المغني - كتاب الصيام من المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي
(الجزء الخامس – كتاب الصيام) •
(الجزء الخامس – كتاب الصيام) •
كتاب الصيام o
فصل: معنى رمضان
o فصل: تعريف الصيام o مسألة: ما يثبت به صيام رمضان وكراهية صيام آخر شعبان فصل: ما يقول إذا رأى الهلال فصل: حكم رؤية الهلال ببلد دون آخر واختلاف المطالع
o مسألة: يوم الشك
o مسألة: اشتراط النية للصيام فصل: اشتراط النية في الليل فصل: الصيام بنية واحدة لجميع الشهر فصل: معنى النية فصل: وجوب تعيين النية في كل صوم فصل: النية في يوم الشك فصل: نية صيام الفرض
o مسألة: النية في صيام التطوع فصل: صحة نية التطوع في كل وقت من النهار o
مسألة: صيام المغمى عليه لا ينعقد
o مسألة: إباحة فطر رمضان في السفر فصل: إفطار المسافر بعد نية الصوم فصل: ليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره
o مسألة: ما يفسد الصيام ويوجب القضاء الفصل الثاني: الحجامة للصائم الفصل الثالث: إفطار الصائم بكل ما يدخله إلى جوفه فصل: الاكتحال للصائم فصل: ما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق فصل: ابتلاع النخامة فصل: ابتلاع ما خرج من الفم من دم أو قلس أو قيء فصل: المضمضة والاستنشاق للصائم فصل: اغتسال الصائم فصل: مضغ العلك فصل: تذوق الطعام فصل: السواك للصائم فصل: من أصبح بين أسنانه طعام فصل: إذا قطر في إحليله دما الفصل الرابع: إذا قبل الصائم فأمنى أو أمذى فصل: استمناء الصائم الفصل الخامس: تكرار الصائم النظر فصل: تفكير الصائم في الشهوة الفصل السادس: لا يفطر الصائم بما دخل جوفه بغير قصد الفصل السابع: وجوب القضاء على المفطر فصل: الواجب في القضاء عن كل يوم يوم o مسألة: العفو عمن أفطر ناسيا فصل: إذا فعل شيئا من المفطرات وهو نائم o مسألة: من استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه فصل: حكم قليل القيء وكثيره o مسألة: من ارتد عن الإسلام فقد أفطر o مسألة: من نوى الإفطار فقد أفطر فصل: نية الفطر في صوم النافلة o مسألة: الجماع في نهار رمضان إحداها: وجوب القضاء والكفارة على من أفسد صوما واجبا بالجماع المسألة الثانية: وجوب القضاء والكفارة في جماع صائم رمضان المسألة الثالثة: الجماع دون الفرج المسألة الرابعة: حكم من جامع ناسيا وهو صائم فصل: جميع أنواع الوطء توجب الكفارة فصل: الوطء في فرج البهيمة فصل: فساد صوم المرأة بالجماع فصل: إن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها فصل: سحاق المرأتين الصائمتين فصل: حكم المرأة تجامع ناسية فصل: حكم المجامع مكرها فصل: لا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان فصل: إذا جامع في أول النهار ثم عرض له ما يوجب الفطر فصل: حكم من طلع الفجر عليه وهو مجامع فصل: من جامع يظن أن الفجر لم يطلع o مسألة: كفارة الجماع في نهار رمضان فصل: كفارة الجماع بصيام شهرين متتابعين مسألة: كفارة الجماع بإطعام ستين مسكينا فصل: إجزاء إطعام المساكين في الكفارة ما يشبعهم فصل: يجزئ في الكفارة ما يجزئ في الفطرة فصل: سقوط الكفارة بالعجز عن خصالها الثلاث مسألة: تكرار الجماع قبل التكفير مسألة: تكرار الجماع بعد التكفير o فصل: إذا أصبح مفطرا يعتقد أنه من شعبان فقامت البينة بالرؤية o فصل: المفطر الذي يجب عليه الإمساك o فصل: زوال العذر المبيح للفطر نهارا o فصل: وجوب القضاء على من أفطر برخصة o مسألة: من أكل يظن أن الفجر لم يطلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت فصل: من أكل شاكا في طلوع الفجر فصل: من أكل شاكا في غروب الشمس o مسألة: تأخير الصائم غسل الجنابة بعد طلوع الفجر o مسألة: من انقطع حيضها ليلا تنوي الصيام وتغتسل نهارا o مسألة: إفطار الحامل والمرضع o مسألة: الإفطار لكبر السن o فصل: إفطار المريض o مسألة: تحريم صيام الحائض والنفساء o مسألة: من مات وعليه صيام من رمضان o فصل: قضاء صوم النذر o مسألة: تأخير قضاء صيام رمضان حتى يأتي رمضان آخر فصل: حكم تأخير القضاء إلى رمضانين فصل: من مات وهو مفرط في القضاء فصل: حكم صيام التطوع لمن عليه صوم فرض فصل: قضاء الصيام في عشر ذي الحجة o مسألة: كراهة الصيام للمريض إذا كان الصوم يزيد في مرضه فصل: إفطار الصحيح إذا خشي المرض بالصيام o فصل: فطر من يتضرر بترك الجماع o مسألة: إفطار المسافر فصل: الأفضل الفطر في السفر o مسألة: التتابع في قضاء الصيام o مسألة: قضاء صيام التطوع فصل: لا تلزم عبادة بالشروع فيها إلا الحج والعمرة فصل: من دخل في واجب لم يجز له الخروج منه o مسألة: الصيام قبل البلوغ فصل: لا يجب الصوم قبل البلوغ فصل: حكم من بلغ في رمضان o مسألة: إسلام الكافر في رمضان فصل: قضاء اليوم الذي أسلم فيه o فصل: صيام المجنون إذا أفاق أثناء الشهر o مسألة: صيام من رأى الهلال وحده فصل: حكم إفطار من رأى هلال رمضان وحده o مسألة: قبول خبر الواحد في رؤية الهلال فصل: قبول خبر الثقة وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم فصل: شهادة المرأة في رؤية الهلال o مسألة: الفطر بشهادة اثنين فصل: شهادة رجل وامرأتين أو نساء منفردات فصل: شهادة الواحد والاثنين في الصوم والفطر o مسألة: من رأى هلال شوال وحده فصل: إذا رأى اثنان هلال شوال o مسألة: حكم من اشتبهت عليه الأشهر فصل: من صام شهرا عن رمضان بالاجتهاد فصل: صيام الأسير مع شكه في دخول رمضان فصل: إذا صام الأسير تطوعا فوافق شهر رمضان o مسألة: الأيام التي يحرم صيامها مسألة: صوم أيام التشريق فصل: كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم فصل: كراهة إفراد يوم السبت بالصوم فصل: كراهة صيام رجب كله فصل: كراهة صيام الدهر o مسألة: رؤية الهلال نهارا o مسألة: استحباب تأخير السحور وتعجيل الفطر الفصل الثاني: تعجيل الفطر o الثالث: كراهة وصال الصوم o فصل: فضل من فطر صائما o فصل: ما يقال عند الفطر o مسألة: صيام ست من شوال o مسألة: صوم يوم عاشوراء ويوم عرفة فصل: حكم صوم عاشوراء فصل: يوم عرفة o فصل: أيام العشر من ذي الحجة o مسألة: استحباب فطر يوم عرفة للحاج o فصل: صوم شهر الله المحرم o فصل: أفضل الصيام أن تصوم يوما وتفطر يوما o فصل: صيام يومي الاثنين والخميس o مسألة: صيام أيام البيض o فصل: آداب الصيام o فصل: في ليلة القدر فصل: تحديد ليلة القدر فصل: علامات ليلة القدر فصل: ما يستحب في ليلة القدر
عرض كتاب الصيام
عرض كتاب الصيام
الصيام في اللغة: الإمساك يقال: صام النهار إذا وقف سير الشمس قال الله تعالى إخبارا عن مريم: {إني نذرت للرحمن صوما} أي صمتا لأنه إمساك عن الكلام, وقال الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما يعني بالصائمة: الممسكة عن الصهيل والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص يأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- وصوم رمضان واجب, والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} إلى قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وأما السنة فقول النبي -ﷺ-: (بني الإسلام على خمس) ذكر منها صوم رمضان, وعن طلحة بن عبيد الله (أن رجلا جاء إلى النبي -ﷺ- ثائر الرأس فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام؟ قال: شهر رمضان قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع شيئا قال: فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله -ﷺ- بشرائع الإسلام قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئا, ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال النبي -ﷺ-: أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق) متفق عليهما وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان. فصل:
روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة) متفق عليه وروي عن أبي هريرة عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى) فيتعين حمل هذا على أنه لا يقال ذلك غير مقترن بما يدل على إرادة الشهر لئلا يخالف الأحاديث الصحيحة والمستحب مع ذلك أن يقول: شهر رمضان, كما قال الله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} واختلف في المعنى الذي لأجله سمي رمضان فروى أنس عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إنما سمي رمضان لأنه يحرق الذنوب) فيحتمل أنه أراد أنه شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه وقيل: هو اسم موضوع لغير معنى, كسائر الشهور وقيل غير ذلك. فصل:
والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس روي معنى ذلك عن عمر, وابن عباس وبه قال عطاء وعوام أهل العلم وروي عن علي رضي الله عنه, أنه لما صلى الفجر قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وعن ابن مسعود نحوه وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق وهذا قول الأعمش ولنا قول الله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي -ﷺ-: (إن بلالا يؤذن بليل, فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال: هذا قول جماعة علماء المسلمين . مسألة:
قال أبو القاسم, -رحمه الله-: [ وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما طلبوا الهلال فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم ] وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان, وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم ويسلموا من الاختلاف وقد روى الترمذي عن أبي هريرة, أن النبي -ﷺ- قال: (أحصوا هلال شعبان لرمضان) فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يكن لهم صيام ذلك اليوم, إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم أو صوم يوم الخميس, أو صوم آخر يوم من الشهر وشبه ذلك إذا وافق صومه أو من صام قبل ذلك بأيام, فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي -ﷺ- قال: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صياما فليصمه) متفق عليه وقال عمار: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم -ﷺ-) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وكره أهل العلم صوم يوم الشك واستقبال رمضان باليوم واليومين لنهي النبي -ﷺ- عنه وحكي عن القاسم بن محمد, أنه سئل عن صيام آخر يوم من شعبان هل يكره؟ قال: لا إلا أن يغمى الهلال واتباع قول رسول الله -ﷺ- أولى فأما استقبال الشهر بأكثر من يومين فغير مكروه, فإن مفهوم حديث أبي هريرة أنه غير مكروه لتخصيصه النهي باليوم واليومين وقد روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة, أن النبي -ﷺ- قال: (إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح إلا أن أحمد قال: ليس هو بمحفوظ قال: وسألنا عنه عبد الرحمن بن مهدي, فلم يصححه ولم يحدثني به وكان يتوقاه قال أحمد: والعلاء ثقة لا ينكر من حديثه إلا هذا لأنه خلاف ما روي عن النبي -ﷺ- أنه كان يصل شعبان برمضان ويحمل هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر, وحديث عائشة في صلة شعبان برمضان في حق من صام الشهر كله فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر فلا تعارض بين الخبرين إذا, وهذا أولى من حملهما على التعارض ورد أحدهما بصاحبه والله أعلم وفي كلام الخرقي اختصار وتقديره: طلبوا الهلال, فإن رأوه صاموا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يصوموا فحذف بعض الكلام للعلم به اختصارا. فصل:
ويستحب لمن رأى الهلال أن يقول ما روى ابن عمر قال: (كان رسول الله -ﷺ- إذا رأى الهلال قال: الله أكبر, اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى, ربي وربك الله) رواه الأثرم. فصل:
وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة, لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما وإن كان بينهما بعد, كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم وروي عن عكرمة أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم وهو مذهب القاسم, وسالم وإسحاق لما روى كريب قال: (قدمت الشام, واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة, ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال, فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا, وصام معاوية فقال: لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله -ﷺ-) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب ولنا قول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (وقول النبي -ﷺ- للأعرابي لما قال له: الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: نعم) وقوله للآخر لما قال له: ماذا فرض الله علي من الصوم؟ قال: (شهر رمضان) وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان, وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين, وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق, ووجوب النذور وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص والإجماع, ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان فأما حديث كريب فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده, ونحن نقول به وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول وليس هو في الحديث فإن قيل: فقد قلتم إن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما, ولم يروا الهلال أفطروا في أحد الوجهين قلنا: الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أننا إنما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادته, فيكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته وهاهنا لم يصوموا بقوله فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه الثاني, أن الحديث دل على صحة الوجه الآخر. مسألة:
قال: [ وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان ] اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في هذه المسألة, فروي عنه مثل ما نقل الخرقي اختارها أكثر شيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر, وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة, وأنس ومعاوية وعائشة, وأسماء بنتي أبي بكر وبه قال بكر بن عبد الله وأبو عثمان النهدي, وابن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران, وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا, وإن أفطر أفطروا وهذا قول الحسن وابن سيرين لقول النبي -ﷺ-: (الصوم يوم تصومون, والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وعن أحمد رواية ثالثة: لا يجب صومه, ولا يجزئه عن رمضان إن صامه وهو قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي, ومن تبعهم لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه البخاري وعن ابن عمر أن النبي -ﷺ- قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين) رواه مسلم وقد صح أن النبي -ﷺ- (نهى عن صوم يوم الشك) متفق عليه وهذا يوم شك ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك ولنا ما روى نافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له) قال نافع: كان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما, بعث من ينظر له الهلال فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا, وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما رواه أبو داود ومعنى اقدروا له: أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} أي ضيق عليه وقوله: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما وقد فسره ابن عمر بفعله وهو راويه وأعلم بمعناه, فيجب الرجوع إلى تفسيره كما رجع إليه في تفسير التفرق في خيار المتبايعين وروي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله -ﷺ- (قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان شيئا؟ قال: لا وفي لفظ: أصمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا قال: فإذا أفطرت فصم يومين) متفق عليه وسرر الشهر: آخره ليال يستتر الهلال فلا يظهر ولأنه شك في أحد طرفي الشهر لم يظهر فيه أنه من غير رمضان, فوجب الصوم كالطرف الآخر قال علي وأبو هريرة وعائشة: لأن أصم يوما من شعبان, أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ولأن الصوم يحتاط له ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به, فإنه يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة: (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين) وروايته أولى بالتقديم, لإمامته واشتهار عدالته وثقته, وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر: (فاقدروا له ثلاثين) مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه والنهي عن صوم الشك محمول على حال الصحو, بدليل ما ذكرناه وفي الجملة لا يجب الصوم إلا برؤية الهلال أو كمال شعبان ثلاثين يوما, أو يحول دون منظر الهلال غيم أو قتر على ما ذكرنا من الخلاف فيه. مسألة:
قال: [ ولا يجزئه صيام فرض حتى ينويه أي وقت كان من الليل ] وجملته أنه لا يصح صوم إلا بنية إجماعا فرضا كان أو تطوعا, لأنه عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة, ثم إن كان فرضا كصيام رمضان في أدائه أو قضائه والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من الليل عند إمامنا ومالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: يجزئ صيام رمضان وكل صوم متعين بنية من النهار لأن النبي -ﷺ- أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: (من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه, ومن لم يكن أكل فليصم) متفق عليه وكان صوما واجبا متعينا ولأنه غير ثابت في الذمة فهو كالتطوع، ولنا ما روي ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري, عن سالم عن أبيه عن حفصة, عن النبي -ﷺ- قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) وفي لفظ ابن حزم: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) أخرجه النسائي, وأبو داود والترمذي وروى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة, عن النبي -ﷺ- قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له) وقال: إسناده كلهم ثقات وقال في حديث حفصة: رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري, وهو من الثقات الرفعاء ولأنه صوم فرض فافتقر إلى النية من الليل كالقضاء فأما صوم عاشوراء, فلم يثبت وجوبه فإن معاوية قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه, وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر) متفق عليه فلو كان واجبا لم يبح فطره, فإنما سمى الإمساك صياما تجوزا بدليل قوله: (ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه) ولم يفرق بين المفطر بالأكل وغيره وقد روى البخاري, أن رسول الله -ﷺ- أمر رجلا: أن أذن في الناس (أن من كان أكل فليصم بقية يومه) وإمساك بقية اليوم بعد الأكل ليس بصيام شرعي وإنما سماه صياما تجوزا ثم لو ثبت أنه صيام فالفرق بين ذلك وبين رمضان أن وجوب الصيام تجدد في أثناء النهار, فأجزأته النية حين تجدد الوجوب كمن كان صائما تطوعا فنذر إتمام صوم بقية يومه, فإنه تجزئه نيته عند نذره بخلاف ما إذا كان النذر متقدما والفرق بين التطوع والفرض من وجهين: أحدهما, أن التطوع يمكن الإتيان به في بعض النهار بشرط عدم المفطرات في أوله بدليل قوله عليه السلام في حديث عاشوراء: (فليصم بقية يومه) فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائما بقية النهار دون أوله, والفرض يكون واجبا في جميع النهار ولا يكون صائما بغير النية والثاني أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيرا له, فإنه قد يبدو له الصوم في النهار فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك فسامح الشرع فيها, كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع وترك الاستقبال فيه في السفر تكثيرا له بخلاف الفرض إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه, وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أم لم يفعل واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كما اختص أذان الصبح والدفع من مزدلفة به ولنا مفهوم قوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) من غير تفصيل, ولأنه نوى من الليل فصح صومه كما لو نوى في النصف الأخير ولم يفعل ما ينافي الصوم, ولأن تخصيص النية بالنصف الأخير يفضي إلى تفويت الصوم لأنه وقت النوم وكثير من الناس لا ينتبه فيه ولا يذكر الصوم, والشارع إنما رخص في تقديم النية على ابتدائه لحرج اعتبارها عنده فلا يخصها بمحل لا تندفع المشقة بتخصيصها به, ولأن تخصيصها بالنصف الأخير تحكم من غير دليل ولا يصح اعتبار الصوم بالأذان والدفع من مزدلفة لأنهما يجوزان بعد الفجر فلا يفضي منعهما في النصف الأول إلى فواتهما, بخلاف نية الصوم ولأن اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه واشتراط النية بمعنى الإيجاب والتحتم, وفوات الصوم بفواتها فيه وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز, ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر والنية بخلافه, فأما إن فسخ النية مثل إن نوى الفطر بعد نية الصيام لم تجزئه تلك النية المفسوخة, لأنها زالت حكما وحقيقة. فصل:
وإن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل وقد روى ابن منصور, عن أحمد من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار ولم ينو من الليل, فلا بأس إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك فظاهر هذا حصول الإجزاء بنيته من النهار إلا أن القاضي قال: هذا محمول على أنه استصحب النية إلى جزء من الليل وهذا صحيح لظاهر قوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ولأنه لم ينو عند ابتداء العبادة, ولا قريبا منها فلم يصح كما لو نوى من الليل صوم بعد غد. فصل:
وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة, والشافعي وابن المنذر وعن أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهذا مذهب مالك, وإسحاق لأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته ولنا أنه صوم واجب, فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها, فأشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الأول وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه فيخرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان . فصل:
ومعنى النية القصد, وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه من غير تردد, فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدا من رمضان وأنه صائم فيه فقد نوى وإن شك في أنه من رمضان ولم يكن له أصل يبني عليه, مثل أن يكون ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتر فعزم أن يصوم غدا من رمضان, لم تصح النية ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأن النية قصد تتبع العلم, وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده ولا هو على ثقة من اعتقاده لا يصح قصده وبهذا قال حماد وربيعة ومالك, وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر وقال الثوري, والأوزاعي: يصح إذا نواه من الليل لأنه نوى الصيام من الليل فصح كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يجزم النية بصومه من رمضان, فلم يصح كما لو لم يعلم إلا بعد خروجه وكذلك لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب, لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه, ولا العمل به فكان وجوده كعدمه قال النبي -ﷺ-: (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته) وفي رواية: (لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه) فأما ليلة الثلاثين من رمضان فتصح نيته, وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان وقد أمر النبي -ﷺ- بصومه بقوله: (ولا تفطروا حتى تروه) لكن إن قال: إن كان غدا من رمضان فأنا صائم, وإن كان من شوال فأنا مفطر فقال ابن عقيل لا يصح صومه: لأنه لم يجزم بنية الصيام والنية اعتقاد جازم ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان . فصل:
ويجب تعيين النية في كل صوم واجب, وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضائه أو من كفارته, أو نذره نص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال: قلت لأبي عبد الله: أسير صام في أرض الروم شهر رمضان, ولا يعلم أنه رمضان ينوي التطوع؟ قال: لا يجزئه إلا بعزيمة أنه من رمضان ولا يجزئه في يوم الشك إذا أصبح صائما وإن كان من رمضان إلا بعزيمة من الليل أنه من رمضان وبهذا قال مالك, والشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يجب تعيين النية لرمضان فإن المروذي روى عن أحمد, أنه قال: يكون يوم الشك يوم غيم إذا أجمعنا على أننا نصبح صياما يجزئنا من رمضان وإن لم نعتقد أنه من رمضان؟ قال: نعم قلت فقول النبي -ﷺ-: (إنما الأعمال بالنيات) أليس يريد أن ينوي أنه من رمضان؟ قال: لا إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه وحكى أبو حفص العكبري, عن بعض أصحابنا أنه قال: ولو نوى نفلا وقع عنه رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة وقال بعض أصحابنا: ولو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه قال القاضي: وجدت هذا الكلام اختيارا لأبي القاسم, ذكره في "شرحه" وقال أبو حفص: لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك ولا تلوم فعلى القول الثاني: لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا, وقع عن رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة إذا كان مقميا لأنه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين النية له, كطواف الزيارة ولنا أنه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء وطواف الزيارة, كمسألتنا في افتقاره إلى التعيين فلو طاف ينوي به الوداع أو طاف بنية الطواف مطلقا, لم يجزئه عن طواف الزيارة ثم الحج مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقا وينصرف إلى الفرض ولو حج عن غيره, ولم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه ولو نوى الإحرام بمثل ما أحرم به فلان صح, وينعقد فاسدا بخلاف الصوم. فصل:
ولو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فأنا صائم, فرضا وإلا فهو نفل لم يجزئه على الرواية الأولى لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزما, ويجزئه على الأخرى لأنه قد نوى الصوم ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد, وكان الاثنين أو ظن أن غدا الأحد فنواه, وكان الاثنين صح صومه لأن نية الصوم لم تختل وإنما أخطأ في الوقت. فصل:
وإذا عين النية عن صوم رمضان, أو قضائه أو كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضا وقال ابن حامد: يجب ذلك وقد مر بيان ذلك في الصلاة. مسألة:
قال: [ ومن نوى صيام التطوع من النهار, ولم يكن طعم أجزأه ] وجملة ذلك أن صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا, وأبي حنيفة والشافعي وروي ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود, وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير, والنخعي وأصحاب الرأي وقال مالك وداود: لا يجوز إلا بنية من الليل لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ولأن الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها, فكذلك الصوم ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها (قالت: دخل عليَّ النبي -ﷺ- ذات يوم فقال: هل عندكم من شيء؟ قلنا: لا قال: فإني إذا صائم) أخرجه مسلم, وأبو داود والنسائي ويدل عليه أيضا حديث عاشوراء ولأن الصلاة يخفف نفلها عن فرضها بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها, ويجوز في السفر على الراحلة إلى غير القبلة فكذا الصيام وحديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم, فإنه من رواية ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قال الميموني: سألت أحمد عنه, فقال: أخبرك ما له عندي ذلك الإسناد إلا أنه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان والصلاة يتفق وقت النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها, بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم من النهار فعفي عنه كما لو جوزنا التنفل قاعدا وعلى الراحلة, لهذه العلة. فصل:
وأي وقت من النهار نوى أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود فإنه قال: أحدكم بأخير النظرين ما لم يأكل أو يشرب وقال رجل لسعيد بن المسيب: إني لم آكل إلى الظهر, أو إلى العصر أفأصوم بقية يومي؟ قال: نعم واختار القاضي في "المحرر" أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة, والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة, ولهذا تأثير في الأصول بدليل أن من أدرك الإمام قبل الرفع من الركوع أدرك الركعة لإدراكه معظمها ولو أدركه بعد الرفع, لم يكن مدركا لها ولو أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة كان مدركا لها لأنها تزيد بالتشهد, ولو أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركا لها ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله, ولأن جميع الليل وقت لنية الفرض فكذا جميع النهار وقت لنية النفل إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد, فإنه قال: من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه وإذا أجمع من الليل كان له يومه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب, في "الهداية": يحكم له بذلك من أول النهار وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجز له صيام باقيه, فإذا وجد في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله ولا يمتنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقة كما لو نسي الصوم بعد نيته, أو غفل عنه ولأنه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها ولنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يكون صائما فيه لقوله عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأن الصوم عبادة محضة فلا توجد بغير نية كسائر العبادات المحضة ودعوى أن الصوم لا يتبعض, دعوى محل النزاع وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شيء من اليوم ولهذا قال النبي -ﷺ- في حديث عاشوراء (فليصم بقية يومه) وأما إذا نسي النية بعد وجودها, فإنه يكون مستصحبا لحكمها بخلاف ما قبلها فإنها لم توجد حكما, ولا حقيقة ولهذا لو نوى الفرض من الليل ونسيه في النهار صح صومه, ولو لم ينو من الليل لم يصح صومه وأما إدراك الركعة والجماعة فإنما معناه أنه لا يحتاج إلى قضاء ركعة, وينوي أنه مأموم وليس هذا مستحيلا أما أن يكون ما صلى الإمام قبله من الركعات محسوبا له, بحيث يجزئه عن فعله فكلا ولأن مدرك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة لأن القيام وجد حين كبر وفعل سائر الأركان مع الإمام وأما الصوم فإن النية شرط أو ركن فيه, فلا يتصور وجوده بدون شرطه وركنه إذا ثبت هذا فإن من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية ولا فعل ما يفطره فإن فعل شيئا من ذلك, لم يجزئه الصيام بغير خلاف نعلمه. مسألة:
قال: [ ومن نوى من الليل فأغمي عليه قبل طلوع الفجر, فلم يفق حتى غربت الشمس لم يجزه صيام ذلك اليوم ] وجملة ذلك أنه متى أغمي عليه جميع النهار فلم يفق في شيء منه, لم يصح صومه في قول إمامنا والشافعي وقال أبو حنيفة: يصح لأن النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم, كالنوم ولنا أن الصوم هو الإمساك مع النية قال النبي -ﷺ-: (يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به, يدع طعامه وشرابه من أجلي) متفق عليه فأضاف ترك الطعام والشراب إليه وإذا كان مغمى عليه فلا يضاف الإمساك إليه, فلم يجزئه ولأن النية أحد ركني الصوم فلا تجزئ وحدها كالإمساك وحده, أما النوم فإنه عادة ولا يزيل الإحساس بالكلية ومتى نبه انتبه, والإغماء عارض يزيل العقل فأشبه الجنون إذا ثبت هذا فزوال العقل يحصل بثلاثة أشياء أحدها, الإغماء وقد ذكرناه ومتى فسد الصوم به فعلى المغمى عليه القضاء بغير خلاف علمناه لأن مدته لا تتطاول غالبا, ولا تثبت الولاية على صاحبه فلم يزل به التكليف وقضاء العبادات كالنوم, ومتى أفاق المغمى عليه في جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله أو آخره وقال الشافعي, في أحد قوليه: تعتبر الإفاقة في أول النهار ليحصل حكم النية في أوله ولنا أن الإفاقة حصلت في جزء من النهار فأجزأ, كما لو وجدت في أوله وما ذكروه لا يصح فإن النية قد حصلت من الليل فيستغني عن ذكرها في النهار, كما لو نام أو غفل عن الصوم ولو كانت النية إنما تحصل بالإفاقة في النهار لما صح منه صوم الفرض بالإفاقة, لأنه لا يجزئ بنية من النهار الثاني النوم فلا يؤثر في الصوم, سواء وجد في جميع النهار أو بعضه الثالث الجنون فحكمه حكم الإغماء, إلا أنه إذا وجد في جميع النهار لم يجب قضاؤه وقال أبو حنيفة: متى أفاق المجنون في جزء من رمضان لزمه قضاء ما مضى منه لأنه أدرك جزءا من رمضان وهو عاقل, فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم وقال الشافعي: إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه, كالحيض ولنا أنه معنى يمنع الوجوب إذا وجد في جميع الشهر فمنعه إذا وجد في جميع النهار كالصبا والكفر, وأما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع في وجوبه وإن سلمناه فإنه قد أدرك بعض وقت العبادة فلزمه, كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم في بعض النهار وكما لو أدرك بعض وقت الصلاة ولنا على الشافعي أنه زوال عقل في بعض النهار, فلم يمنع صحة الصوم كالإغماء والنوم ويفارق الحيض فإن الحيض لا يمنع الوجوب, وإنما يجوز تأخير الصوم ويحرم فعله ويوجب الغسل, ويحرم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطء فلا يصح قياس الجنون عليه. مسألة:
قال: [ وإذا سافر ما يقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره ] وجملته أن للمسافر أن يفطر في رمضان وغيره, بدلالة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وأما السنة فقول النبي -ﷺ-: (إن الله وضع عن المسافر الصوم) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن في أخبار كثيرة سواه وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة, وإنما يباح الفطر في السفر الطويل الذي يبيح القصر وقد ذكرنا قدره في الصلاة ثم لا يخلو المسافر من ثلاثة أحوال: أحدها, أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الفطر له الثاني أن يسافر في أثناء الشهر ليلا, فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها وما بعدها في قول عامة أهل العلم وقال عبيدة السلماني, وأبو مجلز وسويد بن غفلة: لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر لقول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا قد شهده ولنا قول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وروى ابن عباس قال: (خرج رسول الله -ﷺ- عام الفتح في شهر رمضان, فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس) متفق عليه ولأنه مسافر فأبيح له الفطر كما لو سافر قبل الشهر, والآية تناولت الأمر بالصوم لمن شهد الشهر كله وهذا لم يشهده كله الثالث أن يسافر في أثناء يوم من رمضان, فحكمه في اليوم الثاني كمن سافر ليلا وفي إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان إحداهما, له أن يفطر وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق, وداود وابن المنذر لما روى عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان, فدفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة, ثم قال: اقترب قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة (أترغب عن سنة رسول الله -ﷺ-؟ فأكل) رواه أبو داود ولأن السفر معنى لو وجد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض, ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فأباحه في أثناء النهار كالآخر والرواية الثانية لا يباح له الفطر ذلك اليوم, وهو قول مكحول والزهري ويحيى الأنصاري, ومالك والأوزاعي والشافعي, وأصحاب الرأي لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة, والأول أصح للخبر ولأن الصوم يفارق الصلاة فإن الصلاة يلزم إتمامها بنيته بخلاف الصوم إذا ثبت هذا فإنه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره, يعني أنه يجاوزها ويخرج من بين بنيانها وقال الحسن: يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج وروي نحوه عن عطاء قال ابن عبد البر: قول الحسن قول شاذ, وليس الفطر لأحد في الحضر في نظر ولا أثر وقد روي عن الحسن خلافه وقد روى محمد بن كعب قال: (أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر, وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل, فقلت له: سنة؟ فقال: سنة ثم ركب) قال الترمذي: هذا حديث حسن ولنا قول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا شاهد ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين, ولذلك لا يقصر الصلاة فأما أنس فيحتمل أنه قد كان برز من البلد خارجا منه فأتاه محمد بن كعب في منزله ذلك. فصل:
وإن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدا له أن يفطر, فله ذلك واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة: لا يجوز له الفطر وقال مرة أخرى: إن صح حديث الكديد لم أر به بأسا أن يفطر وقال مالك: إن أفطر فعليه القضاء والكفارة لأنه أفطر في صوم رمضان, فلزمه ذلك كما لو كان حاضرا ولنا حديث ابن عباس, وهو حديث صحيح متفق عليه وروى جابر (أن رسول الله -ﷺ- خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه, فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون ما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر, فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم, فبلغه أن ناسا صاموا فقال: أولئك العصاة) رواه مسلم وهذا نص صريح لا يعرج على من خالفه إذا ثبت هذا فإن له أن يفطر بما شاء من أكل وشرب وغيرهما إلا الجماع, هل له أن يفطر به أم لا؟ فإن أفطر بالجماع ففي الكفارة روايتان الصحيح منهما أنه لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي والثانية يلزمه كفارة لأنه أفطر بجماع فلزمته كفارة كالحاضر ولنا أنه صوم لا يجب المضي فيه فلم تجب الكفارة بالجماع فيه, كالتطوع وفارق الحاضر الصحيح فإنه يجب عليه المضي في الصوم, وإن كان مريضا يباح له الفطر فهو كالمسافر ولأنه يفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعد حصول الفطر, فأشبه ما لو أكل ثم جامع ومتى أفطر المسافر فله فعل جميع ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع وغيره لأن حرمتها بالصوم فتزول بزواله, كما لو زال بمجيء الليل. فصل:
وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره ، كالنذر والقضاء ؛ لأن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا عنه ، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه ، لزمه أن يأتي بالأصل . فإن نوى صوما غير رمضان ، لم يصح صومه ، لا عن رمضان ، ولا عن ما نواه . هذا الصحيح في المذهب ، وهو قول أكثر العلماء . وقال أبو حنيفة : يقع ما نواه إذا كان واجبا ؛ لأنه زمن أبيح له فطره ، فكان له صومه عن واجب عليه ، كغير شهر رمضان . ولنا أنه أبيح له الفطر للعذر ، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان ، كالمريض ، وبهذا ينتقض ما ذكروه ، وينقض أيضا بصوم التطوع ، فإنهم سلموه . قال صالح : قيل لأبي : من صام شهر رمضان ، وهو ينوي به تطوعا ، يجزئه ؟ قال : أو يفعل هذا مسلم؟ مسألة:
قال: [ ومن أكل أو شرب أو احتجم أو استعط, أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو قبل فأمنى أو أمذى, أو كرر النظر فأنزل أي ذلك فعل عامدا وهو ذاكر لصومه, فعليه القضاء بلا كفارة إذا كان صوما واجبا ] في هذه المسألة فصول: أحدها أنه يفطر بالأكل والشرب بالإجماع, وبدلالة الكتاب والسنة أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} مد الأكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما وأما السنة, فقول النبي -ﷺ-: (والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به فأما ما لا يتغذى به, فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم, ويقول: ليس بطعام ولا شراب ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن الكتاب والسنة إنما حرما الأكل والشرب فما عداهما يبقى على أصل الإباحة ولنا دلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم فيدخل فيه محل النزاع, ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة فلا يعد خلافا. الفصل الثاني:
أن الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم وبه قال إسحاق وابن المنذر, ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وهو قول عطاء وعبد الرحمن بن مهدي وكان الحسن ومسروق, وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا في الصوم منهم ابن عمر, وابن عباس وأبو موسى وأنس بن مالك, ورخص فيها أبو سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة, وحسين بن علي وعروة وسعيد بن جبير وقال مالك, والثوري وأبو حنيفة والشافعي: يجوز للصائم أن يحتجم, ولا يفطر لما روى البخاري عن ابن عباس أن النبي -ﷺ- (احتجم وهو صائم) ولأنه دم خارج من البدن, أشبه الفصد ولنا قول النبي -ﷺ-: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه عن النبي -ﷺ- أحد عشر نفسا قال أحمد: حديث شداد بن أوس من أصح حديث يروى في هذا الباب, وإسناد حديث رافع إسناد جيد وقال: حديث شداد وثوبان صحيحان وعن علي بن المديني أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث شداد وثوبان وحديثهم منسوخ بحديثنا, بدليل ما روى ابن عباس أنه قال: (احتجم رسول الله -ﷺ- بالقاحة بقرن وناب وهو محرم صائم, فوجد لذلك ضعفا شديدا فنهى رسول الله -ﷺ- أن يحتجم الصائم) رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم وعن الحكم, قال: (احتجم رسول الله -ﷺ- وهو صائم) فضعف ثم كرهت الحجامة للصائم وكان ابن عباس وهو راوي حديثهم يعد الحجام والمحاجم, فإذا غابت الشمس احتجم بالليل كذلك رواه الجوزجاني وهذا يدل على أنه علم نسخ الحديث الذي رواه ويحتمل أن النبي -ﷺ- احتجم فأفطر كما روي عنه عليه السلام أنه (قاء فأفطر) فإن قيل: فقد روي أن النبي -ﷺ- (رأى الحاجم والمحتجم يغتابان) فقال ذلك, قلنا: لم تثبت صحة هذه الرواية مع أن اللفظ أعم من السبب فيجب العمل بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, على أننا قد ذكرنا الحديث الذي فيه بيان علة النهي عن الحجامة وهي الخوف من الضعف فيبطل التعليل بما سواه, أو يكون كل واحد منهما علة مستقلة على أن الغيبة لا تفطر الصائم إجماعا فلا يصح حمل الحديث على ما يخالف الإجماع قال أحمد: لأن يكون الحديث كما جاء عن النبي -ﷺ-: (أفطر الحاجم والمحجوم) أحب إلينا من أن يكون من الغيبة لأن من أراد أن يمتنع من الحجامة امتنع وهذا أشد على الناس, من يسلم من الغيبة فإن قيل: فإذا كانت علة النهي ضعف الصائم بها فلا يقتضي ذلك الفطر وإنما يقتضي الكراهة, ومعنى قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) أي قربا من الفطر قلنا: هذا تأويل يحتاج إلى دليل على أنه لا يصح ذلك في حق الحاجم فإنه لا ضعف فيه. الفصل الثالث:
أنه يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه, أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره, وكان مما يمكن التحرز منه سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود, أو من الأنف كالسعوط أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل, أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه أو من دواء المأمومة إلى دماغه, فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل وكذلك لو جرح نفسه, أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه, أو عاد فخرج منه وبهذا كله قال الشافعي وقال مالك: لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل إلى حلقه, ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة واختلف عنه في الحقنة واحتج له بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره, فيفطره كالواصل إلى الحلق والدماغ جوف, والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف البدن.
فصل: فأما الكحل, فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره, وإلا لم يفطره نص عليه أحمد وقال ابن أبي موسى: ما يجد طعمه كالزرور والصبر والقطور أفطر وإن اكتحل باليسير من الإثمد غير المطيب كالميل ونحوه, لم يفطر نص عليه أحمد وقال ابن عقيل: إن كان الكحل حادا فطره وإلا فلا ونحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك وعن ابن أبي ليلى, وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطره لما روي عن النبي -ﷺ- (أنه اكتحل في رمضان وهو صائم) ولأن العين ليست منفذا فلم يفطر بالداخل منها, كما لو دهن رأسه ولنا أنه أوصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه فأفطر به كما لو أوصله من أنفه وما رووه لم يصح, قال الترمذي: لم يصح عن النبي -ﷺ- في باب الكحل للصائم شيء ثم يحمله على أنه اكتحل بما لا يصل وقولهم: ليست العين منفذا لا يصح فإنه يوجد طعمه في الحلق ويكتحل بالإثمد فيتنخعه قال أحمد: حدثني إنسان أنه اكتحل بالليل فتنخعه بالنهار ثم لا يعتبر في الواصل أن يكون من منفذ بدليل ما لو جرح نفسه جائفة, فإنه يفطر.
فصل: وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق, فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق فإن جمعه ثم ابتلعه قصدا لم يفطره لأنه يصل إلى جوفه من معدته أشبه ما إذا لم يجمعه وفيه وجه آخر, أنه يفطره لأنه أمكنه التحرز منه أشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق والأول أصح فإن الريق لا يفطر إذا لم يجمعه وإن قصد ابتلاعه, فكذلك إذا جمعه بخلاف غبار الطريق فإن خرج ريقه إلى ثوبه, أو بين أصابعه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه, أو بلع ريق غيره أفطر لأنه ابتلعه من غير فمه فأشبه ما لو بلع غيره فإن قيل: فقد روت عائشة, أن النبي -ﷺ- (كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها) رواه أبو داود قلنا: قد روي عن أبي داود أنه قال: هذا إسناد ليس بصحيح ويجوز أن يكون يقبل في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه, ثم لا يبتلعه ولأنه لم يتحقق انفصال ما على لسانها من البلل إلى فمه فأشبه ما لو ترك حصاة مبلولة في فيه, أو لو تمضمض بماء ثم مجه ولو ترك في فمه حصاة أو درهما فأخرجه وعليه بلة من الريق ثم أعاده في فيه, نظرت فإن كان ما عليه من الريق كثيرا فابتلعه أفطر وإن كان يسيرا لم يفطر بابتلاع ريقه وقال بعض أصحابنا: يفطر لابتلاعه ذلك البلل الذي كان على الجسم ولنا أنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه, فلا يفطره كالمضمضة والتسوك بالسواك الرطب والمبلول ويقوي ذلك حديث عائشة في مص لسانها ولو أخرج لسانه وعليه بلة ثم عاد فأدخله وابتلع ريقه, لم يفطر.
