لأنه مصبوغ بطين لا بطيب, وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ سوى ما ذكرنا لأن الأصل الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه, وما كان في معناه وليس هذا كذلك وأما المصبوغ بالرياحين فهو مبني على الرياحين في نفسها, فما منع المحرم من استعماله منع لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته, وإلا فلا. مسألة:
قال: [ ولا يقطع شعرا من رأسه ولا جسده ] أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ شعره إلا من عذر والأصل فيه قول الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} وروى كعب بن عجرة, عن رسول الله -ﷺ-: أنه قال: (لعلك يؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله فقال رسول الله -ﷺ-: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام, أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) متفق عليه وهذا يدل على أن الحلق كان قبل ذلك محرما وشعر الرأس والجسد في ذلك سواء. فصل:
فإن كان له عذر, من مرض أو وقع في رأسه قمل أو غير ذلك مما يتضرر بإبقاء الشعر, فله إزالته للآية والخبر قال ابن عباس: {فمن كان منكم مريضا} أي برأسه قروح {أو به أذى من رأسه} أي قمل ثم ينظر فإن كان الضرر اللاحق به من نفس الشعر مثل أن ينبت في عينه, أو طال حاجباه فغطيا عينيه فله قلع ما في العين وقطع ما استرسل على عينيه, ولا فدية عليه لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذيته بغير فدية كالصيد إذا صال عليه, وإن كان الأذى من غير الشعر لكن لا يتمكن من إزالة الأذى إلا بإزالة الشعر كالقمل والقروح برأسه, أو صداع برأسه أو شدة الحر عليه لكثرة شعره فعليه الفدية لأنه قطع الشعر لإزالة ضرر غيره, فأشبه أكل الصيد للمخمصة فإن قيل: فالقمل من ضرر الشعر والحر سببه كثرة الشعر قلنا: ليس القمل من الشعر وإنما لا يتمكن من المقام في الرأس إلا به, فهو محل له لا سبب فيه وكذلك الحر من الزمان بدليل أن الشعر يوجد في زمن البرد, فلا يتأذى به والله أعلم. مسألة:
قال: [ ولا يقطع ظفرا إلا أن ينكسر ] أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من قلم أظفاره إلا من عذر لأن قطع الأظفار إزالة جزء يترفه به, فحرم كإزالة الشعر فإن انكسر فله إزالته من غير فدية تلزمه قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم, أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر ولأن ما انكسر يؤذيه ويؤلمه فأشبه الشعر النابت في عينه, والصيد الصائل عليه فإن قص أكثر مما انكسر فعليه الفدية لذلك الزائد كما لو قطع من الشعر أكثر مما يحتاج إليه وإن احتاج إلى مدواة قرحة, فلم يمكنه إلا بقص أظفاره فعليه الفدية لذلك وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا فدية عليه ولنا, أنه أزال ما منع إزالته لضرر في غيره فأشبه حلق رأسه دفعا لضرر قمله وإن وقع في أظفاره مرض فأزالها لذلك المرض, فلا فدية عليه لأنه أزالها لإزالة مرضها فأشبه قصها لكسرها. مسألة:
قال: [ ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء ] يعني لا ينظر فيها لإزالة شعث, أو تسوية شعر أو شيء من الزينة قال أحمد: لا بأس أن ينظر في المرآة ولا يصلح شعثا, ولا ينفض عنه غبارا وقال أيضا: إذا كان يريد به زينة فلا قيل: فكيف يريد زينة؟ قال: يرى شعرة فيسويها وروي نحو ذلك عن عطاء والوجه في ذلك أنه قد روي في حديث: (إن المحرم الأشعث الأغبر) وفي آخر: (إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي, قد أتوني شعثا غبرا ضاحين) أو كما جاء لفظ الحديث فإن نظر فيها لحاجة كمداواة جرح أو إزالة شعر ينبت في عينه, ونحو ذلك مما أباح الشرع له فعله فلا بأس ولا فدية عليه بالنظر في المرآة على كل حال, وإنما ذلك أدب لا شيء على تاركه لا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا وقد روي عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا ينظران في المرآة, وهما محرمان. مسألة:
قال: [ ولا يأكل من الزعفران ما يجد ريحه ] وجملة ذلك أن الزعفران وغيره من الطيب إذا جعل في مأكول أو مشروب فلم تذهب رائحته, لم يبح للمحرم تناوله نيئا كان أو قد مسته النار وبهذا قال الشافعي وكان مالك وأصحاب الرأي لا يرون بما مست النار من الطعام بأسا سواء ذهب لونه وريحه وطعمه, أو بقي ذلك كله لأنه بالطبخ استحال عن كونه طيبا وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد, وسعيد بن جبير وطاوس أنهم لم يكونوا يرون بأكل الخشكنانج الأصفر بأسا, وكرهه القاسم بن محمد وجعفر بن محمد ولنا, أن الاستمتاع به والترفه به حاصل من حيث المباشرة, فأشبه ما لو كان نيئا ولأن المقصود من الطيب رائحته وهي باقية, وقول من أباح الخشكنانج الأصفر محمول على ما لم يبق فيه رائحة فإن ما ذهبت رائحته وطعمه ولم يبق فيه إلا اللون مما مسته النار, لا بأس بأكله لا نعلم فيه خلافا سوى أن القاسم وجعفر بن محمد كرها الخشكنانج الأصفر ويمكن حمله على ما بقيت رائحته ليزول الخلاف فإن لم تمسه النار, لكن ذهبت رائحته وطعمه فلا بأس به وهو قول الشافعي وكره مالك والحميدي, وإسحاق وأصحاب الرأي الملح الأصفر, وفرقوا بين ما مسته النار وما لم تمسه ولنا أن المقصود الرائحة, فإن الطيب إنما كان طيبا لرائحته لا للونه فوجب دوران الحكم معها دونه. فصل:
فإن ذهبت رائحته, وبقي لونه وطعمه فظاهر كلام الخرقي إباحته لما ذكرنا من أنها المقصود فيزول المنع بزوالها وظاهر كلام أحمد, في رواية صالح تحريمه وهو مذهب الشافعي قال القاضي: محال أن تنفك الرائحة عن الطعم فمتى بقي الطعم دل على بقائها, فلذلك وجبت الفدية باستعماله. مسألة:
قال: [ ولا يدهن بما فيه طيب وما لا طيب فيه ] أما المطيب من الأدهان كدهن الورد والبنفسج والزنبق والخيري واللينوفر, فليس في تحريم الادهان به خلاف في المذهب وهو قول الأوزاعي وكره مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي, الادهان بدهن البنفسج وقال الشافعي: ليس بطيب ولنا أنه يتخذ للطيب وتقصد رائحته, فكان طيبا كماء الورد فأما ما لا طيب فيه كالزيت والشيرج والسمن والشحم ودهن البان الساذج, فنقل الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج؟ فقال: نعم يدهن به إذا احتاج إليه ويتداوى المحرم بما يأكل قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم, على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن ونقل الأثرم جواز ذلك عن ابن عباس وأبي ذر والأسود بن يزيد, وعطاء والضحاك وغيرهم ونقل أبو داود, عن أحمد أنه قال: الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان وهو قول عطاء, ومالك والشافعي وأبي ثور, وأصحاب الرأي لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعا وقد ذكرنا إجماع أهل العلم على إباحته في اليدين, وإنما الكراهة في الرأس خاصة لأنه محل الشعر وقال القاضي: في إباحته في جميع البدن روايتان فإن فعله فلا فدية فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه أو غيره, إلا أن يكون مطيبا وقد روي عن ابن عمر أنه صدع وهو محرم فقالوا: ألا ندهنك بالسمن؟ قال: لا قالوا: أليس تأكله؟ قال: ليس أكله كالادهان به وعن مجاهد قال: إن تداوى به فعليه الكفارة وقال الذين منعوا من دهن الرأس: فيه الفدية لأنه مزيل للشعث, أشبه ما لو كان مطيبا ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع, ولا يصح قياسه على الطيب فإن الطيب يوجب الفدية وإن لم يزل شعثا, ويستوي فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه ولأنه مائع لا تجب الفدية باستعماله في اليدين, فلم تجب باستعماله في الرأس كالماء. مسألة:
قال: [ ولا يتعمد لشم الطيب ] أي لا يقصد شمه من غيره بفعل منه نحو أن يجلس عند العطارين لذلك, أو يدخل الكعبة حال تجميرها ليشم طيبها أو يحمل معه عقدة فيها مسك ليجد ريحها قال أحمد: سبحان الله, كيف يجوز هذا؟ وأباح الشافعي ذلك إلا العقدة تكون معه يشمها فإن أصحابه اختلفوا فيها لأنه يشم الطيب من غيره, أشبه ما لو لم يقصده ولنا أنه شم الطيب قاصدا مبتدئا به في الإحرام فحرم, كما لو باشره يحققه أن القصد شمه لا مباشرته بدليل ما لو مس اليابس الذي لا يعلق بيده لم يكن عليه شيء, ولو رفعه بخرقة وشمه لوجبت عليه الفدية ولو لم يباشره فأما شمه من غير قصد, كالجالس عند العطار لحاجته وداخل السوق أو داخل الكعبة للتبرك بها, ومن يشتري طيبا لنفسه وللتجارة ولا يمسه فغير ممنوع منه لأنه لا يمكن التحرز من هذا فعفي عنه, بخلاف الأول. مسألة:
قال: [ ولا يغطي شيئا من رأسه والأذنان من الرأس ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تخمير رأسه والأصل في ذلك (نهى النبي -ﷺ- عن لبس العمائم والبرانس) وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته: (لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) علل منع تخمير رأسه ببقائه على إحرامه, فعلم أن المحرم ممنوع من ذلك وكان ابن عمر يقول: إحرام الرجل في رأسه وذكر القاضي في "الشرح" أن النبي -ﷺ- قال: (إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها) وأنه عليه السلام نهى أن يشد المحرم رأسه بالسير وقول الخرقي: "والأذنان من الرأس" فائدته تحريم تغطيتهما وأباح ذلك الشافعي وقد روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (الأذنان من الرأس) وقد ذكرناه في الطهارة وإذا ثبت هذا فإنه يمنع من تغطية بعض رأسه, كما يمنع من تغطية جميعه لأن النبي -ﷺ- قال: (لا تخمروا رأسه) والمنهي عنه يحرم فعل بعضه ولذلك لما قال تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم} حرم حلق بعضه وسواء غطاه بالملبوس المعتاد أو بغيره مثل أن عصبه بعصابة, أو شده بسير أو جعل عليه قرطاسا فيه دواء أو لا دواء فيه أو خضبه بحناء, أو طلاه بطين أو نورة أو جعل عليه دواء فإن جميع ذلك ستر له, وهو ممنوع منه وسواء كان ذلك لعذر أو غيره فإن العذر لا يسقط الفدية بدليل قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية} وقصة كعب بن عجرة وبهذا كله قال الشافعي وكان عطاء يرخص في العصابة من الضرورة والصحيح أنه لا تسقط الفدية عنه بالعذر كما لو لبس قلنسوة من أجل البرد. فصل:
فإن حمل على رأسه مكتلا أو طبقا أو نحوه فلا فدية عليه, وبهذا قال عطاء ومالك وقال الشافعي: عليه الفدية لأنه ستره ولنا أن هذا لا يقصد به الستر غالبا, فلم تجب به الفدية كما لو وضع يده عليه وسواء قصد به الستر أو لم يقصد لأن ما تجب به الفدية لا يختلف بالقصد وعدمه فكذلك ما لا تجب به الفدية واختار ابن عقيل وجوب الفدية عليه إذا قصد به الستر لأن الحيل لا تحيل الحقوق وإن ستر رأسه بيديه, فلا شيء عليه لما ذكرنا ولأن الستر بما هو متصل به لا يثبت له حكم الستر, ولذلك لو وضع يديه على فرجه لم تجزئه في الستر ولأن المحرم مأمور بمسح رأسه, وذلك يكون بوضع يديه أو إحداهما عليه وإن طلى رأسه بعسل أو صمغ ليجتمع الشعر ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث, ولا يقع فيه الدبيب جاز وهو التلبيد الذي جاء في حديث ابن عمر: (رأيت رسول الله -ﷺ- يهل ملبدا) رواه البخاري وعن حفصة (أنها قالت لرسول الله -ﷺ-: ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي, وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) متفق عليهما وإن كان في رأسه طيب مما جعله فيه قبل الإحرام فلا بأس لما روي عن عائشة, قالت: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله -ﷺ- وكان على رأس ابن عباس مثل الرب من الغالية وهو محرم). فصل:
وفي تغطية المحرم وجهه روايتان: إحداهما يباح روي ذلك عن عثمان بن عفان, وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير, وسعد بن أبي وقاص وجابر والقاسم, وطاوس والثوري والشافعي والثانية, لا يباح وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لما روي عن ابن عباس (أن رجلا وقع عن راحلته, فأقعصته فقال رسول الله -ﷺ-: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه, فإنه يبعث يوم القيامة يلبي) ولأنه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب ولنا, ما ذكرنا من قول الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا, ولقوله عليه السلام: (إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها) وحديث ابن عباس المشهور فيه: (ولا تخمروا رأسه) هذا المتفق عليه وقوله: (ولا تخمروا وجهه) فقال شعبة: حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما كان يحدث, إلا أنه قال (ولا تخمروا وجهه ورأسه) وهذا يدل على أنه ضعف هذه الزيادة وقد روي في بعض ألفاظه: (خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه) فتتعارض الروايتان وما ذكروه يبطل بلبس القفازين. مسألة:
قال: [ والمرأة إحرامها في وجهها فإن احتاجت سدلت على وجهها ] وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها, كما يحرم على الرجل تغطية رأسه لا نعلم في هذا خلافا إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة, فلا يكون اختلافا قال ابن المنذر: وكراهية البرقع ثابتة عن سعد وابن عمر وابن عباس وعائشة ولا نعلم أحدا خالف فيه وقد روى البخاري وغيره أن النبي -ﷺ- قال: (ولا تنتقب المرأة المحرمة, ولا تلبس القفازين) فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها روي ذلك عن عثمان, وعائشة وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي, وإسحاق ومحمد بن الحسن ولا نعلم فيه خلافا وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله -ﷺ- فإذا حاذونا, سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه) رواه أبو داود والأثرم ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها, فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة, فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شيء عليها, كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاة وإن لم ترفعه مع القدرة افتدت لأنها استدامت الستر ولم أر هذا الشرط عن أحمد, ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة, فلو كان هذا شرطا لبين وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه قال أحمد: إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق, وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل كأنه يقول: إن النقاب من أسفل على وجهها. فصل:
ويجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطية الوجه ولا يمكن تغطية جميع الرأس إلا بجزء من الوجه ولا كشف جميع الوجه إلا بكشف جزء من الرأس, فعند ذلك ستر الرأس كله أولى لأنه آكد إذ هو عورة لا يختص تحريمه حالة الإحرام, وكشف الوجه بخلافه وقد أبحنا ستر جملته للحاجة العارضة فستر جزء منه لستر العورة أولى. فصل:
ولا بأس أن تطوف المرأة منتقبة, إذا كانت غير محرمة وطافت عائشة وهي منتقبة وكره ذلك عطاء ثم رجع عنه وذكر أبو عبد الله حديث ابن جريج, أن عطاء كان يكره لغير المحرمة أن تطوف منتقبة حتى حدثته عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة, أن عائشة طافت وهي منتقبة فأخذ به. مسألة:
قال: [ ولا تكتحل بكحل أسود ] الكحل بالإثمد في الإحرام مكروه للمرأة والرجل وإنما خص المرأة بالذكر لأنها محل الزينة, وهو في حقها أكثر من الرجل ويروى هذا عن عطاء والحسن ومجاهد قال مجاهد: هو زينة وروي عن ابن عمر أنه قال: يكتحل المحرم بكل كحل ليس فيه طيب قال مالك: لا بأس أن يكتحل المحرم من حر يجده في عينيه بالإثمد وغيره وروي عن أحمد, أنه قال: يكتحل المحرم ما لم يرد به الزينة قيل له: الرجال والنساء؟ قال: نعم والدليل على كراهته ما روي عن جابر (أن عليا قدم من اليمن فوجد فاطمة ممن حل, فلبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها, فقالت: أبي أمرني بهذا فقال النبي -ﷺ-: صدقت صدقت) رواه مسلم وغيره وهذا يدل على أنها كانت ممنوعة من ذلك وروي عن عائشة أنها قالت لامرأة: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد أو الأسود إذا ثبت هذا فإن الكحل بالإثمد مكروه, ولا فدية فيه ولا أعلم فيه خلافا وروت شميسة عن عائشة, قالت: اشتكيت عيني وأنا محرمة فسألت عائشة فقالت: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد, أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة فنحن نكرهه قال الشافعي: إن فعلا فلا أعلم عليهما فيه فدية بشيء. فصل:
فأما الكحل بغير الإثمد, فلا كراهة فيه ما لم يكن فيه طيب لما ذكرنا من حديث عائشة وقول ابن عمر وقد روى مسلم, عن نبيه بن وهب قال: خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل, اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان ليسأله, فأرسل إليه: أن اضمدها بالصبر فإن عثمان حدث (عن رسول الله -ﷺ- في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدها بالصبر) ففي هذا دليل على إباحة ما في معناه, مما ليس فيه زينة ولا طيب وكان إبراهيم لا يرى بالذرور الأحمر بأسا. مسألة:
قال: [ وتجتنب كل ما يجتنبه الرجل إلا في اللباس وتظليل المحمل ] قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه, من أهل العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجال إلا بعض اللباس, وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القمص والدروع والسراويلات والخمر والخفاف وإنما كان كذلك لأن أمر رسول الله -ﷺ- المحرم بأمر, وحكمه عليه يدخل فيه الرجال والنساء وإنما استثنى منه اللباس للحاجة إلى ستر المرأة, لكونها عورة إلا وجهها فتجردها يفضي إلى انكشافها, فأبيح لها اللباس للستر كما أبيح للرجل عقد الإزار كيلا يسقط, فتنكشف العورة ولم يبح عقد الرداء وقد روى ابن عمر أنه سمع رسول الله -ﷺ- (نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب, وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف) وهذا صريح, والمراد باللباس ها هنا المخيط من القميص والدروع والسراويلات والخفاف وما يستر الرأس ونحوه. فصل:
ويستحب للمرأة ما يستحب للرجل من الغسل عند الإحرام, والتطيب والتنظف لما ذكرنا من حديث عائشة أنها قالت: (كنا نخرج مع رسول الله -ﷺ- فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام, فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي -ﷺ- فلا ينكره عليها) والشابة والكبيرة في هذا سواء فإن عائشة كانت تفعله في عهد النبي -ﷺ- وهي شابة فإن قيل: أليس قد كره ذلك في الجمعة؟ قلنا: لأنها في الجمعة تقرب من الرجال, فيخاف الافتتان بها بخلاف مسألتنا ولهذا يلزم الحج النساء ولا تلزمهن الجمعة وكذلك يستحب لها قلة الكلام فيما لا ينفع, والإكثار من التلبية وذكر الله تعالى. مسألة:
قال: [ ولا تلبس القفازين ولا الخلخال, وما أشبهه ] القفازان: شيء يعمل لليدين تدخلهما فيهما من خرق تسترهما من الحر, مثل ما يعمل للبرد فيحرم على المرأة لبسه في يديها في حال إحرامها وهذا قول ابن عمر وبه قال عطاء وطاوس, ومجاهد والنخعي ومالك, وإسحاق وكان سعد بن أبي وقاص يلبس بناته القفازين وهن محرمات ورخص فيه علي وعائشة وعطاء وبه قال الثوري, وأبو حنيفة وللشافعي كالمذهبين واحتجوا بما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إحرام المرأة في وجهها) وأنه عضو يجوز ستره بغير المخيط فجاز ستره به كالرجلين ولنا ما روى ابن عمر, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين) رواه البخاري وروي أيضا أن النبي -ﷺ- (نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والخلخال) ولأن الرجل لما وجب عليه كشف رأسه تعلق حكم إحرامه بغيره, فمنع من لبس المخيط في سائر بدنه كذلك المرأة لما لزمها كشف وجهها ينبغي أن يتعلق حكم الإحرام بغير ذلك البعض, وهو اليدان وحديثهم المراد به الكشف فأما الستر بغير المخيط فيجوز للرجل ولا يجوز بالمخيط فأما الخلخال, وما أشبهه من الحلي مثل السوار والدملوج فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز لبسه وقد قال أحمد: المحرمة, والمتوفى عنها زوجها يتركان الطيب والزينة ولهما ما سوى ذلك وروي عن عطاء: أنه كان يكره للمحرمة الحرير والحلي وكرهه الثوري, وأبو ثور وروي عن قتادة أنه كان لا يرى بأسا أن تلبس المرأة الخاتم والقرط وهي محرمة وكره السوارين والدملجين والخلخالين وظاهر مذهب أحمد الرخصة فيه وهو قول ابن عمر وعائشة وأصحاب الرأي قال أحمد في رواية حنبل: تلبس المحرمة الحلي والمعصفر وقال عن نافع: كان نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحلي والمعصفر, وهن محرمات لا ينكر ذلك عبد الله وروى أحمد في "المناسك" عن عائشة, أنها قالت: تلبس المحرمة ما تلبس وهي حلال من خزها وقزها وحليها وقد ذكرنا حديث ابن عمر أنه سمع النبي -ﷺ- قال: (ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب, من معصفر أو خز أو حلي) قال ابن المنذر: لا يجوز المنع منه بغير حجة ويحمل كلام أحمد والخرقي في المنع على الكراهة لما فيه من الزينة وشبهه بالكحل بالإثمد, ولا فدية فيه كما لا فدية في الكحل وأما لبس القفازين ففيه الفدية لأنها لبست ما نهيت عن لبسه في الإحرام, فلزمتها الفدية كالنقاب. فصل:
قال القاضي: يحرم عليها شد يديها بخرقة لأنه ستر لبدنها بما يختص بها أشبه القفازين, وكما لو شد الرجل على جسده شيئا وإن لفت يديها من غير شد فلا فدية لأن المحرم هو اللبس لا تغطيتهما, كبدن الرجل. مسألة:
قال: [ ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها ] قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها وبهذا قال عطاء, ومالك والأوزاعي والشافعي, وأصحاب الرأي وروي عن سليمان بن يسار أنه قال: السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ولهذا لا يسن لها أذان ولا إقامة والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح. فصل:
ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء عند الإحرام لما روي عن ابن عمر, أنه قال: من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء ولأن هذا من زينة النساء فاستحب عند الإحرام كالطيب ولا بأس بالخضاب في حال إحرامها وقال القاضي: يكره لكونه من الزينة, فأشبه الكحل بالإثمد فإن فعلته ولم تشد يديها بالخرق فلا فدية وبهذا قال الشافعي, وابن المنذر وكان مالك ومحمد بن الحسن يكرهان الخضاب للمحرمة وألزماها الفدية ولنا, ما روى عكرمة أنه قال: كانت عائشة وأزواج النبي -ﷺ- يختضبن بالحناء, وهن حرم ولأن الأصل الإباحة وليس ها هنا دليل يمنع من نص ولا إجماع ولا هي في معنى المنصوص. فصل:
إذا أحرم الخنثى المشكل, لم يلزمه اجتناب المخيط لأننا لا نتيقن الذكورية الموجبة لذلك وقال ابن المبارك: يغطي رأسه ويكفر والصحيح أن الكفارة لا تلزمه لأن الأصل عدمها فلا نوجبها بالشك وإن غطى وجهه وحده لم يلزمه فدية لذلك وإن جمع بين تغطية وجهه بنقاب أو برقع, وبين تغطية رأسه أو لبس المخيط على بدنه لزمته الفدية لأنه لا يخلو أن يكون رجلا أو امرأة. فصل:
ويستحب للمرأة الطواف ليلا لأنه أستر لها وأقل للزحام فيمكنها أن تدنو من البيت, وتستلم الحجر وقد روى حنبل في "المناسك" بإسناده عن أبي الزبير أن عائشة كانت تطوف بعد العشاء أسبوعا أو أسبوعين, وترسل إلى أهل المجالس في المسجد: ارتفعوا إلى أهليكم فإن لهم عليكم حقا وعن محمد بن السائب بن بركة عن أمه, عن عائشة أنها أرسلت إلى أصحاب المصابيح أن يطفئوها, فأطفئوها فطفت معها في ستر أو حجاب فكانت كلما فرغت من أسبوع استلمت الركن الأسود, وتعوذت بين الركن والباب حتى إذا فرغت من ثلاثة أسابيع ذهبت إلى دبر سقاية زمزم, مما يلي الناس فصلت ست ركعات كلما ركعت ركعتين انحرفت إلى النساء, فكلمتهن تفصل بذلك صلاتها حتى فرغت. مسألة:
قال: [ ولا يتزوج المحرم, ولا يزوج فإن فعل فالنكاح باطل ] قوله: "لا يتزوج" أي لا يقبل النكاح لنفسه, "ولا يزوج" أي لا يكون وليا في النكاح ولا وكيلا فيه ولا يجوز تزويج المحرمة أيضا روي ذلك عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار, والزهري والأوزاعي ومالك, والشافعي وأجاز ذلك كله ابن عباس وهو قول أبي حنيفة لما روى ابن عباس أن النبي -ﷺ- (تزوج ميمونة وهو محرم) متفق عليه ولأنه عقد يملك به الاستمتاع فلا يحرمه الإحرام, كشراء الإماء ولنا ما روى أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا ينكح المحرم, ولا ينكح ولا يخطب) رواه مسلم ولأن الإحرام يحرم الطيب فيحرم النكاح, كالعدة فأما حديث ابن عباس فقد روى يزيد بن الأصم (عن ميمونة أن النبي -ﷺ- تزوجها حلالا, وبنى بها حلالا وماتت بسرف في الظلة التي بنى بها فيها) رواه أبو داود, والأثرم وعن أبي رافع قال: (تزوج رسول الله -ﷺ- ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال, وكنت أنا الرسول بينهما) قال الترمذي: هذا حديث حسن وميمونة أعلم بنفسها وأبو رافع صاحب القصة وهو السفير فيها, فهما أعلم بذلك من ابن عباس وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرا فكيف وقد كان صغيرا لا يعرف حقائق الأمور, ولا يقف عليها وقد أنكر عليه هذا القول وقال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وما تزوجها النبي -ﷺ- إلا حلالا فكيف يعمل بحديث هذا حاله؟ ويمكن حمل قوله: "وهو محرم" أي في الشهر الحرام, أو في البلد الحرام كما قيل: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما وقيل: تزوجها حلالا وأظهر أمر تزويجها وهو محرم ثم لو صح الحديثان, كان تقديم حديثنا أولى لأنه قول النبي -ﷺ- وذلك فعله والقول آكد لأنه يحتمل أن يكون مختصا بما فعله وعقد النكاح يخالف شراء الأمة فإنه يحرم بالعدة والردة واختلاف الدين, وكون المنكوحة أختا له من الرضاع ويعتبر له شروط غير معتبرة في الشراء. فصل:
ومتى تزوج المحرم أو زوج, أو زوجت محرمة فالنكاح باطل سواء كان الكل محرمين أو بعضهم لأنه منهي عنه, فلم يصح كنكاح المرأة على عمتها أو خالتها وعن أحمد: إن زوج المحرم لم أفسخ النكاح قال بعض أصحابنا: هذا يدل على أنه إذا كان الولي بمفرده أو الوكيل محرما لم يفسد النكاح والمذهب الأول وكلام أحمد يحمل على أنه لا يفسخه لكونه مختلفا فيه قال القاضي: ويفرق بينهما بطلقة وهكذا كل نكاح مختلف فيه قال أحمد, في رواية أبي طالب: إذا تزوجت بغير ولي لم يكن للولي أن يزوجها من غيره حتى يطلق ولأن تزويجها من غير طلاق يفضي إلى أن يجتمع للمرأة زوجان كل واحد منهما يعتقد حلها. فصل:
وتكره الخطبة للمحرم, وخطبة المحرمة ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين لأنه قد جاء في بعض ألفاظ حديث عثمان: (لا ينكح المحرم ولا ينكح, ولا يخطب) رواه مسلم ولأنه تسبب إلى الحرام فأشبه الإشارة إلى الصيد والإحرام الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات لأن حكمه باق في وجوب ما يجب في الإحرام, فكذلك ما يحرم به. فصل:
ويكره أن يشهد في النكاح لأنه معاونة على النكاح فأشبه الخطبة وإن شهد أو خطب لم يفسد النكاح وقال بعض أصحاب الشافعي: لا ينعقد النكاح بشهادة المحرمين لأن في بعض الروايات: (ولا يشهد) ولنا أنه لا مدخل للشاهد في العقد, فأشبه الخطيب وهذه اللفظة غير معروفة فلم يثبت بها حكم ومتى تزوج المحرم, أو زوج أو زوجت محرمة لم يجب بذلك فدية لأنه عقد فسد لأجل الإحرام, فلم تجب به فدية كشراء الصيد. مسألة:
قال: [ فإن وطئ المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل, فقد فسد حجهما وعليه بدنة إن كان استكرهها وإن كانت طاوعته, فعلى كل واحد منهما بدنة ] أما فساد الحج بالجماع في الفرج فليس فيه اختلاف قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر أن رجلا سأله, فقال: إني وقعت بامرأتي ونحن محرمان فقال: أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس, فاقضوا ما يقضون وحل إذا حلوا فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك, واهديا هديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج, وسبعة إذا رجعتم وكذلك قال ابن عباس وعبد الله بن عمرو لم نعلم لهم في عصرهم مخالفا روى حديثهم الأثرم في "سننه" وفي حديث ابن عباس: "ويتفرقان" من حيث يحرمان, حتى يقضيا حجهما قال ابن المنذر: قول ابن عباس أعلى شيء روي في من وطئ في حجه وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال ابن المسيب وعطاء والنخعي, والثوري والشافعي وإسحاق, وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا فرق بين ما قبل الوقوف وبعده وقال أبو حنيفة: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه وإن جامع بعده لم يفسد لقول النبي -ﷺ-: (الحج عرفة) ولأنه معنى يأمن به الفوات فأمن به الفساد, كالتحلل ولنا أن قول الصحابة الذين روينا قولهم مطلق في من واقع محرما, ولأنه جماع صادف إحراما تاما فأفسده كما قبل الوقوف وقوله عليه السلام: (الحج عرفة) يعني: معظمه أو أنه ركن متأكد فيه ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد, بدليل العمرة إذا ثبت هذا فإنه يجب على المجامع بدنة روي ذلك عن ابن عباس وعطاء وطاوس, ومجاهد ومالك والشافعي, وأبي ثور وقال الثوري وإسحاق: عليه بدنة فإن لم يجد فشاة وقال أصحاب الرأي: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه, وعليه شاة وإن كان بعده فعليه بدنة وحجه صحيح لأنه قبل الوقوف معنى يوجب القضاء, فلم يجب به بدنة كالفوات ولنا أنه جماع صادف إحراما تاما, فوجبت به البدنة كبعد الوقوف ولأنه قول من سمينا من الصحابة, ولم يفرقوا بين قبل الوقوف وبعده وأما الفوات فهو مفارق للجماع بالإجماع ولذلك لا يوجبون فيه الشاة بخلاف الجماع وإذا كانت المرأة مكرهة على الجماع, فلا هدي عليها ولا على الرجل أن يهدي عنها نص عليه أحمد لأنه جماع يوجب الكفارة فلم تجب به حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة, كما في الصيام وهذا قول إسحاق وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد, رواية أخرى: أن عليه أن يهدي عنها وهو قول عطاء ومالك لأن إفساد الحج وجد منه في حقهما فكان عليه لإفساده حجها هدي, قياسا على حجه وعنه ما يدل على أن الهدي عليها لأن فساد الحج ثبت بالنسبة إليها فكان الهدي عليها, كما لو طاوعت ويحتمل أنه أراد أن الهدي عليها يتحمله الزوج عنها فلا يكون رواية ثالثة فأما حال المطاوعة, فعلى كل واحد منهما بدنة هذا قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والنخعي, والضحاك ومالك والحكم, وحماد لأن ابن عباس قال: اهد ناقة ولتهد ناقة لأنها أحد المتجامعين من غير إكراه فلزمتها بدنة كالرجل وعن أحمد أنه قال: أرجو أن يجزئهما هدي واحد وروي ذلك عن عطاء, وهو مذهب الشافعي لأنه جماع واحد فلم يوجب أكثر من بدنة كحالة الإكراه والنائمة كالمكرهة في هذا وأما فساد الحج, فلا فرق فيه بين حال الإكراه والمطاوعة لا نعلم فيه خلافا. فصل:
ولا فرق بين الوطء في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة وبه قال الشافعي وأبو ثور ويتخرج في وطء البهيمة أن الحج لا يفسد به وهو قول مالك, وأبي حنيفة لأنه لا يوجب الحد فأشبه الوطء دون الفرج وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أن اللواط والوطء في الدبر لا يفسد الحج لأنه لا يثبت به الإحصان فلم يفسد الحج كالوطء دون الفرج ولنا, أنه وطء في فرج يوجب الاغتسال فأفسد الحج كوطء الآدمية في القبل ويفارق الوطء دون الفرج, فإنه ليس من الكبائر في الأجنبية ولا يوجب مهرا ولا عدة ولا حدا, ولا غسلا إلا أن ينزل فيكون كمسألتنا في رواية. فصل:
إذا تكرر الجماع, فإن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة ثانية كالأول, وإن لم يكن كفر عن الأول فكفارة واحدة وعنه أن لكل وطء كفارة لأنه سبب للكفارة فأوجبها كالأول والمذهب الأول لأنه جماع موجب للكفارة, فإذا تكرر قبل التكفير عن الأول لم يوجب كفارة ثانية كما في الصيام وقال أبو حنيفة: عليه للوطء الثاني شاة, سواء كفر عن الأول أو لم يكفر إلا أن يتكرر الوطء في مجلس واحد على وجه الرفض للإحرام لأنه وطء صادف إحراما ناقص الحرمة, فأوجب شاة كالوطء بعد التحلل الأول وقال مالك: لا يجب بالثاني شيء وروي ذلك عن عطاء لأنه لا يفسد الحج فلا يجب به شيء, كما لو كان قبل التكفير وقال الشافعي كقولنا وقريبا من قول أبي حنيفة ولنا, على وجوب البدنة إذا كفر أنه وطئ في إحرام ولم يتحلل منه, ولا أمكن تداخل كفارته في غيره فأشبه الوطء الأول ولأن الإحرام الفاسد كالصحيح في سائر الكفارات فكذلك في الوطء, ولأنه إذا لم يكفر عن الأول فتتداخل كفاراته كما يتداخل حكم المهر والحد, والتحديد بعدم التكفير أولى من التحديد بالمجلس الواحد لما ذكرنا من المهر والحد والتكفير في اليمين والظهار وغيرهما. مسألة:
قال: [ وإن وطئ دون الفرج فلم ينزل فعليه دم وإن أنزل فعليه بدنة, وقد فسد حجه ] أما إذا لم ينزل فإن حجه لا يفسد بذلك لا نعلم أحدا قال بفساد حجه لأنها مباشرة دون الفرج عريت عن الإنزال فلم يفسد بها الحج, كاللمس أو مباشرة لا توجب الاغتسال أشبهت اللمس, وعليه شاة وقال الحسن في من ضرب بيده على فرج جاريته: عليه بدنة وعن سعيد بن جبير: إذا نال منها ما دون الجماع ذبح بقرة ولنا أنها ملامسة من غير إنزال, فأشبهت لمس غير الفرج فأما إن أنزل فعليه بدنة وبذلك قال الحسن وسعيد بن جبير, والثوري وأبو ثور وقال الشافعي وأصحاب الرأي, وابن المنذر: عليه شاة لأنها مباشرة دون الفرج فأشبه ما لو لم ينزل ولنا أنه جماع أوجب الغسل, فأوجب بدنة كالوطء في الفرج وفي فساد حجه بذلك روايتان: إحداهما يفسد اختارها الخرقي, وأبو بكر وهو قول عطاء والحسن والقاسم بن محمد, ومالك وإسحاق لأنها عبادة يفسدها الوطء فأفسدها الإنزال عن مباشرة, كالصيام والثانية لا يفسد الحج وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر, وهي الصحيحة إن شاء الله لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلم يفسد الحج كما لو لم ينزل ولأنه لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معنى المنصوص عليه, لأن الوطء في الفرج يجب بنوعه الحد ويتعلق به اثنا عشر حكما ولا يفترق فيه الحال بين الإنزال وعدمه, والصيام يخالف الحج في المفسدات ولذلك يفسد بتكرار النظر مع الإنزال والمذي وسائر محظوراته والحج لا يفسد بشيء من محظوراته غير الجماع, فافترقا والمرأة كالرجل في هذا إذا كانت ذات شهوة وإلا فلا شيء عليها, كالرجل إذا لم يكن له شهوة. مسألة:
قال: [ فإن قبل فلم ينزل فعليه دم وإن أنزل فعليه بدنة, وعن أبي عبد الله -رحمه الله- رواية أخرى: إن أنزل فسد حجه ] وجملة ذلك أن حكم القبلة حكم المباشرة دون الفرج, سواء إلا أن الخرقي ذكر في هذه المسألة روايتين في إفساد الحج عند الإنزال ولم يذكر في إفساد الحج في الوطء دون الفرج إلا رواية واحدة, وقد ذكرنا أن فيها أيضا روايتين وذكرنا الخلاف فيه لكن نشير إلى الفرق توجيها لقول الخرقي فنقول: إنزال بغير وطء فلم يفسد به الحج, كالنظر ولأن اللذة بالوطء فوق اللذة بالقبلة فكانت فوقها في الواجب لأن مراتب أحكام الاستمتاع على وفق ما يحصل به من اللذة, فالوطء في الفرج أبلغ الاستمتاع فأفسد الحج مع الإنزال وعدمه والوطء دون الفرج دونه, فأوجب البدنة وأفسد الحج عند الإنزال والدم عند عدمه والقبلة دونهما, فتكون دونهما فيما يجب بها فيجب بها بدنة عند الإنزال من غير إفساد وتكرار النظر دون الجميع, فيجب به الدم عند الإنزال ولا يجب عند عدمه شيء ومن جمع بين الوطء دون الفرج والقبلة قال: كلاهما مباشرة, فاستوى حكمهما في الواجب بهما وقد روي عن ابن عباس أنه قال لرجل قبل زوجته: أفسدت حجتك وروي ذلك عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب وعطاء, وابن سيرين والزهري وقتادة, ومالك والثوري والشافعي, وأبو ثور وأصحاب الرأي: عليه دم وروي ذلك عن الشعبي وسعيد بن جبير وروى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث, أن عمر بن عبيد الله قبل عائشة بنت طلحة محرما فسأل فأجمع له على أن يهريق دما والظاهر أنه لم يكن أنزل لأنه لم يذكر وسواء أمذى أو لم يمذ وقال سعيد بن جبير: إن قبل فمذي أو لم يمذ, فعليه دم وسائر اللمس لشهوة كالقبلة فيما ذكرنا لأنه استمتاع يلتذ به فهو كالقبلة قال أحمد في من قبض على فرج امرأته, وهو محرم: فإنه يهريق دم شاة وقال عطاء: إذا قبل المحرم أو لمس فليهرق دما. مسألة:
قال: [ وإن نظر, فصرف بصره فأمنى فعليه دم, وإن كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة ] وجملة ذلك أن الحج لا يفسد بتكرار النظر, أنزل أو لم ينزل روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أبي حنيفة والشافعي وروي عن الحسن وعطاء, ومالك في من ردد النظر حتى أمنى: عليه حج قابل لأنه أنزل بفعل محظور أشبه الإنزال بالمباشرة ولنا, أنه إنزال عن غير مباشرة فأشبه الإنزال بالفكر والاحتلام والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع ثم إن المباشرة أبلغ في اللذة, وآكد في استدعاء الشهوة فلا يصح القياس عليه فأما إن نظر ولم يكرر فأمنى, فعليه شاة وإن كرره فأنزل ففيه روايتان إحداهما, عليه بدنة روي ذلك عن ابن عباس والثانية عليه شاة وهو قول سعيد بن جبير وإسحاق ورواية ثانية عن ابن عباس وقال أبو ثور: لا شيء عليه وحكي ذلك عن أبي حنيفة, والشافعي لأنه ليس بمباشرة أشبه الفكر ولنا أنه إنزال بفعل محظور, فأوجب الفدية كاللمس وقد روى الأثرم عن ابن عباس, أنه قال له رجل: فعل الله بهذه وفعل إنها تطيبت لي فكلمتني, وحدثتني حتى سبقتني الشهوة فقال ابن عباس: أتمم حجك وأهرق دما وروى حنبل في "المناسك", عن مجاهد أن محرما نظر إلى امرأته حتى أمذى فجعل يشتمها فقال ابن عباس: أهرق دما, ولا تشتمها. فصل:
فإن كرر النظر حتى أمذى: فقال أبو الخطاب: عليه دم وقال القاضي: ذكره الخرقي قال القاضي: لأنه جزء من المني ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس وإن لم يقترن بالنظر مني أو مذي, فلا شيء عليه سواء كرر النظر أو لم يكرره وقد روي عن أحمد في من جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد, أن عليه شاة وهذا محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يعرى عن اللمس ظاهرا, أو على أنه أمنى أو أمذى أما مجرد النظر, فلا شيء فيه فقد كان النبي -ﷺ- ينظر إلى نسائه وهو محرم وكذلك أصحابه. فصل:
فإن فكر فأنزل, فلا شيء عليه فإن الفكر يعرض للإنسان من غير إرادة ولا اختيار فلم يتعلق به حكم كما في الصيام, وقد قال النبي -ﷺ-: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به) متفق عليه. فصل:
والعمد والنسيان في الوطء سواء نص عليه أحمد فقال: إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده, والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده, والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده, فهذه الثلاثة العمد والنسيان فيها سواء ولم يذكر الخرقي النسيان ها هنا ولكن ذكره في الصيام وبين أن الوطء في الفرج أو دون الفرج مع الإنزال يستوي عمده وسهوه, وما عداه من القبلة واللمس والمذي بتكرار النظر يختلف حكم عمده وسهوه فهاهنا ينبغي أن يكون مثله لأن الوطء لا يكاد يتطرق النسيان إليه دون غيره ولأن الجماع مفسد للصوم دون غيره, فاستوى عمده وسهوه كالفوات بخلاف ما دونه والجاهل بالتحريم والمكره في حكم الناسي لأنه معذور وممن قال: إن عمد الوطء ونسيانه سواء أبو حنيفة, ومالك والشافعي في قديم قوليه وقال في الجديد: لا يفسد الحج ولا يجب عليه شيء مع النسيان والجهل لأنها عبادة يجب بإفسادها الكفارة, فافترق فيها وطء العامد والناسي كالصوم ولنا أنه سبب يتعلق به وجوب القضاء في الحج فاستوى عمده وسهوه, كالفوات والصوم ممنوع ثم إن الصوم لا تجب الكفارة فيه بالإفساد بدليل أن إفساده بكل ما عدا الجماع لا يوجب كفارة وإنما تجب بخصوص الجماع فافترقا. مسألة:
قال: [ وللمحرم أن يتجر, ويصنع الصنائع ويرتجع زوجته ] وعن أبي عبد الله -رحمه الله- , رواية أخرى في الارتجاع أن لا يفعل أما التجارة والصناعة فلا نعلم في إباحتهما اختلافا وقد روى ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية, فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} في مواسم الحج فأما الرجعة فالمشهور إباحتها وهو قول أكثر أهل العلم وفيه رواية ثانية, أنها لا تباح لأنها استباحة فرج مقصود بعقد فلا تباح للمحرم كالنكاح ووجه الرواية الصحيحة, أن الرجعية زوجة والرجعة إمساك بدليل قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق ولا نسلم أن الرجعة استباحة, فإن الرجعية مباحة وإن سلمنا أنها استباحة فتبطل بشرى الأمة للشراء, ولأن ما يتعلق به إباحة الزوجة مباح في النكاح كالتكفير في الظهار وأما شراء الإماء فمباح وسواء قصد به الشراء أو لم يقصد لا نعلم فيه خلافا, فإنه ليس بموضوع الاستباحة في البضع فأشبه شراء العبيد والبهائم ولذلك أبيح شراء من لا يحل وطؤها, فلذلك لم يحرم في حالة يحرم فيها الوطء. مسألة:
قال: [ وله أن يقتل الحدأة والغراب والفأرة, والعقرب والكلب العقور وكل ما عدا عليه, أو آذاه ولا فداء عليه ] هذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري والشافعي, وإسحاق وأصحاب الرأي وحكي عن النخعي أنه منع قتل الفأرة والحديث صريح في حل قتلها, فلا يعول على ما خالفه والمراد بالغراب الأبقع غراب البين وقال قوم: لا يباح من الغربان إلا الأبقع خاصة لأنه قد روي: (خمس فواسق يقتلن في الحرم: الحية والغراب الأبقع, والفأرة والكلب العقور والحدأة) رواه مسلم وهذا يقيد المطلق في الحديث الآخر, ولا يمكن حمله على العموم بدليل أن المباح من الغربان لا يحل قتله ولنا ما روت عائشة قالت: (أمر رسول الله -ﷺ- بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الحدأة والغراب, والفأرة والعقرب والكلب العقور) وعن ابن عمر, أن رسول الله -ﷺ- قال: (خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن) وذكر مثل حديث عائشة متفق عليه وفي لفظ لمسلم في حديث ابن عمر: (خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام) وهذا عام في الغراب, وهو أصح من الحديث الآخر ولأن غراب البين محرم الأكل يعدو على أموال الناس فلا وجه لإخراجه من العموم وفارق ما أبيح أكله, فإنه مباح ليس هو في معنى ما أبيح قتله فلا يلزم من تخصيصه تخصيص ما ليس في معناه وقول الخرقي: "وكل ما عدا عليه أو آذاه" يحتمل أنه أراد ما يبدأ المحرم فيعدو عليه في نفسه أو ماله, فهذا لا جناح على قاتله سواء كان من جنس طبعه الأذى أو لم يكن قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم, على أن السبع إذا بدأ المحرم فقتله لا شيء عليه ويحتمل أنه أراد ما كان طبعه الأذى والعدوان, وإن لم يوجد منه أذى في الحال قال مالك: الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فعلى هذا يباح قتل كل ما فيه أذى للناس في أنفسهم أو في أموالهم, مثل سباع البهائم كلها المحرم أكلها وجوارح الطير, كالبازي والعقاب والصقر, والشاهين ونحوها والحشرات المؤذية, والزنبور والبق والبعوض, والبراغيث والذباب وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي: يقتل ما جاء في الخبر والذئب, قياسا عليه ولنا أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه تنبيها على ما هو أعلى منها, ودلالة على ما كان في معناها فنصه على الحدأة والغراب تنبيه على البازي ونحوه وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات, وعلى العقرب تنبيه على الحية وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي هي أعلى منه ولأن ما لا يضمن بمثله, ولا بقيمته لا يضمن كالحشرات. فصل:
وما لا يؤذي بطبعه, ولا يؤكل كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للإحرام فيه, ولا جزاء فيه إن قتله وبهذا قال الشافعي وقال مالك: يحرم قتلها وإن قتلها فداها وكذلك كل سبع لا يعدو على الناس وإذا وطئ الذباب والنمل أو الذر, أو قتل الزنبور تصدق بشيء من الطعام ولنا أن الله تعالى إنما أوجب الجزاء في الصيد, وليس هذا بصيد قال بعض أهل اللغة: الصيد ما جمع ثلاثة أشياء فيكون مباحا وحشيا ممتنعا ولأنه لا مثل له ولا قيمة والضمان إنما يكون بأحد هذين الشيئين وروي عن عمر, أنه قرد بعيره بالسقيا وهو محرم ومعناه أنه نزع القراد عنه ورماه وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وروي أن ابن عباس قال لعكرمة وهو محرم: قرد البعير فكره ذلك فقال: قم فانحره فنحره فقال له ابن عباس: لا أم لك, كم قتلت فيها من قراد وحلمة وحمنانة؟ يعني كبار القراد رواه كله سعيد. فصل:
ولا تأثير للإحرام ولا للحرم في تحريم شيء من الحيوان الأهلي كبهيمة الأنعام ونحوها لأنه ليس بصيد وإنما حرم الله تعالى الصيد, وقد كان النبي -ﷺ- يذبح البدن في إحرامه في الحرم يتقرب إلى الله سبحانه بذلك وقال: (أفضل الحج العج والثج) يعني إسالة الدماء بالذبح والنحر وليس في هذا اختلاف. فصل:
ويحل للمحرم صيد البحر لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة} قال ابن عباس وابن عمر: طعامه ما ألقاه وعن ابن عباس: طعامه ملحه وعن سعيد بن المسيب, وسعيد بن جبير: طعامه الملح وصيده ما اصطدنا وأجمع أهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وأكله وبيعه وشراؤه وصيد البحر: الحيوان الذي يعيش في الماء ويبيض فيه, ويفرخ فيه كالسمك والسلحفاة والسرطان ونحو ذلك وحكي عن عطاء فيما يعيش في البر, مثل السلحفاة والسرطان فأشبه طير الماء ولنا أنه يبيض في الماء, ويفرخ فيه فأشبه السمك فأما طير الماء كالبط ونحوه, فهو من صيد البر في قول عامة أهل العلم وفيه الجزاء وحكي عن عطاء أنه قال: حيث يكون أكثر فهو صيده وقول عامة أهل العلم أولى لأنه يبيض في البر, ويفرخ فيه فكان من صيد البر كسائر طيره, وإنما إقامته في البحر لطلب الرزق والمعيشة منه كالصياد فإن كان جنس من الحيوان, نوع منه في البحر ونوع في البر كالسلحفاة فلكل نوع حكم نفسه, كالبقر منها الوحشي محرم والأهلي مباح. مسألة:
قال: [ وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم ] الأصل في تحريم صيد الحرم النص والإجماع أما النص, فما روى ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ- يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها, ولا تلتقط لقطتها إلا من عرفها فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر, فإنه لقينهم وبيوتهم فقال رسول الله: -ﷺ- إلا الإذخر) متفق عليه وأجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم. فصل:
وفيه الجزاء على من يقتله ويجزى بمثل ما يجزى به الصيد في الإحرام وحكي عن داود أنه لا جزاء فيه لأن الأصل براءة الذمة, ولم يرد فيه نص فيبقى بحاله ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم بشاة شاة روي ذلك عن عمر, وعثمان وابن عمر وابن عباس ولم ينقل عن غيرهم خلافهم, فيكون إجماعا ولأنه صيد ممنوع منه لحق الله تعالى أشبه الصيد في حق المحرم. فصل:
وما يحرم ويضمن في الإحرام يحرم ويضمن في الحرم وما لا فلا, إلا شيئين أحدهما القمل مختلف في قتله في الإحرام وهو مباح في الحرم بلا اختلاف لأنه حرم في الإحرام للترفه بقتله وإزالته, لا لحرمته ولا يحرم الترفه في الحل فأشبه ذلك قص الشعر وتقليم الظفر الثاني, صيد البحر مباح في الإحرام بغير خلاف ولا يحل صيده من آبار الحرم وعيونه وكرهه جابر بن عبد الله لعموم قوله عليه السلام: (لا ينفر صيدها) ولأن الحرمة تثبت للصيد كحرمة المكان, وهو شامل لكل صيد ولأنه صيد غير مؤذ فأشبه الظباء وعن أحمد, رواية أخرى: أنه مباح لأن الإحرام لا يحرمه فأشبه السباع والحيوان الأهلي. فصل:
ويضمن صيد الحرم في حق المسلم والكافر والكبير والصغير, والحر والعبد لأن الحرمة تعلقت بمحله بالنسبة إلى الجميع فوجب ضمانه كالآدمي. فصل:
ومن ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم, لزمه رفع يده عنه وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه, فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم وقال عطاء: إن ذبحه فعليه الجزاء وروي ذلك عن ابن عمر وممن كره إدخال الصيد الحرم, ابن عمر وابن عباس وعائشة, وعطاء وطاوس وإسحاق, وأصحاب الرأي ورخص فيه جابر بن عبد الله ورويت عنه الكراهة له أخرجه سعيد وقال هشام بن عروة: كان ابن الزبير تسع سنين يراها في الأقفاص وأصحاب النبي -ﷺ- لا يرون به بأسا ورخص فيه سعيد بن جبير, ومجاهد ومالك والشافعي, وأبو ثور وابن المنذر لأنه ملكه خارجا وحل له التصرف فيه, فجاز له ذلك في الحرم كصيد المدينة إذا أدخله حرمها ولنا أن الحرم سبب محرم للصيد, ويوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالإحرام ولأنه صيد ذبحه في الحرم فلزمه جزاؤه, كما لو صاده منه وصيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد الحرم. فصل:
ويضمن صيد الحرم بالدلالة والإشارة, كصيد الإحرام والواجب عليهما جزاء واحد نص عليه أحمد وظاهر كلامه أنه لا فرق بين كون الدال في الحل أو الحرم وقال القاضي: لا جزاء على الدال إذا كان في الحل والجزاء على المدلول وحده, كالحلال إذا دل محرما على صيده ولنا أن قتل الصيد الحرمي حرام على الدال فيضمنه بالدلالة, كما لو كان في الحرم يحققه أن صيد الحرم محرم على كل أحد لقوله عليه السلام: (لا ينفر صيدها) وفي لفظ: (لا يصاد صيدها) وهذا عام في حق كل واحد ولأن صيد الحرم معصوم بمحله, فحرم قتله عليهما كالملتجئ إلى الحرم وإذا ثبت تحريمه عليهما فيضمن بالدلالة ممن يحرم عليه قتله كما يضمن بدلالة المحرم عليه. فصل:
وإذا رمى الحلال من الحل صيدا في الحرم فقتله, أو أرسل كلبه عليه فقتله أو قتل صيدا على فرع في الحرم أصله في الحل, ضمنه وبهذا قال الثوري والشافعي وأبو ثور, وابن المنذر وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى, لا جزاء عليه في جميع ذلك لأن القاتل حلال في الحل وهذا لا يصح فإن النبي -ﷺ- قال: (لا ينفر صيدها) ولم يفرق بين من هو في الحل والحرم وقد أجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم وهذا من صيده, ولأن صيد الحرم معصوم بمحله بحرمة الحرم فلا يختص تحريمه بمن في الحرم وكذلك الحكم إن أمسك طائرا في الحل, فهلك فراخه في الحرم ضمن الفراخ لما ذكرنا ولا يضمن الأم لأنها من صيد الحل, وهو حلال وإن انعكست الحال فرمى من الحرم صيدا في الحل أو أرسل كلبه عليه, أو قتل صيدا على غصن في الحل أصله في الحرم أو أمسك حمامة في الحرم فهلك فراخها في الحل, فلا ضمان عليه كما في الحل قال أحمد في من أرسل كلبه في الحرم, فصاد في الحل: فلا شيء عليه وحكي عنه رواية أخرى في جميع الصور: يضمن وعن الشافعي ما يدل عليه وذهب الثوري, والشافعي وأبو ثور وابن المنذر في من قتل طائرا على غصن في الحل, أصله في الحرم: لا جزاء عليه وهو ظاهر قول أصحاب الرأي وقال ابن الماجشون وإسحاق: عليه الجزاء لأن الغصن تابع للأصل وهو في الحرم ولنا, أن الأصل حل الصيد فحرم صيد الحرم بقوله عليه السلام: (لا ينفر صيدها) وبالإجماع فبقي ما عداه على الأصل, ولأنه صيد حل صاده حلال فلم يحرم كما لو كانا في الحل, ولأن الجزاء إنما يجب في صيد الحرم أو صيد المحرم وليس هذا بواحد منهما. فصل:
فإن كان الصيد والصائد في الحل, فرمى الصيد بسهمه أو أرسل عليه كلبه فدخل الحرم, ثم خرج فقتل الصيد في الحل فلا جزاء فيه وبها قال أصحاب الرأي وأبو ثور, وابن المنذر وحكى أبو ثور عن الشافعي أن عليه الجزاء ولنا ما ذكرناه قال القاضي: لا يزيد سهمه على نفسه, ولو عدا بنفسه فسلك الحرم في طريقه ثم قتل صيدا في الحل, لم يكن عليه شيء فسهمه أولى. فصل:
وإن رمى من الحل صيدا في الحل فقتل صيدا في الحرم, فعليه جزاؤه وبهذا قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وقال أبو ثور: لا جزاء عليه وليس بصحيح لأنه قتل صيدا حرميا, فلزمه جزاؤه كما لو رمى حجرا في الحرم فقتل صيدا يحققه أن الخطأ كالعمد في وجوب الجزاء, وهذا لا يخرج عن كونه واحدا منهما فأما إن أرسل كلبه على صيد في الحل فدخل الكلب الحرم فقتل صيدا آخر, لم يضمنه وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي, وأبي ثور وابن المنذر لأنه لم يرسل الكلب على ذلك الصيد وإنما دخل باختيار نفسه, فهو كما لو استرسل بنفسه من غير إرسال وإن أرسله على صيد فدخل الصيد الحرم ودخل الكلب خلفه, فقتله في الحرم فكذلك نص عليه أحمد وهو قول الشافعي, وأبي ثور وابن المنذر وقال عطاء وأبو حنيفة, وصاحباه: عليه الجزاء لأنه قتل صيدا حرميا بإرسال كلبه عليه فضمنه, كما لو قتله بسهمه واختاره أبو بكر عبد العزيز وحكى صالح عن أحمد أنه قال: إن كان الصيد قريبا من الحرم, ضمنه لأنه فرط بإرساله في موضع يظهر أنه يدخل الحرم وإن كان بعيدا لم يضمن لعدم التفريط وهذا قول مالك ولنا, أنه أرسل الكلب على صيد مباح فلم يضمن كما لو قتل صيدا سواه وفارق السهم لأن الكلب له قصد واختيار, ولهذا يسترسل بنفسه ويرسله إلى جهة فيمضي إلى غيرها والسهم بخلافه إذا ثبت هذا فإنه لا يأكل الصيد في هذه المواضع كلها, ضمنه أو لم يضمنه لأنه صيد حرمي قتل في الحرم فحرم, كما لو ضمنه ولأننا إذا قطعنا فعل الآدمي صار كأن الكلب استرسل بنفسه, فقتله ولكن لو رمى الحلال من الحل صيدا في الحل فجرحه وتحامل الصيد فدخل الحرم, فمات فيه حل أكله ولا جزاء فيه لأن الذكاة حصلت في الحل, فأشبه ما لو جرح صيدا ثم أحرم فمات الصيد بعد إحرامه ويكره أكله لموته في الحرم. فصل:
وإن وقف صيد, بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فقتله قاتل, ضمنه تغليبا للحرم وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وإن نفر صيدا من الحرم فأصابه شيء في حال نفوره, ضمنه لأنه تسبب إلى إتلافه فأشبه ما لو تلف بشركه أو شبكته وإن سكن من نفوره ثم أصابه شيء, فلا شيء على من نفره نص عليه أحمد وهو قول الثوري لأنه لم يكن سببا لإتلافه وقد روي عن عمر أنه وقعت على ردائه حمامة, فأطارها فوقعت على واقف فانتهزتها حية فاستشار في ذلك عثمان ونافع بن عبد الحارث فحكما عليه بشاة وهذا يدل على أنهم رأوا عليه الضمان بعد سكوته لكن لو انتقل عن المكان الثاني, فأصابه شيء فلا ضمان عليه لأنه خرج عن المكان الذي طرد إليه وقول الثوري وأحمد إنما يدل على هذا لأن سفيان قال: إذا طردت في الحرم شيئا, فأصاب شيئا قبل أن يقع أو حين وقع ضمنت, وإن وقع من ذلك المكان إلى مكان آخر فليس عليك شيء فقال أحمد: جيد. مسألة:
قال: [ وكذلك شجره ونباته إلا الإذخر, وما زرعه الإنسان ] أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم وإباحة أخذ الإذخر وما أنبته الآدمي من البقول والزروع والرياحين حكى ذلك ابن المنذر, والأصل فيه ما روينا من حديث ابن عباس وروى أبو شريح وأبو هريرة نحوا من حديث ابن عباس وكلها متفق عليها وفي حديث أبي هريرة: (ألا وإنها ساعتي هذه حرام, لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها) وفي حديث أبي شريح أنه سمع رسول الله -ﷺ- يوم الفتح, قال: (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما, ولا يعضد بها شجرة) وروى الأثرم حديث أبي هريرة في "سننه" وفيه: (لا يعضد شجرها, ولا يحتش حشيشها ولا يصاد صيدها) فأما ما أنبته الآدمي من الشجر فقال أبو الخطاب, وابن عقيل: له قلعه من غير ضمان كالزرع وقال القاضي: ما نبت في الحل ثم غرس في الحرم, فلا جزاء فيه وما نبت أصله في الحرم ففيه الجزاء بكل حال وقال الشافعي: في شجر الحرم الجزاء بكل حال أنبته الآدميون, أو نبت بنفسه لعموم قوله عليه السلام: (لا يعضد شجرها) ولأنها شجرة نابتة في الحرم أشبه ما لم ينبته الآدميون وقال أبو حنيفة: لا جزاء فيما ينبت الآدميون جنسه كالجوز واللوز والنخل ونحوه, ولا يجب فيما ينبته الآدمي من غيره كالدوح والسلم والعضاه لأن الحرم يختص تحريمه ما كان وحشيا من الصيد كذلك الشجر وقول الخرقي: "وما زرعه الإنسان" يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر, فيكون كقول الشافعي ويحتمل أن يعم جميع ما يزرع فيدخل فيه الشجر ويحتمل أن يريد ما ينبت الآدميون جنسه والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله, بقوله عليه السلام: (لا يعضد شجرها) إلا ما أنبته الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان, فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحشي كذا ها هنا. فصل:
ويحرم قطع الشوك, والعوسج وقال القاضي وأبو الخطاب: لا يحرم وروي ذلك عن عطاء ومجاهد, وعمرو بن دينار والشافعي لأنه يؤذي بطبعه فأشبه السباع من الحيوان ولنا, قول النبي -ﷺ-: (لا يعضد شجرها) وفي حديث أبي هريرة: (لا يختلى شوكها) وهذا صريح ولأن الغالب في شجر الحرم الشوك فلما حرم النبي -ﷺ- قطع شجرها والشوك غالبه, كان ظاهرا في تحريمه. فصل:
ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه بمنزلة الميت ولا بقطع ما انكسر ولم يبن لأنه قد تلف فهو بمنزلة الظفر المنكسر ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي ولا ما سقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا لأن الخبر إنما ورد في القطع, وهذا لم يقطع فأما إن قطعه آدمي فقال أحمد: لم أسمع إذا قطع ينتفع به وقال في الدوحة تقلع: من شبهه بالصيد, لم ينتفع بحطبها وذلك لأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه لم ينتفع به, كالصيد يذبحه المحرم ويحتمل أن يباح لغير القاطع الانتفاع به لأنه انقطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به كما لو قطعه حيوان بهيمي, ويفارق الصيد الذي ذبحه لأن الذكاة تعتبر لها الأهلية ولهذا لا يحصل بفعل بهيمة, بخلاف هذا. فصل:
وليس له أخذ ورق الشجر وقال الشافعي: له أخذه لأنه لا يضر به وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنى يستمشي به ولا ينزع من أصله ورخص فيه عمرو بن دينار ولنا, أن النبي -ﷺ- قال: (لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها) رواه مسلم ولأن ما حرم أخذه حرم كل شيء منه كريش الطائر وقولهم: لا يضر به لا يصح فإنه يضعفها, وربما آل إلى تلفها. فصل:
ويحرم قطع حشيش الحرم إلا ما استثناه الشرع من الإذخر وما أنبته الآدميون, واليابس لقوله عليه السلام: (لا يختلى خلاها) وفي لفظ: (لا يحتش حشيشها) وفي استثناء النبي -ﷺ- الإذخر دليل على تحريم ما عداه وفي جواز رعيه وجهان أحدهما لا يجوز, وهو مذهب أبي حنيفة لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد والثاني, يجوز وهو مذهب عطاء والشافعي لأن الهدايا كانت تدخل الحرم فتكثر فيه, فلم ينقل أنه كانت تسد أفواهها ولأن بهم حاجة إلى ذلك أشبه قطع الإذخر. فصل:
ويباح أخذ الكمأة من الحرم, وكذلك الفقع لأنه لا أصل له فأشبه الثمرة وروى حنبل قال: يؤكل من شجر الحرم الضغابيس, والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس. فصل:
ويجب في إتلاف الشجر والحشيش الضمان . وبه قال الشافعي ، وأصحاب الرأي . وروي ذلك عن ابن عباس ، وعطاء . وقال مالك ، وأبو ثور ، وداود ، وابن المنذر : لا يضمن ؛ لأن المحرم لا يضمنه في الحل ، فلا يضمن في الحرم ، كالزرع . وقال ابن المنذر : لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم ، فرضا من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، وأقول كما قال مالك : نستغفر الله تعالى ، ولنا ، ما روى أبو هشيمة ، قال : رأيت عمر بن الخطاب ، أمر بشجر كان في المسجد يضر بأهل الطواف ، فقطع ، وفدى . قال : وذكر البقرة . رواه حنبل في "المناسك". وعن ابن عباس ، أنه قال : في الدوحة بقرة ، وفي الجزلة شاة . والدوحة : الشجرة العظيمة . والجزلة : الصغيرة . وعن عطاء نحوه . ولأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم ، فكان مضمونا كالصيد ، ويخالف المحرم ، فإنه لا يمتنع من قطع شجر الحل ، ولا زرع الحرم . إذا ثبت هذا ، فإنه يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة ، والصغيرة بشاة ، والحشيش بقيمته ، والغصن بما نقص . وبهذا قال الشافعي . وقال أصحاب الرأي : يضمن الكل بقيمته ؛ لأنه لا مقدر فيه ، فأشبه الحشيش . ولنا ، قول ابن عباس وعطاء ولأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه ، فكان فيه ما يضمن بمقدر كالصيد . فإن قطع غصنا أو حشيشا ، فاستخلف ، احتمل سقوط ضمانه ، كما إذا جرح صيدا فاندمل ، أو قطع شعر آدمي فنبت ، واحتمل أن يضمنه ؛ لأن الثاني غير الأول . فصل:
من قلع شجرة من الحرم, فغرسها في مكان آخر فيبست ضمنها لأنه أتلفها وإن غرسها في مكان من الحرم, فنبتت لم يضمنها لأنه لم يتلفها ولم يزل حرمتها وإن غرسها في الحل, فنبتت فعليه ردها إليه لأنه أزال حرمتها فإن تعذر ردها أو ردها فيبست, ضمنها وإن قلعها غيره من الحل فقال القاضي: الضمان على الثاني لأنه المتلف لها فإن قيل: فلم لا يجب على المخرج كالصيد إذا نفره من الحرم, فقتله إنسان في الحل فإن الضمان على المنفر؟ قلنا: الشجر لا ينتقل بنفسه ولا تزول حرمته بإخراجه, ولهذا وجب على قالعه رده والصيد يكون في الحرم تارة وفي الحل أخرى فمن نفره فقد فوت حرمته, فلزمه جزاؤه وهذا لم يفوت حرمته بالإخراج فكان الجزاء على متلفه, لأنه أتلف شجرا حرميا محرما إتلافه. فصل:
وإذا كانت شجرة في الحرم وغصنها في الحل فعلى قاطعه الضمان لأنه تابع لأصله وإن كانت في الحل, وغصنها في الحرم فقطعه ففيه وجهان: أحدهما: لا ضمان فيه وهو قول القاضي أبي يعلى لأنه تابع لأصله, كالتي قبلها والثاني يضمنه اختاره ابن أبي موسى لأنه في الحرم فإن كان بعض الأصل في الحل وبعضه في الحرم ضمن الغصن بكل حال, سواء كان في الحل أو في الحرم تغليبا لحرمة الحرم كما لو وقف صيد بعض قوائمه في الحل, وبعضها في الحرم. فصل:
ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: لا يحرم لأنه لو كان محرما لبينه النبي -ﷺ- بيانا عاما ولوجب فيه الجزاء, كصيد الحرم ولنا ما روى علي رضي الله عنه أن النبي -ﷺ- قال: (المدينة حرم ما بين ثور إلى عير) متفق عليه وروى تحريم المدينة أبو هريرة, ورافع وعبد الله بن زيد متفق على أحاديثهم ورواه مسلم عن سعد, وجابر وأنس وهذا يدل على تعميم البيان, وليس هو في الدرجة دون أخبار تحريم الحرم وقد قبلوه وأثبتوا أحكامه على أنه ليس بممتنع أن يبينه بيانا خاصا, أو يبينه بيانا عاما فينقل نقلا خاصا كصفة الأذان والوتر والإقامة. فصل:
وحرم المدينة ما بين لابتيها لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ما بين لابتيها حرام وكان أبو هريرة يقول: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها) متفق عليه واللابة: الحرة, وهي أرض فيها حجارة سود قال أحمد: ما بين لابتيها حرام بريد في بريد كذا فسره مالك بن أنس وروى أبو هريرة (أن رسول الله -ﷺ- جعل حول المدينة اثنا عشر ميلا حمى) رواه مسلم فأما قوله: (ما بين ثور إلى عير) فقال أهل العلم بالمدينة: لا نعرف بها ثورا ولا عيرا وإنما هما جبلان بمكة فيحتمل أن النبي -ﷺ- أراد قدر ما بين ثور وعير, ويحتمل أنه أراد جبلين بالمدينة وسماهما ثورا وعيرا تجوزا. فصل:
فمن فعل مما حرم عليه شيئا, ففيه روايتان: إحداهما: لا جزاء فيه وهذا قول أكثر أهل العلم وهو قول مالك والشافعي في الجديد لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام, فلم يجب فيه جزاء كصيد وج. والثانية: يجب فيه الجزاء وروي ذلك عن ابن أبي ذئب وهو قول الشافعي في القديم, وابن المنذر لأن رسول الله -ﷺ- قال: (إني أحرم المدينة مثلما حرم إبراهيم مكة) ونهى أن يعضد شجرها ويؤخذ طيرها, فوجب في هذا الحرم الجزاء كما وجب في ذلك إذ لم يظهر بينهما فرق, وجزاؤه إباحة سلب القاتل لمن أخذه لما روى مسلم بإسناده عن عامر بن سعد أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق, فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه, فلما رجع سعد جاء أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم, فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله -ﷺ- وأبي أن يرد عليهم وعن سعد أن رسول الله -ﷺ- قال: (من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه) رواه أبو داود فعلى هذا يباح لمن وجد آخذ الصيد أو قاتله, أو قاطع الشجر سلبه وهو أخذ ثيابه حتى سراويله فإن كان على دابة لم يملك أخذها لأن الدابة ليست من السلب وإنما أخذها قاتل الكافر في الجهاد لأنه يستعان بها على الحرب, بخلاف مسألتنا وإن لم يسلبه أحد فلا شيء عليه سوى الاستغفار والتوبة. فصل:
ويفارق حرم المدينة حرم مكة في شيئين: أحدهما, أنه يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف لما روى الإمام أحمد, عن جابر بن عبد الله (أن النبي -ﷺ- لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله إنا أصحاب عمل, وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخص لنا, فقال: القائمتان والوسادة والعارضة, والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء) قال إسماعيل بن أبي أويس, قال خارجة: المسند مرود البكرة فاستثنى ذلك وجعله مباحا كاستثناء الإذخر بمكة وعن علي, عن النبي -ﷺ- قال: (المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور لا يختلى خلاها, ولا ينفر صيدها ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره) وعن جابر, أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله -ﷺ- ولكن يهش هشا رفيقا) رواهما أبو داود ولأن المدينة يقرب منها شجر وزرع فلو منعنا من احتشاشها مع الحاجة, أفضى إلى الضرر بخلاف مكة الثاني, أن من صاد صيدا خارج المدينة ثم أدخله إليها لم يلزمه إرساله نص عليه أحمد لأن النبي -ﷺ- كان يقول: (يا أبا عمير, ما فعل النغير؟) وهو طائر صغير فظاهر هذا أنه أباح إمساكه بالمدينة إذ لم ينكر ذلك وحرمة مكة أعظم من حرمة المدينة, بدليل أنه لا يدخلها إلا محرم. فصل:
صيد وج وشجره مباح وهو واد بالطائف وقال أصحاب الشافعي: هو محرم لأن النبي -ﷺ- قال: (صيد وج وعضاهها محرم) رواه أحمد في "المسند" ولنا أن الأصل الإباحة, والحديث ضعيف ضعفه أحمد ذكره أبو بكر الخلال في كتاب "العلل". مسألة:
قال: [ وإن حصر بعدو, نحر ما معه من الهدي وحل ] أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدو من المشركين أو غيرهم, فمنعوه الوصول إلى البيت ولم يجد طريقا آمنا فله التحلل وقد نص الله تعالى عليه بقوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وثبت أن النبي -ﷺ- أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا, ويحلقوا ويحلوا وسواء كان الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما, في قول إمامنا وأبي حنيفة والشافعي وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل لأنه لا يخاف الفوات وليس بصحيح لأن الآية إنما نزلت في حصر الحديبية, وكان النبي -ﷺ- وأصحابه محرمين بعمرة فحلوا جميعا وعلى من تحلل بالإحصار الهدي في قول أكثر أهل العلم, وحكي عن مالك ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه وليس بصحيح لأن الله تعالى قال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية ولأنه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه, فكان عليه الهدي كالذي فاته الحج وبهذا فارق من أتم حجه. فصل:
ولا فرق بين الحصر العام في حق الحاج كله, وبين الخاص في حق شخص واحد مثل أن يحبس بغير حق أو أخذته اللصوص وحده لعموم النص, ووجود المعنى في الكل فأما من حبس بحق عليه يمكنه الخروج منه لم يكن له التحلل لأنه لا عذر له في الحبس وإن كان معسرا به عاجزا عن أدائه, فحبسه بغير حق فله التحلل كمن ذكرنا وإن كان عليه دين مؤجل, يحل قبل قدوم الحاج فمنعه صاحبه من الحج فله التحلل أيضا لأنه معذور ولو أحرم العبد بغير إذن سيده أو المرأة للتطوع بغير إذن زوجها, فلهما منعها وحكمهما حكم المحصر. فصل:
إن أمكن المحصر الوصول من طريق أخرى لم يبح له التحلل, ولزمه سلوكها بعدت أو قربت خشي الفوات أو لم يخشه, فإن كان محرما بعمرة لم يفت وإن كان بحج ففاته تحلل بعمرة وكذا لو لم يتحلل المحصر حتى خلي عنه, لزمه السعي وإن كان بعد فوات الحج ليتحلل بعمرة, ثم هل يلزمه القضاء إن فاته الحج؟ فيه روايتان: إحداهما يلزمه كمن فاته بخطأ الطريق والثانية, لا يجب لأن سبب الفوات الحصر أشبه من لم يجد طريقا أخرى بخلاف المخطئ. فصل:
فأما من لم يجد طريقا أخرى, فتحلل فلا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا يفعله بالوجوب السابق, في الصحيح من المذهب وبه قال مالك والشافعي وعن أحمد, أن عليه القضاء روي ذلك عن مجاهد وعكرمة والشعبي وبه قال أبو حنيفة لأن النبي -ﷺ- لما تحلل زمن الحديبية, قضى من قابل وسميت عمرة القضية ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه, فلزمه القضاء كما لو فاته الحج ووجه الأولى أنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له, فلم يجب قضاؤه كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب فلم يكن, فأما الخبر فإن الذين صدوا كانوا ألفا وأربعمائة والذين اعتمروا مع النبي -ﷺ- كانوا نفرا يسيرا, ولم ينقل إلينا أن النبي -ﷺ- أمر أحدا بالقضاء وأما تسميتها عمرة القضية فإنما يعني بها القضية التي اصطلحوا عليها, واتفقوا عليها ولو أرادوا غير ذلك لقالوا: عمرة القضاء ويفارق الفوات فإنه مفرط, بخلاف مسألتنا. فصل:
وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه, ويجزئه أدنى الهدي وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي} وله نحره في موضع حصره, من حل أو حرم نص عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي إلا أن يكون قادرا على أطراف الحرم, ففيه وجهان: أحدهما يلزمه نحره فيه لأن الحرم كله منحر وقد قدر عليه والثاني, ينحره في موضعه لأن النبي -ﷺ- نحر هديه في موضعه وعن أحمد: ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه ويواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه وهذا يروى عن ابن مسعود, في من لدغ في الطريق وروي نحو ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي, وعطاء وهذا والله أعلم في من كان حصره خاصا, وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل لتعذر وصول الهدي إلى محله ولأن النبي -ﷺ- وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية, وهي من الحل قال البخاري: قال مالك وغيره: إن النبي -ﷺ- وأصحابه حلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف, وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي -ﷺ- أمر أحدا أن يقضي شيئا ولا أن يعودوا له وروي أن النبي -ﷺ- نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان وهي من الحل باتفاق أهل السيرة والنقل قال الله تعالى: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} ولأنه موضع حله فكان موضع نحره, كالحرم وسائر الهدايا يجوز للمحصر نحرها في موضع تحلله فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} وقال: {ثم محلها إلى البيت العتيق} ولأنه ذبح يتعلق بالإحرام فلم يجز في غير الحرم, كدم الطيب واللباس قلنا: الآية في حق غير المحصر ولا يمكن قياس المحصر عليه لأن تحلل المحصر في الحل وتحلل غيره في الحرم, فكل منهما ينحر في موضع تحلله وقيل في قوله: {حتى يبلغ الهدي محله} أي حتى يذبح وذبحه في حق المحصر في موضع حله اقتداء بالنبي -ﷺ-. فصل:
ومتى كان المحصر محرما بعمرة, فله التحلل ونحر هديه وقت حصره لأن النبي -ﷺ- وأصحابه زمن الحديبية حلوا ونحروا هداياهم بها قبل يوم النحر وإن كان مفردا أو قارنا فكذلك في إحدى الروايتين لأن الحج أحد النسكين, فجاز الحل منه ونحر هديه وقت حصره كالعمرة ولأن العمرة لا تفوت, وجميع الزمان وقت لها فإذا جاز الحل منها ونحر هديها من غير خشية فواتها فالحج الذي يخشى فواته أولى والرواية الثانية, لا يحل ولا ينحر هديه إلى يوم النحر نص عليه في رواية الأثرم وحنبل لأن للهدي محل زمان ومحل مكان فإن عجز محل المكان فسقط, بقي محل الزمان واجبا لإمكانه وإذا لم يجز له نحر الهدي قبل يوم النحر لم يجز التحلل لقوله سبحانه: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} وإذا قلنا بجواز التحلل قبل يوم النحر, فالمستحب له مع ذلك الإقامة مع إحرامه رجاء زوال الحصر فمتى زال قبل تحلله, فعليه المضي لإتمام نسكه بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر: قال كل من أحفظ عنه من أهل العلم: إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل, فلم يفعل حتى خلي سبيله إن عليه أن يقضي مناسكه وإن زال الحصر بعد فوات الحج, تحلل بعمل عمرة فإن فات الحج قبل زوال الحصر تحلل بهدي وقيل: عليه ها هنا هديان هدي للفوات, وهدي للإحصار ولم يذكر أحمد في رواية الأثرم هديا ثانيا في حق من لا يتحلل إلى يوم النحر. فصل:
فإن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة, فله التحلل لأن الحصر يفيده التحلل من جميعه فأفاد التحلل من بعضه وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحج كالرمي, وطواف الوداع والمبيت بمزدلفة أو بمنى في لياليها فليس له التحلل لأن صحة الحج لا تقف على ذلك, ويكون عليه دم لتركه ذلك وحجه صحيح كما لو تركه من غير حصر وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة, فليس له أن يتحلل أيضا لأن إحرامه إنما هو عن النساء والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام الذي يحرم جميع محظوراته, فلا يثبت بما ليس مثله ومتى زال الحصر أتى بالطواف وقد تم حجه. فصل:
فأما من يتمكن من البيت ويصد عن عرفة, فله أن يفسخ نية الحج ويجعله عمرة ولا هدي عليه لأننا أبحنا له ذلك من غير حصر, فمع الحصر أولى فإن كان قد طاف وسعى للقدوم ثم أحصر أو مرض حتى فاته الحج, تحلل بطواف وسعى آخر لأن الأول لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها وليس عليه أن يجدد إحراما وبهذا قال الشافعي, وأبو ثور وقال الزهري: لا بد أن يقف بعرفة وقال محمد بن الحسن: لا يكون محصرا بمكة وروي ذلك عن أحمد فإن فاته الحج فحكمه حكم من فاته بغير حصر وقال مالك: يخرج إلى الحل ويفعل ما يفعل المعتمر, فإن أحب أن يستنيب من يتمم عنه أفعال الحج جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه, ولا يجوز في حج الفرض إلا إن يئس من القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج كله. فصل:
وإذا تحلل المحصر من الحج, فزال الحصر وأمكنه الحج لزمه ذلك إن كانت حجة الإسلام أو قلنا بوجوب القضاء, أو كانت الحجة واجبة في الجملة لأن الحج يجب على الفور وإن لم تكن الحجة واجبة ولا قلنا بوجوب القضاء فلا شيء عليه, كمن لم يحرم فصل:
وإن أحصر في حج فاسد فله التحلل لأنه إذا أبيح له التحلل في الحج الصحيح فالفاسد أولى فإن حل, ثم زال الحصر وفي الوقت سعة فله أن يقضي في ذلك العام وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد الحج فيه في غير هذه المسألة. مسألة:
قال: [ فإن لم يكن معه هدي ولا يقدر عليه, صام عشرة أيام ثم حل ] وجملة ذلك أن المحصر إذا عجز عن الهدي, انتقل إلى صوم عشرة أيام ثم حل وبهذا قال الشافعي في أحد قوليه وقال مالك, وأبو حنيفة: ليس له بدل لأنه لم يذكر في القرآن ولنا أنه دم واجب للإحرام فكان له بدل, كدم التمتع والطيب واللباس وترك النص عليه لا يمنع قياسه على غيره في ذلك ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام, كبدل هدي التمتع وليس له أن يتحلل إلا بعد الصيام كما لا يتحلل واجد الهدي إلا بنحره وهل يلزمه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي أو الصيام؟ ظاهر كلام الخرقي, أنه لا يلزمه لأنه لم يذكره وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى ذكر الهدي وحده ولم يشرط سواه والثانية عليه الحلق أو التقصير لأن النبي -ﷺ- حلق يوم الحديبية, وفعله في النسك دل على الوجوب ولعل هذا ينبني على أن الحلاق نسك أو إطلاق من محظور على ما يذكر في موضعه إن شاء الله. فصل:
ولا يتحلل إلا بالنية, مع ما ذكرنا فيحصل الحل بشيئين النحر أو الصوم والنية, إن قلنا الحلاق ليس بنسك وإن قلنا: هو نسك حصل بثلاثة أشياء الحلاق مع ما ذكرنا فإن قيل: فلم اعتبرتم النية ها هنا وهي في غير المحصر غير معتبرة؟ قلنا: لأن من أتى بأفعال النسك فقد أتى بما عليه, فيحل منها بإكمالها فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصور, فإنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها فافتقر إلى قصده ولأن الذبح قد يكون لغير الحل, فلم يتخصص إلا بقصده بخلاف الرمي فإنه لا يكون إلا للنسك, فلم يحتج إلى قصده. فصل:
فإن نوى التحلل قبل الهدي أو الصيام لم يتحلل وكان على إحرامه حتى ينحر الهدي أو يصوم لأنهما أقيما مقام أفعال الحج, فلم يحل قبلهما كما لا يتحلل القادر على أفعال الحج قبلها وليس عليه في نية الحل فدية لأنها لم تؤثر في العبادة فإن فعل شيئا من محظورات الإحرام قبل ذلك, فعليه فديته كما لو فعل القادر ذلك قبل أفعال الحج. فصل:
وإذا كان العدو الذي حصر الحاج مسلمين فأمكن الانصراف, كان أولى من قتالهم لأن في قتالهم مخاطرة بالنفس والمال وقتل مسلم فكان تركه أولى ويجوز قتالهم لأنهم تعدوا على المسلمين بمنعهم طريقهم فأشبهوا سائر قطاع الطريق وإن كانوا مشركين, لم يجب قتالهم لأنه إنما يجب بأحد أمرين إذا بدءوا بالقتال أو وقع النفير فاحتيج إلى مدد وليس ها هنا واحد منهما لكن إن غلب على ظن المسلمين الظفر بهم استحب قتالهم, لما فيه من الجهاد وحصول النصر وإتمام النسك وإن غلب على ظنهم ظفر الكفار, فالأولى الانصراف لئلا يغرروا بالمسلمين ومتى احتاجوا في القتال إلى لبس ما تجب فيه الفدية كالدرع والمغفر فعلوا وعليهم الفدية لأن لبسهم لأجل أنفسهم, فأشبه ما لو لبسوا للاستدفاء من دفع برد. فصل:
فإن أذن لهم العدو في العبور فلم يثقوا بهم فلهم الانصراف لأنهم خائفون على أنفسهم, فكأنهم لم يأمنوهم وإن وثقوا بأمانهم وكانوا معروفين بالوفاء, لزمهم المضي على إحرامهم لأنه قد زال حصرهم وإن طلب العدو خفارة على تخلية الطريق وكان ممن لا يوثق بأمانه, لم يلزمهم بذله لأن الخوف باق مع البذل وإن كان موثوقا بأمانه والخفارة كثيرة لم يجب بذله, بل يكره إن كان العدو كافرا لأن فيه صغارا وتقوية للكفار وإن كانت يسيرة فقياس المذهب وجوب بذله, كالزيادة في ثمن الماء للوضوء وقال بعض أصحابنا: لا يجب بذل خفارة بحال وله التحلل كما أنه في ابتداء الحج لا يلزمه إذا لم يجد طريقا آمنا من غير خفارة. مسألة:
قال: [ وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض, أو ذهاب نفقة بعث بهدي إن كان معه, ليذبحه بمكة وكان على إحرامه حتى يقدر على البيت ] المشهور في المذهب أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت بغير حصر العدو من مرض, أو عرج أو ذهاب نفقة ونحوه, أنه لا يجوز له التحلل بذلك روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ومروان وبه قال مالك, والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية أخرى: له التحلل بذلك روي نحوه عن ابن مسعود, وهو قول عطاء والنخعي والثوري, وأصحاب الرأي وأبي ثور لأن النبي -ﷺ- قال: (من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى) رواه النسائي ولأنه محصر يدخل في عموم قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} يحققه أن لفظ الإحصار إنما هو للمرض ونحوه, يقال: أحصره المرض إحصارا فهو محصر وحصره العدو, حصرا فهو محصور فيكون اللفظ صريحا في محل النزاع وحصر العدو مقيس عليه ولأنه مصدود عن البيت, أشبه من صده عدو ووجه الأولى أنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به بخلاف حصر العدو ولأن (النبي -ﷺ- دخل على ضباعة بنت الزبير, فقالت: إني أريد الحج وأنا شاكية فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) فلو كان المرض يبيح الحل, ما احتاجت إلى شرط وحديثهم متروك الظاهر فإن مجرد الكسر والعرج لا يصير به حلالا فإن حملوه على أنه يبيح التحلل, حملناه على ما إذا اشترط الحل بذلك على أن في حديثهم كلاما فإنه يرويه ابن عباس, ومذهبه خلافه فإن قلنا: يتحلل فحكمه حكم من أحصر بعدو على ما مضى وإن قلنا: لا يتحلل فإنه يقيم على إحرامه ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل فإن فاته الحج, تحلل بعمرة كغير المريض. فصل:
وإن شرط في ابتداء إحرامه أن يحل متى مرض أو ضاعت نفقته, أو نفدت أو نحوه أو قال إن حبسني حابس, فمحلي حيث حبسني فله الحل متى وجد ذلك ولا شيء عليه لا هدي, ولا قضاء ولا غيره فإن للشرط تأثيرا في العبادات, بدليل أنه لو قال: إن شفى الله مريضي صمت شهرا متتابعا أو متفرقا كان على ما شرطه وإنما لم يلزمه الهدي والقضاء لأنه إذا شرط شرطا كان إحرامه الذي فعله إلى حين وجود الشرط فصار بمنزلة من أكمل أفعال الحج, ثم ينظر في صيغة الشرط فإن قال: إن مرضت فلي أن أحل وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني فإذا حبس كان بالخيار بين الحل وبين البقاء على الإحرام وإن قال: إن مرضت فأنا حلال فمتى وجد الشرط, حل بوجوده لأنه شرط صحيح فكان على ما شرط. مسألة:
قال: [ فإن قال: أنا أرفض إحرامي وأحل فلبس الثياب وذبح الصيد, وعمل ما يعمله الحلال كان عليه في كل فعل فعله دم وإن كان وطئ, فعليه للوطء بدنة مع ما يجب عليه من الدماء ] وجملة ذلك أن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء كمال أفعاله أو التحلل عند الحصر, أو بالعذر إذا شرط وما عدا هذا فليس له أن يتحلل به فإن نوى التحلل لم يحل ولا يفسد الإحرام برفضه لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد, فلا يخرج منها برفضها بخلاف سائر العبادات ويكون الإحرام باقيا في حقه, تلزمه أحكامه ويلزمه جزاء كل جناية جناها عليه وإن وطئ أفسد حجه وعليه لذلك بدنة, مع ما وجب عليه من الدماء سواء كان الوطء قبل الجنايات أو بعدها فإن الجناية على الإحرام الفاسد توجب الجزاء, كالجناية على الصحيح وليس عليه لرفضه الإحرام شيء لأنه مجرد نية لم تؤثر شيئا. مسألة:
قال: [ ويمضي في الحج الفاسد ويحج من قابل ] وجملة ذلك أن الحج لا يفسد إلا بالجماع فإذا فسد فعليه إتمامه, وليس له الخروج منه روي ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة, وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال الحسن ومالك: يجعل الحجة عمرة, ولا يقيم على حجة فاسدة وقال داود: يخرج بالإفساد من الحج والعمرة لقول النبي -ﷺ-: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ولنا عموم قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا, ولأنه معنى يجب به القضاء فلم يخرج به منه كالفوات, والخبر لا يلزمنا لأن المضي فيه بأمر الله وإنما وجب القضاء لأنه لم يأت به على الوجه الذي يلزمه بالإحرام ونخص مالكا بأنها حجة لا يمكنه الخروج منها بالإخراج فلا يخرج منها إلى عمرة كالصحيحة إذا ثبت هذا فإنه لا يحل من الفاسد, بل يجب عليه أن يفعل بعد الإفساد كل ما يفعله قبله ولا يسقط عنه توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة, والرمي ويجتنب بعد الفساد كل ما يجتنبه قبله من الوطء ثانيا, وقتل الصيد والطيب واللباس, ونحوه وعليه الفدية في الجناية على الإحرام الفاسد كالفدية في الجناية على الإحرام الصحيح فأما الحج من قابل, فيلزمه بكل حال لكن إن كانت الحجة التي أفسدها واجبة بأصل الشرع أو بالنذر, أو قضاء كانت الحجة من قابل مجزئة لأن الفاسد إذا انضم إليه القضاء أجزأه عما يجزئ عنه الأول, لو لم يفسده وإن كانت الفاسدة تطوعا وجب قضاؤها لأنه بالدخول في الإحرام صار الحج عليه واجبا, فإذا أفسده وجب قضاؤه كالمنذور, ويكون القضاء على الفور ولا نعلم فيه مخالفا لأن الحج الأصلي واجب على الفور فهذا أولى لأنه قد تعين بالدخول فيه والواجب بأصل الشرع لم يتعين بذلك. فصل:
ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين: الميقات, أو موضع إحرامه الأول لأنه إن كان الميقات أبعد فلا يجوز له تجاوز الميقات بغير إحرام وإن كان موضع إحرامه أبعد, فعليه الإحرام بالقضاء منه نص عليه أحمد وروي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن المسيب والشافعي, وإسحاق واختاره ابن المنذر وقال النخعي: يحرم من موضع الجماع لأنه موضع الإفساد ولنا أنها عبادة فكان قضاؤها على حسب أدائها, كالصلاة. فصل:
وإذا قضيا تفرقا من موضع الجماع حتى يقضيا حجهما روي هذا عن عمر وابن عباس وروى سعيد, والأثرم بإسناديهما عن عمر أنه سئل عن رجل وقع بامرأته, وهما محرمان فقال: أتما حجكما فإذا كان عام قابل فحجا واهديا, حتى إذا بلغتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا حتى تحلا ورويا عن ابن عباس مثل ذلك وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء, والنخعي والثوري والشافعي, وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنهما يتفرقان من حيث يحرمان حتى يحلا ورواه مالك في " الموطأ " عن علي رضي الله عنه وروي عن ابن عباس وهو قول مالك لأن التفريق بينهما خوفا من معاودة المحظور وهو يوجد في جميع إحرامهما ووجه الأول أن ما قبل موضع الإفساد كان إحرامهما فيه صحيحا فلم يجب التفرق فيه, كالذي لم يفسد وإنما اختص التفريق بموضع الجماع لأنه ربما يذكره برؤية مكانه, فيدعوه ذلك إلى فعله ومعنى التفرق أن لا يركب معها في محمل ولا ينزل معها في فسطاط ونحوه قال أحمد: يتفرقان في النزول وفي المحمل والفسطاط, ولكن يكون بقربها وهل يجب التفريق أو يستحب؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجب وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يجب التفرق في قضاء رمضان إذا أفسداه كذلك الحج والثاني: يجب لأنه روي عمن سمينا من الصحابة الأمر به, ولم نعرف لهم مخالفا ولأن الاجتماع في ذلك الموضع يذكر الجماع فيكون من دواعيه والأول أولى لأن حكمة التفريق الصيانة عما يتوهم من معاودة الوقاع عند تذكره برؤية مكانه, وهذا وهم بعيد لا يقتضي الإيجاب. فصل:
والعمرة فيما ذكرناه كالحج فإن كان المعتمر مكيا أحرم بها من الحل, أحرم للقضاء من الحل وإن كان أحرم بها من الحرم أحرم للقضاء من الحل, ولا فرق بين المكي ومن حصل بها من المجاورين وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في فاسدها فأتمها, فقال أحمد: يخرج إلى الميقات فيحرم منه للحج فإن خشي الفوات أحرم من مكة, وعليه دم فإذا فرغ من حجه خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة, لما أفسد من عمرته ولو أفسد الحاج حجته وأتمها فله الإحرام بالعمرة من أدنى الحل, كالمكيين. فصل:
وإذا أفسد القضاء لم يجب عليه قضاؤه وإنما يقضي عن الحج الأول, كما لو أفسد قضاء الصلاة والصيام وجب القضاء للأصل دون القضاء, كذا ها هنا وذلك لأن الواجب لا يزداد بفواته وإنما يبقى ما كان واجبا في الذمة على ما كان عليه فيؤديه القضاء. باب ذكر الحج ودخول مكة يستحب الاغتسال لدخول مكة (لأن عبد الله بن عمر كان يغتسل, ثم يدخل مكة نهارا ويذكر أن النبي -ﷺ- كان يفعله) متفق عليه وللبخاري (أن ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم, أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح ويغتسل, ويحدث أن النبي -ﷺ- كان يفعل ذلك) ولأن مكة مجمع أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة والمرأة كالرجل, وإن كانت حائضا أو نفساء لقول رسول الله -ﷺ- لعائشة وقد حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) ولأن الغسل يراد للتنظيف وهذا يحصل مع الحيض, فاستحب لها ذلك وهذا مذهب الشافعي وفعله عروة والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون, والحارث بن سويد. فصل:
ويستحب أن يدخل مكة من أعلاها لما روى ابن عمر (أن رسول الله -ﷺ- دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى) وروت عائشة أن النبي -ﷺ- (لما جاء مكة دخل من أعلاها, وخرج من أسفلها) متفق عليهما ولا بأس أن يدخلها ليلا أو نهارا (لأن النبي -ﷺ- دخل مكة ليلا ونهارا) رواهما النسائي. مسألة:
قال: أبو القاسم -رحمه الله-: [ فإذا دخل المسجد فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة, فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر ] إنما استحب دخول المسجد من باب بني شيبة لأن النبي -ﷺ- دخل منه وفي حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره (أن النبي -ﷺ- دخل مكة ارتفاع الضحى, وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد) ويستحب رفع اليدين عند رؤية البيت روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال الثوري, وابن المبارك والشافعي وإسحاق وكان مالك لا يرى رفع اليدين لما روي عن المهاجر المكي, قال: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت أيرفع يديه؟ قال: ما كنت أظن أحدا يفعل هذا إلا اليهود, حججنا مع رسول الله -ﷺ- فلم يكن يفعله رواه النسائي ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: افتتاح الصلاة, واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة وعلى الموقفين والجمرتين) وهذا من قول النبي -ﷺ- وذاك من قول جابر, وخبره عن ظنه وفعله وقد خالفه ابن عمر وابن عباس ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت, وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء. فصل:
ويستحب أن يدعو عند رؤية البيت فيقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام, حينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا, وتكريما ومهابة وبرا, وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا, وتكريما ومهابة وبرا, الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه, وعز جلاله الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا, والحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك, اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله, لا إله إلا أنت قال الشافعي في "مسنده" : أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج (أن رسول الله -ﷺ- كان إذا رأى البيت رفع يديه, وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما, ومهابة وبرا وزد من شرفه, ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما, وبرا) وروي بإسناده عن سعيد بن المسيب أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول: "اللهم أنت السلام, ومنك السلام حينا ربنا بالسلام" قال بعض أصحابنا: يرفع صوته بذلك. فصل:
وإذا دخل المسجد فذكر فريضة أو فائتة, أو أقيمت الصلاة المكتوبة قدمهما على الطواف لأن ذلك فرض والطواف تحية, ولأنه لو أقيمت الصلاة في أثناء طوافه قطعه لأجلها فلأن يبدأ بها أولى وإن خاف فوت ركعتي الفجر, أو الوتر أو أحضرت جنازة قدمها لأنها سنة يخاف فوتها, والطواف لا يفوت. مسألة:
قال: [ ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع, وقبله ] معنى "استلمه" أي مسحه بيده مأخوذ من السلام وهي الحجارة فإذا مسح الحجر قيل استلم, أي: مس السلام قاله ابن قتيبة والمستحب لمن دخل المسجد أن لا يعرج على شيء قبل الطواف بالبيت اقتداء برسول الله -ﷺ- فإنه كان يفعل ذلك قال جابر في حديثه الصحيح: (حتى أتينا البيت معه, استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا) وعن عروة بن الزبير, عن عائشة (أن النبي -ﷺ- حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه وروى ذلك عروة عن أبي بكر, وعمر وعثمان وعبد الله بن عمر, ومعاوية وابن الزبير والمهاجرين, وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر, ولأن الطواف تحية المسجد الحرام فاستحب البداية به كما استحب لداخل غيره من المساجد أن يصلي ركعتين ويبتدئ الطواف بالحجر الأسود, فيستلمه وهو أن يمسحه بيده ويقبله قال أسلم: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر, وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا إني رأيت رسول الله -ﷺ- قبلك ما قبلتك متفق عليه وروى ابن ماجه عن ابن عمر, قال: (استقبل رسول الله -ﷺ- الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا ثم التفت, فإذا هو بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي فقال: يا عمر ها هنا تسكب العبرات) وقول الخرقي: "إن كان" يعني إن كان الحجر في موضعه لم يذهب به, كما ذهب به القرامطة مرة حين ظهروا على مكة فإذا كان ذلك, والعياذ بالله فإنه يقف مقابلا لمكانه ويستلم الركن وإن كان الحجر موجودا في موضعه, استلمه وقبله فإن لم يمكنه استلامه وتقبيله قام حياله أي بحذائه, واستقبله بوجهه فكبر وهلل وهكذا إن كان راكبا, فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: (طاف النبي -ﷺ- على بعير, كلما أتى الحجر أشار إليه بشيء في يده وكبر) وروي عن (النبي -ﷺ- أنه قال لعمر: إنك لرجل شديد تؤذي الضعيف إذا طفت بالبيت, فإذ رأيت خلوة من الحجر فادن منه وإلا فكبر ثم امض) فإن أمكنه استلام الحجر بشيء في يده, كالعصا ونحوها فعل فقد روى ابن عباس (أن رسول الله -ﷺ- طاف في حجة الوداع, يستلم الركن بمحجن) وهذا كله مستحب ويقول عند استلام الحجر: (باسم الله والله أكبر إيمانا بك, وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد -ﷺ-) رواه عبد الله بن السائب, عن النبي -ﷺ-. فصل:
ويحاذي الحجر بجميع بدنه فإن حاذاه ببعضه احتمل أن يجزئه لأنه حكم يتعلق بالبدن, فأجزأ فيه بعضه كالحد ويحتمل أن لا يجزئه لأن النبي -ﷺ- استقبل الحجر واستلمه, وظاهر هذا أنه استقبله بجميع بدنه ولأن ما لزمه استقباله لزمه بجميع بدنه, كالقبلة فإذا قلنا بوجوب ذلك فلم يفعله أو بدأ بالطواف من دون الركن, كالباب ونحوه لم يحتسب له بذلك الشوط ويحتسب بالشوط الثاني وما بعده, ويصير الثاني أوله لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه وأتى على جميعه فإذا أكمل سبعة أشواط غير الأول, صح طوافه وإلا لم يصح. فصل:
والمرأة كالرجل إلا أنها إذا قدمت مكة نهارا, فأمنت الحيض والنفاس استحب لها تأخير الطواف إلى الليل ليكون أستر لها ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر, لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنه الوصول إليه كما روى عطاء, قال: كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت: انطلقي عنك وأبت وإن خافت حيضا أو نفاسا, استحب لها تعجيل الطواف كي لا يفوتها. مسألة:
قال: [ ويضطبع بردائه ] معنى الاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ويرد طرفيه على كتفه اليسرى, ويبقي كتفه اليمنى مكشوفة وهو مأخوذ من الضبع وهو عضد الإنسان افتعال منه, وكان أصله اضتبع فقلبوا التاء طاء لأن التاء متى وضعت بعد ضاد أو صاد أو طاء ساكنة قلبت طاء ويستحب الاضطباع في طواف القدوم لما روى أبو داود وابن ماجه, عن يعلى بن أمية أن النبي -ﷺ- (طاف مضطبعا) ورويا أيضا عن ابن عباس (أن النبي -ﷺ- وأصحابه اعتمروا من الجعرانة, فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى) وبهذا قال الشافعي, وكثير من أهل العلم وقال مالك: ليس الاضطباع بسنة وقال: لم أسمع أحدا من أهل العلم ببلدنا يذكر أن الاضطباع سنة وقد ثبت بما روينا أن النبي -ﷺ- وأصحابه فعلوه وقد أمر الله تعالى باتباعه وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وقد روى أسلم, عن عمر بن الخطاب أنه اضطبع ورمل وقال: ففيم الرمل, ولِمَ نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين؟ بلى لن ندع شيئا فعلناه على عهد رسول الله -ﷺ- رواه أبو داود وإذا فرغ من الطواف سوى رداءه لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة وقال الأثرم: إذا فرغ من الأشواط التي يرمل فيها سوى رداءه والأول أولى لأن قوله: طاف النبي -ﷺ- مضطبعا ينصرف إلى جميعه ولا يضطبع في غير هذا الطواف, ولا يضطبع في السعي وقال الشافعي: يضطبع فيه لأنه أحد الطوافين فأشبه الطواف بالبيت ولنا أن النبي -ﷺ- لم يضطبع فيه, والسنة في الاقتداء به قال أحمد: ما سمعنا فيه شيئا والقياس لا يصح إلا فيما عقل معناه وهذا تعبد محض. مسألة:
قال: [ ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة, كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ] معنى الرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطو من غير وثب وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وقد ثبت (أن النبي -ﷺ- رمل ثلاثا ومشى أربعا) رواه جابر وابن عباس, وابن عمر وأحاديثهم متفق عليها فإن قيل: إنما رمل النبي -ﷺ- وأصحابه لإظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى, إذ قد نفى الله المشركين فلم قلتم: إن الحكم يبقى بعد زوال علته؟ قلنا: قد رمل النبي -ﷺ- وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح, فثبت أنها سنة ثابتة وقال ابن عباس: (رمل النبي -ﷺ- في عمره كلها وفي حجه) وأبو بكر وعمر, وعثمان والخلفاء من بعده رواه أحمد في "المسند" وقد ذكرنا حديث عمر إذا ثبت هذا, فإن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه لا يمشي في شيء منها روي ذلك عن عمر, وابن عمر وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال عروة, والنخعي ومالك والثوري, والشافعي وأصحاب الرأي وقال طاوس وعطاء, والحسن وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد, وسالم بن عبد الله: يمشي ما بين الركنين لما روى ابن عباس قال: (قدم رسول الله -ﷺ- وأصحابه مكة وقد وهنتهم الحمى, فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا فأطلع الله نبيه -ﷺ- على ما قالوا فلما قدموا قعد المشركون مما يلي الحجر, فأمر النبي -ﷺ- أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم, فلما رأوهم رملوا قال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد منا) قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها, إلا الإبقاء عليهم متفق عليه ولنا ما روى ابن عمر (أن النبي -ﷺ- رمل من الحجر إلى الحجر) وفي مسلم عن جابر, قال: (رأيت رسول الله -ﷺ- رمل من الحجر حتى انتهى إليه) وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه منها أن هذا إثبات, ومنها أن رواية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية وهذا إخبار عن فعل في حجة الوداع فيكون متأخرا, فيجب العمل به وتقديمه الثالث أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرا لا يضبط مثل جابر وابن عمر, فإنهما كانا رجلين يتتبعان أفعال النبي -ﷺ- ويحرصان على حفظها فهما أعلم, ولأن جلة الصحابة عملوا بما ذكرنا ولو علموا من النبي -ﷺ- ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره ويحتمل أن يكون ما رواه ابن عباس اختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم, والإبقاء عليهم وما رويناه سنة في سائر الناس.