فصل: وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان إحداهما يفطر قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا تنخم, ثم ازدرده فقد أفطر لأن النخامة من الرأس تنزل والريق من الفم ولو تنخع من جوفه, ثم ازدرده أفطر وهذا مذهب الشافعي لأنه أمكن التحرز منها أشبه الدم, ولأنها من غير الفم أشبه القيء والرواية الثانية لا يفطر قال, في رواية المروذي: ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخامة وأنت صائم لأنه معتاد في الفم غير واصل من خارج أشبه الريق.
فصل: فإن سال فمه دما, أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر وإن كان يسيرا لأن الفم في حكم الظاهر, والأصل حصول الفطر بكل واصل منه لكن عفي عن الريق لعدم إمكان التحرز منه فما عداه يبقى على الأصل, وإن ألقاه من فيه وبقي فمه نجسا أو تنجس فمه بشيء من خارج, فابتلع ريقه فإن كان معه جزء من المنجس أفطر بذلك الجزء وإلا فلا.
فصل: ولا يفطر بالمضمضة بغير خلاف, سواء كان في الطهارة أو غيرها وقد روي عن النبي -ﷺ- أن عمر سأله عن القبلة للصائم؟ فقال النبي -ﷺ-: (أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس قال: فمه)؟ ولأن الفم في حكم الظاهر فلا يبطل الصوم بالواصل إليه, كالأنف والعين وإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف, فلا شيء عليه وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس وقال مالك, وأبو حنيفة: يفطر لأنه أوصل الماء إلى جوفه ذاكرا لصومه فأفطر كما لو تعمد شربه ولنا أنه وصل إلى حلقه من غير إسراف ولا قصد, فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقه وبهذا فارق المتعمد فأما إن أسرف فزاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق, فقد فعل مكروها لقول النبي -ﷺ- للقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما) حديث صحيح ولأنه يتعرض بذلك لإيصال الماء إلى حلقه فإن وصل إلى حلقه فقال أحمد: يعجبني أن يعيد الصوم وهل يفطر بذلك؟ على وجهين: أحدهما, يفطر لأن النبي -ﷺ- نهى عن المبالغة حفظا للصوم فدل على أنه يفطر به ولأنه وصل بفعل منهي عنه, فأشبه التعمد والثاني لا يفطر به لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار الدقيق إذا نخله فأما المضمضة لغير الطهارة فإن كانت لحاجة, كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه فحكمه حكم المضمضة للطهارة وإن كان عبثا أو تمضمض من أجل العطش, كره وسئل أحمد عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه قال: يرش على صدره أحب إلي فإن فعل فوصل الماء إلى حلقه أو ترك الماء في فيه عابثا, أو للتبرد فالحكم فيه كالحكم في الزائد على الثلاث لأنه مكروه ولا بأس أن يصب الماء على رأسه من الحر والعطش لما روي عن بعض أصحاب رسول الله -ﷺ- أنه قال: (لقد رأيت رسول الله -ﷺ- بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر) رواه أبو داود.
فصل: ولا بأس أن يغتسل الصائم فإن عائشة, وأم سلمة (قالتا: نشهد على رسول الله -ﷺ- إن كان ليصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم) متفق عليه وروى أبو بكر, بإسناده أن ابن عباس دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان فأما الغوص في الماء, فقال أحمد في الصائم ينغمس في الماء: إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه وكره الحسن والشعبي أن ينغمس في الماء خوفا أن يدخل في مسامعه فإن دخل في مسامعه, فوصل إلى دماغه من الغسل المشروع من غير إسراف ولا قصد فلا شيء عليه, كما لو دخل إلى حلقه من المضمضة في الوضوء وإن غاص في الماء أو أسرف, أو كان عابثا فحكمه حكم الداخل إلى الحلق من المبالغة في المضمضة والاستنشاق والزائد على الثلاث والله أعلم.
فصل: قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: الصائم يمضغ العلك قال: لا قال أصحابنا: العلك ضربان أحدهما, ما يتحلل منه أجزاء وهو الرديء الذي إذا مضغه يتحلل فلا يجوز مضغه, إلا أن لا يبلع ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به, كما لو تعمد أكله والثاني العلك القوي الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه ولا يحرم وممن كرهه الشعبي, والنخعي ومحمد بن علي وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنه يحلب الفم, ويجمع الريق ويورث العطش ورخصت عائشة في مضغه وبه قال عطاء لأنه لا يصل إلى الجوف فهو كالحصاة يضعها في فيه, ومتى مضغه ولم يجد طعمه في حلقه لم يفطر وإن وجد طعمه في حلقه لم يفطر وإن وجد طعمه في حلقه ففيه وجهان أحدهما, يفطره كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه والثاني لا يفطره لأنه لم ينزل منه شيء, ومجرد الطعم لا يفطر بدليل أنه قد قيل: من لطخ باطن قدمه بالحنظل وجد طعمه, ولا يفطر بخلاف الكحل فإن أجزاءه تصل إلى الحلق, ويشاهد إذا تنخع قال أحمد: من وضع في فيه درهما أو دينارا وهو صائم ما لم يجد طعمه في حلقه فلا بأس به, وما يجد طعمه فلا يعجبني وقال عبد الله: سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط قال: يعجبني أن يبزق.
فصل: قال أحمد: أحب إلي أن يجتنب ذوق الطعام فإن فعل لم يضره, ولا بأس به قال ابن عباس: لا بأس أن يذوق الطعام والخل والشيء يريد شراءه والحسن كان يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم ورخص فيه إبراهيم قال ابن عقيل: يكره من غير حاجة ولا بأس به مع الحاجة فإن فعل فوجد طعمه في حلقه أفطر, وإلا لم يفطر.
فصل: قال أحمد: لا بأس بالسواك للصائم قال عامر بن ربيعة: (رأيت النبي -ﷺ- ما لا أحصي يتسوك وهو صائم) قال الترمذي: هذا حديث حسن وقال زياد بن حدير: ما رأيت أحدا كان أدوم لسواك رطب وهو صائم من عمر بن الخطاب, ولكنه يكون عودا ذاويا ولم ير أهل العلم بالسواك أول النهار بأسا إذا كان العود يابسا واستحب أحمد وإسحاق ترك السواك بالعشي قال أحمد: قال رسول الله -ﷺ-: (خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك الأذفر) لتلك الرائحة لا يعجبني للصائم أن يستاك بالعشي واختلفت الرواية عنه في التسوك بالعود الرطب فرويت عنه الكراهة وهو قول قتادة, والشعبي والحكم وإسحاق, ومالك في رواية لأنه مغرر بصومه لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء إلى حلقه فيفطره وروي عنه لا يكره وبه قال الثوري, والأوزاعي وأبو حنيفة وروي ذلك عن علي وابن عمر, وعروة ومجاهد لما رويناه من حديث عمر وغيره من الصحابة.
فصل: ومن أصبح بين أسنانه طعام لم يخل من حالين: أحدهما أن يكون يسيرا لا يمكنه لفظه فازدرده, فإنه لا يفطر به لأنه لا يمكن التحرز منه فأشبه الريق قال ابن المنذر: أجمع على ذلك أهل العلم الثاني, أن يكون كثيرا يمكن لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ازدرده عامدا, فسد صومه في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة: لا يفطر لأنه لا بد له أن يبقى بين أسنانه شيء مما يأكله فلا يمكن التحرز منه فأشبه ما يجري به الريق ولنا أنه بلع طعاما يمكنه لفظه باختياره, ذاكرا لصومه فأفطر به كما لو ابتدأ الأكل, ويخالف ما يجري به الريق فإنه لا يمكنه لفظه فإن قيل: يمكنه أن يبصق قلنا: لا يخرج جميع الريق ببصاقه وإن منع من ابتلاع ريقه كله لم يمكنه.
فصل: فإن قطر في إحليله دهنا ، لم يفطر به ، سواء وصل إلى المثانة ، أو لم يصل ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : يفطر ؛ لأنه أوصل الدهن إلى جوف في جسده ، فأفطر ، كما لو نوى الجائفة ، ولأن المني يخرج من الذكر فيفطره ، وما أفطر بالخارج منه جاز أن يفطر بالداخل منه ، كالفم . ولنا أنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ ، وإنما يخرج البول رشحا ، فالذي يتركه فيه لا يصل إلى الجوف ، فلا يفطره ، كالذي يتركه في فيه ولم يبتلعه .
الفصل الرابع: إذا قبل فأمنى أو أمذى, ولا يخلو المقبل من ثلاثة أحوال أحدها أن لا ينزل فلا يفسد صومه بذلك, لا نعلم فيه خلافا لما روت عائشة أن النبي -ﷺ- (كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لإربه) رواه البخاري, ومسلم ويروى بتحريك الراء وسكونها قال الخطابي: معناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها وقيل بالتسكين: العضو وبالفتح: الحاجة وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (هششت فقبلت وأنا صائم, فقلت: يا رسول الله: صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال: أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به قال: فمه؟) رواه أبو داود شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة, وأن المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر وإن كان معها نزوله أفطر إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث وقال: هذا ريح, ليس من هذا شيء الحال الثاني أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين ولأنه إنزال بمباشرة, فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج الحال الثالث أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر وروي ذلك عن الحسن, والشعبي والأوزاعي لأنه خارج لا يوجب الغسل, أشبه البول ولنا أنه خارج تخلله الشهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصوم كالمني وفارق البول بهذا واللمس لشهوة كالقبلة في هذا إذا ثبت هذا, فإن المقبل إذا كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل لم تحل له القبلة لأنها مفسدة لصومه, فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة لكنه لا يغلب على ظنه ذلك, كره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد وقد روي عن عمر أنه قال: رأيت رسول الله -ﷺ- في المنام, فأعرض عني فقلت له: ما لي؟ فقال: "إنك تقبل وأنت صائم" ولأن العبادة إذا منعت الوطء منعت القبلة كالإحرام ولا تحرم القبلة في هذه الحال لما روي (أن رجلا قبل وهو صائم, فأرسل امرأته فسألت النبي -ﷺ- فأخبرها النبي -ﷺ- أنه يقبل وهو صائم فقال الرجل: إن رسول الله -ﷺ- ليس مثلنا, قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فغضب النبي -ﷺ- وقال: إني لأخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) رواه مسلم بمعناه ولأن إفضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه ولا يثبت التحريم بالشك, فأما إن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته كالشيخ الهرم ففيه روايتان إحداهما, لا يكره له ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي -ﷺ- كان يقبل وهو صائم لما كان مالكا لإربه وغير ذي الشهوة في معناه وقد روى أبو هريرة (أن رجلا سأل النبي -ﷺ- عن المباشرة للصائم, فرخص له فأتاه آخر فسأله, فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب) أخرجه أبو داود ولأنها مباشرة لغير شهوة, فأشبهت لمس اليد لحاجة والثانية يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة ولأن الصوم عبادة تمنع الوطء, فاستوى في القبلة فيها من تحرك شهوته وغيره كالإحرام فأما اللمس لغير شهوة, كلمس يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه بحال لأن ذلك لا يكره في الإحرام فلا يكره في الصيام, كلمس ثوبها.
فصل: ولو استمنى بيده فقد فعل محرما ولا يفسد صومه به إلا أن ينزل فإن أنزل فسد صومه لأنه في معنى القبلة في إثارة الشهوة فأما إن أنزل لغير شهوة, كالذي يخرج منه المني أو المذي لمرض فلا شيء عليه لأنه خارج لغير شهوة أشبه البول, ولأنه يخرج من غير اختيار منه ولا تسبب إليه فأشبه الاحتلام ولو احتلم لم يفسد صومه, لأنه عن غير اختيار منه فأشبه ما لو دخل حلقه شيء وهو نائم ولو جامع في الليل فأنزل بعد ما أصبح, لم يفطر لأنه لم يتسبب إليه في النهار فأشبه ما لو أكل شيئا في الليل فذرعه القيء في النهار.
الفصل الخامس: إذا كرر النظر فأنزل, ولتكرار النظر أيضا ثلاثة أحوال أحدها أن لا يقترن به إنزال فلا يفسد الصوم بغير اختلاف الثاني, أن يقترن به إنزال المني فيفسد الصوم في قول إمامنا وعطاء, والحسن البصري ومالك والحسن بن صالح وقال جابر بن زيد, والثوري وأبو حنيفة والشافعي, وابن المنذر: لا يفسد لأنه إنزال عن غير مباشرة أشبه الإنزال بالفكر ولنا أنه إنزال بفعل يتلذذ به ويمكن التحرز منه, فأفسد الصوم كالإنزال باللمس والفكر لا يمكن التحرز منه, بخلاف تكرار النظر الثالث: مذي بتكرار النظر فظاهر كلام أحمد أنه لا يفطر به لأنه لا نص في الفطر ولا يمكن قياسه على إنزال المني, لمخالفته إياه في الأحكام فيبقى على الأصل فأما إن نظر فصرف بصره لم يفسد صومه, سواء أنزل أو لم ينزل وقال مالك: إن أنزل فسد صومه لأنه أنزل بالنظر أشبه ما لو كرره ولنا أن النظرة الأولى لا يمكن التحرز منها فلا يفسد الصوم ما أفضت إليه, كالفكرة وعليه يخرج التكرار فإذا ثبت هذا, فإن تكرار النظر مكروه لمن يحرك شهوته غير مكروه لمن لا يحرك شهوته كالقبلة ويحتمل أن لا يكره بحال لأن إفضاءه إلى الإنزال المفطر بعيد جدا, بخلاف القبلة فإن حصول المذي بها ليس ببعيد.
فصل: فإن فكر فأنزل لم يفسد صومه وحكي عن أبي حفص البرمكي, أنه يفسد واختاره ابن عقيل لأن الفكرة تستحضر فتدخل تحت الاختيار بدليل تأثيم صاحبها في مساكنتها, في بدعة وكفر ومدح الله سبحانه الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ونهى النبي -ﷺ- عن التفكر في ذات الله وأمر بالتفكر في آلائه, ولو كانت غير مقدور عليها لم يتعلق ذلك بها كالاحتلام فأما إن خطر بقلبه صورة الفعل فأنزل, لم يفسد صومه لأن الخاطر لا يمكن دفعه ولنا قول النبي -ﷺ-: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) ولأنه لا نص في الفطر به ولا إجماع, ولا يمكن قياسه على المباشرة ولا تكرار النظر لأنه دونهما في استدعاء الشهوة, وإفضائه إلى الإنزال ويخالفهما في التحريم إذا تعلق ذلك بأجنبية أو الكراهة إن كان في زوجة, فيبقى على الأصل.
الفصل السادس: أن المفسد للصوم من هذا كله ما كان عن عمد وقصد فأما ما حصل منه عن غير قصد كالغبار الذي يدخل حلقه من الطريق, ونخل الدقيق والذبابة التي تدخل حلقه أو يرش عليه الماء فيدخل مسامعه, أو أنفه أو حلقه أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه أو يسبق إلى حلقه من ماء المضمضة, أو يصب في حلقه أو أنفه شيء كرها أو تداوى مأمومته أو جائفته بغير اختياره أو يحجم كرها, أو تقبله امرأة بغير اختياره فينزل أو ما أشبه هذا فلا يفسد صومه, لا نعلم فيه خلافا لأنه لا فعل له فلا يفطر كالاحتلام وأما إن أكره على شيء من ذلك بالوعيد ففعله, فقال ابن عقيل: قال أصحابنا: لا يفطر به أيضا لقول النبي -ﷺ-: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) قال: ويحتمل عندي أن يفطر لأنه فعل المفطر لدفع الضرر عن نفسه فأشبه المريض يفطر لدفع المرض, ومن يشرب لدفع العطش ويفارق الملجأ لأنه خرج بذلك عن حيز الفعل ولذلك لا يضاف إليه, ولذلك افترقا فيما لو أكره على قتل آدمي وألقي عليه.
الفصل السابع: أنه متى أفطر بشيء من ذلك فعليه القضاء لا نعلم في ذلك خلافا لأن الصوم كان ثابتا في الذمة, فلا تبرأ منه إلا بأدائه ولم يؤده فبقي على ما كان عليه ولا كفارة في شيء مما ذكرناه, في ظاهر المذهب وهو قول سعيد بن جبير والنخعي وابن سيرين, وحماد والشافعي وعن أحمد أن الكفارة تجب على من أنزل بلمس أو قبلة أو تكرار نظر لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الإنزال بالجماع وعنه في المحتجم, إن كان عالما بالنهي فعليه الكفارة وقال عطاء في المحتجم: عليه الكفارة وقال مالك: تجب الكفارة بكل ما كان هتكا للصوم إلا الردة لأنه إفطار في رمضان أشبه الجماع وحكي عن عطاء, والحسن والزهري والثوري, والأوزاعي وإسحاق أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع وبه قال أبو حنيفة, إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به فلو ابتلع حصاة أو نواة أو فستقة بقشرها فلا كفارة عليه واحتجوا بأنه أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه, فوجبت عليه الكفارة كالمجامع ولنا أنه أفطر بغير جماع فلم توجب الكفارة كبلع الحصاة أو التراب, أو كالردة عند مالك ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا ولا إجماع ولا يصح قياسه على الجماع, لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس والحكم في التعدي به آكد ولهذا يجب به الحد إذا كان محرما, ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته ووجوب البدنة ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين, بخلاف غيره.
فصل: والواجب في القضاء عن كل يوم يوم في قول عامة الفقهاء وقال أحمد: قال إبراهيم ووكيع: يصوم ثلاثة آلاف يوم وعجب أحمد من قولهما وقال سعيد بن المسيب: من أفطر يوما متعمدا يصوم شهرا وحكي عن ربيعة أنه قال: يجب مكان كل يوم اثنا عشر يوما لأن رمضان يجزئ عن جميع السنة, وهي اثنا عشر شهرا ولنا قول الله تعالى: {فعدة من أيام أخر} وقال النبي -ﷺ- في قصة المجامع: (صم يوما مكانه) رواه أبو داود ولأن القضاء يكون على حسب الأداء بدليل سائر العبادات ولأن القضاء لا يختلف بالعذر وعدمه, بدليل الصلاة والحج وما ذكروه تحكم لا دليل عليه والتقدير لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع, وليس معهم واحد منهما وقول ربيعة يبطل بالمعذور وذكر لأحمد حديث أبي هريرة: (من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يقضه ولو صام الدهر) فقال: ليس يصح هذا الحديث.
مسألة: قال: [ وإن فعل ذلك ناسيا, فهو على صومه ولا قضاء عليه ] وجملته أن جميع ما ذكره الخرقي في هذه المسألة لا يفطر الصائم بفعله ناسيا وروي عن علي رضي الله عنه: لا شيء على من أكل ناسيا وهو قول أبي هريرة وابن عمر وعطاء, وطاوس وابن أبي ذئب والأوزاعي, والثوري والشافعي وأبي حنيفة, وإسحاق وقال ربيعة ومالك: يفطر لأن ما لا يصح الصوم مع شيء من جنسه عمدا, لا يجوز مع سهوه كالجماع وترك النية, ولنا: ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه وفي لفظ: (من أكل أو شرب ناسيا, فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله) ولأنها عبادة ذات تحليل وتحريم فكان في محظوراتها ما يختلف عمده وسهوه, كالصلاة والحج وأما النية فليس تركها فعلا ولأنها شرط والشروط لا تسقط بالسهو, بخلاف المبطلات والجماع حكمه أغلظ ويمكن التحرز عنه.
فصل: وإن فعل شيئا من ذلك وهو نائم, لم يفسد صومه لأنه لا قصد له ولا علم بالصوم فهو أعذر من الناسي وذكر أبو الخطاب أن من فعل من هذا شيئا جاهلا بتحريمه, لم يفطر ولم أره عن غيره وقول النبي -ﷺ-: (أفطر الحاجم والمحجوم) في حق الرجلين اللذين رآهما يحجم أحدهما صاحبه مع جهلهما بتحريمه, يدل على أن الجهل لا يعذر به ولأنه نوع جهل فلم يمنع الفطر, كالجهل بالوقت في حق من يأكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع.
مسألة: قال: [ ومن استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه ] معنى استقاء: تقيأ مستدعيا للقيء وذرعه: خروج من غير اختيار منه, فمن استقاء فعليه القضاء لأن صومه يفسد به ومن ذرعه فلا شيء عليه وهذا قول عامة أهل العلم قال الخطابي: لا أعلم بين أهل العلم فيه اختلافا وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أن القيء لا يفطر وروي أن النبي -ﷺ- قال (ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام) ولأن الفطر بما يدخل لا بما يخرج ولنا ما روى أبو هريرة, أن النبي -ﷺ- قال: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عامدا فليقض) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ورواه أبو داود وحديثهم غير محفوظ يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهو ضعيف في الحديث قاله الترمذي والمعنى الذي ذكر لهم يبطل بالحيض والمني.
فصل: وقليل القيء وكثيره سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد, والرواية الثانية لا يفطر إلا بملء الفم لأنه روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (ولكن دسعة تملأ الفم) ولأن اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفطر كالبلغم والثالثة نصف الفم, لأنه ينقض الوضوء فأفطر به كالكثير والأولى أولى لظاهر الحديث الذي رويناه ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها وحديث الرواية الثانية لا نعرف له أصلا ولا فرق بين كون القيء طعاما, أو مرارا أو بلغما أو دما, أو غيره لأن الجميع داخل تحت عموم الحديث والمعنى والله تعالى أعلم بالصواب.
مسألة: قال: [ ومن ارتد عن الإسلام فقد أفطر ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من ارتد عن الإسلام في أثناء الصوم, أنه يفسد صومه وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام سواء أسلم في أثناء اليوم, أو بعد انقضائه وسواء كانت ردته باعتقاده ما يكفر به أو شكه فيما يكفر بالشك فيه, أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزئا أو غير مستهزئ قال الله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} وذلك لأن الصوم عبادة من شرطها النية, فأبطلتها الردة كالصلاة والحج ولأنه عبادة محضة, فنافاها الكفر كالصلاة.
مسألة: قال: [ ومن نوى الإفطار فقد أفطر ] هذا الظاهر من المذهب وهو قول الشافعي وأبي ثور, وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا: إن عاد فنوى قبل أن ينتصف النهار أجزأه بناء على أصلهم أن الصوم يجزئ بنية من النهار وحكي عن ابن حامد أن الصوم لا يفسد بذلك لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها فلم تفسد بنية الخروج منها, كالحج ولنا أنها عبادة من شرطها النية ففسدت بنية الخروج منها كالصلاة, ولأن الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة ولكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها فإذا نواه زالت حقيقة وحكما, ففسد الصوم لزوال شرطه وما ذكره ابن حامد لا يطرد في غير رمضان ولا يصح القياس على الحج فإنه يصح بالنية المطلقة والمبهمة, وبالنية عن غيره إذا لم يكن حج عن نفسه فافترقا.
فصل: فأما صوم النافلة فإن نوى الفطر, ثم لم ينو الصوم بعد ذلك لم يصح صومه لأن النية انقطعت ولم توجد نية غيرها فأشبه من لم ينو أصلا وإن عاد فنوى الصوم, صح صومه كما لو أصبح غير ناو للصوم لأن نية الفطر إنما أبطلت الفرض لما فيه من قطع النية المشترطة في جميع النهار حكما وخلو بعض أجزاء النهار عنها والنفل مخالف للفرض في ذلك, فلم تمنع صحته نية الفطر في زمن لا يشترط وجود نية الصوم فيه ولأن نية الفطر لا تزيد على عدم النية في ذلك الوقت وعدمها لا يمنع صحة الصوم إذا نوى بعد ذلك, فكذلك إذا نوى الفطر ثم نوى الصوم بعده بخلاف الواجب, فإنه لا يصح بنية من النهار وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا أصبح صائما ثم عزم على الفطر, فلم يفطر حتى بدا له ثم قال: لا بل أتم صومي من الواجب لم يجزئه حتى يكون عازما على الصوم يومه كله, ولو كان تطوعا كان أسهل وظاهر هذا موافق لما ذكرناه وقد دل على صحته أن النبي -ﷺ- (كان يسأل أهله: هل من غداء؟ فإن قالوا: لا قال: إني إذا صائم).
مسألة: قال: [ ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل, أو دون الفرج فأنزل عامدا أو ساهيا فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا, في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل أنه يفسد صومه إذا كان عامدا, وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك وهذه المسألة فيها مسائل أربع:
إحداها: أن من أفسد صوما واجبا بجماع فعليه القضاء, سواء كان في رمضان أو غيره وهذا قول أكثر الفقهاء وقال الشافعي في أحد قوليه: من لزمته الكفارة لا قضاء عليه لأن النبي -ﷺ- لم يأمر الأعرابي بالقضاء وحكي عن الأوزاعي أنه قال: إن كفر بالصيام فلا قضاء عليه لأنه صام شهرين متتابعين ولنا أن النبي -ﷺ- قال للمجامع: (وصم يوما مكانه) رواه أبو داود بإسناده, وابن ماجه والأثرم ولأنه أفسد يوما من رمضان فلزمه قضاؤه, كما لو أفسده بالأكل أو أفسد صومه الواجب بالجماع فلزمه قضاؤه, كغير رمضان.
المسألة الثانية: أن الكفارة تلزم من جامع في الفرج في رمضان عامدا أنزل أو لم ينزل في قول عامة أهل العلم وحكي عن الشعبي والنخعي, وسعيد بن جبير: لا كفارة عليه لأن الصوم عبادة لا تجب الكفارة بإفساد قضائها فلا تجب في أدائها كالصلاة ولنا: ما روى الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: بينا نحن جلوس عند النبي -ﷺ- (إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت قال ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله -ﷺ- هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا, قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا قال: فمكث النبي -ﷺ- فبينا نحن على ذلك أتى النبي -ﷺ- بعرق فيه تمر والعرق: المكتل فقال: أين السائل؟ فقال: أنا, قال: خذ هذا فتصدق به فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي -ﷺ- حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك) متفق عليه ولا يجوز اعتبار الأداء في ذلك بالقضاء لأن الأداء يتعلق بزمن مخصوص يتعين به, والقضاء محله الذمة والصلاة لا يدخل في جبرانها المال بخلاف مسألتنا.
المسألة الثالثة: أن الجماع دون الفرج, إذا اقترن به الإنزال فيه عن أحمد روايتان إحداهما عليه الكفارة, وهذا قول مالك وعطاء والحسن وابن المبارك وإسحاق لأنه فطر بجماع, فأوجب الكفارة كالجماع في الفرج والثانية: لا كفارة فيه وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة لأنه فطر بغير جماع تام, فأشبه القبلة ولأن الأصل عدم وجوب الكفارة ولا نص في وجوبها ولا إجماع ولا قياس, ولا يصح القياس على الجماع في الفرج لأنه أبلغ بدليل أنه يوجبها من غير إنزال ويجب به الحد إذا كان محرما, ويتعلق به اثنا عشر حكما ولأن العلة في الأصل الجماع بدون الإنزال والجماع ها هنا غير موجب فلم يصح اعتباره به.
المسألة الرابعة: أنه جامع ناسيا, فظاهر المذهب أنه كالعامد نص عليه أحمد وهو قول عطاء وابن الماجشون وروى أبو داود عن أحمد, أنه توقف عن الجواب وقال: أجبن أن أقول فيه شيئا وأن أقول ليس عليه شيء قال: سمعته غير مرة لا ينفذ له فيه قول ونقل أحمد بن القاسم عنه: كل أمر غلب عليه الصائم, ليس عليه قضاء ولا غيره قال أبو الخطاب: هذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة مع الإكراه والنسيان وهو قول الحسن ومجاهد والثوري, والشافعي وأصحاب الرأي لأنه معنى حرمه الصوم فإذا وجد منه مكرها أو ناسيا, لم يفسده كالأكل وكان مالك والأوزاعي والليث, يوجبون القضاء دون الكفارة لأن الكفارة لرفع الإثم وهو محطوط عن الناسي ولنا أن النبي -ﷺ- أمر الذي قال: وقعت على امرأتي بالكفارة ولم يسأله عن العمد, ولو افترق الحال لسأل واستفصل ولأنه يجب التعليل بما تناوله لفظ السائل وهو الوقوع على المرأة في الصوم ولأن السؤال كالمعاد في الجواب, فكأن النبي -ﷺ- قال: (من وقع على أهله في رمضان فليعتق رقبة) فإن قيل: ففي الحديث ما يدل على العمد وهو قوله: هلكت وروي: احترقت قلنا: يجوز أن يخبر عن هلكته لما يعتقده في الجماع مع النسيان من إفساد الصوم وخوفه من غير ذلك, ولأن الصوم عبادة تحرم الوطء فاستوى فيها عمده وسهوه كالحج, ولأن إفساد الصوم ووجوب الكفارة حكمان يتعلقان بالجماع لا تسقطهما الشبهة فاستوى فيهما العمد والسهو, كسائر أحكامه.
فصل: ولا فرق بين كون الفرج قبلا أو دبرا من ذكر أو أنثى وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في أشهر الروايتين عنه: لا كفارة في الوطء في الدبر لأنه لا يحصل به الإحلال ولا الإحصان, فلا يوجب الكفارة كالوطء دون الفرج ولنا أنه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج فأوجب الكفارة, كالوطء وأما الوطء دون الفرج فلنا فيه منع, وإن سلمنا فلأن الجماع دون الفرج لا يفسد الصوم بمجرده بخلاف الوطء في الدبر.
فصل: فأما الوطء في فرج البهيمة فذكر القاضي أنه موجب للكفارة لأنه وطء في فرج موجب للغسل, مفسد للصوم فأشبه وطء الآدمية وفيه وجه آخر لا تجب به الكفارة وذكره أبو الخطاب لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه, فإنه مخالف لوطء الآدمية في إيجاب الحد على إحدى الروايتين وفي كثير من أحكامه ولا فرق بين كون الموطوءة زوجة أو أجنبية أو كبيرة أو صغيرة لأنه إذا وجب بوطء الزوجة, فبوطء الأجنبية أولى.
فصل: ويفسد صوم المرأة بالجماع بغير خلاف نعلمه في المذهب لأنه نوع من المفطرات فاستوى فيه الرجل والمرأة, كالأكل وهل يلزمها الكفارة؟ على روايتين إحداهما يلزمها وهو اختيار أبي بكر وقول مالك, وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر ولأنها هتكت صوم رمضان بالجماع, فوجبت عليها الكفارة كالرجل والثانية لا كفارة عليها قال أبو داود: سئل أحمد عن من أتى أهله في رمضان أعليها كفارة؟ قال: ما سمعنا أن على امرأة كفارة وهذا قول الحسن, وللشافعي قولان كالروايتين ووجه ذلك أن النبي -ﷺ- أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة ولم يأمر في المرأة بشيء مع علمه بوجود ذلك منها, ولأنه حق مال يتعلق بالوطء من بين جنسه فكان على الرجل كالمهر.
فصل: وإن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها, رواية واحدة وعليها القضاء قال مهنا: سألت أحمد عن امرأة غصبها رجل نفسها فجامعها, أعليها القضاء؟ قال: نعم قلت: وعليها كفارة؟ قال: لا وهذا قول الحسن ونحو ذلك قول الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وعلى قياس ذلك, إذا وطئها نائمة وقال مالك في النائمة: عليها القضاء بلا كفارة والمكرهة عليها القضاء والكفارة وقال الشافعي وأبو ثور, وابن المنذر: إن كان الإكراه بوعيد حتى فعلت كقولنا وإن كان إلجاء لم تفطر وكذلك إن وطئها وهي نائمة ويخرج من قول أحمد - في رواية ابن القاسم - كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره أنه لا قضاء عليها إذا كانت ملجأة أو نائمة لأنها لم يوجد منها فعل, فلم تفطر كما لو صب في حلقها ماء بغير اختيارها ووجه الأول أنه جماع في الفرج, فأفسد الصوم كما لو أكرهت بالوعيد ولأن الصوم عبادة يفسدها الوطء, ففسدت به على كل حال كالصلاة والحج ويفارق الأكل فإنه يعذر فيه بالنسيان, بخلاف الجماع.
فصل: فإن تساحقت امرأتان ، فلم ينزلا ، فلا شيء عليهما . وإن أنزلتا ، فسد صومهما . وهل يكون حكمهما حكم المجامع دون الفرج إذا أنزل ، أو لا يلزمهما كفارة بحال ؟ فيه وجهان ، مبنيان على أن الجماع من المرأة هل يوجب الكفارة ؟ على روايتين ، وأصح الوجهين ، أنهما لا كفارة عليهما ؛ لأن ذلك ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص عليه ، فيبقى على الأصل . وإن ساحق المجبوب فأنزل ، فحكمه حكم من جامع دون الفرج فأنزل .
فصل: وإن جامعت المرأة ناسية للصوم فقال أبو الخطاب: حكم النسيان حكم الإكراه ولا كفارة عليها فيهما وعليها القضاء لأن الجماع يحصل به الفطر في حق الرجل مع النسيان, فكذلك في حق المرأة ويحتمل أن لا يلزمها القضاء لأنه مفسد لا يوجب الكفارة فأشبه الأكل. فصل:
وإن أكره الرجل على الجماع فسد صومه لأنه إذا أفسد صوم المرأة فصوم الرجل أولى وأما الكفارة, فقال القاضي: عليه الكفارة لأن الإكراه على الوطء لا يمكن لأنه لا يطأ حتى ينتشر ولا ينتشر إلا عن شهوة, فكان كغير المكره وقال أبو الخطاب: فيه روايتان إحداهما لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو ماحية للذنب, ولا حاجة إليها مع الإكراه لعدم الإثم فيه ولقول النبي -ﷺ- (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان, وما استكرهوا عليه) ولأن الشرع لم يرد بوجوب الكفارة فيه ولا يصح قياسه على ما ورد الشرع فيه لاختلافهما في وجود العذر وعدمه فأما إن كان نائما, مثل أن كان عضوه منتشرا في حال نومه فاستدخلته امرأته فقال ابن عقيل: لا قضاء عليه ولا كفارة وكذلك إن كان إلجاء مثل أن غلبته في حال يقظته على نفسه وهذا مذهب الشافعي لأنه معنى حرمه الصوم حصل بغير اختياره, فلم يفطر به كما لو أطارت الريح إلى حلقه ذبابة وظاهر كلام أحمد أن عليه القضاء لأنه قال في المرأة إذا غصبها رجل نفسها فجامعها: عليها القضاء فالرجل أولى ولأن الصوم عبادة يفسدها الجماع, فاستوى في ذلك حالة الاختيار والإكراه كالحج ولا يصح قياس الجماع على غيره في عدم الإفساد لتأكده بإيجاب الكفارة, وإفساده للحج من بين سائر محظوراته وإيجاب الحد به إذا كان زنا. فصل:
ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء وقال قتادة: تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في أدائها, فوجبت في قضائها كالحج ولنا أنه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفارة, كما لو جامع في صيام الكفارة ويفارق القضاء الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له, بخلاف القضاء. فصل:
وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جن أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار, لم تسقط الكفارة وبه قال مالك والليث وابن الماجشون, وإسحاق وقال أصحاب الرأي: لا كفارة عليهم وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقا فلم يجب بالوطء فيه كفارة كصوم المسافر, أو كما لو قامت البينة أنه من شوال ولنا: أنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها كالسفر, ولأنه أفسد صوما واجبا في رمضان بجماع تام فاستقرت الكفارة عليه كما لو لم يطرأ عذر, والوطء في صوم المسافر ممنوع وإن سلم فالوطء ثم لم يوجب أصلا لأنه وطء مباح, في سفر أبيح الفطر فيه بخلاف مسألتنا وكذا إذا تبين أنه من شوال, فإن الوطء غير موجب لأنا تبينا أن الوطء لم يصادف رمضان والموجب إنما هو الوطء المفسد لصوم رمضان. فصل:
إذا طلع الفجر وهو مجامع, فاستدام الجماع فعليه القضاء والكفارة وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يجب القضاء دون الكفارة لأن وطأه لم يصادف صوما صحيحا, فلم يوجب الكفارة كما لو ترك النية وجامع ولنا أنه ترك صوم رمضان بجماع أثم به لحرمة الصوم فوجبت به الكفارة, كما لو وطئ بعد طلوع الفجر وعكسه إذا لم ينو فإنه يتركه لترك النية لا الجماع, ولنا فيه منع أيضا وأما إن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر فقال ابن حامد والقاضي: عليه الكفارة أيضا لأن النزع جماع يلتذ به فتعلق به ما يتعلق بالاستدامة, كالإيلاج وقال أبو حفص: لا قضاء عليه ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه ترك للجماع فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع, كما لو حلف لا يدخل دارا وهو فيها فخرج منها كذلك ها هنا وقال مالك: يبطل صومه, ولا كفارة عليه لأنه لا يقدر على أكثر مما فعله في ترك الجماع فأشبه المكره وهذه المسألة تقرب من الاستحالة إذ لا يكاد يعلم أول طلوع الفجر على وجه يتعقبه النزع, من غير أن يكون قبله شيء من الجماع فلا حاجة إلى فرضها والكلام فيها. فصل:
ومن جامع يظن أن الفجر لم يطلع, فتبين أنه كان قد طلع فعليه القضاء والكفارة وقال أصحاب الشافعي: لا كفارة عليه ولو علم في أثناء الوطء فاستدام فلا كفارة عليه أيضا لأنه إذا لم يعلم لم يأثم, فلا يجب به كفارة كوطء الناسي وإن علم فاستدام فقد حصل الوطء الذي يأثم به في غير صوم ولنا حديث المجامع, إذ أمره النبي -ﷺ- بالتكفير من غير تفريق ولا تفصيل ولأنه أفسد صوم رمضان بجماع تام فوجبت عليه الكفارة, كما لو علم ووطء الناسي ممنوع ثم لا يحصل به الفطر على الرواية الأخرى بخلاف مسألتنا. مسألة:
قال: [ والكفارة عتق رقبة, فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ] المشهور من مذهب أبي عبد الله أن كفارة الوطء في رمضان ككفارة الظهار في الترتيب, يلزمه العتق إن أمكنه فإن عجز عنه انتقل إلى الصيام فإن عجز انتقل إلى إطعام ستين مسكينا وهذا قول جمهور العلماء وبه يقول الثوري, والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى, أنها على التخيير بين العتق والصيام والإطعام وبأيها كفر أجزأه وهو رواية عن مالك لما روى مالك وابن جريج عن الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة (أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله -ﷺ- أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين, أو إطعام ستين مسكينا) رواه مسلم و "أو" حرف تخيير ولأنها تجب بالمخالفة فكانت على التخيير ككفارة اليمين وروي عن مالك, أنه قال: الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في نهار رمضان إطعام ستين مسكينا أو صيام ذلك اليوم, وليس التحرير والصيام من كفارة رمضان في شيء وهذا القول ليس بشيء لمخالفته الحديث الصحيح مع أنه ليس له أصل يعتمد عليه ولا شيء يستند إليه, وسنة رسول الله -ﷺ- أحق أن تتبع وأما الدليل على وجوب الترتيب فالحديث الصحيح رواه معمر ويونس, والأوزاعي والليث وموسى بن عقبة, وعبيد الله بن عمر وعراك بن مالك وإسماعيل بن أمية, ومحمد بن أبي عتيق وغيرهم عن الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله -ﷺ- (قال للواقع على أهله: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال:) لا وذكر سائر الحديث وهذا لفظ الترتيب, والأخذ بهذا أولى من رواية مالك لأن أصحاب الزهري اتفقوا على روايته هكذا سوى مالك وابن جريج فيما علمنا, واحتمال الغلط فيهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه ولأن الترتيب زيادة والأخذ بالزيادة متعين ولأن حديثنا لفظ النبي -ﷺ- وحديثهم لفظ الراوي ويحتمل أنه رواه بـ "أو" لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء, ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكانت على الترتيب ككفارة الظهار والقتل. فصل:
فإذا عدم الرقبة, انتقل إلى صيام شهرين متتابعين ولا نعلم خلافا في دخول الصيام في كفارة الوطء إلا شذوذا لا يعرج عليه, لمخالفة السنة الثابتة ولا خلاف بين من أوجبه أنه شهران متتابعان للخبر أيضا فإن لم يشرع في الصيام حتى وجد الرقبة لزمه العتق لأن النبي -ﷺ- سأل المواقع عما يقدر عليه حين أخبره بالعتق, ولم يسأله عما كان يقدر عليه حالة المواقعة وهي حالة الوجوب ولأنه وجد المبدل قبل التلبس بالبدل, فلزمه كما لو كان واجدا له حال الوجوب وإن شرع في الصوم قبل القدرة على الإعتاق ثم قدر عليه, لم يلزمه الخروج إليه إلا أن يشاء العتق فيجزئه ويكون قد فعل الأولى وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج لأنه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل, فبطل حكم المبدل كالمتيمم يرى الماء ولنا أنه شرع في الكفارة الواجبة عليه فأجزأته, كما لو استمر العجز إلى فراغها وفارق العتق التيمم لوجهين: أحدهما أن التيمم لا يرفع الحدث, وإنما يستره فإذا وجد الماء ظهر حكمه بخلاف الصوم, فإنه يرفع حكم الجماع بالكلية الثاني أن الصيام تطول مدته فيشق إلزامه الجمع بينه وبين العتق, بخلاف الوضوء والتيمم. مسألة:
قال: [ فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير ] لا نعلم خلافا بين أهل العلم في دخول الإطعام في كفارة الوطء في رمضان في الجملة, وهو مذكور في الخبر والواجب فيه إطعام ستين مسكينا في قول عامتهم, وهو في الخبر أيضا ولأنه إطعام في كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكان إطعام ستين مسكينا ككفارة الظهار واختلفوا في قدر ما يطعم كل مسكين فذهب أحمد إلى أن لكل مسكين مد بر, وذلك خمسة عشر صاعا أو نصف صاع من تمر أو شعير فيكون الجميع ثلاثين صاعا وقال أبو حنيفة من البر لكل مسكين نصف صاع, ومن غيره صاع لقول النبي -ﷺ- في حديث سلمة بن صخر: (فأطعم وسقا من تمر) رواه أبو داود وقال أبو هريرة: يطعم مدا من أي الأنواع شاء وبهذا قال عطاء والأوزاعي والشافعي لما روى أبو هريرة, في حديث المجامع أن النبي -ﷺ- أتى بمكتل من تمر قدره خمسة عشر صاعا, فقال: (خذ هذا فأطعمه عنك) رواه أبو داود ولنا ما روى أحمد حدثنا إسماعيل, حدثنا أيوب عن أبي يزيد المدني قال: (جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله -ﷺ- للمظاهر: أطعم هذا, فإن مدي شعير مكان مد بر) ولأن فدية الأذى نصف صاع من التمر والشعير بلا خلاف فكذا هذا والمد من البر يقوم مقام نصف صاع من غيره, بدليل حديثنا ولأن الإجزاء بمد منه قول ابن عمر وابن عباس, وأبي هريرة وزيد ولا مخالف لهم في الصحابة وأما حديث سلمة بن صخر فقد اختلف فيه, وحديث أصحاب الشافعي يجوز أن يكون الذي أتي به النبي -ﷺ- قاصرا عن الواجب فاجتزئ به لعجز المكفر عما سواه. فصل:
فإن أخرج من الدقيق أو السويق أجزأ ؛ لما ذكرناه فيما تقدم . وإن غدى المساكين أو عشاهم ، لم يجزئه ، في أظهر الروايتين عنه . وهو ظاهر كلام الخرقي ؛ لأنه قدر ما يجزئ في الدفع بمد أو نصف صاع ، وإذا أطعمهم لا يعلم أن كل واحد منهم استوفى الواجب له ، ووجه ذلك أن النبي ﷺ بين قدر ما يطعمه كل مسكين بما ذكرنا من الأحاديث ، وهي مقيدة لمطلق الإطعام المذكور ، والمطلق يحمل على المقيد ، ولا يعلم أن كل مسكين استوفى ما يجب له ، ولأن الواجب تمليك المسكين طعامه ، والإطعام إباحة ، وليس بتمليك . فعلى هذه الرواية ؛ إن أفرد لكل مسكين قدر الواجب له ، فأطعمه إياه ، نظرت ؛ فإن قال : هذا لك تتصرف فيه كيف شئت . أجزأه ؛ لأنه قد ملكه إياه . وإن لم يقل له شيئا ، احتمل أن يجزئه ؛ لأنه قد أطعمه ما يجب له ، فأشبه ما لو ملكه ، واحتمل أن لا يجزئه ؛ لأنه لم يملكه إياه . والرواية الثانية ، يجزئه أن يجمع ستين مسكينا فيطعمهم . قال أبو داود : سمعت أحمد يسأل عن امرأة أفطرت رمضان ، ثم أدركها رمضان آخر ، ثم ماتت . قال : كم أفطرت ؟ قال : ثلاثين يوما . قال : فاجمع ثلاثين مسكينا ، وأطعمهم مرة واحدة ، وأشبعهم . وذلك لأن النبي ﷺ قال للمجامع : ( أطعم ستين مسكينا ) . وهذا قد أطعمهم ، وقال الله تعالى { فإطعام ستين مسكينا } . وقال في كفارة اليمين : { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } . وهذا قد أطعمهم . وروي عن أنس ، أنه أفطر في رمضان ، فجمع المساكين ، ووضع جفانا فأطعمهم . ولأنه أطعم ستين مسكينا فأجزأه ، كما لو ملكه إياه . فعلى هذه الرواية ، إن أطعمهم قدر الواجب لهم أجزأه ، وإن أطعمهم دون ذلك فأشبعهم ، فظاهر كلام أحمد أنه يجزئه ؛ لأنه قد أطعمهم . ويحتمل أن لا يجزئه ؛ لأنه لم يطعمهم ما وجب لهم . فصل:
ويجزئ في الكفارة ما يجزئ في الفطرة من البر والشعير ودقيقهما, والتمر والزبيب وفي الأقط وجهان وفي الخبز روايتان, وكذلك يخرج في السويق فإن كان قوته غير ذلك من الحبوب كالدخن والذرة, والأرز ففيه وجهان أحدهما لا يجزئ ذكره القاضي لأنه لا يجزئ في الفطرة والثاني, يجزئ اختاره أبو الخطاب لقول الله تعالى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} ولأن النبي -ﷺ- أمر بالإطعام مطلقا ولم يرد تقييده بشيء من الأجناس فوجب إبقاؤه على إطلاقه, ولأنه أطعم المسكين من طعامه فأجزأه كما لو كان طعامه برا فأطعمه منه, وهذا أظهر. فصل:
وإن عجز عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين, بدليل أن الأعرابي لما دفع إليه النبي -ﷺ- التمر وأخبره بحاجته إليه قال: (أطعمه أهلك) ولم يأمره بكفارة أخرى وهذا قول الأوزاعي وقال الزهري: لا بد من التكفير, وهذا خاص لذلك الأعرابي لا يتعداه بدليل أنه أخبر النبي -ﷺ- بإعساره قبل أن يدفع إليه العرق, ولم يسقطها عنه ولأنها كفارة واجبة فلم تسقط بالعجز عنها, كسائر الكفارات وهذا رواية ثانية عن أحمد وهو قياس قول أبي حنيفة والثوري, وأبي ثور وعن الشافعي كالمذهبين ولنا الحديث المذكور ودعوى التخصيص لا تسمع بغير دليل وقولهم: إنه أخبر النبي -ﷺ- بعجزه فلم يسقطها قلنا: قد أسقطها عنه بعد ذلك وهذا آخر الأمرين من رسول الله -ﷺ- ولا يصح القياس على سائر الكفارات لأنه اطراح للنص بالقياس, والنص أولى والاعتبار بالعجز في حالة الوجوب وهي حالة الوطء.
مسألة: قال: [ وإن جامع, فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة ] وجملته أنه إذا جامع ثانيا قبل التكفير عن الأول لم يخل من أن يكون في يوم واحد, أو في يومين فإن كان في يوم واحد فكفارة واحدة تجزئه, بغير خلاف بين أهل العلم وإن كان في يومين من رمضان ففيه وجهان أحدهما, تجزئه كفارة واحدة وهو ظاهر إطلاق الخرقي واختيار أبي بكر ومذهب الزهري, والأوزاعي وأصحاب الرأي لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فيجب أن تتداخل كالحد والثاني: لا تجزئ واحدة, ويلزمه كفارتان اختاره القاضي وبعض أصحابنا وهو قول مالك والليث, والشافعي وابن المنذر وروي ذلك عن عطاء ومكحول لأن كل يوم عبادة منفردة, فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين وكالحجتين.
مسألة: قال: [ وإن كفر, ثم جامع ثانية فكفارة ثانية ] وجملته أنه إذا كفر ثم جامع ثانية, لم يخل من أن يكون في يوم واحد أو في يومين فإن كان في يومين, فعليه كفارة ثانية بغير خلاف نعلمه وإن كان في يوم واحد فعليه كفارة ثانية نص عليه أحمد وكذلك يخرج في كل من لزمه الإمساك وحرم عليه الجماع في نهار رمضان وإن لم يكن صائما, مثل من لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامدا, ثم جامع فإنه يلزمه كفارة وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي: لا شيء عليه بذلك الجماع لأنه لم يصادف الصوم ولم يمنع صحته فلم يوجب شيئا, كالجماع في الليل ولنا أن الصوم في رمضان عبادة تجب الكفارة بالجماع فيها فتكررت بتكرر الوطء إذا كان بعد التكفير كالحج, ولأنه وطء محرم لحرمة رمضان فأوجب الكفارة كالأول وفارق الوطء في الليل, فإنه غير محرم فإن قيل: الوطء الأول تضمن هتك الصوم وهو مؤثر في الإيجاب فلا يصح إلحاق غيره به قلنا: هو ملغي بمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام, فإنه تلزمه الكفارة مع أنه لم يهتك الصوم.
فصل: إذا أصبح مفطرا يعتقد أنه من شعبان فقامت البينة بالرؤية, لزمه الإمساك والقضاء في قول عامة الفقهاء إلا ما روي عن عطاء أنه قال: يأكل بقية يومه قال ابن عبد البر: لا نعلم أحدا قاله غير عطاء وذكر أبو الخطاب ذلك رواية عن أحمد ولا أعلم أحدا ذكرها غيره, وأظن هذا غلطا فإن أحمد قد نص على إيجاب الكفارة على من وطئ ثم كفر ثم عاد فوطئ في يومه لأن حرمة اليوم لم تذهب فإذا أوجب الكفارة على غير الصائم لحرمة اليوم فكيف يبيح الأكل, ولا يصح قياس هذا على المسافر إذا قدم وهو مفطر وأشباهه لأن المسافر كان له الفطر ظاهرا وباطنا وهذا لم يكن له الفطر في الباطن مباحا فأشبه من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع فإذا تقرر هذا, فإن جامع فيه فعليه القضاء والكفارة كالذي أصبح لا ينوي الصيام, أو أكل ثم جامع وإن كان جماعه قبل قيام البينة فحكمه حكم من جامع يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع على ما مضى فيه.
فصل: وكل من أفطر والصوم لازم له كالمفطر بغير عذر, والمفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أو الناسي لنية الصوم, ونحوهم يلزمهم الإمساك لا نعلم بينهم فيه اختلافا إلا أنه يخرج على قول عطاء في المعذور في الفطر إباحة فطر بقية يومه, قياسا على قوله فيما إذا قامت البينة بالرؤية وهو قول شاذ لم يعرج عليه أهل العلم.
فصل: فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا كالحائض والنفساء والمسافر, والصبي والمجنون والكافر, والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار فطهرت الحائض والنفساء, وأقام المسافر وبلغ الصبي وأفاق المجنون, وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان إحداهما, يلزمهم الإمساك في بقية اليوم وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي, والحسن بن صالح والعنبري لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك, كقيام البينة بالرؤية والثانية لا يلزمهم الإمساك وهو قول مالك والشافعي وروي ذلك عن جابر بن زيد, وروي عن ابن مسعود أنه قال: من أكل أول النهار فليأكل آخره ولأنه أبيح له فطر أول النهار ظاهرا وباطنا فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النهار كما لو دام العذر فإذا جامع أحد هؤلاء, بعد زوال عذره انبنى على الروايتين في وجوب الإمساك فإن قلنا: يلزمه الإمساك فحكمه حكم من قامت البينة بالرؤية في حقه إذا جامع وإن قلنا: لا يلزمه الإمساك فلا شيء عليه فإن كان أحد الزوجين من أحد هؤلاء والآخر لا عذر له, فلكل واحد حكم نفسه على ما مضى وإن كانا جميعا معذورين فحكمهما ما ذكرناه سواء اتفق عذرهما, مثل أن يقدما من سفر أو يصحا من مرض أو اختلف, مثل أن يقدم الزوج من سفر وتطهر المرأة من الحيض فيصيبها وقد روي عن جابر بن يزيد أنه قدم من سفر, فوجد امرأته قد طهرت من حيض فأصابها فأما إن نوى الصوم في سفره أو مرضه أو صغره ثم زال عذره في أثناء النهار, لم يجز له الفطر رواية واحدة وعليه الكفارة إن وطئ وقال بعض أصحاب الشافعي, في المسافر خاصة: وجهان أحدهما له الفطر لأنه أبيح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا فكانت له استدامته, كما لو قدم مفطرا وليس بصحيح فإن سبب الرخصة زال قبل الترخص فلم يكن له ذلك كما لو قدمت به السفينة قبل قصر الصلاة, وكالمريض يبرأ والصبي يبلغ وهذا ينقض ما ذكروه ولو علم الصبي أنه يبلغ في أثناء النهار بالسن أو علم المسافر أنه يقدم, لم يلزمهما الصيام قبل زوال عذرهما لأن سبب الرخصة موجود فيثبت حكمها كما لو لم يعلما ذلك.
فصل: ويلزم المسافر والحائض والمريض القضاء, إذا أفطروا بغير خلاف لقول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} والتقدير: فأفطر وقالت عائشة: كنا نحيض على عهد رسول الله -ﷺ- فنؤمر بقضاء الصوم وإن أفاق المجنون أو بلغ الصبي, أو أسلم الكافر في أثناء النهار والصبي مفطر, ففي وجوب القضاء روايتان إحداهما لا يلزمهم ذلك لأنهم لم يدركوا وقتا يمكنهم التلبس بالعبادة فيه فأشبه ما لو زال عذرهم بعد خروج الوقت والثانية: يلزمهم القضاء لأنهم أدركوا بعض وقت العبادة, فلزمهم القضاء كما لو أدركوا بعض وقت الصلاة.
مسألة: قال: [ وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع, أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء ] هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم وحكي عن عروة, ومجاهد والحسن وإسحاق: لا قضاء عليهم لما روى زيد بن وهب قال: كنت جالسا في مسجد رسول الله -ﷺ- في رمضان, في زمن عمر بن الخطاب فأتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة فشربنا, ونحن نرى أنه من الليل ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة قال: فجعل الناس يقولون: نقضي يوما مكانه فقال عمر: والله لا نقضيه, ما تجانفنا لإثم ولأنه لم يقصد الأكل في الصوم فلم يلزمه القضاء كالناسي ولنا أنه أكل مختارا, ذاكرا للصوم فأفطر كما لو أكل يوم الشك, ولأنه جهل بوقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان, ولأنه يمكن التحرز منه فأشبه أكل العامد وفارق الناسي, فإنه لا يمكن التحرز منه وأما الخبر فرواه الأثرم أن عمر قال: من أكل فليقض يوما مكانه ورواه مالك في "الموطأ" أن عمر قال: الخطب يسير يعني خفة القضاء وروى هشام بن عروة عن فاطمة امرأته عن أسماء قالت: (أفطرنا على عهد رسول الله -ﷺ- في يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: لا بد من قضاء؟) أخرجه البخاري.
فصل: وإن أكل شاكا في طلوع الفجر, ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر نص عليه أحمد وهذا قول ابن عباس, وعطاء والأوزاعي والشافعي, وأصحاب الرأي وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم وقال مالك يجب القضاء لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته, فلا يسقط بالشك ولأنه أكل شاكا في النهار والليل فلزمه القضاء, كما لو أكل شاكا في غروب الشمس ولنا قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} مد الأكل إلى غاية التبين وقد يكون شاكا قبل التبين فلو لزمه القضاء لحرم عليه الأكل, وقال النبي -ﷺ-: (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) وكان رجلا أعمى, لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت ولأن الأصل بقاء الليل فيكون زمان الشك منه ما لم يعلم يقين زواله بخلاف غروب الشمس, فإن الأصل بقاء النهار فبني عليه.
فصل: وإن أكل شاكا في غروب الشمس ولم يتبين, فعليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار وإن كان حين الأكل ظانا أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الأكل, ولم يتبين فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بنى عليه فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد, ثم شك في الإصابة بعد صلاته. مسألة: قال: [ ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر وهو على صومه ] وجملته أن الجنب له أن يؤخر الغسل حتى يصبح, ثم يغتسل ويتم صومه في قول عامة أهل العلم, منهم علي وابن مسعود وزيد, وأبو الدرداء وأبو ذر وابن عمر, وابن عباس وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي, في أهل الحجاز وأبو حنيفة والثوري, في أهل العراق والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر, وإسحاق وأبو عبيدة في أهل الحديث, وداود في أهل الظاهر وكان أبو هريرة يقول: لا صوم له ويروى ذلك عن النبي -ﷺ- ثم رجع عنه قال سعيد بن المسيب: رجع أبو هريرة عن فتياه وحكي عن الحسن, وسالم بن عبد الله قالا: يتم صومه ويقضي وعن النخعي في رواية: يقضي في الفرض دون التطوع وعن عروة وطاوس: إن علم بجنابته في رمضان, فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر وإن لم يعلم, فهو صائم وحجتهم حديث أبي هريرة الذي رجع عنه ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: (ذهبت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة, فقالت: أشهد على رسول الله -ﷺ- إن كان ليصبح جنبا من جماع من غير احتلام, ثم يصومه) ثم دخلنا على أم سلمة فقالت مثل ذلك ثم أتينا أبا هريرة, فأخبرناه بذلك فقال: هما أعلم بذلك إنما حدثنيه الفضل بن عباس متفق عليه قال الخطابي: أحسن ما سمعت في خبر أبي هريرة أنه منسوخ لأن الجماع كان محرما على الصائم بعد النوم, فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم وروت عائشة (أن رجلا قال لرسول الله -ﷺ-: إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال رسول الله -ﷺ-: وأنا أصبح جنبا, وأنا أريد الصيام فقال له الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله -ﷺ- وقال: إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله, وأعلمكم بما أتقي) رواه مالك في "موطئه" ومسلم في "صحيحه". مسألة:
قال: [ وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها من الليل فهي صائمة إذا نوت الصوم قبل طلوع الفجر, وتغتسل إذا أصبحت ] وجملة ذلك أن الحكم في المرأة إذا انقطع حيضها من الليل كالحكم في الجنب سواء ويشترط أن ينقطع حيضها قبل طلوع الفجر لأنه إن وجد جزء منه في النهار أفسد الصوم, ويشترط أن تنوي الصوم أيضا من الليل بعد انقطاعه لأنه لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل قال الأوزاعي والحسن بن حي وعبد الملك بن الماجشون, والعنبري: تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط لأن حدث الحيض يمنع الصوم بخلاف الجنابة ولنا أنه حدث يوجب الغسل, فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة الصوم كالجنابة وما ذكروه لا يصح, فإن من طهرت من الحيض ليست حائضا وإنما عليها حدث موجب للغسل فهي كالجنب, فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب الغسل من الحيض وقد استدل بعض أهل العلم بقول الله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} فلما أباح المباشرة إلى تبين الفجر, علم أن الغسل إنما يكون بعده. مسألة:
قال: [ والحامل إذا خافت على جنينها والمرضع على ولدها أفطرتا, وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا ] وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما, فلهما الفطر وعليهما القضاء فحسب لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم وهذا يروى عن ابن عمر وهو المشهور من مذهب الشافعي وقال الليث: الكفارة على المرضع دون الحامل وهو إحدى الروايتين عن مالك, لأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل ولأن الحمل متصل بالحامل, فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها وقال عطاء والزهري والحسن, وسعيد بن جبير والنخعي وأبو حنيفة: لا كفارة عليهما لما روى أنس بن مالك رجل من بني كعب, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم - أو - الصيام) والله لقد قالهما رسول الله -ﷺ- أحدهما أو كليهما رواه النسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن ولم يأمره بكفارة, ولأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالفطر للمرض ولنا قول الله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} وهما داخلتان في عموم الآية قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير, والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا, ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا, وأطعمتا رواه أبو داود وروي ذلك عن ابن عمر ولا مخالف لهما في الصحابة ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة عن طريق الخلقة فوجبت به الكفارة, كالشيخ الهرم وخبرهم لم يتعرض للكفارة فكانت موقوفة على الدليل, كالقضاء فإن الحديث لم يتعرض له والمريض أخف حالا من هاتين لأنه يفطر بسبب نفسه إذا ثبت هذا, فإن الواجب في إطعام المسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير والخلاف فيه, كالخلاف في إطعام المساكين في كفارة الجماع إذا ثبت هذا فإن القضاء لازم لهما وقال ابن عمر, وابن عباس: لا قضاء عليهما لأن الآية تناولتهما وليس فيها إلا الإطعام ولأن النبي -ﷺ- قال: (إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم) ولنا أنهما يطيقان القضاء, فلزمهما كالحائض والنفساء والآية أوجبت الإطعام, ولم تتعرض للقضاء فأخذناه من دليل آخر والمراد بوضع الصوم وضعه في مدة عذرهما كما جاء في حديث عمرو بن أمية, عن النبي -ﷺ-: (إن الله وضع عن المسافر الصوم) ولا يشبهان الشيخ الهرم لأنه عاجز عن القضاء وهما يقدران عليه قال أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة يعني ولا أقول بقول ابن عباس وابن عمر في منع القضاء. مسألة:
قال: [ وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر, وأطعم لكل يوم مسكينا ] وجملة ذلك أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يجهدهما الصوم, ويشق عليهما مشقة شديدة فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكينا وهذا قول علي وابن عباس, وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير, وطاوس وأبي حنيفة والثوري, والأوزاعي وقال مالك: لا يجب عليه شيء لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا الآية, وقول ابن عباس في تفسيرها: نزلت رخصة للشيخ الكبير ولأن الأداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء وأما المريض إذا مات فلا يجب الإطعام لأن ذلك يؤدي إلى أن يجب على الميت ابتداء, بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل حتى مات لأن وجوب الإطعام يستند إلى حال الحياة, والشيخ الهرم له ذمة صحيحة فإن كان عاجزا عن الإطعام أيضا فلا شيء عليه و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. فصل:
والمريض الذي لا يرجى برؤه, يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا لأنه في معنى الشيخ قال أحمد -رحمه الله- في من به شهوة الجماع غالبة, لا يملك نفسه ويخاف أن تنشق أنثياه: أطعم أباح له الفطر لأنه يخاف على نفسه فهو كالمريض, ومن يخاف على نفسه الهلاك لعطش أو نحوه وأوجب الإطعام بدلا عن الصيام وهذا محمول على من لا يرجو إمكان القضاء, فإن رجا ذلك فلا فدية عليه والواجب انتظار القضاء وفعله إذا قدر عليه لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وإنما يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء, فإن أطعم مع يأسه ثم قدر على الصيام احتمل أن لا يلزمه لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجب عليه, فلم يعد إلى الشغل بما برئت منه ولهذا قال الخرقي: فمن كان مريضا لا يرجى برؤه أو شيخا لا يستمسك على الراحلة, أقام من يحج عنه ويعتمر وقد أجزأ عنه وإن عوفي واحتمل أن يلزمه القضاء لأن الإطعام بدل يأس, وقد تبينا ذهاب اليأس فأشبه من اعتدت بالشهور عند اليأس من الحيض ثم حاضت.
مسألة: قال: [ وإذا حاضت المرأة, أو نفست أفطرت وقضت فإن صامت لم يجزئها ] أجمع أهل العلم على أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم, وأنهما يفطران رمضان ويقضيان وأنهما إذا صامتا لم يجزئهما الصوم, وقد قالت عائشة: (كنا نحيض على عهد رسول الله -ﷺ- فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) متفق عليه والأمر إنما هو للنبي -ﷺ- وقال أبو سعيد: قال النبي -ﷺ-: (أليس إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك من نقصان دينها) رواه البخاري والحائض والنفساء سواء لأن دم النفاس هو دم الحيض, وحكمه حكمه ومتى وجد الحيض في جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم سواء وجد في أوله أو في آخره ومتى نوت الحائض الصوم, وأمسكت مع علمها بتحريم ذلك أتمت, ولم يجزئها.
مسألة: قال: [ فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها لكل يوم مسكين ] وجملة ذلك أن من مات وعليه صيام من رمضان لم يخل من حالين أحدهما, أن يموت قبل إمكان الصيام إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر, أو عجز عن الصوم فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم وحكي عن طاوس وقتادة أنهما قالا: يجب الإطعام عنه لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه, فوجب الإطعام عن كالشيخ الهرم إذا ترك الصيام لعجزه عنه ولنا أنه حق لله تعالى وجب بالشرع, مات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج ويفارق الشيخ الهرم فإنه يجوز ابتداء الوجوب عليه, بخلاف الميت الحال الثاني أن يموت بعد إمكان القضاء فالواجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عائشة, وابن عباس وبه قال مالك والليث والأوزاعي, والثوري والشافعي والحسن بن حي, وابن علية وأبو عبيد في الصحيح عنهم وقال أبو ثور: يصام عنه وهو قول الشافعي لما روت عائشة, أن النبي -ﷺ- قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق عليه وروي عن ابن عباس نحوه ولنا ما روى ابن ماجه عن ابن عمر, أن النبي -ﷺ- قال: (من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا) قال الترمذي: الصحيح عن ابن عمر موقوف وعن عائشة أيضا قالت: يطعم عنه في قضاء رمضان, ولا يصام عنه وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر؟ يصوم شهرا وعليه صوم رمضان قال: أما رمضان فليطعم عنه, وأما النذر فيصام عنه رواه الأثرم في "السنن" ولأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة فكذلك بعد الوفاة, كالصلاة فأما حديثهم فهو في النذر لأنه قد جاء مصرحا به في بعض ألفاظه كذلك رواه البخاري عن ابن عباس, قال: (قالت امرأة: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر فأقضيه عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه, أكان يؤدى ذلك عنها؟ قالت: نعم قال: فصومي عن أمك) وقالت عائشة وابن عباس كقولنا وهما راويا حديثهم, فدل على ما ذكرناه. فصل:
فأما صوم النذر فيفعله الولي عنه وهذا قول ابن عباس والليث, وأبي عبيد وأبي ثور وقال سائر من ذكرنا من الفقهاء: يطعم عنه لما ذكرنا في صوم رمضان ولنا الأحاديث الصحيحة التي رويناها قبل هذا وسنة رسول الله -ﷺ- أحق بالاتباع, وفيها غنية عن كل قول والفرق بين النذر وغيره أن النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها والنذر أخف حكما لكونه لم يجب بأصل الشرع, وإنما أوجبه الناذر على نفسه إذا ثبت هذا فإن الصوم ليس بواجب على الولي لأن النبي -ﷺ- شبهه بالدين ولا يجب على الولي قضاء دين الميت, وإنما يتعلق بتركته إن كانت له تركة فإن لم يكن له تركة فلا شيء على وارثه, لكن يستحب أن يقضى عنه لتفريغ ذمته وفك رهانه, كذلك ها هنا ولا يختص ذلك بالولي بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه, وأجزأ لأنه تبرع فأشبه قضاء الدين عنه. مسألة:
قال: [ فإن لم تمت المفرطة حتى أظلها شهر رمضان آخر صامته, ثم قضت ما كان عليها ثم أطعمت لكل يوم مسكينا وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة, إذا فرطا في القضاء ] وجملة ذلك أن من عليه صوما من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة قالت: كان يكون على الصيام من شهر رمضان, فما أقضيه حتى يجيء شعبان متفق عليه ولا يجوز له تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها لأخرته ولأن الصوم عبادة متكررة, فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة فإن أخره عن رمضان آخر نظرنا فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء وإن كان لغير عذر, فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة, ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك, والثوري والأوزاعي والشافعي, وإسحاق وقال الحسن والنخعي وأبو حنيفة: لا فدية عليه لأنه صوم واجب, فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كما لو أخر الأداء والنذر ولنا ما روي عن ابن عمر وابن عباس, وأبي هريرة أنهم قالوا: أطعم عن كل يوم مسكينا ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافهم وروي مسندا من طريق ضعيف ولأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء, أوجب الفدية كالشيخ الهرم. فصل:
فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضانان أو أكثر لم يكن عليه أكثر من فدية مع القضاء لأن كثرة التأخير لا يزداد بها الواجب, كما لو أخر الحج الواجب سنين لم يكن عليه أكثر من فعله. فصل:
وإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين واحد نص عليه أحمد, فيما روى عنه أبو داود أن رجلا سأله عن امرأة أفطرت رمضان ثم أدركها رمضان آخر, ثم ماتت؟ قال: يطعم عنها قال له السائل: كم أطعم؟ قال: كم أفطرت؟ قال: ثلاثين يوما قال اجمع ثلاثين مسكينا وأطعمهم مرة واحدة وأشبعهم قال: ما أطعمهم؟ قال خبزا ولحما إن قدرت من أوسط طعامكم وذلك لأنه بإخراج كفارة واحدة, أزال تفريطه بالتأخير فصار كما لو مات من غير تفريط وقال أبو الخطاب: يطعم عنه لكل يوم فقيران لأن الموت بعد التفريط بدون التأخير عن رمضان آخر يوجب كفارة والتأخير بدون الموت يوجب كفارة, فإذا اجتمعا وجبت كفارتان كما لو فرط في يومين. فصل:
واختلفت الرواية عن أحمد في جواز التطوع بالصوم ممن عليه صوم فرض, فنقل عنه حنبل أنه قال: لا يجوز له أن يتطوع بالصوم وعليه صوم من الفرض حتى يقضيه يبدأ بالفرض, وإن كان عليه نذر صامه يعني بعد الفرض وروى حنبل عن أحمد بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله -ﷺ- قال: (من صام تطوعا, وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه) ولأنه عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يصح التطوع بها قبل أداء فرضها, كالحج وروي عن أحمد أنه يجوز له التطوع لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع في وقتها قبل فعلها, كالصلاة يتطوع في أول وقتها وعليه يخرج الحج ولأن التطوع بالحج يمنع فعل واجبه المتعين فأشبه صوم التطوع في رمضان, بخلاف مسألتنا والحديث يرويه ابن لهيعة وفيه ضعف وفي سياقه ما هو متروك, فإنه قال في آخره: "ومن أدركه رمضان وعليه من رمضان شيء لم يتقبل منه" ويخرج في التطوع بالصلاة في حق من عليه القضاء مثل ما ذكرناه في الصوم. فصل:
واختلفت الرواية في كراهة القضاء في عشر ذي الحجة فروي أنه لا يكره وهو قول سعيد بن المسيب, والشافعي وإسحاق لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستحب قضاء رمضان في العشر ولأنه أيام عبادة فلم يكره القضاء فيه, كعشر المحرم والثانية يكره القضاء فيه روي ذلك عن الحسن والزهري لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه كرهه, ولأن النبي -ﷺ- قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله, فلم يرجع بشيء) فاستحب إخلاؤها للتطوع لينال فضيلتها ويجعل القضاء في غيرها وقال بعض أصحابنا: هاتان الروايتان مبنيتان على الروايتين في إباحة التطوع قبل صوم الفرض وتحريمه فمن أباحه كره القضاء فيها, ليوفرها على التطوع لينال فضله فيها مع فعل القضاء ومن حرمه لم يكرهه فيها, بل استحب فعله فيها لئلا يخلو من العبادة بالكلية ويقوى عندي أن هاتين الروايتين فرع على إباحة التطوع قبل الفرض أما على رواية التحريم, فيكون صومها تطوعا قبل الفرض محرما وذلك أبلغ من الكراهة والله أعلم. مسألة:
قال: [ وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه فإن تحمل وصام, كره له ذلك وأجزأه ] أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة والأصل فيه قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى وحكي عن بعض السلف أنه أباح الفطر بكل مرض, حتى من وجع الإصبع والضرس لعموم الآية فيه ولأن المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه فكذلك المريض ولنا أنه شاهد للشهر, لا يؤذيه الصوم فلزمه كالصحيح, والآية مخصوصة في المسافر والمريض جميعا بدليل أن المسافر لا يباح له الفطر في السفر القصير والفرق بين المسافر والمريض, أن السفر اعتبرت فيه المظنة وهو السفر الطويل حيث لم يمكن اعتبار الحكمة بنفسها, فإن قليل المشقة لا يبيح وكثيرها لا ضابط له في نفسه فاعتبرت بمظنتها, وهو السفر الطويل فدار الحكم مع المظنة وجودا وعدما والمرض لا ضابط له فإن الأمراض تختلف, منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الإصبع, والدمل والقرحة اليسيرة والجرب, وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطا وأمكن اعتبار الحكمة, وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره فإذا ثبت هذا فإن تحمل المريض وصام مع هذا, فقد فعل مكروها لما يتضمنه من الإضرار بنفسه وتركه تخفيف الله تعالى وقبول رخصته, ويصح صومه ويجزئه لأنه عزيمة أبيح تركها رخصة فإذا تحمله أجزأه كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة إذا حضرها, والذي يباح له ترك القيام في الصلاة إذا قام فيها. فصل:
والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله, فالخوف من تجدد المرض في معناه قال أحمد في من به شهوة غالبة للجماع يخاف أن تنشق أنثياه فله الفطر وقال في الجارية: تصوم إذا حاضت, فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض يعني إذا حاضت وهي صغيرة لم تبلغ خمس عشرة سنة قال القاضي: هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام أبيح لها الفطر, وإلا فلا. فصل:
ومن أبيح له الفطر لشدة شبقه إن أمكنه استدفاع الشهوة بغير جماع كالاستمناء بيده, أو بيد امرأته أو جاريته لم يجز له الجماع لأنه فطر للضرورة فلم تبح له الزيادة على ما تندفع به الضرورة, كأكل الميتة عند الضرورة وإن جامع فعليه الكفارة وكذلك إن أمكنه دفعها بما لا يفسد صوم غيره كوطء زوجته أو أمته الصغيرة أو الكتابية, أو مباشرة الكبيرة المسلمة دون الفرج أو الاستمناء بيدها أو بيده لم يبح له إفساد صوم غيره لأن الضرورة إذا اندفعت لم يبح له ما وراءها, كالشبع من الميتة إذا اندفعت الضرورة بسد الرمق وإن لم تندفع الضرورة إلا بإفساد صوم غيره أبيح ذلك لأنه مما تدعو الضرورة إليه فأبيح كفطره, وكالحامل والمرضع يفطران خوفا على ولديهما فإن كان له امرأتان حائض وطاهر صائمة ودعته الضرورة إلى وطء إحداهما, احتمل وجهين: أحدهما وطء الصائمة أولى لأن الله تعالى نص على النهي عن وطء الحائض في كتابه ولأن وطأها فيه أذى لا يزول بالحاجة إلى الوطء والثاني: يتخير لأن وطء الصائمة يفسد صيامها, فتتعارض المفسدتان فيتساويان.
مسألة: قال: [ وكذلك المسافر ] يعني أن المسافر يباح له الفطر فإن صام كره له ذلك, وأجزأه وجواز الفطر للمسافر ثابت بالنص والإجماع وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزأه ويروى عن أبي هريرة أنه لا يصح صوم المسافر قال أحمد: كان عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة وروى الزهري, عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه قال: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر وقال بهذا قوم من أهل الظاهر لقول النبي -ﷺ-: (ليس من البر الصوم في السفر) متفق عليه (ولأنه عليه السلام أفطر في السفر, فلما بلغه أن قوما صاموا قال: أولئك هم العصاة) وروى ابن ماجه بإسناده عن النبي -ﷺ- أنه قال: (الصائم في رمضان في السفر, كالمفطر في الحضر) وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول قال ابن عبد البر: هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف هجره الفقهاء كلهم, والسنة ترده وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي -ﷺ- (أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام, قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) وفي لفظ رواه النسائي (أنه قال لرسول الله -ﷺ-: أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ قال: هي رخصة الله, فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) وقال أنس: (كنا نسافر مع النبي -ﷺ- فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم) متفق عليه وكذلك روى أبو سعيد وأحاديثهم محمولة على تفضيل الفطر على الصيام.
فصل: والأفضل عند إمامنا, -رحمه الله- الفطر في السفر وهو مذهب ابن عمر, وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي, والأوزاعي وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي: الصوم أفضل لمن قوي عليه ويروى ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بما روي عن مسلمة بن المحبق أن النبي -ﷺ-, قال: (من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه) رواه أبو داود ولأن من خير بين الصوم والفطر, كان الصوم أفضل كالتطوع وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة: أفضل الأمرين أيسرهما لقول الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} ولما روى أبو داود, عن حمزة بن عمرو قال: (قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر, أعالجه وأسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوة, وأنا شاب وأجدني أن أصم يا رسول الله, أهون علي من أن أؤخر فيكون دينا علي أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري, أم أفطر؟ قال: أي ذلك شئت يا حمزة) ولنا ما تقدم من الأخبار في الفصل الذي قبله وروي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (خيركم الذي يفطر في السفر ويقصر) ولأن في الفطر خروجا من الخلاف فكان أفضل, كالقصر وقياسهم ينتقض بالمريض وبصوم الأيام المكروه صومها.
مسألة: قال: [ وقضاء شهر رمضان متفرقا يجزئ والمتتابع أحسن ] هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك, وأبي هريرة وابن محيريز وأبي قلابة, ومجاهد وأهل المدينة والحسن, وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة, والثوري والأوزاعي والشافعي, وإسحاق وحكي وجوب التتابع عن علي وابن عمر والنخعي والشعبي وقال داود: يجب ولا يشترط لما روى ابن المنذر, بإسناده عن أبي هريرة أن النبي -ﷺ- قال: (من كان عليه صوم رمضان فليسرده, ولا يقطعه) ولنا إطلاق قول الله تعالى: {فعدة من أيام أخر} غير مقيد بالتتابع فإن قيل: قد روي عن عائشة أنها قالت: نزلت "فعدة من أيام أخر متتابعات" فسقطت "متتابعات" قلنا: هذا لم يثبت عندنا صحته ولو صح فقد سقطت اللفظة المحتج بها وأيضا قول الصحابة, قال ابن عمر: إن سافر فإن شاء فرق وإن شاء تابع وروي مرفوعا إلى النبي -ﷺ- وقال أبو عبيدة بن الجراح في قضاء رمضان: إن الله لم يرخص لكم في فطره, وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن المنكدر أنه قال: بلغني (أن رسول الله -ﷺ- سئل عن تقطيع قضاء رمضان؟ فقال رسول الله -ﷺ-: لو كان على أحدكم دين, فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضيا دينه؟ قالوا: نعم, يا رسول الله قال: فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم) ولأنه صوم لا يتعلق بزمان بعينه فلم يجب فيه التتابع كالنذر المطلق وخبرهم لم يثبت صحته, فإن أهل السنن لم يذكروه ولو صح حملناه على الاستحباب فإن المتتابع أحسن لما فيه من موافقة الخبر, والخروج من الخلاف وشبهه بالأداء والله أعلم.
مسألة: قال: [ ومن دخل في صيام تطوع فخرج منه, فلا قضاء عليه وإن قضاه فحسن ] وجملة ذلك أن من دخل في صيام تطوع استحب له إتمامه, ولم يجب فإن خرج منه فلا قضاء عليه, روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطرا, وقال ابن عمر: لا بأس به ما لم يكن نذرا أو قضاء رمضان وقال ابن عباس: إذا صام الرجل تطوعا ثم شاء أن يقطعه قطعه, وإذا دخل في صلاة تطوعا ثم شاء أن يقطعها قطعها وقال ابن مسعود: متى أصبحت تريد الصوم فأنت على آخر النظرين, إن شئت صمت وإن شئت أفطرت هذا مذهب أحمد والثوري, والشافعي وإسحاق وقد روى حنبل عن أحمد, إذا أجمع على الصيام فأوجبه على نفسه فأفطر من غير عذر, أعاد يوما مكان ذلك اليوم وهذا محمول على أنه استحب ذلك أو نذره ليكون موافقا لسائر الروايات عنه وقال النخعي وأبو حنيفة, ومالك: يلزم بالشروع فيه ولا يخرج منه إلا بعذر فإن خرج قضى وعن مالك: لا قضاء عليه واحتج من أوجب القضاء بما روي عن عائشة أنها قالت: (أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين, فأهدي لنا حيس فأفطرنا ثم سألنا رسول الله -ﷺ- فقال: اقضيا يوما مكانه) ولأنها عبادة تلزم بالنذر فلزمت بالشروع فيها, كالحج والعمرة ولنا ما روى مسلم وأبو داود, والنسائي عن عائشة قالت: (دخل عليَّ رسول الله -ﷺ- يوما فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا قال: فإني صائم ثم مر بعد ذلك اليوم, وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه وكان يحب الحيس قلت: يا رسول الله, إنه أهدي لنا حيس فخبأت لك منه قال: أدنيه, أما إني قد أصبحت وأنا صائم فأكل منه ثم قال لنا: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها) هذا لفظ رواية النسائي, وهو أتم من غيره وروت أم هانئ (قالت: دخلت على رسول الله -ﷺ- فأتى بشراب فناولنيه فشربت منه ثم قلت: يا رسول الله, لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها: أكنت تقضين شيئا؟ قالت: لا قال: فلا يضرك إن كان تطوعا) رواه سعيد وأبو داود والأثرم وفي لفظ قالت: (قلت إني صائمة فقال رسول الله -ﷺ-: إن المتطوع أمير نفسه, فإن شئت فصومي وإن شئت فأفطري) ولأن كل صوم لو أتمه كان تطوعا إذا خرج منه لم يجب قضاؤه كما لو اعتقد أنه من رمضان فبان من شعبان أو من شوال فأما خبرهم, فقال أبو داود: لا يثبت وقال الترمذي: فيه مقال وضعفه الجوزجاني وغيره ثم هو محمول على الاستحباب إذا ثبت هذا فإنه يستحب له إتمامه, وإن خرج منه استحب قضاؤه للخروج من الخلاف وعملا بالخبر الذي رووه.