==============
كتاب الحج الحج في اللغة: القصد وعن الخليل قال: الحج كثرة القصد إلى من تعظمه قال الشاعر: وأشهد من عوف حؤولا كثيرة ** يحجون سب الزبرقان المزعفرا أي: يقصدون والسب: العمامة وفي الحج لغتان: الحج والحج بفتح الحاء وكسرها والحج في الشرع: اسم لأفعال مخصوصة يأتي ذكرها, إن شاء الله وهو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} روي عن ابن عباس: ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب وقال الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} وأما السنة, فقول النبي -ﷺ-: (بني الإسلام على خمس) وذكر فيها الحج وروى مسلم بإسناده عن أبي هريرة قال: (خطبنا رسول الله -ﷺ- فقال: يا أيها الناس, قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله -ﷺ-: لو قلت نعم لوجبت, ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) في أخبار كثيرة سوى هذين وأجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة. مسألة:
قال أبو القاسم: [ ومن ملك زادا وراحلة, وهو بالغ عاقل لزمه الحج والعمرة ] وجملة ذلك أن الحج إنما يجب بخمس شرائط: الإسلام والعقل, والبلوغ والحرية والاستطاعة لا نعلم في هذا كله اختلافا فأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين, وقد روى علي بن أبي طالب عن النبي -ﷺ- أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب, وعن المعتوه حتى يعقل) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي, وقال: حديث حسن وأما العبد فلا يجب عليه لأنه عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة, ويضيع حقوق سيده المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد وأما الكافر فغير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء ولا يوجب قضاء وغير المستطيع لا يجب عليه لأن الله تعالى خص المستطيع بالإيجاب عليه, فيختص بالوجوب وقال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. فصل:
وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقساما ثلاثة منها ما هو شرط للوجوب والصحة وهو الإسلام والعقل, فلا تجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما لأنهما ليسا من أهل العبادات ومنها ما هو شرط للوجوب والإجزاء وهو البلوغ والحرية, وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي والعبد صح حجهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام ومنها ما هو شرط للوجوب فقط, وهو الاستطاعة فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج, كان حجه صحيحا مجزئا كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه أجزأه. فصل:
واختلفت الرواية في شرطين, وهما تخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من عدو ونحوه وإمكان المسير وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه فروي أنهما من شرائط الوجوب, فلا يجب الحج بدونهما لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج, فكان شرطا كالزاد والراحلة وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وروي أنهما ليسا من شرائط الوجوب, وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذه الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين, حج عنه بعد موته وإن أعسر قبل وجودهما بقي في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما وذلك لأن النبي -ﷺ- لما سئل: ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة" قال الترمذي: هذا حديث حسن وهذا له زاد وراحلة, ولأن هذا عذر يمنع نفس الأداء فلم يمنع الوجوب كالعضب ولأن إمكان الأداء ليس بشرط في وجوب العبادات, بدليل ما لو طهرت الحائض أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون, ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن أداؤها فيه والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة فيجب المصير إلى تفسيره, والفرق بينهما وبين الزاد والراحلة أنه يتعذر مع فقدهما الأداء دون القضاء وفقد الزاد والراحلة يتعذر معه الجميع, فافترقا. فصل:
وإمكان المسير معتبر بما جرت به العادة فلو أمكنه المسير بأن يحمل على نفسه ويسير سيرا يجاوز العادة أو يعجز عن تحصيل آلة السفر, لم يلزمه السعي وتخلية الطريق هو أن تكون مسلوكة لا مانع فيها بعيدة كانت أو قريبة, برا كان أو بحرا إذا كان الغالب السلامة فإن لم يكن الغالب السلامة, لم يلزمه سلوكه فإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة فقال القاضي: لا يلزمه السعي, وإن كانت يسيرة لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكبيرة وقال ابن حامد: إن كان ذلك مما لا يجحف بماله, لزمه الحج لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم. فصل:
والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة وبه قال الحسن, ومجاهد وسعيد بن جبير والشافعي, وإسحاق قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم وقال عكرمة: هي الصحة وقال الضحاك: إن كان شابا فليؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه وعن مالك: إن كان يمكنه المشي وعادته سؤال الناس, لزمه الحج لأن هذه الاستطاعة في حقه فهو كواجد الزاد والراحلة ولنا أن النبي -ﷺ- فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة, فوجب الرجوع إلى تفسيره فروى الدارقطني بإسناده عن جابر, وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وعائشة رضي الله عنهم أن النبي -ﷺ- (سئل ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) وروى ابن عمر قال: (جاء رجل إلى النبي -ﷺ- فقال: يا رسول الله, ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن وروى الإمام أحمد حدثنا هشيم, عن يونس عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (قال رجل: يا رسول الله, ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد, وما ذكروه ليس باستطاعة فإنه شاق وإن كان عادة, والاعتبار بعموم الأحوال دون خصوصها كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ومن لا يشق عليه. فصل:
ولا يلزمه الحج ببذل غيره له, ولا يصير مستطيعا بذلك سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيا وسواء بذل له الركوب والزاد, أو بذل له مالا وعن الشافعي أنه إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه لأنه أمكنه الحج من غير منة تلزمه ولا ضرر يلحقه, فلزمه الحج كما لو ملك الزاد والراحلة ولنا أن قول النبي -ﷺ- يوجب الحج "الزاد والراحلة", يتعين فيه تقدير ملك ذلك أو ملك ما يحصل به بدليل ما لو كان الباذل أجنبيا, ولأنه ليس بمالك للزاد والراحلة ولا ثمنهما فلم يلزمه الحج, كما لو بذل له والده ولا نسلم أنه لا يلزمه منة ولو سلمناه فيبطل ببذل الوالدة, وبذل من للمبذول عليه أياد كثيرة ونعم. فصل:
ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز, أو معاونة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس, استحب له الحج لقول الله تعالى: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} فقدم ذكر الرجال ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل وخروجا من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس, ويحصل كلا عليهم في التزام ما لا يلزمه وسئل أحمد عمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة؟ فقال: لا أحب له ذلك هذا يتوكل على أزواد الناس. فصل:
ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر فأما القريب الذي يمكنه المشي, فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها فلزمه, كالسعي إلى الجمعة وإن كان ممن لا يمكنه المشي اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز عن المشي فهو كالبعيد وأما الزاد فلا بد منه, فإن لم يجد زادا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج. فصل:
والزاد الذي تشترط القدرة عليه, هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة فإن كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص, أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله لزمه شراؤه وإن كانت تجحف بماله, لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء وإذا كان يجد الزاد في كل منزلة لم يلزمه حمله, وإن لم يجده كذلك لزمه حمله وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة, وإلا لم يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها لأن هذا يشق, ولم تجر العادة به ولا يتمكن من حمل الماء لبهائمه في جميع الطريق والطعام بخلاف ذلك, ويعتبر أيضا قدرته على الآلات التي يحتاج إليها كالغرائر ونحوها وأوعية الماء وما أشبهها لأنه مما لا يستغنى عنه, فهو كأعلاف البهائم. فصل:
وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما شراء أو كراء, لذهابه ورجوعه ويجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب, ولا يخشى السقوط أجزأ وجود ذلك وإن كان ممن لم تجر عادته بذلك ويخشى السقوط عنهما, اعتبر وجود محمل وما أشبهه مما لا مشقة في ركوبه ولا يخشى السقوط عنه لأن اعتبار الراحلة في حق القادر على المشي, إنما كان لدفع المشقة فيجب أن يعتبر ها هنا ما تندفع به المشقة وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله. فصل:
ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مئونتهم, في مضيه ورجوعه لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد, وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي -ﷺ- أنه قال: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) رواه أبو داود وأن يكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم وما لا بد منه, وأن يكون فاضلا عن قضاء دينه لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد, ولذلك منع الزكاة مع تعلق حقوق الفقراء بها وحاجتهم إليها, فالحج الذي هو خالص حق الله تعالى أولى وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى, كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها وإن احتاج إلى النكاح وخاف على نفسه العنت, قدم التزويج لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه, فهو كنفقته وإن لم يخف قدم الحج لأن النكاح تطوع, فلا يقدم على الحج الواجب وإن حج من تلزمه هذه الحقوق وضيعها صح حجه لأنها متعلقة بذمته فلا تمنع صحة فعله. فصل:
ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه, أو سكنى عياله أو يحتاجه إلى أجرته لنفقة نفسه أو عياله أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها فلم يكفهم, أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج وإن كان له من ذلك شيء فاضل عن حاجته, لزمه بيعه في الحج فإن كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به, لزمه وإن كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج وإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان, يستغني بأحدهما باع ما لا يحتاج إليه فإن كان له دين على مليء باذل له يكفيه للحج, لزمه لأنه قادر وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه, لم يلزمه. فصل:
وتجب العمرة على من يجب عليه الحج ، في إحدى الروايتين ، روي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي . وبه قال الثوري ، وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه . والرواية الثانية ، ليست واجبة ، وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ؛ لما روى جابر ، أن النبي ﷺ (سئل عن العمرة ، أواجبة هي ؟ قال : لا ، وأن تعتمروا فهو أفضل) أخرجه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح . وعن طلحة ، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : (الحج جهاد ، والعمرة تطوع) . رواه ابن ماجه . ولأنه نسك غير موقت ، فلم يكن واجبا ، كالطواف المجرد . ولنا ، قول الله تعالى : {وأتموا الحج والعمرة لله} . ومقتضى الأمر الوجوب ، ثم عطفها على الحج ، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه . قال ابن عباس : إنها لقرينة الحج في كتاب الله . وعن الصبي بن معبد قال : "أتيت عمر فقلت : يا أمير المؤمنين ، إني أسلمت ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما ، فقال عمر : هديت لسنة نبيك ﷺ" . رواه أبو داود ، والنسائي . وعن أبي رزين ، أنه أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله : (إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ، ولا الظعن . قال : حج عن أبيك ، واعتمر) . رواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وذكره أحمد ، ثم قال : وحديث يرويه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال : (أوصني . قال : تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج ، وتعتمر) . وروى الأثرم ، بإسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله ﷺ (كتب إلى أهل اليمن ، وكان في الكتاب : إن العمرة هي الحج الأصغر) . ولأنه قول من سمينا من الصحابة ، ولا مخالف لهم نعلمه ، إلا ابن مسعود ، على اختلاف عنه . وأما حديث جابر فقال الترمذي ، قال الشافعي : هو ضعيف ، لا تقوم بمثله الحجة ، وليس في العمرة شيء ثابت بأنها تطوع . وقال ابن عبد البر : روي ذلك بأسانيد لا تصح ، ولا تقوم بمثلها الحجة . ثم نحمله على المعهود ، وهي العمرة التي قضوها حين أحصروا في الحديبية ، أو على العمرة التي اعتمروها مع حجتهم ، مع النبي ﷺ فإنها لم تكن واجبة على من اعتمر ، أو نحمله على ما زاد على العمرة الواحدة ، وتفارق العمرة الطواف ؛ لأن من شرطها الإحرام ، والطواف بخلافه . فصل:
وليس على أهل مكة عمرة نص عليه أحمد وقال: كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ويقول: يا أهل مكة: ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت وبهذا قال عطاء, وطاوس قال عطاء: ليس أحد من خلق الله إلا عليه حج وعمرة واجبتان لا بد منهما لمن استطاع إليهما سبيلا إلا أهل مكة, فإن عليهم حجة وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت ووجه ذلك أن ركن العمرة ومعظمها الطواف بالبيت, وهم يفعلونه فأجزأ عنهم وحمل القاضي كلام أحمد على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج والأمر على ما قلناه. فصل:
وتجزئ عمرة المتمتع وعمرة القارن والعمرة من أدنى الحل عن العمرة الواجبة, ولا نعلم في إجزاء عمرة التمتع خلافا كذلك قال ابن عمر وعطاء وطاوس, ومجاهد ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وروي عن أحمد أن عمرة القارن لا تجزئ وهو اختيار أبي بكر وعن أحمد أن العمرة من أدنى الحل لا تجزئ عن العمرة الواجبة وقال: إنما هي من أربعة أميال واحتج على أن عمرة القارن لا تجزئ أن عائشة حين حاضت أعمرها من التنعيم فلو كانت عمرتها في قرانها أجزأتها لما أعمرها بعدها ولنا, قول الصبي بن معبد: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال عمر: (هديت لسنة نبيك) وهذا يدل على أنه أحرم بهما يعتقد أداء ما كتبه الله عليه منهما والخروج عن عهدتهما, فصوبه عمر وقال: هديت لسنة نبيك وحديث عائشة حين قرنت الحج والعمرة فقال لها النبي -ﷺ- حين حلت منهما: (قد حللت من حجك وعمرتك) وإنما أعمرها النبي -ﷺ- من التنعيم قصدا لتطييب قلبها, وإجابة مسألتها لا لأنها كانت واجبة عليها ثم إن لم تكن أجزأتها عمرة القران فقد أجزأتها العمرة من أدنى الحل, وهو أحد ما قصدنا الدلالة عليه ولأن الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها صحيحة فتجزئه, كعمرة المتمتع ولأن عمرة القارن أحد نسكي القران فأجزأت كالحج, والحج من مكة يجزئ في حق المتمتع فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى وإذا كان الطواف المجرد يجزئ عن العمرة في حق المكي فلأن تجزئ العمرة المشتملة على الطواف وغيره أولى. فصل:
ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارا روي ذلك عن علي, وابن عمر وابن عباس وأنس, وعائشة وعطاء وطاوس, وعكرمة والشافعي وكره العمرة في السنة مرتين الحسن وابن سيرين, ومالك وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة ولأن النبي -ﷺ- لم يفعله ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي -ﷺ- عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها, ولأن النبي -ﷺ- قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) متفق عليه وقال علي رضي الله عنه في كل شهر مرة وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر رواهما الشافعي في "مسنده" وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره وقال عطاء: إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما, فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه وكذلك قال أحمد: إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام وقال في رواية الأثرم: إن شاء اعتمر في كل شهر وقال بعض أصحابنا: يستحب الإكثار من الاعتمار وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه ولأن النبي -ﷺ- وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما, وإنما نقل عنهم إنكار ذلك والحق في اتباعهم قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت, ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء وقد اعتمر النبي -ﷺ- أربع عمر في أربع سفرات, لم يزد في كل سفرة على عمرة واحدة ولا أحد ممن معه ولم يبلغنا أن أحدا منهم جمع بين عمرتين في سفر واحد معه, إلا عائشة حين حاضت فأعمرها من التنعيم لأنها اعتقدت أن عمرة قرانها بطلت ولهذا قالت: يا رسول الله يرجع الناس بحج وعمرة, وأرجع أنا بحجة فأعمرها لذلك ولو كان في هذا فضل لما اتفقوا على تركه. فصل:
وروى ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: (عمرة في رمضان تعدل حجة) متفق عليه قال أحمد: من أدرك يوما من رمضان فقد أدرك عمرة رمضان وقال إسحاق: يعني هذا الحديث مثل ما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من قرأ قل هو الله أحد, فقد قرأ ثلث القرآن) وقال أنس: (حج النبي -ﷺ- حجة واحدة واعتمر أربع عمر واحدة في ذي القعدة وعمرة الحديبية, وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين) وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه وقال أحمد: حج النبي -ﷺ- حجة الوداع قال: وروي عن مجاهد أنه قال: حج قبل ذلك حجة أخرى وما هو يثبت عندي وروي عن جابر, قال: (حج النبي -ﷺ- ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر) وهذا حديث غريب. فصل:
وروي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -ﷺ-: (تابعوا بين الحج والعمرة, فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من أتى هذا البيت, فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) متفق عليه وهو في "الموطأ". مسألة:
قال: [ فإن كان مريضا لا يرجى برؤه ، أو شيخا لا يستمسك على الراحلة ، أقام من يحج عنه ويعتمر ، وقد أجزأ عنه وإن عوفي ] وجملة ذلك أن من وجدت فيه شرائط وجوب الحج ، وكان عاجزا عنه لمانع مأيوس من زواله ، كزمانة ، أو مرض لا يرجى زواله ، أو كان نضو الخلق ، لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة ، والشيخ الفاني ، ومن كان مثله متى وجد من ينوب عنه في الحج ، ومالا يستنيبه به ، لزمه ذلك . وبهذا قال أبو حنيفة ، والشافعي . وقال مالك : لا حج عليه ، إلا أن يستطيع بنفسه ، ولا أرى له ذلك ؛ لأن الله تعالى قال : {من استطاع إليه سبيلا} . وهذا غير مستطيع ، ولأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة ، فلا تدخلها مع العجز ، كالصوم والصلاة . ولنا ، حديث أبي رزين ، وروى ابن عباس ، أن امرأة من خثعم قالت : (يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : نعم . وذلك في حجة الوداع) . متفق عليه . وفي لفظ لمسلم ، قالت : (يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير ، عليه فريضة الله في الحج ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره . فقال النبي ﷺ : فحجي عنه) . وسئل علي ، رضي الله عنه ، عن شيخ لا يجد الاستطاعة ، قال . يجهز عنه . ولأن هذه عبادة تجب بإفسادها الكفارة ، فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله ، كالصوم إذا عجز عنه افتدى ، بخلاف الصلاة . فصل:
فإن لم يجد مالا يستنيب به فلا حج عليه بغير خلاف لأن الصحيح لو لم يجد ما يحج به, لم يجب عليه فالمريض أولى وإن وجد مالا ولم يجد من ينوب عنه, فقياس المذهب أنه ينبني على الروايتين في إمكان المسير هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط لزوم السعي؟ فإن قلنا: من شرائط لزوم السعي ثبت الحج في ذمته, هذا يحج عنه بعد موته وإن قلنا: من شرائط الوجوب لم يجب عليه شيء. فصل:
ومتى أحج هذا عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر وهذا قول إسحاق وقال الشافعي, وأصحاب الرأي وابن المنذر: يلزمه لأن هذا بدل إياس فإذا برأ, تبينا أنه لم يكن مأيوسا منه فلزمه الأصل كالآيسة إذا اعتدت بالشهور, ثم حاضت لا تجزئها تلك العدة ولنا أنه أتى بما أمر به, فخرج من العهدة كما لو لم يبرأ أو نقول: أدى حجة الإسلام بأمر الشارع, فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه, ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة وقولهم: لم يكن مأيوسا من برئه قلنا: لو لم يكن مأيوسا منه لما أبيح له أن يستنيب فإنه شرط لجواز الاستنابة أما الآيسة إذا اعتدت بالشهور, فلا يتصور عود حيضها فإن رأت دما فليس بحيض, ولا يبطل به اعتدادها ولكن من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه إذا اعتدت سنة, ثم عاد حيضها لم يبطل اعتدادها فأما إن عوفي قبل فراغ النائب من الحج فينبغي أن لا يجزئه الحج لأنه قدر على الأصل قبل تمام البدل, فلزمه كالصغيرة ومن ارتفع حيضها إذا حاضتا قبل إتمام عدتهما بالشهور, وكالمتيمم إذا رأى الماء في صلاته ويحتمل أن يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصيام ثم قدر على الهدي والمكفر إذا قدر على الأصل بعد الشروع في البدل وإن برأ قبل إحرام النائب, لم يجزئه بحال. فصل:
ومن يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل, لم يجزئه وإن لم يبرأ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: له ذلك ويكون ذلك مراعى فإن قدر على الحج بنفسه لزمه, وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه الميئوس من برئه ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه, فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه إن فعل كالفقير, وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير, وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يقاس عليه إلا من كان مثله فعلى هذا إذا استناب من يرجو القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه, فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابة فيها فأشبه الصحيح. فصل:
ولا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب إجماعا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج, لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند العجز, والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فأما حج التطوع فينقسم أقساما ثلاثة: أحدها, أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يصح أن يستنيب في حجة التطوع لأنه لا يصح أن يفعله بنفسه, فبنائبه أولى الثاني أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه, فيصح أن يستنيب في التطوع فإن ما جازت الاستنابة في فرضه جازت في نفله, كالصدقة الثالث أن يكون قد أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحج بنفسه, فهل له أن يستنيب في حج التطوع؟ فيه روايتان إحداهما يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها, كالمعضوب والثانية لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه, كالفرض. فصل:
فإن كان عاجزا عنه عجزا مرجو الزوال كالمريض مرضا يرجى برؤه والمحبوس, جاز له أن يستنيب فيه لأنه حج لا يلزمه عجز عن فعله بنفسه فجاز له أن يستنيب فيه, كالشيخ الكبير والفرق بينه وبين الفرض أن الفرض عبادة العمر, فلا يفوت بتأخيره عن هذا العام والتطوع مشروع في كل عام فيفوت حج هذا العام بتأخيره, ولأن حج الفرض إذا مات قبل فعله فعل بعد موته وحج التطوع لا يفعل, فيفوت. فصل:
وفي الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه, مما يتعدى نفعه ويختص فاعله أن يكون من أهل القربة روايتان: إحداهما, لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق والأخرى يجوز وهو مذهب مالك, والشافعي وابن المنذر لأن النبي -ﷺ- قال: (أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) رواه البخاري وأخذ أصحاب النبي -ﷺ- الجعل على الرقية بكتاب الله, وأخبروا بذلك النبي -ﷺ- فصوبهم فيه ولأنه يجوز أخذ النفقة عليه فجاز الاستئجار عليه كبناء المساجد والقناطر ووجه الرواية الأولى أن عبادة بن الصامت كان يعلم رجلا القرآن, فأهدى له قوسا فسأل النبي -ﷺ- عن ذلك فقال له: (إن سرك أن تتقلد قوسا من نار, فتقلدها) وقال النبي -ﷺ- لعثمان بن أبي العاص: (واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) ولأنها عبادة يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليها, كالصلاة والصوم وأما الأحاديث التي في أخذ الجعل والأجرة فإنما كانت في الرقية, وهي قضية في عين فتختص بها وأما بناء المساجد فلا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة, ويجوز أن يقع قربة وغير قربة فإذا وقع بأجرة لم يكن قربة ولا عبادة, ولا يصح ها هنا أن يكون غير عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة, فلم يصح ولا يلزم من جواز أخذ النفقة جواز أخذ الأجرة بدليل القضاء والشهادة والإمامة, يؤخذ عليها الرزق من بيت المال وهو نفقة في المعنى ولا يجوز أخذ الأجرة عليها وفائدة الخلاف, أنه متى لم يجز أخذ الأجرة عليها فلا يكون إلا نائبا محضا وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه, فلو مات أو أحصر أو مرض, أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان لما أنفق نص عليه أحمد لأنه إنفاق بإذن صاحب المال فأشبه ما لو أذن له في سد بثق فانبثق ولم ينسد وإذا ناب عنه آخر, فإنه يحج من حيث بلغ النائب الأول من الطريق لأنه حصل قطع هذه المسافة بمال المنوب عنه فلم يكن عليه الإنفاق دفعة أخرى, كما لو خرج بنفسه فمات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه, وينفق على نفسه بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تقتير وليس له التبرع بشيء منه إلا أن يؤذن له في ذلك قال أحمد, في الذي يأخذ دراهم للحج: لا يمشي ولا يقتر في النفقة ولا يسرف وقال في رجل أخذ حجة عن ميت, ففضلت معه فضلة: يردها ولا يناهد أحدا إلا بقدر ما لا يكون سرفا ولا يدعو إلى طعامه, ولا يتفضل ثم قال: أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له: حج بهذه فله أن يتوسع فيها, وإن فضل شيء فهو له وإذا قال الميت: حجوا عني حجة بألف درهم فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له وإن قلنا: يجوز الاستئجار على الحج جاز أن يقع الدفع إلى النائب من غير استئجار, فيكون الحكم فيه على ما مضى وإن استأجره ليحج عنه أو عن ميت اعتبر فيه شروط الإجارة من معرفة الأجرة وعقد الإجارة, وما يأخذه أجرة له يملكه ويباح له التصرف فيه والتوسع به في النفقة وغيرها, وما فضل فهو له وإن أحصر أو ضل الطريق, أو ضاعت النفقة منه فهو في ضمانه والحج عليه, وإن مات انفسخت الإجارة لأن المعقود عليه تلف فانفسخ العقد, كما لو ماتت البهيمة المستأجرة ويكون الحج أيضا من موضع بلغ إليه النائب وما لزمه من الدماء فعليه لأن الحج عليه. فصل:
فأما النائب غير المستأجر, فما لزمه من الدماء بفعل محظور فعليه في ماله لأنه لم يؤذن له في الجناية فكان موجبا عليه, كما لو لم يكن نائبا ودم المتعة والقران إن أذن له في ذلك, على المستنيب لأنه أذن في سببهما وإن لم يؤذن له فعليه لأنه كجنايته, ودم الإحصار على المستنيب لأنه للتخلص من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع وإن أفسد حجه فالقضاء عليه, ويرد ما أخذ لأن الحجة لم تجزئ عن المستنيب لتفريطه وجنايته وكذلك إن فاته الحج بتفريطه وإن فات بغير تفريط احتسب له بالنفقة لأنه لم يفت بفعله, فلم يكن مخالفا كما لو مات وإن قلنا بوجوب القضاء فهو عليه في نفسه, كما لو دخل في حج ظن أنه عليه ولم يكن ففاته. فصل:
وإذا سلك النائب طريقا يمكنه سلوك أقرب منه, ففاضل النفقة في ماله وإن تعجل عجلة يمكنه تركها فكذلك وإن أقام بمكة أكثر من مدة القصر بعد إمكان السفر للرجوع, أنفق من مال نفسه لأنه غير مأذون له فيه فأما من لا يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة لأنه مأذون له فيه وله نفقة الرجوع, وإن أقام بمكة سنين ما لم يتخذها دارا فإن اتخذها دارا ولو ساعة, لم يكن له نفقة رجوعه لأنه صار بنية الإقامة مكيا فسقطت نفقته فلم تعد وإن مرض في الطريق, فعاد فله نفقة رجوعه لأنه لا بد له منه حصل بغير تفريطه, فأشبه ما لو قطع عليه الطريق أو أحصر وإن قال: خفت أن أمرض فرجعت فعليه الضمان لأنه متوهم وعن أحمد في من مرض في الكوفة فرجع, يرد ما أخذ وفي جميع ذلك إذا أذن له في النفقة فله ذلك لأن المال للمستنيب فجاز ما أذن فيه وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره, لم يصح الشرط لأن ذلك من موجبات فعله أو الحج الواجب عليه فلم يجز شرطه على غيره, كما لو شرطه على أجنبي. فصل:
يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة والمرأة عن الرجل والمرأة في الحج, في قول عامة أهل العلم لا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن بن صالح فإنه كره حج المرأة عن الرجل قال ابن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة, فإن النبي -ﷺ- أمر المرأة أن تحج عن أبيها وعليه يعتمد من أجاز حج المرء عن غيره وفي الباب حديث أبي رزين وأحاديث سواه. فصل:
ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه, فرضا كان أو تطوعا لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه كالزكاة, فأما الميت فتجوز عنه بغير إذن واجبا كان أو تطوعا لأن النبي -ﷺ- أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له, وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فعلى هذا كل ما يفعله النائب عن المستنيب مما لم يؤمر به, مثل أن يؤمر بحج فيعتمر أو بعمرة فيحج يقع عن الميت لأنه يصح عنه من غير إذنه, ولا يقع عن الحي لعدم إذنه فيه ويقع عمن فعله لأنه لما تعذر وقوعه عن المنوي عنه وقع عن نفسه, كما لو استنابه رجلان فأحرم عنهما جميعا وعليه رد النفقة لأنه لم يفعل ما أمر به, فأشبه ما لو لم يفعل شيئا. فصول في مخالفة النائب:
إذا أمره بحج فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات ثم حج نظرت فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج جاز, ولا شيء عليه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وإن أحرم بالحج من مكة فعليه دم لترك ميقاته ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة وقال القاضي: لا يقع فعله عن الآمر, ويرد جميع النفقة لأنه أتى بغير ما أمر به وهو مذهب أبي حنيفة ولنا أنه إذا أحرم من الميقات فقد أتى بالحج صحيحا من ميقاته وإن أحرم به من مكة, فما أخل إلا بما يجبره الدم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم, فأحرم دونه وإن أمره بالإفراد فقرن لم يضمن شيئا وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة: يضمن لأنه مخالف ولنا أنه أتى بما أمر به وزيادة, فصح ولم يضمن كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى به شاتين تساوي إحداهما دينارا ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها, فلا شيء عليه وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها. فصل:
وإن أمره بالتمتع فقرن, وقع عن الآمر لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة, فأحرم به من الميقات وظاهر كلام أحمد أنه لا يرد شيئا من النفقة وهو مذهب الشافعي وقال القاضي: يرد نصف النفقة لأن غرضه في عمرة مفردة وتحصيل فضيلة التمتع وقد خالفه في ذلك وفوته عليه وإن أفرد وقع عن المستنيب أيضا, ويرد نصف النفقة لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات وقد أمره به وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئا. فصل:
فإن أمره بالقران فأفرد أو تمتع, صح ووقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات وفي جميع ذلك, إذا أمره بالنسكين ففعل أحدهما دون الآخر رد من النفقة بقدر ما ترك, ووقع المفعول عن الآمر وللنائب من النفقة بقدره. فصل:
وإن استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة, وأذنا له في القران ففعل جاز لأنه نسك مشروع وإن قرن من غير إذنهما, صح ووقع عنهما ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما وإن أذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآمر نصف نفقته وحده وقال القاضي: إذا لم يأذنا له ضمن الجميع لأنه أمر بنسك مفرد, ولم يأت به فكان مخالفا كما لو أمر بحج فاعتمر ولنا, أنه أتى بما أمر به وإنما خالف في صفته لا في أصله, فأشبه من أمر بالتمتع فقرن ولو أمر بأحد النسكين فقرن بينه وبين النسك الآخر لنفسه فالحكم فيه كذلك, ودم القران على النائب إذا لم يؤذن له فيه لعدم الإذن في سببه وعليهما إن أذنا لوجود الإذن في سببه ولو أذن أحدهما دون الآخر, فعلى الآذن نصف الدم ونصفه على النائب. فصل:
وإن أمر بالحج فحج, ثم اعتمر لنفسه أو أمره بعمرة فاعتمر, ثم حج عن نفسه صح ولم يرد شيئا من النفقة لأنه أتى بما أمر به على وجهه وإن أمره بالإحرام من ميقات فأحرم من غيره, جاز لأنهما سواء في الإجزاء وإن أمره بالإحرام من بلده فأحرم من الميقات جاز لأنه الأفضل وإن أمره بالإحرام من الميقات, فأحرم من بلده جاز لأنه زيادة لا تضر وإن أمره بالحج في سنة أو بالاعتمار في شهر, ففعله في غيره جاز لأنه مأذون فيه في الجملة. فصل:
فإن استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما, وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه عنهما وليس أحدهما بأولى من صاحبه وإن أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه لأنه إذا وقع عن نفسه ولم ينوها, فمع نيته أولى وإن أحرم عن أحدهما غير معين احتمل أن يقع عن نفسه أيضا لأن أحدهما ليس أولى من الآخر فأشبه ما لو أحرم عنهما واحتمل أن يصح لأن الإحرام يصح بالمجهول, فصح عن المجهول وإلا صرفه إلى من شاء منهما اختاره أبو الخطاب فإن لم يفعل حتى طاف شوطا وقع عن نفسه, ولم يكن له صرفه إلى أحدهما لأن الطواف لا يقع عن غير معين. مسألة:
قال: [ وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل ] ظاهر هذا أن الحج لا يجب على المرأة التي لا محرم لها لأنه جعلها بالمحرم كالرجل في وجوب الحج فمن لا محرم لها لا تكون كالرجل فلا يجب عليها الحج وقد نص عليه أحمد, فقال أبو داود: قلت: لأحمد: امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج؟ قال: لا وقال أيضا: المحرم من السبيل وهذا قول الحسن, والنخعي وإسحاق وابن المنذر, وأصحاب الرأي وعن أحمد أن المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب فمتى فاتها الحج بعد كمال الشرائط الخمس, بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة لأن شروط الحج المختصة به قد كملت, وإنما المحرم لحفظها فهو كتخلية الطريق وإمكان المسير وعنه رواية ثالثة, أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب قال الأثرم: سمعت أحمد يسأل: هل يكون الرجل محرما لأم امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال: أما في حجة الفريضة فأرجو لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته, وأما في غيرها فلا والمذهب الأول وعليه العمل وقال ابن سيرين ومالك والأوزاعي, والشافعي ليس المحرم شرطا في حجها بحال قال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به وقال مالك: تخرج مع جماعة النساء وقال الشافعي: تخرج مع حرة مسلمة ثقة وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول تتخذ سلما تصعد عليه وتنزل, ولا يقربها رجل إلا أنه يأخذ رأس البعير وتضع رجلها على ذراعه قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث, واشترط كل واحد منهم شرطا لا حجة معه عليه واحتجوا بأن النبي -ﷺ- فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وقال لعدي بن حاتم: (يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت, لا جوار معها لا تخاف إلا الله) ولأنه سفر واجب فلم يشترط له المحرم, كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر, تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم) وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (لا يخلون رجل بامرأة, إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله إني كنت في غزوة كذا, وانطلقت امرأتي حاجة فقال النبي -ﷺ-: انطلق فاحجج مع امرأتك) متفق عليهما وروى ابن عمر وأبو سعيد نحوا من حديث أبي هريرة قال أبو عبد الله: أما أبو هريرة: فيقول: "يوما وليلة" ويروى عن أبي هريرة: "لا تسافر سفرا" أيضا وأما حديث أبي سعيد يقول: "ثلاثة أيام" قلت: ما تقول أنت؟ قال: لا تسافر سفرا قليلا ولا كثيرا, إلا مع ذي محرم وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس أن النبي -ﷺ- قال: (لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم) وهذا صريح في الحكم ولأنها أنشأت سفرا في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع وحديثهم محمول على الرجل, بدليل أنهم اشترطوا خروج غيرها معها فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي -ﷺ- في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل ويحتمل أنه أراد أن الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط, ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان المسير وقضاء الدين, ونفقة العيال واشترط مالك إمكان الثبوت على الراحلة وهي غير مذكورة في الحديث واشترط كل واحد منهم في محل النزاع شرطا من عند نفسه, لا من كتاب ولا من سنة فما ذكره النبي -ﷺ- أولى بالاشتراط ولو قدر التعارض, فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقديم وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه, ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها وقد اشترطوا ها هنا خروج غيرها معها وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار, فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل الضرر المتوهم, فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلا. فصل:
والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح, كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا, إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها) رواه مسلم قال أحمد: ويكون زوج أم المرأة محرما لها يحج بها ويسافر الرجل مع أم ولد جده فإذا كان أخوها من الرضاعة خرجت معه وقال في أم امرأته: ويكون محرما لها في حج الفرض, دون غيره قال الأثرم: كأنه ذهب إلى أنها لم تذكر في قوله: {ولا يبدين زينتهن} الآية فأما من تحل له في حال كعبدها وزوج أختها, فليسا بمحرم لها نص عليه أحمد لأنهما غير مأمونين عليها ولا تحرم عليهما على التأبيد فهما كالأجنبي وقد روي عن نافع, عن ابن عمر عن النبي -ﷺ- قال: (سفر المرأة مع عبدها ضيعة) أخرجه سعيد وقال الشافعي: عبدها محرم لها لأنه يباح له النظر إليها فكان محرما لها, كذي رحمها والأول أولى ويفارق ذا الرحم لأنه مأمون عليها وتحرم عليه على التأبيد وينتقض ما ذكروه بالقواعد من النساء, وغير أولى الإربة من الرجال وأما أم الموطوءة بشبهة أو المزني بها أو ابنتهما, فليس بمحرم لهما لأن تحريمهما بسبب غير مباح فلم يثبت به حكم المحرمية كالتحريم الثابت باللعان وليس له الخلوة بهما, ولا النظر إليهما لذلك والكافر ليس بمحرم للمسلمة وإن كانت ابنته قال أحمد في يهودي أو نصراني أسلمت ابنته: لا يزوجها ولا يسافر معها, ليس هو لها بمحرم وقال أبو حنيفة والشافعي: هو محرم لها لأنها محرمة عليه على التأبيد ولنا أن إثبات المحرمية يقتضي الخلوة بها, فيجب أن لا تثبت لكافر على مسلمة كالحضانة للطفل ولأنه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطفل, وما ذكروه يبطل بأم المزني بها وابنتها والمحرمة باللعان, وبالمجوسي مع ابنته ولا ينبغي أن يكون في المجوسي خلاف فإنه لا يؤمن عليها ويعتقد حلها نص عليه أحمد في مواضع ويشترط في المحرم أن يكون بالغا عاقلا قيل لأحمد: فيكون الصبي محرما؟ قال: لا, حتى يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف يخرج مع امرأة وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة ولا يحصل إلا من البالغ العاقل, فاعتبر ذلك. فصل:
ونفقة المحرم في الحج عليها نص عليه أحمد لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زادا وراحلة لها ولمحرمها فإن امتنع محرمها من الحج معها, مع بذلها له نفقته فهي كمن لا محرم لها لأنها لا يمكنها الحج بغير محرم وهل يلزمه إجابتها إلى ذلك؟ على روايتين نص عليهما والصحيح أنه لا يلزمه الحج معها لأن في الحج مشقة شديدة وكلفة عظيمة, فلا تلزم أحدا لأجل غيره كما لم يلزمه أن يحج عنها إذا كانت مريضة. فصل:
وإذا مات محرم المرأة في الطريق فقال أحمد: إذا تباعدت مضت, فقضت الحج قيل له: قدمت من خراسان فمات وليها ببغداد؟ فقال: تمضي إلى الحج وإذا كان الفرض خاصة فهو آكد ثم قال: لا بد لها من أن ترجع وهذا لأنها لا بد لها من السفر بغير محرم, فمضيها إلى قضاء حجها أولى لكن إن كان حجها تطوعا وأمكنها الإقامة في بلد فهو أولى من سفرها بغير محرم. فصل:
وليس للرجل منع امرأته من حجة الإسلام وبهذا قال النخعي, وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي, وهو الصحيح من قولي الشافعي وله قول آخر له منعها منه بناء على أن الحج على التراخي ولنا أنه فرض, فلم يكن له منعها منه كصوم رمضان والصلوات الخمس ويستحب أن تستأذنه في ذلك نص عليه أحمد فإن, أذن وإلا خرجت بغير إذنه فأما حج التطوع فله منعها منه قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج إلى الحج التطوع وذلك لأن حق الزوج واجب, فليس لها تفويته بما ليس بواجب كالسيد مع عبده وليس له منعها من الحج المنذور لأنه واجب عليها أشبه حجة الإسلام. فصل:
ولا تخرج إلى الحج في عدة الوفاة نص عليه أحمد قال: ولها أن تخرج إليه في عدة الطلاق المبتوت وذلك لأن لزوم المنزل, والمبيت فيه واجب في عدة الوفاة وقدم على الحج لأنه يفوت, والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك وأما عدة الرجعية فالمرأة فيه بمنزلتها في طلب النكاح لأنها زوجة وإذا خرجت للحج, فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في منزلها وإن تباعدت, مضت في سفرها ذكره الخرقي في موضع آخر. مسألة:
قال: [ فمن فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة ] وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج وأمكنه فعله, وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي: يجب الحج وجوبا موسعا, وله تأخيره لأن النبي -ﷺ- أمر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربا, ولا مشغولا بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيا له, دل على أن وجوبه على التراخي ولنا قول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} والأمر على الفور وروي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من أراد الحج فليتعجل) رواه الإمام أحمد وأبو داود, وابن ماجه وفي رواية أحمد وابن ماجه: (فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة, وتعرض الحاجة) قال أحمد: ورواه الثوري ووكيع عن أبي إسرائيل, عن فضيل بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, عن أخيه الفضل عن النبي -ﷺ- وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج, فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا) قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وروى سعيد بن منصور بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس, أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء, يهوديا أو نصرانيا) وعن عمر نحوه من قوله وكذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ولأنه أحد أركان الإسلام, فكان واجبا على الفور كالصيام ولأن وجوبه بصفة التوسع يخرجه عن رتبة الواجبات لأنه يؤخر إلى غير غاية ولا يأثم بالموت قبل فعله, لكونه فعل ما يجوز له فعله وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله فأما النبي -ﷺ- فإنما فتح مكة سنة ثمان وإنما أخره سنة تسع, فيحتمل أنه كان له عذر من عدم الاستطاعة أو كره رؤية المشركين عراة حول البيت, فأخر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي: أن (لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) ويحتمل أنه أخره بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ويصادف وقفة الجمعة ويكمل الله دينه ويقال: إنه اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين, ولم يجتمع قبله ولا بعده فأما تسمية فعل الحج قضاء فإنه يسمى بذلك قال الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} وعلى أنه لا يلزم من الوجوب على الفور تسمية القضاء فإن الزكاة تجب على الفور, ولو أخرها لا تسمى قضاء والقضاء الواجب على الفور إذا أخره لا يسمى قضاء القضاء ولو غلب على ظنه في الحج أنه لا يعيش إلى سنة أخرى, لم يجز له تأخيره فلو أخره لا يسمى قضاء إذا ثبت هذا عدنا إلى شرح مسألة الكتاب فنقول: متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج, وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط وبهذا قال الحسن وطاوس, والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت, كالصلاة ولنا ما روى ابن عباس (أن امرأة سألت النبي -ﷺ- عن أبيها مات ولم يحج؟ قال: حجي عن أبيك) وعنه (أن امرأة نذرت أن تحج, فماتت فأتى أخوها النبي -ﷺ- فسأله عن ذلك؟ فقال: أرأيت لو كان على أختك دين أما كنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فاقضوا دين الله, فهو أحق بالقضاء) رواهما النسائي وروى هذا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي -ﷺ- ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة, فلم يسقط بالموت كالدين ويخرج عليه الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة والعمرة كالحج في القضاء, فإنها واجبة وقد أمر النبي -ﷺ- أبا رزين أن يحج عن أبيه ويعتمر ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر, فكان من جميع المال كدين الآدمي. فصل:
ويستناب من يحج عنه من حيث وجب عليه إما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه وبهذا قال الحسن, وإسحاق ومالك في النذر وقال عطاء في الناذر: إن لم يكن نوى مكانا فمن ميقاته واختاره ابن المنذر وقال الشافعي فيمن عليه حجة الإسلام: يستأجر من يحج عنه من الميقات لأن الإحرام لا يجب من دونه ولنا, أن الحج واجب على الميت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه لأن القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء الصلاة والصيام, وكذلك الحكم في حج النذر والقضاء فإن كان له وطنان استنيب من أقربهما فإن وجب عليه الحج بخراسان ومات ببغداد أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان, فقال أحمد: يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته ويحتمل أن يحج عنه من أقرب المكانين لأنه لو كان حيا في أقرب المكانين لم يجب عليه الحج من أبعد منه, فكذلك نائبه فإن أحج عنه من دون ذلك فقال القاضي: إن كان دون مسافة القصر أجزأه لأنه في حكم القريب وإن كان أبعد لم يجزئه لأنه لم يؤد الواجب بكماله ويحتمل أن يجزئه ويكون مسيئا, كمن وجب عليه الإحرام من الميقات فأحرم من دونه. فصل:
فإن خرج للحج فمات في الطريق, حج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعض ما وجب عليه فلم يجب ثانيا وكذلك إن مات نائبه استنيب من حيث مات لذلك ولو أحرم بالحج, ثم مات صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره نص عليه لأنها عبادة تدخلها النيابة, فإذا مات بعد فعل بعضها قضى عنه باقيها كالزكاة. فصل:
فإن لم يخلف تركة تفي بالحج من بلده حج عنه من حيث تبلغ وإن كان عليه دين لآدمي تحاصا, ويؤخذ للحج حصته فيحج بها من حيث تبلغ وقال أحمد في رجل أوصى أن يحج عنه, ولا تبلغ النفقة؟ قال: يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته وهذا لقول النبي -ﷺ-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ولأنه قدر على أداء بعض الواجب فلزمه كالزكاة وعن أحمد ما يدل على أن الحج يسقط لأنه قال في رجل أوصى بحجة واجبة, ولم يخلف ما يتم به حجه هل يحج عنه من المدينة أو من حيث تتم الحجة؟ فقال: ما يكون الحج عندي إلا من حيث وجب عليه وهذا تنبيه على سقوطه عمن عليه دين لا تفي تركته به وبالحج, فإنه إذا أسقطه مع عدم المعارض فمع المعارض بحق الآدمي المؤكد أولى وأحرى ويحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجها واحدا لأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده وحقه حق الله تعالى, مع أنه لا يمكن أداؤه على الوجه الواجب. فصل:
وإن أوصى بحج تطوع فلم يف ثلثه بالحج من بلده حج به من حيث بلغ أو يعن به في الحج نص عليه وقال: التطوع ما يبالي من أين كان, ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد إلا أن يرضى الورثة بزيادة أو يكون قد أوصى بشيء, فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث. فصل:
يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين لأن النبي -ﷺ- أمر أبا رزين فقال: (حج عن أبيك, واعتمر) وسألت امرأة رسول الله -ﷺ- عن أبيها مات ولم يحج؟ فقال: (حجي عن أبيك) ويستحب البداية بالحج عن الأم إن كان تطوعا أو واجبا عليهما نص عليه أحمد في التطوع لأن الأم مقدمة في البر, قال أبو هريرة: جاء رجل إلى رسول الله -ﷺ- فقال: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه مسلم والبخاري وإن كان الحج واجبا على الأب دونها بدأ به لأنه واجب, فكان أولى من التطوع وروى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا حج الرجل عن والديه يقبل منه ومنهما واستبشرت أرواحهما في السماء, وكتب عند الله برا) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرما, بعث يوم القيامة مع الأبرار) وعن جابر قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من حج عن أبيه أو أمه فقد قضى عنه حجته, وكان له فضل عشر حجج) روى ذلك كله الدارقطني. مسألة:
قال: [ ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ, وكانت الحجة عن نفسه ] وجملة ذلك أنه ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام وبهذا قال الأوزاعي والشافعي, وإسحاق وقال أبو بكر عبد العزيز: يقع الحج باطلا ولا يصح ذلك عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس لأنه لما كان من شرط طواف الزيارة تعيين النية فمتى نواه لغيره ولم ينو لنفسه, لم يقع لنفسه كذا الطواف حاملا لغيره لم يقع عن نفسه وقال الحسن وإبراهيم, وأيوب السختياني وجعفر بن محمد ومالك وأبو حنيفة: يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه وحكي عن أحمد مثل ذلك وقال الثوري: إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه, وإن لم يقدر على الحج عن نفسه حج عن غيره واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة ولنا, ما روى ابن عباس أن رسول الله -ﷺ- سمع رجلا يقول: (لبيك عن شبرمة فقال رسول الله -ﷺ-: من شبرمة؟ قال: قريب لي قال: هل حججت قط؟ قال: لا قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة) رواه الإمام أحمد, وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه ولأنه حج عن غيره قبل الحج عن نفسه, فلم يقع عن الغير كما لو كان صبيا ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقي عليه بعضها, وهاهنا لا يجوز أن يحج عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه ولا يطوف عن غيره من لم يطف عن نفسه إذا ثبت هذا فإن عليه رد ما أخذ من النفقة لأنه لم يقع الحج عنه, فأشبه ما لو لم يحج. فصل:
وإن أحرم بتطوع أو نذر من لم يحج حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام وبهذا قال ابن عمر وأنس, والشافعي وقال مالك والثوري وأبو حنيفة, وإسحاق وابن المنذر: يقع ما نواه وهو رواية أخرى عن أحمد وقول أبي بكر, لما تقدم ولنا أنه أحرم بالحج وعليه فرضه فوقع عن فرضه كالمطلق ولو أحرم بتطوع, وعليه منذورة وقعت عن المنذورة لأنها واجبة فهي كحجة الإسلام, والعمرة كالحج فيما ذكرنا لأنها أحد النسكين فأشبهت الآخر والنائب كالمنوب عنه في هذا, فمتى أحرم النائب بتطوع أو نذر عمن لم يحج حجة الإسلام وقعت عن حجة الإسلام لأن النائب يجري مجرى المنوب عنه وإن استناب رجلين في حجة الإسلام, ومنذور أو تطوع فأيهما سبق بالإحرام وقعت حجته عن حجة الإسلام, وتقع الأخرى تطوعا أو عن النذر لأنه لا يقع الإحرام عن غير حجة الإسلام ممن هي عليه, فكذلك من نائبه. فصل:
إذا كان الرجل قد أسقط فرض أحد النسكين عنه دون الآخر جاز أن ينوب عن غيره, فيما أدى فرضه دون الآخر وليس للصبي والعبد أن ينوبا في الحج عن غيرهما لأنهما لم يسقطا فرض الحج عن أنفسهما فهما كالحر البالغ في ذلك وأولى منه ويحتمل أن لهما النيابة في حج التطوع دون الفرض لأنهما من أهل التطوع دون الفرض, ولا يمكن أن تقع الحجة التي نابا فيها عن فرضهما لكونهما ليسا من أهله فبقيت لمن فعلت عنه وعلى هذا لا يلزمهما رد ما أخذا لذلك كالبالغ الحر الذي قد حج عن نفسه. فصل:
إذا أحرم بالمنذورة من عليه حجة الإسلام, فوقعت عن حجة الإسلام فالمنصوص عن أحمد أن المنذورة لا تسقط عنه وهو قول ابن عمر وأنس وعطاء لأنها حجة واحدة, فلا تجزئ عن حجتين كما لو نذر حجتين فحج واحدة ويحتمل أن يجزئ لأنه قد أتى بالحجة ناويا بها نذره, فأجزأته كما لو كان ممن أسقط فرض الحج عن نفسه وقد نقل أبو طالب عن أحمد, في من نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فأحرم عن النذر وقعت عن المفروض, ولا يجب عليه شيء آخر وهذا مثل ما لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في يوم من رمضان فنواه عن فرضه ونذره, على رواية وهذا قول ابن عباس وعكرمة وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس وعكرمة أنهما قالا في رجل نذر أن يحج, ولم يكن حج الفريضة قال: يجزئ لهما جميعا وسئل عكرمة عن ذلك؟ فقال: يقضي حجة عن نذره وعن حجة الإسلام, أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر ومن النذر؟ قال: وذكرت قولي لابن عباس, فقال: أصبت أو أحسنت. مسألة:
قال: [ ومن حج وهو غير بالغ فبلغ أو عبد فعتق, فعليه الحج ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بقوله خلافا على أن الصبي إذا حج في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه, ثم بلغ الصبي وعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليهما سبيلا كذلك قال ابن عباس, وعطاء والحسن والنخعي, والثوري ومالك والشافعي, وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال الترمذي: وقد أجمع أهل العلم عليه وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحج, وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه, فإن أعتق فعليه الحج) رواه سعيد في "سننه", والشافعي في "مسنده" عن ابن عباس من قوله ولأن الحج عبادة بدنية, فعلها قبل وقت وجوبها فلم يمنع ذلك وجوبها عليه في وقتها كما لو صلى قبل الوقت, وكما لو صلى ثم بلغ في الوقت. فصل:
فإن بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة, أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة, وأتما المناسك أجزأهما عن حجة الإسلام لا نعلم فيه خلافا لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج ولا فعلا شيئا منها قبل وجوبه وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان, أجزأهما أيضا عن حجة الإسلام كذلك قال ابن عباس وهو مذهب الشافعي وإسحاق وقاله الحسن في العبد وقال مالك: لا يجزئهما واختاره ابن المنذر وقال أصحاب الرأي: لا يجزئ العبد فأما الصبي, فإن جدد إحراما بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجبا, فلا يجزئ عن الواجب كما لو بقيا على حالهما ولنا أنه أدرك الوقوف حرا بالغا فأجزأه, كما لو أحرم تلك الساعة قال أحمد: قال طاوس عن ابن عباس: إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته فإن أعتق بجمع, لم تجزئ عنه وهؤلاء يقولون: لا تجزئ ومالك يقوله أيضا وكيف لا يجزئه وهو لو أحرم تلك الساعة كان حجه تاما, وما أعلم أحدا قال لا يجزئه إلا هؤلاء والحكم فيما إذا أعتق العبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ولو كان لحظة وإن لم يعودا, أو كان ذلك قبل طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الإسلام ويتمان حجهما تطوعا لفوات الوقوف المفروض, ولا دم عليهما لأنهما حجا تطوعا بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعا فإن قيل: فلم لا قلتم إن الوقوف الذي فعلاه يصير فرضا كما قلتم في الإحرام الذي أحرم به قبل البلوغ يصير بعد بلوغه فرضا؟ قلنا: إنما اعتددنا له بإحرامه الموجود بعد بلوغه, وما قبل بلوغه تطوع لم ينقلب فرضا ولا اعتد له به فالوقوف مثله, فنظيره أن يبلغ وهو واقف بعرفة فإنه يعتد له بما أدرك من الوقوف ويصير فرضا دون ما مضى. فصل:
وإذا بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف, أو في وقته وأمكنهما الإتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على الفور, فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة لأنها واجبة أمكن فعلها, فأشبهت الحج ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما, سواء كانا موسرين أو معسرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده. فصل:
والحكم في الكافر يسلم والمجنون يفيق, حكم الصبي يبلغ في جميع ما فصلناه إلا أن هذين لا يصح منهما إحرام ولو أحرما لم ينعقد إحرامهما لأنهما من غير أهل العبادات, ويكون حكمهما حكم من لم يحرم. فصل:
وقد بقي من أحكام حج العبد أربعة فصول: أحدها في حكم إحرامه الثاني في حكم نذره للحج الثالث, في حكم ما يلزمه من الجنايات على إحرامه الرابع حكم إفساده وفواته الفصل الأول في إحرامه:
وليس للعبد أن يحرم بغير إذن سيده لأنه يفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب, فإن فعل انعقد إحرامه صحيحا لأنها عبادة بدنية فصح من العبد الدخول فيها بغير إذن سيده, كالصلاة والصوم ولسيده تحليله في إحدى الروايتين لأن في بقائه عليه تفويتا لحقه من منافعه بغير إذنه فلم يلزم ذلك سيده, كالصوم المضر ببدنه وهذا اختيار ابن حامد وإذا حلله منه كان حكمه حكم المحصر والثانية ليس له تحليله وهو اختيار أبي بكر لأنه لا يمكنه التحلل من تطوعه فلم يملك تحليل عبده والأول أصح لأنه التزم التطوع باختيار نفسه, فنظيره أن يحرم عبده بإذنه وفي مسألتنا يفوت حقه الواجب بغير اختياره فأما إن أحرم بإذن سيده فليس له تحليله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: له ذلك لأنه ملكه منافع نفسه, فكان له الرجوع فيها كالمعير يرجع في العارية ولنا أنه عقد لازم, عقده بإذن سيده فلم يكن لسيده منعه منه كالنكاح, ولا يشبه العارية لأنها ليست لازمة ولو أعاره شيئا ليرهنه فرهنه, لم يكن له الرجوع فيه ولو باعه سيده بعدما أحرم فحكم مشتريه في تحليله حكم بائعه سواء لأنه اشتراه مسلوب المنفعة فأشبه الأمة المزوجة والمستأجرة فإن علم المشتري بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة, فأشبه ما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وإن لم يعلم فله الفسخ لأنه يتضرر بمضي العبد في حجه لفوات منافعه, إلا أن يكون إحرامه بغير إذن سيده ونقول: له تحليله فلا يملك الفسخ لأنه يمكنه دفع الضرر عنه ولو أذن له سيده في الإحرام ثم رجع قبل أن يحرم, وعلم العبد برجوعه قبل الإحرام فهو كمن لم يؤذن له وإن لم يعلم حتى أحرم فهل يكون حكمه حكم من أحرم بإذن سيده؟ على وجهين, بناء على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل العلم على روايتين. الفصل الثاني:
إذا نذر العبد الحج, صح نذره لأنه مكلف فانعقد نذره كالحر ولسيده منعه من المضي فيه لأن فيه تفويت حق سيده الواجب فمنع منه, كما لو لم ينذر ذكره القاضي وابن حامد وروي عن أحمد أنه قال: لا يعجبني منعه من الوفاء به وذلك لما فيه من أداء الواجب فيحتمل أن ذلك على الكراهة, لا على التحريم لما ذكرنا ويحتمل التحريم لأنه واجب فلم يملك منعه منه كسائر الواجبات والأول أولى فإن أعتق, لزمه الوفاء به بعد حجة الإسلام فإن أحرم به أولا انصرف إلى حجة الإسلام كالحر إذا نذر حجا. الفصل الثالث: في جناياته:
وما جنى على إحرامه لزمه حكمه وحكمه فيما يلزمه حكم الحر المعسر فرضه الصيام وإن تحلل بحصر عدو أو حلله سيده, فعليه الصيام لا يتحلل قبل فعله كالحر وليس لسيده أن يحول بينه وبين الصوم نص عليه لأنه صوم واجب, أشبه صوم رمضان فإن ملكه السيد هديا وأذن له في إهدائه وقلنا: إنه يملكه فهو كالهدي الواجب, لا يتحلل إلا به وإن قلنا: لا يملكه ففرضه الصيام وإن أذن له سيده في تمتع أو قران فعليه الصيام بدلا عن الهدي الواجب بهما وذكر القاضي أن على سيده تحمل ذلك عنه لأنه بإذنه فكان على من أذن فيه, كما لو فعله النائب بإذن المستنيب وليس بجيد لأن الحج للعبد وهذا من موجباته فيكون عليه, كالمرأة إذا حجت بإذن زوجها ويفارق من حج عن غيره فإن الحج للمستنيب فموجبه عليه وإن تمتع أو قارن بغير إذن سيده فالصيام عليه بغير خلاف وإن أفسد حجه فعليه أن يصوم لذلك لأنه لا مال له, فهو كالمعسر من الأحرار. الفصل الرابع:
إذا وطئ العبد في إحرامه قبل التحلل الأول فسد ويلزمه المضي في فاسده, كالحر لكن إن كان الإحرام مأذونا فيه فليس لسيده إخراجه منه لأنه ليس له منعه من صحيحه, فلم يكن له منعه من فاسده وإن كان الإحرام بغير إذنه فله تحليله منه لأنه يملك تحليله من صحيحه, فالفاسد أولى وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذونا فيه, أو غير مأذون ويصح القضاء في حال رقه لأنه وجب فيه فصح منه, كالصلاة والصيام ثم إن كان الإحرام الذي أفسده مأذونا فيه فليس له منعه من قضائه لأن إذنه في الحج الأول إذن في موجبه ومقتضاه ومن موجبه القضاء لما أفسده فإن كان الأول غير مأذون فيه, احتمل أن لا يملك منعه من قضائه لأنه واجب وليس للسيد منعه من الواجبات واحتمل أن له منعه منه لأنه يملك منعه من الحج الذي شرع فيه بغير إذنه فكذلك هذا فإن أعتق قبل القضاء, فليس له فعله قبل حجة الإسلام لأنها آكد فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام وبقي القضاء في ذمته وإن عتق في أثناء الحجة الفاسدة, وأدرك من الوقوف ما يجزئه أجزأه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لو كان صحيحا أجزأه فكذلك قضاؤه وإن أعتق بعد ذلك, لم يجزئه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لا يجزئه فكذلك قضاؤه والمدبر والمعلق عتقه بصفة, وأم الولد والمعتق بعضه حكمه حكم القن فيما ذكرناه. مسألة:
قال: [ وإذا حج بالصغير, جنب ما يتجنبه الكبير وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه ] وجملة ذلك أن الصبي يصح حجه فإن كان مميزا أحرم بإذن وليه, وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه فيصير محرما بذلك وبه قال مالك والشافعي وروي عن عطاء والنخعي وقال أبو حنيفة: لا ينعقد إحرام الصبي, ولا يصير محرما بإحرام وليه لأن الإحرام سبب يلزم به حكم فلم يصح من الصبي كالنذر ولنا, ما روى ابن عباس قال: (رفعت امرأة صبيا فقالت: يا رسول الله, ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) رواه مسلم وغيره من الأئمة وروى البخاري عن السائب بن يزيد, قال: (حج بي مع النبي -ﷺ- وأنا ابن سبع سنين) ولأن أبا حنيفة قال: يجتنب ما يجتنبه المحرم ومن اجتنب ما يجتنبه المحرم كان إحرامه صحيحا والنذر لا يجب به شيء بخلاف مسألتنا والكلام في حج الصبي في فصول أربعة: في الإحرام عنه أو منه, وفيما يفعله بنفسه أو بغيره وفي حكم جناياته على إحرامه, وفيما يلزمه من القضاء والكفارة الفصل الأول في الإحرام:
إن كان مميزا أحرم بإذن وليه وإن أحرم بدون إذنه لم يصح لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه, كالبيع وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم, صح ومعنى إحرامه عنه أنه يعقد له الإحرام فيصح للصبي دون الولي كما يعقد النكاح له فعلى هذا يصح أن يعقد الإحرام عنه سواء كان محرما أو حلالا ممن عليه حجة الإسلام, أو كان قد حج عن نفسه فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي -ﷺ-: (ولك أجر) ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعا لها في الإحرام قال الإمام أحمد في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه واختاره ابن عقيل, وقال: المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للأم على ماله والإحرام يتعلق به إلزام مال, فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شيء له فأما غير الأم والولي من الأقارب, كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم أما الأجانب, فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا. الفصل الثاني:
إن كل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله, ولا ينوب غيره عنه فيه كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما, وما عجز عنه عمله الولي عنه قال جابر: (خرجنا مع رسول الله -ﷺ- حجاجا ومعنا النساء والصبيان فأحرمنا عن الصبيان) رواه سعيد, في "سننه" ورواه ابن ماجه في "سننه" فقال: فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم ورواه الترمذي, قال: فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان قال ابن المنذر: كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك وبه قال عطاء, والزهري ومالك والشافعي, وإسحاق وعن ابن عمر: أنه كان يحج صبيانه وهم صغار فمن استطاع منهم أن يرمي رمى ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه وعن أبي إسحاق, أن أبا بكر رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة رواهما الأثرم قال الإمام أحمد: يرمي عن الصبي أبواه أو وليه قال القاضي: إن أمكنه أن يناول النائب الحصى ناوله وإن لم يمكنه استحب أن يوضع الحصى في يده فيرمي عنه وإن وضعها في يد الصغير ورمى بها, فجعل يده كالآلة فحسن ولا يجوز أن يرمي عنه إلا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه وأما الطواف فإنه إن أمكنه المشي مشى, وإلا طيف به محمولا أو راكبا فإن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة ولأن الطواف بالكبير محمولا لعذر يجوز فالصغير أولى ولا فرق بين أن يكون الحامل له حلالا, أو حراما ممن أسقط الفرض عن نفسه أو لم يسقطه لأن الطواف للمحمول لا للحامل, ولذلك صح أن يطوف راكبا على بعير وتعتبر النية في الطائف به فإن لم ينو الطواف عن الصبي لم يجزئه لأنه لما لم تعتبر النية من الصبي اعتبرت من غيره كما في الإحرام فإن نوى الطواف عن نفسه وعن الصبي احتمل وقوعه عن نفسه, كالحج إذا نوى به عن نفسه وغيره واحتمل أن يقع عن الصبي كما لو طاف بكبير ونوى كل واحد منهما عن نفسه, لكون المحمول أولى واحتمل أن يلغو لعدم التعيين لكون الطواف لا يقع عن غير معين وأما الإحرام فإن الصبي يجرد كما يجرد الكبير, وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم قال عطاء: يفعل بالصغير كما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلى عنه. الفصل الثالث: في محظورات الإحرام:
وهي قسمان ؛ ما يختلف عمده وسهوه ، كاللباس والطيب ، وما لا يختلف ، كالصيد ، وحلق الشعر ، وتقليم الأظفار . فالأول ، لا فدية على الصبي فيه ؛ لأن عمده خطأ . والثاني ، عليه فيه الفدية . وإن وطئ أفسد حجه ، ويمضي في فاسده . وفي القضاء عليه وجهان ، أحدهما ، لا يجب ؛ لئلا تجب عبادة بدنية على من ليس من أهل التكليف . والثاني ، يجب ؛ لأنه إفساد موجب للفدية ، فأوجب القضاء ، كوطء البالغ ، فإن قضى بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام . فإن أحرم بالقضاء قبلها ، انصرف إلى حجة الإسلام . وهل تجزئه عن القضاء ؟ ينظر ، فإن كانت الفاسدة قد أدرك فيها شيئا من الوقوف بعد بلوغه ، أجزأ عنهما جميعا ، وإلا لم يجزئه ، كما قلنا في العبد على ما مضى . الفصل الرابع: فيما يلزمه من الفدية:
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن جنايات الصبيان لازمة لهم في أموالهم وذكر أصحابنا في الفدية التي تجب بفعل الصبي وجهين أحدهما في ماله لأنها وجبت بجنايته أشبهت الجناية على الآدمي والثاني على الولي, وهو قول مالك لأنه حصل بعقده أو إذنه فكان عليه كنفقة حجه فأما النفقة, فقال القاضي: ما زاد على نفقة الحضر ففي مال الولي لأنه كلفه ذلك ولا حاجة به إليه وهذا اختيار أبي الخطاب وحكي عن القاضي أنه ذكر في الخلاف أن النفقة كلها على الصبي لأن الحج له, فنفقته عليه كالبالغ ولأن فيه مصلحة له بتحصيل الثواب له, ويتمرن عليه فصار كأجر المعلم والطبيب والأول أولى فإن الحج لا يجب في العمر إلا مرة ويحتمل أن لا يجب فلا يجوز تكليفه بذل ماله من غير حاجة إليه للتمرن عليه, والله أعلم. فصل:
إذا أغمي على بالغ لم يصح أن يحرم عنه رفيقه وبه قال الشافعي وأبو يوسف, ومحمد وقال أبو حنيفة: يصح ويصير محرما بإحرام رفيقه عنه استحسانا لأن ذلك معلوم من قصده, ويلحقه مشقة في تركه فأجزأ عنه إحرام غيره ولنا أنه بالغ, فلم يصر محرما بإحرام غيره كالنائم ولو أنه أذن في ذلك وأجازه, لم يصح فمع عدم هذا أولى أن لا يصح. مسألة:
قال: [ ومن طيف به محمولا كان الطواف له دون حامله ] أما إذا طيف به محمولا لعذر, فلا يخلو إما أن يقصدا جميعا عن المحمول فيصح عنه دون الحامل بغير خلاف نعلمه, أو يقصدا جميعا عن الحامل فيقع عنه أيضا ولا شيء للمحمول أو يقصد كل واحد منهما الطواف عن نفسه, فإنه يقع للمحمول دون الحامل وهذا أحد قولي الشافعي والقول الآخر يقع للحامل لأنه الفاعل وقال أبو حنيفة: يقع لهما لأن كل واحد منهما طائف بنية صحيحة, فأجزأ الطواف عنه كما لو لم ينو صاحبه شيئا ولأنه لو حمله بعرفات, لكان الوقوف عنهما كذا ها هنا وهذا القول حسن ووجه الأول أنه طواف أجزأه عن المحمول فلم يقع عن الحامل, كما لو نويا جميعا المحمول ولأنه طواف واحد فلا يقع عن شخصين, والراكب لا يقع طوافه إلا عن واحد وأما إذا حمله في عرفة فما حصل الوقوف بالحمل فإن المقصود الكون في عرفات, وهما كائنان بها والمقصود ها هنا الفعل وهو واحد, فلا يقع عن شخصين ووقوعه عن المحمول أولى لأنه لم ينو بطوافه إلا لنفسه والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه, فإنه لو لم يقصد الطواف بالمحمول لما حمله فإن تمكنه من الطواف لا يقف على حمله فصار المحمول مقصودا لهما, ولم يخلص قصد الحامل لنفسه فلم يقع عنه لعدم التعيين وقال أبو حفص العكبري, في "شرحه": لا يجزئ الطواف عن واحد منهما لأن فعلا واحدا لا يقع عن اثنين وليس أحدهما أولى به من الآخر وقد ذكرنا أن المحمول به أولى لخلوص نيته لنفسه, وقصد الحامل له ولا يقع عن الحامل لعدم التعيين فإن نوى أحدهما نفسه دون الآخر صح الطواف له وإن عدمت النية منهما, أو نوى كل واحد منهما الآخر لم يصح لواحد منهما. باب ذكر المواقيت: مسألة:
قال أبو القاسم -رحمه الله-: [ وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة, وأهل اليمن من يلملم وأهل الطائف ونجد من قرن وأهل المشرق من ذات عرق ] وجملة ذلك أن المواقيت المنصوص عليها الخمسة التي ذكرها الخرقي -رحمه الله- وقد أجمع أهل العلم على أربعة منها, وهي: ذو الحليفة والجحفة وقرن, ويلملم واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن رسول الله -ﷺ- فيها فمن ذلك ما روى ابن عباس قال: (وقت رسول الله -ﷺ- لأهل المدينة ذا الحليفة, ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرنا ولأهل اليمن يلملم, قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة, فمن كان دونهن مهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها) وعن ابن عمر أن رسول الله -ﷺ- قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة, وأهل نجد من قرن) قال ابن عمر: وذكر لي ولم أسمعه أنه قال: (وأهل اليمن من يلملم) متفق عليهما فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم وهو مذهب مالك وأبي ثور, وأصحاب الرأي وقال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات وروي عن أنس أنه كان يحرم من العقيق واستحسنه الشافعي وابن المنذر وابن عبد البر وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة وروي ذلك عن خصيف والقاسم بن عبد الرحمن وقد روى ابن عباس, أن النبي -ﷺ- (وقت لأهل المشرق العقيق) قال الترمذي: وهو حديث حسن قال ابن عبد البر: العقيق أولى وأحوط من ذات عرق وذات عرق ميقاتهم بإجماع واختلف أهل العلم في من وقت ذات عرق فروى أبو داود, والنسائي وغيرهما بإسنادهم, عن القاسم عن عائشة (أن رسول الله -ﷺ- وقت لأهل العراق ذات عرق) وعن أبي الزبير أنه سمع جابرا سئل عن المهل؟ قال: سمعته - وأحسبه رفع إلى النبي -ﷺ- - يقول: (مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة, ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن) رواه مسلم في "صحيحه" وقال قوم آخرون: إنما وقتها عمر رضي الله عنه فروى البخاري, بإسناده عن ابن عمر قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر, فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله -ﷺ- حد لأهل نجد قرنا, وهو جور عن طريقنا وإنا إن أردنا قرنا شق علينا قال: فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي -ﷺ- ذات عرق فقال ذلك برأيه فأصاب, ووافق قول النبي -ﷺ- فقد كان كثير الإصابة رضي الله عنه وإذا ثبت توقيتها عن النبي -ﷺ- وعن عمر فالإحرام منه أولى -إن شاء الله تعالى-. فصل:
وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر, فموضع الإحرام من الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية لأن الحكم تعلق بذلك الموضع فلا يزول بخرابه وقد رأى سعيد بن جبير رجلا يريد أن يحرم من ذات عرق, فأخذ بيده حتى خرج به من البيوت وقطع الوادي فأتى به المقابر, فقال: هذه ذات عرق الأولى. مسألة:
قال: [ وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل وإذا أرادوا الحج, فمن مكة ] أهل مكة من كان بها سواء كان مقيما بها أو غير مقيم لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتا له, فكذلك كل من كان بمكة فهي ميقاته للحج وإن أراد العمرة فمن الحل لا نعلم في هذا خلافا ولذلك (أمر النبي -ﷺ- عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم) متفق عليه وكانت بمكة يومئذ والأصل في هذا قول النبي -ﷺ-: (حتى أهل مكة يهلون منها) يعني للحج وقال أيضا: (ومن كان أهله دون الميقات فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة) وهذا في الحج فأما في العمرة فميقاتها في حقهم الحل, من أي جوانب الحرم شاء لأن النبي -ﷺ- أمر بإعمار عائشة من التنعيم وهو أدنى الحل إلى مكة وقال ابن سيرين: بلغني (أن النبي -ﷺ- وقت لأهل مكة التنعيم) وقال ابن عباس: يا أهل مكة من أتى منكم العمرة, فليجعل بينه وبينها بطن محسر يعني إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة وإنما لزم الإحرام من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرم فإنه لو أحرم من الحرم, لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج, فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك ومن أي الحل أحرم جاز وإنما أعمر النبي -ﷺ- عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة وقد روي عن أحمد, في المكي كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر هي على قدر تعبها وأما إن أراد المكي الإحرام بالحج, فمن مكة للخبر الذي ذكرنا ولأن أصحاب النبي -ﷺ- لما فسخوا الحج أمرهم فأحرموا من مكة قال جابر: (أمرنا النبي -ﷺ- لما حللنا, أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح) رواه مسلم وهذا يدل على أنه لا فرق بين قاطني مكة وبين غيرهم ممن هو بها كالمتمتع إذا حل ومن فسخ حجه بها ونقل عن أحمد فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة, أنه يهل بالحج من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم والصحيح خلاف هذا لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ويحتمل أن أحمد إنما أراد أن المتمتع يسقط عنه الدم إذا خرج إلى الميقات, ولا يسقط إذا أحرم من مكة وهذا في غير المكي أما المكي فلا يجب عليه دم متعة بحال لقول الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} وذكر القاضي في من دخل مكة يحج عن غيره ثم أراد أن يعتمر بعده لنفسه, أو دخل يحج لنفسه ثم أراد أن يعتمر لغيره أو دخل بعمرة لنفسه, ثم أراد أن يحج أو يعتمر لغيره أو دخل بعمرة لغيره ثم أراد أن يحج أو يعتمر لنفسه, أنه في جميع ذلك يخرج إلى الميقات فيحرم منه فإن لم يفعل, فعليه دم قال: وقد قال أحمد: في رواية عبد الله: إذا اعتمر عن غيره ثم أراد الحج لنفسه يخرج إلى الميقات, أو اعتمر عن نفسه يخرج إلى الميقات وإن دخل مكة بغير إحرام, ثم أراد الحج يخرج إلى الميقات واحتج له القاضي بأنه جاوز الميقات مريدا للنسك, غير محرم لنفسه فلزمه دم إذا أحرم دونه كمن جاوز الميقات غير محرم وعلى هذا لو حج عن شخص واعتمر عن آخر, أو اعتمر عن إنسان ثم حج أو اعتمر عن آخر فكذلك وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه الخروج إلى الميقات في هذا كله لما ذكرنا من أن كل من كان بمكة كالقاطن بها وهذا حاصل بمكة على وجه مباح, فأشبه المكي وما ذكره القاضي تحكم لا يدل عليه خبر ولا يشهد له أثر وما ذكره من المعنى فاسد لوجوه: أحدها, أنه لا يلزم أن يكون مريدا للنسك عن نفسه حال مجاوزة الميقات فإنه قد يبدو له بعد ذلك الثاني أن هذا لا يتناول من أحرم عن غيره الثالث, أنه لو وجب بهذا الخروج إلى الميقات للزم المتمتع والمفرد لأنهما تجاوزا الميقات مريدين لغير النسك الذي أحرما به الرابع, أن المعنى في الذي يجاوز الميقات غير محرم أنه فعل ما لا يحل له فعله وترك الإحرام الواجب عليه في موضعه, فأحرم من دونه. فصل:
ومن أي الحرم أحرم بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم وهذا يحصل بالإحرام من أي موضع كان فجاز, كما يجوز أن يحرم بالعمرة من أي موضع كان من الحل ولذلك قال النبي -ﷺ- لأصحابه في حجة الوداع: (إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء) ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها, كالنحر. فصل:
فإن أحرم من الحل نظرت فإن أحرم من الحل الذي يلي الموقف فعليه دم لأنه أحرم من دون الميقات وإن أحرم من الجانب الآخر ثم سلك الحرم, فلا شيء عليه نص عليه أحمد في رجل أحرم للحج من التنعيم فقال: ليس عليه شيء وذلك لأنه أحرم قبل ميقاته, فكان كالمحرم قبل بقية المواقيت ولو أحرم من الحل ولم يسلك الحرم فعليه دم لأنه لم يجمع بين الحل والحرم. فصل:
وإن أحرم بالعمرة من الحرم, انعقد إحرامه بها وعليه دم لتركه الإحرام من الميقات ثم إن خرج إلى الحل قبل الطواف ثم عاد, أجزأه لأنه قد جمع بين الحل والحرم وإن لم يخرج حتى قضى عمرته صح أيضا لأنه قد أتى بأركانها وإنما أخل بالإحرام من ميقاتها, وقد جبره فأشبه من أحرم من دون الميقات بالحج وهذا قول أبي ثور وابن المنذر, وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي والقول الثاني لا تصح عمرته لأنه نسك, فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج فعلى هذا وجود هذا الطواف كعدمه وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل, ثم يطوف بعد ذلك ويسعى وإن حلق قبل ذلك فعليه دم وكذلك كل ما فعله من محظورات إحرامه فعليه فديته وإن وطئ, أفسد عمرته ويمضي في فاسدها وعليه دم لإفسادها, ويقضيها بعمرة من الحل ثم إن كانت العمرة التي أفسدها عمرة الإسلام أجزأه قضاؤها عن عمرة الإسلام وإلا فلا. مسألة:
قال: [ ومن كان منزله دون الميقات, فميقاته من موضعه ] يعني إذا كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات كان ميقاته مسكنه هذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول مالك وطاوس, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن مجاهد, قال: يهل من مكة ولا يصح فإن النبي -ﷺ- قال في حديث ابن عباس: (فمن كان دونهن مهله من أهله) وهذا صريح والعمل به أولى. فصل:
إذا كان مسكنه قرية, فالأفضل أن يحرم من أبعد جانبيها وإن أحرم من أقرب جانبيها جاز وهكذا القول في المواقيت التي وقتها رسول الله -ﷺ- إذا كانت قرية والحلة كالقرية فيما ذكرنا وإن كان مسكنه منفردا, فميقاته مسكنه أو حذوه وكل ميقات فحذوه بمنزلته ثم إن كان مسكنه في الحل, فإحرامه منه للحج والعمرة معا وإن كان في الحرم فإحرامه للعمرة من الحل, ليجمع في النسك بين الحل والحرم كالمكي وأما الحج فينبغي أن يجوز له الإحرام من أي الحرم شاء, كالمكي. مسألة:
قال: [ ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم ] وجملة ذلك أن من سلك طريقا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات, الذي هو إلى طريقه أقرب لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر: إن قرنا جور عن طريقنا فقال: انظروا حذوها من طريقكم فوقت لهم ذات عرق ولأن هذا مما يعرف بالاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة. فصل:
فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه, احتاط فأحرم من بعد بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرما لأن الإحرام قبل الميقات جائز, وتأخيره عنه لا يجوز فالاحتياط فعل ما لا شك فيه ولا يلزمه الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه لأن الأصل عدم وجوبه فلا يجب بالشك فإن أحرم, ثم علم بعد أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها وإن كانتا متساويتين في القرب إليه, أحرم من حذو أبعدهما. مسألة:
قال: [ وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمرة ] وجملة ذلك أن من سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته, وإن حج من اليمن فميقاته يلملم وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق وهكذا كل من مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتا له سئل أحمد عن الشامي يمر بالمدينة يريد الحج من أين يهل؟ قال: من ذي الحليفة قيل: فإن بعض الناس يقول يهل من ميقاته من الجحفة فقال: سبحان الله, أليس يروي ابن عباس عن النبي -ﷺ-: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) وهذا قول الشافعي وإسحاق وقال أبو ثور في الشامي يمر بالمدينة: له أن يحرم من الجحفة وهو قول أصحاب الرأي وكانت عائشة, إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة وإذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة ولعلهم يحتجون بأن النبي -ﷺ- وقت لأهل الشام الجحفة ولنا قول النبي -ﷺ-: (فهن لهن, ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) ولأنه ميقات فلم يجز تجاوزه بغير إحرام لمن يريد النسك كسائر المواقيت وخبرهم أريد به من لم يمر على ميقات آخر, بدليل ما لو مر بميقات غير ذي الحليفة لم يجز له تجاوزه بغير إحرام بغير خلاف وقد روى سعيد, عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه, أن رسول الله -ﷺ- (وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفة) ولا فرق بين الحج والعمرة في هذا لقول النبي -ﷺ- (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن, ممن كان يريد حجا أو عمرة). فصل:
فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة سواء كان شاميا أو مدنيا لما روى أبو الزبير, أنه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال: سمعته - أحسبه رفع إلى النبي -ﷺ- - يقول: (مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة) رواه مسلم ولأنه مر على أحد المواقيت دون غيره, فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت ويحتمل أن أبا قتادة حين أحرم أصحابه دونه في قصة صيده للحمار الوحشي إنما ترك الإحرام لكونه لم يمر على ذي الحليفة, فأخر إحرامه إلى الجحفة إذ لو مر عليها لم يجز له تجاوزها من غير إحرام ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا وأنها لا تمر في طريقها على ذي الحليفة لئلا يكون فعلها مخالفا لقول رسول الله -ﷺ- ولسائر أهل العلم. مسألة:
قال: [ والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته فإن فعل فهو محرم ] لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرما, تثبت في حقه أحكام الإحرام قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله روي نحو ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال الحسن, وعطاء ومالك وإسحاق وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين وكان علقمة, والأسود وعبد الرحمن وأبو إسحاق, يحرمون من بيوتهم واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي -ﷺ- أنها سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك عبد الله أيتهما قال) رواه أبو داود وفي لفظ رواه ابن ماجه: (من أهل بعمرة من بيت المقدس, غفر له) وأحرم ابن عمر من إيليا وروى النسائي وأبو داود بإسنادهما عن الصبي بن معبد, قال: أهللت بالحج والعمرة فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان, وأنا أهل بهما فقال أحدهما: ما هذا بأفقه من بعيره فأتيت عمر فذكرت له ذلك فقال: (هديت لسنة نبيك -ﷺ-) وهذا إحرام به قبل الميقات وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ولنا أن النبي -ﷺ- وأصحابه أحرموا من الميقات, ولا يفعلون إلا الأفضل فإن قيل: إنما فعل هذا لتبيين الجواز قلنا: قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي -ﷺ- وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم, ولما تواطئوا على ترك الأفضل واختيار الأدنى وهم أهل التقوى والفضل, وأفضل الخلق ولهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم وقد روى أبو يعلى الموصلي في "مسنده", عن أبي أيوب قال: قال رسول الله -ﷺ-: (يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه) وروى الحسن, أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال: يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله -ﷺ- أحرم من مصره وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان, فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له رواهما سعيد والأثرم, وقال البخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره ولأنه تغرير بالإحرام, وتعرض لفعل محظوراته وفيه مشقة على النفس فكره, كالوصال في الصوم قال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه, فيكون أعظم لوزره فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك فأما حديث الإحرام من بيت المقدس ففيه ضعف, يرويه ابن أبي فديك ومحمد بن إسحاق وفيهما مقال ويحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس دون غيره ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد, ولذلك أحرم ابن عمر منه ولم يكن يحرم من غيره إلا من الميقات وقول عمر للصبي: هديت لسنة نبيك يعني في القران والجمع بين الحج والعمرة, لا في الإحرام من قبل الميقات فإن سنة النبي -ﷺ- الإحرام من الميقات بين ذلك بفعله وقوله, وقد بين أنه لم يرد ذلك إنكاره على عمران بن حصين إحرامه من مصره وأما قول عمر وعلي فإنهما قالا: إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك ومعناه أن تنشئ لها سفرا من بلدك تقصد له, ليس أن تحرم بها من أهلك قال أحمد: كان سفيان يفسره بهذا وكذلك فسره به أحمد ولا يصح أن يفسر بنفس الإحرام لأن النبي -ﷺ- وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم وقد أمرهم الله بإتمام العمرة, فلو حمل قولهم على ذلك لكان النبي -ﷺ- وأصحابه تاركين لأمر الله ثم إن عمر وعليا ما كانا يحرمان إلا من الميقات أفتراهما يريان أن ذلك ليس بإتمام لها ويفعلانه هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من مصره, واشتد عليه وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ به أفتراه كره إتمام العمرة واشتد عليه أن يأخذ الناس بالأفضل, هذا لا يجوز فيتعين حمل قولهما في ذلك على ما حمله عليه الأئمة والله أعلم. مسألة:
قال: [ ومن أراد الإحرام, فجاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم من الميقات فإن أحرم من مكانه فعليه دم, وإن رجع محرما إلى الميقات ] وجملة ذلك أن من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه, سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله فإن رجع إليه فأحرم منه, فلا شيء عليه لا نعلم في ذلك خلافا وبه يقول جابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير, والثوري والشافعي وغيرهم لأنه أحرم من الميقات الذي أمر بالإحرام منه, فلم يلزمه شيء كما لو لم يتجاوزه وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم, سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع وبهذا قال مالك وابن المبارك وظاهر مذهب الشافعي أنه إن رجع إلى الميقات فلا شيء عليه, إلا أن يكون قد تلبس بشيء من أفعال الحج كالوقوف وطواف القدوم, فيستقر الدم عليه لأنه حصل محرما في الميقات قبل التلبس بأفعال الحج فلم يلزمه دم كما لو أحرم منه وعن أبي حنيفة: إن رجع إلى الميقات, فلبى سقط عنه الدم وإن لم يلب, لم يسقط وعن عطاء والحسن والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات وعن سعيد بن جبير: لا حج لمن ترك الميقات ولنا ما روى ابن عباس, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (من ترك نسكا فعليه دم) روي موقوفا ومرفوعا ولأنه أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم, كما لو لم يرجع أو كما لو طاف عند الشافعي أو كما لو لم يلب عند أبي حنيفة, ولأنه ترك الإحرام من ميقاته فلزمه الدم كما ذكرنا, ولأن الدم وجب لتركه الإحرام من الميقات ولا يزول هذا برجوعه ولا بتلبيته وفارق ما إذا رجع قبل إحرامه فأحرم منه, فإنه لم يترك الإحرام منه ولم يهتكه. فصل:
ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه لم يسقط عنه الدم وبه قال الشافعي, وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال الثوري, وأصحاب الرأي: يسقط لأن القضاء واجب ولنا أنه واجب عليه بموجب هذا الإحرام فلم يسقط بوجوب القضاء, كبقية المناسك وكجزاء الصيد. فصل:
فأما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك, فعلى قسمين أحدهما لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه, فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شيء عليه في ترك الإحرام وقد أتى النبي -ﷺ- وأصحابه بدرا مرتين, وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة فلا يحرمون, ولا يرون بذلك بأسا ثم متى بدا لهذا الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه, ولا شيء عليه هذا ظاهر كلام الخرقي وبه يقول مالك والثوري والشافعي, وصاحبا أبي حنيفة وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة, وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج, يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم وبه قال إسحاق ولأنه أحرم من دون الميقات فلزمه الدم, كالذي يريد دخول الحرم والأول أصح وكلام أحمد يحمل على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام لقول النبي -ﷺ-: (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة) ولأنه حصل دون الميقات على وجه مباح فكان له الإحرام منه كأهل ذلك المكان ولأن هذا القول يفضي إلى أن من كان منزله دون الميقات, إذا خرج إلى الميقات ثم عاد إلى منزله وأراد الإحرام, لزمه الخروج إلى الميقات ولا قائل به وهو مخالف لقول رسول الله -ﷺ-: (ومن كان منزله دون الميقات فمهله من أهله) القسم الثاني, من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب أحدها, من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة, كالحشاش والحطاب وناقل الميرة والفيح, ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي -ﷺ- دخل يوم الفتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه, ولم نعلم أحدا منهم أحرم يومئذ ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع زمانه محرما, فسقط للحرج وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام إلا من كان دون الميقات لأنه يجاوز الميقات مريدا للحرم فلم يجز بغير إحرام كغيره ولنا, ما ذكرناه وقد روى الترمذي أن النبي -ﷺ- (دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء) وقال: هذا حديث حسن صحيح ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم الذي قبله, وفيه من الخلاف ما فيه النوع الثاني: من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات, أو عتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الإحرام, فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء ومالك, والثوري والأوزاعي وإسحاق, وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ وقالوا في العبد: عليه دم وقال الشافعي في جميعهم: على كل واحد منهم دم وعن أحمد, في الكافر يسلم كقوله ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام وأحرموا دونه, فلزمهم الدم كالمسلم البالغ العاقل ولنا أنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام منه, فأشبهوا المكي ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها وفارق من يجب عليه الإحرام إذا تركه لأنه ترك الواجب عليه النوع الثالث: المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة, فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم: لا يجب الإحرام عليه وعن أحمد ما يدل على ذلك وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام ولأنه أحد الحرمين فلم يلزم الإحرام لدخوله, كحرم المدينة ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل, فبقي على الأصل ووجه الأولى أنه لو نذر دخولها لزمه الإحرام ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول, كسائر البلدان إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه, فعليه دم كالمريد للنسك. فصل:
ومن دخل الحرم بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام, فلا قضاء عليه هذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يأتي بحجة أو عمرة فإن أتى بحجة الإسلام في سنته أو منذورة, أو عمرة أجزأه عن عمرة الدخول استحسانا لأن مروره على الميقات مريدا للحرم يوجب الإحرام فإذا لم يأت به وجب قضاؤه, كالمنذور ولنا أنه مشروع لتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط, كتحية المسجد فإن قيل: تحية المسجد غير واجبة قلنا: إلا أن النوافل المرتبات تقضى وإنما سقط القضاء لما ذكرنا فأما إن تجاوز الميقات ورجع ولم يدخل الحرم, فلا قضاء عليه بغير خلاف نعلمه سواء أراد النسك أو لم يرده. فصل:
ومن كان منزله دون الميقات خارجا من الحرم, فحكمه في مجاوزة قريته إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في هذه الأحوال الثلاث لأن موضعه ميقاته فهو في حقه كالمواقيت الخمسة في حق الآفاقي. مسألة:
قال: [ ومن جاوز الميقات غير محرم, فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم ] لا خلاف في أن من خشي فوات الحج برجوعه إلى الميقات, أنه يحرم من موضعه فيما نعلمه إلا أنه روي عن سعيد بن جبير: من ترك الميقات فلا حج له وما عليه الجمهور أولى فإنه لو كان من أركان الحج, لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف وإذا أحرم من دون الميقات عند خوف الفوات فعليه دم لا نعلم فيه خلافا عند من أوجب الإحرام من الميقات لقول النبي -ﷺ-: (من ترك نسكا, فعليه دم) وإنما أبحنا له الإحرام من موضعه مراعاة لإدراك الحج فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة واجب فيه مع فواته ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة, أو الخوف من عدو أو لص أو مرض أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع, فهو كخائف الفوات في أنه يحرم من موضعه وعليه دم. باب ذكر الإحرام مسألة:
قال أبو القاسم: [ ومن أراد الحج, وقد دخل أشهر الحج فإذا بلغ الميقات فالاختيار له أن يغتسل ] قوله: "وقد دخل أشهر الحج" يدل على أنه لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهره, وهذا هو الأولى فإن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه إحراما به قبل وقته فأشبه الإحرام به قبل ميقاته, ولأن في صحته اختلافا فإن أحرم به قبل أشهره صح وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحج, جاز نص عليه أحمد وهو قول النخعي ومالك والثوري وأبي حنيفة, وإسحاق وقال عطاء وطاوس ومجاهد, والشافعي: يجعله عمرة لقول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات} تقديره وقت الحج أشهر أو أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه, ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات ولنا, قول الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} فدل على أن جميع الأشهر ميقات ولأنه أحد نسكي القران فجاز الإحرام به في جميع السنة كالعمرة, أو أحد الميقاتين فصح الإحرام قبله كميقات المكان والآية محمولة على أن الإحرام به إنما يستحب فيها وعلى كل حال, فمن أراد الإحرام استحب له أن يغتسل قبله في قول أكثر أهل العلم, منهم طاوس والنخعي ومالك, والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لما روى خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه أنه (رأى النبي -ﷺ- تجرد لإهلاله واغتسل) رواه الترمذي, وقال: حديث حسن غريب وثبت أن النبي -ﷺ- أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال بالحج, وهي حائض ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة, وليس ذلك واجبا في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال وأنه غير واجب وحكي عن الحسن أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكر وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض أهل المدينة: من ترك الغسل عند الإحرام, فعليه دم لقول النبي -ﷺ- لأسماء وهي نفساء: "اغتسلي" فكيف الطاهر؟ فأظهر التعجب من هذا القول وكان ابن عمر يغتسل أحيانا ويتوضأ أحيانا وأي ذلك فعل أجزأه ولا يجب الاغتسال, ولا نقل الأمر به إلا لحائض أو نفساء ولو كان واجبا لأمر به غيرهما ولأنه لأمر مستقبل, فأشبه غسل الجمعة. فصل:
فإن لم يجد ماء لم يسن له التيمم وقال القاضي: يتيمم لأنه غسل مشروع فناب عنه التيمم, كالواجب ولنا أنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه, كغسل الجمعة وما ذكره منتقض بغسل الجمعة ونحوه من الأغسال المسنونة والفرق بين الواجب والمسنون, أن الواجب يراد لإباحة الصلاة والتيمم يقوم مقامه في ذلك والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة, والتيمم لا يحصل هذا بل يزيد شعثا وتغييرا ولذلك افترقا في الطهارة الصغرى, فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح به. فصل:
ويستحب التنظف بإزالة الشعث وقطع الرائحة, ونتف الإبط وقص الشارب وقلم الأظفار, وحلق العانة لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب فسن له هذا كالجمعة ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وقلم الأظفار, فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه. مسألة:
قال: [ ويلبس ثوبين نظيفين ] يعني إزارا ورداء فإن رسول الله -ﷺ- قال: (وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله -ﷺ-, وثبت أيضا أن رسول الله -ﷺ- قال: (إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين) ولأن المحرم ممنوع من لبس المخيط في شيء من بدنه, يعني بذلك ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل ولو لبس إزارا موصلا أو اتشح بثوب مخيط, جاز ويستحب أن يكونا نظيفين إما جديدين وإما غسيلين لأننا أحببنا له التنظف في بدنه فكذلك في ثيابه, كشاهد الجمعة والأولى أن يكونا أبيضين لقول النبي -ﷺ-: (خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم, وكفنوا فيها موتاكم). مسألة:
قال: [ ويتطيب ] وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس, وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وعائشة, وأم حبيبة ومعاوية وروي عن محمد بن الحنفية وأبي سعيد الخدري, وعروة والقاسم والشعبي, وابن جريج وكان عطاء يكره ذلك وهو قول مالك وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم واحتج مالك بما روى يعلى بن أمية, أن رجلا أتى النبي -ﷺ- فقال: يا رسول الله (كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي -ﷺ- يعني ساعة ثم قال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك) متفق عليه ولأنه يمنع من ابتدائه, فمنع استدامته كاللبس ولنا قول عائشة: (كنت أطيب رسول الله -ﷺ- لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت قالت: وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله -ﷺ- وهو محرم) متفق عليه وفي لفظ لمسلم: (طيبته بأطيب الطيب وقالت بطيب فيه مسك) وفي لفظ للنسائي: (كأني أنظر إلى وبيص طيب المسك في مفرق رسول الله -ﷺ-) وحديثهم في بعض ألفاظه: عليه جبة بها أثر خلوق رواه مسلم وفي بعضها: وهو متضمخ بالخلوق وفي بعضها: عليه درع من زعفران وهذه الألفاظ تدل على أن طيب الرجل كان من الزعفران, وهو منهي عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى وقد روى البخاري أن النبي -ﷺ- (نهى أن يتزعفر الرجل) ولأن حديثهم في سنة ثمان, وحديثنا في سنة عشر قال ابن جريج: كان شأن صاحب الجبة قبل حجة الوداع قال ابن عبد البر: لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان, وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر فعند ذلك إن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم فإن قيل: فقد روى محمد بن المنتشر, قال: سمعت ابن عمر ينهى عن الطيب عند الإحرام فقال: لأن أطلى بالقطران أحب إلي من ذلك قلنا تمام الحديث قال: فذكرت ذلك لعائشة, فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن قد (كنت أطيب رسول الله -ﷺ- فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضح طيبا) فإذا صار الخبر حجة على من احتج به, فإن فعل النبي -ﷺ- حجة على ابن عمر وغيره وقياسهم يبطل بالنكاح فإنه يمنع ابتداءه دون استدامته. فصل:
وإن طيب ثوبه, فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه, فإن لبسه افتدى لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة وكذلك إن نقل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر, افتدى لأنه تطيب في إحرامه وكذا إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه, ثم رده إليه فأما إن عرق الطيب أو ذاب بالشمس, فسال من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه لأنه ليس من فعله فجرى مجرى الناسي قالت عائشة: (كنا نخرج مع النبي -ﷺ- إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام, فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي -ﷺ- فلا ينهاها) رواه أبو داود. مسألة:
قال: [ فإن حضر وقت صلاة مكتوبة ، وإلا صلى ركعتين ] المستحب أن يحرم عقيب الصلاة ، فإن حضرت صلاة مكتوبة ، أحرم عقيبها ، وإلا صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبهما . استحب ذلك عطاء ، وطاوس ، ومالك ، والشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر . وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس . وقد روي عن أحمد أن الإحرام عقيب الصلاة ، وإذا استوت به راحلته ، وإذا بدأ بالسير ، سواء ؛ لأن الجميع قد روي عن النبي ﷺ من طرق صحيحة ، قال الأثرم : سألت أبا عبد الله ، أيما أحب إليك : الإحرام في دبر الصلاة ، أو إذا استوت به راحلته ؟ فقال : كل ذلك قد جاء ، في دبر الصلاة ، وإذا علا البيداء ، وإذا استوت به ناقته ، فوسع في ذلك . كله . قال ابن عباس : (ركب النبي ﷺ راحلته ، حتى استوت على البيداء أهل هو وأصحابه) ، وقال أنس : (لما ركب راحلته ، واستوت به ، أهل). وقال ابن عمر : (أهل النبي ﷺ حين استوت به راحلته قائمة). رواهن البخاري ، والأولى الإحرام عقيب الصلاة ، لما روى سعيد بن جبير قال : ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله ﷺ فقال : (أوجب رسول الله ﷺ الإحرام حين فرغ من صلاته ، ثم خرج ، فلما ركب رسول الله ﷺ راحلته ، واستوت به قائمة ، أهل ، فأدرك ذلك منه قوم ، فقالوا : أهل حين استوت به الراحلة ، وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ، ثم سار حتى علا البيداء ، فأهل ، فأدرك ذلك منه قوم ، فقالوا : أهل حين علا البيداء). رواه أبو داود ، والأثرم . وهذا لفظ الأثرم . وهذا فيه بيان وزيادة علم ، فيتعين حمل الأمر عليه ، ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه ، جمعا بين الأخبار المختلفة ، وهذا على سبيل الاستحباب ، فكيفما أحرم جاز ، لا نعلم أحدا خالف في ذلك . مسألة:
قال: [ فإن أراد التمتع وهو اختيار أبي عبد الله, فيقول: اللهم إني أريد العمرة ] وجملة ذلك أن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة تمتع وإفراد وقران فالتمتع أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج, فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه والإفراد أن يهل بالحج مفردا والقران أن يجمع بينهما في الإحرام بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف فأي ذلك أحرم به جاز قالت عائشة: (خرجنا مع رسول الله -ﷺ- فمنا من أهل بعمرة, ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج) متفق عليه فهذا هو التمتع والإفراد والقران وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء واختلفوا في أفضلها, فاختار إمامنا التمتع ثم الإفراد ثم القران وممن روي عنه اختيار التمتع ابن عمر, وابن عباس وابن الزبير وعائشة, والحسن وعطاء وطاوس, ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وروى المروذي عن أحمد: إن ساق الهدي, فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل لأن النبي -ﷺ- قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه وذهب الثوري وأصحاب الرأي إلى اختيار القران لما روى أنس قال: سمعت رسول الله -ﷺ- (أهل بهما جميعا: لبيك عمرة وحجا, لبيك عمرة وحجا) متفق عليه وحديث الصبي بن معبد حين لبى بهما ثم أتى عمر فسأله فقال: (هديت لسنة نبيك -ﷺ-) وروي عن مروان بن الحكم, قال: كنت جالسا عند عثمان بن عفان فسمع عليا يلبي بعمرة وحج فأرسل إليه, فقال: ألم نكن نهينا عن هذا؟ قال: بلى ولكن سمعت رسول الله -ﷺ- (يلبي بهما جميعا فلم أكن أدع قول رسول الله -ﷺ- لقولك) رواه سعيد ولأن القران مبادرة إلى فعل العبادة, وإحرام بالنسكين من الميقات وفيه زيادة نسك هو الدم فكان أولى وذهب مالك, وأبو ثور إلى اختيار الإفراد وهو ظاهر مذهب الشافعي وروي ذلك عن عمر وعثمان, وابن عمر وجابر وعائشة, لما روت عائشة وجابر (أن النبي -ﷺ- أفرد الحج) متفق عليهما وعن ابن عمر وابن عباس مثل ذلك متفق عليهما ولأنه يأتي بالحج تاما من غير احتياج إلى جبر فكان أولى قال عثمان: ألا إن الحج التام من أهليكم, والعمرة التامة من أهليكم وقال إبراهيم: إن أبا بكر وعمر وابن مسعود, وعائشة كانوا يجردون الحج ولنا ما روى ابن عباس, وجابر وأبو موسى وعائشة (أن النبي -ﷺ- أمر أصحابه لما طافوا بالبيت, أن يحلوا ويجعلوها عمرة) فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل وهذه الأحاديث متفق عليها ولم يختلف عن النبي -ﷺ- أنه لما قدم مكة, أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه, وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) قال جابر: حججنا مع النبي -ﷺ- يوم ساق البدن معه, وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم: (أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت, وبين الصفا والمروة ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية, فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم به فلولا إني سقت الهدي, لفعلت مثل الذي أمرتكم به) وفي لفظ: فقام رسول الله -ﷺ- فقال: (قد علمتم إني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم, ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت فحللنا, وسمعنا وأطعنا) متفق عليهما فنقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك, فدل على فضله ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} دون سائر الأنساك ولأن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك, فكان ذلك أولى فأما القران فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج وتدخل أفعال العمرة فيه, والمفرد فإنما يأتي بالحج وحده وإن اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام, وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القران ولا خلاف في إجزاء التمتع عن الحج والعمرة جميعا فكان أولى فأما حجتهم, فإنما احتجوا بفعل النبي -ﷺ- والجواب عنها من أوجه: الأول أنا نمنع أن يكون النبي -ﷺ- محرما بغير التمتع ولا يصح الاحتجاج بأحاديثهم لأمور أحدها, أن رواة أحاديثهم قد رووا أن النبي -ﷺ- تمتع بالعمرة إلى الحج روى ذلك ابن عمر وجابر, وعائشة من طرق صحاح فسقط الاحتجاج بها الثاني, أن روايتهم اختلفت فرووا مرة أنه أفرد ومرة أنه تمتع, ومرة أنه قرن والقضية واحدة ولا يمكن الجمع بينها, فيجب اطراحها كلها وأحاديث القران أصحها حديث أنس وقد أنكره ابن عمر, فقال: يرحم الله أنسا ذهل أنس متفق عليه وفي رواية: كان أنس يتولج على النساء يعني أنه كان صغيرا وحديث علي رواه حفص بن أبي داود وهو ضعيف, عن ابن أبي ليلى وهو كثير الوهم قاله الدارقطني الثالث أن أكثر الروايات, أن النبي -ﷺ- كان متمتعا روى ذلك عمر وعلي وعثمان, وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر, ومعاوية وأبو موسى وجابر, وعائشة وحفصة بأحاديث صحيحة, وإنما منعه من الحل الهدي الذي كان معه ففي حديث عمر أنه قال: (إني لا أنهاكم عن المتعة, وإنها لفي كتاب الله ولقد صنعها رسول الله -ﷺ-) يعني العمرة في الحج وفي حديث على أنه اختلف هو وعثمان في المتعة بعسفان, فقال علي: (ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -ﷺ- تنهى عنه) متفق عليه وللنسائي وقال علي لعثمان: (ألم تسمع رسول الله -ﷺ- تمتع؟ قال: بلى) وعن ابن عمر قال: (تمتع رسول الله -ﷺ- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج) وعنه أن حفصة قالت لرسول الله -ﷺ- (ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي, وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) متفق عليهما وقال سعد: صنعها رسول الله -ﷺ- وصنعناها معه وهذه الأحاديث راجحة لأن رواتها أكثر وأعلم بالنبي -ﷺ- ولأن النبي -ﷺ- أخبر بالمتعة عن نفسه في حديث حفصة, فلا تعارض بظن غيره ولأن عائشة كانت متمتعة بغير خلاف وهي مع النبي -ﷺ- ولا تحرم إلا بأمره ولم يكن ليأمرها بأمر, ثم يخالف إلى غيره ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث بأن يكون النبي -ﷺ- أحرم بالعمرة ثم لم يحل منها لأجل هديه, حتى أحرم بالحج فصار قارنا وسماه من سماه مفردا لأنه اشتغل بأفعال الحج وحدها, بعد فراغه من أفعال العمرة فإن الجمع بين الأحاديث مهما أمكن أولى من حملها على التعارض الوجه الثاني في الجواب أن النبي -ﷺ- قد أمر أصحابه بالانتقال إلى المتعة عن الإفراد والقران, ولا يأمرهم إلا بالانتقال إلى الأفضل فإنه من المحال أن ينقلهم من الأفضل إلى الأدنى وهو الداعي إلى الخير, الهادي إلى الفضل ثم أكد ذلك بتأسفه على فوات ذلك في حقه وأنه لا يقدر على انتقاله وحله, لسوقه الهدي وهذا ظاهر الدلالة الثالث أن ما ذكرناه قول النبي -ﷺ- وهم يحتجون بفعله, وعند التعارض يجب تقديم القول لاحتمال اختصاصه بفعله دون غيره كنهيه عن الوصال مع فعله له, ونكاحه بغير ولي ولا شهود مع قوله: (لا نكاح إلا بولي) فإن قيل: فقد قال أبو ذر: كانت متعة الحج لأصحاب محمد -ﷺ- خاصة رواه مسلم قلنا: هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والإجماع وقول من هو خير منه وأعلم أما الكتاب فقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} وهذا عام وأجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار, وإنما اختلفوا في فضله وأما السنة فروى سعيد حدثنا هشيم, أنبأنا حجاج عن عطاء عن جابر (أن سراقة بن مالك سأل النبي -ﷺ-, المتعة لنا خاصة أو هي للأبد؟ فقال: بل هي للأبد) وفي لفظ قال: (ألعامنا أو للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) وفي حديث جابر الذي رواه مسلم في صفة حج النبي -ﷺ- نحو هذا, ومعناه والله أعلم أن أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع, ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فبين النبي -ﷺ- أن الله تعالى قد شرع العمرة في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة وقال طاوس: كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور, ويقولون: إذا انفسخ صفر وبرا الدبر وعفا الأثر, حلت العمرة لمن اعتمر فلما كان الإسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة رواه سعيد وقد خالف أبا ذر علي وسعد, وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين, وسائر الصحابة وسائر المسلمين قال عمران: (تمتعنا مع رسول الله -ﷺ- ونزل فيه القرآن, ولم ينهنا عنه رسول الله -ﷺ- ولم ينسخها شيء) فقال فيها رجل برأيه ما شاء متفق عليه وقال سعد بن أبي وقاص: (فعلناها مع رسول الله -ﷺ- - يعني المتعة) - وهذا يومئذ كافر بالعرش يعني الذي نهى عنها والعرش: بيوت مكة وقال أحمد حين ذكر له حديث أبي ذر: أفيقول بهذا أحد, المتعة في كتاب الله وقد أجمع المسلمون على جوازها فإن قيل: فقد روى أبو داود بإسناده عن سعيد بن المسيب (أن رجلا من أصحاب رسول الله -ﷺ- أتى عمر, فشهد عنده أنه سمع رسول الله -ﷺ- ينهى عن العمرة قبل الحج) قلنا: هذا حاله في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع كحال حديث أبي ذر بل هو أدنى حالا, فإن في إسناده مقالا فإن قيل: فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية قلنا: فقد أنكر عليهم علماء الصحابة نهيهم عنها, وخالفوهم في فعلها والحق مع المنكرين عليهم دونهم وقد ذكرنا إنكار علي على عثمان, واعتراف عثمان له وقول عمران بن حصين منكرا لنهي من نهى وقول سعد عائبا على معاوية نهيه عنها, وردهم عليهم بحجج لم يكن لهم جواب عنها بل قد ذكر بعض من نهى عنها في كلامه ما يرد نهيه, فقال عمر: والله إني لأنهاكم عنها وإنها لفي كتاب الله وقد صنعها رسول الله -ﷺ- ولا خلاف في أن من خالف كتاب الله وسنة رسوله, ونهى عما فيهما حقيق بأن لا يقبل نهيه ولا يحتج به, مع أنه قد سئل سالم بن عبد الله بن عمر أنهى عمر عن المتعة؟ قال: لا والله ما نهى عنها عمر, ولكن قد نهى عثمان وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل: إنك تخالف أباك قال: إن عمر لم يقل الذي يقولون ولما نهى معاوية عن المتعة, أمرت عائشة حشمها ومواليها أن يهلوا بها فقال معاوية: من هؤلاء؟ فقيل: حشم أو موالي عائشة فأرسل إليها: ما حملك على ذلك؟ قالت: أحببت أن يعلم أن الذي قلت ليس كما قلت وقيل لابن عباس: إن فلانا ينهى عن المتعة قال: انظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيه, فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجدوها فقد صدق فأي الفريقين أحق بالاتباع وأولى بالصواب, الذين معهم كتاب الله وسنة رسوله أم الذين خالفوهما؟ ثم قد ثبتت عن النبي -ﷺ- الذي قوله حجة على الخلق أجمعين فكيف يعارض بقول غيره؟ قال سعيد بن جبير, عن ابن عباس: قال: (تمتع النبي -ﷺ-) فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول قال النبي -ﷺ- ويقولون نهى عنها أبو بكر وعمر وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها, فقال: إنك تخالف أباك فقال: عمر لم يقل الذي يقولون فلما أكثروا عليه قال: أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر؟ روى الأثرم هذا كله. فصل:
فمن أراد الإحرام بعمرة, فالمستحب أن يقول: اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني ومحلي حيث تحبسني فإنه يستحب للإنسان النطق بما أحرم به, ليزول الالتباس فإن لم ينطق بشيء واقتصر على مجرد النية, كفاه في قول إمامنا ومالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بمجرد النية حتى تنضاف إليها التلبية, أو سوق الهدي لما روى خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه عن رسول الله -ﷺ- قال: (جاءني جبريل, فقال: يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) رواه النسائي وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح ولأنها عبادة ذات تحريم وتحليل, فكان لها نطق واجب كالصلاة ولأن الهدي والأضحية لا يجبان بمجرد النية كذلك النسك ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب, فلم يكن في أولها كالصيام والخبر المراد به الاستحباب, فإن منطوقه رفع الصوت ولا خلاف في أنه غير واجب فما هو من ضرورته أولى, ولو وجب النطق لم يلزم كونه شرطا فإن كثيرا من واجبات الحج غير مشترطة فيه, والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف الحج والعمرة وأما الهدي والأضحية فإيجاب مال, فأشبه النذر بخلاف الحج فإنه عبادة بدنية فعلى هذا لو نطق بغير ما نواه, نحو أن ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس, انعقد ما نواه دون ما لفظ به قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا وذلك لأن الواجب النية وعليها الاعتماد, واللفظ لا عبرة به فلم يؤثر كما لا يؤثر اختلاف النية فيما يعتبر له اللفظ دون النية. فصل:
فإن لبى, أو ساق الهدي من غير نية لم ينعقد إحرامه لأن ما اعتبرت له النية لم ينعقد بدونها, كالصوم والصلاة والله أعلم. مسألة:
قال: [ ويشترط فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن حبس حل من الموضع الذي حبس فيه ولا شيء عليه ] يستحب لمن أحرم بنسك, أن يشترط عند إحرامه فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني ويفيد هذا الشرط شيئين: أحدهما, أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة, ونحوه أن له التحلل والثاني أنه متى حل بذلك, فلا دم عليه ولا صوم وممن روي عنه أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر وعلي وابن مسعود, وعمار وذهب إليه عبيدة السلماني وعلقمة والأسود, وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح, وعطاء بن يسار وعكرمة والشافعي إذ هو بالعراق وأنكره ابن عمر, وطاوس وسعيد بن جبير والزهري, ومالك وأبو حنيفة وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار واحتجوا بأن ابن عمر كان ينكر الاشتراط, ويقول: حسبكم سنة نبيكم -ﷺ- ولأنها عبادة تجب بأصل الشرع فلم يفد الاشتراط فيها كالصوم والصلاة ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي -ﷺ- على ضباعة بنت الزبير, فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال النبي -ﷺ-: حجي, واشترطي أن محلي حيث حبستني) متفق عليه وعن ابن عباس (أن ضباعة أتت النبي -ﷺ- فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ فقال: قولي لبيك اللهم لبيك, ومحلي من الأرض حيث تحبسني فإن لك على ربك ما استثنيت) رواه مسلم ولا قول لأحد مع قول رسول الله -ﷺ- فكيف يعارض بقول ابن عمر ولو لم يكن فيه حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرنا قوله من فقهاء الصحابة, أولى من قول ابن عمر وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه, يقوم مقامه لأن المقصود المعنى والعبارة إنما تعتبر لتأدية المعنى قال إبراهيم: خرجنا مع علقمة وهو يريد العمرة, فقال: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت وإلا فلا حرج على وكان شريح يشترط: اللهم قد عرفت نيتي وما أريد, فإن كان أمرا تتمه فهو أحب إلي وإلا فلا حرج علي ونحوه عن الأسود وقالت عائشة لعروة: قل اللهم إني أريد الحج, وإياه نويت فإن تيسر وإلا فعمرة ونحوه عن عميرة بن زياد. فصل:
فإن نوى الاشتراط, ولم يتلفظ به احتمل أن يصح لأنه تابع لعقد الإحرام والإحرام ينعقد بالنية, فكذلك تابعه واحتمل أن يعتبر فيه القول لأنه اشتراط فاعتبر فيه القول, كالاشتراط في النذر والوقف والاعتكاف ويدل عليه ظاهر قول النبي -ﷺ- في حديث ابن عباس: (قولي محلي من الأرض حيث تحبسني). مسألة:
قال: [ وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج ويشترط ] الإفراد: هو الإحرام بالحج مفردا من الميقات, وهو أحد الأنساك الثلاثة والحكم في إحرامه كالحكم في إحرام العمرة سواء, فيما يجب ويستحب وحكم الاشتراط. مسألة:
قال: [ وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج ويشترط ] معنى القران: الإحرام بالعمرة والحج معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج وهو أحد الأنساك المشروعة, الثابتة بالنص والإجماع وقد روي أن معاوية قال لأصحاب النبي -ﷺ-: هل تعلمون أن رسول الله -ﷺ- نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: أما هذا فلا قال: إنها معهن - يعني مع المنهيات - ولكنكم نسيتم وهذا مما لم يوافق الصحابة معاوية عليه مع ما يتضمنه من مخالفة الأحاديث الصحيحة والإجماع قال الخطابي: ويشبه أن يكون ذهب إلى تأويل قوله عليه السلام, حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي وكان قارنا, فحمله معاوية على النهي) والله أعلم. فصل:
ويستحب أن يعين ما أحرم به وبه قال مالك وقال الشافعي في أحد قوليه: الإطلاق أولى لما روى طاوس, قال: خرج النبي -ﷺ- من المدينة لا يسمى حجا ينتظر القضاء, فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي, أن يجعلوها عمرة ولأن ذلك أحوط لأنه لا يأمن الإحصار أو تعذر فعل الحج عليه فيجعلها عمرة, ولنا أن النبي -ﷺ- أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين فقال: (من شاء منكم أن يهل بحج وعمرة, فليهل ومن أراد أن يهل بحج فليهل, ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل) والنبي -ﷺ- وأصحابه إنما أحرموا بمعين على ما ذكرنا في الأحاديث الصحيحة, وأصحاب النبي -ﷺ- الذين كانوا معه في حجته يطلعون على أحواله ويقتدون بأفعاله, ويقفون على ظاهر أمره وباطنه أعلم به من طاوس وحديثه مرسل, والشافعي لا يحتج بالمراسيل المفردة فكيف يصير إلى هذا مع مخالفته للروايات المستفيضة المتفق عليها, والاحتياط ممكن بأن يجعلها عمرة فإن شاء كان متمتعا, وإن شاء أدخل الحج عليها فكان قارنا. فصل:
فإن أطلق الإحرام فنوى الإحرام بنسك, ولم يعين حجا ولا عمرة صح وصار محرما لأن الإحرام يصح مع الإبهام, فصح مع الإطلاق فإذا أحرم مطلقا فله صرفه إلى أي الأنساك شاء لأن له أن يبتدئ الإحرام بما شاء منها فكان له صرف المطلق إلى ذلك, والأولى صرفه إلى العمرة لأنه إن كان في غير أشهر الحج فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع وإن كان في أشهر الحج فالعمرة أولى لأن التمتع أفضل وقد قال أحمد, -رحمه الله-: يجعله عمرة لأن النبي -ﷺ- أمر أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله -ﷺ- أن يجعله عمرة كذا ها هنا. فصل:
ويصح إبهام الإحرام وهو أن يحرم بما أحرم به فلان لما روى أبو موسى, قال: قدمت على رسول الله -ﷺ- وهو منيخ بالبطحاء فقال لي: (بم أهللت؟ قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله -ﷺ- قال: أحسنت فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: حل) متفق عليه وروى جابر, وأنس أن عليا قدم من اليمن على رسول الله -ﷺ- فقال له النبي -ﷺ-: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله -ﷺ-) قال جابر في حديثه قال: (فاهد, وامكث حراما) وقال أنس: قال رسول الله -ﷺ-: (لولا أن معي هديا لحللت) متفق عليهما ثم لا يخلو من أبهم إحرامه من أحوال أربعة: أحدها أن يعلم ما أحرم به فلان فينعقد إحرامه بمثله فإن عليا قال له النبي -ﷺ-: (ماذا قلت حين فرضت الحج؟) قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله -ﷺ- قال: فإن معي الهدي, فلا تحل الثاني أن لا يعلم ما أحرم به فلان فيكون حكمه حكم الناسي, على ما سنبينه الثالث أن لا يكون فلان أحرم فيكون إحرامه مطلقا, حكمه حكم الفصل الذي قبله الرابع أن لا يعلم هل أحرم فلان أو لا فحكمه حكم من لم يحرم لأن الأصل عدم إحرامه, فيكون إحرامه ها هنا مطلقا يصرفه إلى ما شاء فإن صرفه قبل الطواف, فحسن وإن طاف قبل صرفه لم يعتد بطوافه لأنه طاف لا في حج ولا عمرة. فصل:
إذا أحرم بنسك ، ثم نسيه قبل الطواف ، فله صرفه إلى أي الأنساك شاء ، فإنه إن صرفه إلى عمرة ، وكان المنسي عمرة ، فقد أصاب ، وإن كان حجا مفردا أو قرانا فله فسخهما إلى العمرة ، على ما سنذكره ، وإن صرفه إلى القران ، وكان المنسي قرانا ، فقد أصاب ، وإن كان عمرة ، فإدخال الحج على العمرة جائز قبل الطواف ، فيصير قارنا ، وإن كان مفردا ، لغا إحرامه بالعمرة ، وصح بالحج ، وسقط فرضه ، وإن صرفه إلى الإفراد ، وكان مفردا ، فقد أصاب ، وإن كان متمتعا ، فقد أدخل الحج على العمرة ، وصار قارنا في الحكم ، وفيما بينه وبين الله تعالى ، وهو يظن أنه مفرد ، وإن كان قارنا فكذلك ، والمنصوص عن أحمد ، أنه يجعله عمرة . قال القاضي : هذا على سبيل الاستحباب ؛ لأنه إذا استحب ذلك في حال العلم ، فمع عدمه أولى . وقال أبو حنيفة : يصرفه إلى القران . وهو قول الشافعي في الجديد ، وقال في القديم : يتحرى ، فيبني على غالب ظنه ؛ لأنه من شرائط العبادة ، فيدخله التحري كالقبلة . ومنشأ الخلاف على فسخ الحج إلى العمرة ، فإنه جائز عندنا ، وغير جائز عندهم ، فعلى هذا إن صرفه إلى المتعة فهو متمتع . عليه دم المتعة ، ويجزئه عن الحج والعمرة جميعا . وإن صرفه إلى إفراد أو قران ، لم يجزئه عن العمرة ، إذ من المحتمل أن يكون المنسي حجا مفردا ، وليس له إدخال العمرة على الحج ، فتكون صحة العمرة مشكوكا فيها ، فلا تسقط من ذمته بالشك ، ولا دم عليه لذلك ؛ فإنه لم يثبت حكم القران يقينا ، ولا يجب الدم مع الشك في سببه . ويحتمل أن يجب . فأما إن شك بعد الطواف ، لم يجز صرفه إلا إلى العمرة ؛ لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز . فإن صرفه إلى حج أو قران ، فإنه يتحلل بفعل الحج ولا يجزئه عن واحد من النسكين ؛ لأنه يحتمل أن يكون المنسي عمرة ، فلم يصح إدخال الحج عليها بعد طوافها ، ويحتمل أن يكون حجا ، وإدخال العمرة عليه غير جائز ، فلم يجزئه واحد منهما مع الشك ، ولا دم عليه ؛ للشك فيما يوجب الدم ، ولا قضاء عليه ، للشك فيما يوجبه . وإن شك وهو في الوقوف بعد أن طاف وسعى ، جعله عمرة ، فقصر ، ثم أحرم بالحج ، فإنه إن كان المنسي عمرة فقد أصاب وكان متمتعا ، وإن كان إفرادا أو قرانا لم ينفسخ بتقصيره ، وعليه دم بكل حال ، فإنه لا يخلو من أن يكون متمتعا عليه دم المتعة ، أو غير متمتع فيلزمه دم لتقصيره ، وإن شك ، ولم يكن طاف وسعى ، جعله قرانا ؛ لأنه إن كان قارنا فقد أصاب ، وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة ، وصار قارنا ، وإن كان مفردا لغا إحرامه بالعمرة ، وصح إحرامه بالحج ، وإن صرفه إلى الحج جاز أيضا ، ولا يجزئه عن العمرة في هذه المواضع ؛ لاحتمال أن يكون مفردا ، وإدخال العمرة على الحج غير جائز ، ولا دم عليه ؛ للشك في وجود سببه . فصل:
وإن أحرم بحجتين أو عمرتين, انعقد بإحداهما ولغت الأخرى وبه قال مالك والشافعي, وقال أبو حنيفة ينعقد بهما وعليه قضاء إحداهما لأنه أحرم بها, ولم يتمها ولنا أنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما فلم يصح الإحرام بهما, كالصلاتين وعلى هذا لو أفسد حجه أو عمرته لم يلزمه إلا قضاؤها؟ وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معا بناء على صحة إحرامه بهما. مسألة:
قال: [ فإذا استوى على راحلته لبى ] التلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي -ﷺ- فعلها, وأمر برفع الصوت بها وأقل أحوال ذلك الاستحباب وسئل النبي -ﷺ- (أي الحج أفضل؟ قال: العج, والثج) وهذا حديث غريب ومعنى العج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدماء بالذبح والنحر وروى سهل بن سعد قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ما من مسلم يلبي, إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وهاهنا) رواه ابن ماجه وليست واجبة, وبهذا قال الحسن بن حي والشافعي وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب بتركها دم وعن الثوري, وأبي حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها, كالتكبير للصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} قال ابن عباس: الإهلال وعن عطاء, وطاوس وعكرمة: هو التلبية ولأن النسك عبادة ذات إحرام وإحلال فكان فيها ذكر واجب, كالصلاة ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج, كسائر الأذكار وفارق الصلاة فإن النطق يجب في آخرها فوجب في أولها والحج بخلافه ويستحب البداية بها إذا استوى على راحلته لما روى أنس, وابن عمر أن النبي -ﷺ- (لما ركب راحلته واستوت به, أهل) رواهما البخاري وقال ابن عباس: أوجب رسول الله -ﷺ- الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة, أهل يعني لبى ومعنى الإهلال رفع الصوت بالتلبية من قولهم: استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه أنهم كانوا إذا رئي الهلال صاحوا فيقال: استهل الهلال ثم قيل لكل صائح مستهل, وإنما يرفع الصوت بالتلبية. فصل:
ويرفع صوته بالتلبية لما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية) رواه النسائي وأبو داود, والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقال أنس: سمعتهم يصرخون بهما صراخا وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله -ﷺ- لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية وقال سالم: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية, فلا يأتي الروحاء حتى يصحل صوته ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته. مسألة:
قال: [ فيقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك ] هذه تلبية رسول الله -ﷺ- جاء في الصحيحين عن ابن عمر أن (تلبية رسول الله -ﷺ-: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ورواه البخاري عن عائشة, ومسلم عن جابر والتلبية مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك, ولا شارد عليك هذا أو ما أشبهه وثنوها وكرروها لأنهم أرادوا إقامة بعد إقامة كما قالوا: حنانيك أي رحمة بعد رحمة, أو رحمة مع رحمة أو ما أشبهه وقال جماعة من أهل العلم: معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج وروي عن ابن عباس قال: (لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت, قيل له: أذن في الناس بالحج فقال: رب وما يبلغ صوتي قال: أذن وعلي البلاغ فنادى إبراهيم: أيها الناس كتب عليكم الحج قال فسمعه ما بين السماء والأرض) أفلا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون ويقولون: لبيك إن الحمد بكسر الألف نص عليه أحمد والفتح جائز, إلا أن الكسر أجود قال ثعلب: من قال أن بفتحها فقد خص ومن قال بكسر الألف فقد عم يعني أن من كسر جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لأن الحمد لك, أي لهذا السبب. فصل:
ولا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله -ﷺ- ولا تكره ونحو ذلك قال الشافعي وابن المنذر وذلك لقول جابر: فأهل رسول الله -ﷺ- بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك) وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله -ﷺ- تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله -ﷺ- ويزيد مع هذا: لبيك, لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك, والرغباء إليك والعمل متفق عليه وزاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوبا ومرغوبا إليك لبيك هذا معناه رواه الأثرم ويروى أن أنسا كان يزيد: لبيك حقا حقا, تعبدا ورقا وهذا يدل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لأن النبي -ﷺ- لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها وقد روي أن سعدا سمع بعض بني أخيه وهو يلبي: يا ذا المعارج فقال: إنه لذو المعارج, وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله -ﷺ- فصل:
ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته قال أحمد: إن شئت لبيت بالحج وإن شئت لبيت بالحج والعمرة وإن شئت بعمرة, وإن لبيت بحج وعمرة بدأت بالعمرة فقلت: لبيك بعمرة وحجة وقال أبو الخطاب: لا يستحب ذلك وهو اختيار ابن عمر وقول الشافعي لأن جابرا قال: ما سمى النبي -ﷺ- في تلبيته حجا, ولا عمرة وسمع ابن عمر رجلا يقول: لبيك بعمرة فضرب صدره وقال: تعلمه ما في نفسك ولنا ما روى أنس قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (لبيك عمرة وحجا) وقال جابر: (قدمنا مع النبي -ﷺ- ونحن نقول: لبيك بالحج) وقال ابن عباس: (قدم رسول الله -ﷺ- وأصحابه, وهم يلبون بالحج) وقال ابن عمر: (بدأ رسول الله -ﷺ- فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج) متفق على هذه الأحاديث وقال أنس: (سمعتهم يصرخون بهما صراخا) رواه البخاري وقال أبو سعيد: (خرجنا مع النبي -ﷺ- نصرخ بالحج فحللنا فلما كان يوم التروية لبينا بالحج, وانطلقنا إلى منى) وهذه الأحاديث أصح وأكثر من حديثهم وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فإن النسائي روى بإسناده عن (الصبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعا, ثم ذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك) وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس فإن النية محلها القلب والله أعلم بها. فصل:
وإن حج عن غيره, كفاه مجرد النية عنه قال أحمد: لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه وإن ذكره في التلبية فحسن قال أحمد: إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان ثم لا يبالي أن لا يقول بعد وذلك لقول النبي -ﷺ- للذي سمعه يلبي عن شبرمة: (لب عن نفسك, ثم لب عن شبرمة) ومتى أتى بهما جميعا بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد في مواضع وذلك لقول أنس إن النبي -ﷺ- قال: (لبيك بعمرة وحج). مسألة:
قال: [ ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا أو هبط واديا, وإذا التقت الرفاق وإذا غطى رأسه ناسيا وفي دبر الصلوات المكتوبة ] يستحب استدامة التلبية, والإكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ما من مسلم يضحي لله, يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه) وهي أشد استحبابا في المواضع التي سمى الخرقي لما روى جابر, قال: (كان رسول الله -ﷺ- يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا, وفي أدبار الصلوات المكتوبة ومن آخر الليل) وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا هبط واديا, وإذا علا نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته وبهذا قال الشافعي وقد كان قبل يقول مثل قول مالك: لا يلبي عند اصطدام الرفاق وقول النخعي يدل على أن السلف, رحمهم الله كانوا يستحبون ذلك والحديث يدل عليه أيضا. فصل:
ويجزئ من التلبية في دبر الصلاة مرة واحدة قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ما شيء يفعله العامة, يلبون في دبر الصلاة ثلاث مرات؟ فتبسم وقال: ما أدري من أين جاءوا به؟ قلت: أليس يجزئه مرة واحدة؟ قال: بلى وهذا لأن المروي التلبية مطلقا من غير تقييد وذلك يحصل بمرة واحدة, وهكذا التكبير في أدبار الصلوات في أيام الأضحى وأيام التشريق ولا بأس بالزيادة على مرة لأن ذلك زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثا حسن فإن الله وتر يحب الوتر. فصل:
ولا يستحب رفع الصوت بالتلبية في الأمصار ولا في مساجدها, إلا في مكة والمسجد الحرام لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال: إن هذا لمجنون, إنما التلبية إذا برزت وهذا قول مالك وقال الشافعي: يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته أخذا من عموم الحديث ولنا, قول ابن عباس ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت فيها عاما إلا الإمام خاصة, فوجب إبقاؤها على عمومها فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنها محل النسك وكذلك المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم, كمسجد منى وفي عرفات أيضا. فصل:
ولا يلبي بغير العربية إلا أن يعجز عنها لأنه ذكر مشروع, فلا يشرع بغير العربية كالأذان والأذكار المشروعة في الصلاة. فصل:
ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم وبه يقول ابن عباس وعطاء بن السائب, وربيعة بن عبد الرحمن وابن أبي ليلى وداود, والشافعي وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال: لا يلبي حول البيت وقال ابن عيينة: ما رأينا أحدا يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب وذكر أبو الخطاب أنه لا يلبي وهو قول للشافعي لأنه مشتغل بذكر يخصه فكان أولى ولنا, أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت, ويمكن الجمع بين التلبية والذكر المشروع في الطواف ويكره له رفع الصوت بالتلبية لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم وأذكارهم وإذا فرغ من التلبية صلى على النبي -ﷺ- ودعا بما أحب من خير الدنيا والآخرة لما روى الدارقطني, بإسناده عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله -ﷺ- (كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه, واستعاذه برحمته من النار) وقال القاسم بن محمد: يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على محمد -ﷺ- وجاء في التفسير في تأويل قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} لا أذكر إلا ذكرت معي ولأن أكثر المواضع التي شرع فيها ذكر الله تعالى, شرع فيها ذكر نبيه عليه السلام كالأذان والصلاة. فصل:
ولا بأس أن يلبي الحلال وبه قال الحسن والنخعي, وعطاء بن السائب والشافعي وأبو ثور, وابن المنذر وأصحاب الرأي وكرهه مالك ولنا أنه ذكر يستحب للمحرم, فلم يكره لغيره كسائر الأذكار. مسألة:
قال: [ والمرأة يستحب لها أن تغتسل عند الإحرام وإن كانت حائضا أو نفساء (لأن النبي -ﷺ- أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل) ] وجملة ذلك أن الاغتسال مشروع للنساء عند الإحرام, كما يشرع للرجال لأنه نسك وهو في حق الحائض والنفساء آكد لورود الخبر فيهما قال جابر: حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر, فأرسلت إلى رسول الله -ﷺ-: كيف أصنع؟ قال: (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي) رواه مسلم وعن ابن عباس, عن النبي -ﷺ- قال: (النفساء والحائض إذا أتيا على الوقت يغتسلان, ويحرمان ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت) رواه أبو داود وأمر النبي -ﷺ- عائشة أن تغتسل لإهلال الحج, وهي حائض وإن رجت الحائض الطهر قبل الخروج من الميقات أو النفساء استحب لها تأخير الاغتسال حتى تطهر ليكون أكمل لها, فإن خشيت الرحيل قبله اغتسلت وأحرمت. مسألة:
قال: [ ومن أحرم وعليه قميص خلعه, ولم يشقه ] هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة, وأبي صالح ذكوان أنه يشق ثيابه لئلا يتغطى رأسه حين ينزع القميص منه ولنا ما روى يعلى بن أمية, أن رجلا أتى النبي -ﷺ- فقال: يا رسول الله (كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي -ﷺ- ساعة ثم سكت, فجاءه الوحي فقال له النبي -ﷺ-: أما الطيب الذي بك فاغسله وأما الجبة فانزعها, ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك) متفق عليه وهذا لفظ مسلم قال عطاء: كنا قبل أن نسمع هذا الحديث نقول في من أحرم وعليه قميص أو جبة فليخرقها عنه فلما بلغنا هذا الحديث أخذنا به, وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك ولأن في شق الثوب إضاعة ماليته وقد نهى النبي -ﷺ- عن إضاعة المال. فصل:
وإذا نزع في الحال فلا فدية عليه لأن النبي -ﷺ- لم يأمر الرجل بفدية وإن استدام اللبس بعد إمكان نزعه, فعليه الفدية لأن استدامة اللبس محرم كابتدائه بدليل أن النبي -ﷺ- أمر الرجل بنزع جبته وإنما لم يأمره بفدية لما مضى فيما نرى لأنه كان جاهلا بالتحريم, فجرى مجرى الناسي. مسألة:
قال: [ وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ] هذا قول ابن مسعود, وابن عباس وابن عمر وابن الزبير, وعطاء ومجاهد والحسن, والشعبي والنخعي وقتادة, والثوري وأصحاب الرأي وروي عن عمر وابنه وابن عباس: أشهر الحج شوال, وذو القعدة وذو الحجة وهو قول مالك لأن أقل الجمع ثلاثة وقال الشافعي: آخر أشهر الحج ليلة النحر وليس يوم النحر منها لقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} ولا يمكن فرضه بعد ليلة النحر ولنا, قول النبي -ﷺ-: (يوم الحج الأكبر يوم النحر) رواه أبو داود فكيف يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة ولأن يوم النحر فيه ركن الحج, وهو طواف الزيارة وفيه كثير من أفعال الحج منها: رمي جمرة العقبة, والنحر والحلق والطواف, والسعي والرجوع إلى منى وما بعده ليس من أشهره لأنه ليس بوقت لإحرامه, ولا لأركانه فهو كالمحرم ولا يمتنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين, وبعض الثالث فقد قال بعض أهل العربية: عشرون جمع عشر وإنما هي عشران وبعض الثالث, وقال الله تعالى {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} والقرء الطهر عنده ولو طلقها في طهر احتسبت ببقيته وتقول العرب: ثلاث خلون من ذي الحجة وهم في الثالثة وقوله: {فرض فيهن الحج} أي في أكثرهن, والله أعلم. باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له مسألة:
قال أبو القاسم: [ ويتوقى في إحرامه ما نهاه الله عنه من الرفث وهو الجماع والفسوق, وهو السباب والجدال وهو المراء ] يعني بقوله "ما نهاه الله عنه" قوله سبحانه: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وهذا صيغته صيغة النفي أريد به النهي, كقوله سبحانه: {لا تضار والدة بولدها} والرفث: هو الجماع روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعطاء بن أبي رباح, وعطاء بن يسار ومجاهد والحسن, والنخعي والزهري وقتادة وروي عن ابن عباس, أنه قال: الرفث: غشيان النساء والتقبيل والغمز, وأن يعرض لها بالفحش من الكلام وقال أبو عبيدة: الرفث لغا الكلام وأنشد قول العجاج: عن اللغا ورفث التكلم وقيل: الرفث هو ما يكنى عنه من ذكر الجماع وروي عن ابن عباس أنه أنشد بيتا فيه التصريح بما يكنى عنه من الجماع وهو محرم فقيل له في ذلك, فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء وفي لفظ: ما قيل من ذلك عند النساء وكل ما فسر به الرفث ينبغي للمحرم أن يجتنبه إلا أنه في الجماع أظهر لما ذكرنا من تفسير الأئمة له بذلك ولأنه قد جاء في الكتاب في موضع آخر, وأريد به الجماع قال الله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} فأما الفسوق: فهو السباب لقول النبي -ﷺ-: (سباب المسلم فسوق) متفق عليه وقيل: الفسوق المعاصي روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر, وعطاء وإبراهيم وقالوا أيضا: الجدال المراء وقال ابن عباس: هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه والمحرم ممنوع من ذلك كله قال النبي -ﷺ-: (من حج, فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه, كيوم ولدته أمه) متفق عليه وقال مجاهد في قوله تعالى: {ولا جدال في الحج} أي: لا مجادلة ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة وقول الجمهور أولى. مسألة:
قال: [ ويستحب له قلة الكلام, إلا فيما ينفع وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء ] وجملة ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال, صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل, فإن من كثر كلامه كثر سقطه وفي الحديث عن أبي هريرة, عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح متفق عليه وعنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) رواه ابن عيينة, عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وروي في "المسند", عن الحسين بن علي عن النبي -ﷺ- وقال أبو داود: أصول السنن أربعة أحاديث هذا أحدها وهذا في حال الإحرام أشد استحبابا لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز وجل, فيشبه الاعتكاف وقد احتج أحمد على ذلك بأن شريحا, -رحمه الله- كان إذا أحرم كأنه حية صماء فيستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى, أو قراءة القرآن أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر, أو تعليم لجاهل أو يأمر بحاجته أو يسكت, وإن تكلم بما لا مأثم فيه أو أنشد شعرا لا يقبح فهو مباح, ولا يكثر فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان على ناقة له وهو محرم, فجعل يقول: كأن راكبها غصن بمروحة ** إذا تدلت به أو شارب ثمل الله أكبر الله أكبر وهذا يدل على الإباحة والفضيلة الأول. مسألة:
قال: [ ولا يتفلى المحرم, ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ] اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- , في إباحة قتل القمل فعنه إباحته لأنه من أكثر الهوام أذى فأبيح قتله كالبراغيث وسائر ما يؤذي, وقول النبي -ﷺ-: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم) يدل بمعناه على إباحة قتل كل ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم وعنه أن قتله محرم وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه يترفه بإزالته عنه فحرم كقطع الشعر ولأن (النبي -ﷺ- رأى كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه, فقال له: احلق رأسك) فلو كان قتل القمل أو إزالته مباحا لم يكن كعب ليتركه حتى يصير كذلك أو لكان النبي -ﷺ- أمره بإزالته خاصة والصئبان كالقمل في ذلك, ولا فرق بين قتل القمل أو إزالته بإلقائه على الأرض أو قتله بالزئبق, فإن قتله لم يحرم لحرمته لكن لما فيه من الترفه فعم المنع إزالته كيفما كانت ولا يتفلى, فإن التفلي عبارة عن إزالة القمل وهو ممنوع منه ويجوز له حك رأسه ويرفق في الحك, كي لا يقطع شعرا أو يقتل قملة فإن حك فرأى في يده شعرا, أحببنا أن يفديه احتياطا ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قلعه قال بعض أصحابنا: إنما اختلفت الرواية في القمل الذي في شعره فأما ما ألقاه من ظاهر بدنه, فلا فدية فيه. فصل:
فإن خالف وتفلى أو قتل قملا فلا فدية فيه فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه, قد أذهب قملا كثيرا ولم يجب عليه لذلك شيء وإنما وجبت الفدية بحلق الشعر, ولأن القمل لا قيمة له فأشبه البعوض والبراغيث ولأنه ليس بصيد, ولا هو مأكول وحكي عن ابن عمر قال: هي أهون مقتول وسئل ابن عباس عن محرم ألقى قملة, ثم طلبها فلم يجدها فقال: تلك ضالة لا تبتغى وهذا قول طاوس وسعيد بن جبير وعطاء, وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد في من قتل قملة قال: يطعم شيئا فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزاه, سواء قتل كثيرا أو قليلا وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق: تمرة فما فوقها وقال مالك: حفنة من طعام وروي ذلك عن ابن عمر وقال عطاء: قبضة من طعام وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قلناه فإنهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به. فصل:
ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وبدنه برفق, فعل ذلك عمر وابنه ورخص فيه علي, وجابر وسعيد بن جبير والشافعي, وأبو ثور وأصحاب الرأي وكره مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه ولعله ذهب إلى أن ذلك ستر له, والصحيح أنه لا بأس بذلك وليس ذلك بستر ولهذا لا يقوم مقام السترة في الصلاة, وقد روي عن ابن عباس قال: ربما قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة: تعال أباقيك أينا أطول نفسا في الماء وقال: ربما قامست عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن محرمون رواهما سعيد ولأنه ليس بستر معتاد أشبه صب الماء عليه, أو وضع يديه عليه وقد روى عبد الله بن حنين قال: (أرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فأتيته وهو يغتسل, فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك: كيف كان رسول الله -ﷺ- يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه, ثم قال لإنسان يصب عليه الماء: صب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر, ثم قال: هكذا رأيت رسول الله -ﷺ- يفعل) متفق عليه وأجمع أهل العلم على أن المحرم يغتسل من الجنابة. فصل:
ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقلع الشعر وكرهه جابر بن عبد الله ومالك, والشافعي وأصحاب الرأي فإن فعل فلا فدية عليه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور, وابن المنذر وعن أحمد: عليه الفدية وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال صاحباه: عليه صدقة لأن الخطمي تستلذ رائحته وتزيل الشعث, وتقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس ولنا أن النبي -ﷺ- قال, في المحرم الذي وقصه بعيره: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه, ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) متفق عليه فأمر بغسله بالسدر مع إثبات حكم الإحرام في حقه والخطمي كالسدر ولأنه ليس بطيب, فلم تجب الفدية باستعماله كالتراب وقولهم: تستلذ رائحته ممنوع ثم يبطل بالفاكهة وبعض التراب وإزالة الشعث تحصل بذلك أيضا وقتل الهوام لا يعلم حصوله, ولا يصح قياسه على الورس لأنه طيب ولذلك لو استعمله في غير الغسل أو في ثوب لمنع منه, بخلاف مسألتنا. مسألة:
قال: [ ولا يلبس القمص ولا السراويل ولا البرنس ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القمص, والعمائم والسراويلات والخفاف, والبرانس والأصل في هذا ما روى ابن عمر (أن رجلا سأل رسول الله -ﷺ-: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله -ﷺ-: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات, ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحدا لا يجد نعلين, فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران, ولا الورس) متفق عليه نص النبي -ﷺ- على هذه الأشياء وألحق بها أهل العلم ما في معناها مثل الجبة, والدراعة والثياب وأشباه ذلك فليس للمحرم ستر بدنه بما عمل على قدره, ولا ستر عضو من أعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن والسراويل لبعض البدن, والقفازين لليدين والخفين للرجلين ونحو ذلك, وليس في هذا كله اختلاف قال ابن عبد البر: لا يجوز لباس شيء من المخيط عند جميع أهل العلم وأجمعوا على أن المراد بهذا الذكور دون النساء. مسألة:
قال: [ فإن لم يجد إزارا لبس السراويل, وإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولا يقطعهما, ولا فداء عليه ] لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار, والخفين إذا لم يجد نعلين وبهذا قال عطاء وعكرمة والثوري, ومالك والشافعي وإسحاق, وأصحاب الرأي وغيرهم والأصل فيه ما روى ابن عباس قال: (سمعت النبي -ﷺ- يخطب بعرفات, يقول: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم) متفق عليه وروى جابر عن النبي -ﷺ- مثل ذلك أخرجه مسلم ولا فدية عليه في لبسهما عند ذلك, في قول من سمينا إلا مالكا وأبا حنيفة قالا: على كل من لبس السراويل الفدية لحديث ابن عمر الذي قدمناه ولأن ما وجبت الفدية بلبسه مع وجود الإزار وجبت مع عدمه, كالقميص ولنا خبر ابن عباس وهو صريح في الإباحة, ظاهر في إسقاط الفدية لأنه أمر بلبسه ولم يذكر فدية ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره, فلم تجب به فدية كالخفين المقطوعين وحديث ابن عمر مخصوص بحديث ابن عباس وجابر فأما القميص فيمكنه أن يتزر به من غير لبس ويستتر, بخلاف السراويل. فصل:
وإذا لبس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما, في المشهور عن أحمد ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه قال عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القداح وعن أحمد, أنه يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فإن لبسهما من غير قطع, افتدى وهذا قول عروة بن الزبير ومالك والثوري, والشافعي وإسحاق وابن المنذر, وأصحاب الرأي لما روى ابن عمر عن النبي -ﷺ- أنه قال: (فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين, وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) متفق عليه وهو متضمن لزيادة على حديث ابن عباس, وجابر والزيادة من الثقة مقبولة قال الخطابي: العجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه, وقلت سنة لم تبلغه واحتج أحمد بحديث ابن عباس وجابر: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين) مع قول علي رضي الله عنه: قطع الخفين فساد, يلبسهما كما هما مع موافقة القياس فإنه ملبوس أبيح لعدم غيره فأشبه السراويل, وقطعه لا يخرجه عن حالة الحظر فإن لبس المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح, وفيه إتلاف ماله وقد نهى النبي -ﷺ- عن إضاعته فأما حديث ابن عمر فقد قيل إن قوله: "وليقطعهما" من كلام نافع كذلك رويناه في "أمالي أبي القاسم بن بشران", بإسناد صحيح أن نافعا قال بعد روايته للحديث: وليقطع الخفين أسفل من الكعبين وروى ابن أبي موسى عن صفية بنت أبي عبيد, عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله -ﷺ- رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما) وكان ابن عمر يفتي بقطعهما قالت صفية: فلما أخبرته بهذا رجع وروى أبو حفص, في "شرحه" بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف (أنه طاف وعليه خفان فقال له عمر: والخفان مع القباء فقال: قد لبستهما مع من هو خير منك) يعني رسول الله -ﷺ- ويحتمل أن يكون الأمر بقطعهما منسوخا فإن عمرو بن دينار روى الحديثين جميعا, وقال: انظروا أيهما كان قبل قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري حديث ابن عمر قبل لأنه قد جاء في بعض رواياته قال: (نادى رجل رسول الله -ﷺ- وهو في المسجد, يعني بالمدينة فكأنه كان قبل الإحرام) وفي حديث ابن عباس يقول: سمعت رسول الله -ﷺ- (يخطب بعرفات يقول: من لم يجد نعلين, فليلبس خفين) فيدل على تأخره عن حديث ابن عمر فيكون ناسخا له لأنه لو كان القطع واجبا لبينه للناس إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه, والمفهوم من إطلاق لبسهما لبسهما على حالهما من غير قطع والأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف, وأخذا بالاحتياط. فصل:
فإن لبس المقطوع مع وجود النعل فعليه الفدية, وليس له لبسه نص عليه أحمد وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه لأنه لو كان لبسه محرما وفيه فدية لم يأمر النبي -ﷺ- بقطعهما, لعدم الفائدة فيه وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أن النبي -ﷺ- شرط في إباحة لبسهما عدم النعلين, فدل على أنه لا يجوز مع وجودهما ولأنه مخيط لعضو على قدره فوجبت على المحرم الفدية بلبسه, كالقفازين. فصل:
فأما اللالكة والجمجم ونحوهما, فقياس قول أحمد أنه لا يلبس ذلك فإنه قال: لا يلبس النعل التي لها قيد وهذا أشد من النعل التي لها قيد وقد قال في رأس الخف الصغير: لا يلبسه وذلك لأنه يستر القدم, وقد عمل لها على قدرها فأشبه الخف فإن عدم النعلين كان له لبس ذلك, ولا فدية عليه لأن النبي -ﷺ- أباح لبس الخف عند ذلك فما دون الخف أولى. فصل:
فأما النعل فيباح لبسها كيفما كانت, ولا يجب قطع شيء منها لأن إباحتها وردت مطلقا وروي عن أحمد في القيد في النعل: يفتدي لأننا لا نعرف النعال هكذا وقال: إذا أحرمت فاقطع المحمل الذي على النعال والعقب الذي يجعل للنعل فقد كان عطاء يقول: فيه دم وقال ابن أبي موسى, في "الإرشاد": في القيد والعقب الفدية والقيد: هو السير المعترض على الزمام قال القاضي: إنما كرههما إذا كانا عريضين وهذا هو الصحيح فإنه إذا لم يجب قطع الخفين الساترين للقدمين والساقين فقطع سير النعل أولى أن لا يجب ولأن ذلك معتاد في النعل فلم تجب إزالته, كسائر سيورها ولأن قطع القيد والعقب ربما تعذر معه المشي في النعلين لسقوطهما بزوال ذلك فلم يجب, كقطع القبال. فصل:
وإن وجد نعلا لم يمكنه لبسها فله لبس الخف ولا فدية عليه لأن ما لا يمكن استعماله كالمعدوم, كما لو كانت النعل لغيره أو صغيرة وكالماء في التيمم, والرقبة التي لا يمكنه عتقها ولأن العجز عن لبسها قام مقام العدم في إباحة لبس الخف, فكذلك في إسقاط الفدية والمنصوص أن عليه الفدية لقوله: (من لم يجد نعلين فليلبس الخفين) وهذا واجد. فصل:
وليس للمحرم أن يعقد عليه الرداء ولا غيره, إلا الإزار والهميان وليس له أن يجعل لذلك زرا وعروة ولا يخلله بشوكة ولا إبرة ولا خيط لأنه في حكم المخيط روى الأثرم عن مسلم بن جندب, عن ابن عمر قال: جاء رجل يسأله وأنا معه أخالف بين طرفي ثوبي من ورائي, ثم أعقده؟ وهو محرم فقال ابن عمر: لا تعقد عليه شيئا وعن أبي معبد مولى ابن عباس, أن ابن عباس قال له: يا أبا معبد زر على طيلساني وهو محرم فقال له: كنت تكره هذا قال: إني أريد أن أفتدي ولا بأس أن يتشح بالقميص, ويرتدي به ويرتدي برداء موصل ولا يعقده لأن المنهي عنه المخيط على قدر العضو. فصل:
ويجوز أن يعقد إزاره عليه لأنه يحتاج إليه لستر العورة فيباح, كاللباس للمرأة وإن شد وسطه بالمنديل أو بحبل أو سراويل, جاز إذا لم يعقده قال أحمد في محرم حزم عمامة على وسطه: لا تعقدها ويدخل بعضها في بعض قال طاوس: رأيت ابن عمر يطوف بالبيت وعليه عمامة قد شدها على وسطه, فأدخلها هكذا ولا يجوز أن يشق أسفل إزاره نصفين ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل ولا يلبس الران لأنه في معناه ولأنه معمول على قدر العضو الملبوس فيه, فأشبه الخف. مسألة:
قال: [ ويلبس الهميان ويدخل السيور بعضها في بعض ولا يعقدها ] وجملة ذلك أن لبس الهميان مباح للمحرم, في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب, وعطاء ومجاهد وطاوس والقاسم, والنخعي والشافعي وإسحاق, وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن عبد البر: أجاز ذلك جماعة فقهاء الأمصار متقدموهم ومتأخروهم ومتى أمكنه أن يدخل السيور بعضها في بعض, ويثبت بذلك لم يعقده لأنه لا حاجة إلى عقده وإن لم يثبت إلا بعقده عقده نص عليه أحمد وهو قول إسحاق وقال إبراهيم: كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم, ولا يرخصون في عقد غيره وقالت عائشة: أوثق عليك نفقتك وذكر القاضي في "الشرح" أن ابن عباس قال: (رخص رسول الله -ﷺ- للمحرم في الهميان أن يربطه, إذا كانت فيه نفقته) وقال ابن عباس: أوثقوا عليكم نفقاتكم ورخص في الخاتم والهميان للمحرم وقال مجاهد عن ابن عمر أنه سئل عن المحرم يشد الهميان عليه, فقال: لا بأس به إذا كانت فيه نفقته يستوثق من نفقته ولأنه مما تدعو الحاجة إلى شده, فجاز كعقد الإزار فإن لم يكن في الهميان نفقة لم يجز عقده, لعدم الحاجة إليه وكذلك المنطقة وقد روي عن ابن عمر أنه كره الهميان والمنطقة للمحرم وكرهه نافع مولاه وهو محمول على ما ليس فيه نفقة لما تقدم من الرخصة فيما فيه النفقة, وسئل أحمد عن المحرم يلبس المنطقة من وجع الظهر أو حاجة إليها قال: يفتدي فقيل له: أفلا تكون مثل الهميان؟ قال: لا وعن ابن عمر أنه كره المنطقة للمحرم وأنه أباح شد الهميان, إذا كانت فيه النفقة والفرق بينهما أن الهميان تكون فيه النفقة والمنطقة لا نفقة فيها, فأبيح شد ما فيه النفقة للحاجة إلى حفظها ولم يبح شد ما سوى ذلك فإن كانت فيهما نفقة, أو لم يكن فيهما نفقة فهما سواء وقد قالت عائشة في المنطقة للمحرم: أوثق عليك نفقتك فرخصت فيها إذا كانت فيها النفقة ولم يبح أحمد شد المنطقة لوجع الظهر إلا أن يفتدي لأن المنطقة ليست معدة لذلك, ولأنه فعل لمحظور في الإحرام لدفع الضرر عن نفسه أشبه من لبس المخيط لدفع البرد أو حلق رأسه لإزالة أذى القمل, أو تطيب لأجل المرض. مسألة:
قال: [ وله أن يحتجم ولا يقطع شعرا ] أما الحجامة إذا لم يقطع شعرا فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداو بإخراج دم, فأشبه الفصد وبط الجرح وقال مالك: لا يحتجم إلا من ضرورة وكان الحسن يرى في الحجامة دما ولنا, أن ابن عباس روى (أن النبي -ﷺ- احتجم وهو محرم) متفق عليه ولم يذكر فدية ولأنه لا يترفه بذلك فأشبه شرب الأدوية وكذلك الحكم في قطع العضو عند الحاجة, والختان كل ذلك مباح من غير فدية فإن احتاج في الحجامة إلى قطع شعر فله قطعه لما روى عبد الله بن بحينة (أن رسول الله -ﷺ- احتجم بلحي جمل في طريق مكة وهو محرم, وسط رأسه) متفق عليه ومن ضرورة ذلك قطع الشعر ولأنه يباح حلق الشعر لإزالة أذى القمل فكذلك ها هنا وعليه الفدية وبهذا قال مالك والشافعي, وأبو حنيفة وأبو ثور وابن المنذر وقال صاحبا أبي حنيفة: يتصدق بشيء ولنا, قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية} الآية ولأنه حلق شعر لإزالة ضرر غيره فلزمته الفدية, كما لو حلقه لإزالة قمله فأما إن قطع عضوا عليه شعر أو جلدة عليها شعر فلا فدية عليه, لأنه زال تبعا لما لا فدية فيه. مسألة:
قال: [ ويتقلد بالسيف عند الضرورة ] وجملة ذلك أن المحرم إذا احتاج إلى تقلد السيف فله ذلك وبهذا قال مالك وأباح عطاء والشافعي, وابن المنذر تقلده وكرهه الحسن والأول أولى لما روى أبو داود بإسناده عن البراء قال: (لما صالح رسول الله -ﷺ- أهل الحديبية, صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح) - القراب بما فيه - وهذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد ويخفروا الذمة واشترطوا حمل السلاح في قرابه فأما من غير خوف, فإن أحمد قال: لا إلا من ضرورة وإنما منع منه لأن ابن عمر قال: لا يحمل المحرم السلاح في الحرم والقياس إباحته لأن ذلك ليس هو في معنى الملبوس المنصوص على تحريمه ولذلك لو حمل قربة في عنقه, لا يحرم عليه ذلك ولا فدية عليه فيه وسئل أحمد عن المحرم يلقي جرابه في رقبته كهيئة القربة قال: أرجو أن لا يكون به بأس. مسألة:
قال: [ وإن طرح على كتفيه القباء والدواج, فلا يدخل يديه في الكمين ] ظاهر هذا اللفظ إباحة لبس القباء ما لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن, وعطاء وإبراهيم وبه قال أبو حنيفة وقال القاضي, وأبو الخطاب: إذا أدخل كتفيه في القباء فعليه الفدية وإن لم يدخل يديه في كميه وهو مذهب مالك, والشافعي لأنه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه فلزمته الفدية إذا كان عامدا كالقميص وروى ابن المنذر (أن النبي -ﷺ- نهى عن لبس الأقبية) ووجه قول الخرقي, ما تقدم من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسألة إن لم يجد إزارا لبس السراويل وإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولأن القباء لا يحيط بالبدن, فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه إذا لم يدخل يديه في كميه كالقميص يتشح به, وقياسهم منقوض بالرداء الموصل والخبر محمول على لبسه مع إدخال يديه في كميه. مسألة:
قال: [ ولا يظلل على رأسه في المحمل فإن فعل فعليه دم ] كره أحمد الاستظلال في المحمل خاصة, وما كان في معناه كالهودج والعمارية والكبيسة ونحو ذلك على البعير وكره ذلك ابن عمر ومالك وعبد الرحمن بن مهدي, وأهل المدينة وكان سفيان بن عيينة يقول: لا يستظل ألبتة ورخص فيه ربيعة والثوري والشافعي وروي ذلك عن عثمان, وعطاء لما روت أم الحصين قالت: (حججت مع رسول الله -ﷺ- حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا, وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي -ﷺ- والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة) رواه مسلم وغيره ولأنه يباح له التظلل في البيت والخباء فجاز في حال الركوب, كالحلال ولأن ما حل للحلال حل للمحرم إلا ما قام على تحريمه دليل واحتج أحمد بقول ابن عمر, روى عطاء قال: رأى ابن عمر على رحل عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة عودا يستره من الشمس فنهاه وعن نافع عن ابن عمر, أنه رأى رجلا محرما على رحل قد رفع ثوبا على عود يستتر به من الشمس فقال: اضح لمن أحرمت له أي ابرز للشمس رواهما الأثرم ولأنه ستر بما يقصد به الترفه, أشبه ما لو غطاه والحديث ذهب إليه أحمد فلم يكره أن يستتر بثوب ونحوه فإن ذلك لا يقصد للاستدامة, والهودج بخلافه والخيمة والبيت يرادان لجمع الرحل وحفظه لا للترفه وظاهر كلام أحمد, أنه إنما كره ذلك كراهة تنزيه لوقوع الخلاف فيه وقول ابن عمر, ولم ير ذلك حراما ولا موجبا لفدية قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يستظل على المحمل؟ قال: لا وذكر حديث ابن عمر: اضح لمن أحرمت له قيل له: فإن فعل يهريق دما؟ قال: أما الدم فلا قيل: فإن أهل المدينة يقولون: عليه دم قال: نعم أهل المدينة يغلطون فيه وقد روي ذلك عن أحمد, وهو اختيار الخرقي لأنه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالبا فأشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه ويروى عن الرياشي قال: رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم حر شديد, وقد ضحى للشمس فقلت له: يا أبا الفضل: هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول: ضحيت له كي أستظل بظله ** إذا الظل أضحى في القيامة قالصا فوا أسفا إن كان سعيك باطلا ** ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا فصل:
ولا بأس أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء, وإن نزل تحت شجرة فلا بأس أن يطرح عليها ثوبا يستظل به عند جميع أهل العلم وقد صح به النقل, فإن جابرا قال في حديث حجة النبي -ﷺ-: (وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فأتى عرفة, فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس) رواه مسلم, وابن ماجه وغيرهما ولا بأس أيضا أن ينصب حياله ثوبا يقيه الشمس والبرد إما أن يمسكه إنسان, أو يرفعه على عود على نحو ما روي في حديث أم الحصين (أن بلالا أو أسامة كان رافعا ثوبا يستر به النبي -ﷺ- من الحر) ولأن ذلك لا يقصد به الاستدامة فلم يكن به بأس, كالاستظلال بحائط. مسألة:
قال: [ ولا يقتل الصيد ولا يصيده ولا يشير إليه, ولا يدل عليه حلالا ولا حراما ] لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم وقد نص الله تعالى عليه في كتابه, فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وقال تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه فإن في حديث أبي قتادة (لما صاد الحمار الوحشي وأصحابه محرمون, قال النبي -ﷺ- لأصحابه: هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟) وفي لفظ متفق عليه: (فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي, فلم يؤذنوني وأحبوا لو إني أبصرته) وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الدلالة عليه وسؤال النبي -ﷺ- لهم: (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟) يدل على تعلق التحريم بذلك لو وجد منهم ولأنه تسبب إلى محرم عليه, فحرم كنصبه الأحبولة. فصل:
ولا تحل له الإعانة على الصيد بشيء فإن في حديث أبي قتادة المتفق عليه: (ثم ركبت, ونسيت السوط والرمح فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح قالوا: والله لا نعينك عليه) وفي رواية: (فاستعنتهم, فأبوا أن يعينوني) وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الإعانة والنبي -ﷺ- أقرهم على ذلك ولأنه إعانة على محرم فحرم, كالإعانة على قتل الآدمي. فصل:
ويضمن الصيد بالدلالة فإذا دل المحرم حلالا على الصيد فأتلفه فالجزاء كله على المحرم روي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء ومجاهد وبكر المزني, وإسحاق وأصحاب الرأي وقال مالك والشافعي: لا شيء على الدال لأنه يضمن بالجناية, فلا يضمن بالدلالة كالآدمي ولنا قول النبي -ﷺ- لأصحاب أبي قتادة: (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها, أو أشار إليها؟) ولأنه سبب يتوصل به إلى إتلاف الصيد فتعلق به الضمان كما لو نصب أحبولة, ولأنه قول علي وابن عباس ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة. فصل:
فإن دل محرما على الصيد فقتله فالجزاء بينهما وبه قال عطاء وحماد بن أبي سليمان وقال الشعبي, وسعيد بن جبير والحارث العكلي وأصحاب الرأي: على كل واحد جزاء لأن كل واحد من الفعلين يستقل بجزاء كامل إذا كان منفردا فكذلك إذا انضم إليه غيره وقال مالك, والشافعي: لا ضمان على الدال ولنا أن الواجب جزاء المتلف وهو واحد, فيكون الجزاء واحدا وعلى قول مالك والشافعي ما سبق ولا فرق في جميع ذلك بين كون المدلول ظاهرا أو خفيا لا يراه إلا بالدلالة عليه ولو دل محرم محرما على صيد, ثم دل الآخر آخر ثم كذلك إلى عشرة فقتله العاشر, كان الجزاء على جميعهم وإن قتله الأول لم يضمن غيره لأنه لم يدله عليه أحد فلا يشاركه في ضمانه أحد ولو كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة والإشارة, فلا شيء على الدال والمشير لأن ذلك لم يكن سببا في تلفه ولأن هذه ليست دلالة على الحقيقة وكذلك إن وجد من المحرم حدث عند رؤية الصيد, من ضحك أو استشراف إلى الصيد ففطن له غيره فصاده, فلا شيء على المحرم بدليل ما جاء في حديث أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله -ﷺ- حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم, إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش) وفي لفظ: (فبينا أنا مع أصحابي يضحك بعضهم, إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش) وفي لفظ: (فلما كنا بالصفاح فإذا هم يتراءون فقلت: أي شيء تنظرون؟ فلم يخبروني) متفق عليه. فصل:
فإن أعار قاتل الصيد سلاحا فقتله به, فهو كما لو دله عليه سواء كان المستعار مما لا يتم قتله إلا به أو أعاره شيئا هو مستغن عنه, مثل أن يعيره رمحا ومعه رمح وكذلك لو أعانه عليه بمناولته سوطه أو رمحه أو أمره باصطياده لما ذكرنا من حديث أبي قتادة, وقول أصحابه: والله لا نعينك عليه بشيء وقول النبي -ﷺ-: (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟) وكذلك إن أعاره سكينا فذبحه بها فإن أعاره آلة ليستعملها في غير الصيد, فاستعملها في الصيد لم يضمن لأن ذلك غير محرم عليه فأشبه ما لو ضحك عند رؤية الصيد, ففطن له إنسان فصاده. فصل:
وإن دل الحلال محرما على الصيد فقتله, فلا شيء على الحلال لأنه لا يضمن الصيد بالإتلاف فبالدلالة أولى إلا أن يكون ذلك في الحرم, فيشاركه في الجزاء لأن صيد الحرم حرام على الحلال والحرام نص عليه أحمد. فصل:
وإن صاد المحرم صيدا لم يملكه فإن تلف في يده فعليه جزاؤه, وإن أمسكه حتى حل لزمه إرساله وليس له ذبحه, فإن فعل أو تلف الصيد ضمنه, وحرم أكله لأنه صيد ضمنه بحرمة الإحرام فلم يبح أكله كما لو ذبحه حال إحرامه, ولأنها ذكاة منع منها بسبب الإحرام فأشبهت ما لو كان الإحرام باقيا واختار أبو الخطاب أن له أكله وعليه ضمانه لأنه ذبحه وهو من أهل ذبح الصيد فأشبه ما لو صاده بعد الحل والفرق ظاهر لأن هذا يلزمه ضمانه والذي صاده بعد الحل لا ضمان عليه فيه. مسألة:
قال: [ ولا يأكله إذا صاده الحلال لأجله ] لا خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه وقد قال الله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وإن صاده حلال وذبحه, وكان من المحرم إعانة فيه أو دلالة عليه أو إشارة إليه, لم يبح أيضا وإن صيد من أجله لم يبح له أيضا أكله وروي ذلك عن عثمان بن عفان وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: له أكله لقول النبي -ﷺ- في حديث أبي قتادة: (هل منكم أحد أمره, أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها) متفق عليه فدل على أن التحريم إنما يتعلق بالإشارة والأمر والإعانة ولأنه صيد مذكى لم يحصل فيه ولا في سببه صنع منه, فلم يحرم عليه أكله كما لو لم يصد له وحكي عن علي وابن عمر, وعائشة وابن عباس أن لحم الصيد يحرم على المحرم بكل حال, وبه قال طاوس وكرهه الثوري وإسحاق لعموم قوله: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وروي عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي, أنه (أهدى إلى النبي -ﷺ- حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله -ﷺ- فلما رأى رسول الله -ﷺ- ما في وجهه, قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفق عليه وفي لفظ: (أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي -ﷺ- رجل حمار وفي رواية: عجز حمار) وفي رواية: شق حمار روى ذلك كله مسلم وروى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال: كان الحارث خليفة عثمان على الطائف, فصنع له طعاما وصنع فيه من الحجل واليعاقيب ولحم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه فقال: أطعموه قوما حلالا, فأنا حرم ثم قال علي: أنشد الله من كان ها هنا من أشجع أتعلمون (أن رسول الله -ﷺ- أهدى إليه رجل حمار وحش فأبى أن يأكله)؟ قالوا: نعم ولأنه لحم صيد فحرم على المحرم, كما لو دل عليه ولنا ما روى جابر قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه, أو يصد لكم) رواه أبو داود والنسائي والترمذي, وقال: هو أحسن حديث في الباب وهذا صريح في الحكم وفيه جمع بين الأحاديث وبيان المختلف منها, فإن ترك النبي -ﷺ- للأكل مما أهدي إليه يحتمل أن يكون لعلمه أنه صيد من أجله أو ظنه ويتعين حمله على ذلك, لما قدمت من حديث أبي قتادة وأمر النبي -ﷺ- أصحابه بأكل الحمار الذي صاده وعن طلحة (أنه أهدي له طير وهو راقد, فأكل بعض أصحابه وهم محرمون وتورع بعض فلما استيقظ طلحة وافق من أكله, وقال: أكلناه مع رسول الله -ﷺ-) رواه مسلم وفي "الموطأ" (أن رسول الله -ﷺ- خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحش عقير, فجاء البهزي وهو صاحبه فقال: يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار, فأمر رسول الله -ﷺ- أبا بكر فقسمه بين الرفاق) وهو حديث صحيح وأحاديثهم إن لم يكن فيها ذكر أنه صيد من أجلهم فتعين ضم هذا القيد إليها لحديثنا وجمعا بين الأحاديث, ودفعا للتناقض عنها ولأنه صيد للمحرم فحرم, كما لو أمر أو أعان. فصل:
وما حرم على المحرم لكونه صيد من أجله أو دل عليه, أو أعان عليه لم يحرم على الحلال أكله لقول علي أطعموه حلالا وقد بينا حمله على أنه صيد من أجلهم, وحديث الصعب بن جثامة حين رد النبي -ﷺ- الصيد عليه ولم ينهه عن أكله ولأنه صيد حلال, فأبيح للحلال أكله كما لو صيد لهم وهل يباح أكله لمحرم آخر؟ ظاهر الحديث إباحته له لقوله: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه, أو يصد لكم) وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه روي أنه أهدي إليه صيد وهو محرم فقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل هو, وقال: إنما صيد من أجلي ولأنه لم يصد من أجله فحل له كما لو صاده الحلال لنفسه ويحتمل أن يحرم عليه وهو ظاهر قول علي رضي الله عنه لقوله: أطعموه حلالا, فأنا حرم ولقول النبي -ﷺ- في حديث أبي قتادة: (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا قال: فكلوه) فمفهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم. فصل:
إذا قتل المحرم الصيد, ثم أكله ضمنه للقتل دون الأكل وبه قال مالك والشافعي وقال عطاء, وأبو حنيفة: يضمنه للأكل أيضا لأنه أكل من صيد محرم عليه فيضمنه كما لو أكل مما صيد لأجله، ولنا أنه صيد مضمون بالجزاء فلم يضمن ثانيا كما لو أتلفه بغير الأكل, وكصيد الحرم إذا قتله الحلال وأكله وكذلك إن قتله محرم آخر ثم أكل هذا منه, لم يجب عليه الجزاء لما ذكرنا ولأن تحريمه لكونه ميتة والميتة لا تضمن بالجزاء وكذلك إن حرم عليه أكله للدلالة عليه والإعانة عليه, فأكل منه لم يضمن لأنه صيد مضمون بالجزاء مرة فلا يجب به جزاء ثان, كما لو أتلفه وإن أكل مما صيد لأجله ضمنه وهو قول مالك وقاله الشافعي في القديم وقال في الجديد: لا جزاء عليه لأنه أكل للصيد فلم يجب به الجزاء, كما لو قتله ثم أكله ولنا إنه إتلاف ممنوع منه لحرمة الإحرام فتعلق به الضمان, كالقتل أما إذا قتله ثم أكله لا يحرم للإتلاف, إنما حرم لكونه ميتة إذا ثبت هذا فإنه يضمنه بمثله من اللحم لأن أصله مضمون بمثله من النعم فكذلك أبعاضه تضمن بمثلها بخلاف حيوان الآدمي, فإنه يضمنه بقيمته فكذلك أبعاضه. فصل:
وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس وهذا قول الحسن, والقاسم وسالم ومالك, والأوزاعي والشافعي وإسحاق, وأصحاب الرأي وقال الحكم والثوري وأبو ثور: لا بأس بأكله قال ابن المنذر: وهو بمنزلة ذبيحة السارق وقال عمرو بن دينار, وأيوب السختياني: يأكله الحلال وحكي عن الشافعي قول قديم أنه يحل لغيره الأكل منه لأن من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال ولنا, أنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي وبهذا فارق سائر الحيوانات, وفارق غير الصيد فإنه لا يحرم ذبحه وكذلك الحكم في صيد الحرم إذا ذبحه الحلال. فصل:
إذا اضطر المحرم, فوجد صيدا وميتة أكل الميتة وبهذا قال الحسن والثوري, ومالك وقال الشافعي وإسحاق وابن المنذر: يأكل الصيد وهذه المسألة مبنية على أنه إذا ذبح الصيد كان ميتة, فيساوي الميتة في التحريم ويمتاز بإيجاب الجزاء وما يتعلق به من هتك حرمة الإحرام, فلذلك كان أكل الميتة أولى إلا أن لا تطيب نفسه بأكلها فيأكل الصيد, كما لو لم يجد غيره. مسألة:
قال: [ ولا يتطيب المحرم ] أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب وقد قال النبي -ﷺ- في المحرم الذي وقصته راحلته: (لا تمسوه بطيب) رواه مسلم وفي لفظ: (لا تحنطوه) متفق عليه فلما منع الميت من الطيب لإحرامه فالحي أولى ومتى تطيب فعليه الفدية لأنه استعمل ما حرمه الإحرام, فوجبت عليه الفدية كاللباس ومعنى الطيب: ما تطيب رائحته ويتخذ للشم, كالمسك والعنبر والكافور, والغالية والزعفران وماء الورد, والأدهان المطيبة كدهن البنفسج ونحوه. فصل:
والنبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب: أحدها ما لا ينبت للطيب, ولا يتخذ منه كنبات الصحراء من الشيح والقيصوم والخزامي, والفواكه كلها من الأترج والتفاح والسفرجل وغيره وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب كالحناء والعصفر, فمباح شمه ولا فدية فيه ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر, أنه كان يكره للمحرم أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه لا يقصد للطيب, ولا يتخذ منه طيب أشبه سائر نبات الأرض قد روي (أن أزواج رسول الله -ﷺ- كن يحرمن في المعصفرات) الثاني ما ينبته الآدميون للطيب, ولا يتخذ منه طيب كالريحان الفارسي والمرزجوش والنرجس, والبرم ففيه وجهان أحدهما يباح بغير فدية قاله عثمان بن عفان, وابن عباس والحسن ومجاهد, وإسحاق والآخر يحرم شمه فإن فعل فعليه الفدية وهو قول جابر, وابن عمر والشافعي وأبي ثور لأنه يتخذ للطيب, فأشبه الورد وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئا وكلام أحمد فيه محتمل لها فإنه قال في الريحان: ليس من آلة المحرم ولم يذكر فديته وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب, فأشبه العصفر الثالث ما ينبت للطيب ويتخذ منه طيب, كالورد والبنفسج والياسمين والخيري فهذا إذا استعمله وشمه ففيه الفدية لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه, فكذلك في أصله وعن أحمد رواية أخرى في الورد: لا فدية عليه في شمه لأنه زهر شمه على جهته أشبه زهر سائر الشجر وذكر أبو الخطاب في هذا والذي قبله روايتين والأولى تحريمه لأنه ينبت للطيب, ويتخذ منه أشبه الزعفران والعنبر قال القاضي: يقال إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور. فصل:
وإن مس من الطيب ما يعلق بيده, كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه, فعليه الفدية لأنه مستعمل للطيب وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق وقطع الكافور, والعنبر فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب فإن شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا وإن شم العود, فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا. مسألة:
قال: [ ولا يلبس ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا طيب ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا وهو قول جابر وابن عمر ومالك, والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن عبد البر: لا خلاف في هذا بين العلماء, وقد قال النبي -ﷺ-: (لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس) متفق عليه فكل ما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد, أو بخر بعود فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه, ولا النوم عليه نص أحمد عليه وذلك لأنه استعمال له فأشبه لبسه ومتى لبسه أو استعمله, فعليه الفدية وبذلك قال الشافعي وقال أبو حنيفة: إن كان رطبا يلي بدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية, وإلا فلا لأنه ليس بمتطيب ولنا أنه منهي عنه لأجل الإحرام فلزمته الفدية به كاستعمال الطيب في بدنه ولأنه محرم استعمل ثوبا مطيبا, فلزمته الفدية به كالرطب فإن غسله حتى ذهب ما فيه من ذلك فلا بأس به عند جميع العلماء. فصل:
وإن انقطعت رائحة الثوب لطول الزمن عليه, أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء, فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه وبهذا قال سعيد بن المسيب والحسن, والنخعي والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عطاء وطاوس وكره ذلك مالك إلا أن يغسل ويذهب لونه لأن عين الزعفران ونحوه فيه ولنا, أنه إنما نهي عنه من أجل رائحته وقد ذهبت بالكلية فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه, ففيه الفدية لأنه متطيب بطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه, والماء لا رائحة له وإنما هي من الصبغ الذي فيه فأما إن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة فلا فدية عليه بالجلوس والنوم عليه وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه, ففيه الفدية لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه. مسألة:
قال: [ ولا بأس بما صبغ بالعصفر ] وجملة ذلك أن العصفر ليس بطيب ولا بأس باستعماله وشمه, ولا بما صبغ به وهذا قول جابر وابن عمر وعبد الله بن جعفر, وعقيل بن أبي طالب وهو مذهب الشافعي وعن عائشة وأسماء وأزواج النبي -ﷺ- أنهن كن يحرمن في المعصفرات وكرهه مالك إذا كان ينتفض في بدنه, ولم يوجب فيه فدية ومنع منه الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن, وشبهوه بالمورس والمزعفر لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ولنا ما روى أبو داود, بإسناده عن ابن عمر أنه سمع رسول الله -ﷺ- (نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب,) ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز, أو حلي أو سراويل أو قميص, أو خف وروى الإمام أحمد في المناسك بإسناده عن عائشة بنت سعد, قالت: (كنا أزواج النبي -ﷺ- نحرم في المعصفرات) ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا ولأنه ليس بطيب, فلم يكره ما صبغ به كالسواد والمصبوغ بالمغرة, وأما الورس والزعفران فإنه طيب بخلاف مسألتنا. فصل:
ولا بأس بالممشق وهو المصبوغ بالمغرة لأنه مصبوغ بطين لا بطيب, وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ سوى ما ذكرنا لأن الأصل الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه, وما كان في معناه وليس هذا كذلك وأما المصبوغ بالرياحين فهو مبني على الرياحين في نفسها, فما منع المحرم من استعماله منع لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته, وإلا فلا. مسألة:
قال: [ ولا يقطع شعرا من رأسه ولا جسده ] أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ شعره إلا من عذر والأصل فيه قول الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} وروى كعب بن عجرة, عن رسول الله -ﷺ-: أنه قال: (لعلك يؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله فقال رسول الله -ﷺ-: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام, أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) متفق عليه وهذا يدل على أن الحلق كان قبل ذلك محرما وشعر الرأس والجسد في ذلك سواء. فصل:
فإن كان له عذر, من مرض أو وقع في رأسه قمل أو غير ذلك مما يتضرر بإبقاء الشعر, فله إزالته للآية والخبر قال ابن عباس: {فمن كان منكم مريضا} أي برأسه قروح {أو به أذى من رأسه} أي قمل ثم ينظر فإن كان الضرر اللاحق به من نفس الشعر مثل أن ينبت في عينه, أو طال حاجباه فغطيا عينيه فله قلع ما في العين وقطع ما استرسل على عينيه, ولا فدية عليه لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذيته بغير فدية كالصيد إذا صال عليه, وإن كان الأذى من غير الشعر لكن لا يتمكن من إزالة الأذى إلا بإزالة الشعر كالقمل والقروح برأسه, أو صداع برأسه أو شدة الحر عليه لكثرة شعره فعليه الفدية لأنه قطع الشعر لإزالة ضرر غيره, فأشبه أكل الصيد للمخمصة فإن قيل: فالقمل من ضرر الشعر والحر سببه كثرة الشعر قلنا: ليس القمل من الشعر وإنما لا يتمكن من المقام في الرأس إلا به, فهو محل له لا سبب فيه وكذلك الحر من الزمان بدليل أن الشعر يوجد في زمن البرد, فلا يتأذى به والله أعلم. مسألة:
قال: [ ولا يقطع ظفرا إلا أن ينكسر ] أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من قلم أظفاره إلا من عذر لأن قطع الأظفار إزالة جزء يترفه به, فحرم كإزالة الشعر فإن انكسر فله إزالته من غير فدية تلزمه قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم, أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر ولأن ما انكسر يؤذيه ويؤلمه فأشبه الشعر النابت في عينه, والصيد الصائل عليه فإن قص أكثر مما انكسر فعليه الفدية لذلك الزائد كما لو قطع من الشعر أكثر مما يحتاج إليه وإن احتاج إلى مدواة قرحة, فلم يمكنه إلا بقص أظفاره فعليه الفدية لذلك وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا فدية عليه ولنا, أنه أزال ما منع إزالته لضرر في غيره فأشبه حلق رأسه دفعا لضرر قمله وإن وقع في أظفاره مرض فأزالها لذلك المرض, فلا فدية عليه لأنه أزالها لإزالة مرضها فأشبه قصها لكسرها. مسألة:
قال: [ ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء ] يعني لا ينظر فيها لإزالة شعث, أو تسوية شعر أو شيء من الزينة قال أحمد: لا بأس أن ينظر في المرآة ولا يصلح شعثا, ولا ينفض عنه غبارا وقال أيضا: إذا كان يريد به زينة فلا قيل: فكيف يريد زينة؟ قال: يرى شعرة فيسويها وروي نحو ذلك عن عطاء والوجه في ذلك أنه قد روي في حديث: (إن المحرم الأشعث الأغبر) وفي آخر: (إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي, قد أتوني شعثا غبرا ضاحين) أو كما جاء لفظ الحديث فإن نظر فيها لحاجة كمداواة جرح أو إزالة شعر ينبت في عينه, ونحو ذلك مما أباح الشرع له فعله فلا بأس ولا فدية عليه بالنظر في المرآة على كل حال, وإنما ذلك أدب لا شيء على تاركه لا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا وقد روي عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا ينظران في المرآة, وهما محرمان. مسألة:
قال: [ ولا يأكل من الزعفران ما يجد ريحه ] وجملة ذلك أن الزعفران وغيره من الطيب إذا جعل في مأكول أو مشروب فلم تذهب رائحته, لم يبح للمحرم تناوله نيئا كان أو قد مسته النار وبهذا قال الشافعي وكان مالك وأصحاب الرأي لا يرون بما مست النار من الطعام بأسا سواء ذهب لونه وريحه وطعمه, أو بقي ذلك كله لأنه بالطبخ استحال عن كونه طيبا وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد, وسعيد بن جبير وطاوس أنهم لم يكونوا يرون بأكل الخشكنانج الأصفر بأسا, وكرهه القاسم بن محمد وجعفر بن محمد ولنا, أن الاستمتاع به والترفه به حاصل من حيث المباشرة, فأشبه ما لو كان نيئا ولأن المقصود من الطيب رائحته وهي باقية, وقول من أباح الخشكنانج الأصفر محمول على ما لم يبق فيه رائحة فإن ما ذهبت رائحته وطعمه ولم يبق فيه إلا اللون مما مسته النار, لا بأس بأكله لا نعلم فيه خلافا سوى أن القاسم وجعفر بن محمد كرها الخشكنانج الأصفر ويمكن حمله على ما بقيت رائحته ليزول الخلاف فإن لم تمسه النار, لكن ذهبت رائحته وطعمه فلا بأس به وهو قول الشافعي وكره مالك والحميدي, وإسحاق وأصحاب الرأي الملح الأصفر, وفرقوا بين ما مسته النار وما لم تمسه ولنا أن المقصود الرائحة, فإن الطيب إنما كان طيبا لرائحته لا للونه فوجب دوران الحكم معها دونه. فصل:
فإن ذهبت رائحته, وبقي لونه وطعمه فظاهر كلام الخرقي إباحته لما ذكرنا من أنها المقصود فيزول المنع بزوالها وظاهر كلام أحمد, في رواية صالح تحريمه وهو مذهب الشافعي قال القاضي: محال أن تنفك الرائحة عن الطعم فمتى بقي الطعم دل على بقائها, فلذلك وجبت الفدية باستعماله. مسألة:
قال: [ ولا يدهن بما فيه طيب وما لا طيب فيه ] أما المطيب من الأدهان كدهن الورد والبنفسج والزنبق والخيري واللينوفر, فليس في تحريم الادهان به خلاف في المذهب وهو قول الأوزاعي وكره مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي, الادهان بدهن البنفسج وقال الشافعي: ليس بطيب ولنا أنه يتخذ للطيب وتقصد رائحته, فكان طيبا كماء الورد فأما ما لا طيب فيه كالزيت والشيرج والسمن والشحم ودهن البان الساذج, فنقل الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج؟ فقال: نعم يدهن به إذا احتاج إليه ويتداوى المحرم بما يأكل قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم, على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن ونقل الأثرم جواز ذلك عن ابن عباس وأبي ذر والأسود بن يزيد, وعطاء والضحاك وغيرهم ونقل أبو داود, عن أحمد أنه قال: الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان وهو قول عطاء, ومالك والشافعي وأبي ثور, وأصحاب الرأي لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعا وقد ذكرنا إجماع أهل العلم على إباحته في اليدين, وإنما الكراهة في الرأس خاصة لأنه محل الشعر وقال القاضي: في إباحته في جميع البدن روايتان فإن فعله فلا فدية فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه أو غيره, إلا أن يكون مطيبا وقد روي عن ابن عمر أنه صدع وهو محرم فقالوا: ألا ندهنك بالسمن؟ قال: لا قالوا: أليس تأكله؟ قال: ليس أكله كالادهان به وعن مجاهد قال: إن تداوى به فعليه الكفارة وقال الذين منعوا من دهن الرأس: فيه الفدية لأنه مزيل للشعث, أشبه ما لو كان مطيبا ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع, ولا يصح قياسه على الطيب فإن الطيب يوجب الفدية وإن لم يزل شعثا, ويستوي فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه ولأنه مائع لا تجب الفدية باستعماله في اليدين, فلم تجب باستعماله في الرأس كالماء. مسألة:
قال: [ ولا يتعمد لشم الطيب ] أي لا يقصد شمه من غيره بفعل منه نحو أن يجلس عند العطارين لذلك, أو يدخل الكعبة حال تجميرها ليشم طيبها أو يحمل معه عقدة فيها مسك ليجد ريحها قال أحمد: سبحان الله, كيف يجوز هذا؟ وأباح الشافعي ذلك إلا العقدة تكون معه يشمها فإن أصحابه اختلفوا فيها لأنه يشم الطيب من غيره, أشبه ما لو لم يقصده ولنا أنه شم الطيب قاصدا مبتدئا به في الإحرام فحرم, كما لو باشره يحققه أن القصد شمه لا مباشرته بدليل ما لو مس اليابس الذي لا يعلق بيده لم يكن عليه شيء, ولو رفعه بخرقة وشمه لوجبت عليه الفدية ولو لم يباشره فأما شمه من غير قصد, كالجالس عند العطار لحاجته وداخل السوق أو داخل الكعبة للتبرك بها, ومن يشتري طيبا لنفسه وللتجارة ولا يمسه فغير ممنوع منه لأنه لا يمكن التحرز من هذا فعفي عنه, بخلاف الأول. مسألة:
قال: [ ولا يغطي شيئا من رأسه والأذنان من الرأس ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تخمير رأسه والأصل في ذلك (نهى النبي -ﷺ- عن لبس العمائم والبرانس) وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته: (لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) علل منع تخمير رأسه ببقائه على إحرامه, فعلم أن المحرم ممنوع من ذلك وكان ابن عمر يقول: إحرام الرجل في رأسه وذكر القاضي في "الشرح" أن النبي -ﷺ- قال: (إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها) وأنه عليه السلام نهى أن يشد المحرم رأسه بالسير وقول الخرقي: "والأذنان من الرأس" فائدته تحريم تغطيتهما وأباح ذلك الشافعي وقد روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (الأذنان من الرأس) وقد ذكرناه في الطهارة وإذا ثبت هذا فإنه يمنع من تغطية بعض رأسه, كما يمنع من تغطية جميعه لأن النبي -ﷺ- قال: (لا تخمروا رأسه) والمنهي عنه يحرم فعل بعضه ولذلك لما قال تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم} حرم حلق بعضه وسواء غطاه بالملبوس المعتاد أو بغيره مثل أن عصبه بعصابة, أو شده بسير أو جعل عليه قرطاسا فيه دواء أو لا دواء فيه أو خضبه بحناء, أو طلاه بطين أو نورة أو جعل عليه دواء فإن جميع ذلك ستر له, وهو ممنوع منه وسواء كان ذلك لعذر أو غيره فإن العذر لا يسقط الفدية بدليل قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية} وقصة كعب بن عجرة وبهذا كله قال الشافعي وكان عطاء يرخص في العصابة من الضرورة والصحيح أنه لا تسقط الفدية عنه بالعذر كما لو لبس قلنسوة من أجل البرد. فصل:
فإن حمل على رأسه مكتلا أو طبقا أو نحوه فلا فدية عليه, وبهذا قال عطاء ومالك وقال الشافعي: عليه الفدية لأنه ستره ولنا أن هذا لا يقصد به الستر غالبا, فلم تجب به الفدية كما لو وضع يده عليه وسواء قصد به الستر أو لم يقصد لأن ما تجب به الفدية لا يختلف بالقصد وعدمه فكذلك ما لا تجب به الفدية واختار ابن عقيل وجوب الفدية عليه إذا قصد به الستر لأن الحيل لا تحيل الحقوق وإن ستر رأسه بيديه, فلا شيء عليه لما ذكرنا ولأن الستر بما هو متصل به لا يثبت له حكم الستر, ولذلك لو وضع يديه على فرجه لم تجزئه في الستر ولأن المحرم مأمور بمسح رأسه, وذلك يكون بوضع يديه أو إحداهما عليه وإن طلى رأسه بعسل أو صمغ ليجتمع الشعر ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث, ولا يقع فيه الدبيب جاز وهو التلبيد الذي جاء في حديث ابن عمر: (رأيت رسول الله -ﷺ- يهل ملبدا) رواه البخاري وعن حفصة (أنها قالت لرسول الله -ﷺ-: ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي, وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) متفق عليهما وإن كان في رأسه طيب مما جعله فيه قبل الإحرام فلا بأس لما روي عن عائشة, قالت: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله -ﷺ- وكان على رأس ابن عباس مثل الرب من الغالية وهو محرم). فصل:
وفي تغطية المحرم وجهه روايتان: إحداهما يباح روي ذلك عن عثمان بن عفان, وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير, وسعد بن أبي وقاص وجابر والقاسم, وطاوس والثوري والشافعي والثانية, لا يباح وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لما روي عن ابن عباس (أن رجلا وقع عن راحلته, فأقعصته فقال رسول الله -ﷺ-: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه, فإنه يبعث يوم القيامة يلبي) ولأنه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب ولنا, ما ذكرنا من قول الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا, ولقوله عليه السلام: (إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها) وحديث ابن عباس المشهور فيه: (ولا تخمروا رأسه) هذا المتفق عليه وقوله: (ولا تخمروا وجهه) فقال شعبة: حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما كان يحدث, إلا أنه قال (ولا تخمروا وجهه ورأسه) وهذا يدل على أنه ضعف هذه الزيادة وقد روي في بعض ألفاظه: (خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه) فتتعارض الروايتان وما ذكروه يبطل بلبس القفازين. مسألة:
قال: [ والمرأة إحرامها في وجهها فإن احتاجت سدلت على وجهها ] وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها, كما يحرم على الرجل تغطية رأسه لا نعلم في هذا خلافا إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة, فلا يكون اختلافا قال ابن المنذر: وكراهية البرقع ثابتة عن سعد وابن عمر وابن عباس وعائشة ولا نعلم أحدا خالف فيه وقد روى البخاري وغيره أن النبي -ﷺ- قال: (ولا تنتقب المرأة المحرمة, ولا تلبس القفازين) فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها روي ذلك عن عثمان, وعائشة وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي, وإسحاق ومحمد بن الحسن ولا نعلم فيه خلافا وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله -ﷺ- فإذا حاذونا, سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه) رواه أبو داود والأثرم ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها, فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة, فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شيء عليها, كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاة وإن لم ترفعه مع القدرة افتدت لأنها استدامت الستر ولم أر هذا الشرط عن أحمد, ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة, فلو كان هذا شرطا لبين وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه قال أحمد: إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق, وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل كأنه يقول: إن النقاب من أسفل على وجهها. فصل:
ويجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطية الوجه ولا يمكن تغطية جميع الرأس إلا بجزء من الوجه ولا كشف جميع الوجه إلا بكشف جزء من الرأس, فعند ذلك ستر الرأس كله أولى لأنه آكد إذ هو عورة لا يختص تحريمه حالة الإحرام, وكشف الوجه بخلافه وقد أبحنا ستر جملته للحاجة العارضة فستر جزء منه لستر العورة أولى. فصل:
ولا بأس أن تطوف المرأة منتقبة, إذا كانت غير محرمة وطافت عائشة وهي منتقبة وكره ذلك عطاء ثم رجع عنه وذكر أبو عبد الله حديث ابن جريج, أن عطاء كان يكره لغير المحرمة أن تطوف منتقبة حتى حدثته عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة, أن عائشة طافت وهي منتقبة فأخذ به. مسألة:
قال: [ ولا تكتحل بكحل أسود ] الكحل بالإثمد في الإحرام مكروه للمرأة والرجل وإنما خص المرأة بالذكر لأنها محل الزينة, وهو في حقها أكثر من الرجل ويروى هذا عن عطاء والحسن ومجاهد قال مجاهد: هو زينة وروي عن ابن عمر أنه قال: يكتحل المحرم بكل كحل ليس فيه طيب قال مالك: لا بأس أن يكتحل المحرم من حر يجده في عينيه بالإثمد وغيره وروي عن أحمد, أنه قال: يكتحل المحرم ما لم يرد به الزينة قيل له: الرجال والنساء؟ قال: نعم والدليل على كراهته ما روي عن جابر (أن عليا قدم من اليمن فوجد فاطمة ممن حل, فلبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها, فقالت: أبي أمرني بهذا فقال النبي -ﷺ-: صدقت صدقت) رواه مسلم وغيره وهذا يدل على أنها كانت ممنوعة من ذلك وروي عن عائشة أنها قالت لامرأة: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد أو الأسود إذا ثبت هذا فإن الكحل بالإثمد مكروه, ولا فدية فيه ولا أعلم فيه خلافا وروت شميسة عن عائشة, قالت: اشتكيت عيني وأنا محرمة فسألت عائشة فقالت: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد, أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة فنحن نكرهه قال الشافعي: إن فعلا فلا أعلم عليهما فيه فدية بشيء. فصل:
فأما الكحل بغير الإثمد, فلا كراهة فيه ما لم يكن فيه طيب لما ذكرنا من حديث عائشة وقول ابن عمر وقد روى مسلم, عن نبيه بن وهب قال: خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل, اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان ليسأله, فأرسل إليه: أن اضمدها بالصبر فإن عثمان حدث (عن رسول الله -ﷺ- في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدها بالصبر) ففي هذا دليل على إباحة ما في معناه, مما ليس فيه زينة ولا طيب وكان إبراهيم لا يرى بالذرور الأحمر بأسا. مسألة:
قال: [ وتجتنب كل ما يجتنبه الرجل إلا في اللباس وتظليل المحمل ] قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه, من أهل العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجال إلا بعض اللباس, وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القمص والدروع والسراويلات والخمر والخفاف وإنما كان كذلك لأن أمر رسول الله -ﷺ- المحرم بأمر, وحكمه عليه يدخل فيه الرجال والنساء وإنما استثنى منه اللباس للحاجة إلى ستر المرأة, لكونها عورة إلا وجهها فتجردها يفضي إلى انكشافها, فأبيح لها اللباس للستر كما أبيح للرجل عقد الإزار كيلا يسقط, فتنكشف العورة ولم يبح عقد الرداء وقد روى ابن عمر أنه سمع رسول الله -ﷺ- (نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب, وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف) وهذا صريح, والمراد باللباس ها هنا المخيط من القميص والدروع والسراويلات والخفاف وما يستر الرأس ونحوه. فصل:
ويستحب للمرأة ما يستحب للرجل من الغسل عند الإحرام, والتطيب والتنظف لما ذكرنا من حديث عائشة أنها قالت: (كنا نخرج مع رسول الله -ﷺ- فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام, فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي -ﷺ- فلا ينكره عليها) والشابة والكبيرة في هذا سواء فإن عائشة كانت تفعله في عهد النبي -ﷺ- وهي شابة فإن قيل: أليس قد كره ذلك في الجمعة؟ قلنا: لأنها في الجمعة تقرب من الرجال, فيخاف الافتتان بها بخلاف مسألتنا ولهذا يلزم الحج النساء ولا تلزمهن الجمعة وكذلك يستحب لها قلة الكلام فيما لا ينفع, والإكثار من التلبية وذكر الله تعالى. مسألة:
قال: [ ولا تلبس القفازين ولا الخلخال, وما أشبهه ] القفازان: شيء يعمل لليدين تدخلهما فيهما من خرق تسترهما من الحر, مثل ما يعمل للبرد فيحرم على المرأة لبسه في يديها في حال إحرامها وهذا قول ابن عمر وبه قال عطاء وطاوس, ومجاهد والنخعي ومالك, وإسحاق وكان سعد بن أبي وقاص يلبس بناته القفازين وهن محرمات ورخص فيه علي وعائشة وعطاء وبه قال الثوري, وأبو حنيفة وللشافعي كالمذهبين واحتجوا بما روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إحرام المرأة في وجهها) وأنه عضو يجوز ستره بغير المخيط فجاز ستره به كالرجلين ولنا ما روى ابن عمر, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين) رواه البخاري وروي أيضا أن النبي -ﷺ- (نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والخلخال) ولأن الرجل لما وجب عليه كشف رأسه تعلق حكم إحرامه بغيره, فمنع من لبس المخيط في سائر بدنه كذلك المرأة لما لزمها كشف وجهها ينبغي أن يتعلق حكم الإحرام بغير ذلك البعض, وهو اليدان وحديثهم المراد به الكشف فأما الستر بغير المخيط فيجوز للرجل ولا يجوز بالمخيط فأما الخلخال, وما أشبهه من الحلي مثل السوار والدملوج فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز لبسه وقد قال أحمد: المحرمة, والمتوفى عنها زوجها يتركان الطيب والزينة ولهما ما سوى ذلك وروي عن عطاء: أنه كان يكره للمحرمة الحرير والحلي وكرهه الثوري, وأبو ثور وروي عن قتادة أنه كان لا يرى بأسا أن تلبس المرأة الخاتم والقرط وهي محرمة وكره السوارين والدملجين والخلخالين وظاهر مذهب أحمد الرخصة فيه وهو قول ابن عمر وعائشة وأصحاب الرأي قال أحمد في رواية حنبل: تلبس المحرمة الحلي والمعصفر وقال عن نافع: كان نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحلي والمعصفر, وهن محرمات لا ينكر ذلك عبد الله وروى أحمد في "المناسك" عن عائشة, أنها قالت: تلبس المحرمة ما تلبس وهي حلال من خزها وقزها وحليها وقد ذكرنا حديث ابن عمر أنه سمع النبي -ﷺ- قال: (ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب, من معصفر أو خز أو حلي) قال ابن المنذر: لا يجوز المنع منه بغير حجة ويحمل كلام أحمد والخرقي في المنع على الكراهة لما فيه من الزينة وشبهه بالكحل بالإثمد, ولا فدية فيه كما لا فدية في الكحل وأما لبس القفازين ففيه الفدية لأنها لبست ما نهيت عن لبسه في الإحرام, فلزمتها الفدية كالنقاب. فصل:
قال القاضي: يحرم عليها شد يديها بخرقة لأنه ستر لبدنها بما يختص بها أشبه القفازين, وكما لو شد الرجل على جسده شيئا وإن لفت يديها من غير شد فلا فدية لأن المحرم هو اللبس لا تغطيتهما, كبدن الرجل. مسألة:
قال: [ ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها ] قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها وبهذا قال عطاء, ومالك والأوزاعي والشافعي, وأصحاب الرأي وروي عن سليمان بن يسار أنه قال: السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ولهذا لا يسن لها أذان ولا إقامة والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح. فصل:
ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء عند الإحرام لما روي عن ابن عمر, أنه قال: من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء ولأن هذا من زينة النساء فاستحب عند الإحرام كالطيب ولا بأس بالخضاب في حال إحرامها وقال القاضي: يكره لكونه من الزينة, فأشبه الكحل بالإثمد فإن فعلته ولم تشد يديها بالخرق فلا فدية وبهذا قال الشافعي, وابن المنذر وكان مالك ومحمد بن الحسن يكرهان الخضاب للمحرمة وألزماها الفدية ولنا, ما روى عكرمة أنه قال: كانت عائشة وأزواج النبي -ﷺ- يختضبن بالحناء, وهن حرم ولأن الأصل الإباحة وليس ها هنا دليل يمنع من نص ولا إجماع ولا هي في معنى المنصوص. فصل:
إذا أحرم الخنثى المشكل, لم يلزمه اجتناب المخيط لأننا لا نتيقن الذكورية الموجبة لذلك وقال ابن المبارك: يغطي رأسه ويكفر والصحيح أن الكفارة لا تلزمه لأن الأصل عدمها فلا نوجبها بالشك وإن غطى وجهه وحده لم يلزمه فدية لذلك وإن جمع بين تغطية وجهه بنقاب أو برقع, وبين تغطية رأسه أو لبس المخيط على بدنه لزمته الفدية لأنه لا يخلو أن يكون رجلا أو امرأة. فصل:
ويستحب للمرأة الطواف ليلا لأنه أستر لها وأقل للزحام فيمكنها أن تدنو من البيت, وتستلم الحجر وقد روى حنبل في "المناسك" بإسناده عن أبي الزبير أن عائشة كانت تطوف بعد العشاء أسبوعا أو أسبوعين, وترسل إلى أهل المجالس في المسجد: ارتفعوا إلى أهليكم فإن لهم عليكم حقا وعن محمد بن السائب بن بركة عن أمه, عن عائشة أنها أرسلت إلى أصحاب المصابيح أن يطفئوها, فأطفئوها فطفت معها في ستر أو حجاب فكانت كلما فرغت من أسبوع استلمت الركن الأسود, وتعوذت بين الركن والباب حتى إذا فرغت من ثلاثة أسابيع ذهبت إلى دبر سقاية زمزم, مما يلي الناس فصلت ست ركعات كلما ركعت ركعتين انحرفت إلى النساء, فكلمتهن تفصل بذلك صلاتها حتى فرغت. مسألة:
قال: [ ولا يتزوج المحرم, ولا يزوج فإن فعل فالنكاح باطل ] قوله: "لا يتزوج" أي لا يقبل النكاح لنفسه, "ولا يزوج" أي لا يكون وليا في النكاح ولا وكيلا فيه ولا يجوز تزويج المحرمة أيضا روي ذلك عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار, والزهري والأوزاعي ومالك, والشافعي وأجاز ذلك كله ابن عباس وهو قول أبي حنيفة لما روى ابن عباس أن النبي -ﷺ- (تزوج ميمونة وهو محرم) متفق عليه ولأنه عقد يملك به الاستمتاع فلا يحرمه الإحرام, كشراء الإماء ولنا ما روى أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (لا ينكح المحرم, ولا ينكح ولا يخطب) رواه مسلم ولأن الإحرام يحرم الطيب فيحرم النكاح, كالعدة فأما حديث ابن عباس فقد روى يزيد بن الأصم (عن ميمونة أن النبي -ﷺ- تزوجها حلالا, وبنى بها حلالا وماتت بسرف في الظلة التي بنى بها فيها) رواه أبو داود, والأثرم وعن أبي رافع قال: (تزوج رسول الله -ﷺ- ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال, وكنت أنا الرسول بينهما) قال الترمذي: هذا حديث حسن وميمونة أعلم بنفسها وأبو رافع صاحب القصة وهو السفير فيها, فهما أعلم بذلك من ابن عباس وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرا فكيف وقد كان صغيرا لا يعرف حقائق الأمور, ولا يقف عليها وقد أنكر عليه هذا القول وقال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وما تزوجها النبي -ﷺ- إلا حلالا فكيف يعمل بحديث هذا حاله؟ ويمكن حمل قوله: "وهو محرم" أي في الشهر الحرام, أو في البلد الحرام كما قيل: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما وقيل: تزوجها حلالا وأظهر أمر تزويجها وهو محرم ثم لو صح الحديثان, كان تقديم حديثنا أولى لأنه قول النبي -ﷺ- وذلك فعله والقول آكد لأنه يحتمل أن يكون مختصا بما فعله وعقد النكاح يخالف شراء الأمة فإنه يحرم بالعدة والردة واختلاف الدين, وكون المنكوحة أختا له من الرضاع ويعتبر له شروط غير معتبرة في الشراء. فصل:
ومتى تزوج المحرم أو زوج, أو زوجت محرمة فالنكاح باطل سواء كان الكل محرمين أو بعضهم لأنه منهي عنه, فلم يصح كنكاح المرأة على عمتها أو خالتها وعن أحمد: إن زوج المحرم لم أفسخ النكاح قال بعض أصحابنا: هذا يدل على أنه إذا كان الولي بمفرده أو الوكيل محرما لم يفسد النكاح والمذهب الأول وكلام أحمد يحمل على أنه لا يفسخه لكونه مختلفا فيه قال القاضي: ويفرق بينهما بطلقة وهكذا كل نكاح مختلف فيه قال أحمد, في رواية أبي طالب: إذا تزوجت بغير ولي لم يكن للولي أن يزوجها من غيره حتى يطلق ولأن تزويجها من غير طلاق يفضي إلى أن يجتمع للمرأة زوجان كل واحد منهما يعتقد حلها. فصل:
وتكره الخطبة للمحرم, وخطبة المحرمة ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين لأنه قد جاء في بعض ألفاظ حديث عثمان: (لا ينكح المحرم ولا ينكح, ولا يخطب) رواه مسلم ولأنه تسبب إلى الحرام فأشبه الإشارة إلى الصيد والإحرام الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات لأن حكمه باق في وجوب ما يجب في الإحرام, فكذلك ما يحرم به. فصل:
ويكره أن يشهد في النكاح لأنه معاونة على النكاح فأشبه الخطبة وإن شهد أو خطب لم يفسد النكاح وقال بعض أصحاب الشافعي: لا ينعقد النكاح بشهادة المحرمين لأن في بعض الروايات: (ولا يشهد) ولنا أنه لا مدخل للشاهد في العقد, فأشبه الخطيب وهذه اللفظة غير معروفة فلم يثبت بها حكم ومتى تزوج المحرم, أو زوج أو زوجت محرمة لم يجب بذلك فدية لأنه عقد فسد لأجل الإحرام, فلم تجب به فدية كشراء الصيد. مسألة:
قال: [ فإن وطئ المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل, فقد فسد حجهما وعليه بدنة إن كان استكرهها وإن كانت طاوعته, فعلى كل واحد منهما بدنة ] أما فساد الحج بالجماع في الفرج فليس فيه اختلاف قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر أن رجلا سأله, فقال: إني وقعت بامرأتي ونحن محرمان فقال: أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس, فاقضوا ما يقضون وحل إذا حلوا فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك, واهديا هديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج, وسبعة إذا رجعتم وكذلك قال ابن عباس وعبد الله بن عمرو لم نعلم لهم في عصرهم مخالفا روى حديثهم الأثرم في "سننه" وفي حديث ابن عباس: "ويتفرقان" من حيث يحرمان, حتى يقضيا حجهما قال ابن المنذر: قول ابن عباس أعلى شيء روي في من وطئ في حجه وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال ابن المسيب وعطاء والنخعي, والثوري والشافعي وإسحاق, وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا فرق بين ما قبل الوقوف وبعده وقال أبو حنيفة: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه وإن جامع بعده لم يفسد لقول النبي -ﷺ-: (الحج عرفة) ولأنه معنى يأمن به الفوات فأمن به الفساد, كالتحلل ولنا أن قول الصحابة الذين روينا قولهم مطلق في من واقع محرما, ولأنه جماع صادف إحراما تاما فأفسده كما قبل الوقوف وقوله عليه السلام: (الحج عرفة) يعني: معظمه أو أنه ركن متأكد فيه ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد, بدليل العمرة إذا ثبت هذا فإنه يجب على المجامع بدنة روي ذلك عن ابن عباس وعطاء وطاوس, ومجاهد ومالك والشافعي, وأبي ثور وقال الثوري وإسحاق: عليه بدنة فإن لم يجد فشاة وقال أصحاب الرأي: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه, وعليه شاة وإن كان بعده فعليه بدنة وحجه صحيح لأنه قبل الوقوف معنى يوجب القضاء, فلم يجب به بدنة كالفوات ولنا أنه جماع صادف إحراما تاما, فوجبت به البدنة كبعد الوقوف ولأنه قول من سمينا من الصحابة, ولم يفرقوا بين قبل الوقوف وبعده وأما الفوات فهو مفارق للجماع بالإجماع ولذلك لا يوجبون فيه الشاة بخلاف الجماع وإذا كانت المرأة مكرهة على الجماع, فلا هدي عليها ولا على الرجل أن يهدي عنها نص عليه أحمد لأنه جماع يوجب الكفارة فلم تجب به حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة, كما في الصيام وهذا قول إسحاق وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد, رواية أخرى: أن عليه أن يهدي عنها وهو قول عطاء ومالك لأن إفساد الحج وجد منه في حقهما فكان عليه لإفساده حجها هدي, قياسا على حجه وعنه ما يدل على أن الهدي عليها لأن فساد الحج ثبت بالنسبة إليها فكان الهدي عليها, كما لو طاوعت ويحتمل أنه أراد أن الهدي عليها يتحمله الزوج عنها فلا يكون رواية ثالثة فأما حال المطاوعة, فعلى كل واحد منهما بدنة هذا قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والنخعي, والضحاك ومالك والحكم, وحماد لأن ابن عباس قال: اهد ناقة ولتهد ناقة لأنها أحد المتجامعين من غير إكراه فلزمتها بدنة كالرجل وعن أحمد أنه قال: أرجو أن يجزئهما هدي واحد وروي ذلك عن عطاء, وهو مذهب الشافعي لأنه جماع واحد فلم يوجب أكثر من بدنة كحالة الإكراه والنائمة كالمكرهة في هذا وأما فساد الحج, فلا فرق فيه بين حال الإكراه والمطاوعة لا نعلم فيه خلافا. فصل:
ولا فرق بين الوطء في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة وبه قال الشافعي وأبو ثور ويتخرج في وطء البهيمة أن الحج لا يفسد به وهو قول مالك, وأبي حنيفة لأنه لا يوجب الحد فأشبه الوطء دون الفرج وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أن اللواط والوطء في الدبر لا يفسد الحج لأنه لا يثبت به الإحصان فلم يفسد الحج كالوطء دون الفرج ولنا, أنه وطء في فرج يوجب الاغتسال فأفسد الحج كوطء الآدمية في القبل ويفارق الوطء دون الفرج, فإنه ليس من الكبائر في الأجنبية ولا يوجب مهرا ولا عدة ولا حدا, ولا غسلا إلا أن ينزل فيكون كمسألتنا في رواية. فصل:
إذا تكرر الجماع, فإن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة ثانية كالأول, وإن لم يكن كفر عن الأول فكفارة واحدة وعنه أن لكل وطء كفارة لأنه سبب للكفارة فأوجبها كالأول والمذهب الأول لأنه جماع موجب للكفارة, فإذا تكرر قبل التكفير عن الأول لم يوجب كفارة ثانية كما في الصيام وقال أبو حنيفة: عليه للوطء الثاني شاة, سواء كفر عن الأول أو لم يكفر إلا أن يتكرر الوطء في مجلس واحد على وجه الرفض للإحرام لأنه وطء صادف إحراما ناقص الحرمة, فأوجب شاة كالوطء بعد التحلل الأول وقال مالك: لا يجب بالثاني شيء وروي ذلك عن عطاء لأنه لا يفسد الحج فلا يجب به شيء, كما لو كان قبل التكفير وقال الشافعي كقولنا وقريبا من قول أبي حنيفة ولنا, على وجوب البدنة إذا كفر أنه وطئ في إحرام ولم يتحلل منه, ولا أمكن تداخل كفارته في غيره فأشبه الوطء الأول ولأن الإحرام الفاسد كالصحيح في سائر الكفارات فكذلك في الوطء, ولأنه إذا لم يكفر عن الأول فتتداخل كفاراته كما يتداخل حكم المهر والحد, والتحديد بعدم التكفير أولى من التحديد بالمجلس الواحد لما ذكرنا من المهر والحد والتكفير في اليمين والظهار وغيرهما. مسألة:
قال: [ وإن وطئ دون الفرج فلم ينزل فعليه دم وإن أنزل فعليه بدنة, وقد فسد حجه ] أما إذا لم ينزل فإن حجه لا يفسد بذلك لا نعلم أحدا قال بفساد حجه لأنها مباشرة دون الفرج عريت عن الإنزال فلم يفسد بها الحج, كاللمس أو مباشرة لا توجب الاغتسال أشبهت اللمس, وعليه شاة وقال الحسن في من ضرب بيده على فرج جاريته: عليه بدنة وعن سعيد بن جبير: إذا نال منها ما دون الجماع ذبح بقرة ولنا أنها ملامسة من غير إنزال, فأشبهت لمس غير الفرج فأما إن أنزل فعليه بدنة وبذلك قال الحسن وسعيد بن جبير, والثوري وأبو ثور وقال الشافعي وأصحاب الرأي, وابن المنذر: عليه شاة لأنها مباشرة دون الفرج فأشبه ما لو لم ينزل ولنا أنه جماع أوجب الغسل, فأوجب بدنة كالوطء في الفرج وفي فساد حجه بذلك روايتان: إحداهما يفسد اختارها الخرقي, وأبو بكر وهو قول عطاء والحسن والقاسم بن محمد, ومالك وإسحاق لأنها عبادة يفسدها الوطء فأفسدها الإنزال عن مباشرة, كالصيام والثانية لا يفسد الحج وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر, وهي الصحيحة إن شاء الله لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلم يفسد الحج كما لو لم ينزل ولأنه لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معنى المنصوص عليه, لأن الوطء في الفرج يجب بنوعه الحد ويتعلق به اثنا عشر حكما ولا يفترق فيه الحال بين الإنزال وعدمه, والصيام يخالف الحج في المفسدات ولذلك يفسد بتكرار النظر مع الإنزال والمذي وسائر محظوراته والحج لا يفسد بشيء من محظوراته غير الجماع, فافترقا والمرأة كالرجل في هذا إذا كانت ذات شهوة وإلا فلا شيء عليها, كالرجل إذا لم يكن له شهوة. مسألة:
قال: [ فإن قبل فلم ينزل فعليه دم وإن أنزل فعليه بدنة, وعن أبي عبد الله -رحمه الله- رواية أخرى: إن أنزل فسد حجه ] وجملة ذلك أن حكم القبلة حكم المباشرة دون الفرج, سواء إلا أن الخرقي ذكر في هذه المسألة روايتين في إفساد الحج عند الإنزال ولم يذكر في إفساد الحج في الوطء دون الفرج إلا رواية واحدة, وقد ذكرنا أن فيها أيضا روايتين وذكرنا الخلاف فيه لكن نشير إلى الفرق توجيها لقول الخرقي فنقول: إنزال بغير وطء فلم يفسد به الحج, كالنظر ولأن اللذة بالوطء فوق اللذة بالقبلة فكانت فوقها في الواجب لأن مراتب أحكام الاستمتاع على وفق ما يحصل به من اللذة, فالوطء في الفرج أبلغ الاستمتاع فأفسد الحج مع الإنزال وعدمه والوطء دون الفرج دونه, فأوجب البدنة وأفسد الحج عند الإنزال والدم عند عدمه والقبلة دونهما, فتكون دونهما فيما يجب بها فيجب بها بدنة عند الإنزال من غير إفساد وتكرار النظر دون الجميع, فيجب به الدم عند الإنزال ولا يجب عند عدمه شيء ومن جمع بين الوطء دون الفرج والقبلة قال: كلاهما مباشرة, فاستوى حكمهما في الواجب بهما وقد روي عن ابن عباس أنه قال لرجل قبل زوجته: أفسدت حجتك وروي ذلك عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب وعطاء, وابن سيرين والزهري وقتادة, ومالك والثوري والشافعي, وأبو ثور وأصحاب الرأي: عليه دم وروي ذلك عن الشعبي وسعيد بن جبير وروى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث, أن عمر بن عبيد الله قبل عائشة بنت طلحة محرما فسأل فأجمع له على أن يهريق دما والظاهر أنه لم يكن أنزل لأنه لم يذكر وسواء أمذى أو لم يمذ وقال سعيد بن جبير: إن قبل فمذي أو لم يمذ, فعليه دم وسائر اللمس لشهوة كالقبلة فيما ذكرنا لأنه استمتاع يلتذ به فهو كالقبلة قال أحمد في من قبض على فرج امرأته, وهو محرم: فإنه يهريق دم شاة وقال عطاء: إذا قبل المحرم أو لمس فليهرق دما. مسألة:
قال: [ وإن نظر, فصرف بصره فأمنى فعليه دم, وإن كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة ] وجملة ذلك أن الحج لا يفسد بتكرار النظر, أنزل أو لم ينزل روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أبي حنيفة والشافعي وروي عن الحسن وعطاء, ومالك في من ردد النظر حتى أمنى: عليه حج قابل لأنه أنزل بفعل محظور أشبه الإنزال بالمباشرة ولنا, أنه إنزال عن غير مباشرة فأشبه الإنزال بالفكر والاحتلام والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع ثم إن المباشرة أبلغ في اللذة, وآكد في استدعاء الشهوة فلا يصح القياس عليه فأما إن نظر ولم يكرر فأمنى, فعليه شاة وإن كرره فأنزل ففيه روايتان إحداهما, عليه بدنة روي ذلك عن ابن عباس والثانية عليه شاة وهو قول سعيد بن جبير وإسحاق ورواية ثانية عن ابن عباس وقال أبو ثور: لا شيء عليه وحكي ذلك عن أبي حنيفة, والشافعي لأنه ليس بمباشرة أشبه الفكر ولنا أنه إنزال بفعل محظور, فأوجب الفدية كاللمس وقد روى الأثرم عن ابن عباس, أنه قال له رجل: فعل الله بهذه وفعل إنها تطيبت لي فكلمتني, وحدثتني حتى سبقتني الشهوة فقال ابن عباس: أتمم حجك وأهرق دما وروى حنبل في "المناسك", عن مجاهد أن محرما نظر إلى امرأته حتى أمذى فجعل يشتمها فقال ابن عباس: أهرق دما, ولا تشتمها. فصل:
فإن كرر النظر حتى أمذى: فقال أبو الخطاب: عليه دم وقال القاضي: ذكره الخرقي قال القاضي: لأنه جزء من المني ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس وإن لم يقترن بالنظر مني أو مذي, فلا شيء عليه سواء كرر النظر أو لم يكرره وقد روي عن أحمد في من جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد, أن عليه شاة وهذا محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يعرى عن اللمس ظاهرا, أو على أنه أمنى أو أمذى أما مجرد النظر, فلا شيء فيه فقد كان النبي -ﷺ- ينظر إلى نسائه وهو محرم وكذلك أصحابه. فصل:
فإن فكر فأنزل, فلا شيء عليه فإن الفكر يعرض للإنسان من غير إرادة ولا اختيار فلم يتعلق به حكم كما في الصيام, وقد قال النبي -ﷺ-: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به) متفق عليه. فصل:
والعمد والنسيان في الوطء سواء نص عليه أحمد فقال: إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده, والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده, والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده, فهذه الثلاثة العمد والنسيان فيها سواء ولم يذكر الخرقي النسيان ها هنا ولكن ذكره في الصيام وبين أن الوطء في الفرج أو دون الفرج مع الإنزال يستوي عمده وسهوه, وما عداه من القبلة واللمس والمذي بتكرار النظر يختلف حكم عمده وسهوه فهاهنا ينبغي أن يكون مثله لأن الوطء لا يكاد يتطرق النسيان إليه دون غيره ولأن الجماع مفسد للصوم دون غيره, فاستوى عمده وسهوه كالفوات بخلاف ما دونه والجاهل بالتحريم والمكره في حكم الناسي لأنه معذور وممن قال: إن عمد الوطء ونسيانه سواء أبو حنيفة, ومالك والشافعي في قديم قوليه وقال في الجديد: لا يفسد الحج ولا يجب عليه شيء مع النسيان والجهل لأنها عبادة يجب بإفسادها الكفارة, فافترق فيها وطء العامد والناسي كالصوم ولنا أنه سبب يتعلق به وجوب القضاء في الحج فاستوى عمده وسهوه, كالفوات والصوم ممنوع ثم إن الصوم لا تجب الكفارة فيه بالإفساد بدليل أن إفساده بكل ما عدا الجماع لا يوجب كفارة وإنما تجب بخصوص الجماع فافترقا. مسألة:
قال: [ وللمحرم أن يتجر, ويصنع الصنائع ويرتجع زوجته ] وعن أبي عبد الله -رحمه الله- , رواية أخرى في الارتجاع أن لا يفعل أما التجارة والصناعة فلا نعلم في إباحتهما اختلافا وقد روى ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية, فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} في مواسم الحج فأما الرجعة فالمشهور إباحتها وهو قول أكثر أهل العلم وفيه رواية ثانية, أنها لا تباح لأنها استباحة فرج مقصود بعقد فلا تباح للمحرم كالنكاح ووجه الرواية الصحيحة, أن الرجعية زوجة والرجعة إمساك بدليل قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق ولا نسلم أن الرجعة استباحة, فإن الرجعية مباحة وإن سلمنا أنها استباحة فتبطل بشرى الأمة للشراء, ولأن ما يتعلق به إباحة الزوجة مباح في النكاح كالتكفير في الظهار وأما شراء الإماء فمباح وسواء قصد به الشراء أو لم يقصد لا نعلم فيه خلافا, فإنه ليس بموضوع الاستباحة في البضع فأشبه شراء العبيد والبهائم ولذلك أبيح شراء من لا يحل وطؤها, فلذلك لم يحرم في حالة يحرم فيها الوطء. مسألة:
قال: [ وله أن يقتل الحدأة والغراب والفأرة, والعقرب والكلب العقور وكل ما عدا عليه, أو آذاه ولا فداء عليه ] هذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري والشافعي, وإسحاق وأصحاب الرأي وحكي عن النخعي أنه منع قتل الفأرة والحديث صريح في حل قتلها, فلا يعول على ما خالفه والمراد بالغراب الأبقع غراب البين وقال قوم: لا يباح من الغربان إلا الأبقع خاصة لأنه قد روي: (خمس فواسق يقتلن في الحرم: الحية والغراب الأبقع, والفأرة والكلب العقور والحدأة) رواه مسلم وهذا يقيد المطلق في الحديث الآخر, ولا يمكن حمله على العموم بدليل أن المباح من الغربان لا يحل قتله ولنا ما روت عائشة قالت: (أمر رسول الله -ﷺ- بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الحدأة والغراب, والفأرة والعقرب والكلب العقور) وعن ابن عمر, أن رسول الله -ﷺ- قال: (خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن) وذكر مثل حديث عائشة متفق عليه وفي لفظ لمسلم في حديث ابن عمر: (خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام) وهذا عام في الغراب, وهو أصح من الحديث الآخر ولأن غراب البين محرم الأكل يعدو على أموال الناس فلا وجه لإخراجه من العموم وفارق ما أبيح أكله, فإنه مباح ليس هو في معنى ما أبيح قتله فلا يلزم من تخصيصه تخصيص ما ليس في معناه وقول الخرقي: "وكل ما عدا عليه أو آذاه" يحتمل أنه أراد ما يبدأ المحرم فيعدو عليه في نفسه أو ماله, فهذا لا جناح على قاتله سواء كان من جنس طبعه الأذى أو لم يكن قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم, على أن السبع إذا بدأ المحرم فقتله لا شيء عليه ويحتمل أنه أراد ما كان طبعه الأذى والعدوان, وإن لم يوجد منه أذى في الحال قال مالك: الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فعلى هذا يباح قتل كل ما فيه أذى للناس في أنفسهم أو في أموالهم, مثل سباع البهائم كلها المحرم أكلها وجوارح الطير, كالبازي والعقاب والصقر, والشاهين ونحوها والحشرات المؤذية, والزنبور والبق والبعوض, والبراغيث والذباب وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي: يقتل ما جاء في الخبر والذئب, قياسا عليه ولنا أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه تنبيها على ما هو أعلى منها, ودلالة على ما كان في معناها فنصه على الحدأة والغراب تنبيه على البازي ونحوه وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات, وعلى العقرب تنبيه على الحية وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي هي أعلى منه ولأن ما لا يضمن بمثله, ولا بقيمته لا يضمن كالحشرات. فصل:
وما لا يؤذي بطبعه, ولا يؤكل كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للإحرام فيه, ولا جزاء فيه إن قتله وبهذا قال الشافعي وقال مالك: يحرم قتلها وإن قتلها فداها وكذلك كل سبع لا يعدو على الناس وإذا وطئ الذباب والنمل أو الذر, أو قتل الزنبور تصدق بشيء من الطعام ولنا أن الله تعالى إنما أوجب الجزاء في الصيد, وليس هذا بصيد قال بعض أهل اللغة: الصيد ما جمع ثلاثة أشياء فيكون مباحا وحشيا ممتنعا ولأنه لا مثل له ولا قيمة والضمان إنما يكون بأحد هذين الشيئين وروي عن عمر, أنه قرد بعيره بالسقيا وهو محرم ومعناه أنه نزع القراد عنه ورماه وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وروي أن ابن عباس قال لعكرمة وهو محرم: قرد البعير فكره ذلك فقال: قم فانحره فنحره فقال له ابن عباس: لا أم لك, كم قتلت فيها من قراد وحلمة وحمنانة؟ يعني كبار القراد رواه كله سعيد. فصل:
ولا تأثير للإحرام ولا للحرم في تحريم شيء من الحيوان الأهلي كبهيمة الأنعام ونحوها لأنه ليس بصيد وإنما حرم الله تعالى الصيد, وقد كان النبي -ﷺ- يذبح البدن في إحرامه في الحرم يتقرب إلى الله سبحانه بذلك وقال: (أفضل الحج العج والثج) يعني إسالة الدماء بالذبح والنحر وليس في هذا اختلاف. فصل:
ويحل للمحرم صيد البحر لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة} قال ابن عباس وابن عمر: طعامه ما ألقاه وعن ابن عباس: طعامه ملحه وعن سعيد بن المسيب, وسعيد بن جبير: طعامه الملح وصيده ما اصطدنا وأجمع أهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وأكله وبيعه وشراؤه وصيد البحر: الحيوان الذي يعيش في الماء ويبيض فيه, ويفرخ فيه كالسمك والسلحفاة والسرطان ونحو ذلك وحكي عن عطاء فيما يعيش في البر, مثل السلحفاة والسرطان فأشبه طير الماء ولنا أنه يبيض في الماء, ويفرخ فيه فأشبه السمك فأما طير الماء كالبط ونحوه, فهو من صيد البر في قول عامة أهل العلم وفيه الجزاء وحكي عن عطاء أنه قال: حيث يكون أكثر فهو صيده وقول عامة أهل العلم أولى لأنه يبيض في البر, ويفرخ فيه فكان من صيد البر كسائر طيره, وإنما إقامته في البحر لطلب الرزق والمعيشة منه كالصياد فإن كان جنس من الحيوان, نوع منه في البحر ونوع في البر كالسلحفاة فلكل نوع حكم نفسه, كالبقر منها الوحشي محرم والأهلي مباح. مسألة:
قال: [ وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم ] الأصل في تحريم صيد الحرم النص والإجماع أما النص, فما روى ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ- يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها, ولا تلتقط لقطتها إلا من عرفها فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر, فإنه لقينهم وبيوتهم فقال رسول الله: -ﷺ- إلا الإذخر) متفق عليه وأجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم. فصل:
وفيه الجزاء على من يقتله ويجزى بمثل ما يجزى به الصيد في الإحرام وحكي عن داود أنه لا جزاء فيه لأن الأصل براءة الذمة, ولم يرد فيه نص فيبقى بحاله ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم بشاة شاة روي ذلك عن عمر, وعثمان وابن عمر وابن عباس ولم ينقل عن غيرهم خلافهم, فيكون إجماعا ولأنه صيد ممنوع منه لحق الله تعالى أشبه الصيد في حق المحرم. فصل:
وما يحرم ويضمن في الإحرام يحرم ويضمن في الحرم وما لا فلا, إلا شيئين أحدهما القمل مختلف في قتله في الإحرام وهو مباح في الحرم بلا اختلاف لأنه حرم في الإحرام للترفه بقتله وإزالته, لا لحرمته ولا يحرم الترفه في الحل فأشبه ذلك قص الشعر وتقليم الظفر الثاني, صيد البحر مباح في الإحرام بغير خلاف ولا يحل صيده من آبار الحرم وعيونه وكرهه جابر بن عبد الله لعموم قوله عليه السلام: (لا ينفر صيدها) ولأن الحرمة تثبت للصيد كحرمة المكان, وهو شامل لكل صيد ولأنه صيد غير مؤذ فأشبه الظباء وعن أحمد, رواية أخرى: أنه مباح لأن الإحرام لا يحرمه فأشبه السباع والحيوان الأهلي. فصل:
ويضمن صيد الحرم في حق المسلم والكافر والكبير والصغير, والحر والعبد لأن الحرمة تعلقت بمحله بالنسبة إلى الجميع فوجب ضمانه كالآدمي. فصل:
ومن ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم, لزمه رفع يده عنه وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه, فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم وقال عطاء: إن ذبحه فعليه الجزاء وروي ذلك عن ابن عمر وممن كره إدخال الصيد الحرم, ابن عمر وابن عباس وعائشة, وعطاء وطاوس وإسحاق, وأصحاب الرأي ورخص فيه جابر بن عبد الله ورويت عنه الكراهة له أخرجه سعيد وقال هشام بن عروة: كان ابن الزبير تسع سنين يراها في الأقفاص وأصحاب النبي -ﷺ- لا يرون به بأسا ورخص فيه سعيد بن جبير, ومجاهد ومالك والشافعي, وأبو ثور وابن المنذر لأنه ملكه خارجا وحل له التصرف فيه, فجاز له ذلك في الحرم كصيد المدينة إذا أدخله حرمها ولنا أن الحرم سبب محرم للصيد, ويوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالإحرام ولأنه صيد ذبحه في الحرم فلزمه جزاؤه, كما لو صاده منه وصيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد الحرم. فصل:
ويضمن صيد الحرم بالدلالة والإشارة, كصيد الإحرام والواجب عليهما جزاء واحد نص عليه أحمد وظاهر كلامه أنه لا فرق بين كون الدال في الحل أو الحرم وقال القاضي: لا جزاء على الدال إذا كان في الحل والجزاء على المدلول وحده, كالحلال إذا دل محرما على صيده ولنا أن قتل الصيد الحرمي حرام على الدال فيضمنه بالدلالة, كما لو كان في الحرم يحققه أن صيد الحرم محرم على كل أحد لقوله عليه السلام: (لا ينفر صيدها) وفي لفظ: (لا يصاد صيدها) وهذا عام في حق كل واحد ولأن صيد الحرم معصوم بمحله, فحرم قتله عليهما كالملتجئ إلى الحرم وإذا ثبت تحريمه عليهما فيضمن بالدلالة ممن يحرم عليه قتله كما يضمن بدلالة المحرم عليه. فصل:
وإذا رمى الحلال من الحل صيدا في الحرم فقتله, أو أرسل كلبه عليه فقتله أو قتل صيدا على فرع في الحرم أصله في الحل, ضمنه وبهذا قال الثوري والشافعي وأبو ثور, وابن المنذر وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى, لا جزاء عليه في جميع ذلك لأن القاتل حلال في الحل وهذا لا يصح فإن النبي -ﷺ- قال: (لا ينفر صيدها) ولم يفرق بين من هو في الحل والحرم وقد أجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم وهذا من صيده, ولأن صيد الحرم معصوم بمحله بحرمة الحرم فلا يختص تحريمه بمن في الحرم وكذلك الحكم إن أمسك طائرا في الحل, فهلك فراخه في الحرم ضمن الفراخ لما ذكرنا ولا يضمن الأم لأنها من صيد الحل, وهو حلال وإن انعكست الحال فرمى من الحرم صيدا في الحل أو أرسل كلبه عليه, أو قتل صيدا على غصن في الحل أصله في الحرم أو أمسك حمامة في الحرم فهلك فراخها في الحل, فلا ضمان عليه كما في الحل قال أحمد في من أرسل كلبه في الحرم, فصاد في الحل: فلا شيء عليه وحكي عنه رواية أخرى في جميع الصور: يضمن وعن الشافعي ما يدل عليه وذهب الثوري, والشافعي وأبو ثور وابن المنذر في من قتل طائرا على غصن في الحل, أصله في الحرم: لا جزاء عليه وهو ظاهر قول أصحاب الرأي وقال ابن الماجشون وإسحاق: عليه الجزاء لأن الغصن تابع للأصل وهو في الحرم ولنا, أن الأصل حل الصيد فحرم صيد الحرم بقوله عليه السلام: (لا ينفر صيدها) وبالإجماع فبقي ما عداه على الأصل, ولأنه صيد حل صاده حلال فلم يحرم كما لو كانا في الحل, ولأن الجزاء إنما يجب في صيد الحرم أو صيد المحرم وليس هذا بواحد منهما. فصل:
فإن كان الصيد والصائد في الحل, فرمى الصيد بسهمه أو أرسل عليه كلبه فدخل الحرم, ثم خرج فقتل الصيد في الحل فلا جزاء فيه وبها قال أصحاب الرأي وأبو ثور, وابن المنذر وحكى أبو ثور عن الشافعي أن عليه الجزاء ولنا ما ذكرناه قال القاضي: لا يزيد سهمه على نفسه, ولو عدا بنفسه فسلك الحرم في طريقه ثم قتل صيدا في الحل, لم يكن عليه شيء فسهمه أولى. فصل:
وإن رمى من الحل صيدا في الحل فقتل صيدا في الحرم, فعليه جزاؤه وبهذا قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وقال أبو ثور: لا جزاء عليه وليس بصحيح لأنه قتل صيدا حرميا, فلزمه جزاؤه كما لو رمى حجرا في الحرم فقتل صيدا يحققه أن الخطأ كالعمد في وجوب الجزاء, وهذا لا يخرج عن كونه واحدا منهما فأما إن أرسل كلبه على صيد في الحل فدخل الكلب الحرم فقتل صيدا آخر, لم يضمنه وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي, وأبي ثور وابن المنذر لأنه لم يرسل الكلب على ذلك الصيد وإنما دخل باختيار نفسه, فهو كما لو استرسل بنفسه من غير إرسال وإن أرسله على صيد فدخل الصيد الحرم ودخل الكلب خلفه, فقتله في الحرم فكذلك نص عليه أحمد وهو قول الشافعي, وأبي ثور وابن المنذر وقال عطاء وأبو حنيفة, وصاحباه: عليه الجزاء لأنه قتل صيدا حرميا بإرسال كلبه عليه فضمنه, كما لو قتله بسهمه واختاره أبو بكر عبد العزيز وحكى صالح عن أحمد أنه قال: إن كان الصيد قريبا من الحرم, ضمنه لأنه فرط بإرساله في موضع يظهر أنه يدخل الحرم وإن كان بعيدا لم يضمن لعدم التفريط وهذا قول مالك ولنا, أنه أرسل الكلب على صيد مباح فلم يضمن كما لو قتل صيدا سواه وفارق السهم لأن الكلب له قصد واختيار, ولهذا يسترسل بنفسه ويرسله إلى جهة فيمضي إلى غيرها والسهم بخلافه إذا ثبت هذا فإنه لا يأكل الصيد في هذه المواضع كلها, ضمنه أو لم يضمنه لأنه صيد حرمي قتل في الحرم فحرم, كما لو ضمنه ولأننا إذا قطعنا فعل الآدمي صار كأن الكلب استرسل بنفسه, فقتله ولكن لو رمى الحلال من الحل صيدا في الحل فجرحه وتحامل الصيد فدخل الحرم, فمات فيه حل أكله ولا جزاء فيه لأن الذكاة حصلت في الحل, فأشبه ما لو جرح صيدا ثم أحرم فمات الصيد بعد إحرامه ويكره أكله لموته في الحرم. فصل:
وإن وقف صيد, بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فقتله قاتل, ضمنه تغليبا للحرم وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وإن نفر صيدا من الحرم فأصابه شيء في حال نفوره, ضمنه لأنه تسبب إلى إتلافه فأشبه ما لو تلف بشركه أو شبكته وإن سكن من نفوره ثم أصابه شيء, فلا شيء على من نفره نص عليه أحمد وهو قول الثوري لأنه لم يكن سببا لإتلافه وقد روي عن عمر أنه وقعت على ردائه حمامة, فأطارها فوقعت على واقف فانتهزتها حية فاستشار في ذلك عثمان ونافع بن عبد الحارث فحكما عليه بشاة وهذا يدل على أنهم رأوا عليه الضمان بعد سكوته لكن لو انتقل عن المكان الثاني, فأصابه شيء فلا ضمان عليه لأنه خرج عن المكان الذي طرد إليه وقول الثوري وأحمد إنما يدل على هذا لأن سفيان قال: إذا طردت في الحرم شيئا, فأصاب شيئا قبل أن يقع أو حين وقع ضمنت, وإن وقع من ذلك المكان إلى مكان آخر فليس عليك شيء فقال أحمد: جيد. مسألة:
قال: [ وكذلك شجره ونباته إلا الإذخر, وما زرعه الإنسان ] أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم وإباحة أخذ الإذخر وما أنبته الآدمي من البقول والزروع والرياحين حكى ذلك ابن المنذر, والأصل فيه ما روينا من حديث ابن عباس وروى أبو شريح وأبو هريرة نحوا من حديث ابن عباس وكلها متفق عليها وفي حديث أبي هريرة: (ألا وإنها ساعتي هذه حرام, لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها) وفي حديث أبي شريح أنه سمع رسول الله -ﷺ- يوم الفتح, قال: (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما, ولا يعضد بها شجرة) وروى الأثرم حديث أبي هريرة في "سننه" وفيه: (لا يعضد شجرها, ولا يحتش حشيشها ولا يصاد صيدها) فأما ما أنبته الآدمي من الشجر فقال أبو الخطاب, وابن عقيل: له قلعه من غير ضمان كالزرع وقال القاضي: ما نبت في الحل ثم غرس في الحرم, فلا جزاء فيه وما نبت أصله في الحرم ففيه الجزاء بكل حال وقال الشافعي: في شجر الحرم الجزاء بكل حال أنبته الآدميون, أو نبت بنفسه لعموم قوله عليه السلام: (لا يعضد شجرها) ولأنها شجرة نابتة في الحرم أشبه ما لم ينبته الآدميون وقال أبو حنيفة: لا جزاء فيما ينبت الآدميون جنسه كالجوز واللوز والنخل ونحوه, ولا يجب فيما ينبته الآدمي من غيره كالدوح والسلم والعضاه لأن الحرم يختص تحريمه ما كان وحشيا من الصيد كذلك الشجر وقول الخرقي: "وما زرعه الإنسان" يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر, فيكون كقول الشافعي ويحتمل أن يعم جميع ما يزرع فيدخل فيه الشجر ويحتمل أن يريد ما ينبت الآدميون جنسه والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله, بقوله عليه السلام: (لا يعضد شجرها) إلا ما أنبته الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان, فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحشي كذا ها هنا. فصل:
ويحرم قطع الشوك, والعوسج وقال القاضي وأبو الخطاب: لا يحرم وروي ذلك عن عطاء ومجاهد, وعمرو بن دينار والشافعي لأنه يؤذي بطبعه فأشبه السباع من الحيوان ولنا, قول النبي -ﷺ-: (لا يعضد شجرها) وفي حديث أبي هريرة: (لا يختلى شوكها) وهذا صريح ولأن الغالب في شجر الحرم الشوك فلما حرم النبي -ﷺ- قطع شجرها والشوك غالبه, كان ظاهرا في تحريمه. فصل:
ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه بمنزلة الميت ولا بقطع ما انكسر ولم يبن لأنه قد تلف فهو بمنزلة الظفر المنكسر ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي ولا ما سقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا لأن الخبر إنما ورد في القطع, وهذا لم يقطع فأما إن قطعه آدمي فقال أحمد: لم أسمع إذا قطع ينتفع به وقال في الدوحة تقلع: من شبهه بالصيد, لم ينتفع بحطبها وذلك لأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه لم ينتفع به, كالصيد يذبحه المحرم ويحتمل أن يباح لغير القاطع الانتفاع به لأنه انقطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به كما لو قطعه حيوان بهيمي, ويفارق الصيد الذي ذبحه لأن الذكاة تعتبر لها الأهلية ولهذا لا يحصل بفعل بهيمة, بخلاف هذا. فصل:
وليس له أخذ ورق الشجر وقال الشافعي: له أخذه لأنه لا يضر به وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنى يستمشي به ولا ينزع من أصله ورخص فيه عمرو بن دينار ولنا, أن النبي -ﷺ- قال: (لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها) رواه مسلم ولأن ما حرم أخذه حرم كل شيء منه كريش الطائر وقولهم: لا يضر به لا يصح فإنه يضعفها, وربما آل إلى تلفها. فصل:
ويحرم قطع حشيش الحرم إلا ما استثناه الشرع من الإذخر وما أنبته الآدميون, واليابس لقوله عليه السلام: (لا يختلى خلاها) وفي لفظ: (لا يحتش حشيشها) وفي استثناء النبي -ﷺ- الإذخر دليل على تحريم ما عداه وفي جواز رعيه وجهان أحدهما لا يجوز, وهو مذهب أبي حنيفة لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد والثاني, يجوز وهو مذهب عطاء والشافعي لأن الهدايا كانت تدخل الحرم فتكثر فيه, فلم ينقل أنه كانت تسد أفواهها ولأن بهم حاجة إلى ذلك أشبه قطع الإذخر. فصل:
ويباح أخذ الكمأة من الحرم, وكذلك الفقع لأنه لا أصل له فأشبه الثمرة وروى حنبل قال: يؤكل من شجر الحرم الضغابيس, والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس. فصل:
ويجب في إتلاف الشجر والحشيش الضمان . وبه قال الشافعي ، وأصحاب الرأي . وروي ذلك عن ابن عباس ، وعطاء . وقال مالك ، وأبو ثور ، وداود ، وابن المنذر : لا يضمن ؛ لأن المحرم لا يضمنه في الحل ، فلا يضمن في الحرم ، كالزرع . وقال ابن المنذر : لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم ، فرضا من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، وأقول كما قال مالك : نستغفر الله تعالى ، ولنا ، ما روى أبو هشيمة ، قال : رأيت عمر بن الخطاب ، أمر بشجر كان في المسجد يضر بأهل الطواف ، فقطع ، وفدى . قال : وذكر البقرة . رواه حنبل في "المناسك". وعن ابن عباس ، أنه قال : في الدوحة بقرة ، وفي الجزلة شاة . والدوحة : الشجرة العظيمة . والجزلة : الصغيرة . وعن عطاء نحوه . ولأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم ، فكان مضمونا كالصيد ، ويخالف المحرم ، فإنه لا يمتنع من قطع شجر الحل ، ولا زرع الحرم . إذا ثبت هذا ، فإنه يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة ، والصغيرة بشاة ، والحشيش بقيمته ، والغصن بما نقص . وبهذا قال الشافعي . وقال أصحاب الرأي : يضمن الكل بقيمته ؛ لأنه لا مقدر فيه ، فأشبه الحشيش . ولنا ، قول ابن عباس وعطاء ولأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه ، فكان فيه ما يضمن بمقدر كالصيد . فإن قطع غصنا أو حشيشا ، فاستخلف ، احتمل سقوط ضمانه ، كما إذا جرح صيدا فاندمل ، أو قطع شعر آدمي فنبت ، واحتمل أن يضمنه ؛ لأن الثاني غير الأول . فصل:
من قلع شجرة من الحرم, فغرسها في مكان آخر فيبست ضمنها لأنه أتلفها وإن غرسها في مكان من الحرم, فنبتت لم يضمنها لأنه لم يتلفها ولم يزل حرمتها وإن غرسها في الحل, فنبتت فعليه ردها إليه لأنه أزال حرمتها فإن تعذر ردها أو ردها فيبست, ضمنها وإن قلعها غيره من الحل فقال القاضي: الضمان على الثاني لأنه المتلف لها فإن قيل: فلم لا يجب على المخرج كالصيد إذا نفره من الحرم, فقتله إنسان في الحل فإن الضمان على المنفر؟ قلنا: الشجر لا ينتقل بنفسه ولا تزول حرمته بإخراجه, ولهذا وجب على قالعه رده والصيد يكون في الحرم تارة وفي الحل أخرى فمن نفره فقد فوت حرمته, فلزمه جزاؤه وهذا لم يفوت حرمته بالإخراج فكان الجزاء على متلفه, لأنه أتلف شجرا حرميا محرما إتلافه. فصل:
وإذا كانت شجرة في الحرم وغصنها في الحل فعلى قاطعه الضمان لأنه تابع لأصله وإن كانت في الحل, وغصنها في الحرم فقطعه ففيه وجهان: أحدهما: لا ضمان فيه وهو قول القاضي أبي يعلى لأنه تابع لأصله, كالتي قبلها والثاني يضمنه اختاره ابن أبي موسى لأنه في الحرم فإن كان بعض الأصل في الحل وبعضه في الحرم ضمن الغصن بكل حال, سواء كان في الحل أو في الحرم تغليبا لحرمة الحرم كما لو وقف صيد بعض قوائمه في الحل, وبعضها في الحرم. فصل:
ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: لا يحرم لأنه لو كان محرما لبينه النبي -ﷺ- بيانا عاما ولوجب فيه الجزاء, كصيد الحرم ولنا ما روى علي رضي الله عنه أن النبي -ﷺ- قال: (المدينة حرم ما بين ثور إلى عير) متفق عليه وروى تحريم المدينة أبو هريرة, ورافع وعبد الله بن زيد متفق على أحاديثهم ورواه مسلم عن سعد, وجابر وأنس وهذا يدل على تعميم البيان, وليس هو في الدرجة دون أخبار تحريم الحرم وقد قبلوه وأثبتوا أحكامه على أنه ليس بممتنع أن يبينه بيانا خاصا, أو يبينه بيانا عاما فينقل نقلا خاصا كصفة الأذان والوتر والإقامة. فصل:
وحرم المدينة ما بين لابتيها لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ما بين لابتيها حرام وكان أبو هريرة يقول: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها) متفق عليه واللابة: الحرة, وهي أرض فيها حجارة سود قال أحمد: ما بين لابتيها حرام بريد في بريد كذا فسره مالك بن أنس وروى أبو هريرة (أن رسول الله -ﷺ- جعل حول المدينة اثنا عشر ميلا حمى) رواه مسلم فأما قوله: (ما بين ثور إلى عير) فقال أهل العلم بالمدينة: لا نعرف بها ثورا ولا عيرا وإنما هما جبلان بمكة فيحتمل أن النبي -ﷺ- أراد قدر ما بين ثور وعير, ويحتمل أنه أراد جبلين بالمدينة وسماهما ثورا وعيرا تجوزا. فصل:
فمن فعل مما حرم عليه شيئا, ففيه روايتان: إحداهما: لا جزاء فيه وهذا قول أكثر أهل العلم وهو قول مالك والشافعي في الجديد لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام, فلم يجب فيه جزاء كصيد وج. والثانية: يجب فيه الجزاء وروي ذلك عن ابن أبي ذئب وهو قول الشافعي في القديم, وابن المنذر لأن رسول الله -ﷺ- قال: (إني أحرم المدينة مثلما حرم إبراهيم مكة) ونهى أن يعضد شجرها ويؤخذ طيرها, فوجب في هذا الحرم الجزاء كما وجب في ذلك إذ لم يظهر بينهما فرق, وجزاؤه إباحة سلب القاتل لمن أخذه لما روى مسلم بإسناده عن عامر بن سعد أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق, فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه, فلما رجع سعد جاء أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم, فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله -ﷺ- وأبي أن يرد عليهم وعن سعد أن رسول الله -ﷺ- قال: (من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه) رواه أبو داود فعلى هذا يباح لمن وجد آخذ الصيد أو قاتله, أو قاطع الشجر سلبه وهو أخذ ثيابه حتى سراويله فإن كان على دابة لم يملك أخذها لأن الدابة ليست من السلب وإنما أخذها قاتل الكافر في الجهاد لأنه يستعان بها على الحرب, بخلاف مسألتنا وإن لم يسلبه أحد فلا شيء عليه سوى الاستغفار والتوبة. فصل:
ويفارق حرم المدينة حرم مكة في شيئين: أحدهما, أنه يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف لما روى الإمام أحمد, عن جابر بن عبد الله (أن النبي -ﷺ- لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله إنا أصحاب عمل, وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخص لنا, فقال: القائمتان والوسادة والعارضة, والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء) قال إسماعيل بن أبي أويس, قال خارجة: المسند مرود البكرة فاستثنى ذلك وجعله مباحا كاستثناء الإذخر بمكة وعن علي, عن النبي -ﷺ- قال: (المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور لا يختلى خلاها, ولا ينفر صيدها ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره) وعن جابر, أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله -ﷺ- ولكن يهش هشا رفيقا) رواهما أبو داود ولأن المدينة يقرب منها شجر وزرع فلو منعنا من احتشاشها مع الحاجة, أفضى إلى الضرر بخلاف مكة الثاني, أن من صاد صيدا خارج المدينة ثم أدخله إليها لم يلزمه إرساله نص عليه أحمد لأن النبي -ﷺ- كان يقول: (يا أبا عمير, ما فعل النغير؟) وهو طائر صغير فظاهر هذا أنه أباح إمساكه بالمدينة إذ لم ينكر ذلك وحرمة مكة أعظم من حرمة المدينة, بدليل أنه لا يدخلها إلا محرم. فصل:
صيد وج وشجره مباح وهو واد بالطائف وقال أصحاب الشافعي: هو محرم لأن النبي -ﷺ- قال: (صيد وج وعضاهها محرم) رواه أحمد في "المسند" ولنا أن الأصل الإباحة, والحديث ضعيف ضعفه أحمد ذكره أبو بكر الخلال في كتاب "العلل". مسألة:
قال: [ وإن حصر بعدو, نحر ما معه من الهدي وحل ] أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدو من المشركين أو غيرهم, فمنعوه الوصول إلى البيت ولم يجد طريقا آمنا فله التحلل وقد نص الله تعالى عليه بقوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وثبت أن النبي -ﷺ- أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا, ويحلقوا ويحلوا وسواء كان الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما, في قول إمامنا وأبي حنيفة والشافعي وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل لأنه لا يخاف الفوات وليس بصحيح لأن الآية إنما نزلت في حصر الحديبية, وكان النبي -ﷺ- وأصحابه محرمين بعمرة فحلوا جميعا وعلى من تحلل بالإحصار الهدي في قول أكثر أهل العلم, وحكي عن مالك ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه وليس بصحيح لأن الله تعالى قال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية ولأنه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه, فكان عليه الهدي كالذي فاته الحج وبهذا فارق من أتم حجه. فصل:
ولا فرق بين الحصر العام في حق الحاج كله, وبين الخاص في حق شخص واحد مثل أن يحبس بغير حق أو أخذته اللصوص وحده لعموم النص, ووجود المعنى في الكل فأما من حبس بحق عليه يمكنه الخروج منه لم يكن له التحلل لأنه لا عذر له في الحبس وإن كان معسرا به عاجزا عن أدائه, فحبسه بغير حق فله التحلل كمن ذكرنا وإن كان عليه دين مؤجل, يحل قبل قدوم الحاج فمنعه صاحبه من الحج فله التحلل أيضا لأنه معذور ولو أحرم العبد بغير إذن سيده أو المرأة للتطوع بغير إذن زوجها, فلهما منعها وحكمهما حكم المحصر. فصل:
إن أمكن المحصر الوصول من طريق أخرى لم يبح له التحلل, ولزمه سلوكها بعدت أو قربت خشي الفوات أو لم يخشه, فإن كان محرما بعمرة لم يفت وإن كان بحج ففاته تحلل بعمرة وكذا لو لم يتحلل المحصر حتى خلي عنه, لزمه السعي وإن كان بعد فوات الحج ليتحلل بعمرة, ثم هل يلزمه القضاء إن فاته الحج؟ فيه روايتان: إحداهما يلزمه كمن فاته بخطأ الطريق والثانية, لا يجب لأن سبب الفوات الحصر أشبه من لم يجد طريقا أخرى بخلاف المخطئ. فصل:
فأما من لم يجد طريقا أخرى, فتحلل فلا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا يفعله بالوجوب السابق, في الصحيح من المذهب وبه قال مالك والشافعي وعن أحمد, أن عليه القضاء روي ذلك عن مجاهد وعكرمة والشعبي وبه قال أبو حنيفة لأن النبي -ﷺ- لما تحلل زمن الحديبية, قضى من قابل وسميت عمرة القضية ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه, فلزمه القضاء كما لو فاته الحج ووجه الأولى أنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له, فلم يجب قضاؤه كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب فلم يكن, فأما الخبر فإن الذين صدوا كانوا ألفا وأربعمائة والذين اعتمروا مع النبي -ﷺ- كانوا نفرا يسيرا, ولم ينقل إلينا أن النبي -ﷺ- أمر أحدا بالقضاء وأما تسميتها عمرة القضية فإنما يعني بها القضية التي اصطلحوا عليها, واتفقوا عليها ولو أرادوا غير ذلك لقالوا: عمرة القضاء ويفارق الفوات فإنه مفرط, بخلاف مسألتنا. فصل:
وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه, ويجزئه أدنى الهدي وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي} وله نحره في موضع حصره, من حل أو حرم نص عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي إلا أن يكون قادرا على أطراف الحرم, ففيه وجهان: أحدهما يلزمه نحره فيه لأن الحرم كله منحر وقد قدر عليه والثاني, ينحره في موضعه لأن النبي -ﷺ- نحر هديه في موضعه وعن أحمد: ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه ويواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه وهذا يروى عن ابن مسعود, في من لدغ في الطريق وروي نحو ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي, وعطاء وهذا والله أعلم في من كان حصره خاصا, وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل لتعذر وصول الهدي إلى محله ولأن النبي -ﷺ- وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية, وهي من الحل قال البخاري: قال مالك وغيره: إن النبي -ﷺ- وأصحابه حلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف, وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي -ﷺ- أمر أحدا أن يقضي شيئا ولا أن يعودوا له وروي أن النبي -ﷺ- نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان وهي من الحل باتفاق أهل السيرة والنقل قال الله تعالى: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} ولأنه موضع حله فكان موضع نحره, كالحرم وسائر الهدايا يجوز للمحصر نحرها في موضع تحلله فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} وقال: {ثم محلها إلى البيت العتيق} ولأنه ذبح يتعلق بالإحرام فلم يجز في غير الحرم, كدم الطيب واللباس قلنا: الآية في حق غير المحصر ولا يمكن قياس المحصر عليه لأن تحلل المحصر في الحل وتحلل غيره في الحرم, فكل منهما ينحر في موضع تحلله وقيل في قوله: {حتى يبلغ الهدي محله} أي حتى يذبح وذبحه في حق المحصر في موضع حله اقتداء بالنبي -ﷺ-. فصل:
ومتى كان المحصر محرما بعمرة, فله التحلل ونحر هديه وقت حصره لأن النبي -ﷺ- وأصحابه زمن الحديبية حلوا ونحروا هداياهم بها قبل يوم النحر وإن كان مفردا أو قارنا فكذلك في إحدى الروايتين لأن الحج أحد النسكين, فجاز الحل منه ونحر هديه وقت حصره كالعمرة ولأن العمرة لا تفوت, وجميع الزمان وقت لها فإذا جاز الحل منها ونحر هديها من غير خشية فواتها فالحج الذي يخشى فواته أولى والرواية الثانية, لا يحل ولا ينحر هديه إلى يوم النحر نص عليه في رواية الأثرم وحنبل لأن للهدي محل زمان ومحل مكان فإن عجز محل المكان فسقط, بقي محل الزمان واجبا لإمكانه وإذا لم يجز له نحر الهدي قبل يوم النحر لم يجز التحلل لقوله سبحانه: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} وإذا قلنا بجواز التحلل قبل يوم النحر, فالمستحب له مع ذلك الإقامة مع إحرامه رجاء زوال الحصر فمتى زال قبل تحلله, فعليه المضي لإتمام نسكه بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر: قال كل من أحفظ عنه من أهل العلم: إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل, فلم يفعل حتى خلي سبيله إن عليه أن يقضي مناسكه وإن زال الحصر بعد فوات الحج, تحلل بعمل عمرة فإن فات الحج قبل زوال الحصر تحلل بهدي وقيل: عليه ها هنا هديان هدي للفوات, وهدي للإحصار ولم يذكر أحمد في رواية الأثرم هديا ثانيا في حق من لا يتحلل إلى يوم النحر. فصل:
فإن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة, فله التحلل لأن الحصر يفيده التحلل من جميعه فأفاد التحلل من بعضه وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحج كالرمي, وطواف الوداع والمبيت بمزدلفة أو بمنى في لياليها فليس له التحلل لأن صحة الحج لا تقف على ذلك, ويكون عليه دم لتركه ذلك وحجه صحيح كما لو تركه من غير حصر وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة, فليس له أن يتحلل أيضا لأن إحرامه إنما هو عن النساء والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام الذي يحرم جميع محظوراته, فلا يثبت بما ليس مثله ومتى زال الحصر أتى بالطواف وقد تم حجه. فصل:
فأما من يتمكن من البيت ويصد عن عرفة, فله أن يفسخ نية الحج ويجعله عمرة ولا هدي عليه لأننا أبحنا له ذلك من غير حصر, فمع الحصر أولى فإن كان قد طاف وسعى للقدوم ثم أحصر أو مرض حتى فاته الحج, تحلل بطواف وسعى آخر لأن الأول لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها وليس عليه أن يجدد إحراما وبهذا قال الشافعي, وأبو ثور وقال الزهري: لا بد أن يقف بعرفة وقال محمد بن الحسن: لا يكون محصرا بمكة وروي ذلك عن أحمد فإن فاته الحج فحكمه حكم من فاته بغير حصر وقال مالك: يخرج إلى الحل ويفعل ما يفعل المعتمر, فإن أحب أن يستنيب من يتمم عنه أفعال الحج جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه, ولا يجوز في حج الفرض إلا إن يئس من القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج كله. فصل:
وإذا تحلل المحصر من الحج, فزال الحصر وأمكنه الحج لزمه ذلك إن كانت حجة الإسلام أو قلنا بوجوب القضاء, أو كانت الحجة واجبة في الجملة لأن الحج يجب على الفور وإن لم تكن الحجة واجبة ولا قلنا بوجوب القضاء فلا شيء عليه, كمن لم يحرم فصل:
وإن أحصر في حج فاسد فله التحلل لأنه إذا أبيح له التحلل في الحج الصحيح فالفاسد أولى فإن حل, ثم زال الحصر وفي الوقت سعة فله أن يقضي في ذلك العام وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد الحج فيه في غير هذه المسألة. مسألة:
قال: [ فإن لم يكن معه هدي ولا يقدر عليه, صام عشرة أيام ثم حل ] وجملة ذلك أن المحصر إذا عجز عن الهدي, انتقل إلى صوم عشرة أيام ثم حل وبهذا قال الشافعي في أحد قوليه وقال مالك, وأبو حنيفة: ليس له بدل لأنه لم يذكر في القرآن ولنا أنه دم واجب للإحرام فكان له بدل, كدم التمتع والطيب واللباس وترك النص عليه لا يمنع قياسه على غيره في ذلك ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام, كبدل هدي التمتع وليس له أن يتحلل إلا بعد الصيام كما لا يتحلل واجد الهدي إلا بنحره وهل يلزمه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي أو الصيام؟ ظاهر كلام الخرقي, أنه لا يلزمه لأنه لم يذكره وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى ذكر الهدي وحده ولم يشرط سواه والثانية عليه الحلق أو التقصير لأن النبي -ﷺ- حلق يوم الحديبية, وفعله في النسك دل على الوجوب ولعل هذا ينبني على أن الحلاق نسك أو إطلاق من محظور على ما يذكر في موضعه إن شاء الله. فصل:
ولا يتحلل إلا بالنية, مع ما ذكرنا فيحصل الحل بشيئين النحر أو الصوم والنية, إن قلنا الحلاق ليس بنسك وإن قلنا: هو نسك حصل بثلاثة أشياء الحلاق مع ما ذكرنا فإن قيل: فلم اعتبرتم النية ها هنا وهي في غير المحصر غير معتبرة؟ قلنا: لأن من أتى بأفعال النسك فقد أتى بما عليه, فيحل منها بإكمالها فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصور, فإنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها فافتقر إلى قصده ولأن الذبح قد يكون لغير الحل, فلم يتخصص إلا بقصده بخلاف الرمي فإنه لا يكون إلا للنسك, فلم يحتج إلى قصده. فصل:
فإن نوى التحلل قبل الهدي أو الصيام لم يتحلل وكان على إحرامه حتى ينحر الهدي أو يصوم لأنهما أقيما مقام أفعال الحج, فلم يحل قبلهما كما لا يتحلل القادر على أفعال الحج قبلها وليس عليه في نية الحل فدية لأنها لم تؤثر في العبادة فإن فعل شيئا من محظورات الإحرام قبل ذلك, فعليه فديته كما لو فعل القادر ذلك قبل أفعال الحج. فصل:
وإذا كان العدو الذي حصر الحاج مسلمين فأمكن الانصراف, كان أولى من قتالهم لأن في قتالهم مخاطرة بالنفس والمال وقتل مسلم فكان تركه أولى ويجوز قتالهم لأنهم تعدوا على المسلمين بمنعهم طريقهم فأشبهوا سائر قطاع الطريق وإن كانوا مشركين, لم يجب قتالهم لأنه إنما يجب بأحد أمرين إذا بدءوا بالقتال أو وقع النفير فاحتيج إلى مدد وليس ها هنا واحد منهما لكن إن غلب على ظن المسلمين الظفر بهم استحب قتالهم, لما فيه من الجهاد وحصول النصر وإتمام النسك وإن غلب على ظنهم ظفر الكفار, فالأولى الانصراف لئلا يغرروا بالمسلمين ومتى احتاجوا في القتال إلى لبس ما تجب فيه الفدية كالدرع والمغفر فعلوا وعليهم الفدية لأن لبسهم لأجل أنفسهم, فأشبه ما لو لبسوا للاستدفاء من دفع برد. فصل:
فإن أذن لهم العدو في العبور فلم يثقوا بهم فلهم الانصراف لأنهم خائفون على أنفسهم, فكأنهم لم يأمنوهم وإن وثقوا بأمانهم وكانوا معروفين بالوفاء, لزمهم المضي على إحرامهم لأنه قد زال حصرهم وإن طلب العدو خفارة على تخلية الطريق وكان ممن لا يوثق بأمانه, لم يلزمهم بذله لأن الخوف باق مع البذل وإن كان موثوقا بأمانه والخفارة كثيرة لم يجب بذله, بل يكره إن كان العدو كافرا لأن فيه صغارا وتقوية للكفار وإن كانت يسيرة فقياس المذهب وجوب بذله, كالزيادة في ثمن الماء للوضوء وقال بعض أصحابنا: لا يجب بذل خفارة بحال وله التحلل كما أنه في ابتداء الحج لا يلزمه إذا لم يجد طريقا آمنا من غير خفارة. مسألة:
قال: [ وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض, أو ذهاب نفقة بعث بهدي إن كان معه, ليذبحه بمكة وكان على إحرامه حتى يقدر على البيت ] المشهور في المذهب أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت بغير حصر العدو من مرض, أو عرج أو ذهاب نفقة ونحوه, أنه لا يجوز له التحلل بذلك روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ومروان وبه قال مالك, والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية أخرى: له التحلل بذلك روي نحوه عن ابن مسعود, وهو قول عطاء والنخعي والثوري, وأصحاب الرأي وأبي ثور لأن النبي -ﷺ- قال: (من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى) رواه النسائي ولأنه محصر يدخل في عموم قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} يحققه أن لفظ الإحصار إنما هو للمرض ونحوه, يقال: أحصره المرض إحصارا فهو محصر وحصره العدو, حصرا فهو محصور فيكون اللفظ صريحا في محل النزاع وحصر العدو مقيس عليه ولأنه مصدود عن البيت, أشبه من صده عدو ووجه الأولى أنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به بخلاف حصر العدو ولأن (النبي -ﷺ- دخل على ضباعة بنت الزبير, فقالت: إني أريد الحج وأنا شاكية فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) فلو كان المرض يبيح الحل, ما احتاجت إلى شرط وحديثهم متروك الظاهر فإن مجرد الكسر والعرج لا يصير به حلالا فإن حملوه على أنه يبيح التحلل, حملناه على ما إذا اشترط الحل بذلك على أن في حديثهم كلاما فإنه يرويه ابن عباس, ومذهبه خلافه فإن قلنا: يتحلل فحكمه حكم من أحصر بعدو على ما مضى وإن قلنا: لا يتحلل فإنه يقيم على إحرامه ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل فإن فاته الحج, تحلل بعمرة كغير المريض. فصل:
وإن شرط في ابتداء إحرامه أن يحل متى مرض أو ضاعت نفقته, أو نفدت أو نحوه أو قال إن حبسني حابس, فمحلي حيث حبسني فله الحل متى وجد ذلك ولا شيء عليه لا هدي, ولا قضاء ولا غيره فإن للشرط تأثيرا في العبادات, بدليل أنه لو قال: إن شفى الله مريضي صمت شهرا متتابعا أو متفرقا كان على ما شرطه وإنما لم يلزمه الهدي والقضاء لأنه إذا شرط شرطا كان إحرامه الذي فعله إلى حين وجود الشرط فصار بمنزلة من أكمل أفعال الحج, ثم ينظر في صيغة الشرط فإن قال: إن مرضت فلي أن أحل وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني فإذا حبس كان بالخيار بين الحل وبين البقاء على الإحرام وإن قال: إن مرضت فأنا حلال فمتى وجد الشرط, حل بوجوده لأنه شرط صحيح فكان على ما شرط. مسألة:
قال: [ فإن قال: أنا أرفض إحرامي وأحل فلبس الثياب وذبح الصيد, وعمل ما يعمله الحلال كان عليه في كل فعل فعله دم وإن كان وطئ, فعليه للوطء بدنة مع ما يجب عليه من الدماء ] وجملة ذلك أن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء كمال أفعاله أو التحلل عند الحصر, أو بالعذر إذا شرط وما عدا هذا فليس له أن يتحلل به فإن نوى التحلل لم يحل ولا يفسد الإحرام برفضه لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد, فلا يخرج منها برفضها بخلاف سائر العبادات ويكون الإحرام باقيا في حقه, تلزمه أحكامه ويلزمه جزاء كل جناية جناها عليه وإن وطئ أفسد حجه وعليه لذلك بدنة, مع ما وجب عليه من الدماء سواء كان الوطء قبل الجنايات أو بعدها فإن الجناية على الإحرام الفاسد توجب الجزاء, كالجناية على الصحيح وليس عليه لرفضه الإحرام شيء لأنه مجرد نية لم تؤثر شيئا. مسألة:
قال: [ ويمضي في الحج الفاسد ويحج من قابل ] وجملة ذلك أن الحج لا يفسد إلا بالجماع فإذا فسد فعليه إتمامه, وليس له الخروج منه روي ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة, وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال الحسن ومالك: يجعل الحجة عمرة, ولا يقيم على حجة فاسدة وقال داود: يخرج بالإفساد من الحج والعمرة لقول النبي -ﷺ-: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ولنا عموم قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا, ولأنه معنى يجب به القضاء فلم يخرج به منه كالفوات, والخبر لا يلزمنا لأن المضي فيه بأمر الله وإنما وجب القضاء لأنه لم يأت به على الوجه الذي يلزمه بالإحرام ونخص مالكا بأنها حجة لا يمكنه الخروج منها بالإخراج فلا يخرج منها إلى عمرة كالصحيحة إذا ثبت هذا فإنه لا يحل من الفاسد, بل يجب عليه أن يفعل بعد الإفساد كل ما يفعله قبله ولا يسقط عنه توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة, والرمي ويجتنب بعد الفساد كل ما يجتنبه قبله من الوطء ثانيا, وقتل الصيد والطيب واللباس, ونحوه وعليه الفدية في الجناية على الإحرام الفاسد كالفدية في الجناية على الإحرام الصحيح فأما الحج من قابل, فيلزمه بكل حال لكن إن كانت الحجة التي أفسدها واجبة بأصل الشرع أو بالنذر, أو قضاء كانت الحجة من قابل مجزئة لأن الفاسد إذا انضم إليه القضاء أجزأه عما يجزئ عنه الأول, لو لم يفسده وإن كانت الفاسدة تطوعا وجب قضاؤها لأنه بالدخول في الإحرام صار الحج عليه واجبا, فإذا أفسده وجب قضاؤه كالمنذور, ويكون القضاء على الفور ولا نعلم فيه مخالفا لأن الحج الأصلي واجب على الفور فهذا أولى لأنه قد تعين بالدخول فيه والواجب بأصل الشرع لم يتعين بذلك. فصل:
ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين: الميقات, أو موضع إحرامه الأول لأنه إن كان الميقات أبعد فلا يجوز له تجاوز الميقات بغير إحرام وإن كان موضع إحرامه أبعد, فعليه الإحرام بالقضاء منه نص عليه أحمد وروي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن المسيب والشافعي, وإسحاق واختاره ابن المنذر وقال النخعي: يحرم من موضع الجماع لأنه موضع الإفساد ولنا أنها عبادة فكان قضاؤها على حسب أدائها, كالصلاة. فصل:
وإذا قضيا تفرقا من موضع الجماع حتى يقضيا حجهما روي هذا عن عمر وابن عباس وروى سعيد, والأثرم بإسناديهما عن عمر أنه سئل عن رجل وقع بامرأته, وهما محرمان فقال: أتما حجكما فإذا كان عام قابل فحجا واهديا, حتى إذا بلغتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا حتى تحلا ورويا عن ابن عباس مثل ذلك وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء, والنخعي والثوري والشافعي, وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنهما يتفرقان من حيث يحرمان حتى يحلا ورواه مالك في " الموطأ " عن علي رضي الله عنه وروي عن ابن عباس وهو قول مالك لأن التفريق بينهما خوفا من معاودة المحظور وهو يوجد في جميع إحرامهما ووجه الأول أن ما قبل موضع الإفساد كان إحرامهما فيه صحيحا فلم يجب التفرق فيه, كالذي لم يفسد وإنما اختص التفريق بموضع الجماع لأنه ربما يذكره برؤية مكانه, فيدعوه ذلك إلى فعله ومعنى التفرق أن لا يركب معها في محمل ولا ينزل معها في فسطاط ونحوه قال أحمد: يتفرقان في النزول وفي المحمل والفسطاط, ولكن يكون بقربها وهل يجب التفريق أو يستحب؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجب وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يجب التفرق في قضاء رمضان إذا أفسداه كذلك الحج والثاني: يجب لأنه روي عمن سمينا من الصحابة الأمر به, ولم نعرف لهم مخالفا ولأن الاجتماع في ذلك الموضع يذكر الجماع فيكون من دواعيه والأول أولى لأن حكمة التفريق الصيانة عما يتوهم من معاودة الوقاع عند تذكره برؤية مكانه, وهذا وهم بعيد لا يقتضي الإيجاب. فصل:
والعمرة فيما ذكرناه كالحج فإن كان المعتمر مكيا أحرم بها من الحل, أحرم للقضاء من الحل وإن كان أحرم بها من الحرم أحرم للقضاء من الحل, ولا فرق بين المكي ومن حصل بها من المجاورين وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في فاسدها فأتمها, فقال أحمد: يخرج إلى الميقات فيحرم منه للحج فإن خشي الفوات أحرم من مكة, وعليه دم فإذا فرغ من حجه خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة, لما أفسد من عمرته ولو أفسد الحاج حجته وأتمها فله الإحرام بالعمرة من أدنى الحل, كالمكيين. فصل:
وإذا أفسد القضاء لم يجب عليه قضاؤه وإنما يقضي عن الحج الأول, كما لو أفسد قضاء الصلاة والصيام وجب القضاء للأصل دون القضاء, كذا ها هنا وذلك لأن الواجب لا يزداد بفواته وإنما يبقى ما كان واجبا في الذمة على ما كان عليه فيؤديه القضاء. باب ذكر الحج ودخول مكة يستحب الاغتسال لدخول مكة (لأن عبد الله بن عمر كان يغتسل, ثم يدخل مكة نهارا ويذكر أن النبي -ﷺ- كان يفعله) متفق عليه وللبخاري (أن ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم, أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح ويغتسل, ويحدث أن النبي -ﷺ- كان يفعل ذلك) ولأن مكة مجمع أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة والمرأة كالرجل, وإن كانت حائضا أو نفساء لقول رسول الله -ﷺ- لعائشة وقد حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) ولأن الغسل يراد للتنظيف وهذا يحصل مع الحيض, فاستحب لها ذلك وهذا مذهب الشافعي وفعله عروة والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون, والحارث بن سويد. فصل:
ويستحب أن يدخل مكة من أعلاها لما روى ابن عمر (أن رسول الله -ﷺ- دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى) وروت عائشة أن النبي -ﷺ- (لما جاء مكة دخل من أعلاها, وخرج من أسفلها) متفق عليهما ولا بأس أن يدخلها ليلا أو نهارا (لأن النبي -ﷺ- دخل مكة ليلا ونهارا) رواهما النسائي. مسألة:
قال: أبو القاسم -رحمه الله-: [ فإذا دخل المسجد فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة, فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر ] إنما استحب دخول المسجد من باب بني شيبة لأن النبي -ﷺ- دخل منه وفي حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره (أن النبي -ﷺ- دخل مكة ارتفاع الضحى, وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد) ويستحب رفع اليدين عند رؤية البيت روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال الثوري, وابن المبارك والشافعي وإسحاق وكان مالك لا يرى رفع اليدين لما روي عن المهاجر المكي, قال: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت أيرفع يديه؟ قال: ما كنت أظن أحدا يفعل هذا إلا اليهود, حججنا مع رسول الله -ﷺ- فلم يكن يفعله رواه النسائي ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: افتتاح الصلاة, واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة وعلى الموقفين والجمرتين) وهذا من قول النبي -ﷺ- وذاك من قول جابر, وخبره عن ظنه وفعله وقد خالفه ابن عمر وابن عباس ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت, وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء. فصل:
ويستحب أن يدعو عند رؤية البيت فيقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام, حينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا, وتكريما ومهابة وبرا, وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا, وتكريما ومهابة وبرا, الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه, وعز جلاله الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا, والحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك, اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله, لا إله إلا أنت قال الشافعي في "مسنده" : أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج (أن رسول الله -ﷺ- كان إذا رأى البيت رفع يديه, وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما, ومهابة وبرا وزد من شرفه, ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما, وبرا) وروي بإسناده عن سعيد بن المسيب أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول: "اللهم أنت السلام, ومنك السلام حينا ربنا بالسلام" قال بعض أصحابنا: يرفع صوته بذلك. فصل:
وإذا دخل المسجد فذكر فريضة أو فائتة, أو أقيمت الصلاة المكتوبة قدمهما على الطواف لأن ذلك فرض والطواف تحية, ولأنه لو أقيمت الصلاة في أثناء طوافه قطعه لأجلها فلأن يبدأ بها أولى وإن خاف فوت ركعتي الفجر, أو الوتر أو أحضرت جنازة قدمها لأنها سنة يخاف فوتها, والطواف لا يفوت. مسألة:
قال: [ ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع, وقبله ] معنى "استلمه" أي مسحه بيده مأخوذ من السلام وهي الحجارة فإذا مسح الحجر قيل استلم, أي: مس السلام قاله ابن قتيبة والمستحب لمن دخل المسجد أن لا يعرج على شيء قبل الطواف بالبيت اقتداء برسول الله -ﷺ- فإنه كان يفعل ذلك قال جابر في حديثه الصحيح: (حتى أتينا البيت معه, استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا) وعن عروة بن الزبير, عن عائشة (أن النبي -ﷺ- حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه وروى ذلك عروة عن أبي بكر, وعمر وعثمان وعبد الله بن عمر, ومعاوية وابن الزبير والمهاجرين, وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر, ولأن الطواف تحية المسجد الحرام فاستحب البداية به كما استحب لداخل غيره من المساجد أن يصلي ركعتين ويبتدئ الطواف بالحجر الأسود, فيستلمه وهو أن يمسحه بيده ويقبله قال أسلم: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر, وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا إني رأيت رسول الله -ﷺ- قبلك ما قبلتك متفق عليه وروى ابن ماجه عن ابن عمر, قال: (استقبل رسول الله -ﷺ- الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا ثم التفت, فإذا هو بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي فقال: يا عمر ها هنا تسكب العبرات) وقول الخرقي: "إن كان" يعني إن كان الحجر في موضعه لم يذهب به, كما ذهب به القرامطة مرة حين ظهروا على مكة فإذا كان ذلك, والعياذ بالله فإنه يقف مقابلا لمكانه ويستلم الركن وإن كان الحجر موجودا في موضعه, استلمه وقبله فإن لم يمكنه استلامه وتقبيله قام حياله أي بحذائه, واستقبله بوجهه فكبر وهلل وهكذا إن كان راكبا, فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: (طاف النبي -ﷺ- على بعير, كلما أتى الحجر أشار إليه بشيء في يده وكبر) وروي عن (النبي -ﷺ- أنه قال لعمر: إنك لرجل شديد تؤذي الضعيف إذا طفت بالبيت, فإذ رأيت خلوة من الحجر فادن منه وإلا فكبر ثم امض) فإن أمكنه استلام الحجر بشيء في يده, كالعصا ونحوها فعل فقد روى ابن عباس (أن رسول الله -ﷺ- طاف في حجة الوداع, يستلم الركن بمحجن) وهذا كله مستحب ويقول عند استلام الحجر: (باسم الله والله أكبر إيمانا بك, وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد -ﷺ-) رواه عبد الله بن السائب, عن النبي -ﷺ-. فصل:
ويحاذي الحجر بجميع بدنه فإن حاذاه ببعضه احتمل أن يجزئه لأنه حكم يتعلق بالبدن, فأجزأ فيه بعضه كالحد ويحتمل أن لا يجزئه لأن النبي -ﷺ- استقبل الحجر واستلمه, وظاهر هذا أنه استقبله بجميع بدنه ولأن ما لزمه استقباله لزمه بجميع بدنه, كالقبلة فإذا قلنا بوجوب ذلك فلم يفعله أو بدأ بالطواف من دون الركن, كالباب ونحوه لم يحتسب له بذلك الشوط ويحتسب بالشوط الثاني وما بعده, ويصير الثاني أوله لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه وأتى على جميعه فإذا أكمل سبعة أشواط غير الأول, صح طوافه وإلا لم يصح. فصل:
والمرأة كالرجل إلا أنها إذا قدمت مكة نهارا, فأمنت الحيض والنفاس استحب لها تأخير الطواف إلى الليل ليكون أستر لها ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر, لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنه الوصول إليه كما روى عطاء, قال: كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت: انطلقي عنك وأبت وإن خافت حيضا أو نفاسا, استحب لها تعجيل الطواف كي لا يفوتها. مسألة:
قال: [ ويضطبع بردائه ] معنى الاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ويرد طرفيه على كتفه اليسرى, ويبقي كتفه اليمنى مكشوفة وهو مأخوذ من الضبع وهو عضد الإنسان افتعال منه, وكان أصله اضتبع فقلبوا التاء طاء لأن التاء متى وضعت بعد ضاد أو صاد أو طاء ساكنة قلبت طاء ويستحب الاضطباع في طواف القدوم لما روى أبو داود وابن ماجه, عن يعلى بن أمية أن النبي -ﷺ- (طاف مضطبعا) ورويا أيضا عن ابن عباس (أن النبي -ﷺ- وأصحابه اعتمروا من الجعرانة, فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى) وبهذا قال الشافعي, وكثير من أهل العلم وقال مالك: ليس الاضطباع بسنة وقال: لم أسمع أحدا من أهل العلم ببلدنا يذكر أن الاضطباع سنة وقد ثبت بما روينا أن النبي -ﷺ- وأصحابه فعلوه وقد أمر الله تعالى باتباعه وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وقد روى أسلم, عن عمر بن الخطاب أنه اضطبع ورمل وقال: ففيم الرمل, ولِمَ نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين؟ بلى لن ندع شيئا فعلناه على عهد رسول الله -ﷺ- رواه أبو داود وإذا فرغ من الطواف سوى رداءه لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة وقال الأثرم: إذا فرغ من الأشواط التي يرمل فيها سوى رداءه والأول أولى لأن قوله: طاف النبي -ﷺ- مضطبعا ينصرف إلى جميعه ولا يضطبع في غير هذا الطواف, ولا يضطبع في السعي وقال الشافعي: يضطبع فيه لأنه أحد الطوافين فأشبه الطواف بالبيت ولنا أن النبي -ﷺ- لم يضطبع فيه, والسنة في الاقتداء به قال أحمد: ما سمعنا فيه شيئا والقياس لا يصح إلا فيما عقل معناه وهذا تعبد محض. مسألة:
قال: [ ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة, كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ] معنى الرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطو من غير وثب وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وقد ثبت (أن النبي -ﷺ- رمل ثلاثا ومشى أربعا) رواه جابر وابن عباس, وابن عمر وأحاديثهم متفق عليها فإن قيل: إنما رمل النبي -ﷺ- وأصحابه لإظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى, إذ قد نفى الله المشركين فلم قلتم: إن الحكم يبقى بعد زوال علته؟ قلنا: قد رمل النبي -ﷺ- وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح, فثبت أنها سنة ثابتة وقال ابن عباس: (رمل النبي -ﷺ- في عمره كلها وفي حجه) وأبو بكر وعمر, وعثمان والخلفاء من بعده رواه أحمد في "المسند" وقد ذكرنا حديث عمر إذا ثبت هذا, فإن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه لا يمشي في شيء منها روي ذلك عن عمر, وابن عمر وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال عروة, والنخعي ومالك والثوري, والشافعي وأصحاب الرأي وقال طاوس وعطاء, والحسن وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد, وسالم بن عبد الله: يمشي ما بين الركنين لما روى ابن عباس قال: (قدم رسول الله -ﷺ- وأصحابه مكة وقد وهنتهم الحمى, فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا فأطلع الله نبيه -ﷺ- على ما قالوا فلما قدموا قعد المشركون مما يلي الحجر, فأمر النبي -ﷺ- أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم, فلما رأوهم رملوا قال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد منا) قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها, إلا الإبقاء عليهم متفق عليه ولنا ما روى ابن عمر (أن النبي -ﷺ- رمل من الحجر إلى الحجر) وفي مسلم عن جابر, قال: (رأيت رسول الله -ﷺ- رمل من الحجر حتى انتهى إليه) وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه منها أن هذا إثبات, ومنها أن رواية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية وهذا إخبار عن فعل في حجة الوداع فيكون متأخرا, فيجب العمل به وتقديمه الثالث أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرا لا يضبط مثل جابر وابن عمر, فإنهما كانا رجلين يتتبعان أفعال النبي -ﷺ- ويحرصان على حفظها فهما أعلم, ولأن جلة الصحابة عملوا بما ذكرنا ولو علموا من النبي -ﷺ- ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره ويحتمل أن يكون ما رواه ابن عباس اختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم, والإبقاء عليهم وما رويناه سنة في سائر الناس.
==============