فصل: وسائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصيام في أنها لا تلزم بالشروع, ولا يجب قضاؤها إذا خرج منها إلا الحج والعمرة فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا, لتأكد إحرامهما ولا يخرج منهما بإفسادهما ولو اعتقد أنهما واجبان ولم يكونا واجبين, لم يكن له الخروج منهما وقد روي عن أحمد في الصلاة ما يدل على أنها تلزم بالشروع فإن الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله: الرجل يصبح صائما متطوعا أيكون بالخيار؟ والرجل يدخل في الصلاة أله أن يقطعها؟ فقال: الصلاة أشد, أما الصلاة فلا يقطعها قيل له: فإن قطعها قضاها؟ قال: إن قضاها فليس فيه اختلاف ومال أبو إسحاق الجوزجاني إلى هذا القول وقال: الصلاة ذات إحرام وإحلال فلزمت بالشروع فيها, كالحج وأكثر أصحابنا على أنها لا تلزم أيضا وهو قول ابن عباس لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما.
فصل: ومن دخل في واجب, كقضاء رمضان أو نذر معين أو مطلق أو صيام كفارة لم يجز له الخروج منه لأن المتعين وجب عليه الدخول فيه, وغير المتعين تعين بدخوله فيه فصار بمنزلة الفرض المتعين وليس في هذا خلاف بحمد الله.
مسألة: قال: [ وإذا كان للغلام عشر سنين, وأطاق الصيام أخذ به ] يعني أنه يلزم الصيام يؤمر به ويضرب على تركه ليتمرن عليه, ويتعوده كما يلزم الصلاة ويؤمر بها وممن ذهب إلى أنه يؤمر بالصيام إذا أطاقه, عطاء والحسن وابن سيرين, والزهري وقتادة والشافعي وقال الأوزاعي إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يخور فيهن ولا يضعف, حمل صوم شهر رمضان وقال إسحاق: إذا بلغ ثنتي عشرة أحب أن يكلف الصوم للعادة واعتباره بالعشر أولى لأن النبي -ﷺ- أمر بالضرب على الصلاة عندها واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى واجتماعهما في أنهما عبادتان بدنيتان من أركان الإسلام, إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيقه.
فصل: ولا يجب عليه الصوم حتى يبلغ قال أحمد في غلام احتلم: صام ولم يترك والجارية إذا حاضت وهذا قول أكثر أهل العلم, وذهب بعض أصحابنا إلى إيجابه على الغلام المطيق له إذا بلغ عشرا لما روى ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان) ولأنه عبادة بدنية أشبه الصلاة, وقد أمر النبي -ﷺ- بأن يضرب على الصلاة من بلغ عشرا والمذهب الأول قال القاضي: المذهب عندي رواية واحدة: أن الصلاة والصوم لا تجب حتى يبلغ وما قاله أحمد في من ترك الصلاة يقضيها نحمله على الاستحباب وذلك لقول النبي -ﷺ-: (رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ, وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) ولأنه عبادة بدنية فلم تجب على الصبي, كالحج وحديثهم مرسل ثم نحمله على الاستحباب وسماه واجبا, تأكيدا لاستحبابه كقوله عليه السلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).
فصل: إذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن, فقال القاضي: يتم صومه ولا قضاء عليه لأن نية صوم رمضان حصلت ليلا فيجزئه كالبالغ ولا يمتنع أن يكون أول الصوم نفلا وباقيه فرضا كما لو شرع في صوم يوم تطوعا, ثم نذر إتمامه واختار أبو الخطاب أنه يلزمه القضاء لأنه عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضي بعض أركانها فلزمته إعادتها كالصلاة, والحج إذا بلغ بعد الوقوف وهذا لأنه ببلوغه يلزمه صوم جميعه والماضي قبل بلوغه نفل, فلم يجز عن الفرض ولهذا لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم والناذر صائم لزمه القضاء فأما ما مضى من الشهر قبل بلوغه, فلا قضاء عليه وسواء كان قد صامه أو أفطره هذا قول عامة أهل العلم وقال الأوزاعي: يقضيه إن كان أفطره وهو مطيق لصيامه ولنا أنه زمن مضى في حال صباه, فلم يلزمه قضاء الصوم فيه كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان وإن بلغ الصبي وهو مفطر فهل يلزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه؟ على روايتين.
مسألة: قال: [ وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان, صام ما يستقبل من بقية شهره ] أما صوم ما يستقبله من بقية شهره فلا خلاف فيه وأما قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه, فلا يجب وبهذا قال الشعبي وقتادة ومالك, والأوزاعي والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي وقال عطاء: عليه قضاؤه وعن الحسن كالمذهبين ولنا أن ما مضى عبادة خرجت في حال كفره فلم يلزمه قضاؤه, كالرمضان الماضي.
فصل: فأما اليوم الذي أسلم فيه فإنه يلزمه إمساكه ويقضيه هذا المنصوص عن أحمد وبه قال الماجشون وإسحاق وقال مالك, وأبو ثور وابن المنذر: لا قضاء عليه لأنه لم يدرك في زمن العبادة ما يمكنه التلبس بها فيه فأشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم وقد روي ذلك عن أحمد ولنا أنه أدرك جزءا من وقت العبادة فلزمته, كما لو أدرك جزءا من وقت الصلاة. فصل:
فأما المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فعليه صوم ما بقي من الأيام بغير خلاف وفي قضاء اليوم الذي أفاق فيه وإمساكه روايتان ولا يلزمه قضاء ما مضى وبهذا قال أبو ثور, والشافعي في الجديد وقال مالك: يقضي وإن مضى عليه سنون وعن أحمد مثله وهو قول الشافعي في القديم لأنه معنى يزيل العقل, فلم يمنع وجوب الصوم كالإغماء وقال أبو حنيفة: إن جن جميع الشهر فلا قضاء عليه, وإن أفاق في أثنائه قضى ما مضى لأن الجنون لا ينافي الصوم بدليل ما لو جن في أثناء الصوم لم يفسد فإذا وجد في بعض الشهر, وجب القضاء كالإغماء ولنا أنه معنى يزيل التكليف فلم يجب القضاء في زمانه, كالصغر والكفر ويخص أبا حنيفة بأنه معنى لو وجد في جميع الشهر أسقط القضاء فإذا وجد في بعضه أسقطه, كالصغر والكفر ويفارق الإغماء في ذلك. مسألة:
قال: [ وإذا رأى هلال شهر رمضان وحده صام ] المشهور في المذهب أنه متى رأى الهلال واحد لزمه الصيام, عدلا كان أو غير عدل شهد عند الحاكم أو لم يشهد قبلت شهادته أو ردت وهذا قول مالك, والليث والشافعي وأصحاب الرأي, وابن المنذر وقال عطاء وإسحاق: لا يصوم وقد روى حنبل عن أحمد: لا يصوم إلا في جماعة الناس وروي نحوه عن الحسن وابن سيرين لأنه يوم محكوم به من شعبان فأشبه التاسع والعشرين ولنا أنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه, كما لو حكم به الحاكم وكونه محكوما به من شعبان ظاهر في حق غيره وأما في الباطن فهو يعلم أنه من رمضان فلزمه صيامه كالعدل. فصل:
فإن أفطر ذلك اليوم بجماع, فعليه الكفارة وقال أبو حنيفة لا تجب لأنها عقوبة فلا تجب بفعل مختلف فيه كالحد ولنا أنه أفطر يوما من رمضان بجماع, فوجبت به عليه الكفارة كما لو قبلت شهادته ولا نسلم أن الكفارة عقوبة, ثم قياسهم ينتقض بوجوب الكفارة في السفر القصير مع وقوع الخلاف فيه. مسألة:
قال: [ وإن كان عدلا صوم الناس بقوله ] المشهور عن أحمد, أنه يقبل في هلال رمضان قول واحد عدل ويلزم الناس الصيام بقوله وهو قول عمر وعلي, وابن عمر وابن المبارك والشافعي في الصحيح عنه وروي عن أحمد, أنه قال: اثنين أعجب إلى قال أبو بكر: إن رآه وحده ثم قدم المصر صام الناس بقوله, على ما روي في الحديث وإن كان الواحد في جماعة الناس فذكر أنه رآه دونهم, لم يقبل إلا قول اثنين لأنهم يعاينون ما عاين وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لا يقبل إلا شهادة اثنين وهو قول مالك والليث والأوزاعي, وإسحاق لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: إني جالست أصحاب رسول الله -ﷺ- وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله -ﷺ- قال: (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته وانسكوا فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين, وإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا) رواه النسائي ولأن هذه شهادة على رؤية الهلال فأشبهت الشهادة على هلال شوال, وقال أبو حنيفة في الغيم كقولنا وفي الصحو: لا يقبل إلا الاستفاضة لأنه لا يجوز أن تنظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة والموانع مرتفعة, فيراه واحد دون الباقين ولنا ما روى ابن عباس قال: (جاء أعرابي إلى النبي -ﷺ- فقال: رأيت الهلال قال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؟ قال: نعم قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا) رواه أبو داود, والنسائي والترمذي وروى ابن عمر قال (تراءى الناس الهلال, فأخبرت رسول الله -ﷺ- إني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود ولأنه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقه المشاهدة فقبل من واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة, ولأنه خبر ديني يشترك فيه المخبر والمخبر فقبل من واحد عدل كالرواية, وخبرهم إنما يدل بمفهومه وخبرنا أشهر منه وهو يدل بمنطوقه, فيجب تقديمه ويفارق الخبر عن هلال شوال فإنه خروج من العبادة, وهذا دخول فيها وحديثهم في هلال شوال يخالف مسألتنا وما ذكره أبو بكر, وأبو حنيفة لا يصح لأنه يجوز انفراد الواحد به مع لطافة المرئي وبعده ويجوز أن تختلف معرفتهم بالمطلع ومواضع قصدهم وحدة نظرهم ولهذا لو حكم برؤيته حاكم بشهادة واحد جاز, ولو شهد شاهدان وجب قبول شهادتهما ولو كان ممتنعا على ما قالوه لم يصح فيه حكم حاكم ولا يثبت بشهادة اثنين, ومن منع ثبوته بشهادة اثنين رد عليه الخبر الأول وقياسه على سائر الحقوق وسائر الشهور, ولو أن جماعة في محفل فشهد اثنان منه أنه طلق زوجته أو أعتق عبده قبلت شهادتهما دون من أنكر, ولو أن اثنين من أهل الجمعة شهدا على الخطيب أنه قال على المنبر في الخطبة شيئا لم يشهد به غيرهما لقبلت شهادتهما وكذلك لو شهدا عليه بفعل, وإن كان غيرهما يشاركهما في سلامة السمع وصحة البصر كذا ها هنا. فصل:
وإن أخبره مخبر برؤية الهلال يثق بقوله لزمه الصوم وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم لأنه خبر بوقت العبادة يشترك فيه المخبر والمخبر, أشبه الخبر عن رسول الله -ﷺ- والخبر عن دخول وقت الصلاة ذكر ذلك ابن عقيل ومقتضى هذا أنه يلزمه قبول الخبر وإن رده الحاكم لأن رد الحاكم يجوز أن يكون لعدم علمه بحال المخبر ولا يتعين ذلك في عدم العدالة, وقد يجهل الحاكم عدالة من يعلم غيره عدالته. فصل:
فإن كان المخبر امرأة فقياس المذهب قبول قولها وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه خبر ديني فأشبه الرواية والخبر عن القبلة, ودخول وقت الصلاة ويحتمل أن لا تقبل لأنه شهادة برؤية الهلال فلم يقبل فيه قول امرأة, كهلال شوال. مسألة:
قال: [ ولا يفطر إلا بشهادة اثنين ] وجملة ذلك أنه لا يقبل في هلال شوال إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم إلا أبا ثور فإنه قال: يقبل قول واحد لأنه أحد طرفي شهر رمضان, أشبه الأول ولأنه خبر يستوي فيه المخبر والمخبر أشبه الرواية وأخبار الديانات ولنا خبر عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب, وعن ابن عمر عن النبي -ﷺ- أنه (أجاز شهادة رجل واحد على رؤية الهلال وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين) ولأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة فلم تقبل فيه إلا شهادة اثنين كسائر الشهود, وهذا يفارق الخبر لأن الخبر يقبل فيه قول المخبر مع وجود المخبر عنه وفلان عن فلان وهذا لا يقبل فيه ذلك, فافترقا. فصل:
ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة النساء المنفردات وإن كثرن وكذلك سائر الشهور لأنه مما يطلع عليه الرجال, وليس بمال ولا يقصد به المال فأشبه القصاص, وكان القياس يقتضي مثل ذلك في رمضان لكن تركناه احتياطا للعبادة. فصل:
وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما ولم يروا هلال شوال, أفطروا وجها واحدا وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان: أحدهما: لا يفطرون لقوله عليه السلام: (وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا) ولأنه فطر فلم يجز أن يستند إلى شهادة واحد, كما لو شهد بهلال شوال والثاني: يفطرون وهو منصوص الشافعي ويحكى عن أبي حنيفة لأن الصوم إذا وجب الفطر لاستكمال العدة لا بالشهادة, وقد يثبت تبعا ما لا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء وتثبت بها الولادة, فإذا ثبتت الولادة ثبت النسب على وجه التبع للولادة كذا ها هنا وإن صاموا لأجل الغيم لم يفطروا وجها واحدا لأن الصوم إنما كان على وجه الاحتياط فلا يجوز الخروج منه بمثل ذلك, والله أعلم. مسألة:
قال: [ ولا يفطر إذا رآه وحده ] وروي هذا عن مالك والليث وقال الشافعي: يحل له أن يأكل حيث لا يراه أحد لأنه يتيقنه من شوال فجاز له الأكل, كما لو قامت به بينة ولنا ما روى أبو رجاء عن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال, وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال للآخر قال: أنا صائم قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك ثم نودي في الناس: أن اخرجوا أخرجه سعيد, عن ابن علية عن أيوب عن أبي رجاء وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه, ولا توعده وقالت عائشة: إنما يفطر يوم الفطر الإمام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعا ولأنه يوم محكوم به من رمضان, فلم يجز الفطر فيه كاليوم الذي قبله وفارق ما إذا قامت البينة فإنه محكوم به من شوال, بخلاف مسألتنا وقولهم: إنه يتيقن أنه من شوال قلنا: لا يثبت اليقين لأنه يحتمل أن يكون الرائي خيل إليه كما روي أن رجلا في زمن عمر قال: لقد رأيت الهلال فقال له: امسح عينك فمسحها, ثم قال له: تراه؟ قال: لا قال: لعل شعرة من حاجبك تقوست على عينك فظننتها هلالا أو ما هذا معناه. فصل:
فإن رآه اثنان ولم يشهدا عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر, إذا عرف عدالتهما ولكل واحد منهما الفطر بقولهما لقول النبي -ﷺ-: (وإذا شهد اثنان فصوموا وأفطروا) وإن شهدا عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما, فلمن علم عدالتهما الفطر بقولهما لأن رد الحاكم ها هنا ليس بحكم منه وإنما هو توقف لعدم علمه فهو كالوقوف عن الحكم انتظارا للبينة ولهذا لو تثبت عدالتهما بعد ذلك حكم بها, وإن لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر إلا أن يحكم بذلك الحاكم لئلا يفطر برؤيته وحده. مسألة:
قال: [ وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير, فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه, وإن وافق ما قبله لم يجزه ] وجملته أن من كان محبوسا أو مطمورا أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر, فاشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى ويجتهد فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه, ولا يخلو من أربعة أحوال: أحدها أن لا ينكشف له الحال فإن صومه صحيح, ويجزئه لأنه أدى فرضه باجتهاده فأجزأه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد الثاني: أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا يجزئه في هاتين الحالتين لأنه صامه على الشك فلم يجزئه, كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان وليس بصحيح لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلة إذا اشتبهت أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها, وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد فإن الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها, فما لم توجد لم يجز الصوم الحال الثالث: وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء وقال بعض الشافعية: يجزئه في أحد الوجهين, كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا أخطأ الناس كلهم, لعظم المشقة عليهم وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم الحال الرابع: أن يوافق بعضه رمضان دون بعض, فما وافق رمضان أو بعده أجزأه وما وافق قبله لم يجزئه. فصل:
وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدة أيام شهره الذي فاته سواء وافق ما بين هلالين أو لم يوافق, وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين ولا يجزئه أقل من ذلك وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي: أنه إذا وافق شهرا بين هلالين أجزأه سواء كان الشهران تامين أو ناقصين أو أحدهما تاما والآخر ناقصا وليس بصحيح فإن الله تعالى قال: {فعدة من أيام أخر} ولأنه فاته شهر رمضان, فوجب أن يكون صيامه بعدة ما فاته كالمريض والمسافر وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب فإن قيل: أليس إذا نذر صوم شهر يجزئه ما بين هلالين؟ قلنا: الإطلاق يحمل على ما تناوله الاسم, والاسم يتناول ما بين الهلالين وهاهنا يجب قضاء ما ترك فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك, كما أن من نذر صلاة أجزأه ركعتان ولو ترك صلاة وجب قضاؤها بعدة ركعاتها كذلك ها هنا الواجب بعدة ما فاته من الأيام, سواء كان ما صامه بين هلالين أو من شهرين فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به وإن وافق أيام التشريق, فهل يعتد بها؟ على روايتين: بناء على صحة صومها على الفرض. فصل:
وإن لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام لم يجزئه وإن وافق الشهر لأنه صامه على الشك فلم يجزئه, كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإن غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي: عليه الصيام, ويقضي إذا عرف الشهر كالذي خفيت عليه دلائل القبلة ويصلي على حسب حاله ويعيد وذكر أبو بكر في من خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد؟ على وجهين كذلك يخرج على قوله ها هنا وظاهر كلام الخرقي أنه يتحرى فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه, وإن لم يبن على دليل لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد ذكرنا مثل هذا في القبلة. فصل:
وإذا صام تطوعا فوافق شهر رمضان, لم يجزئه نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي: يجزئه وهذا ينبني على تعيين النية لرمضان وقد مضى القول فيه. مسألة:
قال : ( ولا يصام يوما العيدين ، ولا أيام التشريق ، لا عن فرض ، ولا عن تطوع . فإن قصد لصيامها كان عاصيا ، ولم يجزئه عن الفرض ) أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين منهي عنه ، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة . وذلك لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر ، قال : شهدت العيد مع عمر بن الخطاب ، فجاء فصلى ، ثم انصرف ، فخطب الناس ، فقال : إن هذين يومين نهى رسول الله ﷺ عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم ، والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم وعن أبي هريرة ، { أن رسول الله ﷺ نهى عن صيام يومين ؛ يوم فطر ، ويوم أضحى } . وعن أبي سعيد مثله . متفق عليهما . والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه . وأما صومهما عن النذر المعين ففيه خلاف . نذكره بعد إن شاء الله تعالى . مسألة:
قال: [ وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله, -رحمه الله- رواية أخرى أنه يصومها عن الفرض ] وجملة ذلك أن أيام التشريق منهي عن صيامها أيضا لما روى نبيشة الهذلي, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) متفق عليه وروي عن عبد الله بن حذافة قال: (بعثني رسول الله -ﷺ- أيام منى أنادي: أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال) إلا أنه من رواية الواقدي, وهو ضعيف وعن عمرو بن العاص أنه قال: هذه الأيام التي كان رسول الله -ﷺ- يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها قال مالك: وهي أيام التشريق رواه أبو داود ولا يحل صيامها تطوعا, في قول أكثر أهل العلم وعن ابن الزبير أنه كان يصومها وروي نحو ذلك عن ابن عمر الأسود بن يزيد وعن أبي طلحة أنه كان لا يفطر إلا يومي العيدين والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول الله -ﷺ- عن صيامها ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره وقد روى أبو مرة مولى أم هانئ, أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاما فقال: كل, فقال: إني صائم فقال عمرو: كل فهذه الأيام التي كان رسول الله -ﷺ- يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها والظاهر أن عبد الله بن عمرو أفطر لما بلغه نهي رسول الله -ﷺ- وأما صومها للفرض, ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز لأنه منهي عن صومها فأشبهت يومي العيد والثانية: يصح صومها للفرض لما روي عن ابن عمرو وعائشة, أنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي أي: المتمتع إذا عدم الهدي وهو حديث صحيح رواه البخاري ويقاس عليه كل مفروض.
فصل: ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم, إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه مثل من يصوم يوما ويفطر يوما فيوافق صومه يوم الجمعة ومن عادته صوم أول يوم من الشهر, أو آخره أو يوم نصفه ونحو ذلك نص عليه أحمد, في رواية الأثرم قال: قيل لأبي عبد الله: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديث النهي أن يفرد ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه وأما أن يفرد فلا قال: قلت: رجل كان يصوم يوما ويفطر يوما, فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت, فصام الجمعة مفردا؟ فقال: هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة وقال أبو حنيفة ومالك: لا يكره إفراد الجمعة لأنه يوم, فأشبه سائر الأيام ولنا ما روى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده) وقال محمد بن عباد: سألت جابرا (أنهى رسول الله -ﷺ- عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم) متفق عليهما وعن جويرية بنت الحارث, أن النبي -ﷺ- دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: (أصمت أمس؟ قالت: لا قال: أتريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا قال: فأفطري) رواه البخاري وفيه أحاديث سوى هذه, وسنة رسول الله -ﷺ- أحق أن تتبع وهذا الحديث يدل على أن المكروه إفراده لأن نهيه معلل بكونها لم تصم أمس ولا غدا
فصل: قال أصحابنا: يكره إفراد يوم السبت بالصوم لما روى عبد الله بن بسر عن النبي -ﷺ- قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) أخرجه الترمذي, وقال: هذا حديث حسن وروي أيضا عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا تصوموا يوم السبت, إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة, فليمضغه) أخرجه أبو داود وقال: اسم أخت عبد الله بن بسر هجيمة أو جهيمة قال الأثرم: قال أبو عبد الله: أما صيام يوم السبت يفرد به فقد جاء فيه حديث الصماء وكان يحيى بن سعيد يتقيه, أي: أن يحدثني به وسمعته من أبي عاصم والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوما لإنسان, لم يكره لما قدمناه وقال أصحابنا: ويكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان بالصوم لأنهما يومان يعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما, فكره كيوم السبت وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم.
فصل: ويكره إفراد رجب بالصوم قال أحمد: وإن صامه رجل, أفطر فيه يوما أو أياما بقدر ما لا يصومه كله ووجه ذلك ما روى أحمد, بإسناده عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا, فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية وبإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب, كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا وعن ابن عباس نحوه, وبإسناده عن أبي بكرة أنه دخل على أهله وعندهم سلال جدد وكيزان, فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه قال: أجعلتم رجبا رمضان فأكفأ السلال وكسر الكيزان قال أحمد: من كان يصوم السنة صامه, وإلا فلا يصومه متواليا يفطر فيه ولا يشبهه برمضان.
فصل: وروى أبو قتادة, قال: (قيل: يا رسول الله فكيف بمن صام الدهر؟ قال: لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر) قال الترمذي: هذا حديث حسن وعن أبي موسى, عن النبي -ﷺ- قال: (من صام الدهر ضيقت عليه جهنم) قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فسر مسدد قول أبي موسى: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم" فلا يدخلها فضحك وقال: من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي -ﷺ- كره ذلك وما فيه من الأحاديث؟ قال أبو الخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق لأن أحمد قال: إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس وروي نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم, منهم أبو طلحة قيل: إنه صام بعد موت النبي -ﷺ- أربعين سنة والذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام, فإن صامها قد فعل محرما وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف, وشبه التبتل المنهي عنه بدليل أن النبي -ﷺ- (قال لعبد الله بن عمرو: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ فقلت: نعم قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له عينك ونفهت له النفس لا صام من صام الدهر, صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك قال: فصم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى) وفي رواية: (وهو أفضل الصيام فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: لا أفضل من ذلك) رواه البخاري.
مسألة: قال: [ وإذا رئي الهلال نهارا, قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة ] وجملة ذلك أن المشهور عن أحمد أن الهلال إذا رئي نهارا قبل الزوال أو بعده, وكان ذلك في آخر رمضان لم يفطروا برؤيته وهذا قول عمر وابن مسعود, وابن عمر وأنس والأوزاعي, ومالك والليث والشافعي, وإسحاق وأبي حنيفة وقال الثوري وأبو يوسف: إن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية, وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه رواه سعيد لأن النبي -ﷺ- قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وقد رأوه فيجب الصوم والفطر, ولأن ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية وحكي هذا رواية عن أحمد ولنا ما روى أبو وائل قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين, أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية ولأنه قول ابن مسعود, وابن عباس ومن سمينا من الصحابة وخبرهم محمول على ما إذا رئي عشية, بدليل ما لو رئي بعد الزوال ثم إن الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد بدليل ما لو رآه عشية فأما إن كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضا, أنه لليلة المقبلة وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وعن أحمد رواية أخرى, أنه للماضية فيلزم قضاء ذلك اليوم وإمساك بقيته احتياطا للعبادة, والأول أصح لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره فهو لها في أوله كما لو رئي بعد العصر.
مسألة: قال: [ والاختيار تأخير السحور, وتعجيل الفطر ] الكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما في السحور والكلام فيه في ثلاثة أشياء أحدها, في استحبابه ولا نعلم فيه بين العلماء خلافا وقد روى أنس أن النبي -ﷺ- قال: (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه وعن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله -ﷺ-: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي, وقال: حديث حسن صحيح وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -ﷺ-: (السحور بركة, فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) الثاني: في وقته قال أحمد يعجبني تأخير السحور لما روى زيد بن ثابت, قال: تسحرنا مع رسول الله -ﷺ- ثم قمنا إلى الصلاة قلت: كم كان قدر ذلك؟ قال: خمسين آية متفق عليه وروى العرباض بن سارية قال: (دعاني رسول الله -ﷺ- إلى السحور فقال: هلم إلى الغداء المبارك) رواه أبو داود, والنسائي سماه غداء لقرب وقته منه ولأن المقصود بالسحور التقوي على الصوم وما كان أقرب إلى الفجر كان أعون على الصوم قال أبو داود: قال أبو عبد الله: إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه وهذا قول ابن عباس وعطاء والأوزاعي قال أحمد: يقول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} وقال النبي -ﷺ-: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال, ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق) قال الترمذي: هذا حديث حسن وروى أبو قلابة قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يتسحر: يا غلام اخف الباب, لا يفجأنا الصبح وقال رجل لابن عباس: إني أتسحر فإذا شككت أمسكت فقال ابن عباس: كل ما شككت حتى لا تشك فأما الجماع فلا يستحب تأخيره لأنه ليس مما يتقوى به وفيه خطر وجوب الكفارة, وحصول الفطر به الثالث: فيما يتسحر به وكل ما حصل من أكل أو شرب حصل به فضيلة السحور لقوله عليه السلام: (ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء) وروى أبو هريرة عن النبي -ﷺ- قال: (نعم سحور المؤمن التمر) رواه أبو داود.
الفصل الثاني: في تعجيل الفطر وفيه أمور ثلاثة أحدها في استحبابه وهو قول أكثر أهل العلم لما روى سهل بن سعد الساعدي, أن النبي -ﷺ- قال: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر) متفق عليه وعن أبي عطية قال: (دخلت أنا ومسروق على عائشة فقال مسروق: رجلان من أصحاب رسول الله -ﷺ- أحدهما يعجل الإفطار ويعجل المغرب, والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر المغرب؟ قالت: من الذي يعجل الإفطار ويعجل المغرب؟ قال: عبد الله قالت: هكذا كان رسول الله -ﷺ- يصنع رواه) مسلم وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (يقول الله تعالى: أحب عبادي إلي أسرعهم فطرا) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وقال أنس: (ما رأيت رسول الله -ﷺ- يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء) رواه ابن عبد البر الثاني: فيما يفطر عليه يستحب أن يفطر على رطبات فإن لم يكن فعلى تمرات, فإن لم يكن فعلى الماء لما روى أنس قال: (كان رسول الله -ﷺ- يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات, فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء) رواه أبو داود والأثرم والترمذي, وقال: حديث حسن غريب وعن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على الماء, فإنه طهور) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. الثالث:
في الوصال, وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب وهو مكروه في قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن الزبير أنه كان يواصل اقتداء برسول الله -ﷺ- ولنا ما روى ابن عمر قال: (واصل رسول الله -ﷺ- في رمضان فواصل الناس, فنهى رسول الله -ﷺ- عن الوصال فقالوا: إنك تواصل قال: إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى) متفق عليه وهذا يقتضي اختصاصه بذلك, ومنع إلحاق غيره به وقوله: (إني أطعم وأسقى) يحتمل أنه يريد أنه يعان على الصيام ويغنيه الله تعالى عن الشراب والطعام بمنزلة من طعم وشرب ويحتمل أنه أراد: إني أطعم حقيقة, وأسقى حقيقة حملا للفظ على حقيقته والأول أظهر لوجهين: أحدهما, أنه لو طعم وشرب حقيقة لم يكن مواصلا وقد أقرهم على قولهم: إنك تواصل والثاني: أنه قد روي أنه قال: (إني أظل يطعمني ربي ويسقيني) وهذا يقتضي أنه في النهار ولا يجوز الأكل في النهار له ولا لغيره إذا ثبت هذا, فإن الوصال غير محرم وظاهر قول الشافعي أنه محرم تقريرا لظاهر النهي في التحريم ولنا أنه ترك الأكل والشرب المباح فلم يكن محرما, كما لو تركه في حال الفطر فإن قيل: فصوم يوم العيد محرم مع كونه تركا للأكل والشرب المباح قلنا: ما حرم ترك الأكل والشرب بنفسه وإنما حرم بنية الصوم ولهذا لو تركه من غير نية الصوم لم يكن محرما وأما النهي فإنما أتى به رحمة لهم, ورفقا بهم لما فيه من المشقة عليهم كما نهى عبد الله بن عمرو عن صيام النهار وقيام الليل وعن قراءة القرآن في أقل من ثلاث قالت عائشة: (نهى رسول الله -ﷺ- عن الوصال, رحمة لهم) وهذا لا يقتضي التحريم ولهذا لم يفهم منه أصحاب النبي -ﷺ- التحريم بدليل أنهم واصلوا بعده, ولو فهموا منه التحريم لما استجازوا فعله قال أبو هريرة: (نهى رسول الله -ﷺ- عن الوصال فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ويوما, ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا متفق عليه فإن واصل من سحر إلى سحر جاز لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله -ﷺ- يقول: (لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) أخرجه البخاري وتعجيل الفطر أفضل, لما قدمناه. فصل:
ويستحب تفطير الصائم لما روى زيد بن خالد الجهني عن النبي -ﷺ- أنه قال (من فطر صائما كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. فصل:
روى ابن عباس, قال: (كان النبي -ﷺ- إذا أفطر قال: اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا, فتقبل منا إنك أنت السميع العليم) وعن ابن عمر قال: (كان رسول الله -ﷺ- إذا أفطر يقول: ذهب الظمأ, وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) وإسناده حسن, ذكرهما الدارقطني. مسألة:
قال: [ ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال وإن فرقها, فكأنما صام الدهر ] وجملة ذلك أن صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم روي ذلك عن كعب الأحبار والشعبي وميمون بن مهران وبه قال الشافعي وكرهه مالك وقال: ما رأيت أحدا من أهل الفقه يصومها, ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته, وأن يلحق برمضان ما ليس منه ولنا ما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله -ﷺ- (من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال, فكأنما صام الدهر) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن وقال أحمد: هو من ثلاثة أوجه عن النبي -ﷺ- وروى سعيد, بإسناده عن ثوبان قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من صام رمضان شهر بعشرة أشهر, وصام ستة أيام بعد الفطر وذلك تمام سنة) يعني أن الحسنة بعشر أمثالها فالشهر بعشرة والستة بستين يوما فذلك اثنا عشر شهرا, وهو سنة كاملة ولا يجري هذا مجرى التقديم لرمضان لأن يوم الفطر فاصل فإن قيل: فلا دليل في هذا الحديث على فضيلتها لأن النبي -ﷺ- شبه صيامها بصيام الدهر وهو مكروه قلنا: إنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف والتشبيه بالتبتل, لولا ذلك لكان ذلك فضلا عظيما لاستغراقه الزمان بالعبادة والطاعة والمراد بالخبر التشبيه به في حصول العبادة به, على وجه عري عن المشقة كما قال عليه السلام (من صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كمن صام الدهر) ذكر ذلك حثا على صيامها, وبيان فضلها ولا خلاف في استحبابها ونهى عبد الله بن عمرو عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث وقال: من قرأ {قل هو الله أحد} فكأنما قرأ ثلث القرآن أراد التشبيه بثلث القرآن في الفضل لا في كراهة الزيادة عليه إذا ثبت هذا, فلا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة في أول الشهر أو في آخره لأن الحديث ورد بها مطلقا من غير تقييد ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما, والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله, وهذا المعنى يحصل مع التفريق والله أعلم. مسألة:
قال: [ وصيام عاشوراء كفارة سنة ويوم عرفة كفارة سنتين ] وجملته أن صيام هذين اليومين مستحب لما روى أبو قتادة عن النبي -ﷺ- أنه قال (صيام عرفة: إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) وقال في صيام عاشوراء: (إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) أخرجه مسلم إذا ثبت هذا فإن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وهذا قول سعيد بن المسيب, والحسن لما روى ابن عباس قال: (أمر رسول الله -ﷺ- بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وروي عن ابن عباس, أنه قال: التاسع وروي (أن النبي -ﷺ- كان يصوم التاسع) أخرجه مسلم بمعناه وروى عنه عطاء أنه قال: (صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود,) إذا ثبت هذا فإنه يستحب صوم التاسع والعاشر لذلك نص عليه أحمد وهو قول إسحاق قال أحمد: فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر. فصل:
واختلف في صوم عاشوراء هل كان واجبا؟ فذهب القاضي إلى أنه لم يكن واجبا وقال: هذا قياس المذهب واستدل بشيئين أحدهما (أن النبي -ﷺ- أمر من لم يأكل) بالصوم والنية في الليل شرط في الواجب والثاني: أنه لم يأمر من أكل بالقضاء, ويشهد لهذا ما روى معاوية قال: سمعت رسول الله -ﷺ- (يقول: إن هذا يوم عاشوراء لم يكتب الله عليكم صيامه فمن شاء فليصم, ومن شاء فليفطر) وهو حديث صحيح وروي عن أحمد أنه كان مفروضا لما روت عائشة (أن النبي -ﷺ- صامه وأمر بصيامه فلما افترض رمضان كان هو الفريضة, وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه) وهو حديث صحيح وحديث معاوية محمول على أنه أراد: ليس هو مكتوبا عليكم الآن وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر بقضائه, فيحتمل أن نقول: من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه قضاؤه كما قلنا في من أسلم وبلغ في أثناء يوم من رمضان على أنه قد روى أبو داود (أن أسلم أتت النبي -ﷺ- فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه). فصل:
فأما يوم عرفة: فهو اليوم التاسع من ذي الحجة سمي بذلك, لأن الوقوف بعرفة فيه وقيل: سمي يوم عرفة لأن إبراهيم عليه السلام أري في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه فأصبح يومه يتروى, هل هذا من الله أو حلم؟ فسمي يوم التروية فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضا فأصبح يوم عرفة فعرف أنه من الله, فسمي يوم عرفة وهو يوم شريف عظيم وعيد كريم وفضله كبير وقد صح عن النبي -ﷺ- (أن صيامه يكفر سنتين). فصل:
وأيام عشر ذي الحجة كلها شريفة مفضلة يضاعف العمل فيها, ويستحب الاجتهاد في العبادة فيها لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله -ﷺ-: ولا الجهاد في سبيل الله, إلا رجلا خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) وهو حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة عن النبي -ﷺ- قال: (ما من أيام أحب إلى الله عز وجل أن يتعبد له فيها, من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر) وهذا حديث غريب, أخرجه الترمذي وروى أبو داود بإسناده عن بعض أزواج النبي -ﷺ- قالت: (كان رسول الله -ﷺ- يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء).
مسألة: قال: [ ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم, ليتقوى على الدعاء ] أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء وقال عطاء: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء, فإذا قوي عليه أو كان في الشتاء لم يضعف, فتزول الكراهة ولنا ما روي عن أم الفضل بنت الحارث (أن ناسا تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله -ﷺ- فقال بعضهم: صائم وقال بعضهم: ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفات فشربه النبي -ﷺ-) متفق عليه وقال ابن عمر: (حججت مع النبي -ﷺ-, فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه, وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه) أخرجه الترمذي, وقال: حديث حسن وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة أن النبي -ﷺ- (نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة) ولأن الصوم يضعفه, ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف, الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه به, فكان تركه أفضل. فصل:
روي عن أبي هريرة: قال قال رسول الله -ﷺ-: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن فصل:
وأفضل الصيام أن تصوم يوما وتفطر يوما لما روى عبد الله بن عمرو, أن النبي -ﷺ- (قال له: صم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود, وهو أفضل الصيام فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي -ﷺ-: لا أفضل من ذلك) متفق عليه فصل: وروى أبو داود بإسناده عن أسامة بن زيد أن نبي الله -ﷺ- (كان يصوم يوم الاثنين والخميس, فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس) . مسألة:
قال: [ وأيام البيض التي حض رسول الله -ﷺ- على صيامها هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ] وجملة ذلك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب, لا نعلم فيه خلافا وقد روى أبو هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى, وأن أوتر قبل أن أنام) وعن عبد الله بن عمرو أن النبي -ﷺ- قال له: (صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر) متفق عليهما ويستحب أن يجعل هذه الثلاثة أيام البيض لما روى أبو ذر, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (يا أبا ذر إذا صمت من الشهر فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة, وخمس عشرة) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن وروى النسائي أن النبي -ﷺ- (قال لأعرابي: كل قال: إني صائم قال: صوم ماذا؟ قال: صوم ثلاثة أيام من الشهر قال: إن كنت صائما فعليك بالغر البيض ثلاث عشرة, وأربع عشرة وخمس عشرة) وعن ملحان القيسي قال: (كان رسول الله عليه السلام يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة, وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هو كهيئة الدهر) أخرجه أبو داود وسميت أيام البيض لابيضاض ليلها كله بالقمر والتقدير: أيام الليالي البيض وقيل: إن الله تاب على آدم فيها, وبيض صحيفته ذكره أبو الحسن التميمي. فصل:
ويجب على الصائم أن ينزه صومه عن الكذب والغيبة والشتم قال أحمد: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري ويصون صومه, كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا يغتاب أحدا ولا يعمل عملا يجرح به صومه وقال رسول الله -ﷺ-: (من لم يدع قول الزور, والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وقال أبو هريرة: قال رسول الله -ﷺ-: قال الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام, فإنه لي وأنا أجزي به الصيام جنة, فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله, فليقل: إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما, إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه) متفق عليهما. فصل:
في ليلة القدر: وهي ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة قال الله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} قيل: معناه العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وقال النبي -ﷺ-: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه وقيل: إنما سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة, ورزق وبركة يروى ذلك عن ابن عباس قال الله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} وسماها مباركة فقال تعالى {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} وهي ليلة القدر بدليل قوله سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} وقال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} يروى أن جبريل نزل به من بيت العزة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر, ثم نزل به على النبي -ﷺ- نجوما في ثلاث وعشرين سنة وهي باقية لم ترفع لما روى أبو ذر قال (قلت: يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال: باقية إلى يوم القيامة قلت: في رمضان أو في غيره؟ فقال: في رمضان فقلت: في العشر الأول, أو الثاني أو الآخر؟ فقال: في العشر الآخر) وأكثر أهل العلم على أنها في رمضان وكان ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصبها يشير إلى أنها في السنة كلها وفي كتاب الله تعالى ما يبين أنها في رمضان لأن الله أخبر أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وأنه أنزله في رمضان, فيجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يتناقض الخبران ولأن النبي -ﷺ- ذكر أنها في رمضان في حديث أبي ذر وقال: (التمسوها في العشر الأواخر, في كل وتر) متفق عليه وقال أبي بن كعب: والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان ولكنه كره أن يخبركم فتتكلوا إذا ثبت هذا فإنه يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان, وفي العشر الأواخر آكد وفي ليالي الوتر منه آكد وقال أحمد: هي في العشر الأواخر وفي وتر من الليالي, لا يخطئ إن شاء الله كذا روي عن النبي -ﷺ- قال: (اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين, أو سبع بقين أو تسع بقين) وروى سالم عن أبيه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر, فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها) متفق عليه وقالت عائشة (كان رسول الله -ﷺ- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل, وأيقظ أهله وشد المئزر) متفق عليه قالت: (وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها) وقال علي رضي الله عنه: (إن النبي -ﷺ- كان يوقظ أهله في العشر الأواخر) وقالت عائشة (كان رسول الله -ﷺ- يجاور في العشر الأواخر من رمضان) وفي لفظ للبخاري: (تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان) وكل هذه الأحاديث صحيحة. فصل:
واختلف أهل العلم في أرجى هذه الليالي, فقال أبي بن كعب وعبد الله بن عباس: هي ليلة سبع وعشرين قال زر بن حبيش قلت لأبي بن كعب: أما علمت أبا المنذر أنها ليلة سبع وعشرين؟ قال: بلى (أخبرنا رسول الله -ﷺ- أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع فعددنا, وحفظنا) والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ولكنه كره أن يخبركم, فتتكلوا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وروى أبو ذر في حديث فيه طول (أن النبي -ﷺ- لم يقم في رمضان حتى بقي سبع فقام بهم حتى مضى نحو من ثلث الليل, ثم قام بهم في ليلة خمس وعشرين حتى مضى نحو من شطر الليل حتى كانت ليلة سبع وعشرين, فجمع نساءه وأهله واجتمع الناس قال: فقام بهم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) يعني السحور متفق عليه وحكي عن ابن عباس, أنه قال: "سورة القدر ثلاثون كلمة السابعة والعشرون منها: هي" وروى أبو داود بإسناده عن معاوية, عن النبي -ﷺ- في ليلة القدر (قال ليلة سبع وعشرين) وقيل: آكدها ليلة ثلاث وعشرين لأنه روي عن النبي -ﷺ- (أن عبد الله بن أنيس سأله فقال: يا رسول الله, إني أكون ببادية يقال لها الوطأة وإني بحمد الله أصلي بهم فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها في المسجد, فأصليها فيه فقال: انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه, وإن أحببت أن تستتم آخر هذا الشهر فافعل وإن أحببت فكف فكان إذا صلى العصر دخل المسجد فلم يخرج إلا في حاجة, حتى يصلي الصبح فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد) رواه أبو داود مختصرا وقيل: آكدها ليلة أربع وعشرين لأنه روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (ليلة القدر أول ليلة من السبع الأواخر) وروي عن بعض الصحابة, أنه قال: لم نكن نعد عددكم هذا وإنما كنا نعد من آخر الشهر يعني أن السابعة والعشرين هي أول ليلة من السبع الأواخر وروى أبو ذر قال: (صمنا مع رسول الله -ﷺ- شهر رمضان, فلم يقم بنا حتى كانت ليلة سبع بقيت فقام بنا نحوا من ثلث الليل ثم لم يقم ليلة ست, فلما كانت ليلة خمس قام بنا النبي -ﷺ- نحوا من نصف الليل فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف, كتب له قيام ليلة فلما كانت ليلة ثلاث قام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح فقلت: وما الفلاح؟ قال: السحور وأيقظ في تلك الليلة أهله ونساءه وبناته) رواه سعيد وقيل: آكدها ليلة إحدى وعشرين لما روى أبو سعيد عن النبي -ﷺ- أنه قال: (رأيت ليلة القدر, ثم أنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر, وإني رأيت إني أسجد في صبيحتها في ماء وطين قال: فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل, فأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله -ﷺ- يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الماء والطين في جبهته) وفي حديث: (في صبيحة إحدى وعشرين) متفق عليه قال الترمذي: قد روي أنها ليلة إحدى وعشرين, وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين, وليلة تسع وعشرين وآخر ليلة وقال أبو قلابة: إنها تنتقل في ليالي العشر قال الشافعي: كان هذا عندي - والله أعلم - أن النبي -ﷺ- كان يجيب على نحو ما يسأل فعلى هذا كانت في السنة التي رأى أبو سعيد النبي -ﷺ- يسجد في الماء والطين ليلة إحدى وعشرين وفي السنة التي أمر عبد الله بن أنيس ليلة ثلاث وعشرين, وفي السنة التي رأى أبي بن كعب علامتها ليلة سبع وعشرين وقد ترى علامتها في غير هذه الليالي قال بعض أهل العلم: أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ويجدوا في العبادة في الشهر كله طمعا في إدراكها, كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كله وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات, ليجتهدوا في جمعها وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل, حذرا منهما فصل:
فأما علامتها فالمشهور فيها ما ذكره أبي بن كعب عن النبي -ﷺ- أن (الشمس تطلع من صبيحتها بيضاء لا شعاع لها) وفي بعض الأحاديث: (بيضاء مثل الطست) وروي عن النبي -ﷺ- (أنه قال: بلجة سمحة, لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها). فصل:
ويستحب أن يجتهد فيها في الدعاء ويدعو فيها بما روي عن عائشة, أنها قالت: يا رسول الله إن وافقتها بم أدعو؟ قال: قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
==================
روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة) متفق عليه وروي عن أبي هريرة عن النبي -ﷺ- أنه قال: (لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى) فيتعين حمل هذا على أنه لا يقال ذلك غير مقترن بما يدل على إرادة الشهر لئلا يخالف الأحاديث الصحيحة والمستحب مع ذلك أن يقول: شهر رمضان, كما قال الله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} واختلف في المعنى الذي لأجله سمي رمضان فروى أنس عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إنما سمي رمضان لأنه يحرق الذنوب) فيحتمل أنه أراد أنه شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه وقيل: هو اسم موضوع لغير معنى, كسائر الشهور وقيل غير ذلك. فصل:
والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس روي معنى ذلك عن عمر, وابن عباس وبه قال عطاء وعوام أهل العلم وروي عن علي رضي الله عنه, أنه لما صلى الفجر قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وعن ابن مسعود نحوه وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق وهذا قول الأعمش ولنا قول الله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي -ﷺ-: (إن بلالا يؤذن بليل, فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال: هذا قول جماعة علماء المسلمين . مسألة:
قال أبو القاسم, -رحمه الله-: [ وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما طلبوا الهلال فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم ] وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان, وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم ويسلموا من الاختلاف وقد روى الترمذي عن أبي هريرة, أن النبي -ﷺ- قال: (أحصوا هلال شعبان لرمضان) فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يكن لهم صيام ذلك اليوم, إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم أو صوم يوم الخميس, أو صوم آخر يوم من الشهر وشبه ذلك إذا وافق صومه أو من صام قبل ذلك بأيام, فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي -ﷺ- قال: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صياما فليصمه) متفق عليه وقال عمار: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم -ﷺ-) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وكره أهل العلم صوم يوم الشك واستقبال رمضان باليوم واليومين لنهي النبي -ﷺ- عنه وحكي عن القاسم بن محمد, أنه سئل عن صيام آخر يوم من شعبان هل يكره؟ قال: لا إلا أن يغمى الهلال واتباع قول رسول الله -ﷺ- أولى فأما استقبال الشهر بأكثر من يومين فغير مكروه, فإن مفهوم حديث أبي هريرة أنه غير مكروه لتخصيصه النهي باليوم واليومين وقد روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة, أن النبي -ﷺ- قال: (إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح إلا أن أحمد قال: ليس هو بمحفوظ قال: وسألنا عنه عبد الرحمن بن مهدي, فلم يصححه ولم يحدثني به وكان يتوقاه قال أحمد: والعلاء ثقة لا ينكر من حديثه إلا هذا لأنه خلاف ما روي عن النبي -ﷺ- أنه كان يصل شعبان برمضان ويحمل هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر, وحديث عائشة في صلة شعبان برمضان في حق من صام الشهر كله فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر فلا تعارض بين الخبرين إذا, وهذا أولى من حملهما على التعارض ورد أحدهما بصاحبه والله أعلم وفي كلام الخرقي اختصار وتقديره: طلبوا الهلال, فإن رأوه صاموا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يصوموا فحذف بعض الكلام للعلم به اختصارا. فصل:
ويستحب لمن رأى الهلال أن يقول ما روى ابن عمر قال: (كان رسول الله -ﷺ- إذا رأى الهلال قال: الله أكبر, اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى, ربي وربك الله) رواه الأثرم. فصل:
وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة, لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما وإن كان بينهما بعد, كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم وروي عن عكرمة أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم وهو مذهب القاسم, وسالم وإسحاق لما روى كريب قال: (قدمت الشام, واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة, ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال, فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا, وصام معاوية فقال: لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله -ﷺ-) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب ولنا قول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (وقول النبي -ﷺ- للأعرابي لما قال له: الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: نعم) وقوله للآخر لما قال له: ماذا فرض الله علي من الصوم؟ قال: (شهر رمضان) وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان, وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين, وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق, ووجوب النذور وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص والإجماع, ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان فأما حديث كريب فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده, ونحن نقول به وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول وليس هو في الحديث فإن قيل: فقد قلتم إن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما, ولم يروا الهلال أفطروا في أحد الوجهين قلنا: الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أننا إنما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادته, فيكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته وهاهنا لم يصوموا بقوله فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه الثاني, أن الحديث دل على صحة الوجه الآخر. مسألة:
قال: [ وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان ] اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في هذه المسألة, فروي عنه مثل ما نقل الخرقي اختارها أكثر شيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر, وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة, وأنس ومعاوية وعائشة, وأسماء بنتي أبي بكر وبه قال بكر بن عبد الله وأبو عثمان النهدي, وابن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران, وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا, وإن أفطر أفطروا وهذا قول الحسن وابن سيرين لقول النبي -ﷺ-: (الصوم يوم تصومون, والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وعن أحمد رواية ثالثة: لا يجب صومه, ولا يجزئه عن رمضان إن صامه وهو قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي, ومن تبعهم لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه البخاري وعن ابن عمر أن النبي -ﷺ- قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين) رواه مسلم وقد صح أن النبي -ﷺ- (نهى عن صوم يوم الشك) متفق عليه وهذا يوم شك ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك ولنا ما روى نافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له) قال نافع: كان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما, بعث من ينظر له الهلال فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا, وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما رواه أبو داود ومعنى اقدروا له: أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} أي ضيق عليه وقوله: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما وقد فسره ابن عمر بفعله وهو راويه وأعلم بمعناه, فيجب الرجوع إلى تفسيره كما رجع إليه في تفسير التفرق في خيار المتبايعين وروي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله -ﷺ- (قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان شيئا؟ قال: لا وفي لفظ: أصمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا قال: فإذا أفطرت فصم يومين) متفق عليه وسرر الشهر: آخره ليال يستتر الهلال فلا يظهر ولأنه شك في أحد طرفي الشهر لم يظهر فيه أنه من غير رمضان, فوجب الصوم كالطرف الآخر قال علي وأبو هريرة وعائشة: لأن أصم يوما من شعبان, أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ولأن الصوم يحتاط له ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به, فإنه يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة: (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين) وروايته أولى بالتقديم, لإمامته واشتهار عدالته وثقته, وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر: (فاقدروا له ثلاثين) مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه والنهي عن صوم الشك محمول على حال الصحو, بدليل ما ذكرناه وفي الجملة لا يجب الصوم إلا برؤية الهلال أو كمال شعبان ثلاثين يوما, أو يحول دون منظر الهلال غيم أو قتر على ما ذكرنا من الخلاف فيه. مسألة:
قال: [ ولا يجزئه صيام فرض حتى ينويه أي وقت كان من الليل ] وجملته أنه لا يصح صوم إلا بنية إجماعا فرضا كان أو تطوعا, لأنه عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة, ثم إن كان فرضا كصيام رمضان في أدائه أو قضائه والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من الليل عند إمامنا ومالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: يجزئ صيام رمضان وكل صوم متعين بنية من النهار لأن النبي -ﷺ- أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: (من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه, ومن لم يكن أكل فليصم) متفق عليه وكان صوما واجبا متعينا ولأنه غير ثابت في الذمة فهو كالتطوع، ولنا ما روي ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري, عن سالم عن أبيه عن حفصة, عن النبي -ﷺ- قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) وفي لفظ ابن حزم: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) أخرجه النسائي, وأبو داود والترمذي وروى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة, عن النبي -ﷺ- قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له) وقال: إسناده كلهم ثقات وقال في حديث حفصة: رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري, وهو من الثقات الرفعاء ولأنه صوم فرض فافتقر إلى النية من الليل كالقضاء فأما صوم عاشوراء, فلم يثبت وجوبه فإن معاوية قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه, وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر) متفق عليه فلو كان واجبا لم يبح فطره, فإنما سمى الإمساك صياما تجوزا بدليل قوله: (ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه) ولم يفرق بين المفطر بالأكل وغيره وقد روى البخاري, أن رسول الله -ﷺ- أمر رجلا: أن أذن في الناس (أن من كان أكل فليصم بقية يومه) وإمساك بقية اليوم بعد الأكل ليس بصيام شرعي وإنما سماه صياما تجوزا ثم لو ثبت أنه صيام فالفرق بين ذلك وبين رمضان أن وجوب الصيام تجدد في أثناء النهار, فأجزأته النية حين تجدد الوجوب كمن كان صائما تطوعا فنذر إتمام صوم بقية يومه, فإنه تجزئه نيته عند نذره بخلاف ما إذا كان النذر متقدما والفرق بين التطوع والفرض من وجهين: أحدهما, أن التطوع يمكن الإتيان به في بعض النهار بشرط عدم المفطرات في أوله بدليل قوله عليه السلام في حديث عاشوراء: (فليصم بقية يومه) فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائما بقية النهار دون أوله, والفرض يكون واجبا في جميع النهار ولا يكون صائما بغير النية والثاني أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيرا له, فإنه قد يبدو له الصوم في النهار فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك فسامح الشرع فيها, كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع وترك الاستقبال فيه في السفر تكثيرا له بخلاف الفرض إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه, وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أم لم يفعل واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كما اختص أذان الصبح والدفع من مزدلفة به ولنا مفهوم قوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) من غير تفصيل, ولأنه نوى من الليل فصح صومه كما لو نوى في النصف الأخير ولم يفعل ما ينافي الصوم, ولأن تخصيص النية بالنصف الأخير يفضي إلى تفويت الصوم لأنه وقت النوم وكثير من الناس لا ينتبه فيه ولا يذكر الصوم, والشارع إنما رخص في تقديم النية على ابتدائه لحرج اعتبارها عنده فلا يخصها بمحل لا تندفع المشقة بتخصيصها به, ولأن تخصيصها بالنصف الأخير تحكم من غير دليل ولا يصح اعتبار الصوم بالأذان والدفع من مزدلفة لأنهما يجوزان بعد الفجر فلا يفضي منعهما في النصف الأول إلى فواتهما, بخلاف نية الصوم ولأن اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه واشتراط النية بمعنى الإيجاب والتحتم, وفوات الصوم بفواتها فيه وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز, ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر والنية بخلافه, فأما إن فسخ النية مثل إن نوى الفطر بعد نية الصيام لم تجزئه تلك النية المفسوخة, لأنها زالت حكما وحقيقة. فصل:
وإن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل وقد روى ابن منصور, عن أحمد من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار ولم ينو من الليل, فلا بأس إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك فظاهر هذا حصول الإجزاء بنيته من النهار إلا أن القاضي قال: هذا محمول على أنه استصحب النية إلى جزء من الليل وهذا صحيح لظاهر قوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ولأنه لم ينو عند ابتداء العبادة, ولا قريبا منها فلم يصح كما لو نوى من الليل صوم بعد غد. فصل:
وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة, والشافعي وابن المنذر وعن أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهذا مذهب مالك, وإسحاق لأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته ولنا أنه صوم واجب, فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها, فأشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الأول وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه فيخرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان . فصل:
ومعنى النية القصد, وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه من غير تردد, فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدا من رمضان وأنه صائم فيه فقد نوى وإن شك في أنه من رمضان ولم يكن له أصل يبني عليه, مثل أن يكون ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتر فعزم أن يصوم غدا من رمضان, لم تصح النية ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأن النية قصد تتبع العلم, وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده ولا هو على ثقة من اعتقاده لا يصح قصده وبهذا قال حماد وربيعة ومالك, وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر وقال الثوري, والأوزاعي: يصح إذا نواه من الليل لأنه نوى الصيام من الليل فصح كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يجزم النية بصومه من رمضان, فلم يصح كما لو لم يعلم إلا بعد خروجه وكذلك لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب, لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه, ولا العمل به فكان وجوده كعدمه قال النبي -ﷺ-: (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته) وفي رواية: (لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه) فأما ليلة الثلاثين من رمضان فتصح نيته, وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان وقد أمر النبي -ﷺ- بصومه بقوله: (ولا تفطروا حتى تروه) لكن إن قال: إن كان غدا من رمضان فأنا صائم, وإن كان من شوال فأنا مفطر فقال ابن عقيل لا يصح صومه: لأنه لم يجزم بنية الصيام والنية اعتقاد جازم ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان . فصل:
ويجب تعيين النية في كل صوم واجب, وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضائه أو من كفارته, أو نذره نص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال: قلت لأبي عبد الله: أسير صام في أرض الروم شهر رمضان, ولا يعلم أنه رمضان ينوي التطوع؟ قال: لا يجزئه إلا بعزيمة أنه من رمضان ولا يجزئه في يوم الشك إذا أصبح صائما وإن كان من رمضان إلا بعزيمة من الليل أنه من رمضان وبهذا قال مالك, والشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يجب تعيين النية لرمضان فإن المروذي روى عن أحمد, أنه قال: يكون يوم الشك يوم غيم إذا أجمعنا على أننا نصبح صياما يجزئنا من رمضان وإن لم نعتقد أنه من رمضان؟ قال: نعم قلت فقول النبي -ﷺ-: (إنما الأعمال بالنيات) أليس يريد أن ينوي أنه من رمضان؟ قال: لا إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه وحكى أبو حفص العكبري, عن بعض أصحابنا أنه قال: ولو نوى نفلا وقع عنه رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة وقال بعض أصحابنا: ولو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه قال القاضي: وجدت هذا الكلام اختيارا لأبي القاسم, ذكره في "شرحه" وقال أبو حفص: لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك ولا تلوم فعلى القول الثاني: لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا, وقع عن رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة إذا كان مقميا لأنه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين النية له, كطواف الزيارة ولنا أنه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء وطواف الزيارة, كمسألتنا في افتقاره إلى التعيين فلو طاف ينوي به الوداع أو طاف بنية الطواف مطلقا, لم يجزئه عن طواف الزيارة ثم الحج مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقا وينصرف إلى الفرض ولو حج عن غيره, ولم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه ولو نوى الإحرام بمثل ما أحرم به فلان صح, وينعقد فاسدا بخلاف الصوم. فصل:
ولو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فأنا صائم, فرضا وإلا فهو نفل لم يجزئه على الرواية الأولى لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزما, ويجزئه على الأخرى لأنه قد نوى الصوم ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد, وكان الاثنين أو ظن أن غدا الأحد فنواه, وكان الاثنين صح صومه لأن نية الصوم لم تختل وإنما أخطأ في الوقت. فصل:
وإذا عين النية عن صوم رمضان, أو قضائه أو كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضا وقال ابن حامد: يجب ذلك وقد مر بيان ذلك في الصلاة. مسألة:
قال: [ ومن نوى صيام التطوع من النهار, ولم يكن طعم أجزأه ] وجملة ذلك أن صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا, وأبي حنيفة والشافعي وروي ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود, وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير, والنخعي وأصحاب الرأي وقال مالك وداود: لا يجوز إلا بنية من الليل لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ولأن الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها, فكذلك الصوم ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها (قالت: دخل عليَّ النبي -ﷺ- ذات يوم فقال: هل عندكم من شيء؟ قلنا: لا قال: فإني إذا صائم) أخرجه مسلم, وأبو داود والنسائي ويدل عليه أيضا حديث عاشوراء ولأن الصلاة يخفف نفلها عن فرضها بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها, ويجوز في السفر على الراحلة إلى غير القبلة فكذا الصيام وحديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم, فإنه من رواية ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قال الميموني: سألت أحمد عنه, فقال: أخبرك ما له عندي ذلك الإسناد إلا أنه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان والصلاة يتفق وقت النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها, بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم من النهار فعفي عنه كما لو جوزنا التنفل قاعدا وعلى الراحلة, لهذه العلة. فصل:
وأي وقت من النهار نوى أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود فإنه قال: أحدكم بأخير النظرين ما لم يأكل أو يشرب وقال رجل لسعيد بن المسيب: إني لم آكل إلى الظهر, أو إلى العصر أفأصوم بقية يومي؟ قال: نعم واختار القاضي في "المحرر" أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة, والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة, ولهذا تأثير في الأصول بدليل أن من أدرك الإمام قبل الرفع من الركوع أدرك الركعة لإدراكه معظمها ولو أدركه بعد الرفع, لم يكن مدركا لها ولو أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة كان مدركا لها لأنها تزيد بالتشهد, ولو أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركا لها ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله, ولأن جميع الليل وقت لنية الفرض فكذا جميع النهار وقت لنية النفل إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد, فإنه قال: من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه وإذا أجمع من الليل كان له يومه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب, في "الهداية": يحكم له بذلك من أول النهار وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجز له صيام باقيه, فإذا وجد في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله ولا يمتنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقة كما لو نسي الصوم بعد نيته, أو غفل عنه ولأنه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها ولنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يكون صائما فيه لقوله عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأن الصوم عبادة محضة فلا توجد بغير نية كسائر العبادات المحضة ودعوى أن الصوم لا يتبعض, دعوى محل النزاع وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شيء من اليوم ولهذا قال النبي -ﷺ- في حديث عاشوراء (فليصم بقية يومه) وأما إذا نسي النية بعد وجودها, فإنه يكون مستصحبا لحكمها بخلاف ما قبلها فإنها لم توجد حكما, ولا حقيقة ولهذا لو نوى الفرض من الليل ونسيه في النهار صح صومه, ولو لم ينو من الليل لم يصح صومه وأما إدراك الركعة والجماعة فإنما معناه أنه لا يحتاج إلى قضاء ركعة, وينوي أنه مأموم وليس هذا مستحيلا أما أن يكون ما صلى الإمام قبله من الركعات محسوبا له, بحيث يجزئه عن فعله فكلا ولأن مدرك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة لأن القيام وجد حين كبر وفعل سائر الأركان مع الإمام وأما الصوم فإن النية شرط أو ركن فيه, فلا يتصور وجوده بدون شرطه وركنه إذا ثبت هذا فإن من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية ولا فعل ما يفطره فإن فعل شيئا من ذلك, لم يجزئه الصيام بغير خلاف نعلمه. مسألة:
قال: [ ومن نوى من الليل فأغمي عليه قبل طلوع الفجر, فلم يفق حتى غربت الشمس لم يجزه صيام ذلك اليوم ] وجملة ذلك أنه متى أغمي عليه جميع النهار فلم يفق في شيء منه, لم يصح صومه في قول إمامنا والشافعي وقال أبو حنيفة: يصح لأن النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم, كالنوم ولنا أن الصوم هو الإمساك مع النية قال النبي -ﷺ-: (يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به, يدع طعامه وشرابه من أجلي) متفق عليه فأضاف ترك الطعام والشراب إليه وإذا كان مغمى عليه فلا يضاف الإمساك إليه, فلم يجزئه ولأن النية أحد ركني الصوم فلا تجزئ وحدها كالإمساك وحده, أما النوم فإنه عادة ولا يزيل الإحساس بالكلية ومتى نبه انتبه, والإغماء عارض يزيل العقل فأشبه الجنون إذا ثبت هذا فزوال العقل يحصل بثلاثة أشياء أحدها, الإغماء وقد ذكرناه ومتى فسد الصوم به فعلى المغمى عليه القضاء بغير خلاف علمناه لأن مدته لا تتطاول غالبا, ولا تثبت الولاية على صاحبه فلم يزل به التكليف وقضاء العبادات كالنوم, ومتى أفاق المغمى عليه في جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله أو آخره وقال الشافعي, في أحد قوليه: تعتبر الإفاقة في أول النهار ليحصل حكم النية في أوله ولنا أن الإفاقة حصلت في جزء من النهار فأجزأ, كما لو وجدت في أوله وما ذكروه لا يصح فإن النية قد حصلت من الليل فيستغني عن ذكرها في النهار, كما لو نام أو غفل عن الصوم ولو كانت النية إنما تحصل بالإفاقة في النهار لما صح منه صوم الفرض بالإفاقة, لأنه لا يجزئ بنية من النهار الثاني النوم فلا يؤثر في الصوم, سواء وجد في جميع النهار أو بعضه الثالث الجنون فحكمه حكم الإغماء, إلا أنه إذا وجد في جميع النهار لم يجب قضاؤه وقال أبو حنيفة: متى أفاق المجنون في جزء من رمضان لزمه قضاء ما مضى منه لأنه أدرك جزءا من رمضان وهو عاقل, فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم وقال الشافعي: إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه, كالحيض ولنا أنه معنى يمنع الوجوب إذا وجد في جميع الشهر فمنعه إذا وجد في جميع النهار كالصبا والكفر, وأما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع في وجوبه وإن سلمناه فإنه قد أدرك بعض وقت العبادة فلزمه, كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم في بعض النهار وكما لو أدرك بعض وقت الصلاة ولنا على الشافعي أنه زوال عقل في بعض النهار, فلم يمنع صحة الصوم كالإغماء والنوم ويفارق الحيض فإن الحيض لا يمنع الوجوب, وإنما يجوز تأخير الصوم ويحرم فعله ويوجب الغسل, ويحرم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطء فلا يصح قياس الجنون عليه. مسألة:
قال: [ وإذا سافر ما يقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره ] وجملته أن للمسافر أن يفطر في رمضان وغيره, بدلالة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وأما السنة فقول النبي -ﷺ-: (إن الله وضع عن المسافر الصوم) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن في أخبار كثيرة سواه وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة, وإنما يباح الفطر في السفر الطويل الذي يبيح القصر وقد ذكرنا قدره في الصلاة ثم لا يخلو المسافر من ثلاثة أحوال: أحدها, أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الفطر له الثاني أن يسافر في أثناء الشهر ليلا, فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها وما بعدها في قول عامة أهل العلم وقال عبيدة السلماني, وأبو مجلز وسويد بن غفلة: لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر لقول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا قد شهده ولنا قول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وروى ابن عباس قال: (خرج رسول الله -ﷺ- عام الفتح في شهر رمضان, فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس) متفق عليه ولأنه مسافر فأبيح له الفطر كما لو سافر قبل الشهر, والآية تناولت الأمر بالصوم لمن شهد الشهر كله وهذا لم يشهده كله الثالث أن يسافر في أثناء يوم من رمضان, فحكمه في اليوم الثاني كمن سافر ليلا وفي إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان إحداهما, له أن يفطر وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق, وداود وابن المنذر لما روى عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان, فدفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة, ثم قال: اقترب قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة (أترغب عن سنة رسول الله -ﷺ-؟ فأكل) رواه أبو داود ولأن السفر معنى لو وجد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض, ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فأباحه في أثناء النهار كالآخر والرواية الثانية لا يباح له الفطر ذلك اليوم, وهو قول مكحول والزهري ويحيى الأنصاري, ومالك والأوزاعي والشافعي, وأصحاب الرأي لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة, والأول أصح للخبر ولأن الصوم يفارق الصلاة فإن الصلاة يلزم إتمامها بنيته بخلاف الصوم إذا ثبت هذا فإنه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره, يعني أنه يجاوزها ويخرج من بين بنيانها وقال الحسن: يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج وروي نحوه عن عطاء قال ابن عبد البر: قول الحسن قول شاذ, وليس الفطر لأحد في الحضر في نظر ولا أثر وقد روي عن الحسن خلافه وقد روى محمد بن كعب قال: (أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر, وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل, فقلت له: سنة؟ فقال: سنة ثم ركب) قال الترمذي: هذا حديث حسن ولنا قول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا شاهد ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين, ولذلك لا يقصر الصلاة فأما أنس فيحتمل أنه قد كان برز من البلد خارجا منه فأتاه محمد بن كعب في منزله ذلك. فصل:
وإن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدا له أن يفطر, فله ذلك واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة: لا يجوز له الفطر وقال مرة أخرى: إن صح حديث الكديد لم أر به بأسا أن يفطر وقال مالك: إن أفطر فعليه القضاء والكفارة لأنه أفطر في صوم رمضان, فلزمه ذلك كما لو كان حاضرا ولنا حديث ابن عباس, وهو حديث صحيح متفق عليه وروى جابر (أن رسول الله -ﷺ- خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه, فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون ما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر, فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم, فبلغه أن ناسا صاموا فقال: أولئك العصاة) رواه مسلم وهذا نص صريح لا يعرج على من خالفه إذا ثبت هذا فإن له أن يفطر بما شاء من أكل وشرب وغيرهما إلا الجماع, هل له أن يفطر به أم لا؟ فإن أفطر بالجماع ففي الكفارة روايتان الصحيح منهما أنه لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي والثانية يلزمه كفارة لأنه أفطر بجماع فلزمته كفارة كالحاضر ولنا أنه صوم لا يجب المضي فيه فلم تجب الكفارة بالجماع فيه, كالتطوع وفارق الحاضر الصحيح فإنه يجب عليه المضي في الصوم, وإن كان مريضا يباح له الفطر فهو كالمسافر ولأنه يفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعد حصول الفطر, فأشبه ما لو أكل ثم جامع ومتى أفطر المسافر فله فعل جميع ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع وغيره لأن حرمتها بالصوم فتزول بزواله, كما لو زال بمجيء الليل. فصل:
وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره ، كالنذر والقضاء ؛ لأن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا عنه ، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه ، لزمه أن يأتي بالأصل . فإن نوى صوما غير رمضان ، لم يصح صومه ، لا عن رمضان ، ولا عن ما نواه . هذا الصحيح في المذهب ، وهو قول أكثر العلماء . وقال أبو حنيفة : يقع ما نواه إذا كان واجبا ؛ لأنه زمن أبيح له فطره ، فكان له صومه عن واجب عليه ، كغير شهر رمضان . ولنا أنه أبيح له الفطر للعذر ، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان ، كالمريض ، وبهذا ينتقض ما ذكروه ، وينقض أيضا بصوم التطوع ، فإنهم سلموه . قال صالح : قيل لأبي : من صام شهر رمضان ، وهو ينوي به تطوعا ، يجزئه ؟ قال : أو يفعل هذا مسلم؟ مسألة:
قال: [ ومن أكل أو شرب أو احتجم أو استعط, أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو قبل فأمنى أو أمذى, أو كرر النظر فأنزل أي ذلك فعل عامدا وهو ذاكر لصومه, فعليه القضاء بلا كفارة إذا كان صوما واجبا ] في هذه المسألة فصول: أحدها أنه يفطر بالأكل والشرب بالإجماع, وبدلالة الكتاب والسنة أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} مد الأكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما وأما السنة, فقول النبي -ﷺ-: (والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به فأما ما لا يتغذى به, فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم, ويقول: ليس بطعام ولا شراب ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن الكتاب والسنة إنما حرما الأكل والشرب فما عداهما يبقى على أصل الإباحة ولنا دلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم فيدخل فيه محل النزاع, ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة فلا يعد خلافا. الفصل الثاني:
أن الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم وبه قال إسحاق وابن المنذر, ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وهو قول عطاء وعبد الرحمن بن مهدي وكان الحسن ومسروق, وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا في الصوم منهم ابن عمر, وابن عباس وأبو موسى وأنس بن مالك, ورخص فيها أبو سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة, وحسين بن علي وعروة وسعيد بن جبير وقال مالك, والثوري وأبو حنيفة والشافعي: يجوز للصائم أن يحتجم, ولا يفطر لما روى البخاري عن ابن عباس أن النبي -ﷺ- (احتجم وهو صائم) ولأنه دم خارج من البدن, أشبه الفصد ولنا قول النبي -ﷺ-: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه عن النبي -ﷺ- أحد عشر نفسا قال أحمد: حديث شداد بن أوس من أصح حديث يروى في هذا الباب, وإسناد حديث رافع إسناد جيد وقال: حديث شداد وثوبان صحيحان وعن علي بن المديني أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث شداد وثوبان وحديثهم منسوخ بحديثنا, بدليل ما روى ابن عباس أنه قال: (احتجم رسول الله -ﷺ- بالقاحة بقرن وناب وهو محرم صائم, فوجد لذلك ضعفا شديدا فنهى رسول الله -ﷺ- أن يحتجم الصائم) رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم وعن الحكم, قال: (احتجم رسول الله -ﷺ- وهو صائم) فضعف ثم كرهت الحجامة للصائم وكان ابن عباس وهو راوي حديثهم يعد الحجام والمحاجم, فإذا غابت الشمس احتجم بالليل كذلك رواه الجوزجاني وهذا يدل على أنه علم نسخ الحديث الذي رواه ويحتمل أن النبي -ﷺ- احتجم فأفطر كما روي عنه عليه السلام أنه (قاء فأفطر) فإن قيل: فقد روي أن النبي -ﷺ- (رأى الحاجم والمحتجم يغتابان) فقال ذلك, قلنا: لم تثبت صحة هذه الرواية مع أن اللفظ أعم من السبب فيجب العمل بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, على أننا قد ذكرنا الحديث الذي فيه بيان علة النهي عن الحجامة وهي الخوف من الضعف فيبطل التعليل بما سواه, أو يكون كل واحد منهما علة مستقلة على أن الغيبة لا تفطر الصائم إجماعا فلا يصح حمل الحديث على ما يخالف الإجماع قال أحمد: لأن يكون الحديث كما جاء عن النبي -ﷺ-: (أفطر الحاجم والمحجوم) أحب إلينا من أن يكون من الغيبة لأن من أراد أن يمتنع من الحجامة امتنع وهذا أشد على الناس, من يسلم من الغيبة فإن قيل: فإذا كانت علة النهي ضعف الصائم بها فلا يقتضي ذلك الفطر وإنما يقتضي الكراهة, ومعنى قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) أي قربا من الفطر قلنا: هذا تأويل يحتاج إلى دليل على أنه لا يصح ذلك في حق الحاجم فإنه لا ضعف فيه. الفصل الثالث:
أنه يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه, أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره, وكان مما يمكن التحرز منه سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود, أو من الأنف كالسعوط أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل, أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه أو من دواء المأمومة إلى دماغه, فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل وكذلك لو جرح نفسه, أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه, أو عاد فخرج منه وبهذا كله قال الشافعي وقال مالك: لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل إلى حلقه, ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة واختلف عنه في الحقنة واحتج له بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره, فيفطره كالواصل إلى الحلق والدماغ جوف, والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف البدن.
فصل: فأما الكحل, فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره, وإلا لم يفطره نص عليه أحمد وقال ابن أبي موسى: ما يجد طعمه كالزرور والصبر والقطور أفطر وإن اكتحل باليسير من الإثمد غير المطيب كالميل ونحوه, لم يفطر نص عليه أحمد وقال ابن عقيل: إن كان الكحل حادا فطره وإلا فلا ونحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك وعن ابن أبي ليلى, وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطره لما روي عن النبي -ﷺ- (أنه اكتحل في رمضان وهو صائم) ولأن العين ليست منفذا فلم يفطر بالداخل منها, كما لو دهن رأسه ولنا أنه أوصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه فأفطر به كما لو أوصله من أنفه وما رووه لم يصح, قال الترمذي: لم يصح عن النبي -ﷺ- في باب الكحل للصائم شيء ثم يحمله على أنه اكتحل بما لا يصل وقولهم: ليست العين منفذا لا يصح فإنه يوجد طعمه في الحلق ويكتحل بالإثمد فيتنخعه قال أحمد: حدثني إنسان أنه اكتحل بالليل فتنخعه بالنهار ثم لا يعتبر في الواصل أن يكون من منفذ بدليل ما لو جرح نفسه جائفة, فإنه يفطر.
فصل: وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق, فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق فإن جمعه ثم ابتلعه قصدا لم يفطره لأنه يصل إلى جوفه من معدته أشبه ما إذا لم يجمعه وفيه وجه آخر, أنه يفطره لأنه أمكنه التحرز منه أشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق والأول أصح فإن الريق لا يفطر إذا لم يجمعه وإن قصد ابتلاعه, فكذلك إذا جمعه بخلاف غبار الطريق فإن خرج ريقه إلى ثوبه, أو بين أصابعه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه, أو بلع ريق غيره أفطر لأنه ابتلعه من غير فمه فأشبه ما لو بلع غيره فإن قيل: فقد روت عائشة, أن النبي -ﷺ- (كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها) رواه أبو داود قلنا: قد روي عن أبي داود أنه قال: هذا إسناد ليس بصحيح ويجوز أن يكون يقبل في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه, ثم لا يبتلعه ولأنه لم يتحقق انفصال ما على لسانها من البلل إلى فمه فأشبه ما لو ترك حصاة مبلولة في فيه, أو لو تمضمض بماء ثم مجه ولو ترك في فمه حصاة أو درهما فأخرجه وعليه بلة من الريق ثم أعاده في فيه, نظرت فإن كان ما عليه من الريق كثيرا فابتلعه أفطر وإن كان يسيرا لم يفطر بابتلاع ريقه وقال بعض أصحابنا: يفطر لابتلاعه ذلك البلل الذي كان على الجسم ولنا أنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه, فلا يفطره كالمضمضة والتسوك بالسواك الرطب والمبلول ويقوي ذلك حديث عائشة في مص لسانها ولو أخرج لسانه وعليه بلة ثم عاد فأدخله وابتلع ريقه, لم يفطر.
فصل: وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان إحداهما يفطر قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا تنخم, ثم ازدرده فقد أفطر لأن النخامة من الرأس تنزل والريق من الفم ولو تنخع من جوفه, ثم ازدرده أفطر وهذا مذهب الشافعي لأنه أمكن التحرز منها أشبه الدم, ولأنها من غير الفم أشبه القيء والرواية الثانية لا يفطر قال, في رواية المروذي: ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخامة وأنت صائم لأنه معتاد في الفم غير واصل من خارج أشبه الريق.
فصل: فإن سال فمه دما, أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر وإن كان يسيرا لأن الفم في حكم الظاهر, والأصل حصول الفطر بكل واصل منه لكن عفي عن الريق لعدم إمكان التحرز منه فما عداه يبقى على الأصل, وإن ألقاه من فيه وبقي فمه نجسا أو تنجس فمه بشيء من خارج, فابتلع ريقه فإن كان معه جزء من المنجس أفطر بذلك الجزء وإلا فلا.
فصل: ولا يفطر بالمضمضة بغير خلاف, سواء كان في الطهارة أو غيرها وقد روي عن النبي -ﷺ- أن عمر سأله عن القبلة للصائم؟ فقال النبي -ﷺ-: (أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس قال: فمه)؟ ولأن الفم في حكم الظاهر فلا يبطل الصوم بالواصل إليه, كالأنف والعين وإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف, فلا شيء عليه وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس وقال مالك, وأبو حنيفة: يفطر لأنه أوصل الماء إلى جوفه ذاكرا لصومه فأفطر كما لو تعمد شربه ولنا أنه وصل إلى حلقه من غير إسراف ولا قصد, فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقه وبهذا فارق المتعمد فأما إن أسرف فزاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق, فقد فعل مكروها لقول النبي -ﷺ- للقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما) حديث صحيح ولأنه يتعرض بذلك لإيصال الماء إلى حلقه فإن وصل إلى حلقه فقال أحمد: يعجبني أن يعيد الصوم وهل يفطر بذلك؟ على وجهين: أحدهما, يفطر لأن النبي -ﷺ- نهى عن المبالغة حفظا للصوم فدل على أنه يفطر به ولأنه وصل بفعل منهي عنه, فأشبه التعمد والثاني لا يفطر به لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار الدقيق إذا نخله فأما المضمضة لغير الطهارة فإن كانت لحاجة, كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه فحكمه حكم المضمضة للطهارة وإن كان عبثا أو تمضمض من أجل العطش, كره وسئل أحمد عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه قال: يرش على صدره أحب إلي فإن فعل فوصل الماء إلى حلقه أو ترك الماء في فيه عابثا, أو للتبرد فالحكم فيه كالحكم في الزائد على الثلاث لأنه مكروه ولا بأس أن يصب الماء على رأسه من الحر والعطش لما روي عن بعض أصحاب رسول الله -ﷺ- أنه قال: (لقد رأيت رسول الله -ﷺ- بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر) رواه أبو داود.
فصل: ولا بأس أن يغتسل الصائم فإن عائشة, وأم سلمة (قالتا: نشهد على رسول الله -ﷺ- إن كان ليصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم) متفق عليه وروى أبو بكر, بإسناده أن ابن عباس دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان فأما الغوص في الماء, فقال أحمد في الصائم ينغمس في الماء: إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه وكره الحسن والشعبي أن ينغمس في الماء خوفا أن يدخل في مسامعه فإن دخل في مسامعه, فوصل إلى دماغه من الغسل المشروع من غير إسراف ولا قصد فلا شيء عليه, كما لو دخل إلى حلقه من المضمضة في الوضوء وإن غاص في الماء أو أسرف, أو كان عابثا فحكمه حكم الداخل إلى الحلق من المبالغة في المضمضة والاستنشاق والزائد على الثلاث والله أعلم.
فصل: قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: الصائم يمضغ العلك قال: لا قال أصحابنا: العلك ضربان أحدهما, ما يتحلل منه أجزاء وهو الرديء الذي إذا مضغه يتحلل فلا يجوز مضغه, إلا أن لا يبلع ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به, كما لو تعمد أكله والثاني العلك القوي الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه ولا يحرم وممن كرهه الشعبي, والنخعي ومحمد بن علي وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنه يحلب الفم, ويجمع الريق ويورث العطش ورخصت عائشة في مضغه وبه قال عطاء لأنه لا يصل إلى الجوف فهو كالحصاة يضعها في فيه, ومتى مضغه ولم يجد طعمه في حلقه لم يفطر وإن وجد طعمه في حلقه لم يفطر وإن وجد طعمه في حلقه ففيه وجهان أحدهما, يفطره كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه والثاني لا يفطره لأنه لم ينزل منه شيء, ومجرد الطعم لا يفطر بدليل أنه قد قيل: من لطخ باطن قدمه بالحنظل وجد طعمه, ولا يفطر بخلاف الكحل فإن أجزاءه تصل إلى الحلق, ويشاهد إذا تنخع قال أحمد: من وضع في فيه درهما أو دينارا وهو صائم ما لم يجد طعمه في حلقه فلا بأس به, وما يجد طعمه فلا يعجبني وقال عبد الله: سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط قال: يعجبني أن يبزق.
فصل: قال أحمد: أحب إلي أن يجتنب ذوق الطعام فإن فعل لم يضره, ولا بأس به قال ابن عباس: لا بأس أن يذوق الطعام والخل والشيء يريد شراءه والحسن كان يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم ورخص فيه إبراهيم قال ابن عقيل: يكره من غير حاجة ولا بأس به مع الحاجة فإن فعل فوجد طعمه في حلقه أفطر, وإلا لم يفطر.
فصل: قال أحمد: لا بأس بالسواك للصائم قال عامر بن ربيعة: (رأيت النبي -ﷺ- ما لا أحصي يتسوك وهو صائم) قال الترمذي: هذا حديث حسن وقال زياد بن حدير: ما رأيت أحدا كان أدوم لسواك رطب وهو صائم من عمر بن الخطاب, ولكنه يكون عودا ذاويا ولم ير أهل العلم بالسواك أول النهار بأسا إذا كان العود يابسا واستحب أحمد وإسحاق ترك السواك بالعشي قال أحمد: قال رسول الله -ﷺ-: (خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك الأذفر) لتلك الرائحة لا يعجبني للصائم أن يستاك بالعشي واختلفت الرواية عنه في التسوك بالعود الرطب فرويت عنه الكراهة وهو قول قتادة, والشعبي والحكم وإسحاق, ومالك في رواية لأنه مغرر بصومه لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء إلى حلقه فيفطره وروي عنه لا يكره وبه قال الثوري, والأوزاعي وأبو حنيفة وروي ذلك عن علي وابن عمر, وعروة ومجاهد لما رويناه من حديث عمر وغيره من الصحابة.
فصل: ومن أصبح بين أسنانه طعام لم يخل من حالين: أحدهما أن يكون يسيرا لا يمكنه لفظه فازدرده, فإنه لا يفطر به لأنه لا يمكن التحرز منه فأشبه الريق قال ابن المنذر: أجمع على ذلك أهل العلم الثاني, أن يكون كثيرا يمكن لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ازدرده عامدا, فسد صومه في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة: لا يفطر لأنه لا بد له أن يبقى بين أسنانه شيء مما يأكله فلا يمكن التحرز منه فأشبه ما يجري به الريق ولنا أنه بلع طعاما يمكنه لفظه باختياره, ذاكرا لصومه فأفطر به كما لو ابتدأ الأكل, ويخالف ما يجري به الريق فإنه لا يمكنه لفظه فإن قيل: يمكنه أن يبصق قلنا: لا يخرج جميع الريق ببصاقه وإن منع من ابتلاع ريقه كله لم يمكنه.
فصل: فإن قطر في إحليله دهنا ، لم يفطر به ، سواء وصل إلى المثانة ، أو لم يصل ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : يفطر ؛ لأنه أوصل الدهن إلى جوف في جسده ، فأفطر ، كما لو نوى الجائفة ، ولأن المني يخرج من الذكر فيفطره ، وما أفطر بالخارج منه جاز أن يفطر بالداخل منه ، كالفم . ولنا أنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ ، وإنما يخرج البول رشحا ، فالذي يتركه فيه لا يصل إلى الجوف ، فلا يفطره ، كالذي يتركه في فيه ولم يبتلعه .
الفصل الرابع: إذا قبل فأمنى أو أمذى, ولا يخلو المقبل من ثلاثة أحوال أحدها أن لا ينزل فلا يفسد صومه بذلك, لا نعلم فيه خلافا لما روت عائشة أن النبي -ﷺ- (كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لإربه) رواه البخاري, ومسلم ويروى بتحريك الراء وسكونها قال الخطابي: معناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها وقيل بالتسكين: العضو وبالفتح: الحاجة وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (هششت فقبلت وأنا صائم, فقلت: يا رسول الله: صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال: أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به قال: فمه؟) رواه أبو داود شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة, وأن المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر وإن كان معها نزوله أفطر إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث وقال: هذا ريح, ليس من هذا شيء الحال الثاني أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين ولأنه إنزال بمباشرة, فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج الحال الثالث أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر وروي ذلك عن الحسن, والشعبي والأوزاعي لأنه خارج لا يوجب الغسل, أشبه البول ولنا أنه خارج تخلله الشهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصوم كالمني وفارق البول بهذا واللمس لشهوة كالقبلة في هذا إذا ثبت هذا, فإن المقبل إذا كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل لم تحل له القبلة لأنها مفسدة لصومه, فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة لكنه لا يغلب على ظنه ذلك, كره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد وقد روي عن عمر أنه قال: رأيت رسول الله -ﷺ- في المنام, فأعرض عني فقلت له: ما لي؟ فقال: "إنك تقبل وأنت صائم" ولأن العبادة إذا منعت الوطء منعت القبلة كالإحرام ولا تحرم القبلة في هذه الحال لما روي (أن رجلا قبل وهو صائم, فأرسل امرأته فسألت النبي -ﷺ- فأخبرها النبي -ﷺ- أنه يقبل وهو صائم فقال الرجل: إن رسول الله -ﷺ- ليس مثلنا, قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فغضب النبي -ﷺ- وقال: إني لأخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) رواه مسلم بمعناه ولأن إفضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه ولا يثبت التحريم بالشك, فأما إن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته كالشيخ الهرم ففيه روايتان إحداهما, لا يكره له ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي -ﷺ- كان يقبل وهو صائم لما كان مالكا لإربه وغير ذي الشهوة في معناه وقد روى أبو هريرة (أن رجلا سأل النبي -ﷺ- عن المباشرة للصائم, فرخص له فأتاه آخر فسأله, فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب) أخرجه أبو داود ولأنها مباشرة لغير شهوة, فأشبهت لمس اليد لحاجة والثانية يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة ولأن الصوم عبادة تمنع الوطء, فاستوى في القبلة فيها من تحرك شهوته وغيره كالإحرام فأما اللمس لغير شهوة, كلمس يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه بحال لأن ذلك لا يكره في الإحرام فلا يكره في الصيام, كلمس ثوبها.
فصل: ولو استمنى بيده فقد فعل محرما ولا يفسد صومه به إلا أن ينزل فإن أنزل فسد صومه لأنه في معنى القبلة في إثارة الشهوة فأما إن أنزل لغير شهوة, كالذي يخرج منه المني أو المذي لمرض فلا شيء عليه لأنه خارج لغير شهوة أشبه البول, ولأنه يخرج من غير اختيار منه ولا تسبب إليه فأشبه الاحتلام ولو احتلم لم يفسد صومه, لأنه عن غير اختيار منه فأشبه ما لو دخل حلقه شيء وهو نائم ولو جامع في الليل فأنزل بعد ما أصبح, لم يفطر لأنه لم يتسبب إليه في النهار فأشبه ما لو أكل شيئا في الليل فذرعه القيء في النهار.
الفصل الخامس: إذا كرر النظر فأنزل, ولتكرار النظر أيضا ثلاثة أحوال أحدها أن لا يقترن به إنزال فلا يفسد الصوم بغير اختلاف الثاني, أن يقترن به إنزال المني فيفسد الصوم في قول إمامنا وعطاء, والحسن البصري ومالك والحسن بن صالح وقال جابر بن زيد, والثوري وأبو حنيفة والشافعي, وابن المنذر: لا يفسد لأنه إنزال عن غير مباشرة أشبه الإنزال بالفكر ولنا أنه إنزال بفعل يتلذذ به ويمكن التحرز منه, فأفسد الصوم كالإنزال باللمس والفكر لا يمكن التحرز منه, بخلاف تكرار النظر الثالث: مذي بتكرار النظر فظاهر كلام أحمد أنه لا يفطر به لأنه لا نص في الفطر ولا يمكن قياسه على إنزال المني, لمخالفته إياه في الأحكام فيبقى على الأصل فأما إن نظر فصرف بصره لم يفسد صومه, سواء أنزل أو لم ينزل وقال مالك: إن أنزل فسد صومه لأنه أنزل بالنظر أشبه ما لو كرره ولنا أن النظرة الأولى لا يمكن التحرز منها فلا يفسد الصوم ما أفضت إليه, كالفكرة وعليه يخرج التكرار فإذا ثبت هذا, فإن تكرار النظر مكروه لمن يحرك شهوته غير مكروه لمن لا يحرك شهوته كالقبلة ويحتمل أن لا يكره بحال لأن إفضاءه إلى الإنزال المفطر بعيد جدا, بخلاف القبلة فإن حصول المذي بها ليس ببعيد.
فصل: فإن فكر فأنزل لم يفسد صومه وحكي عن أبي حفص البرمكي, أنه يفسد واختاره ابن عقيل لأن الفكرة تستحضر فتدخل تحت الاختيار بدليل تأثيم صاحبها في مساكنتها, في بدعة وكفر ومدح الله سبحانه الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ونهى النبي -ﷺ- عن التفكر في ذات الله وأمر بالتفكر في آلائه, ولو كانت غير مقدور عليها لم يتعلق ذلك بها كالاحتلام فأما إن خطر بقلبه صورة الفعل فأنزل, لم يفسد صومه لأن الخاطر لا يمكن دفعه ولنا قول النبي -ﷺ-: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) ولأنه لا نص في الفطر به ولا إجماع, ولا يمكن قياسه على المباشرة ولا تكرار النظر لأنه دونهما في استدعاء الشهوة, وإفضائه إلى الإنزال ويخالفهما في التحريم إذا تعلق ذلك بأجنبية أو الكراهة إن كان في زوجة, فيبقى على الأصل.
الفصل السادس: أن المفسد للصوم من هذا كله ما كان عن عمد وقصد فأما ما حصل منه عن غير قصد كالغبار الذي يدخل حلقه من الطريق, ونخل الدقيق والذبابة التي تدخل حلقه أو يرش عليه الماء فيدخل مسامعه, أو أنفه أو حلقه أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه أو يسبق إلى حلقه من ماء المضمضة, أو يصب في حلقه أو أنفه شيء كرها أو تداوى مأمومته أو جائفته بغير اختياره أو يحجم كرها, أو تقبله امرأة بغير اختياره فينزل أو ما أشبه هذا فلا يفسد صومه, لا نعلم فيه خلافا لأنه لا فعل له فلا يفطر كالاحتلام وأما إن أكره على شيء من ذلك بالوعيد ففعله, فقال ابن عقيل: قال أصحابنا: لا يفطر به أيضا لقول النبي -ﷺ-: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) قال: ويحتمل عندي أن يفطر لأنه فعل المفطر لدفع الضرر عن نفسه فأشبه المريض يفطر لدفع المرض, ومن يشرب لدفع العطش ويفارق الملجأ لأنه خرج بذلك عن حيز الفعل ولذلك لا يضاف إليه, ولذلك افترقا فيما لو أكره على قتل آدمي وألقي عليه.
الفصل السابع: أنه متى أفطر بشيء من ذلك فعليه القضاء لا نعلم في ذلك خلافا لأن الصوم كان ثابتا في الذمة, فلا تبرأ منه إلا بأدائه ولم يؤده فبقي على ما كان عليه ولا كفارة في شيء مما ذكرناه, في ظاهر المذهب وهو قول سعيد بن جبير والنخعي وابن سيرين, وحماد والشافعي وعن أحمد أن الكفارة تجب على من أنزل بلمس أو قبلة أو تكرار نظر لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الإنزال بالجماع وعنه في المحتجم, إن كان عالما بالنهي فعليه الكفارة وقال عطاء في المحتجم: عليه الكفارة وقال مالك: تجب الكفارة بكل ما كان هتكا للصوم إلا الردة لأنه إفطار في رمضان أشبه الجماع وحكي عن عطاء, والحسن والزهري والثوري, والأوزاعي وإسحاق أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع وبه قال أبو حنيفة, إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به فلو ابتلع حصاة أو نواة أو فستقة بقشرها فلا كفارة عليه واحتجوا بأنه أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه, فوجبت عليه الكفارة كالمجامع ولنا أنه أفطر بغير جماع فلم توجب الكفارة كبلع الحصاة أو التراب, أو كالردة عند مالك ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا ولا إجماع ولا يصح قياسه على الجماع, لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس والحكم في التعدي به آكد ولهذا يجب به الحد إذا كان محرما, ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته ووجوب البدنة ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين, بخلاف غيره.
فصل: والواجب في القضاء عن كل يوم يوم في قول عامة الفقهاء وقال أحمد: قال إبراهيم ووكيع: يصوم ثلاثة آلاف يوم وعجب أحمد من قولهما وقال سعيد بن المسيب: من أفطر يوما متعمدا يصوم شهرا وحكي عن ربيعة أنه قال: يجب مكان كل يوم اثنا عشر يوما لأن رمضان يجزئ عن جميع السنة, وهي اثنا عشر شهرا ولنا قول الله تعالى: {فعدة من أيام أخر} وقال النبي -ﷺ- في قصة المجامع: (صم يوما مكانه) رواه أبو داود ولأن القضاء يكون على حسب الأداء بدليل سائر العبادات ولأن القضاء لا يختلف بالعذر وعدمه, بدليل الصلاة والحج وما ذكروه تحكم لا دليل عليه والتقدير لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع, وليس معهم واحد منهما وقول ربيعة يبطل بالمعذور وذكر لأحمد حديث أبي هريرة: (من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يقضه ولو صام الدهر) فقال: ليس يصح هذا الحديث.
مسألة: قال: [ وإن فعل ذلك ناسيا, فهو على صومه ولا قضاء عليه ] وجملته أن جميع ما ذكره الخرقي في هذه المسألة لا يفطر الصائم بفعله ناسيا وروي عن علي رضي الله عنه: لا شيء على من أكل ناسيا وهو قول أبي هريرة وابن عمر وعطاء, وطاوس وابن أبي ذئب والأوزاعي, والثوري والشافعي وأبي حنيفة, وإسحاق وقال ربيعة ومالك: يفطر لأن ما لا يصح الصوم مع شيء من جنسه عمدا, لا يجوز مع سهوه كالجماع وترك النية, ولنا: ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه وفي لفظ: (من أكل أو شرب ناسيا, فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله) ولأنها عبادة ذات تحليل وتحريم فكان في محظوراتها ما يختلف عمده وسهوه, كالصلاة والحج وأما النية فليس تركها فعلا ولأنها شرط والشروط لا تسقط بالسهو, بخلاف المبطلات والجماع حكمه أغلظ ويمكن التحرز عنه.
فصل: وإن فعل شيئا من ذلك وهو نائم, لم يفسد صومه لأنه لا قصد له ولا علم بالصوم فهو أعذر من الناسي وذكر أبو الخطاب أن من فعل من هذا شيئا جاهلا بتحريمه, لم يفطر ولم أره عن غيره وقول النبي -ﷺ-: (أفطر الحاجم والمحجوم) في حق الرجلين اللذين رآهما يحجم أحدهما صاحبه مع جهلهما بتحريمه, يدل على أن الجهل لا يعذر به ولأنه نوع جهل فلم يمنع الفطر, كالجهل بالوقت في حق من يأكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع.
مسألة: قال: [ ومن استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه ] معنى استقاء: تقيأ مستدعيا للقيء وذرعه: خروج من غير اختيار منه, فمن استقاء فعليه القضاء لأن صومه يفسد به ومن ذرعه فلا شيء عليه وهذا قول عامة أهل العلم قال الخطابي: لا أعلم بين أهل العلم فيه اختلافا وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أن القيء لا يفطر وروي أن النبي -ﷺ- قال (ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام) ولأن الفطر بما يدخل لا بما يخرج ولنا ما روى أبو هريرة, أن النبي -ﷺ- قال: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عامدا فليقض) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ورواه أبو داود وحديثهم غير محفوظ يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهو ضعيف في الحديث قاله الترمذي والمعنى الذي ذكر لهم يبطل بالحيض والمني.
فصل: وقليل القيء وكثيره سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد, والرواية الثانية لا يفطر إلا بملء الفم لأنه روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (ولكن دسعة تملأ الفم) ولأن اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفطر كالبلغم والثالثة نصف الفم, لأنه ينقض الوضوء فأفطر به كالكثير والأولى أولى لظاهر الحديث الذي رويناه ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها وحديث الرواية الثانية لا نعرف له أصلا ولا فرق بين كون القيء طعاما, أو مرارا أو بلغما أو دما, أو غيره لأن الجميع داخل تحت عموم الحديث والمعنى والله تعالى أعلم بالصواب.
مسألة: قال: [ ومن ارتد عن الإسلام فقد أفطر ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من ارتد عن الإسلام في أثناء الصوم, أنه يفسد صومه وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام سواء أسلم في أثناء اليوم, أو بعد انقضائه وسواء كانت ردته باعتقاده ما يكفر به أو شكه فيما يكفر بالشك فيه, أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزئا أو غير مستهزئ قال الله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} وذلك لأن الصوم عبادة من شرطها النية, فأبطلتها الردة كالصلاة والحج ولأنه عبادة محضة, فنافاها الكفر كالصلاة.
مسألة: قال: [ ومن نوى الإفطار فقد أفطر ] هذا الظاهر من المذهب وهو قول الشافعي وأبي ثور, وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا: إن عاد فنوى قبل أن ينتصف النهار أجزأه بناء على أصلهم أن الصوم يجزئ بنية من النهار وحكي عن ابن حامد أن الصوم لا يفسد بذلك لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها فلم تفسد بنية الخروج منها, كالحج ولنا أنها عبادة من شرطها النية ففسدت بنية الخروج منها كالصلاة, ولأن الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة ولكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها فإذا نواه زالت حقيقة وحكما, ففسد الصوم لزوال شرطه وما ذكره ابن حامد لا يطرد في غير رمضان ولا يصح القياس على الحج فإنه يصح بالنية المطلقة والمبهمة, وبالنية عن غيره إذا لم يكن حج عن نفسه فافترقا.
فصل: فأما صوم النافلة فإن نوى الفطر, ثم لم ينو الصوم بعد ذلك لم يصح صومه لأن النية انقطعت ولم توجد نية غيرها فأشبه من لم ينو أصلا وإن عاد فنوى الصوم, صح صومه كما لو أصبح غير ناو للصوم لأن نية الفطر إنما أبطلت الفرض لما فيه من قطع النية المشترطة في جميع النهار حكما وخلو بعض أجزاء النهار عنها والنفل مخالف للفرض في ذلك, فلم تمنع صحته نية الفطر في زمن لا يشترط وجود نية الصوم فيه ولأن نية الفطر لا تزيد على عدم النية في ذلك الوقت وعدمها لا يمنع صحة الصوم إذا نوى بعد ذلك, فكذلك إذا نوى الفطر ثم نوى الصوم بعده بخلاف الواجب, فإنه لا يصح بنية من النهار وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا أصبح صائما ثم عزم على الفطر, فلم يفطر حتى بدا له ثم قال: لا بل أتم صومي من الواجب لم يجزئه حتى يكون عازما على الصوم يومه كله, ولو كان تطوعا كان أسهل وظاهر هذا موافق لما ذكرناه وقد دل على صحته أن النبي -ﷺ- (كان يسأل أهله: هل من غداء؟ فإن قالوا: لا قال: إني إذا صائم).
مسألة: قال: [ ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل, أو دون الفرج فأنزل عامدا أو ساهيا فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا, في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل أنه يفسد صومه إذا كان عامدا, وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك وهذه المسألة فيها مسائل أربع:
إحداها: أن من أفسد صوما واجبا بجماع فعليه القضاء, سواء كان في رمضان أو غيره وهذا قول أكثر الفقهاء وقال الشافعي في أحد قوليه: من لزمته الكفارة لا قضاء عليه لأن النبي -ﷺ- لم يأمر الأعرابي بالقضاء وحكي عن الأوزاعي أنه قال: إن كفر بالصيام فلا قضاء عليه لأنه صام شهرين متتابعين ولنا أن النبي -ﷺ- قال للمجامع: (وصم يوما مكانه) رواه أبو داود بإسناده, وابن ماجه والأثرم ولأنه أفسد يوما من رمضان فلزمه قضاؤه, كما لو أفسده بالأكل أو أفسد صومه الواجب بالجماع فلزمه قضاؤه, كغير رمضان.
المسألة الثانية: أن الكفارة تلزم من جامع في الفرج في رمضان عامدا أنزل أو لم ينزل في قول عامة أهل العلم وحكي عن الشعبي والنخعي, وسعيد بن جبير: لا كفارة عليه لأن الصوم عبادة لا تجب الكفارة بإفساد قضائها فلا تجب في أدائها كالصلاة ولنا: ما روى الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: بينا نحن جلوس عند النبي -ﷺ- (إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت قال ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله -ﷺ- هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا, قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا قال: فمكث النبي -ﷺ- فبينا نحن على ذلك أتى النبي -ﷺ- بعرق فيه تمر والعرق: المكتل فقال: أين السائل؟ فقال: أنا, قال: خذ هذا فتصدق به فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي -ﷺ- حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك) متفق عليه ولا يجوز اعتبار الأداء في ذلك بالقضاء لأن الأداء يتعلق بزمن مخصوص يتعين به, والقضاء محله الذمة والصلاة لا يدخل في جبرانها المال بخلاف مسألتنا.
المسألة الثالثة: أن الجماع دون الفرج, إذا اقترن به الإنزال فيه عن أحمد روايتان إحداهما عليه الكفارة, وهذا قول مالك وعطاء والحسن وابن المبارك وإسحاق لأنه فطر بجماع, فأوجب الكفارة كالجماع في الفرج والثانية: لا كفارة فيه وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة لأنه فطر بغير جماع تام, فأشبه القبلة ولأن الأصل عدم وجوب الكفارة ولا نص في وجوبها ولا إجماع ولا قياس, ولا يصح القياس على الجماع في الفرج لأنه أبلغ بدليل أنه يوجبها من غير إنزال ويجب به الحد إذا كان محرما, ويتعلق به اثنا عشر حكما ولأن العلة في الأصل الجماع بدون الإنزال والجماع ها هنا غير موجب فلم يصح اعتباره به.
المسألة الرابعة: أنه جامع ناسيا, فظاهر المذهب أنه كالعامد نص عليه أحمد وهو قول عطاء وابن الماجشون وروى أبو داود عن أحمد, أنه توقف عن الجواب وقال: أجبن أن أقول فيه شيئا وأن أقول ليس عليه شيء قال: سمعته غير مرة لا ينفذ له فيه قول ونقل أحمد بن القاسم عنه: كل أمر غلب عليه الصائم, ليس عليه قضاء ولا غيره قال أبو الخطاب: هذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة مع الإكراه والنسيان وهو قول الحسن ومجاهد والثوري, والشافعي وأصحاب الرأي لأنه معنى حرمه الصوم فإذا وجد منه مكرها أو ناسيا, لم يفسده كالأكل وكان مالك والأوزاعي والليث, يوجبون القضاء دون الكفارة لأن الكفارة لرفع الإثم وهو محطوط عن الناسي ولنا أن النبي -ﷺ- أمر الذي قال: وقعت على امرأتي بالكفارة ولم يسأله عن العمد, ولو افترق الحال لسأل واستفصل ولأنه يجب التعليل بما تناوله لفظ السائل وهو الوقوع على المرأة في الصوم ولأن السؤال كالمعاد في الجواب, فكأن النبي -ﷺ- قال: (من وقع على أهله في رمضان فليعتق رقبة) فإن قيل: ففي الحديث ما يدل على العمد وهو قوله: هلكت وروي: احترقت قلنا: يجوز أن يخبر عن هلكته لما يعتقده في الجماع مع النسيان من إفساد الصوم وخوفه من غير ذلك, ولأن الصوم عبادة تحرم الوطء فاستوى فيها عمده وسهوه كالحج, ولأن إفساد الصوم ووجوب الكفارة حكمان يتعلقان بالجماع لا تسقطهما الشبهة فاستوى فيهما العمد والسهو, كسائر أحكامه.
فصل: ولا فرق بين كون الفرج قبلا أو دبرا من ذكر أو أنثى وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في أشهر الروايتين عنه: لا كفارة في الوطء في الدبر لأنه لا يحصل به الإحلال ولا الإحصان, فلا يوجب الكفارة كالوطء دون الفرج ولنا أنه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج فأوجب الكفارة, كالوطء وأما الوطء دون الفرج فلنا فيه منع, وإن سلمنا فلأن الجماع دون الفرج لا يفسد الصوم بمجرده بخلاف الوطء في الدبر.
فصل: فأما الوطء في فرج البهيمة فذكر القاضي أنه موجب للكفارة لأنه وطء في فرج موجب للغسل, مفسد للصوم فأشبه وطء الآدمية وفيه وجه آخر لا تجب به الكفارة وذكره أبو الخطاب لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه, فإنه مخالف لوطء الآدمية في إيجاب الحد على إحدى الروايتين وفي كثير من أحكامه ولا فرق بين كون الموطوءة زوجة أو أجنبية أو كبيرة أو صغيرة لأنه إذا وجب بوطء الزوجة, فبوطء الأجنبية أولى.
فصل: ويفسد صوم المرأة بالجماع بغير خلاف نعلمه في المذهب لأنه نوع من المفطرات فاستوى فيه الرجل والمرأة, كالأكل وهل يلزمها الكفارة؟ على روايتين إحداهما يلزمها وهو اختيار أبي بكر وقول مالك, وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر ولأنها هتكت صوم رمضان بالجماع, فوجبت عليها الكفارة كالرجل والثانية لا كفارة عليها قال أبو داود: سئل أحمد عن من أتى أهله في رمضان أعليها كفارة؟ قال: ما سمعنا أن على امرأة كفارة وهذا قول الحسن, وللشافعي قولان كالروايتين ووجه ذلك أن النبي -ﷺ- أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة ولم يأمر في المرأة بشيء مع علمه بوجود ذلك منها, ولأنه حق مال يتعلق بالوطء من بين جنسه فكان على الرجل كالمهر.
فصل: وإن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها, رواية واحدة وعليها القضاء قال مهنا: سألت أحمد عن امرأة غصبها رجل نفسها فجامعها, أعليها القضاء؟ قال: نعم قلت: وعليها كفارة؟ قال: لا وهذا قول الحسن ونحو ذلك قول الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وعلى قياس ذلك, إذا وطئها نائمة وقال مالك في النائمة: عليها القضاء بلا كفارة والمكرهة عليها القضاء والكفارة وقال الشافعي وأبو ثور, وابن المنذر: إن كان الإكراه بوعيد حتى فعلت كقولنا وإن كان إلجاء لم تفطر وكذلك إن وطئها وهي نائمة ويخرج من قول أحمد - في رواية ابن القاسم - كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره أنه لا قضاء عليها إذا كانت ملجأة أو نائمة لأنها لم يوجد منها فعل, فلم تفطر كما لو صب في حلقها ماء بغير اختيارها ووجه الأول أنه جماع في الفرج, فأفسد الصوم كما لو أكرهت بالوعيد ولأن الصوم عبادة يفسدها الوطء, ففسدت به على كل حال كالصلاة والحج ويفارق الأكل فإنه يعذر فيه بالنسيان, بخلاف الجماع.
فصل: فإن تساحقت امرأتان ، فلم ينزلا ، فلا شيء عليهما . وإن أنزلتا ، فسد صومهما . وهل يكون حكمهما حكم المجامع دون الفرج إذا أنزل ، أو لا يلزمهما كفارة بحال ؟ فيه وجهان ، مبنيان على أن الجماع من المرأة هل يوجب الكفارة ؟ على روايتين ، وأصح الوجهين ، أنهما لا كفارة عليهما ؛ لأن ذلك ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص عليه ، فيبقى على الأصل . وإن ساحق المجبوب فأنزل ، فحكمه حكم من جامع دون الفرج فأنزل .
فصل: وإن جامعت المرأة ناسية للصوم فقال أبو الخطاب: حكم النسيان حكم الإكراه ولا كفارة عليها فيهما وعليها القضاء لأن الجماع يحصل به الفطر في حق الرجل مع النسيان, فكذلك في حق المرأة ويحتمل أن لا يلزمها القضاء لأنه مفسد لا يوجب الكفارة فأشبه الأكل. فصل:
وإن أكره الرجل على الجماع فسد صومه لأنه إذا أفسد صوم المرأة فصوم الرجل أولى وأما الكفارة, فقال القاضي: عليه الكفارة لأن الإكراه على الوطء لا يمكن لأنه لا يطأ حتى ينتشر ولا ينتشر إلا عن شهوة, فكان كغير المكره وقال أبو الخطاب: فيه روايتان إحداهما لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو ماحية للذنب, ولا حاجة إليها مع الإكراه لعدم الإثم فيه ولقول النبي -ﷺ- (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان, وما استكرهوا عليه) ولأن الشرع لم يرد بوجوب الكفارة فيه ولا يصح قياسه على ما ورد الشرع فيه لاختلافهما في وجود العذر وعدمه فأما إن كان نائما, مثل أن كان عضوه منتشرا في حال نومه فاستدخلته امرأته فقال ابن عقيل: لا قضاء عليه ولا كفارة وكذلك إن كان إلجاء مثل أن غلبته في حال يقظته على نفسه وهذا مذهب الشافعي لأنه معنى حرمه الصوم حصل بغير اختياره, فلم يفطر به كما لو أطارت الريح إلى حلقه ذبابة وظاهر كلام أحمد أن عليه القضاء لأنه قال في المرأة إذا غصبها رجل نفسها فجامعها: عليها القضاء فالرجل أولى ولأن الصوم عبادة يفسدها الجماع, فاستوى في ذلك حالة الاختيار والإكراه كالحج ولا يصح قياس الجماع على غيره في عدم الإفساد لتأكده بإيجاب الكفارة, وإفساده للحج من بين سائر محظوراته وإيجاب الحد به إذا كان زنا. فصل:
ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء وقال قتادة: تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في أدائها, فوجبت في قضائها كالحج ولنا أنه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفارة, كما لو جامع في صيام الكفارة ويفارق القضاء الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له, بخلاف القضاء. فصل:
وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جن أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار, لم تسقط الكفارة وبه قال مالك والليث وابن الماجشون, وإسحاق وقال أصحاب الرأي: لا كفارة عليهم وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقا فلم يجب بالوطء فيه كفارة كصوم المسافر, أو كما لو قامت البينة أنه من شوال ولنا: أنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها كالسفر, ولأنه أفسد صوما واجبا في رمضان بجماع تام فاستقرت الكفارة عليه كما لو لم يطرأ عذر, والوطء في صوم المسافر ممنوع وإن سلم فالوطء ثم لم يوجب أصلا لأنه وطء مباح, في سفر أبيح الفطر فيه بخلاف مسألتنا وكذا إذا تبين أنه من شوال, فإن الوطء غير موجب لأنا تبينا أن الوطء لم يصادف رمضان والموجب إنما هو الوطء المفسد لصوم رمضان. فصل:
إذا طلع الفجر وهو مجامع, فاستدام الجماع فعليه القضاء والكفارة وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يجب القضاء دون الكفارة لأن وطأه لم يصادف صوما صحيحا, فلم يوجب الكفارة كما لو ترك النية وجامع ولنا أنه ترك صوم رمضان بجماع أثم به لحرمة الصوم فوجبت به الكفارة, كما لو وطئ بعد طلوع الفجر وعكسه إذا لم ينو فإنه يتركه لترك النية لا الجماع, ولنا فيه منع أيضا وأما إن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر فقال ابن حامد والقاضي: عليه الكفارة أيضا لأن النزع جماع يلتذ به فتعلق به ما يتعلق بالاستدامة, كالإيلاج وقال أبو حفص: لا قضاء عليه ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه ترك للجماع فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع, كما لو حلف لا يدخل دارا وهو فيها فخرج منها كذلك ها هنا وقال مالك: يبطل صومه, ولا كفارة عليه لأنه لا يقدر على أكثر مما فعله في ترك الجماع فأشبه المكره وهذه المسألة تقرب من الاستحالة إذ لا يكاد يعلم أول طلوع الفجر على وجه يتعقبه النزع, من غير أن يكون قبله شيء من الجماع فلا حاجة إلى فرضها والكلام فيها. فصل:
ومن جامع يظن أن الفجر لم يطلع, فتبين أنه كان قد طلع فعليه القضاء والكفارة وقال أصحاب الشافعي: لا كفارة عليه ولو علم في أثناء الوطء فاستدام فلا كفارة عليه أيضا لأنه إذا لم يعلم لم يأثم, فلا يجب به كفارة كوطء الناسي وإن علم فاستدام فقد حصل الوطء الذي يأثم به في غير صوم ولنا حديث المجامع, إذ أمره النبي -ﷺ- بالتكفير من غير تفريق ولا تفصيل ولأنه أفسد صوم رمضان بجماع تام فوجبت عليه الكفارة, كما لو علم ووطء الناسي ممنوع ثم لا يحصل به الفطر على الرواية الأخرى بخلاف مسألتنا. مسألة:
قال: [ والكفارة عتق رقبة, فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ] المشهور من مذهب أبي عبد الله أن كفارة الوطء في رمضان ككفارة الظهار في الترتيب, يلزمه العتق إن أمكنه فإن عجز عنه انتقل إلى الصيام فإن عجز انتقل إلى إطعام ستين مسكينا وهذا قول جمهور العلماء وبه يقول الثوري, والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى, أنها على التخيير بين العتق والصيام والإطعام وبأيها كفر أجزأه وهو رواية عن مالك لما روى مالك وابن جريج عن الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة (أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله -ﷺ- أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين, أو إطعام ستين مسكينا) رواه مسلم و "أو" حرف تخيير ولأنها تجب بالمخالفة فكانت على التخيير ككفارة اليمين وروي عن مالك, أنه قال: الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في نهار رمضان إطعام ستين مسكينا أو صيام ذلك اليوم, وليس التحرير والصيام من كفارة رمضان في شيء وهذا القول ليس بشيء لمخالفته الحديث الصحيح مع أنه ليس له أصل يعتمد عليه ولا شيء يستند إليه, وسنة رسول الله -ﷺ- أحق أن تتبع وأما الدليل على وجوب الترتيب فالحديث الصحيح رواه معمر ويونس, والأوزاعي والليث وموسى بن عقبة, وعبيد الله بن عمر وعراك بن مالك وإسماعيل بن أمية, ومحمد بن أبي عتيق وغيرهم عن الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله -ﷺ- (قال للواقع على أهله: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال:) لا وذكر سائر الحديث وهذا لفظ الترتيب, والأخذ بهذا أولى من رواية مالك لأن أصحاب الزهري اتفقوا على روايته هكذا سوى مالك وابن جريج فيما علمنا, واحتمال الغلط فيهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه ولأن الترتيب زيادة والأخذ بالزيادة متعين ولأن حديثنا لفظ النبي -ﷺ- وحديثهم لفظ الراوي ويحتمل أنه رواه بـ "أو" لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء, ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكانت على الترتيب ككفارة الظهار والقتل. فصل:
فإذا عدم الرقبة, انتقل إلى صيام شهرين متتابعين ولا نعلم خلافا في دخول الصيام في كفارة الوطء إلا شذوذا لا يعرج عليه, لمخالفة السنة الثابتة ولا خلاف بين من أوجبه أنه شهران متتابعان للخبر أيضا فإن لم يشرع في الصيام حتى وجد الرقبة لزمه العتق لأن النبي -ﷺ- سأل المواقع عما يقدر عليه حين أخبره بالعتق, ولم يسأله عما كان يقدر عليه حالة المواقعة وهي حالة الوجوب ولأنه وجد المبدل قبل التلبس بالبدل, فلزمه كما لو كان واجدا له حال الوجوب وإن شرع في الصوم قبل القدرة على الإعتاق ثم قدر عليه, لم يلزمه الخروج إليه إلا أن يشاء العتق فيجزئه ويكون قد فعل الأولى وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج لأنه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل, فبطل حكم المبدل كالمتيمم يرى الماء ولنا أنه شرع في الكفارة الواجبة عليه فأجزأته, كما لو استمر العجز إلى فراغها وفارق العتق التيمم لوجهين: أحدهما أن التيمم لا يرفع الحدث, وإنما يستره فإذا وجد الماء ظهر حكمه بخلاف الصوم, فإنه يرفع حكم الجماع بالكلية الثاني أن الصيام تطول مدته فيشق إلزامه الجمع بينه وبين العتق, بخلاف الوضوء والتيمم. مسألة:
قال: [ فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير ] لا نعلم خلافا بين أهل العلم في دخول الإطعام في كفارة الوطء في رمضان في الجملة, وهو مذكور في الخبر والواجب فيه إطعام ستين مسكينا في قول عامتهم, وهو في الخبر أيضا ولأنه إطعام في كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكان إطعام ستين مسكينا ككفارة الظهار واختلفوا في قدر ما يطعم كل مسكين فذهب أحمد إلى أن لكل مسكين مد بر, وذلك خمسة عشر صاعا أو نصف صاع من تمر أو شعير فيكون الجميع ثلاثين صاعا وقال أبو حنيفة من البر لكل مسكين نصف صاع, ومن غيره صاع لقول النبي -ﷺ- في حديث سلمة بن صخر: (فأطعم وسقا من تمر) رواه أبو داود وقال أبو هريرة: يطعم مدا من أي الأنواع شاء وبهذا قال عطاء والأوزاعي والشافعي لما روى أبو هريرة, في حديث المجامع أن النبي -ﷺ- أتى بمكتل من تمر قدره خمسة عشر صاعا, فقال: (خذ هذا فأطعمه عنك) رواه أبو داود ولنا ما روى أحمد حدثنا إسماعيل, حدثنا أيوب عن أبي يزيد المدني قال: (جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله -ﷺ- للمظاهر: أطعم هذا, فإن مدي شعير مكان مد بر) ولأن فدية الأذى نصف صاع من التمر والشعير بلا خلاف فكذا هذا والمد من البر يقوم مقام نصف صاع من غيره, بدليل حديثنا ولأن الإجزاء بمد منه قول ابن عمر وابن عباس, وأبي هريرة وزيد ولا مخالف لهم في الصحابة وأما حديث سلمة بن صخر فقد اختلف فيه, وحديث أصحاب الشافعي يجوز أن يكون الذي أتي به النبي -ﷺ- قاصرا عن الواجب فاجتزئ به لعجز المكفر عما سواه. فصل:
فإن أخرج من الدقيق أو السويق أجزأ ؛ لما ذكرناه فيما تقدم . وإن غدى المساكين أو عشاهم ، لم يجزئه ، في أظهر الروايتين عنه . وهو ظاهر كلام الخرقي ؛ لأنه قدر ما يجزئ في الدفع بمد أو نصف صاع ، وإذا أطعمهم لا يعلم أن كل واحد منهم استوفى الواجب له ، ووجه ذلك أن النبي ﷺ بين قدر ما يطعمه كل مسكين بما ذكرنا من الأحاديث ، وهي مقيدة لمطلق الإطعام المذكور ، والمطلق يحمل على المقيد ، ولا يعلم أن كل مسكين استوفى ما يجب له ، ولأن الواجب تمليك المسكين طعامه ، والإطعام إباحة ، وليس بتمليك . فعلى هذه الرواية ؛ إن أفرد لكل مسكين قدر الواجب له ، فأطعمه إياه ، نظرت ؛ فإن قال : هذا لك تتصرف فيه كيف شئت . أجزأه ؛ لأنه قد ملكه إياه . وإن لم يقل له شيئا ، احتمل أن يجزئه ؛ لأنه قد أطعمه ما يجب له ، فأشبه ما لو ملكه ، واحتمل أن لا يجزئه ؛ لأنه لم يملكه إياه . والرواية الثانية ، يجزئه أن يجمع ستين مسكينا فيطعمهم . قال أبو داود : سمعت أحمد يسأل عن امرأة أفطرت رمضان ، ثم أدركها رمضان آخر ، ثم ماتت . قال : كم أفطرت ؟ قال : ثلاثين يوما . قال : فاجمع ثلاثين مسكينا ، وأطعمهم مرة واحدة ، وأشبعهم . وذلك لأن النبي ﷺ قال للمجامع : ( أطعم ستين مسكينا ) . وهذا قد أطعمهم ، وقال الله تعالى { فإطعام ستين مسكينا } . وقال في كفارة اليمين : { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } . وهذا قد أطعمهم . وروي عن أنس ، أنه أفطر في رمضان ، فجمع المساكين ، ووضع جفانا فأطعمهم . ولأنه أطعم ستين مسكينا فأجزأه ، كما لو ملكه إياه . فعلى هذه الرواية ، إن أطعمهم قدر الواجب لهم أجزأه ، وإن أطعمهم دون ذلك فأشبعهم ، فظاهر كلام أحمد أنه يجزئه ؛ لأنه قد أطعمهم . ويحتمل أن لا يجزئه ؛ لأنه لم يطعمهم ما وجب لهم . فصل:
ويجزئ في الكفارة ما يجزئ في الفطرة من البر والشعير ودقيقهما, والتمر والزبيب وفي الأقط وجهان وفي الخبز روايتان, وكذلك يخرج في السويق فإن كان قوته غير ذلك من الحبوب كالدخن والذرة, والأرز ففيه وجهان أحدهما لا يجزئ ذكره القاضي لأنه لا يجزئ في الفطرة والثاني, يجزئ اختاره أبو الخطاب لقول الله تعالى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} ولأن النبي -ﷺ- أمر بالإطعام مطلقا ولم يرد تقييده بشيء من الأجناس فوجب إبقاؤه على إطلاقه, ولأنه أطعم المسكين من طعامه فأجزأه كما لو كان طعامه برا فأطعمه منه, وهذا أظهر. فصل:
وإن عجز عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين, بدليل أن الأعرابي لما دفع إليه النبي -ﷺ- التمر وأخبره بحاجته إليه قال: (أطعمه أهلك) ولم يأمره بكفارة أخرى وهذا قول الأوزاعي وقال الزهري: لا بد من التكفير, وهذا خاص لذلك الأعرابي لا يتعداه بدليل أنه أخبر النبي -ﷺ- بإعساره قبل أن يدفع إليه العرق, ولم يسقطها عنه ولأنها كفارة واجبة فلم تسقط بالعجز عنها, كسائر الكفارات وهذا رواية ثانية عن أحمد وهو قياس قول أبي حنيفة والثوري, وأبي ثور وعن الشافعي كالمذهبين ولنا الحديث المذكور ودعوى التخصيص لا تسمع بغير دليل وقولهم: إنه أخبر النبي -ﷺ- بعجزه فلم يسقطها قلنا: قد أسقطها عنه بعد ذلك وهذا آخر الأمرين من رسول الله -ﷺ- ولا يصح القياس على سائر الكفارات لأنه اطراح للنص بالقياس, والنص أولى والاعتبار بالعجز في حالة الوجوب وهي حالة الوطء.
مسألة: قال: [ وإن جامع, فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة ] وجملته أنه إذا جامع ثانيا قبل التكفير عن الأول لم يخل من أن يكون في يوم واحد, أو في يومين فإن كان في يوم واحد فكفارة واحدة تجزئه, بغير خلاف بين أهل العلم وإن كان في يومين من رمضان ففيه وجهان أحدهما, تجزئه كفارة واحدة وهو ظاهر إطلاق الخرقي واختيار أبي بكر ومذهب الزهري, والأوزاعي وأصحاب الرأي لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فيجب أن تتداخل كالحد والثاني: لا تجزئ واحدة, ويلزمه كفارتان اختاره القاضي وبعض أصحابنا وهو قول مالك والليث, والشافعي وابن المنذر وروي ذلك عن عطاء ومكحول لأن كل يوم عبادة منفردة, فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين وكالحجتين.
مسألة: قال: [ وإن كفر, ثم جامع ثانية فكفارة ثانية ] وجملته أنه إذا كفر ثم جامع ثانية, لم يخل من أن يكون في يوم واحد أو في يومين فإن كان في يومين, فعليه كفارة ثانية بغير خلاف نعلمه وإن كان في يوم واحد فعليه كفارة ثانية نص عليه أحمد وكذلك يخرج في كل من لزمه الإمساك وحرم عليه الجماع في نهار رمضان وإن لم يكن صائما, مثل من لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامدا, ثم جامع فإنه يلزمه كفارة وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي: لا شيء عليه بذلك الجماع لأنه لم يصادف الصوم ولم يمنع صحته فلم يوجب شيئا, كالجماع في الليل ولنا أن الصوم في رمضان عبادة تجب الكفارة بالجماع فيها فتكررت بتكرر الوطء إذا كان بعد التكفير كالحج, ولأنه وطء محرم لحرمة رمضان فأوجب الكفارة كالأول وفارق الوطء في الليل, فإنه غير محرم فإن قيل: الوطء الأول تضمن هتك الصوم وهو مؤثر في الإيجاب فلا يصح إلحاق غيره به قلنا: هو ملغي بمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام, فإنه تلزمه الكفارة مع أنه لم يهتك الصوم.
فصل: إذا أصبح مفطرا يعتقد أنه من شعبان فقامت البينة بالرؤية, لزمه الإمساك والقضاء في قول عامة الفقهاء إلا ما روي عن عطاء أنه قال: يأكل بقية يومه قال ابن عبد البر: لا نعلم أحدا قاله غير عطاء وذكر أبو الخطاب ذلك رواية عن أحمد ولا أعلم أحدا ذكرها غيره, وأظن هذا غلطا فإن أحمد قد نص على إيجاب الكفارة على من وطئ ثم كفر ثم عاد فوطئ في يومه لأن حرمة اليوم لم تذهب فإذا أوجب الكفارة على غير الصائم لحرمة اليوم فكيف يبيح الأكل, ولا يصح قياس هذا على المسافر إذا قدم وهو مفطر وأشباهه لأن المسافر كان له الفطر ظاهرا وباطنا وهذا لم يكن له الفطر في الباطن مباحا فأشبه من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع فإذا تقرر هذا, فإن جامع فيه فعليه القضاء والكفارة كالذي أصبح لا ينوي الصيام, أو أكل ثم جامع وإن كان جماعه قبل قيام البينة فحكمه حكم من جامع يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع على ما مضى فيه.
فصل: وكل من أفطر والصوم لازم له كالمفطر بغير عذر, والمفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أو الناسي لنية الصوم, ونحوهم يلزمهم الإمساك لا نعلم بينهم فيه اختلافا إلا أنه يخرج على قول عطاء في المعذور في الفطر إباحة فطر بقية يومه, قياسا على قوله فيما إذا قامت البينة بالرؤية وهو قول شاذ لم يعرج عليه أهل العلم.
فصل: فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا كالحائض والنفساء والمسافر, والصبي والمجنون والكافر, والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار فطهرت الحائض والنفساء, وأقام المسافر وبلغ الصبي وأفاق المجنون, وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان إحداهما, يلزمهم الإمساك في بقية اليوم وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي, والحسن بن صالح والعنبري لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك, كقيام البينة بالرؤية والثانية لا يلزمهم الإمساك وهو قول مالك والشافعي وروي ذلك عن جابر بن زيد, وروي عن ابن مسعود أنه قال: من أكل أول النهار فليأكل آخره ولأنه أبيح له فطر أول النهار ظاهرا وباطنا فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النهار كما لو دام العذر فإذا جامع أحد هؤلاء, بعد زوال عذره انبنى على الروايتين في وجوب الإمساك فإن قلنا: يلزمه الإمساك فحكمه حكم من قامت البينة بالرؤية في حقه إذا جامع وإن قلنا: لا يلزمه الإمساك فلا شيء عليه فإن كان أحد الزوجين من أحد هؤلاء والآخر لا عذر له, فلكل واحد حكم نفسه على ما مضى وإن كانا جميعا معذورين فحكمهما ما ذكرناه سواء اتفق عذرهما, مثل أن يقدما من سفر أو يصحا من مرض أو اختلف, مثل أن يقدم الزوج من سفر وتطهر المرأة من الحيض فيصيبها وقد روي عن جابر بن يزيد أنه قدم من سفر, فوجد امرأته قد طهرت من حيض فأصابها فأما إن نوى الصوم في سفره أو مرضه أو صغره ثم زال عذره في أثناء النهار, لم يجز له الفطر رواية واحدة وعليه الكفارة إن وطئ وقال بعض أصحاب الشافعي, في المسافر خاصة: وجهان أحدهما له الفطر لأنه أبيح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا فكانت له استدامته, كما لو قدم مفطرا وليس بصحيح فإن سبب الرخصة زال قبل الترخص فلم يكن له ذلك كما لو قدمت به السفينة قبل قصر الصلاة, وكالمريض يبرأ والصبي يبلغ وهذا ينقض ما ذكروه ولو علم الصبي أنه يبلغ في أثناء النهار بالسن أو علم المسافر أنه يقدم, لم يلزمهما الصيام قبل زوال عذرهما لأن سبب الرخصة موجود فيثبت حكمها كما لو لم يعلما ذلك.
فصل: ويلزم المسافر والحائض والمريض القضاء, إذا أفطروا بغير خلاف لقول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} والتقدير: فأفطر وقالت عائشة: كنا نحيض على عهد رسول الله -ﷺ- فنؤمر بقضاء الصوم وإن أفاق المجنون أو بلغ الصبي, أو أسلم الكافر في أثناء النهار والصبي مفطر, ففي وجوب القضاء روايتان إحداهما لا يلزمهم ذلك لأنهم لم يدركوا وقتا يمكنهم التلبس بالعبادة فيه فأشبه ما لو زال عذرهم بعد خروج الوقت والثانية: يلزمهم القضاء لأنهم أدركوا بعض وقت العبادة, فلزمهم القضاء كما لو أدركوا بعض وقت الصلاة.
مسألة: قال: [ وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع, أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء ] هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم وحكي عن عروة, ومجاهد والحسن وإسحاق: لا قضاء عليهم لما روى زيد بن وهب قال: كنت جالسا في مسجد رسول الله -ﷺ- في رمضان, في زمن عمر بن الخطاب فأتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة فشربنا, ونحن نرى أنه من الليل ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة قال: فجعل الناس يقولون: نقضي يوما مكانه فقال عمر: والله لا نقضيه, ما تجانفنا لإثم ولأنه لم يقصد الأكل في الصوم فلم يلزمه القضاء كالناسي ولنا أنه أكل مختارا, ذاكرا للصوم فأفطر كما لو أكل يوم الشك, ولأنه جهل بوقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان, ولأنه يمكن التحرز منه فأشبه أكل العامد وفارق الناسي, فإنه لا يمكن التحرز منه وأما الخبر فرواه الأثرم أن عمر قال: من أكل فليقض يوما مكانه ورواه مالك في "الموطأ" أن عمر قال: الخطب يسير يعني خفة القضاء وروى هشام بن عروة عن فاطمة امرأته عن أسماء قالت: (أفطرنا على عهد رسول الله -ﷺ- في يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: لا بد من قضاء؟) أخرجه البخاري.
فصل: وإن أكل شاكا في طلوع الفجر, ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر نص عليه أحمد وهذا قول ابن عباس, وعطاء والأوزاعي والشافعي, وأصحاب الرأي وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم وقال مالك يجب القضاء لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته, فلا يسقط بالشك ولأنه أكل شاكا في النهار والليل فلزمه القضاء, كما لو أكل شاكا في غروب الشمس ولنا قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} مد الأكل إلى غاية التبين وقد يكون شاكا قبل التبين فلو لزمه القضاء لحرم عليه الأكل, وقال النبي -ﷺ-: (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) وكان رجلا أعمى, لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت ولأن الأصل بقاء الليل فيكون زمان الشك منه ما لم يعلم يقين زواله بخلاف غروب الشمس, فإن الأصل بقاء النهار فبني عليه.
فصل: وإن أكل شاكا في غروب الشمس ولم يتبين, فعليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار وإن كان حين الأكل ظانا أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الأكل, ولم يتبين فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بنى عليه فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد, ثم شك في الإصابة بعد صلاته. مسألة: قال: [ ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر وهو على صومه ] وجملته أن الجنب له أن يؤخر الغسل حتى يصبح, ثم يغتسل ويتم صومه في قول عامة أهل العلم, منهم علي وابن مسعود وزيد, وأبو الدرداء وأبو ذر وابن عمر, وابن عباس وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي, في أهل الحجاز وأبو حنيفة والثوري, في أهل العراق والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر, وإسحاق وأبو عبيدة في أهل الحديث, وداود في أهل الظاهر وكان أبو هريرة يقول: لا صوم له ويروى ذلك عن النبي -ﷺ- ثم رجع عنه قال سعيد بن المسيب: رجع أبو هريرة عن فتياه وحكي عن الحسن, وسالم بن عبد الله قالا: يتم صومه ويقضي وعن النخعي في رواية: يقضي في الفرض دون التطوع وعن عروة وطاوس: إن علم بجنابته في رمضان, فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر وإن لم يعلم, فهو صائم وحجتهم حديث أبي هريرة الذي رجع عنه ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: (ذهبت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة, فقالت: أشهد على رسول الله -ﷺ- إن كان ليصبح جنبا من جماع من غير احتلام, ثم يصومه) ثم دخلنا على أم سلمة فقالت مثل ذلك ثم أتينا أبا هريرة, فأخبرناه بذلك فقال: هما أعلم بذلك إنما حدثنيه الفضل بن عباس متفق عليه قال الخطابي: أحسن ما سمعت في خبر أبي هريرة أنه منسوخ لأن الجماع كان محرما على الصائم بعد النوم, فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم وروت عائشة (أن رجلا قال لرسول الله -ﷺ-: إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال رسول الله -ﷺ-: وأنا أصبح جنبا, وأنا أريد الصيام فقال له الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله -ﷺ- وقال: إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله, وأعلمكم بما أتقي) رواه مالك في "موطئه" ومسلم في "صحيحه". مسألة:
قال: [ وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها من الليل فهي صائمة إذا نوت الصوم قبل طلوع الفجر, وتغتسل إذا أصبحت ] وجملة ذلك أن الحكم في المرأة إذا انقطع حيضها من الليل كالحكم في الجنب سواء ويشترط أن ينقطع حيضها قبل طلوع الفجر لأنه إن وجد جزء منه في النهار أفسد الصوم, ويشترط أن تنوي الصوم أيضا من الليل بعد انقطاعه لأنه لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل قال الأوزاعي والحسن بن حي وعبد الملك بن الماجشون, والعنبري: تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط لأن حدث الحيض يمنع الصوم بخلاف الجنابة ولنا أنه حدث يوجب الغسل, فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة الصوم كالجنابة وما ذكروه لا يصح, فإن من طهرت من الحيض ليست حائضا وإنما عليها حدث موجب للغسل فهي كالجنب, فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب الغسل من الحيض وقد استدل بعض أهل العلم بقول الله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} فلما أباح المباشرة إلى تبين الفجر, علم أن الغسل إنما يكون بعده. مسألة:
قال: [ والحامل إذا خافت على جنينها والمرضع على ولدها أفطرتا, وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا ] وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما, فلهما الفطر وعليهما القضاء فحسب لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم وهذا يروى عن ابن عمر وهو المشهور من مذهب الشافعي وقال الليث: الكفارة على المرضع دون الحامل وهو إحدى الروايتين عن مالك, لأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل ولأن الحمل متصل بالحامل, فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها وقال عطاء والزهري والحسن, وسعيد بن جبير والنخعي وأبو حنيفة: لا كفارة عليهما لما روى أنس بن مالك رجل من بني كعب, عن النبي -ﷺ- أنه قال: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم - أو - الصيام) والله لقد قالهما رسول الله -ﷺ- أحدهما أو كليهما رواه النسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن ولم يأمره بكفارة, ولأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالفطر للمرض ولنا قول الله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} وهما داخلتان في عموم الآية قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير, والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا, ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا, وأطعمتا رواه أبو داود وروي ذلك عن ابن عمر ولا مخالف لهما في الصحابة ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة عن طريق الخلقة فوجبت به الكفارة, كالشيخ الهرم وخبرهم لم يتعرض للكفارة فكانت موقوفة على الدليل, كالقضاء فإن الحديث لم يتعرض له والمريض أخف حالا من هاتين لأنه يفطر بسبب نفسه إذا ثبت هذا, فإن الواجب في إطعام المسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير والخلاف فيه, كالخلاف في إطعام المساكين في كفارة الجماع إذا ثبت هذا فإن القضاء لازم لهما وقال ابن عمر, وابن عباس: لا قضاء عليهما لأن الآية تناولتهما وليس فيها إلا الإطعام ولأن النبي -ﷺ- قال: (إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم) ولنا أنهما يطيقان القضاء, فلزمهما كالحائض والنفساء والآية أوجبت الإطعام, ولم تتعرض للقضاء فأخذناه من دليل آخر والمراد بوضع الصوم وضعه في مدة عذرهما كما جاء في حديث عمرو بن أمية, عن النبي -ﷺ-: (إن الله وضع عن المسافر الصوم) ولا يشبهان الشيخ الهرم لأنه عاجز عن القضاء وهما يقدران عليه قال أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة يعني ولا أقول بقول ابن عباس وابن عمر في منع القضاء. مسألة:
قال: [ وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر, وأطعم لكل يوم مسكينا ] وجملة ذلك أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يجهدهما الصوم, ويشق عليهما مشقة شديدة فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكينا وهذا قول علي وابن عباس, وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير, وطاوس وأبي حنيفة والثوري, والأوزاعي وقال مالك: لا يجب عليه شيء لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا الآية, وقول ابن عباس في تفسيرها: نزلت رخصة للشيخ الكبير ولأن الأداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء وأما المريض إذا مات فلا يجب الإطعام لأن ذلك يؤدي إلى أن يجب على الميت ابتداء, بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل حتى مات لأن وجوب الإطعام يستند إلى حال الحياة, والشيخ الهرم له ذمة صحيحة فإن كان عاجزا عن الإطعام أيضا فلا شيء عليه و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. فصل:
والمريض الذي لا يرجى برؤه, يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا لأنه في معنى الشيخ قال أحمد -رحمه الله- في من به شهوة الجماع غالبة, لا يملك نفسه ويخاف أن تنشق أنثياه: أطعم أباح له الفطر لأنه يخاف على نفسه فهو كالمريض, ومن يخاف على نفسه الهلاك لعطش أو نحوه وأوجب الإطعام بدلا عن الصيام وهذا محمول على من لا يرجو إمكان القضاء, فإن رجا ذلك فلا فدية عليه والواجب انتظار القضاء وفعله إذا قدر عليه لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وإنما يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء, فإن أطعم مع يأسه ثم قدر على الصيام احتمل أن لا يلزمه لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجب عليه, فلم يعد إلى الشغل بما برئت منه ولهذا قال الخرقي: فمن كان مريضا لا يرجى برؤه أو شيخا لا يستمسك على الراحلة, أقام من يحج عنه ويعتمر وقد أجزأ عنه وإن عوفي واحتمل أن يلزمه القضاء لأن الإطعام بدل يأس, وقد تبينا ذهاب اليأس فأشبه من اعتدت بالشهور عند اليأس من الحيض ثم حاضت.
مسألة: قال: [ وإذا حاضت المرأة, أو نفست أفطرت وقضت فإن صامت لم يجزئها ] أجمع أهل العلم على أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم, وأنهما يفطران رمضان ويقضيان وأنهما إذا صامتا لم يجزئهما الصوم, وقد قالت عائشة: (كنا نحيض على عهد رسول الله -ﷺ- فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) متفق عليه والأمر إنما هو للنبي -ﷺ- وقال أبو سعيد: قال النبي -ﷺ-: (أليس إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك من نقصان دينها) رواه البخاري والحائض والنفساء سواء لأن دم النفاس هو دم الحيض, وحكمه حكمه ومتى وجد الحيض في جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم سواء وجد في أوله أو في آخره ومتى نوت الحائض الصوم, وأمسكت مع علمها بتحريم ذلك أتمت, ولم يجزئها.
مسألة: قال: [ فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها لكل يوم مسكين ] وجملة ذلك أن من مات وعليه صيام من رمضان لم يخل من حالين أحدهما, أن يموت قبل إمكان الصيام إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر, أو عجز عن الصوم فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم وحكي عن طاوس وقتادة أنهما قالا: يجب الإطعام عنه لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه, فوجب الإطعام عن كالشيخ الهرم إذا ترك الصيام لعجزه عنه ولنا أنه حق لله تعالى وجب بالشرع, مات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج ويفارق الشيخ الهرم فإنه يجوز ابتداء الوجوب عليه, بخلاف الميت الحال الثاني أن يموت بعد إمكان القضاء فالواجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عائشة, وابن عباس وبه قال مالك والليث والأوزاعي, والثوري والشافعي والحسن بن حي, وابن علية وأبو عبيد في الصحيح عنهم وقال أبو ثور: يصام عنه وهو قول الشافعي لما روت عائشة, أن النبي -ﷺ- قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق عليه وروي عن ابن عباس نحوه ولنا ما روى ابن ماجه عن ابن عمر, أن النبي -ﷺ- قال: (من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا) قال الترمذي: الصحيح عن ابن عمر موقوف وعن عائشة أيضا قالت: يطعم عنه في قضاء رمضان, ولا يصام عنه وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر؟ يصوم شهرا وعليه صوم رمضان قال: أما رمضان فليطعم عنه, وأما النذر فيصام عنه رواه الأثرم في "السنن" ولأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة فكذلك بعد الوفاة, كالصلاة فأما حديثهم فهو في النذر لأنه قد جاء مصرحا به في بعض ألفاظه كذلك رواه البخاري عن ابن عباس, قال: (قالت امرأة: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر فأقضيه عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه, أكان يؤدى ذلك عنها؟ قالت: نعم قال: فصومي عن أمك) وقالت عائشة وابن عباس كقولنا وهما راويا حديثهم, فدل على ما ذكرناه. فصل:
فأما صوم النذر فيفعله الولي عنه وهذا قول ابن عباس والليث, وأبي عبيد وأبي ثور وقال سائر من ذكرنا من الفقهاء: يطعم عنه لما ذكرنا في صوم رمضان ولنا الأحاديث الصحيحة التي رويناها قبل هذا وسنة رسول الله -ﷺ- أحق بالاتباع, وفيها غنية عن كل قول والفرق بين النذر وغيره أن النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها والنذر أخف حكما لكونه لم يجب بأصل الشرع, وإنما أوجبه الناذر على نفسه إذا ثبت هذا فإن الصوم ليس بواجب على الولي لأن النبي -ﷺ- شبهه بالدين ولا يجب على الولي قضاء دين الميت, وإنما يتعلق بتركته إن كانت له تركة فإن لم يكن له تركة فلا شيء على وارثه, لكن يستحب أن يقضى عنه لتفريغ ذمته وفك رهانه, كذلك ها هنا ولا يختص ذلك بالولي بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه, وأجزأ لأنه تبرع فأشبه قضاء الدين عنه. مسألة:
قال: [ فإن لم تمت المفرطة حتى أظلها شهر رمضان آخر صامته, ثم قضت ما كان عليها ثم أطعمت لكل يوم مسكينا وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة, إذا فرطا في القضاء ] وجملة ذلك أن من عليه صوما من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة قالت: كان يكون على الصيام من شهر رمضان, فما أقضيه حتى يجيء شعبان متفق عليه ولا يجوز له تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها لأخرته ولأن الصوم عبادة متكررة, فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة فإن أخره عن رمضان آخر نظرنا فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء وإن كان لغير عذر, فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة, ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك, والثوري والأوزاعي والشافعي, وإسحاق وقال الحسن والنخعي وأبو حنيفة: لا فدية عليه لأنه صوم واجب, فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كما لو أخر الأداء والنذر ولنا ما روي عن ابن عمر وابن عباس, وأبي هريرة أنهم قالوا: أطعم عن كل يوم مسكينا ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافهم وروي مسندا من طريق ضعيف ولأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء, أوجب الفدية كالشيخ الهرم. فصل:
فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضانان أو أكثر لم يكن عليه أكثر من فدية مع القضاء لأن كثرة التأخير لا يزداد بها الواجب, كما لو أخر الحج الواجب سنين لم يكن عليه أكثر من فعله. فصل:
وإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين واحد نص عليه أحمد, فيما روى عنه أبو داود أن رجلا سأله عن امرأة أفطرت رمضان ثم أدركها رمضان آخر, ثم ماتت؟ قال: يطعم عنها قال له السائل: كم أطعم؟ قال: كم أفطرت؟ قال: ثلاثين يوما قال اجمع ثلاثين مسكينا وأطعمهم مرة واحدة وأشبعهم قال: ما أطعمهم؟ قال خبزا ولحما إن قدرت من أوسط طعامكم وذلك لأنه بإخراج كفارة واحدة, أزال تفريطه بالتأخير فصار كما لو مات من غير تفريط وقال أبو الخطاب: يطعم عنه لكل يوم فقيران لأن الموت بعد التفريط بدون التأخير عن رمضان آخر يوجب كفارة والتأخير بدون الموت يوجب كفارة, فإذا اجتمعا وجبت كفارتان كما لو فرط في يومين. فصل:
واختلفت الرواية عن أحمد في جواز التطوع بالصوم ممن عليه صوم فرض, فنقل عنه حنبل أنه قال: لا يجوز له أن يتطوع بالصوم وعليه صوم من الفرض حتى يقضيه يبدأ بالفرض, وإن كان عليه نذر صامه يعني بعد الفرض وروى حنبل عن أحمد بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله -ﷺ- قال: (من صام تطوعا, وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه) ولأنه عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يصح التطوع بها قبل أداء فرضها, كالحج وروي عن أحمد أنه يجوز له التطوع لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع في وقتها قبل فعلها, كالصلاة يتطوع في أول وقتها وعليه يخرج الحج ولأن التطوع بالحج يمنع فعل واجبه المتعين فأشبه صوم التطوع في رمضان, بخلاف مسألتنا والحديث يرويه ابن لهيعة وفيه ضعف وفي سياقه ما هو متروك, فإنه قال في آخره: "ومن أدركه رمضان وعليه من رمضان شيء لم يتقبل منه" ويخرج في التطوع بالصلاة في حق من عليه القضاء مثل ما ذكرناه في الصوم. فصل:
واختلفت الرواية في كراهة القضاء في عشر ذي الحجة فروي أنه لا يكره وهو قول سعيد بن المسيب, والشافعي وإسحاق لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستحب قضاء رمضان في العشر ولأنه أيام عبادة فلم يكره القضاء فيه, كعشر المحرم والثانية يكره القضاء فيه روي ذلك عن الحسن والزهري لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه كرهه, ولأن النبي -ﷺ- قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله, فلم يرجع بشيء) فاستحب إخلاؤها للتطوع لينال فضيلتها ويجعل القضاء في غيرها وقال بعض أصحابنا: هاتان الروايتان مبنيتان على الروايتين في إباحة التطوع قبل صوم الفرض وتحريمه فمن أباحه كره القضاء فيها, ليوفرها على التطوع لينال فضله فيها مع فعل القضاء ومن حرمه لم يكرهه فيها, بل استحب فعله فيها لئلا يخلو من العبادة بالكلية ويقوى عندي أن هاتين الروايتين فرع على إباحة التطوع قبل الفرض أما على رواية التحريم, فيكون صومها تطوعا قبل الفرض محرما وذلك أبلغ من الكراهة والله أعلم. مسألة:
قال: [ وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه فإن تحمل وصام, كره له ذلك وأجزأه ] أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة والأصل فيه قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى وحكي عن بعض السلف أنه أباح الفطر بكل مرض, حتى من وجع الإصبع والضرس لعموم الآية فيه ولأن المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه فكذلك المريض ولنا أنه شاهد للشهر, لا يؤذيه الصوم فلزمه كالصحيح, والآية مخصوصة في المسافر والمريض جميعا بدليل أن المسافر لا يباح له الفطر في السفر القصير والفرق بين المسافر والمريض, أن السفر اعتبرت فيه المظنة وهو السفر الطويل حيث لم يمكن اعتبار الحكمة بنفسها, فإن قليل المشقة لا يبيح وكثيرها لا ضابط له في نفسه فاعتبرت بمظنتها, وهو السفر الطويل فدار الحكم مع المظنة وجودا وعدما والمرض لا ضابط له فإن الأمراض تختلف, منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الإصبع, والدمل والقرحة اليسيرة والجرب, وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطا وأمكن اعتبار الحكمة, وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره فإذا ثبت هذا فإن تحمل المريض وصام مع هذا, فقد فعل مكروها لما يتضمنه من الإضرار بنفسه وتركه تخفيف الله تعالى وقبول رخصته, ويصح صومه ويجزئه لأنه عزيمة أبيح تركها رخصة فإذا تحمله أجزأه كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة إذا حضرها, والذي يباح له ترك القيام في الصلاة إذا قام فيها. فصل:
والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله, فالخوف من تجدد المرض في معناه قال أحمد في من به شهوة غالبة للجماع يخاف أن تنشق أنثياه فله الفطر وقال في الجارية: تصوم إذا حاضت, فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض يعني إذا حاضت وهي صغيرة لم تبلغ خمس عشرة سنة قال القاضي: هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام أبيح لها الفطر, وإلا فلا. فصل:
ومن أبيح له الفطر لشدة شبقه إن أمكنه استدفاع الشهوة بغير جماع كالاستمناء بيده, أو بيد امرأته أو جاريته لم يجز له الجماع لأنه فطر للضرورة فلم تبح له الزيادة على ما تندفع به الضرورة, كأكل الميتة عند الضرورة وإن جامع فعليه الكفارة وكذلك إن أمكنه دفعها بما لا يفسد صوم غيره كوطء زوجته أو أمته الصغيرة أو الكتابية, أو مباشرة الكبيرة المسلمة دون الفرج أو الاستمناء بيدها أو بيده لم يبح له إفساد صوم غيره لأن الضرورة إذا اندفعت لم يبح له ما وراءها, كالشبع من الميتة إذا اندفعت الضرورة بسد الرمق وإن لم تندفع الضرورة إلا بإفساد صوم غيره أبيح ذلك لأنه مما تدعو الضرورة إليه فأبيح كفطره, وكالحامل والمرضع يفطران خوفا على ولديهما فإن كان له امرأتان حائض وطاهر صائمة ودعته الضرورة إلى وطء إحداهما, احتمل وجهين: أحدهما وطء الصائمة أولى لأن الله تعالى نص على النهي عن وطء الحائض في كتابه ولأن وطأها فيه أذى لا يزول بالحاجة إلى الوطء والثاني: يتخير لأن وطء الصائمة يفسد صيامها, فتتعارض المفسدتان فيتساويان.
مسألة: قال: [ وكذلك المسافر ] يعني أن المسافر يباح له الفطر فإن صام كره له ذلك, وأجزأه وجواز الفطر للمسافر ثابت بالنص والإجماع وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزأه ويروى عن أبي هريرة أنه لا يصح صوم المسافر قال أحمد: كان عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة وروى الزهري, عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه قال: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر وقال بهذا قوم من أهل الظاهر لقول النبي -ﷺ-: (ليس من البر الصوم في السفر) متفق عليه (ولأنه عليه السلام أفطر في السفر, فلما بلغه أن قوما صاموا قال: أولئك هم العصاة) وروى ابن ماجه بإسناده عن النبي -ﷺ- أنه قال: (الصائم في رمضان في السفر, كالمفطر في الحضر) وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول قال ابن عبد البر: هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف هجره الفقهاء كلهم, والسنة ترده وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي -ﷺ- (أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام, قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) وفي لفظ رواه النسائي (أنه قال لرسول الله -ﷺ-: أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ قال: هي رخصة الله, فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) وقال أنس: (كنا نسافر مع النبي -ﷺ- فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم) متفق عليه وكذلك روى أبو سعيد وأحاديثهم محمولة على تفضيل الفطر على الصيام.
فصل: والأفضل عند إمامنا, -رحمه الله- الفطر في السفر وهو مذهب ابن عمر, وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي, والأوزاعي وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي: الصوم أفضل لمن قوي عليه ويروى ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بما روي عن مسلمة بن المحبق أن النبي -ﷺ-, قال: (من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه) رواه أبو داود ولأن من خير بين الصوم والفطر, كان الصوم أفضل كالتطوع وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة: أفضل الأمرين أيسرهما لقول الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} ولما روى أبو داود, عن حمزة بن عمرو قال: (قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر, أعالجه وأسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوة, وأنا شاب وأجدني أن أصم يا رسول الله, أهون علي من أن أؤخر فيكون دينا علي أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري, أم أفطر؟ قال: أي ذلك شئت يا حمزة) ولنا ما تقدم من الأخبار في الفصل الذي قبله وروي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (خيركم الذي يفطر في السفر ويقصر) ولأن في الفطر خروجا من الخلاف فكان أفضل, كالقصر وقياسهم ينتقض بالمريض وبصوم الأيام المكروه صومها.
مسألة: قال: [ وقضاء شهر رمضان متفرقا يجزئ والمتتابع أحسن ] هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك, وأبي هريرة وابن محيريز وأبي قلابة, ومجاهد وأهل المدينة والحسن, وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة, والثوري والأوزاعي والشافعي, وإسحاق وحكي وجوب التتابع عن علي وابن عمر والنخعي والشعبي وقال داود: يجب ولا يشترط لما روى ابن المنذر, بإسناده عن أبي هريرة أن النبي -ﷺ- قال: (من كان عليه صوم رمضان فليسرده, ولا يقطعه) ولنا إطلاق قول الله تعالى: {فعدة من أيام أخر} غير مقيد بالتتابع فإن قيل: قد روي عن عائشة أنها قالت: نزلت "فعدة من أيام أخر متتابعات" فسقطت "متتابعات" قلنا: هذا لم يثبت عندنا صحته ولو صح فقد سقطت اللفظة المحتج بها وأيضا قول الصحابة, قال ابن عمر: إن سافر فإن شاء فرق وإن شاء تابع وروي مرفوعا إلى النبي -ﷺ- وقال أبو عبيدة بن الجراح في قضاء رمضان: إن الله لم يرخص لكم في فطره, وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن المنكدر أنه قال: بلغني (أن رسول الله -ﷺ- سئل عن تقطيع قضاء رمضان؟ فقال رسول الله -ﷺ-: لو كان على أحدكم دين, فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضيا دينه؟ قالوا: نعم, يا رسول الله قال: فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم) ولأنه صوم لا يتعلق بزمان بعينه فلم يجب فيه التتابع كالنذر المطلق وخبرهم لم يثبت صحته, فإن أهل السنن لم يذكروه ولو صح حملناه على الاستحباب فإن المتتابع أحسن لما فيه من موافقة الخبر, والخروج من الخلاف وشبهه بالأداء والله أعلم.
مسألة: قال: [ ومن دخل في صيام تطوع فخرج منه, فلا قضاء عليه وإن قضاه فحسن ] وجملة ذلك أن من دخل في صيام تطوع استحب له إتمامه, ولم يجب فإن خرج منه فلا قضاء عليه, روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطرا, وقال ابن عمر: لا بأس به ما لم يكن نذرا أو قضاء رمضان وقال ابن عباس: إذا صام الرجل تطوعا ثم شاء أن يقطعه قطعه, وإذا دخل في صلاة تطوعا ثم شاء أن يقطعها قطعها وقال ابن مسعود: متى أصبحت تريد الصوم فأنت على آخر النظرين, إن شئت صمت وإن شئت أفطرت هذا مذهب أحمد والثوري, والشافعي وإسحاق وقد روى حنبل عن أحمد, إذا أجمع على الصيام فأوجبه على نفسه فأفطر من غير عذر, أعاد يوما مكان ذلك اليوم وهذا محمول على أنه استحب ذلك أو نذره ليكون موافقا لسائر الروايات عنه وقال النخعي وأبو حنيفة, ومالك: يلزم بالشروع فيه ولا يخرج منه إلا بعذر فإن خرج قضى وعن مالك: لا قضاء عليه واحتج من أوجب القضاء بما روي عن عائشة أنها قالت: (أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين, فأهدي لنا حيس فأفطرنا ثم سألنا رسول الله -ﷺ- فقال: اقضيا يوما مكانه) ولأنها عبادة تلزم بالنذر فلزمت بالشروع فيها, كالحج والعمرة ولنا ما روى مسلم وأبو داود, والنسائي عن عائشة قالت: (دخل عليَّ رسول الله -ﷺ- يوما فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا قال: فإني صائم ثم مر بعد ذلك اليوم, وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه وكان يحب الحيس قلت: يا رسول الله, إنه أهدي لنا حيس فخبأت لك منه قال: أدنيه, أما إني قد أصبحت وأنا صائم فأكل منه ثم قال لنا: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها) هذا لفظ رواية النسائي, وهو أتم من غيره وروت أم هانئ (قالت: دخلت على رسول الله -ﷺ- فأتى بشراب فناولنيه فشربت منه ثم قلت: يا رسول الله, لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها: أكنت تقضين شيئا؟ قالت: لا قال: فلا يضرك إن كان تطوعا) رواه سعيد وأبو داود والأثرم وفي لفظ قالت: (قلت إني صائمة فقال رسول الله -ﷺ-: إن المتطوع أمير نفسه, فإن شئت فصومي وإن شئت فأفطري) ولأن كل صوم لو أتمه كان تطوعا إذا خرج منه لم يجب قضاؤه كما لو اعتقد أنه من رمضان فبان من شعبان أو من شوال فأما خبرهم, فقال أبو داود: لا يثبت وقال الترمذي: فيه مقال وضعفه الجوزجاني وغيره ثم هو محمول على الاستحباب إذا ثبت هذا فإنه يستحب له إتمامه, وإن خرج منه استحب قضاؤه للخروج من الخلاف وعملا بالخبر الذي رووه.
فصل: وسائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصيام في أنها لا تلزم بالشروع, ولا يجب قضاؤها إذا خرج منها إلا الحج والعمرة فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا, لتأكد إحرامهما ولا يخرج منهما بإفسادهما ولو اعتقد أنهما واجبان ولم يكونا واجبين, لم يكن له الخروج منهما وقد روي عن أحمد في الصلاة ما يدل على أنها تلزم بالشروع فإن الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله: الرجل يصبح صائما متطوعا أيكون بالخيار؟ والرجل يدخل في الصلاة أله أن يقطعها؟ فقال: الصلاة أشد, أما الصلاة فلا يقطعها قيل له: فإن قطعها قضاها؟ قال: إن قضاها فليس فيه اختلاف ومال أبو إسحاق الجوزجاني إلى هذا القول وقال: الصلاة ذات إحرام وإحلال فلزمت بالشروع فيها, كالحج وأكثر أصحابنا على أنها لا تلزم أيضا وهو قول ابن عباس لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما.
فصل: ومن دخل في واجب, كقضاء رمضان أو نذر معين أو مطلق أو صيام كفارة لم يجز له الخروج منه لأن المتعين وجب عليه الدخول فيه, وغير المتعين تعين بدخوله فيه فصار بمنزلة الفرض المتعين وليس في هذا خلاف بحمد الله.
مسألة: قال: [ وإذا كان للغلام عشر سنين, وأطاق الصيام أخذ به ] يعني أنه يلزم الصيام يؤمر به ويضرب على تركه ليتمرن عليه, ويتعوده كما يلزم الصلاة ويؤمر بها وممن ذهب إلى أنه يؤمر بالصيام إذا أطاقه, عطاء والحسن وابن سيرين, والزهري وقتادة والشافعي وقال الأوزاعي إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يخور فيهن ولا يضعف, حمل صوم شهر رمضان وقال إسحاق: إذا بلغ ثنتي عشرة أحب أن يكلف الصوم للعادة واعتباره بالعشر أولى لأن النبي -ﷺ- أمر بالضرب على الصلاة عندها واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى واجتماعهما في أنهما عبادتان بدنيتان من أركان الإسلام, إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيقه.
فصل: ولا يجب عليه الصوم حتى يبلغ قال أحمد في غلام احتلم: صام ولم يترك والجارية إذا حاضت وهذا قول أكثر أهل العلم, وذهب بعض أصحابنا إلى إيجابه على الغلام المطيق له إذا بلغ عشرا لما روى ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان) ولأنه عبادة بدنية أشبه الصلاة, وقد أمر النبي -ﷺ- بأن يضرب على الصلاة من بلغ عشرا والمذهب الأول قال القاضي: المذهب عندي رواية واحدة: أن الصلاة والصوم لا تجب حتى يبلغ وما قاله أحمد في من ترك الصلاة يقضيها نحمله على الاستحباب وذلك لقول النبي -ﷺ-: (رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ, وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) ولأنه عبادة بدنية فلم تجب على الصبي, كالحج وحديثهم مرسل ثم نحمله على الاستحباب وسماه واجبا, تأكيدا لاستحبابه كقوله عليه السلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).
فصل: إذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن, فقال القاضي: يتم صومه ولا قضاء عليه لأن نية صوم رمضان حصلت ليلا فيجزئه كالبالغ ولا يمتنع أن يكون أول الصوم نفلا وباقيه فرضا كما لو شرع في صوم يوم تطوعا, ثم نذر إتمامه واختار أبو الخطاب أنه يلزمه القضاء لأنه عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضي بعض أركانها فلزمته إعادتها كالصلاة, والحج إذا بلغ بعد الوقوف وهذا لأنه ببلوغه يلزمه صوم جميعه والماضي قبل بلوغه نفل, فلم يجز عن الفرض ولهذا لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم والناذر صائم لزمه القضاء فأما ما مضى من الشهر قبل بلوغه, فلا قضاء عليه وسواء كان قد صامه أو أفطره هذا قول عامة أهل العلم وقال الأوزاعي: يقضيه إن كان أفطره وهو مطيق لصيامه ولنا أنه زمن مضى في حال صباه, فلم يلزمه قضاء الصوم فيه كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان وإن بلغ الصبي وهو مفطر فهل يلزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه؟ على روايتين.
مسألة: قال: [ وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان, صام ما يستقبل من بقية شهره ] أما صوم ما يستقبله من بقية شهره فلا خلاف فيه وأما قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه, فلا يجب وبهذا قال الشعبي وقتادة ومالك, والأوزاعي والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي وقال عطاء: عليه قضاؤه وعن الحسن كالمذهبين ولنا أن ما مضى عبادة خرجت في حال كفره فلم يلزمه قضاؤه, كالرمضان الماضي.
فصل: فأما اليوم الذي أسلم فيه فإنه يلزمه إمساكه ويقضيه هذا المنصوص عن أحمد وبه قال الماجشون وإسحاق وقال مالك, وأبو ثور وابن المنذر: لا قضاء عليه لأنه لم يدرك في زمن العبادة ما يمكنه التلبس بها فيه فأشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم وقد روي ذلك عن أحمد ولنا أنه أدرك جزءا من وقت العبادة فلزمته, كما لو أدرك جزءا من وقت الصلاة. فصل:
فأما المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فعليه صوم ما بقي من الأيام بغير خلاف وفي قضاء اليوم الذي أفاق فيه وإمساكه روايتان ولا يلزمه قضاء ما مضى وبهذا قال أبو ثور, والشافعي في الجديد وقال مالك: يقضي وإن مضى عليه سنون وعن أحمد مثله وهو قول الشافعي في القديم لأنه معنى يزيل العقل, فلم يمنع وجوب الصوم كالإغماء وقال أبو حنيفة: إن جن جميع الشهر فلا قضاء عليه, وإن أفاق في أثنائه قضى ما مضى لأن الجنون لا ينافي الصوم بدليل ما لو جن في أثناء الصوم لم يفسد فإذا وجد في بعض الشهر, وجب القضاء كالإغماء ولنا أنه معنى يزيل التكليف فلم يجب القضاء في زمانه, كالصغر والكفر ويخص أبا حنيفة بأنه معنى لو وجد في جميع الشهر أسقط القضاء فإذا وجد في بعضه أسقطه, كالصغر والكفر ويفارق الإغماء في ذلك. مسألة:
قال: [ وإذا رأى هلال شهر رمضان وحده صام ] المشهور في المذهب أنه متى رأى الهلال واحد لزمه الصيام, عدلا كان أو غير عدل شهد عند الحاكم أو لم يشهد قبلت شهادته أو ردت وهذا قول مالك, والليث والشافعي وأصحاب الرأي, وابن المنذر وقال عطاء وإسحاق: لا يصوم وقد روى حنبل عن أحمد: لا يصوم إلا في جماعة الناس وروي نحوه عن الحسن وابن سيرين لأنه يوم محكوم به من شعبان فأشبه التاسع والعشرين ولنا أنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه, كما لو حكم به الحاكم وكونه محكوما به من شعبان ظاهر في حق غيره وأما في الباطن فهو يعلم أنه من رمضان فلزمه صيامه كالعدل. فصل:
فإن أفطر ذلك اليوم بجماع, فعليه الكفارة وقال أبو حنيفة لا تجب لأنها عقوبة فلا تجب بفعل مختلف فيه كالحد ولنا أنه أفطر يوما من رمضان بجماع, فوجبت به عليه الكفارة كما لو قبلت شهادته ولا نسلم أن الكفارة عقوبة, ثم قياسهم ينتقض بوجوب الكفارة في السفر القصير مع وقوع الخلاف فيه. مسألة:
قال: [ وإن كان عدلا صوم الناس بقوله ] المشهور عن أحمد, أنه يقبل في هلال رمضان قول واحد عدل ويلزم الناس الصيام بقوله وهو قول عمر وعلي, وابن عمر وابن المبارك والشافعي في الصحيح عنه وروي عن أحمد, أنه قال: اثنين أعجب إلى قال أبو بكر: إن رآه وحده ثم قدم المصر صام الناس بقوله, على ما روي في الحديث وإن كان الواحد في جماعة الناس فذكر أنه رآه دونهم, لم يقبل إلا قول اثنين لأنهم يعاينون ما عاين وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لا يقبل إلا شهادة اثنين وهو قول مالك والليث والأوزاعي, وإسحاق لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: إني جالست أصحاب رسول الله -ﷺ- وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله -ﷺ- قال: (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته وانسكوا فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين, وإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا) رواه النسائي ولأن هذه شهادة على رؤية الهلال فأشبهت الشهادة على هلال شوال, وقال أبو حنيفة في الغيم كقولنا وفي الصحو: لا يقبل إلا الاستفاضة لأنه لا يجوز أن تنظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة والموانع مرتفعة, فيراه واحد دون الباقين ولنا ما روى ابن عباس قال: (جاء أعرابي إلى النبي -ﷺ- فقال: رأيت الهلال قال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؟ قال: نعم قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا) رواه أبو داود, والنسائي والترمذي وروى ابن عمر قال (تراءى الناس الهلال, فأخبرت رسول الله -ﷺ- إني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود ولأنه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقه المشاهدة فقبل من واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة, ولأنه خبر ديني يشترك فيه المخبر والمخبر فقبل من واحد عدل كالرواية, وخبرهم إنما يدل بمفهومه وخبرنا أشهر منه وهو يدل بمنطوقه, فيجب تقديمه ويفارق الخبر عن هلال شوال فإنه خروج من العبادة, وهذا دخول فيها وحديثهم في هلال شوال يخالف مسألتنا وما ذكره أبو بكر, وأبو حنيفة لا يصح لأنه يجوز انفراد الواحد به مع لطافة المرئي وبعده ويجوز أن تختلف معرفتهم بالمطلع ومواضع قصدهم وحدة نظرهم ولهذا لو حكم برؤيته حاكم بشهادة واحد جاز, ولو شهد شاهدان وجب قبول شهادتهما ولو كان ممتنعا على ما قالوه لم يصح فيه حكم حاكم ولا يثبت بشهادة اثنين, ومن منع ثبوته بشهادة اثنين رد عليه الخبر الأول وقياسه على سائر الحقوق وسائر الشهور, ولو أن جماعة في محفل فشهد اثنان منه أنه طلق زوجته أو أعتق عبده قبلت شهادتهما دون من أنكر, ولو أن اثنين من أهل الجمعة شهدا على الخطيب أنه قال على المنبر في الخطبة شيئا لم يشهد به غيرهما لقبلت شهادتهما وكذلك لو شهدا عليه بفعل, وإن كان غيرهما يشاركهما في سلامة السمع وصحة البصر كذا ها هنا. فصل:
وإن أخبره مخبر برؤية الهلال يثق بقوله لزمه الصوم وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم لأنه خبر بوقت العبادة يشترك فيه المخبر والمخبر, أشبه الخبر عن رسول الله -ﷺ- والخبر عن دخول وقت الصلاة ذكر ذلك ابن عقيل ومقتضى هذا أنه يلزمه قبول الخبر وإن رده الحاكم لأن رد الحاكم يجوز أن يكون لعدم علمه بحال المخبر ولا يتعين ذلك في عدم العدالة, وقد يجهل الحاكم عدالة من يعلم غيره عدالته. فصل:
فإن كان المخبر امرأة فقياس المذهب قبول قولها وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه خبر ديني فأشبه الرواية والخبر عن القبلة, ودخول وقت الصلاة ويحتمل أن لا تقبل لأنه شهادة برؤية الهلال فلم يقبل فيه قول امرأة, كهلال شوال. مسألة:
قال: [ ولا يفطر إلا بشهادة اثنين ] وجملة ذلك أنه لا يقبل في هلال شوال إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم إلا أبا ثور فإنه قال: يقبل قول واحد لأنه أحد طرفي شهر رمضان, أشبه الأول ولأنه خبر يستوي فيه المخبر والمخبر أشبه الرواية وأخبار الديانات ولنا خبر عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب, وعن ابن عمر عن النبي -ﷺ- أنه (أجاز شهادة رجل واحد على رؤية الهلال وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين) ولأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة فلم تقبل فيه إلا شهادة اثنين كسائر الشهود, وهذا يفارق الخبر لأن الخبر يقبل فيه قول المخبر مع وجود المخبر عنه وفلان عن فلان وهذا لا يقبل فيه ذلك, فافترقا. فصل:
ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة النساء المنفردات وإن كثرن وكذلك سائر الشهور لأنه مما يطلع عليه الرجال, وليس بمال ولا يقصد به المال فأشبه القصاص, وكان القياس يقتضي مثل ذلك في رمضان لكن تركناه احتياطا للعبادة. فصل:
وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما ولم يروا هلال شوال, أفطروا وجها واحدا وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان: أحدهما: لا يفطرون لقوله عليه السلام: (وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا) ولأنه فطر فلم يجز أن يستند إلى شهادة واحد, كما لو شهد بهلال شوال والثاني: يفطرون وهو منصوص الشافعي ويحكى عن أبي حنيفة لأن الصوم إذا وجب الفطر لاستكمال العدة لا بالشهادة, وقد يثبت تبعا ما لا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء وتثبت بها الولادة, فإذا ثبتت الولادة ثبت النسب على وجه التبع للولادة كذا ها هنا وإن صاموا لأجل الغيم لم يفطروا وجها واحدا لأن الصوم إنما كان على وجه الاحتياط فلا يجوز الخروج منه بمثل ذلك, والله أعلم. مسألة:
قال: [ ولا يفطر إذا رآه وحده ] وروي هذا عن مالك والليث وقال الشافعي: يحل له أن يأكل حيث لا يراه أحد لأنه يتيقنه من شوال فجاز له الأكل, كما لو قامت به بينة ولنا ما روى أبو رجاء عن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال, وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال للآخر قال: أنا صائم قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك ثم نودي في الناس: أن اخرجوا أخرجه سعيد, عن ابن علية عن أيوب عن أبي رجاء وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه, ولا توعده وقالت عائشة: إنما يفطر يوم الفطر الإمام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعا ولأنه يوم محكوم به من رمضان, فلم يجز الفطر فيه كاليوم الذي قبله وفارق ما إذا قامت البينة فإنه محكوم به من شوال, بخلاف مسألتنا وقولهم: إنه يتيقن أنه من شوال قلنا: لا يثبت اليقين لأنه يحتمل أن يكون الرائي خيل إليه كما روي أن رجلا في زمن عمر قال: لقد رأيت الهلال فقال له: امسح عينك فمسحها, ثم قال له: تراه؟ قال: لا قال: لعل شعرة من حاجبك تقوست على عينك فظننتها هلالا أو ما هذا معناه. فصل:
فإن رآه اثنان ولم يشهدا عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر, إذا عرف عدالتهما ولكل واحد منهما الفطر بقولهما لقول النبي -ﷺ-: (وإذا شهد اثنان فصوموا وأفطروا) وإن شهدا عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما, فلمن علم عدالتهما الفطر بقولهما لأن رد الحاكم ها هنا ليس بحكم منه وإنما هو توقف لعدم علمه فهو كالوقوف عن الحكم انتظارا للبينة ولهذا لو تثبت عدالتهما بعد ذلك حكم بها, وإن لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر إلا أن يحكم بذلك الحاكم لئلا يفطر برؤيته وحده. مسألة:
قال: [ وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير, فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه, وإن وافق ما قبله لم يجزه ] وجملته أن من كان محبوسا أو مطمورا أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر, فاشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى ويجتهد فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه, ولا يخلو من أربعة أحوال: أحدها أن لا ينكشف له الحال فإن صومه صحيح, ويجزئه لأنه أدى فرضه باجتهاده فأجزأه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد الثاني: أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا يجزئه في هاتين الحالتين لأنه صامه على الشك فلم يجزئه, كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان وليس بصحيح لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلة إذا اشتبهت أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها, وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد فإن الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها, فما لم توجد لم يجز الصوم الحال الثالث: وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء وقال بعض الشافعية: يجزئه في أحد الوجهين, كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا أخطأ الناس كلهم, لعظم المشقة عليهم وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم الحال الرابع: أن يوافق بعضه رمضان دون بعض, فما وافق رمضان أو بعده أجزأه وما وافق قبله لم يجزئه. فصل:
وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدة أيام شهره الذي فاته سواء وافق ما بين هلالين أو لم يوافق, وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين ولا يجزئه أقل من ذلك وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي: أنه إذا وافق شهرا بين هلالين أجزأه سواء كان الشهران تامين أو ناقصين أو أحدهما تاما والآخر ناقصا وليس بصحيح فإن الله تعالى قال: {فعدة من أيام أخر} ولأنه فاته شهر رمضان, فوجب أن يكون صيامه بعدة ما فاته كالمريض والمسافر وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب فإن قيل: أليس إذا نذر صوم شهر يجزئه ما بين هلالين؟ قلنا: الإطلاق يحمل على ما تناوله الاسم, والاسم يتناول ما بين الهلالين وهاهنا يجب قضاء ما ترك فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك, كما أن من نذر صلاة أجزأه ركعتان ولو ترك صلاة وجب قضاؤها بعدة ركعاتها كذلك ها هنا الواجب بعدة ما فاته من الأيام, سواء كان ما صامه بين هلالين أو من شهرين فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به وإن وافق أيام التشريق, فهل يعتد بها؟ على روايتين: بناء على صحة صومها على الفرض. فصل:
وإن لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام لم يجزئه وإن وافق الشهر لأنه صامه على الشك فلم يجزئه, كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإن غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي: عليه الصيام, ويقضي إذا عرف الشهر كالذي خفيت عليه دلائل القبلة ويصلي على حسب حاله ويعيد وذكر أبو بكر في من خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد؟ على وجهين كذلك يخرج على قوله ها هنا وظاهر كلام الخرقي أنه يتحرى فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه, وإن لم يبن على دليل لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد ذكرنا مثل هذا في القبلة. فصل:
وإذا صام تطوعا فوافق شهر رمضان, لم يجزئه نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي: يجزئه وهذا ينبني على تعيين النية لرمضان وقد مضى القول فيه. مسألة:
قال : ( ولا يصام يوما العيدين ، ولا أيام التشريق ، لا عن فرض ، ولا عن تطوع . فإن قصد لصيامها كان عاصيا ، ولم يجزئه عن الفرض ) أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين منهي عنه ، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة . وذلك لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر ، قال : شهدت العيد مع عمر بن الخطاب ، فجاء فصلى ، ثم انصرف ، فخطب الناس ، فقال : إن هذين يومين نهى رسول الله ﷺ عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم ، والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم وعن أبي هريرة ، { أن رسول الله ﷺ نهى عن صيام يومين ؛ يوم فطر ، ويوم أضحى } . وعن أبي سعيد مثله . متفق عليهما . والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه . وأما صومهما عن النذر المعين ففيه خلاف . نذكره بعد إن شاء الله تعالى . مسألة:
قال: [ وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله, -رحمه الله- رواية أخرى أنه يصومها عن الفرض ] وجملة ذلك أن أيام التشريق منهي عن صيامها أيضا لما روى نبيشة الهذلي, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) متفق عليه وروي عن عبد الله بن حذافة قال: (بعثني رسول الله -ﷺ- أيام منى أنادي: أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال) إلا أنه من رواية الواقدي, وهو ضعيف وعن عمرو بن العاص أنه قال: هذه الأيام التي كان رسول الله -ﷺ- يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها قال مالك: وهي أيام التشريق رواه أبو داود ولا يحل صيامها تطوعا, في قول أكثر أهل العلم وعن ابن الزبير أنه كان يصومها وروي نحو ذلك عن ابن عمر الأسود بن يزيد وعن أبي طلحة أنه كان لا يفطر إلا يومي العيدين والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول الله -ﷺ- عن صيامها ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره وقد روى أبو مرة مولى أم هانئ, أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاما فقال: كل, فقال: إني صائم فقال عمرو: كل فهذه الأيام التي كان رسول الله -ﷺ- يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها والظاهر أن عبد الله بن عمرو أفطر لما بلغه نهي رسول الله -ﷺ- وأما صومها للفرض, ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز لأنه منهي عن صومها فأشبهت يومي العيد والثانية: يصح صومها للفرض لما روي عن ابن عمرو وعائشة, أنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي أي: المتمتع إذا عدم الهدي وهو حديث صحيح رواه البخاري ويقاس عليه كل مفروض.
فصل: ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم, إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه مثل من يصوم يوما ويفطر يوما فيوافق صومه يوم الجمعة ومن عادته صوم أول يوم من الشهر, أو آخره أو يوم نصفه ونحو ذلك نص عليه أحمد, في رواية الأثرم قال: قيل لأبي عبد الله: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديث النهي أن يفرد ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه وأما أن يفرد فلا قال: قلت: رجل كان يصوم يوما ويفطر يوما, فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت, فصام الجمعة مفردا؟ فقال: هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة وقال أبو حنيفة ومالك: لا يكره إفراد الجمعة لأنه يوم, فأشبه سائر الأيام ولنا ما روى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده) وقال محمد بن عباد: سألت جابرا (أنهى رسول الله -ﷺ- عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم) متفق عليهما وعن جويرية بنت الحارث, أن النبي -ﷺ- دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: (أصمت أمس؟ قالت: لا قال: أتريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا قال: فأفطري) رواه البخاري وفيه أحاديث سوى هذه, وسنة رسول الله -ﷺ- أحق أن تتبع وهذا الحديث يدل على أن المكروه إفراده لأن نهيه معلل بكونها لم تصم أمس ولا غدا
فصل: قال أصحابنا: يكره إفراد يوم السبت بالصوم لما روى عبد الله بن بسر عن النبي -ﷺ- قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) أخرجه الترمذي, وقال: هذا حديث حسن وروي أيضا عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا تصوموا يوم السبت, إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة, فليمضغه) أخرجه أبو داود وقال: اسم أخت عبد الله بن بسر هجيمة أو جهيمة قال الأثرم: قال أبو عبد الله: أما صيام يوم السبت يفرد به فقد جاء فيه حديث الصماء وكان يحيى بن سعيد يتقيه, أي: أن يحدثني به وسمعته من أبي عاصم والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوما لإنسان, لم يكره لما قدمناه وقال أصحابنا: ويكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان بالصوم لأنهما يومان يعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما, فكره كيوم السبت وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم.
فصل: ويكره إفراد رجب بالصوم قال أحمد: وإن صامه رجل, أفطر فيه يوما أو أياما بقدر ما لا يصومه كله ووجه ذلك ما روى أحمد, بإسناده عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا, فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية وبإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب, كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا وعن ابن عباس نحوه, وبإسناده عن أبي بكرة أنه دخل على أهله وعندهم سلال جدد وكيزان, فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه قال: أجعلتم رجبا رمضان فأكفأ السلال وكسر الكيزان قال أحمد: من كان يصوم السنة صامه, وإلا فلا يصومه متواليا يفطر فيه ولا يشبهه برمضان.
فصل: وروى أبو قتادة, قال: (قيل: يا رسول الله فكيف بمن صام الدهر؟ قال: لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر) قال الترمذي: هذا حديث حسن وعن أبي موسى, عن النبي -ﷺ- قال: (من صام الدهر ضيقت عليه جهنم) قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فسر مسدد قول أبي موسى: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم" فلا يدخلها فضحك وقال: من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي -ﷺ- كره ذلك وما فيه من الأحاديث؟ قال أبو الخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق لأن أحمد قال: إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس وروي نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم, منهم أبو طلحة قيل: إنه صام بعد موت النبي -ﷺ- أربعين سنة والذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام, فإن صامها قد فعل محرما وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف, وشبه التبتل المنهي عنه بدليل أن النبي -ﷺ- (قال لعبد الله بن عمرو: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ فقلت: نعم قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له عينك ونفهت له النفس لا صام من صام الدهر, صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك قال: فصم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى) وفي رواية: (وهو أفضل الصيام فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: لا أفضل من ذلك) رواه البخاري.
مسألة: قال: [ وإذا رئي الهلال نهارا, قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة ] وجملة ذلك أن المشهور عن أحمد أن الهلال إذا رئي نهارا قبل الزوال أو بعده, وكان ذلك في آخر رمضان لم يفطروا برؤيته وهذا قول عمر وابن مسعود, وابن عمر وأنس والأوزاعي, ومالك والليث والشافعي, وإسحاق وأبي حنيفة وقال الثوري وأبو يوسف: إن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية, وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه رواه سعيد لأن النبي -ﷺ- قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وقد رأوه فيجب الصوم والفطر, ولأن ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية وحكي هذا رواية عن أحمد ولنا ما روى أبو وائل قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين, أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية ولأنه قول ابن مسعود, وابن عباس ومن سمينا من الصحابة وخبرهم محمول على ما إذا رئي عشية, بدليل ما لو رئي بعد الزوال ثم إن الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد بدليل ما لو رآه عشية فأما إن كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضا, أنه لليلة المقبلة وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وعن أحمد رواية أخرى, أنه للماضية فيلزم قضاء ذلك اليوم وإمساك بقيته احتياطا للعبادة, والأول أصح لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره فهو لها في أوله كما لو رئي بعد العصر.
مسألة: قال: [ والاختيار تأخير السحور, وتعجيل الفطر ] الكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما في السحور والكلام فيه في ثلاثة أشياء أحدها, في استحبابه ولا نعلم فيه بين العلماء خلافا وقد روى أنس أن النبي -ﷺ- قال: (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه وعن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله -ﷺ-: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي, وقال: حديث حسن صحيح وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -ﷺ-: (السحور بركة, فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) الثاني: في وقته قال أحمد يعجبني تأخير السحور لما روى زيد بن ثابت, قال: تسحرنا مع رسول الله -ﷺ- ثم قمنا إلى الصلاة قلت: كم كان قدر ذلك؟ قال: خمسين آية متفق عليه وروى العرباض بن سارية قال: (دعاني رسول الله -ﷺ- إلى السحور فقال: هلم إلى الغداء المبارك) رواه أبو داود, والنسائي سماه غداء لقرب وقته منه ولأن المقصود بالسحور التقوي على الصوم وما كان أقرب إلى الفجر كان أعون على الصوم قال أبو داود: قال أبو عبد الله: إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه وهذا قول ابن عباس وعطاء والأوزاعي قال أحمد: يقول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} وقال النبي -ﷺ-: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال, ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق) قال الترمذي: هذا حديث حسن وروى أبو قلابة قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يتسحر: يا غلام اخف الباب, لا يفجأنا الصبح وقال رجل لابن عباس: إني أتسحر فإذا شككت أمسكت فقال ابن عباس: كل ما شككت حتى لا تشك فأما الجماع فلا يستحب تأخيره لأنه ليس مما يتقوى به وفيه خطر وجوب الكفارة, وحصول الفطر به الثالث: فيما يتسحر به وكل ما حصل من أكل أو شرب حصل به فضيلة السحور لقوله عليه السلام: (ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء) وروى أبو هريرة عن النبي -ﷺ- قال: (نعم سحور المؤمن التمر) رواه أبو داود.
الفصل الثاني: في تعجيل الفطر وفيه أمور ثلاثة أحدها في استحبابه وهو قول أكثر أهل العلم لما روى سهل بن سعد الساعدي, أن النبي -ﷺ- قال: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر) متفق عليه وعن أبي عطية قال: (دخلت أنا ومسروق على عائشة فقال مسروق: رجلان من أصحاب رسول الله -ﷺ- أحدهما يعجل الإفطار ويعجل المغرب, والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر المغرب؟ قالت: من الذي يعجل الإفطار ويعجل المغرب؟ قال: عبد الله قالت: هكذا كان رسول الله -ﷺ- يصنع رواه) مسلم وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -ﷺ-: (يقول الله تعالى: أحب عبادي إلي أسرعهم فطرا) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وقال أنس: (ما رأيت رسول الله -ﷺ- يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء) رواه ابن عبد البر الثاني: فيما يفطر عليه يستحب أن يفطر على رطبات فإن لم يكن فعلى تمرات, فإن لم يكن فعلى الماء لما روى أنس قال: (كان رسول الله -ﷺ- يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات, فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء) رواه أبو داود والأثرم والترمذي, وقال: حديث حسن غريب وعن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله -ﷺ-: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على الماء, فإنه طهور) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. الثالث:
في الوصال, وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب وهو مكروه في قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن الزبير أنه كان يواصل اقتداء برسول الله -ﷺ- ولنا ما روى ابن عمر قال: (واصل رسول الله -ﷺ- في رمضان فواصل الناس, فنهى رسول الله -ﷺ- عن الوصال فقالوا: إنك تواصل قال: إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى) متفق عليه وهذا يقتضي اختصاصه بذلك, ومنع إلحاق غيره به وقوله: (إني أطعم وأسقى) يحتمل أنه يريد أنه يعان على الصيام ويغنيه الله تعالى عن الشراب والطعام بمنزلة من طعم وشرب ويحتمل أنه أراد: إني أطعم حقيقة, وأسقى حقيقة حملا للفظ على حقيقته والأول أظهر لوجهين: أحدهما, أنه لو طعم وشرب حقيقة لم يكن مواصلا وقد أقرهم على قولهم: إنك تواصل والثاني: أنه قد روي أنه قال: (إني أظل يطعمني ربي ويسقيني) وهذا يقتضي أنه في النهار ولا يجوز الأكل في النهار له ولا لغيره إذا ثبت هذا, فإن الوصال غير محرم وظاهر قول الشافعي أنه محرم تقريرا لظاهر النهي في التحريم ولنا أنه ترك الأكل والشرب المباح فلم يكن محرما, كما لو تركه في حال الفطر فإن قيل: فصوم يوم العيد محرم مع كونه تركا للأكل والشرب المباح قلنا: ما حرم ترك الأكل والشرب بنفسه وإنما حرم بنية الصوم ولهذا لو تركه من غير نية الصوم لم يكن محرما وأما النهي فإنما أتى به رحمة لهم, ورفقا بهم لما فيه من المشقة عليهم كما نهى عبد الله بن عمرو عن صيام النهار وقيام الليل وعن قراءة القرآن في أقل من ثلاث قالت عائشة: (نهى رسول الله -ﷺ- عن الوصال, رحمة لهم) وهذا لا يقتضي التحريم ولهذا لم يفهم منه أصحاب النبي -ﷺ- التحريم بدليل أنهم واصلوا بعده, ولو فهموا منه التحريم لما استجازوا فعله قال أبو هريرة: (نهى رسول الله -ﷺ- عن الوصال فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ويوما, ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا متفق عليه فإن واصل من سحر إلى سحر جاز لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله -ﷺ- يقول: (لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) أخرجه البخاري وتعجيل الفطر أفضل, لما قدمناه. فصل:
ويستحب تفطير الصائم لما روى زيد بن خالد الجهني عن النبي -ﷺ- أنه قال (من فطر صائما كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. فصل:
روى ابن عباس, قال: (كان النبي -ﷺ- إذا أفطر قال: اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا, فتقبل منا إنك أنت السميع العليم) وعن ابن عمر قال: (كان رسول الله -ﷺ- إذا أفطر يقول: ذهب الظمأ, وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) وإسناده حسن, ذكرهما الدارقطني. مسألة:
قال: [ ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال وإن فرقها, فكأنما صام الدهر ] وجملة ذلك أن صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم روي ذلك عن كعب الأحبار والشعبي وميمون بن مهران وبه قال الشافعي وكرهه مالك وقال: ما رأيت أحدا من أهل الفقه يصومها, ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته, وأن يلحق برمضان ما ليس منه ولنا ما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله -ﷺ- (من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال, فكأنما صام الدهر) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن وقال أحمد: هو من ثلاثة أوجه عن النبي -ﷺ- وروى سعيد, بإسناده عن ثوبان قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من صام رمضان شهر بعشرة أشهر, وصام ستة أيام بعد الفطر وذلك تمام سنة) يعني أن الحسنة بعشر أمثالها فالشهر بعشرة والستة بستين يوما فذلك اثنا عشر شهرا, وهو سنة كاملة ولا يجري هذا مجرى التقديم لرمضان لأن يوم الفطر فاصل فإن قيل: فلا دليل في هذا الحديث على فضيلتها لأن النبي -ﷺ- شبه صيامها بصيام الدهر وهو مكروه قلنا: إنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف والتشبيه بالتبتل, لولا ذلك لكان ذلك فضلا عظيما لاستغراقه الزمان بالعبادة والطاعة والمراد بالخبر التشبيه به في حصول العبادة به, على وجه عري عن المشقة كما قال عليه السلام (من صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كمن صام الدهر) ذكر ذلك حثا على صيامها, وبيان فضلها ولا خلاف في استحبابها ونهى عبد الله بن عمرو عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث وقال: من قرأ {قل هو الله أحد} فكأنما قرأ ثلث القرآن أراد التشبيه بثلث القرآن في الفضل لا في كراهة الزيادة عليه إذا ثبت هذا, فلا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة في أول الشهر أو في آخره لأن الحديث ورد بها مطلقا من غير تقييد ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما, والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله, وهذا المعنى يحصل مع التفريق والله أعلم. مسألة:
قال: [ وصيام عاشوراء كفارة سنة ويوم عرفة كفارة سنتين ] وجملته أن صيام هذين اليومين مستحب لما روى أبو قتادة عن النبي -ﷺ- أنه قال (صيام عرفة: إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) وقال في صيام عاشوراء: (إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) أخرجه مسلم إذا ثبت هذا فإن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وهذا قول سعيد بن المسيب, والحسن لما روى ابن عباس قال: (أمر رسول الله -ﷺ- بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وروي عن ابن عباس, أنه قال: التاسع وروي (أن النبي -ﷺ- كان يصوم التاسع) أخرجه مسلم بمعناه وروى عنه عطاء أنه قال: (صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود,) إذا ثبت هذا فإنه يستحب صوم التاسع والعاشر لذلك نص عليه أحمد وهو قول إسحاق قال أحمد: فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر. فصل:
واختلف في صوم عاشوراء هل كان واجبا؟ فذهب القاضي إلى أنه لم يكن واجبا وقال: هذا قياس المذهب واستدل بشيئين أحدهما (أن النبي -ﷺ- أمر من لم يأكل) بالصوم والنية في الليل شرط في الواجب والثاني: أنه لم يأمر من أكل بالقضاء, ويشهد لهذا ما روى معاوية قال: سمعت رسول الله -ﷺ- (يقول: إن هذا يوم عاشوراء لم يكتب الله عليكم صيامه فمن شاء فليصم, ومن شاء فليفطر) وهو حديث صحيح وروي عن أحمد أنه كان مفروضا لما روت عائشة (أن النبي -ﷺ- صامه وأمر بصيامه فلما افترض رمضان كان هو الفريضة, وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه) وهو حديث صحيح وحديث معاوية محمول على أنه أراد: ليس هو مكتوبا عليكم الآن وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر بقضائه, فيحتمل أن نقول: من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه قضاؤه كما قلنا في من أسلم وبلغ في أثناء يوم من رمضان على أنه قد روى أبو داود (أن أسلم أتت النبي -ﷺ- فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه). فصل:
فأما يوم عرفة: فهو اليوم التاسع من ذي الحجة سمي بذلك, لأن الوقوف بعرفة فيه وقيل: سمي يوم عرفة لأن إبراهيم عليه السلام أري في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه فأصبح يومه يتروى, هل هذا من الله أو حلم؟ فسمي يوم التروية فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضا فأصبح يوم عرفة فعرف أنه من الله, فسمي يوم عرفة وهو يوم شريف عظيم وعيد كريم وفضله كبير وقد صح عن النبي -ﷺ- (أن صيامه يكفر سنتين). فصل:
وأيام عشر ذي الحجة كلها شريفة مفضلة يضاعف العمل فيها, ويستحب الاجتهاد في العبادة فيها لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله -ﷺ-: ولا الجهاد في سبيل الله, إلا رجلا خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) وهو حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة عن النبي -ﷺ- قال: (ما من أيام أحب إلى الله عز وجل أن يتعبد له فيها, من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر) وهذا حديث غريب, أخرجه الترمذي وروى أبو داود بإسناده عن بعض أزواج النبي -ﷺ- قالت: (كان رسول الله -ﷺ- يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء).
مسألة: قال: [ ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم, ليتقوى على الدعاء ] أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء وقال عطاء: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء, فإذا قوي عليه أو كان في الشتاء لم يضعف, فتزول الكراهة ولنا ما روي عن أم الفضل بنت الحارث (أن ناسا تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله -ﷺ- فقال بعضهم: صائم وقال بعضهم: ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفات فشربه النبي -ﷺ-) متفق عليه وقال ابن عمر: (حججت مع النبي -ﷺ-, فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه, وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه) أخرجه الترمذي, وقال: حديث حسن وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة أن النبي -ﷺ- (نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة) ولأن الصوم يضعفه, ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف, الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه به, فكان تركه أفضل. فصل:
روي عن أبي هريرة: قال قال رسول الله -ﷺ-: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن فصل:
وأفضل الصيام أن تصوم يوما وتفطر يوما لما روى عبد الله بن عمرو, أن النبي -ﷺ- (قال له: صم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود, وهو أفضل الصيام فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي -ﷺ-: لا أفضل من ذلك) متفق عليه فصل: وروى أبو داود بإسناده عن أسامة بن زيد أن نبي الله -ﷺ- (كان يصوم يوم الاثنين والخميس, فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس) . مسألة:
قال: [ وأيام البيض التي حض رسول الله -ﷺ- على صيامها هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ] وجملة ذلك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب, لا نعلم فيه خلافا وقد روى أبو هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى, وأن أوتر قبل أن أنام) وعن عبد الله بن عمرو أن النبي -ﷺ- قال له: (صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر) متفق عليهما ويستحب أن يجعل هذه الثلاثة أيام البيض لما روى أبو ذر, قال: قال رسول الله -ﷺ-: (يا أبا ذر إذا صمت من الشهر فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة, وخمس عشرة) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن وروى النسائي أن النبي -ﷺ- (قال لأعرابي: كل قال: إني صائم قال: صوم ماذا؟ قال: صوم ثلاثة أيام من الشهر قال: إن كنت صائما فعليك بالغر البيض ثلاث عشرة, وأربع عشرة وخمس عشرة) وعن ملحان القيسي قال: (كان رسول الله عليه السلام يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة, وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هو كهيئة الدهر) أخرجه أبو داود وسميت أيام البيض لابيضاض ليلها كله بالقمر والتقدير: أيام الليالي البيض وقيل: إن الله تاب على آدم فيها, وبيض صحيفته ذكره أبو الحسن التميمي. فصل:
ويجب على الصائم أن ينزه صومه عن الكذب والغيبة والشتم قال أحمد: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري ويصون صومه, كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا يغتاب أحدا ولا يعمل عملا يجرح به صومه وقال رسول الله -ﷺ-: (من لم يدع قول الزور, والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وقال أبو هريرة: قال رسول الله -ﷺ-: قال الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام, فإنه لي وأنا أجزي به الصيام جنة, فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله, فليقل: إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما, إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه) متفق عليهما. فصل:
في ليلة القدر: وهي ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة قال الله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} قيل: معناه العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وقال النبي -ﷺ-: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه وقيل: إنما سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة, ورزق وبركة يروى ذلك عن ابن عباس قال الله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} وسماها مباركة فقال تعالى {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} وهي ليلة القدر بدليل قوله سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} وقال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} يروى أن جبريل نزل به من بيت العزة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر, ثم نزل به على النبي -ﷺ- نجوما في ثلاث وعشرين سنة وهي باقية لم ترفع لما روى أبو ذر قال (قلت: يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال: باقية إلى يوم القيامة قلت: في رمضان أو في غيره؟ فقال: في رمضان فقلت: في العشر الأول, أو الثاني أو الآخر؟ فقال: في العشر الآخر) وأكثر أهل العلم على أنها في رمضان وكان ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصبها يشير إلى أنها في السنة كلها وفي كتاب الله تعالى ما يبين أنها في رمضان لأن الله أخبر أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وأنه أنزله في رمضان, فيجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يتناقض الخبران ولأن النبي -ﷺ- ذكر أنها في رمضان في حديث أبي ذر وقال: (التمسوها في العشر الأواخر, في كل وتر) متفق عليه وقال أبي بن كعب: والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان ولكنه كره أن يخبركم فتتكلوا إذا ثبت هذا فإنه يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان, وفي العشر الأواخر آكد وفي ليالي الوتر منه آكد وقال أحمد: هي في العشر الأواخر وفي وتر من الليالي, لا يخطئ إن شاء الله كذا روي عن النبي -ﷺ- قال: (اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين, أو سبع بقين أو تسع بقين) وروى سالم عن أبيه قال: قال رسول الله -ﷺ-: (أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر, فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها) متفق عليه وقالت عائشة (كان رسول الله -ﷺ- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل, وأيقظ أهله وشد المئزر) متفق عليه قالت: (وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها) وقال علي رضي الله عنه: (إن النبي -ﷺ- كان يوقظ أهله في العشر الأواخر) وقالت عائشة (كان رسول الله -ﷺ- يجاور في العشر الأواخر من رمضان) وفي لفظ للبخاري: (تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان) وكل هذه الأحاديث صحيحة. فصل:
واختلف أهل العلم في أرجى هذه الليالي, فقال أبي بن كعب وعبد الله بن عباس: هي ليلة سبع وعشرين قال زر بن حبيش قلت لأبي بن كعب: أما علمت أبا المنذر أنها ليلة سبع وعشرين؟ قال: بلى (أخبرنا رسول الله -ﷺ- أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع فعددنا, وحفظنا) والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ولكنه كره أن يخبركم, فتتكلوا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وروى أبو ذر في حديث فيه طول (أن النبي -ﷺ- لم يقم في رمضان حتى بقي سبع فقام بهم حتى مضى نحو من ثلث الليل, ثم قام بهم في ليلة خمس وعشرين حتى مضى نحو من شطر الليل حتى كانت ليلة سبع وعشرين, فجمع نساءه وأهله واجتمع الناس قال: فقام بهم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) يعني السحور متفق عليه وحكي عن ابن عباس, أنه قال: "سورة القدر ثلاثون كلمة السابعة والعشرون منها: هي" وروى أبو داود بإسناده عن معاوية, عن النبي -ﷺ- في ليلة القدر (قال ليلة سبع وعشرين) وقيل: آكدها ليلة ثلاث وعشرين لأنه روي عن النبي -ﷺ- (أن عبد الله بن أنيس سأله فقال: يا رسول الله, إني أكون ببادية يقال لها الوطأة وإني بحمد الله أصلي بهم فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها في المسجد, فأصليها فيه فقال: انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه, وإن أحببت أن تستتم آخر هذا الشهر فافعل وإن أحببت فكف فكان إذا صلى العصر دخل المسجد فلم يخرج إلا في حاجة, حتى يصلي الصبح فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد) رواه أبو داود مختصرا وقيل: آكدها ليلة أربع وعشرين لأنه روي عن النبي -ﷺ- أنه قال: (ليلة القدر أول ليلة من السبع الأواخر) وروي عن بعض الصحابة, أنه قال: لم نكن نعد عددكم هذا وإنما كنا نعد من آخر الشهر يعني أن السابعة والعشرين هي أول ليلة من السبع الأواخر وروى أبو ذر قال: (صمنا مع رسول الله -ﷺ- شهر رمضان, فلم يقم بنا حتى كانت ليلة سبع بقيت فقام بنا نحوا من ثلث الليل ثم لم يقم ليلة ست, فلما كانت ليلة خمس قام بنا النبي -ﷺ- نحوا من نصف الليل فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف, كتب له قيام ليلة فلما كانت ليلة ثلاث قام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح فقلت: وما الفلاح؟ قال: السحور وأيقظ في تلك الليلة أهله ونساءه وبناته) رواه سعيد وقيل: آكدها ليلة إحدى وعشرين لما روى أبو سعيد عن النبي -ﷺ- أنه قال: (رأيت ليلة القدر, ثم أنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر, وإني رأيت إني أسجد في صبيحتها في ماء وطين قال: فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل, فأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله -ﷺ- يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الماء والطين في جبهته) وفي حديث: (في صبيحة إحدى وعشرين) متفق عليه قال الترمذي: قد روي أنها ليلة إحدى وعشرين, وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين, وليلة تسع وعشرين وآخر ليلة وقال أبو قلابة: إنها تنتقل في ليالي العشر قال الشافعي: كان هذا عندي - والله أعلم - أن النبي -ﷺ- كان يجيب على نحو ما يسأل فعلى هذا كانت في السنة التي رأى أبو سعيد النبي -ﷺ- يسجد في الماء والطين ليلة إحدى وعشرين وفي السنة التي أمر عبد الله بن أنيس ليلة ثلاث وعشرين, وفي السنة التي رأى أبي بن كعب علامتها ليلة سبع وعشرين وقد ترى علامتها في غير هذه الليالي قال بعض أهل العلم: أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ويجدوا في العبادة في الشهر كله طمعا في إدراكها, كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كله وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات, ليجتهدوا في جمعها وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل, حذرا منهما فصل:
فأما علامتها فالمشهور فيها ما ذكره أبي بن كعب عن النبي -ﷺ- أن (الشمس تطلع من صبيحتها بيضاء لا شعاع لها) وفي بعض الأحاديث: (بيضاء مثل الطست) وروي عن النبي -ﷺ- (أنه قال: بلجة سمحة, لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها). فصل:
ويستحب أن يجتهد فيها في الدعاء ويدعو فيها بما روي عن عائشة, أنها قالت: يا رسول الله إن وافقتها بم أدعو؟ قال: قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
==================